منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الغروب (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=14341)

ياسر علي 07-12-2014 08:42 PM

الغروب
 
تدخل إلى البيت والفرحة تغمر قلبها ، من غرفة إلى غرفة تنتقل برشاقة العصافير ، تقبل أمها و تعانق أخاها و أخيرا تصل عند أبيها القاعد على كرسي يلازمه كلما أراد التنزه عبر البيت الصغير أو الحديقة المنشرحة بورود وزهور تتغازل فيها الألوان ، تقبل جبينه و تضع يديها على رجليه المنفختين الجامدتين الثقليتين و تهمس عند أذنه و هي تدفع الكرسي نحو الحديقة : " سأكون قدميك اللتين تطوف بهما الدنيا ، ستراها يا أبي بعينيّ مضاءة مسرورة ، سأمسح عن نظارتيك سوادهما لترى الوجود كما كان جميلا ، يا أبي حمرة الشفق كما ضياء الصباح ، يا أبي روعة الأصيل و ظلال الزوال ، يا أبي رشة المطر الخفيف و منظر الثلج المهيب ، يا أبي هبّ للحياة فهي لا تزال جميلة " سمعت الأب يلوك بعض كلمات أقرب إلى أهات و زفرات أنفية ، فلسانه الثقيل وفكه المشدود و ريقه الذي يبلل شفتيه ، يشوش على طلاقة كلامه حتى أضحى همهمة غريبة لكنها متيقنة أنها تحمل عربون محبة ، و عنفوان تشجيع . كل أفراد الأسرة تأثروا بما حدث منذ ثلاثة أشهر ، هناك في الحقل وجدته الأم معوجا و معقوفا ومصروعا ، كانت بشرى ترى فيه الأب الحنون الذي يلاعب شغبها الطفولي ، كانا صديقين لا يملان من المزاح ، يتلاسنان بالأحاجي الفكاهية ، يتنابزان بالألقاب الهزلية ، يغضان الطرف عن الهفوات و يكبر الواحد فيهما مناولات الآخر . تتذكر بشرى يوم رست على المقعد الخامس من عقدها الثاني و تهيأت لأبيها امرأة صفعت آخر شياطين الطفولة بدخولها إلى الثانوية ، كان يقول لها ترجلي يا ابنتي و تماسكي فما عدت طفلة صغيرة ، تكشرت ملامحها متجهمة وقالت بنبرة حزينة : " لا يا بطلي ..لا .. مازلت طفلتك و لايزال دلعك يشملني بدفء الطمأنينة ، و خفة ظلك ينعشني نداها ، كتلك الزهرة المطلة على استحياء بين الأوارق الخضراء ، يا أبي لاتطلب مني إلا أن أبقى صغيرتك المدللة . "
اليوم آخر عهدها بالثانوي في الغد القريب ستتربع على كراسي الجامعة ، و ستغادر القرية ، تنظر إلى الحديقة التي ستفتقدها كثيرا ، تنظر إلى كرسي أبيها الجاثم تحت الدوحة الظليلة ، تتأمل جدران المنزل الطينية الشاهدة على تاريخها البشوش ، على مجد الطفولة السامق الشامخ ، مشت بخطوات وئيدة نحو بوابة المزرعة ، هناك لا تزال البقرة الحلوب تتهادى في مشيتها مثقلة الضرع ، لسانها يلف حزم الحشائش فتقتلعها بنهم ، ذنبها يسوط حشرات تقض راحتها . عجلها يقفز مع الفراشات في المرج الأخضر و يرسل ركلاته للهواء ، كان الجو هادئا و بعض نسيم المساء يلطف حرارة الشمس ، تلقي بنظرة إلى كرسي والدها ، تراه يستقبل مغيب الشمس ، على صهوة ربوة تكسوها أشجار البلوط لا تزال تبدوا قوية مشعة رغم ما شاب صفاءها من إحمرار العياء وهي تمخر الفضاء ، نظرت بشرى إلى لوحة الغروب تشع في عيني والدها ، أحست بغروب طفولتها ، و ذهابها إلى غير رجعة ، الجامعة هي المسؤولية ، هي الاعتماد على النفس ، تأملت غروب صلابة والدها الذي تحول إلى مجرد قطعة معطوبة ، كومة بلا طعم ولا رائحة ، كانت الشمس تهوي في منحدرها ويستقبلها قبرها عندما سمعت آخر زفرة صاعدة من جوف والدها . محركة الكرسي الذي ارتج بين أصابعها ، فاستعادت نفسها المتناثرة ، سبقت دمعة كل أحاسيسها مسحتها على عجل وهي تتأكد من غروب الشمس و سفر والدها إلى عالم آخر ، إلى شروق جديد ، هناك في عالم الجامعة ستبدأ لونا حياتيا جديدا ، فتلهو يوما أو بعض يوم في انتظار لحظة غروب أخرى .

حسام الدين بهي الدين ريشو 07-13-2014 07:45 AM

تأملت غروب صلابة والدها الذي تحول إلى مجرد قطعة معطوبة ، كومة بلا طعم ولا رائحة ، كانت الشمس تهوي في منحدرها ويستقبلها قبرها عندما سمعت آخر زفرة صاعدة من جوف والدها . محركة الكرسي الذي ارتج بين أصابعها ، فاستعادت نفسها المتناثرة

-----------------
تصوير رائع
للحظة الغروب الفاصلة
بين عالم وعالم
احسنت صنيعا
الاستاذ الاديب الناقد / ياسر على
مع تقديري

جليلة ماجد 07-13-2014 10:00 PM

أتعلم يا أ. ياسر ...؟

هذه اللحظة التي تكسر كلّ أنثى ...

عندما ترى ظهرها / أبيها بهكذا ضعف ...

و أنه يحتاجها كأكسجين ...

تصاوير جميلة .. لغة صلدة .. حبكة موّثقة ...

بوركت ...

صافي الود

ياسر علي 07-16-2014 04:19 PM

الأستاذ حسام بهي الدين ريشو
شكرا لهذا لمباركة هذا النص
لكم ألف تحية و تحية

ياسر علي 07-16-2014 04:24 PM

نعم أستاذة جليلة لحظة صعبة حقا .
لكن مهما طال اليوم يأتي الغروب ولو بعد حين .
تحياتي وتقديري لروحك الطيبة
ودامت أفراحك

ابو ساعده الهيومي 08-05-2014 12:54 AM

سمعت الأب يلوك بعض كلمات أقرب إلى أهات و زفرات أنفية ، فلسانه الثقيل وفكه المشدود و ريقه الذي يبلل شفتيه ، يشوش على طلاقة كلامه حتى أضحى همهمة غريبة لكنها متيقنة أنها تحمل عربون محبة يغضان الطرف عن الهفوات و يكبر الواحد فيهما مناولات الآخر .
كان يقول لها ترجلي يا ابنتي و تماسكي فما عدت طفلة صغيرة ، تكشرت ملامحها متجهمة وقالت بنبرة حزينة : " لا يا بطلي ..لا .. مازلت طفلتك و لايزال دلعك يشملني بدفء الطمأنينة ، و خفة ظلك ينعشني نداها ، كتلك الزهرة المطلة على استحياء بين الأوارق الخضراء ، يا أبي لاتطلب مني إلا أن أبقى صغيرتك المدللة
هناك لا تزال البقرة الحلوب تتهادى في مشيتها مثقلة الضرع ، لسانها يلف حزم الحشائش فتقتلعها بنهم ، ذنبها يسوط حشرات تقض راحتها . عجلها يقفز مع الفراشات في المرج الأخضر و يرسل ركلاته للهواء
الاستاذ ياسر علي اتصدق اني رأيت البقرة وعجلها
ورأيت الكرسي الذي ترجل منه الاب
ورأيت الشفتين واحسست بثقلها
لقد صورت واجدت ماضي جميل رحل حل مكانه
مستقبل مجهول يعيش فيه الخوف والامل

ياسر علي 08-09-2014 07:00 PM

الأستاذ الهيومي

لا غابت نظرة المشرقة على نصوصي ، ولا طال غيابك عنها ، فالنصوص تعيش بأقلام تهبها الألق و تعطيعا مزيدا من الأضواء

كل التقدير


الساعة الآن 05:37 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team