منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   قالت جدتي (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=12943)

ياسر علي 02-11-2014 03:53 AM

قالت جدتي
 
أهلكه الشيب و جماله توارى خلف التجاعيد ، صورته الحازمة التي تلطفها ملامحه الحية تهاوت بهوان جسده ، يسير محدودب الظهر كالخنفساء ، لا يقوى على طمس عيوبه التي تتأهب لتغتال زعامة كان لها عرشا ، بدأ ذكره يثقل الذئاب المحيطة به ، هو مجرد لقيط اختاروا له نسبا مخيفا فاعتلى برج الغابة . هم احترفوا الكيد و القتل و تنعموا تحت ظلال هيبة كان يثيرها ممشاه المنتصب ، و حركته السريعة ، و قدرته على تشخيص عنتريات تظهره شجاعا بطلا ، فتنحني لظله الحيوانات.
أصبح جثة محنطة ، مجرد فزاعة للعصافير كما كان على الدوام ، لكن هذه المرة تجرأت القبرة على رمي قذارتها على رأسه وهي تطير غير بعيد ، تيقنت من كونه لا يقوى على القفز ، بدأ هيكله آيلا للسقوط و عكاكيزه منخورة تميل بها الرياح . استشاط كبير الذئاب فزعا ، فكاد يتجرأ على افتراس جيفة البغل الجعفاء ، و يثير الزوابع في الصحراء ، ويهلك الحرث و النسل ، لكن عمره المتمادي في القدم ، و تعوده على النعيم و التمتع بجميل الأكلات بلا صيد قللت من ذئبية طباعه ، و قلمت أظافره ، و أنيابه المتساقطة أفقدت تكشره الرعب ، و بات عواؤه مبحوحا .
كان البغل متآمرا مع الذئاب للسطو على الغابة ، و تشريد الأسود والنمور ، واستعباد كل الطيور ، و استباحة أعراض الغزلان و الرفع من قيمة الحمير و إذلال الخيول ، كان ذلك منذ أمد بعيد ، حين تم رهن الغابة للغول ، فسجن من الأسود الكثير ، بل مات منهم الجم الغفير ، و تم ترويض ضراوة الأشبال حتى عادوا مدعاة للشفقة ، يرصعون بهم المتاحف و يقيمون بهم الحفلات ، و يبتهجون بالقرد يمتطي صهوته ، و بالضفدع ينط على هيبته ، و استباحت الضباع حرمة اللبؤات . كما تم تجويع النمور فهزل مظهرها فأصبحت قططا بفرو وديع ، تقوس ظهرها عند رؤية الكلاب منتفخة الذيل باحثة عن مهرب آمن .
قالت جدتي ، كان الغول عملاقا لكنه يخاف من دبيب النمل ، تزعجه صلوات السحالي ، بنى أبناؤه أبراجا تحرسها الذئاب و حريمه تأوى إليه الضباع ، هي زينة عرشه و صحبة مجلسه . فكانت لهم القدسية في الغابة بعد رحيله ، لكن الذئاب لا ترحم أحدا فما إن أمسكت بزمام الأمور واستتب لها الأمر أخصت الضباع و منعتهم من النسل ، فلما ماتوا جميعا جاؤوا ببغلهم القصير و ألبسوه سلهام الضباع وأجلسوه على كرسي الغول .
قالت جدتي بعد أن مسحت تعب السنين عن عينيها ، جلست الذئاب في حيرة بعيدا عن جدها اللعوب ، الذي يمرح في حضن الغواني ، يلاطفن عجزه ، و يمنعن عنه وخزة الإحباط بالتعفف ، فقال راشدها : "نحن اليوم في مفترق الطرق ، أبونا شيخ كبير ، وهن العظم منه ، وذهب عنه وجهه الفتاك، و هذا البغل اللعين ما عاد قادرا على حفظ عرشنا ، بل أضحى وبالا علينا ، سمعت أن أسدا زأر في غيابات الصحراء ، فلو تركنا الأمر على هذا النحو لقامت قيامتنا ، و لأفسدنا ما بناه الأجداد ، و مكنا الرعاع من خيرات البلاد ، تصوروا لو استرجعت النمور عافيتها ماذا عسانا نأكل غير الفضلات ، و لو استعادت الأسود ذاكرتها ، ماذا سيكون مصيرنا و قد عثنا فسادا في حرائرهم ، و استوطنا عرينهم ، إياكم والتنازع على العرش ، فشوكتنا في وحدتنا و تشتيتهم ، و شوكتنا في ذئبيتنا التي فيها وفاء الكلب ، و ذكاء الثعلب و شراسة الضباع و الاستكانة عند الضعف ، فإياكم أن تطلبوا من الغول العودة ، وإياكم أن تفعلوا شيئا من غير مشورته ، فهو لا يزال المتحكم فينا ، و نحن خدام مشاريعه ، و سلطتنا منه آتية ، لا تنسوا أنه لا يزال يطعم بعض الأسود في حدائقه ، و النمور لها حظوة في بعض من مدائنه و الضباع تزين قصوره ، و بين الفينة والفينة نخضع لإملاءاته الصعبة ، لكن في سبيل هذا العرش سنتعلم مزيدا من الخضوع ، ومزيدا من المكر ، و لا تنسوا أننا مجرد حثالة الغابة ، وآخر ما يمكنه أن ينال حظوة تسييرها ، أتركوني أخابر الغول و أمكنه من كل ما يشتهي ، و أنتزع منه بشارة العرش المجيد .
قالت جدتي : " لو كانت الذئاب تعلم أن الغول مجرد بغل آخر لبس ملابس الغول و أن جيشه العرمرم ما هو إلا نعاج جيء بها من كل فج عميق ، لكان مصير الغابة لا كما يظهر ، لكن الحياة هكذا .
قلت لجدتي ما تتمة الحكاية ، فقالت ليس لها نهاية يا ولدي ، فكلما أشرفت على النهاية تكون قد بدأت ، فالذئاب هي الذئاب ، والضباع هي الضباع ، و ليت الأسود تكون أسودا .
لكن يا بني هذه قولتي الأخيرة ، الغابة حكاياتها لا تنتهي ، فيوما قيل لي ، هل تموت الأفاعي عندما يبدو عليها الاحتضار؟ سكتت برهة ، و قلت لهم بل تغادر ثوبها الضيق ، لتردي ثوبا فسيحا تماما كما تفعل العنقاء .

فاطمة جلال 01-12-2015 10:52 PM

وتبقى حكمة الاجداد في ذاكرتنا
نبقى نرددها حتى يحفظها جيل بعد جيل

أديبنا القدير ياسر
دائما لحرفك نكهة مميزة أستطيع معرفتها ،،،لان جمال حرفك وفكرك توأمان

لك تقديري

زياد القنطار 01-15-2015 01:34 AM

وأنا أقول ....إن ماقرات هنا حرف مبدع لكاتب مبدع .أترع لنا موائد الذائقة فبتنا في حيرة من أين نأتيها .|
أستاذ ياسر مبدع كما أنت .وافر هطل حرفك صافي الود

محمد الشرادي 01-17-2015 03:17 PM

أهلا أخي ياسر
رحم الله أيام زمان حين كانت الجدة مؤسسة تروية عظيمة. كنا نتحلق حولها لنسمع حكياتها السحرية المفعمة بالحكمة. حكايات لا نمل من سماعها و لم يفقدها التكرار أبدا نكهتها. و ضرنا اليوم غرباء في منازلنا بدون دفء الجدة ، استبدلناها بآلة شوهتنا و شوهت عقولنا.
قانون الغاب أساسه الاصطفاء الطبيعي البقاء فيه للأقوى ...للأدهي ...للقادر على التكيف مع أجوائها. و الانقراض يكون للضغيف الغبي . أحسست ان الغابة هي وطننا العربي على الكراسي بغال وحاحشيتها من الذئاب الماكرة . تبذل خطتها و خطابها حسب الظروف و موازين القوى لتصبح النخبة الأبدية.هي بالضبط حكايتنا.
قفلة رائعة تنم عن وعي حقيقي بالمقصود من الكتابة ، و تنم عن وعي بالكتابة المبهرة. طبعا لن تنتهي حكاية الغابة .
نص مائز بكل المقاييس. فيه صنعة و إبداع و رصانة و بعدة نظر.
تحياتي أيها المبدع الجميل.

حسام الدين بهي الدين ريشو 01-18-2015 03:15 PM

، فالذئاب هي الذئاب ، والضباع هي الضباع ، و ليت الأسود تكون أسودا .
لكن يا بني هذه قولتي الأخيرة ، الغابة حكاياتها لا تنتهي ، فيوما قيل لي ، هل تموت الأفاعي عندما يبدو عليها الاحتضار؟ سكتت برهة ، و قلت لهم بل تغادر ثوبها الضيق ، لتردي ثوبا فسيحا تماما كما تفعل العنقاء
======================================
ما
اشد حاجتنا الى حكمة الجدات
في هذا العصر المخادع
حقا تبقى الذئاب ذئابا
والافاعي أفاعي
وبينهما
تضيع البراءة
والاخلاص

استاذ / ياسر
مازلتَ مالكا لزمام القص الهادف
والتربوى
تقديري ومحبتى

محمد أبو الفضل سحبان 01-20-2015 12:57 AM

الأستاذ القدير ياسر علي
ربما تخونني العبارات....نص يحبل بالحكمة ...كتب بلغة جزلة تنساب رقيقة سهلة محققة بإبداع التشويق والمتعة....القفلة انبعاث للقصة....وتستمر المعاناة
يحيا قلمك أستاذي الكريم

جليلة ماجد 01-20-2015 04:19 PM

هل قالتها فعﻻ جدتك يا أ. ياسر ؟

هذا نص رمزي عالي التقنية يصف حالنا بواقع صادق أليم ...

و ما هذه الدنيا إﻻ غابة ... فاختر ما عﻻ لك ذكره ...!

تستحق أكثر من نجوم خمس ...

احترامي الجم ...


رضا الهجرسى 02-20-2015 02:54 AM

المبدع المتمكن من أدواته الإبداعية .. ياسر على
نص مبدع بسرده وإسقاطته ..
وودى وتقديرى أيها المتألق


الساعة الآن 07:03 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team