منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الطبيبان (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=27824)

ياسر السعيد الششتاوي 01-18-2021 03:05 AM

الطبيبان
 
(الطبيبان)
جئت إلى هذه المستشفى كي أعالج ابني، وشدني لها ما سمعت عنها في الفترة الأخيرة من حسن السمعة، فرغم أنها مستشفى خاص إلا أنها لا تتسم بالجشع كسائر المستشفيات الخاصة، ولكن ما أثار انتباهي رغم النظافة الشديدة بها، وإجراءات الأمن المشددة على المستشفى ذلك الرجل الذي يبدو أنه مجذوب أو مريض عقلياً، يدخل ويخرج من المستشفى وقتما يشاء، ولا يمنعه أحد، ولا يتعرض له رجال الأمن رغم ملابسه الرثة، ومنظره البشع، وكان هذا الأمر مما يحيرني، ولكنني لم أهتم بشأنه في بداية الأمر، فقد كنتُ في شغل بمرض ابني عن أي شيء آخر، ولكنني في إحدى مرات الزيارة، وجدت هذا الرجل يتقدم نحوي، وابني جالس على قدمي، ووجدته ينظر لابني بحنو بالغ، لم يخفْ منه ابني، بل أنا الذي خفت من هذا الرجل بشعره الأشعث، وملابسه الرثة، ولكنني لم أغضبه خوفاً من تطور الأمر من ناحيته، فمثل هؤلاء المجانين قد يجدي الرفق معهم أكثر من القسوة، فلو أبعدته أو ضربته، لا أدري ماذا سيفعل؟ وماذا ستكون النتائج؟! لكن ابني مال له، وأراد أن يلعب معه، لكنني منعته، فمسح على شعر صغيري، ثم انهار في بكاء شديد، وكأن ابني قد ذكره بشيء ما، أو ربما أنا من ذكرته بشيء في حياته، لكنه لم يكن مهتماً بي بقدر ما كان مهتماً بابني، وكان في يده رغيف من الخبز، فوقع منه، أخذ الرغيف، وصعد إلى الدور الثاني من المستشفى، وكان دور ابني في الكشف ما يزال بعيداً، فأردت أن أعرف حقيقة هذا الرجل، فأخذت ابني، وذهبت نحو رجل الأمن الذي على البوابة، وأحببت أن يكون الأمر بيني وبينه، كأنها شكوى، فعاتبته على أنهم يتركون هذا الرجل يدور، ويلف في المستشفى كما يشاء، وأنه قد أخاف ابني بمنظره هذا، فرد عليّ رجل الأمن.
ـ لا يستطيع أحد هنا أن يمنعه أو يطرده.
قلت له متعجباً:
ـ لماذا؟!
فأجاب عليّ بإجابة مذهلة:
ـ إنه صاحب المستشفى.
وفي وسط ذهولي قلت له:
ـ هذا!! هذا الرجل!! هل أنت متأكد مما تقول، أم أنت تمزح؟!!
فتبسم ثم قال:
ـ كلما أقول هذا لأحد، لا يصدق، ويظن أنني أمزح!!
وأنا أنظر ناحية الطابق الثاني حيث ذهب:
ـ إن منظره لا يدل سوى على أنه متسول، ولا يعطي منظره أكثر من هذا، لتحل لي هذه المعضلة.
ـ هذا الرجل الذي لا يعجبك، والذي تشمئز منه كان من أكثـــر النــاس أنـــاقـــة، وكـــان يرعــــب الجميـــع هنا في تلك المستشفى.
أغرقني رجل الأمن هذا في قصة هذا الرجل، وفي مأساته، وفهمت لماذا كان يبكى عندما رأى ابني؟ ولماذا كان يمسح على شعر ابني، فلقد كان لهذا الرجل ابن وحيد، تخرج من كلية الطب مثل أبيه، وبنى أبوه له تلك المستشفى الخاص على أحدث طراز بعدما قضى في دول الخليج أكثر من عشرين عاماً، كون خلالها ثروة طائلة أتاحت له بناء هذا الصرح الطبي العملاق، ولكنه كان مادياً جشعاً لا يتهاون في أي أجر، ولا يدخل أي مريض من باب المستشفى إلا بعد أن يدفـــع عشــــرة آلاف جنـيه علـــى الأقـــل كتأميـــن لأي حالة تدخـــل المستشفى، فهو يريد أن يبني مستشفى واثنتين وثلاث......الخ
وفي ذات يوم حدثت لابنه حادثة بالقرب من المستشفى، وسال الدم على وجهه، وأخفى ملامحه، فقد كان ينزف بشدة، فأخذه صاحب تاكسي، وذهب به إلى أقرب مستشفى، فكانت مستشفى والده، ولكنهم رفضوا أن يدخلوا الحالة قبل أن يدفع لهم صاحب الحالة عشرة آلاف جنيه، وهم لا يعرفون من هو الحالة أصلاً، وإن نظروا فلن يعرفوا، لكثرة الدم الذي على وجهه، فلقد تحول وجهه إلى لوحة حمراء، لوحة حمراء كأنها لوحة سريالية، فاتصل صاحب التاكسي بابنه كي يحضر المبلغ المطلوب، وأخبرهم أن الفلوس في الطريق، وأنهم يمكنهم أن يدخلوه، ولكن الاستقبال رفض استقبال الحالة رغم ذلك، فلديهم تعليمات مشددة من صاحب المستشفى بعدم التهاون في هذا الأمر، وعندما أحضر ابن صاحب التاكسي العشرة آلاف من البيت كان قد نزف ما يقارب من عشر دقائق، فقد كان بيت صاحب التاكسي ليس ببعيد عن المنطقة، كما أن ماركة السيارة التي تمت بها الحادثة أوحت لسائق التاكسي أن هذا الرجل من الأغنياء فما المانع أن يدفع العشرة آلاف ثم يأخذها من أهله بعد إنقاذه، ولكن كثرة النزف منذ الحادثة حتى دخوله حجرة العمليات وضعته في موقف حرج، فلو كان دخل بمجرد أن وصل للمستشفى لكان الأمر أيسر، ولكان الأمل في النجاة أسهل، وعندما تم مسح الدم عن وجهه في حجرة العمليات هالهم أن من يحاولون إنقاذه، هو ابن صاحب المستشفى، فجاء الأب كالمجنون، وظل يرتعش، ويرتعش، وبعدها تأكد بنفسه أن فرصة نجاة ابنه ضئيلة جدًا، ثم أعلن جهاز رسم القلب عن توقف النبض، وكانت أمه قد وصلت المستشفى، فأصيبت بسكتة قلبية بعدما سمعت الخبر، أما أبوه فقد ظل في السرير لمدة شهر لا يتكلم، وعندما تعافى بعض الشيء، اكتشف أخوه القهوجي أنه أصبح فاقداً للعقل، فآلت للقهوجي كل تركته، وأصبح أخوه الفقير بالنسبة له المدير الرسمي للمستشفى، وبعدما كان أخوه صاحب مقهى في حي "بين السرايات "أصبح صاحب مستشفى خاص في "الزمالك"، فلقد كان أخوه الطبيب يصفه دائما بالفاشل، ولا ينعته إلا بالقهوجي، إلا أن هذا القهوجي لأنه يعيش في بيئة فقيرة، كان أشد معرفة واختلاطاً بعامة الناس، وأكثر رحمة ورأفة بهم من أخيه بمراحل، وكان يعالج العديد من الحالات بدون مقابل، مما جعل لهذه المستشفى سمعة طيبة، ليس في مصر فقط، ولكن كذلك خارج مصر، وهو الذي أعطى الأوامر المشددة بعدم التعرض لأخيه في المستشفى، وألا ينهره أحد، وأنه كثيراً ما يذهب ليجلس مع أخيه في الدور الثاني، ورغم جنونه عندما يذهب لأخيه يجلسه مكانه على مكتب المدير كما كان، لا يتكلم كثيراً، وإن تكلم فإنه يتكلم كلاماً غير مفهوم، ولكنه إن دل فإنما يدل على شدة حزنه على ابنه، وإن كان في الغالب يبكي أكثر مما يتكلم، ولا يسمح لأحد أن يغير له ملابسه، وأن ينظفه، ويتحول إلى كائن شرس تجاه من يحاول ذلك، وكأنما يعاقب نفسه على ما فعله في حياته!!
كنت في حالة ذهول وأنا أسمع تلك القصة، وكان دور الكشف على ابني قد اقترب، وقبل أن ندخل رأيته نازلاً من الدور الثاني، وكنت أجلس في نفس المكان الذي رآنا فيه أول مرة، وإذ به يتجه ناحيتنا مرة أخرى، فمسح على شعر ابني، ثم بكى، فوقع الرغيف الذي كان في يده، فلم يلتقطه من على الأرض هذه المرة، وهمّ ليخرج من باب المستشفى، وهو يبكي، حتى لقد كدت أبكي على بكائه، ثم نادوا على اسم ابني ليدخل للطبيب.

ماجد عبدالله العلي 01-18-2021 06:29 AM

رد: الطبيبان
 
يااالله !

نص قصصي بديع وعظيم وتفوح منه التراجيديا المرعبة!

تحياتي

ياسر السعيد الششتاوي 01-18-2021 07:03 PM

رد: الطبيبان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ماجد عبدالله العلي (المشاركة 280313)
يااالله !

نص قصصي بديع وعظيم وتفوح منه التراجيديا المرعبة!

تحياتي

حبيبي تسلم ... هذا نصي الخاسر في مسابقة القصة ... ولا عظيم ولا حاجة

حمزه حسين 01-18-2021 07:48 PM

رد: الطبيبان
 
أحسنت أستاذ ياسر
نص جميل
إنساني
ولغة حلوه

ولابد لتفاوت الجمال بين الأقلام
(خيرها بغيرها) بالعراقي وبالمصري كمان

تحياتي لك

ناريمان الشريف 01-18-2021 08:51 PM

رد: الطبيبان
 
أواه من ذلك الزمن العجيب !!
سبحان مغير الأحوال
وعلى الباغي تدور الدوائر
والزمن دوار
و
و
و
و الكثير الكثير يمكن أن يقال في مثل هذه المواقف
كم في الدنيا من القصص التي تصل إلى حد الخيال
أحسنت السرد أخي ياسر ، قصة واقعية إنسانية مذهلة
بورك قلمك
وتحية ... ناريمان

ياسر السعيد الششتاوي 01-18-2021 09:08 PM

رد: الطبيبان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حمزه حسين (المشاركة 280403)
أحسنت أستاذ ياسر
نص جميل
إنساني
ولغة حلوه

ولابد لتفاوت الجمال بين الأقلام
(خيرها بغيرها) بالعراقي وبالمصري كمان

تحياتي لك

أشكرك حبيبي.. وشكرا لمشاعرك الجميلة ... والحمد لله لدي رصيد كاف من الجوائز ...محبتي الدائمة

منى الحريزي 01-19-2021 12:47 PM

رد: الطبيبان
 
لكلاً ماعمل ... إن الأنسان ليظن أنه بمنأى عن المصائب ...
وحين يأتي دوره منها يدرك أنها دائرة وتدور ...

قصة جميلة إذ أنها تحمل رسالة إنسانية معبرة ...
أزالت الستار عن حقيقة بعض المستشفيات الإستثمارية ...

ملاحظة :
يحبذا لو أن القطعة الأولى قد قطعت لأجزءاً أصغر
ووضعت بين جزء وآخر مساحة فراغ صغيرة ... كذلك القطعة الأخيرة ...
فالقصة بدت مكتظة ولو أنها فرقت بمقاطع كانت أسهل من ناحية القراءة .


نأمل أن يكون القادم أجمل ...
دمت بخير ...

ياسر السعيد الششتاوي 01-25-2021 06:23 PM

رد: الطبيبان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناريمان الشريف (المشاركة 280422)
أواه من ذلك الزمن العجيب !!
سبحان مغير الأحوال
وعلى الباغي تدور الدوائر
والزمن دوار
و
و
و
و الكثير الكثير يمكن أن يقال في مثل هذه المواقف
كم في الدنيا من القصص التي تصل إلى حد الخيال
أحسنت السرد أخي ياسر ، قصة واقعية إنسانية مذهلة
بورك قلمك
وتحية ... ناريمان

أشكرك ودمت بخير وسعادة

ياسر السعيد الششتاوي 01-25-2021 06:24 PM

رد: الطبيبان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة منى الحريزي (المشاركة 280687)
لكلاً ماعمل ... إن الأنسان ليظن أنه بمنأى عن المصائب ...
وحين يأتي دوره منها يدرك أنها دائرة وتدور ...

قصة جميلة إذ أنها تحمل رسالة إنسانية معبرة ...
أزالت الستار عن حقيقة بعض المستشفيات الإستثمارية ...

ملاحظة :
يحبذا لو أن القطعة الأولى قد قطعت لأجزءاً أصغر
ووضعت بين جزء وآخر مساحة فراغ صغيرة ... كذلك القطعة الأخيرة ...
فالقصة بدت مكتظة ولو أنها فرقت بمقاطع كانت أسهل من ناحية القراءة .


نأمل أن يكون القادم أجمل ...
دمت بخير ...

أشكرك .. وممتن لملاحظاتك القيمة


الساعة الآن 09:51 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team