الفائز بالمركز الثالث بمسابقة المرحوم عبدالله الخالد للقصة القصيرة
المركز الثالث
الأستاذ القاص حامد العيسى قصة ( انفلات الروح ) ففي الغربة يصبح المرض جحيما، يشتد فتشف الروح ويصفو الذهن.. هذه المرة كانت نوبة البرد الآسيوية قاسية، والشفافية في أوجها حتى صارت الروح غيمة شتوية رقراقة، تحلق بي بين خيالات بعيدة، تدمع لها العين وتنز منها كل جراح القلب القديمة، الدموع لا تنهمر لتغسل الروح وينتهي الأمر، إنما تنحبس ليطول الألم وتتشابك خيوط الذكريات أكثر، محاولة أن تكبل الروح المحلقة، لكنها تنفلت، في المساء أصبح عاجزا عن الحركة، فاضطر للاتصال بأحد الزملاء ليحضر لي بعض الأقراص ..أجاهد لأفتح له الباب وما إن أرتمي على السرير مرة أخرى حتى أشير إلى جيب البنطلون ليأخذ نقود الدواء، يأخذها ببساطة قاتلة قبل أن يسأل عما بي ويجلس.. - ما تجيب يا أخي حاجة نشربها. هو الذي قالها فلم أكن قادرا على الكلام.. أشرت إلى الثلاجة فأخذ منها علبة العصير وناولني مشكورًا زجاجة المياه والأقراص.. الروح الآن تشف أكثر وأكثر، تصعد حتى تتجاوز عنان السماء، ماذا لو أموت الآن؟ نعم في هذه اللحظة بالذات.. سوف يقلبني مرتين يمينا ويسارًا ثم يتصل بالشرطة بهدوئه المثير، أثق أنه لن يستخدم تلفونه المحمول وإنما ستكون أنامله قادرة على أن تتحرك على أزرار تلفوني برقة وهو يحوقل ويترحم علي.. بعدها سيتصلون بخالي الذي أنعم علي بعقد العمل، سيأتي سريعا وينتشر الخبر بين الأقارب هنا، سيتعاون الجميع لوصول الجثمان سالما إلى مصر بأقصى سرعة.. في المطار سيكون أخي الأكبر دامعا، سيكتمون الخبر عن أمي وزوجتي والأولاد حتى يصل الجثمان إلى البيت، عندئذ يبدأ الكابوس الحقيقي.. أفقت على صوت زميلي وهو يمسك الريموت قائلا: -فين قنوات اللحمة الحمرا؟ أخذ يتنقل بين الكليبات العارية وهو يهز ركبته اليمنى مع الصراخ المتصاعد، هذه الميتة البائسة لا تليق بي، أحد أصدقاء العمر فجرته قنبلة وحبيبتي الأولى ماتت مقتولة في إيطاليا بعد هربها من زوجها إلى هواك، أخذت أفكر في أحلى طريقة للموت، ستنهلني الأيام حتى آخر العام، أستقل الطائرة حالما باللحظة التي سيرتمي بها طفلاي وزوجتي بأحضاني المستعدة للالتقاء بهم، فجأة تنفجر الطائرة، لا تكن سوداويا، سيرتمون بأحضاني بالفعل وسيفلت "عمر" من أمه كالمعتاد ومن رجال أمن المطار ليكون أول الواصلين إليّ داخل صالة الوصول.. في السيارة العائدة بنا سأضع رأسي المكدود على كتف زوجتي وتلفني بذراعيها غير عابئة بالسائق، سوف أسلم الروح عندئذ بهدوء.. نعم.. ذلك الشريان الضيق بالقلب الذي أهمله منذ سنوات والضغط المرتفع، يؤهلانني بجدارة لذلك، ستظن هي أنني نائم ولن تكتشف الأمر إلا حين نصل إلى المنزل، ياه، أوحشوني كثيرا، أوحشوني موت.. مرة أخرى موت؟! أيها الأحمق لن تمنحك الدنيا البخيلة هذه الميتة الرومانتيكية أبدا.. بدأت دموعي تنهمر، فشددتُ الغطاء على رأسي متخفيا عن عينيه اللتين تحدقان في الشاشة الجهنمية بشراهة.. من سيتولى تسديد ديوني من بعدي؟ ديوني هناك لإخوتي، سيتنازلون عنها، لكن ديوني هنا لابد من ترتيب أمرها، سأترك لخالي تفاصيلها لتصل الحقوق لأصحابها من الورثة.. ماذا لو أموت في المدرسة؟.. نعم أفضل وقت أثناء طابور الصباح والفناء ممتلئ، لتكن اللحظة التي تسبق تحية العلم مباشرة، السكون يسربل المكان والعيون تتطلع إلى سارية العمل، ساقطا ليَفي العلم، ليس علم بلدي، أعرف، نحن أمة عربية واحدة كما تقول إذاعاتنا على أية حال، ستحملني سيارة الإسعاف سريعا ، ويكملون يومهم الدراسي بكل رتابته ولا جدواه.. أنا متعب هكذا حتى في الموت، فلتدعسني إذن سيارة يابانية فارهة، ليكن أحد تلاميذي في الصف مثلا، دون العشرين من عمره، يطير بها مخمورا كعادته، ربما يلحظ بعد فوات الأوان أنني أستاذه فيحاول كبحها، لكنها لن تأبه لأمثالي من الوافدين الأجانب كما يقولون، غلبني النوم وأفقت فلم أجد من زميلي سوى صوت التلفزيون المرتفع الذي لم يهتم بإغلاقه.. في الصباح بينما أرتدي ملابسي بصعوبة بالغة وأشنق رقبتي برباط العنق الذي يفرضونه علينا في المدرسة؛ أكون قد عرفت الميتة البشعة التي تدخرها الأيام لي.. ستتركني لأحيا هنا - وحيدا- مزيدا من السنوات.. المدهش أنني في هذه اللحظة بالذات، مع تحطم الجسد وتصاعد اليأس إلى الحلق والروح؛ وجدتها- -روحي- تشف وتشف ولا تزال قادرة على التحليق بعيدا وجدتني أتلمس يد زوجتي لنطير عاليا، عاليا جدا، كعادتنا صرنا غيمتين شتويتين مترعتين بالدمع، راحتا تمطران، تمطران بغزارة حتى أوسعتا العالم كله مطرا. إضاءة حول انفلات الروح تتميز قصة انفلات الروح بتطرقها لموضوع الغربة في تداخل دلالي مع ثيمة الموت، بشكل قد تبدو فيه الغربة موتا والموت غربة، وقد تمكن القاص بذكاء من تصوير الحالة النفسية المتأزمة لبطل القصة، مع الالتزام بعناصر القصة من حدث وشخصيات وبيئة مكانية ولحظة تنوير. |
رد: الفائز بالمركز الثالث بمسابقة المرحوم عبدالله الخالد للقصة القصيرة
جزيل الشكر للأستاذ حاتم الحمد
وهنيئا للقاص حامد العيسى نص عميق يجمع بين المتعة والتشويق وستكون لي عودة للتعليق عليه تحياتي وتقديري |
رد: الفائز بالمركز الثالث بمسابقة المرحوم عبدالله الخالد للقصة القصيرة
بالغ الشكر للأستاذ حاتم الحمد .
تهانينا القلبية للقاص المبدع حامد العيسى بحصوله على المرتبة الثالثة. . نص يتفرد بلغة درامية نافذة تستمد سخريتها ورمزيتها من واقع مرير. وستكون لنا عودة بإذن الله في قراءة يستحقها هذا النص الأدبي الجميل . سلم مدادك أخي، وأسجل هنا تحياتي وتقديري . ألف مبروك :43: |
الساعة الآن 08:57 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.