منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر غرفة الضيافة. (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=78)
-   -   لقاء مفتوح مع الاستاذ ياسر علي (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=20962)

ايوب صابر 05-14-2016 12:32 AM

لقاء مفتوح مع الاستاذ ياسر علي
 
الاستاذ ياسر على

تعرف اهتمامي بتدوين السير الذاتية للكتاب كافة وكنت منذ اول مشاركات لك في منابر قد دعوتك لمثل هذا اللقاء ارجو ان تكون مستعد الان لنتحاور معك حول حياتك واهتماماتك خاصة الأدبية ولعلنا نستطيع ان نستفز فيك الذكريات وتخرج علينا بمذكراتك ولعلك تدون سيرتك حياتك هنا لنطلع عليها....
راجيا ان تقبل دعوتي الى هذا الحوار المفتوح حيث يمكن لكافة اعضاء وكتاب منابر المشاركة فيه وطرح الأسئلة والحوار معكم حول مختلف القضايا وحسب ما يمكن ان يتطور اليه الحوار ....


وشكرا *

ياسر علي 05-16-2016 10:39 PM

الحياة واجب نعيشه بحلوه و مره ، برتابته القاسية ، بعفوية سلوكنا حينا ، و ما نتصنعه من أفعال و مواقف احتراما للأشخاص ، للوسط ، للثقافة ، كم مرة عدت إلى مكان كان بالأمس محبوبا ، و قريبا إلى قلبي فوجدتني لا أستطيع تحمّله ، أحس دوما أن العودة نوع من التقهقر و نوع من النكوص و نوع من الاستسلام ، أو عدم قدرة على التقدم ، قد يكون الماضي جزءا منّا ولا شكّ، لكن يبقى طيّ النسيان و يبقى أكبر توقير وتكريم له هو غلق منافذ التسلل إليه بإحكام ، ففيه تكمن زوابع و عواصف لو اجّجتَ لهيبها ، لأدميت جراحا عوّدت النفس على مهادنتها و لو تجاهلا ، على يقين أنا أن لو أتيحت الفرصة لشخصي للبداية من جديد فلن أكون إلا ما أنا عليه ، و لو فتح هذا السفر إلى الماضي يوما فما كنت من المسافرين .
الماضي جزء مات وانفنى و أصبح رمادا باهت اللون و الذوق ، لعل هذا التقديم كاف ليعرف القارئ الكريم مدى صعوبة العودة إلى الماضي و عيش تفاصيله في نظري ، سأفشل حقا في ترجمة من أنا و تلك مغامرة وتحدي قد يحمساني لاختباره ، كما أنني على يقين أن كل الذين كتبوا سيرهم و مذكراتهم طغت اللحظة على حياتهم و اسقطوا الحاضر على الماضي فغابت الموضوعية ، موضوعية ما كانت أرواحهم تجترحه لحظة الفعل في لحظة التنزيل للقدر ، رسم الصورة الحية للوجود ، قد لا يستحلي البعض مثل هذا التفلسف و نحن ألفنا تلك الجمل القصيرة المترعة بالانشراح ، الغارقة في الزيف ، المتناهية في تبسيط الكائن الأكثر تعقيدا على وجه البسيطة . لا أخفيك أن هذا السؤال الوجودي كان يؤرقني إلى اليوم ، فمن أنا؟ يا ترى ؟ هل تلك الصورة التي يراها الناس كل يوم ومنهم من يستحسن طلعتها و تطبع في نفسه انطباعا إيجابيا و من يقشعر جلده كمدا و غيظا متمنيا لها التواري، و من لا تثير في نفسه شعورا مريحا ولا سيئا فتكون كتلك الأشياء الزائدة في الوجود الفسيح الشاسع .
هل أنا سيرة ذهن يحاول تركيب جملة من الأفكار تترجم الحياة بمصداقية، هل أنا ما صنعه من حولي من قشريات التعارف من اسم و مكان مولد و زمان ولادة و نوع تربية ، هل أنا مواقفي الإيجابية منها والسلبية ، هل أنا ما برمجته من خطط للحياة أو ما قمت به إرضاء للآخر بغرض التعايش .
من أنا ؟
هل هناك منبر فعلا قادر على تحمل شغبي ، تحمل من أنا فعلا ، وهل لدي الجرأة لأقول من أنا إن أتيح مثل هذا المكان ، هل وصلنا ثقافيا و إنسانيا إلى درجة التقبل والاحترام اللازم للخصوصية و البوح؟ أكيد كل تلك التساؤلات مشروعة ، والإجابة عنها كافية لتقول لن تنجح في اختبار إنجاز السيرة ، دون الوقوع في تزييف الذات و تلك مغالطة للقارئ و مغالطة للنفس ، إنها نوع من الانفصام حين تكون مضطرا لسلب جزء منك من الوجود ، وجود فعلي ، لا ظني .

الأستاذ أيوب صابر

شكرا لك على الاستضافة في هذا المنبر و سأكون في انتظار أسئلتك و أسئلة أعضاء منابر ، و سأحاول الإجابة بشكل مباشر أحيانا و سأحوم حول الإجابة حينا .

تقديري أيها الرجل الرشيد

ايوب صابر 05-17-2016 01:13 PM

مرحبا استاذ ياسر

هذه المقدمة تشي باننا سوف نحظى بصحبتكم في هذا اللقاء المفتوح برحلة ممتعة وجميلة وغنية استمدت غناها حتما من مجموعة تجارب لا بد ان بعضها كان غاية في الصعوبة والقساوة حيث تصفها "تجارب كان يكمن فيها زوابع و عواصف لو اجّجتَ لهيبها ، لأدميت جراحا عوّدت النفس على مهادنتها" ولا بد، لو اخذنا بنظرية ان الطفولة هي الصندوق الاسود الذي يحتوى مجموع التجارب التي تجعلنا ما نحن عليه في وقت لاحق ، فلا بد ان تلك التجارب صنعت من ياسر علي في المحصلة كاتبا، ومفكرا، وفيلسوفا وصاحب تجربة غنية...يسرنا ان نلتقي معه في هذا اللقاء المفتوح لعلنا من خلال ما نطرحه عليه من اسئلة نساهم في دفعه للغوص في الماضي ونبشه ليخرج علينا في المحصلة بسيرة ذاتية تكشف لنا صراع هذه الذات من اجل العيش والبقاء..
صحيح ان حالة الصراع مع المجتمع والمحيط ومن اجل الحياة والبقاء قد يكون صارخا حادا وقاسيا وواضحا وضوح الشمس، وكانه حفر في االصخر او رسم بالالوان، وقد يكون الصراع باهتا ضعيفا رماديا ، لكنه يظل صراعا على كل حال ويترك اثرا مهما على صحفة التاريخ والتجربة الانسانية ولو ظن صاحبه عكس ذلك او قلل من شأنه... فصراع الانسان من اجل الحياة يظل مهما في كافة حالاته واشكاله ومهما قلت حدته ...فحتى نقطة الماء لو تكرر سقوطها على الارض لسنوات طويلة فهي ستترك اثرا بارزا فكيف اذا بحياة انسان والتي غالبا ما تشبه النهر في حدة اندفاعها؟



يسرني ان ابدأ معك في طرح الاسئلة ولعلنا نجد تفاعلا من الزملاء مما يغني هذا اللقاء:
س- هل لك ان تصف لنا ظروف النشأة والولادة؟ اين ولدت ؟ وعدد الابناء في العائلة؟ والترتيب بالنسبة للعائلة ؟ وظروف الولادة؟ وهل كان هناك مصاعب صحية؟ وكيف كانت ظروف العائلة المعيشية في سنوات طفولتك المبكرة؟ هل عشت مع الاسرة في تلك السنوات؟ ام كنت لظروف ما تنفصل عن الوالدين؟ ما طبيعة عمل والدك؟ وكيف كانت علاقتك بالوالدة في تلك السنوات المبكرة.

ياسر علي 05-17-2016 11:36 PM

ذات ليلة شتوية باردة في أواخر شهر دجنر 1972 ازدان منزل الحاج موسى بمولود جديد اختير له من الأسماء نورالدين ، جدّي يومئذ يؤدي مناسك الحج بالديار المقدسة ، جدّتي تستعد رفقة ولديها محمد وعبد الله و زوجتيهما فاطمة و خديجة لإعلان الأفراح عند العودة المكلّلة بالحجّ المبرور والسعي المشكور، كانت الفرحة فرحتان مولود جديد و زيارة لأطهر بقاع الأرض ، كان والدي يومها في الثانية والثلاثين من عمره و أمي في الرابعة والعشرين و قد استكملا عشر سنوات من الزواج لم يغنما فيها غير بنت تكبرني بسنتين و سبعة أشهر بعد أن حصد الموت ثلاثة من إخوتي الذكور تباعا ، على أيّ حال كنت المولود الذكر الثاني من أحفاد جدي الأحياء ، ولده عبد الله له بنت أيضا تكبرني بتسعة أشهر و الموت أخذ منه ولده البكر ، هو الموت كان مصاحبا لهذه العائلة يفترس أفرادها بنهم شديد في تلك الآونة ، عمي عمر الحافظ للقرآن الكريم والذي يغترف علوم الفقه من مدرسة عتيقة وافته المنية في شبابه ، عمتي اختطفها الموت في بيت زوجها في ريعان شبابها بعد أن ولدت صبيا يكبرني و صبية في مثل سني.
وجدت قصبة الأجداد التي كانت تسكنها عائلة إدموسى كاملة منذ أيام السيبة في القرن التاسع عشر في آخر أيامها بعد أن غادرها قاطنوها و سكنوا بيوتا متفرقة على أطراف القرية و تمزقت العائلة الكبرى و ذهب كل إلى حال سبيله إيذانا ببدء زمن آخر، زمن تتخلله بذور التشرذم و التقوقع .
أبي قروي في طباع مدني أو مدني في طباع قروي ، غادر القرية منذ أن بلغ الرابعة عشر من عمره واستوطن مراكش ، المدينة الحمراء ، الفائحة بعبق التاريخ ، تبتعد عن موطني بمئتي كيلومتر تقريبا جهة الشمال ، لاشك كنت مدلّلا في المنزل كما عمّي الأصغر عبد السلام الذي يكبرني بعشر سنوات و يتابع دراسته في السلك الابتدائي ، ربما كنت قريبا إلى قلوبهم جميعا على ما يبدو، فالذكر الأول في البيت من الأحفاد تكون له حظوة كبيرة ، كما آخر العنقود من الأبناء .عودة إلى أبي الذي استهل سنوات زواجه الأولى بقّالا في مراكش ، والدتي تتنقل بين القرية و مراكش مرة تسكن هناك ومرة تعود عند جدّي في القرية ، مرض والدي ذات مرة فغادر إلى القرية بصفة قطعيّة و اختار أن يكون قرويا ليشتغل بسيارته في النقل السري متنقلا بين الأسواق والمداشر ، لكن الأمور لم تجر وفق المشتهى ، فقرر الاشتغال في الفلاحة .
والدتي فاطمة بكر جدّي محمد فقيه إمام ، ما ذكره شخص إلاّ رفع قدره إلى علياء السماء ، لم تتح لي فرصة ملء عينيّ من وقاره و حسن طلعته ، وإن كان هو استبشر بمولدي و رقاني بلسانه الطاهر وحملني بين يديه و أنا أشاغب لحيته . تقول أمي :" عندما أصبت بذلك المرض العضال وبتّ في رحاب الهبل كان جدك يأتيني فيقرأ و يقرأ عسى الله يخفّف مصابي " سألتها : ماالذي جعلك تسقطين في براثين المرض يا أماه؟ ردّت :" الظروف كانت قاسية و كنت برعمة طرية , أولادي يموتون تباعا ". مات جدي وانضم إلى القافلة التي اجتاحها الموت و لم يتسن لي رؤية وجهه الباسم .

ياسر علي 05-18-2016 11:42 PM

تقول جدتي : "استقبلنا القبائل و الوفود كلها من سوس إلى الجبل ، نحرنا الذبائح و أطعمنا الزّوار و رضي القاصي والداني ، كانت أفراح عظيمة تعمّ البيت حين عاد جدّك من المشرق . رغم أن أمك أرضعتك حولين كاملين إلا أن مرضا كاد يفتك بك ، حملتك عشية بعد أن أصبحت في عداد الأموات وقد علا ضجيج أمك و ثارت ثائرتها ، كان يوما حارا ، ذبلت ملامحك و أستسلمت روحك لبارئها ، كنت أخطو تائهة عندما مررت بجانب الحظيرة و سمعت بقرتي المعطاء تخور ، رفعت عينيّ إلى السماء و قلت خذها ربي و اترك لنا هذا الصبي ، تابعت مسيري إلى وسط القرية حيث قالت لي إحداهن ، لماذا لا تتركينه يرقد بسلام ؟ أنت تعذبينه يا رقية ، لم أعرها اهتماما ، إذ ذاك هبّت نسمة خفيفة منعشة من الغرب و بعد برهة أحسست حركتك بمحاذاة صدري ، رجعت إلى أمك مسرعة ليشرق وجهها حبورا و الدمع لا يزال يبلل خدّيها ، ضمّتك إلي صدرها معاتبة ، ألم يثقل عليك فراقي يا رجل ؟ أهان عليك أن تتركني وحيدة ؟
أتعلم يا بني ماتت البقرة بعد أيام قليلة ، لكن نحمد الله الذي أبقاك لنا . "

القصبة غادرناها بعد مولدي بثلاث سنوات ، لم يسجّل في ذاكرتي غير حدثين و ربما ثلاث في رحابها ، أولها كان امرأة في سحنة سمراء ، عربية حسّانية من بلاد الصحراء ، تداوي كل الأمراض ، و تعتني بالنساء والأطفال ، نبتت حبة في مؤخرة رأسي و بدأت في التوسّع ، أمّي تحدثني ، كانت تلك المرأة من اقتلعت تلك الحبة المتضخمة من جذورها مستعملة "المروت" و الملح ماحقة إياها بالزنجار ، ذهبت الحبة من غير رجعة لا أتذكر لا آلامها ولا صراخي ، لكن موضعها لم ينبت شعرة إلى اليوم لتطبع مقدار وطأة أصبع أجرد في رأسي، يفاجئ كل حلاق أقصده للمرة الأولى فيتحايل في القص ليموّه ظهوره كي لا أبدو أقرع في وجه الأقران ، صورة المرأة وهي تقتحم البيت هو الحدث المنقوش في ذاكرتي بلحافها الأسود و رائحة بخورها المميزة المنبعثة من ملابسها . حدث أن سقطت من الطابق الأول إلى صحن القصبة ، كل ما أذكره هو الهبوط الحر ، أمّا جرح على مستوى الجبهة فهو ما حاكاه الآخرون ، لكن ما عضت عليه ذاكرتي بالنواجد هو لحظة ولادة أختي نعيمة بعد ثلاث سنوات من مولدي ، في تلك اللحظة نزلت عبر السلالم ليلا لألتحق بأمي و تركت والدي في غرفته يستمع إلى المذياع ، ساعتها سمعت خالتي خديجة أخت والدتي فاطمة و زوجة عمّي عبدالله تأمر أختي أمينة بقطع حبل السرّة ، حاولت الدخول لكنّني منعت من ذلك فرجعت عند أبي أحدّثه عن أشياء لم أستوعبها بشكل جيّد و لا أتذكر ما جرى بيننا من حديث .

ايوب صابر 05-19-2016 04:59 PM

انا سعيد جدا باستجابتك لهذه الدعوة..وارى بأن سيرتك غنية بالاحداث الدرامية وحتما سنحصل على رواية ذات قمية عالية...واعتبر نفسي في سباق ومنافسة معك لنرى من يكتب ويحصل على منتج اكثر ابداعا وتشويق وسحرية ودرامية

سنتابع معك سيرتك ولك ان تعلمنا حينما تنتهي من الحديث عن مرحلة النشأة حتى نستمر في طرح الاسئلة؟

ياسر علي 05-20-2016 04:20 PM

استقبلنا بيت أبي يوم لفضتنا القصبة ، قصبة تنتعش برائحة البارود ، حيث كان إدموسى الأوائل أصحاب شكيمة ، لم يكونوا قوّادا ولا شيوخا بل أحرارا و فقط ، يؤكّد جدّي : تمّ اجتثات هذه الأسرة و قضي على رجلها الأول و تمت السيطرة على الأراضي ، لكن القدر شاء أن ينجو اثنان من أبنائه إذ هرّبتهم عجوز مدّعية بأنهم من الرعاة ، و عندما بلغا أشدّهما قادا جيشا جرّارا رابض على طرف الجبل المطلّ على القرية من الغرب ، و أطلقا العنان للرصاص في السماء ، فبُهت أهل القرية و فرّوا إلى بيوتهم و غلّقوا الأبواب و زغردت الأرض هيت لكما . فاوض أهل القرية الولدين و اقترحوا عليهما أن يختارا أنّا شاءا لبناء قصبتهم ، فاقتلعت أشجار الزيتون و التين والرمان، لتنبت القصبة وسط مزارع "الملت" معلنة بداية جيل آخر من أبناء موسى، يحرثون أرضهم و يرعون قطعانهم و يصونون عرضهم بالزناد والنار ." يضيف جدّي: "لم تسلم القصبة من التدمير ، إذ قام الأعداء بتلغيمها لهدمها على أهلها ، لكن القدر شاء لهم البقاء و قاموا بترميمها من جديد ."
بيت أبي ليس ببعيد عن القصبة ، بل على مرمى عين منها ، بجانه بئر و حقول ، عصر الآلة في ضخ المياه قد حان ، اشترى أبي محرّكا ومضخة و انطلق الرجل القصير في الأعمال الفلاحية ،عمي عبدالله التحقت به زوجته وابنته وابنه الذي لم يفطم بعد إلى مقر عمله كرصّاص بمدينة " أكادير" تبتعد عن موطننا بمئتي كلومتر أيضا جهة الغرب ، مدينة ساحلية ناعمة رقيقة عصرية . هكذا انطلق الروتين الماحق ، زرع الخضروات و الحبوب ، ولادة الأولاد تباعا ، ففي البيت الجديد ولد أربعة من إخوتي ثلاثة منهم ذكور.

ياسر علي 05-21-2016 05:57 PM

من أنا ؟ طفل برشّة قبول ، نحيف ، ذو بشرة بيضاء ، طباع هادئة ، راشد منذ الصغر ، إلى المسجد كنت أرسل لتعلّم القراءة و القرآن . في قريتنا ثلاثة مساجد ، في أحدها يقبع فقيه شرس ، يسلخ الأطفال سلخا بل حتى المراهقين منهم ، يستعمل عصيّا مختلفة الأنواع من طويلة إلى قصيرة ، من غليظة إلى رقيقة ، صبحا نتوجه إلى المسجد قبل بزوغ النور ، يجب أن تحفظ وتستظهر ثم تغسل لوحك بالماء و الصّلصال وتعرّضه لأولى خيوط الشمس ثم تكتب قبل العودة إلى المنزل لنتناول طعام الفطور ، نجلس على الأرض القاحلة بأقدامنا الحافية ، من يستطيع التفكير في البرد و سي إبراهيم موجود . أذكر أن أبي قال لي ذات يوم أن أصطحب معي هيضورة " سجاد من جلد و فرو خروف " لاستعماله كبساط يقيني شر البرد ، لكن هيهات هيهات أن أفعل و سي إبراهيم في البال ، تقول أمي ، كنت تصيح في نومك و تردد : " لا ....لا ... لن آخذ الهيضورة ، لن أصطحبها معي أبدا "
كلما خفتت همهمة قراءة الطلبة تبوأت عصبية سي إبراهيم قمّتها ، فيهوي بهراوته ذات اليمين والشمال ، لا يهم إن انتفخت الرؤوس أو ازرورقت الوجوه ، كلما يهم أن يعلو الهتاف و إلا علا العويل و الصراخ.
حظيت يوما منه بضربة على مستوى ساقي فانتفخت رجلي و بتّ أعرج عند عودتي إلى المنزل ، منذ ذلك اليوم ودّعت سي إبراهيم وبيداغوجيته ، وقد وجّهني أبي إلى مسجد آخر .
سي محمد قصير القامة هادئ الطباع ، لا يكاد يلوح بعصاه ، يجمع الأطفال بين الحفظ و اللعب و كثيرا ما نلجأ إلى تعليق ألواحنا دون استظهارها ، يوم الأربعاء نأتيه بالأربعائية ، قد تكون بيضة أو قطعة نقدية ، هدية نهاية الأسبوع ، أيضا نحمل معنا كؤوسنا مع حفنة حبات شاي و قطع سكر ، نشرب الشاي ، نلهو، نشاغب و يذهب كل إلى حال سبيله فالخميس يوم عطلة و كذلك الجمعة .
أذكر أنّي رافقت أبي إلى السوق الأسبوعي ذات خميس ، بينما كنا نسير جنبا إلى جنب أوقفه رجل وتبادلا أطراف الحديث ، شدّني المكان و بدأت عيناي تفترسان بنهم ما تقعان عليه ، حين رجعت ببصري إلى جهة أبي وجدت نفسي وحيدا ، ذهبت يمنة و يسرة و ارتجت بي الأرض ، لحسن حظي أن أبي لم يبتعد كثيرا حين أحس بتخلفي عنه .

ياسر علي 05-22-2016 11:02 AM

نجتمع على مائدة الطعام جدّي و أبي و جدّتي و أمي و أختاي لسنوات عديدة . جدّي يتناول الفلفل المرّ فتراه يتأوه طالبا رشفة ماء تارة ، و متحمّلا مرارته حينا وعينه ترسل قطرات من دمع ، جدّتي تبتسم ابتسامة ماكرة ، ناطقة :" من أكرهك على هذا يا رجل ؟" قبل أن يوضع الطّاجين على المائدة نتحلّق حول صينية الشّاي ، جدّي يحكي لنا إمّا عن بطولات الأجداد أو عن معاناته مع الاستعمار ، أو عن مشاكله مع سكان القرية . أبي غالبا يكون تركيزه متماهيا مع ما ينقله الأثير ويتفوّه به المذياع ، جدّتي قد تجاري جدّي وتذكّره ببعض التفاصيل أو تضيف إلى قوله ماتراه مناسبا من تعليق ، أو تطلق جملة تهكّم وحين يسألها عن مبتغاها تحرّف الكلام في اتجاه آخر . عمّي عبد السلام لا نراه إلا في العطل منذ أن التحق بمدرسة بعيدة عن موطننا ، أمّي عادة تكون صامتة ساهرة على خدمة الجميع .
يوم الخميس تزورنا عمتي ربيعة بانتظام ، نشاغب المنزل في غياب والدي وذهابه إلى السوق ، غالبا ما ينتهي اليوم بعقوبة لي ولأختي عندما تغادر عمّتي مع أبنائها الثّلاثة جرّاء ما ألحقناه من أضرار بالمزروعات أو بالبيت . ابنتها الأولى تكبرني بعام وابنها أكبره بعام أيضا .
على حمارنا نحمل بعض لوز وخضر و زرع حسب ما جاد به الموسم متوجهين إلى قرية أخوالي ، أمي تحسّ بهجة عارمة و نحن في ضيافة جدّتي ، خالي يعمل بعيدا عن المنزل ، متزوج و أب لطفل رضيع ، أخوه مراهق في الثانية عشر أو يزيد يتابع دروس القرآن في المسجد ، ألعب بمعية أبناء خالة أمي .
جدّتي كلثومة امرأة حنونة ، تحس في حضنها أمنا عجيبا ، شريفة النسب ، باسمة الملامح ، لسانها سمح مبتهل ، روح طيبة ، عز نظيرها من امرأة .

قبل أن أذهب إلى المدرسة لم أكن أحسّ أنّي متميّز عن أقراني في المسجد ، ربما ما تبقى في ذهني غير بعض ذكريات ، طفل يستظهر سورة الغاشية ، فالتقط ذهني هذه الآية : " و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة ..." كان هذا الطفل يكبرنا سنا و كان مشاغبا بامتياز ، يكبرنا بأكثر من خمس سنوات ، قوي البنية ، مدوّر الرأس بشعره الميال إلى الحمرة و وجهه المنقط ، يخلع قلوبنا خوفا حين يتحدث عن عنزة المسجد و بغلة المقبرة ، حين يطوي جفنيه العلويين نحو الأعلى لتظهر حمرتهما فننخرط في البكاء و قد قوّس أصابعه و كشّر عن أنيابه كجنيّ محقّق .

ياسر علي 05-23-2016 10:03 PM

اشترى لي أبي درّاجة ثلاثية العجلات ، بها أزهو و ألعب بدون توقف ، كانت دراجة رشيقة قوية، جعلتني في غنى عن صناعة لعبة من لعب الأطفال ، فالغالبية العظمى ، يضطرّون لصناعة لعبهم من علب معدنية بعد أن تفرغ منها زيوت المحركات ، إزالة وجه من وجوهها المستطيلة و قضيبان حديديان ثم ركّب لها ما شئت من العجلات من بقايا الإطارات المطّاطية ، خيط و ربما حبل مفتول لتجرّ عربتك في أمان و يركب من يشاء من رفاقك ، إن لم يرق لك النوع فالقصبة كافية لإرضاء فضولك ، قضيب معدني في طرفها وعجلتان تصنعان من الأسلاك الحديدية واحدة في اليمين وأخرى في اليسار ثم تلفّ الأسلاك بأشرطة من قماش لتبدو سميكة ، في الطرف الآخر تجد مقودا لسيّارة قديمة أو مقودا لدرّاجة متهالكة أو مقودا من أسلاك و إذا بك تفاخر الأقران بآخر صيحات الابتكار ، خذ نفسا عميقا فمازال بجعبتنا الكثير ، حدّث و لا حرج عن أنواع الشاحنات أو الحافلات و الجرّارات ، بإمكانك أن تستغني عن هذا كله ، فطوق دائري مطاطي أو معدني يمكن أن تدخل به إلى مضمار السّباق . درّاجتي أحمل بها أختي الكبيرة ، تقف على القضيب الخلفي حيث ثبتت العجلتان الخلفيتان و تتمسك بثوبي و أنا جالس على السرج ، ضاغط على الدواستين فإذا بنا نعبر الطرقات منتشيين متبخترين متعاليين على الجميع .
أختي أمينة ، تلبس عروستها قفطانا و خمارا ، قصبة سميكة في طول شبر و أخرى رقيقة أقصر منها ، في النصف العلوي تربطهما بخيط على شكل صليب صغير ، ترسم العينين و الأنف والفم بالصمغ أو قطرات تنبعث من عرش نبتة مميزة عند قطفها ، شعرها تعدّه أختي من الصوف بعد أن تفتل ضفائرها ، فتشدّ رأسها بحزام ملون ، ثم تكسيها بما لذّ و طاب من الفساتين البهيجة ، تقيم لها عرسا فاخرا و تزفّها إلى عريسها مغنّية مواويل ملحّنة ألحانا جميلة ، تزغرد عند دخولها إلى مخدعها النظيف ، تؤانسها هناك حتى لا تحس بالوحدة والوحشة .

جليلة ماجد 05-24-2016 08:35 AM


و بين القرية و المدينة ...
فسيلة روحك تنبت بجمال أصيل ..
أ . ياسر /نور الدين
جميل جدا هذا السرد
#متابعة ..


ياسر علي 05-25-2016 10:11 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 209739)
انا سعيد جدا باستجابتك لهذه الدعوة..وارى بأن سيرتك غنية بالاحداث الدرامية وحتما سنحصل على رواية ذات قمية عالية...واعتبر نفسي في سباق ومنافسة معك لنرى من يكتب ويحصل على منتج اكثر ابداعا وتشويق وسحرية ودرامية

سنتابع معك سيرتك ولك ان تعلمنا حينما تنتهي من الحديث عن مرحلة النشأة حتى نستمر في طرح الاسئلة؟

شكرا الأستاذ أيوب صابر .
متى أنهيت الفترة الابتدائية سأنتظر تساؤلاتك . و متى خطر بالك سؤال لا تتوان في طرحه
و شكرا على المتابعة .

ياسر علي 05-25-2016 10:14 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جليلة ماجد (المشاركة 209977)

و بين القرية و المدينة ...
فسيلة روحك تنبت بجمال أصيل ..
أ . ياسر /نور الدين
جميل جدا هذا السرد
#متابعة ..


الأستاذة جليلة ماجد
مرحبا بك في رحاب الملت
و شكرا على المتابعة

ياسر علي 05-25-2016 10:15 AM

أساكي ، سوق أسبوعي ، رحبة واسعة مسيجة بسور بني بأحجار مرصفة مع الإسمنت ، بابه الرئيسي مقوس و عظيم ، بضع حوانيت رصّت في واجهته على الطريق المسفلت الرابط بين مدينتي وارزازات و أكادير، حافظ على نفس المسافة بينه وبين المدينتين ، كما لو أنهما كفتا ميزان . إن استقبلت القبلة تجد وارزازات و تتركك وراءك أكادير ملتحفة ضباب المحيط الأطلسي ، ناقلات و شاحنات تعبر بين المدينتين ، معروفة بأزيز محركاتها ، أما الشحانات العملاقة فهي حاملات معادن تفرغ حمولاتها في البواخر لتعود هادرة صاخبة ، أما الصغرى فتنقل الخضر من سوس باتجاه الشرق . على الرصيف الآخر تجد المدرسة بمحاذاة مقهيين طينيين من الطراز القديم ، الحصير يكسو أرضية الغرف و سقوفها من أعمدة خشبية و قصب ، غير بعيد عن المدرسة هناك تسمع هدير محرك الطاحونة حيث أكياس القمح والشعير ، نعم هناك أيضا بعض دكاكين ترحب بزبائنها طوال الأسبوع ، تجد فيها سكرا وزيتا ومساحيق التصبين وقنينات الغاز ، إن رميت عينك اتجاه وارزازات سترى لافثة كبيرة من الماركات العالمية هناك تجد محطة للوقود و الغازوال والمشتقات النفطية ، لن أنسى طبعا مصلح الدراجات والسيارات ، و حتى إن نسيت كل شيء فبائع التبغ لن أنساه بسهولة .

في المدرسة استقبلنا المعلمون ، لا أتذكر الشيء الكثير ، المعلم يطوف على الطاولات مفرغا الحبر في محبرات تتخذ من زوايا الطاولات موطئا حدث يصعب نسيانه وخاصة أن الكتابة على الدفتر ليست هيّنة بهذه الريشة الدقيقة جدّا ، فهي تخالف ما ألفته أصابعنا من أقلام قصبية في المسجد و دواة بها صمغ وصوف يقلل من مقدار ما سحبته من سائل ، حتى الكتابة على اللوح تكون غليظة ، لكن هذه السطور دقيقة جدا ، وزّعت علينا المناشف الخضراء ، ماهذا يا ربّي ، يدي ترتعش حقّا هل أرعبني المعلّم ، أم هذا العالم الجديد ، من الصعب أن ترى طفلا تظنه دائما لايقهر و هو في مستوى يعلوك بسنوات ، يسلخ سلخا عظيما وهو لم يقترف جريرة إلا أنّه تعطّل دقيقة والصفوف قائمة أمام القاعات . الحمد لله أن وفّقت في نطق كلمة حاضر حين زلزل اسمي أذني ، لم أكن أعلم أن إسمي سيفزعني يوما ، حتى هذه الكنية التي اختارها أبي لم تتعوّد عليها أذني بعد ، لعوطار ، هي خفيفة رشيقة ، لكن كل القرية تنادينا بإدموسى ، فما بال أبي غيّر اسم الأجداد؟ يقول أنه عندما همّ بتسجيل أول أولاده في كنانيش الحالة المدنية . نصحوه بتغيير هذه الكنية التي تجد لها حضورا كبيرا ليس في الملت وحدها لكن في دواوير كثيرة في سوس ، مما يجعل الرسائل تضيع و كذا استدعاءات السلطات نظرا لتعدد الأشخاص الذين يحملون الاسم و الكنية نفسيهما ، هكذا انطلق لسانه بهذا اللّقب فحمله جدّي و كلّ أبنائه أيضا ، و به تميّزنا عن باقي أبناء موسى .


ياسر علي 05-25-2016 09:13 PM

كان ذلك في خريف 1979 حيث شارفت على السبع سنوات الموعد الرسمي لالتحاق كل طفل بالمدرسة ، كثير من الأطفال غرباء عنّي ، حيث يقطنون القرى المجاورة لأساكي ، ليس عيبا ان تبتعد المدرسة عن قريتك بثلاث كيلومترات ، فنصف ساعة كافية لحرق تلك المسافة ، نسير في جماعة إلى المدرسة ، أطفال قريتي هادئون ، بل شغبهم ليس فيه خبث و سوء نية ، أذكر يوما في الاستراحة ، أن طفلا دفعني للاستهزاء برجل يقود شاحنة ، فقلت مسايرا لخطته ، ياله من رجل بدين ! انتهى الأمر وانتقلت عيناي إلى مشاهد أخرى ، فجأة ارتسمت في وجهي أصابع صفعة محكمة ، و سبّ و شتم ينهال عليّ من طفل يكبرني ، انه ابن الرجل البدين. من حسن حظي أن الوادي كان سببا لانتقالي من هذه المدرسة إلى أخرى بعد شهر ربما أو أقلّ ، قبل اللّحاق بها يلزمك أن تعبر واديين أحدهما يكاد يكون دائم الجريان في الشتاء . ربما لو طال بي المقام هناك لأصبحت غير الذي كنته ، هناك يجب أن تكون لديك جرعة خبث زائدة ، و لا مجال للسّذاجة . كل يوم نصطحب معنا خبزا و زبدة ، لن نعود للبيت عند وسط النهار وتلك مساحة كافية لتعلّم كلّ أنواع الزندقة ، و محو آثار البراءة ، يعطيني أبي قطعة صفراء ، أحمل معي شايي وسكري و هكذا يفعل كل الأطفال ، في المقهى نستعير البرّاد والكؤوس والماء المغليّ مقابل نقود صفراء . طفل أسمر قبّل أصابعه بعد أن لمس بها وجنتي ، تبعته جاريا لأنتقم منه ، كان يراوغني بخفّة بالغة أحسست بالهزيمة خاصة عندما التحق بعصبته التي نهرتني . لحسن حظي جاء المطر باكرا و حال بيني وبين هذه المدرسة الموبوءة .
كان الجوّ ماطرا ، يحملني أبي لاجتياز شعاب صغيرة نابعة من جبال قريتنا ، متوجهين جنوبا جهة قرية أخوالي تاركين أساكي وراء ظهورنا ، دخلنا فجأة مدرسة تتكون من حجرتين فقط ، مدرسة هادئة هدوء الجنان ، فيها بنات و صبيان ، معلمة ناعمة الملمس و الصّوت ، وجدت هناك بعضا من رفاقي في مسجد سي ابراهيم ، لن أحس غربة هنا ، حتى أطفال هذه القرية لا تبدو عليهم الخسة والنذالة ، حتى أنهم منضبطون ، همّهم الأوحد هو التعلّم . وجدتهم يومها يدرسون حرف الكاف ، سرعان ما وجدتني أقرأعلى السبورة ، حتى تلك المحبرة وجدتها هنا جافة مهملة ، نكتب بقلم الرصاص و قلم الحبر الجاف . أحببت المدرسة ، أحببت رفاقي ، كنا كتلة متناغمة ، يا له من حظ عظيم .



ياسر علي 05-27-2016 01:37 AM

ربع الساعة كاف لأصل إلى المدرسة الجديدة ، سعيدة تكبرنا حجما و سنا ، طويلة قياسا لقزميتنا ، تكاد تكون والمعلمة سواء ، حين تغيب المعلمة هي من تتولى الحراسة ، لكي لا تجد اسمك على لائحة المشاغبين ، يجب أن تعد بتقديم هديّة ، نبدو لها كحملان في رعايتها ، قطعة لحم أو برتقالة أو رمّانة أو حفنة تمر قد تقيك من عقوبة المعلّمة ، سعيدة هي القائدة التّي لا يشقّ لها غبار ، يوما جرّتني من يدي عندما وصلنا قبالة منزلها ، نظرت نحو المعلّمة التي كانت تسكن مع عائلتها في نفس البيت ، قالت المعلمة شيئا شبيها بالأمر فوجب الرّضوخ ، سرت معهما ، دخلت بيتا لا أعرف من ساكنيه غير سعيدة ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّني لا أزال برعما ليّنا ، فراشة تذوب أجنحتها تحت الضغط ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّ أمي في انتظاري و قلقها لن يسكته غير حضوري ، يا سعيدة كان الأحرى بك مصاحبة ابن عمّتك ، على الأقل لن يحسّ وحشة في دار أخواله ، هو أيضا من أبناء موسى و رفيقي في طريق العودة إلى الدّيار ، جلست إلى مائدة خشبية محاطة برجال بنياتهم وازنة ، أبوهم رجل مرح المجلس ، يسألني عن أحوال عائلتي . نسيت أمي وأبي وجدّي وجدّتي في رحاب أسرة تحلّي الطّعام بالضّحك ، غير بعيد عنا نساء وفتيات بمعية المعلمة تحلقن حول مائدة ثانية ، لكن لم أكرّر تلك الفعلة بعدها ، أتحايل على المعلّمة وعلى سعيدة عند الخروج ، و لم أجرؤ على مشاركتهما الطّريق ، أخاف أن تصطادني مرّة أخرى فتقلق أمّي ويضطرّ أبي إلى الحضور ليطمئن عليّ .

نحفظ ، نتسلى ، نلهو ، نرسم ، نكتب ، نتنافس في المحادثة والتعبير الشفوي ، نلتقط الحساب من فم المعلمة حتى قبل أن تكمل سؤالها ، مرح جدّا أن تكون في القسم الأول بتغزوت ، ظهرت النتائج النهائية ، المركز الثالث هو موضعي ، أحببت هذه الرتبة و هي أقصى ما أصله في سنوات دراستي ، طفل بارع هو من حصّل المرتبة الأولى و طفل أبرع منه هو من حصّل الثانية ، لا تنس قريبي من أبناء موسى هو أيضا انتزع الرّابعة ، و بعدها تأتي أفواج و أفواج من تلاميذ متوسّطي التحصيل . لا أذكر متى غادرت سعيدة فصلنا ، لكنني أتذكر جيدا عندما وبّختها المعلمة يوم علمت أنّها تتلقى الهدايا من التلاميذ وأن لوائح الشغب مغشوشة .
حذار أن لا تحفظ يوما يا نورالدين فيتوج رأسك بأذنين و رقيتين ، يا ليتهما كانتا لأرنب أو قطّة ، لا.. لا.. إنه الحمار ، أخذت حذري بما يكفي و يزيد لكنني ذات كبوة ارتقيت إلى رتبة حمار .
قد تختلط ذكرياتي في المستويين الأول والثاني ، لكن المطعيات لا تتبدل هم ذات الأولاد والمعلمة عينها ، فقط ما يميّز السنتين هو مسكن المعلمة ، ذات يوم وصلني الدور ، فالمعلمة لا تستطيع المبيت لوحدها في سكنها الجديد ، و الحلّ لن يكون سوى أن تختار كلّ يوم طفلا يؤانس وحشتها و يدفع عنها بعبع الظلام ، و ربما يدفع عنها شر متهور قد يتجاسر و يتسلق حائط البناية ، يومها أحضرت من منزلنا خبزا وخضرا ولحما و لوزا و بيضا وغيرها ، ما أن دخلت الدار حتى أحسست بروحي ستغادر كياني ، سكنت حركتي و اعتراني وجوم عجيب ، أعطتني المعلمة كرسيا وجلست قرب باب غرفتها و الشمس ماضية للغروب ، كناشي بين يدي أقرأ فلا أعرف ماذا أقرأ ، أحفظ و لا شيء يلتصق في ذهني ، حلّ الظلام فدخلت الغرفة والمعلمة في منامتها ، تكتب وتكتب ، أنهت كتابتها وأنا لا أزال أستبدل كتبي التي تعذر عليّ استيعاب ما تحمله ، وضعت المقلاة على الموقد و الشمعة تصاحب سمرنا ، سمعتها تغني أغنية ، قشرت البطاطس و قطعتها قطعا رقيقة ، لأول مرة سأتناول عشاء مرّاكشيّا ، لقد زرت مراكش عندما كنت صغيرا ، أبي يقود السيّارة متسلقا منعرجات تيزي نتاتست ، ما أن ترتفع أبواق السيارة عند كل منعرج حتى أحاكي جرسها برنين خفيف من شفتي تيت تيت ، هكذا تحكي أمي ، كان طعم البطاطس غريبا ، لولا الخوف لقذفت به بعيدا ، شهيّتي أيضا مقبوضة .
في الصباح انشرحت لما وجدت الدنيا كما تركتها ، الشمس تطل باسمة من وراء الجبل ، النساء يحملن قفافهن متوجهات إلى الحقول ، ماء الساقية متدفق رقراق ، ملأت جوفي من هواء الدنيا الفسيحة ، في القسم تعجبت المعلمة عندما تطرح سؤالا و لا أستطيع الإجابة .

ياسر علي 05-28-2016 12:12 AM

المعلّمة خلوقة ، نبيهة ، ظريفة ، جميلة ، أختها أجمل منها ، بعد أن فشلت خطة استضافة كل تلميذ ليلة ، التحقت بها اختها ، تعلمنا أناشيد عذبة مليحة ، تعجبنا ملابسها المدنيّة ، شعرها المنساب ، حركتها الموزونة ، والأكثر من هذا رقتها و عذوبة صوتها . حضر أبوها أيضا لمدّة و كذا خطيبها ، أذكر أن أبي استضافهم يوما في بيتنا ، كان أبوها شخصا فارع الطول يلبس نظارتين ، تبدو سنين عمره على وجهه ، صوته يتّسم ببعض غلظة . خطيبها ليس إلا ابن خالتها ، و لكونهما من مراكش فقد كانت فرصة لوالدي لإحياء الذكريات ، جلسا في الصالون الطويل على مضربات متوسدين مخدات من ثوب الموبرة الناعم . المعلمة في غرفة أخرى مع أمّي و جدتي و أختاي ، أختي الثالثة ما تزال حديثة الولادة ، استرقت السمع فسمعت أختي أمينة تتحدث عن البطانية الناعمة التي قدّمتها أمي للمعلمة لتحتمي بها من البرد ، رجّت الدنيا رجاّ من حولي ، لماذا أفشت أختي سري ، كيف سأواجه المعلّمة ، و قد أمرتنا بإحضار الحرباء خلسة و دون إعلام أحد بالأمر ، واهمة المعلمة و في ثقافتنا شائعة عن الحرباء ، أن عضتها قويّة و يقال بالحرف أنها لا تطلق من غرست فيه فكّيها حتى ينهق الحمار من تحت الأرض ، رغم ذلك هناك من أحضر لها الحرباء ، ما أثار رهبتي هو تقارب اسم الحرباء والبطانية في لغتنا ، واهمة المعلمة حين اعتقدت أننا نستطيع كتمان السّر ، واهمة المعلّمة إن ظنّت أنّنا لا نفقه طقوس السّحر والشّعوذة ، واهم أنا حين ظننت أن أختي باعتني للمعلّمة .
تزبد المعلّمة في القسم وتتوعّد ، و قد انتشر خبر الحرباء انتشار النار في الهشيم ، سأترك المعلمة لأن رحلتي معها قد انتهت .
أبي يأخذني معه إلى حفل وطني ، المقدّمون والشّيوخ يأمرون برّاح الدوار ليعلن في القوم ضرورة الحضور إلى البيرو للاشتراك في احتفالات الوطن ، تجمع الزرابي في الدواوير لتزين مكان الحفل ، كل شيخ يفتخر بعدد الحضور الذي استقدمه إلى البيرو ، صبحا ننتظر الناقلة في أساكي ، حملتنا و أعمدة الهاتف تتسابق بجانب الطريق ، أحسست فرحا عظيما ، وصلنا إلى الفيلاج ، بعد عشرين كيلوترا من الرّكض ، كانت الأعلام الحمراء ترفرف فوق كل السطوح ، ساحة البيرو مكتظة بالناس ، فرقة كناوة تدق الطبول و الرقصات بلغت ذروتها منذ الصباح ، استمتعت بهذا العدد الهائل من الجلابيب البيضاء ، كأننا في مصلى العيد ، رأيت التلفاز لأول مرة بالألوان يظهر في زاوية من زوايا الساحة ، رجال الأمن ينظّمون النّاس و يهيّئون لهم مكان الجلوس ، شيئا فشيئا بدأت الشمس تلفح جباهنا ،همس لي أبي : "أليست هذه الشمس حارقة ؟" أجبته بتلقائية ، طبعا ، يقوم أبي، أتبعه ، يطلب منه الواقف على الباب الرجوع إلى مكانه ، يتذرع أبي بالشمس الحارقة التي ستؤذي الصّبي الصّغير ، يرفض الحارس حجّة أبي ، يتقدّم أبي للخروج يعترضه الرّجل ، يعلو صوت أبي يردّ عليه الآخر، يتصايحان ، يتقدم رجال الأمن، يطوقون أبي ، يجرّونه نحو البيرو ، يتمسّك بيدي ، يحاولون التفريق بيننا ، دخلنا أروقة البيرو ، أوقفنا رجل الأمن أمام مكتب القائد ، لم ننتظر طويلا حتى وصل القائد ، لم يستفسر عن الأمر ، فقد جاءته القصّة كاملة ، يسبّ أبي سبّا اقشعر له بدني ، ظننت أبي أقوى من الجميع ، لكنه ما ردّ بأكثر من توضيح للموقف ، لم يستمع له القائد بل أمر برمينا في الزنزانة .
بقينا هناك زهاء ساعة ، كانت الحجرة باردة ، أبي يقول : "على الأقل هذا المكان بارد "
في المقهى يحكي عمّى عمر ، واحد من رجالات قريتي البواسل ، واحد من أبناء موسى ، كيف جمع رجال البلدة الوجهاء ، و اتجهوا نحو القائد لاطلاق صراحنا ، شربنا الشاي و أكلنا الخبز ، و قهقهنا ضحكا و قد انتهت الحادثة بسلام . في طريق عودتنا يقول أبي : "هذا أول خروج لك يا بني ، أدخلتني فيه السجن " هذه العبارة حفرت عميقا في قلبي ، تراني حامل شؤم لأسرتي ؟

ياسر علي 05-29-2016 02:41 PM

في فصل الصيف يتغير كل شيء في منزلنا ، تأتي خالتي خديجة و ابنتها كلثومة و ابنها عبد المالك ، ثلاثة اشهر من المرح الزائد و الشغب المستمر ، رغم أنّني مرغم على الذّهاب إلى المسجد ، لكن أيّام الصيف الطّويلة ، فيها ما يكفي و يزيد للّعب و المرح ، نقصد بستانا تخترقه ساقية ، تحت ظلال أشجاره نقضي الظهيرة و قد لجأ أهلنا للقيلولة ، كل واحد يبني صهريجه بالطين ، و يملؤه بماء الساقية ، نشق القنوات ، لنسقي مزروعاتنا ، كل منّا يسيج حقله البالغ مترا مربعا واحدا تقريبا ، نهتمّ بحقولنا طوال الصيف .
في البستان نفترس كميات هائلة من العنب والتين ، نقطف ثمار اللّوز ، نأكل السّفرجل ، جدّي يعتني بهذا البستان ، يشذّب أشجاره ، يقيم داليات العنب . رغم القيض فالبستان ربيعي الطبع ، طيور مغردة و ثمار دانية تنعشها رطوبة الماء .
شهر رمضان على الأبواب ، شهر هجيري الملامح ، نرى أسرنا و قد نال منها التعب ، و شدّ الحر أنفاسها ، شهر كامل و لا ترى الفرحة في نفوسهم إلا عند المغيب ، إذ ذاك تشرق وجوههم الشّاحبة ، و تستيقظ هممهم المكسورة ، أبي بعصا طويلة إلى جانبه ، قد تنزل على قطّة متسللة إلى المائدة و ربما إلى ظهورنا أقرب ، متى كان ميزاجه سيئا جدّا لا نحضر طعام الفطور ، يترقبون الأذان بلهفة، الماء البارد و التمر و الحريرة و الخبز والحليب والشبّاكية و السّلو كلها مهيأة، متى أعلن الأذان الانطلاقة انجرف الجميع هبّة رجل واحد للأكل .
صباح العيد نتوجه إلى المصلى ، نتباهى بأثوابنا الجديدة ، نصلي في الصّف الخلفي ، و بكلام خافت نصدّع رؤوس المصلّين ، متى انتهت الصلاة ، قام الإمام مخاطبا مكبرا و الجميع يردّد التكبير ، أحب هذا الجو الروحاني الذي يعتري الجماعة ، أحب ألحان الأذكار التي ينشدونها قبل الصلاة و بعدها ، تنتهي المصافحة نتنقل مهللين مكبرين جهة المقبرة ، نشارك الأموات منا فرحة العيد ، يدعو الإمام لهم بالرحمة والمغفرة و الجنة ، يذهب كل إلى حال سبيله .
الصيف لا تنقضي أفراحه ، لا يسكتها إلا قدوم المطر في الخريف ، حفلات الزفاف و مواسم القرويين ، موسم عيساوة ، موسم الرماة ، موسم كناوة في بعض القرى ، أبي لا يحب المواسم ، لا يحب الرقص ، لا يحب الطقوس الروحانية التي يصفها بأعمال الشّرك والشيطان ، أنا أجد فيها بهجة عارمة، أحب طبول عيساوة ، و إيقاعها الرهيب ، أحبّ الحالة المجنونة التي تعتري العيساوي حين يفقد صلته بهذا الوجود ، وهو يمارس الحضرة ، تغرس مسامير حادة في وجهه و هو يحسّ نشوة عارمة ، رقبته مزينة بمسامير تخترق جلده لكأنها قلادة عجيبة ، لسانه مشدود بجلد شفتيه ، يا لها من نشوة ، يقذف برأسه ذات اليمين والشمال ، نحو الأسفل نحو الأعلى ولسانه يلهج بذكر الله ، أحب النساء العيساويات اللائي جئن للتفرج فقط ، فإذا بهن ينخرطن بلا وعي في هز الرؤوس ، فتعمل جليساتهن على شدهنّ بحزام عند حجرهن لكي يلزمن أماكنهن ، يمارسن الحضرة واقفات على ركابهن ، شعرهن الوديع متشتت على رؤوسهن ، يهيج بعضهن فيطلقن صيحات منخرطات في بكاء مرير .

جليلة ماجد 05-29-2016 08:24 PM



يا له من سرد ...
كأنني مع فيلم للذكريات ..
تفوح منه رائحة البهارات القديمة ..
لا زلت # متابعة !



ياسر علي 05-30-2016 10:42 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جليلة ماجد (المشاركة 210294)


يا له من سرد ...
كأنني مع فيلم للذكريات ..
تفوح منه رائحة البهارات القديمة ..
لا زلت # متابعة !



شكرا لحضورك البهي أستاذة جليلة .
هي الحياة ، تدخل حينا في نغمتها فتؤنسك ، و متى تغير الإيقاع صفعتك على حين غرة بحقيقتها الهشة المتعبة المرعبة ، تحاول أن تتكيف ، أن تجد سبيلا لمجاراتها ، لا ينجح فيها إلا من كان حربائي الملكات ، أو امتلك رصيدا غير متناه من التجهال ، أما من يسعى لمنطقتها فهو سيعاني في ظل لا معقوليتها ، في خضم تناقضاتها ، في أتون معتركها الذي لا يؤمن في أحيان كثيرة إلا بمنطق القوة .

سعيد بحضورك الوارف .

ياسر علي 05-30-2016 10:51 PM

إلى أكادير رافقت والدي ، بيت عمّي عبد الله في أيت ملول ، كان قبل ذلك يسكن في حيّ صفيحي ، وعندما همّت البلدية بإعادة التهيئة ، وزعت على قاطني الكريان هذه المنازل ، فيه غرفة واحدة مسقفة ، مطبخ و حمّام ، أما الباقي فيلتحف السّماء ، عمّي أضاف حجرتين جديدتين ، لكنهما لازالتا بدون أبواب و بلا نوافذ ، خالتي تركناها في القرية ، عمّي لوحده بالمنزل ، لا أنسى أنّني وجدت هناك أيضا عمّي عبد السّلام ، في الليل كانت الفرقة الصوفية قد حضرت ، عمّي انضم إليهم ، في الصّالون يردّدون "هو.. هو..هو.." بقيت أنا و والدي في غرفة بدون باب ، أبي يطلق مذياعه ، لا يحب المتصوفة ، يحسبهم دجّالين ، بل مجرد طفيليين ، يبحثون عن عشاء ، بل مجرد مبتزّين ، عمي يجد في حضرتهم راحة ، يبلسمون أشجانه ، يغسلون كدمات روحه المكسورة ، يوما أرسلتني أمي لأخبر جدّتي أن الطعام جاهز ، عند قدم القصبة تنبت " الدواريّة "، دار صغيرة من ثلاث غرف ، و حمام ، في وسطها برتقالة ثمارها ألذّ من تلك التي غرسها أبي عند البئر ، وجدت حينها جدّتي تواسي عمّي عبد الله ، كان يبكي بحرقة شديدة ، لم أر رجلا من قبل يبكي ، ما كنت لاعرف السبب يومها ، لكن بعد توالي السنين علمت لم رحل عمي عن القرية ، ليس لأن أبي عاد من مرّاكش ، بل لأنه رفض أن يبيع جدّي تلك الأرض ، أرض تحايل فيها بعض أهل القرية على جدّي فباعها بثمن بخس ، بل أكثر من ذلك ، فرجولة من يبيع أرضه في ثقافتنا منقوصة ، و لو كان في أمس الحاجة إليها ، عمّي يدخّن أيضا ، هو ليس كأبي ، ليس مدنيّ الطباع بل كان قرويا بامـتياز ، جدّتي أيضا كانت تحب النفحة ، هكذا أخبرتني أمي ، كان جدي يحضر لها نبات التبغ الأسود تدقه، وتضعه في قارورتها ، كان ذلك منذ أمد بعيد .
زرنا بعض معارفنا ، شقة في الدور العلوي ، صالون فاخر ، تلفاز كبير بالألوان ، رحبت بنا ربّة البيت ، شممت أنها لا تريدنا هناك ، رغم ضحكة مصطنعة ، و كلمات منمقة ، أبناؤها لم نر و جوههم ، شبّان يتابعون دراستهم في مستوات عليا ، صاحب البيت لم يحضر إلا عند غروب الشمس ، سنبيت هنا هذا ما قرّره أبي ، ستكون ليلة ثقيلة شبيهة بتلك الليلة في حضرة المعلّمة ، روحي انقبضت ، سمعت أذان العشاء عندما انهال الضيوف على المنزل ، رجال ضخام ، بعضهم ببذل أنيقة و الآخرون بجلابيب على المقاس ، يخوضون في أحاديث لا تعجبني ، فاستغرقت مع الشاشة في شريط يقتل فيه الزرق الخضر و الخضر الزرق ، جيشان يتحاربان ، لم أفهم شيئا ، لا أريد أن أفهم شيئا ، أبناء الرجل بعد أن رحّبوا بالضّيوف غادروا دون رجعة ، إلا واحدا منهم بقي يرصّف الأطباق على الموائد ، تذكرت ما استقبلتنا به صاحبة البيت من خبز بارد وزيت و كأس شاي أصفر .

مع انفلاق الفجر غادرنا المنزل ، أبي ودّعهم قبل النوم ، و صلنا إلى سوق عظيمة ، يباع فيها كل شيء ، وجدت عمي عبد السلام هناك ، وهو يبيع الثوم الذي أحضره أبي ، كان كساد الثوم ما أجبر أبي على هذه الرحلة ، لو كان الثوم مطلوبا لسافر به إلى مراكش كما يفعل ، لكنه الكساد يضطرك إلى البيع بالتقسيط ، في تلك الرحلة اكتشفت الكثير الكثير ، علمت بما لا يدع مجالا للشّك أننا بسطاء ، فقراء ، لا حول لنا و لا قوّة و لا نزن جناح بعوضة .


ياسر علي 05-31-2016 12:24 PM

حلّ الموسم الدراسي الجديد المعلمة ليست هناك ، تغير الطاقم كلية ، أدرس في قسم من مستويين ، في الصّف الأيمن تلاميذ المستوى الثالث و في الصفّ الأيسر تلاميذ المستوى الرابع ، معلمنا يتحدث إلى زميله ، لا أعرف ما مستوى هؤلاء و مدى قدرتهم على الاستجابة ، يشير نحوي بأصبعه أن قم نحو السبوة ، أعطاني قطعة طبشورة ، أمرني بكتابة اسمي بالعربية ، يا لها من مهمّة سهلة يا أستاذي ، لم لم تطلب منّي ذلك بالفرنسية ، فعمّي عبد السلام كفاك شرّ تعليمي حروف هذه اللغة ، لا بأس كتبت اسمي و جلست مكاني دون أن أستعرض عضلاتي . تمر الأيام مر السحاب ، معلمنا يتنقل بين المدرسة و موطنه بدراجة صفراء ، نسمع هديرها من بعيد ، فنصطف أمام القاعة ، بعذوبة نستقبل دروس التعبير الشفوي باللغة الجديدة ، بانسيابية نكتب حروفها ، بطلاقة نقرأ نصوصها ، لا شيء يعكر تعلمنا ، رغم ذلك اكتسبنا طباعا جديدة ، أولها تسوية غليون يليق ، قصبة ناعمة الملمس ، و سبسي مصنوع من الصّلصال ، ها أنت في عصبة المدخنين الجدد ، ندخن كل شيء ، أوراق الأشجار ، بقايا السّجائر ، روث الحيوانات ، ما يهمّ هو شيء يحترق في السّبسي و يطلق دخّانا ، مع توالي الأيام نورالدين يتغير ، أمدّ يدي إلى بعض درهيمات في دكّان والدي ، أشتري المشروبات الغازية في الدكان القريب من المدرسة ، أشتري الحلويات ، يحتفل أصدقائي ، في المنزل لا يعجبني شيء ، أرى أبي شرس الطباع ، يكثر من أوامره ، يفرط في العنف ، عندما يحرث ببقرتيه الأرض ، فإياك أن يجد في طريق عودته بقية باقية من عشب كيفما كان نوعه ، يجب أن يكون أخدود سكة المحراث خاليا ، نصف أخدود أتكفل به والنصف الآخر لأختي ، نتخاصم أنا وأختي ، بدأت أكره حياتي ، في موسم جني الزيتون صبحا يجب أن تذهب لالتقاط الحب المتناثر بفعل الرياح قبل الذهاب إلى المدرسة ، موسم الحرث تجمع الأعشاب ، في الايام العادية الغنم في انتظاري في الأصيل ، يا لها من طفولة بئيسة ، ملابسي لا تعجبني ، فراشي لا يعجبني ، حتى جدّي سببته يوما فتبعني عبر الدوار أخيط به الأزقة ، لو تمكن مني لاشبعني ضربا ورفسا ، أذكر أن أبي ذات يوم ، كان يريد من عمي عبد السلام أن يساعده على جني الطماطم ، لكنه ذهب مع رفاقه للّهو ، وعند عودته أحضر معه آنية مملوءة بثمار التين عساها تشفع له ، لكن هيهات هيهات فأبي لا يخدع أبدا ، رجمه أبي بالتين و كان عمي يبكي ، ثار جدّي ثورة عظيمة ، حمل بين يديه صخرة عظيمة ، توجه نحوي ليهشم رأسي ، أبي ساكت لا يرد ،ّ أمي تبكي ، جدّي يحلف بأغلظ الأيمان أن لو اقتربت منه ثانية لسحقت هذه الحشرة التي ولدتها .

ياسر علي 06-01-2016 02:36 AM

جدّي ليس قاسي الطّباع ، بل لين جدّا ، يزور صديقه في تالوين بين الفينة والأخرى قد يذهب أيضا إلى أولوز ، لإحياء صداقاته ، دائما يرافق جدّتي ، يلبس جلبابه متقلّدا محفظته ، حازما رأسه الحليق بعمامته ، جدّتي بلحافها الأزرق ، علاقة رائعة بين زوجين يصعب أن يكدّر صفوها زمهرير الشتاء و لا حرارة الصّيف . جدّتي لا تبالي كثيرا ، قلبها يسع كل المتناقضات ، لا تتأثر بسهولة ، قويّة الشخصيّة ، يصعب إقناعها كما يصعب استعطافها ، تعيش على هواها ، مرتين في الأسبوع تغادر المنزل ، إما هابطة عند ابنتها أو صاعدة عند أختها ، إن اقترب موسم الحصاد تغادر إلى أكادير رفقة جدّي ، أمّي قليلا ما تجد ساعة لحكّ رأسها ، من الحظيرة إلى الحقل إلى المطبخ ، تطوف النهار كلّه ، وتزيده بعضا من اللّيل في غزل الصوف ، إن تخاصمتا تكون أمّي باكية ، بينما جدّتي محافظة على صرامتها . عمّي عبد السلام فتى محبوب ، قامة متوسطة ميالة إلى الطول ، نحيف الهئية ، لكنه واقف و صلب ، يحضر بعض أصدقائه إلى المنزل أحيانا ، رغم أن والدي لا يحبّ هذه الصّحبة ، يظن أنها قد تفقده تركيزه ، و تلهيه عن دراسته ، أبي لا يحبّ هؤلاء الشّباب الّذين لهم متّسع من الوقت في حياتهم ، يظنهم قد يعوّدوا أخاه طباعهم اللامسؤولة ، عمي رهيف الإحساس ، يحسّ بهذا ، بل يحسّ أن أبي يحاصره ، يعانده ، يفرض عليه لعبة الأخ الأكبر ، يعاملني عمّي بلطف ، رغم أنه أيضا قد يثور ، و اتق غضبة الحليم ، يوما غاب أبي عن الديار ، المحرك يهزّ المكان ضجيجا ، أنا ألعب قرب البئر و أصيح ، ظن عمّي أنّ مكروها وقع ، ترك السّقي جاريا مستفسرا عمّ حدث ، وجدني لا أزال أصيح مشاغبا ، التقط عصا ، هوى علي مرة ، فثانية ، فثالثة ، هربت منه محتميا بجدّي وجدّتي اللّذان ينتظران أن تقدم لهما أمي الصّينيّة والبرّاد ، حكى لهما عمّي عن صياحي وضجيجي ، هاج جدّي ، ملأ فمه ماء بصقه على وجهي فما بردت روحه ، استجمع كل ماجادت به غدده وأرسلها نحوي و أنا متكوّم في زاوية ، علا صوته و تعاظم غضبه ، " منك لله يا غلام السوء ، كدّرت مجلسنا ، أسأت إلينا غاية السوء ، يا إبليس يا لعين ، اتفو اتفو " وصل صراخي إلى أمّي سمعت بصقات الحاج ، عينها تبكي وهي تسحبني من بين مخالبهم ، يا لصعوبة مراس البعض ، مسكين جدّي ، إلا عمّي عبد السلام ، لا يجب أن يزعجه أحد ، وإلا أصاب جدّي بنوبة جنون . نعم يا أبي رغم قساوتك ، وصعوبة إرضائك ، لكنك تفرض نظاما في البيت يسري على الجميع .

ياسر علي 06-01-2016 09:49 PM

تتذكرون أختي نعيمة التي كانت آخر مولود في القصبة ، إنها الآن ترافقني إلى المدرسة رجلا برجل ، تتغيأ نقل فتيات القرية من لعنة القفة و تراتيل الجهل ، تريد أن تكون من بنات الجيل كما نوه البلغيثي في إحدى قصائده التي درسناها في الابتدائي : يا ابنة الجيل أفيقي كأخيك المستفيق.... و خذي حظك من العلم لتحظي بحقوق . ستكون أول فتاة في قريتي تتوجه إلى المدرسة ، لا أتحدث هنا عن بنات الأسر اللائي يسكنّ المدينة ، كابنة عمّي ، أقصد فتيات الملت ، في نفس السنة التحقت بها فتاة أخرى فتتشاركان الطريق متى كان توقيتنا مختلفا ، معذرة أختي فهذا العام ، لا أذكر عنك شيئا ، ليس لأنك أبلغت أبي أنني أدخّن ، فما كنت لأكرهك لعمل كهذا ، فأنت لم تتفوهي إلا بما رأيت . لكن معلّمنا المراكشي الجديد سيطر على كل أحاسيسنا ، لو كان كلّ أبناء مراكش مثلك لشكرت أبي على قطع الصلة معها ، من أين جئتنا يا رجل ! و هل في الكون رجل مثلك ؟ عجيب ستة أشهر لا أكاد أذكر فيها شيئا ، سنة بيضاء ،لا... حمراء ، لا... سوداء ، بيضاء لأن صفحتي ما أضافت حرفا ولا نقطة إلى رصيدها ، حمراء لأن الدماء كانت تجري في مجزرتنا أنهارا ، سوداء لأن ما تعلمته سابقا ذهب أدراج الرياح ، سوداء لأن الرعب سكن قلبي ، سوداء لأنها لا تستطيع أن تكون غير ذلك ، رغم أنك ما ضربتني غير مرة واحدة ، لكنها كانت كافية لأغادر مدرستك ، لكمة في بطني الهشّ ، ذهبت بأنفاسي و روحي ، أتبعها صفعة فتحشرجت أذناي مستعيدا وعيي ، ما هذا يارجل ؟ هل قتلت أباك؟ أم اغتصبت أختك ؟ حرام عليك ، ما ذنب أولئك الذين تسلخهم كل يوم ، كل حين ، كل لحظة ، ما هذا المسلخ العجيب الذي نأتي إليه مضطرين ، أتعلم يا أستاذ ، ما فعلت شيئا تشرق به ذكراك ، على رسلك فحتى سي إبراهيم ما وصل من خشونتك حد أصابع قدميك ، أين تلك الكرة الّتي وعدتنا بإحضارها يوم جمعت تلك النقود ، على الأقلّ ستكون بلسما لجراحنا النازفة ، يا رجل أتعرف أن كلبا عضّني من مؤخّرتي و أنا أحاول إنقاذ رغيف الخبز لكي لا تظل بلا غداء ، لم الناس يكرمونك إلاّ لتكون أهلا للكرم ، لم البسطاء يغضون عنك الطرف إلا لتحسن إلى أبنائهم ، لكن أبي حاضر في طفولتي و إن كنت غائبا يا أستاذي ، حملني بعيدا عنك ، بعيدا حتى عن أختي التي تحتاج لمن يرافقها و هي غضة العود ، حسنا أنا الآن في ضيافة منزل غير منزلنا ، في وسط مدرسة مزيّنة حجراتها ، متفتحة زهور حدائقها ، حتى معلمي الذي كان بالأمس القريب يعلمني الفرنسية ، وجدته هناك محبطا متأسفا لإفراغك لإناء معارفي ، وإفسادك لرشاقة ذهني ، و تخدير حيويتي .

ياسر علي 06-03-2016 01:23 AM

"تاركا "ليست بعيدة جدّا عن موطني ، خمس كيلومترات ، ساعة كاملة مشيا على الأقدام ، لا أعرف كيف عبرت إلى المستوى الخامس ، ربما محض صدفة ، نظرا لارتفاع المستوى التعليمي للتلاميذ من جهة و ارتفاع منسوب جرأتهم من جهة أخرى ، فلأول مرة أحسست بطباعي الخجولة بينهم، و ما زادها تعقيدا هو إحساسي أنهم يتفوّقون عليّ ، لم أندمج إلا بعد أن قضيت عاما كاملا في تاركا ، ففي الامتحانات التجريبية حصدت المركز الثالث ، المرتبة الأولى لطفل متمرس ، والثانية لطفل أذكى منه .
لم تكن الليلة الأولى التي قضيتها في بيت الحاجّة بالسّهلة ، فمنذ أن رأيت أبي يلتهمه أول منعرج قبالة بيت الحاجّة أحسست انقباضا يخنقني ، الحاجّة تقرّبني منها ، تداعب روحي الطيبة ، تلهيني عن الانفراد بنفسي ، يؤازرها طفلان يرعيان في كنفها من دواوير أخرى بعيدة ، جاؤوا لقطف ثمار العلم ، يكبراني حجما وسنّا ، أفوتهم فطنة و بداهة و مستوى تعليميا ، ابتتها الصغيرة أيضا تكبرني سنا و حجما ، طفلة أخرى من أقارب الحاجّة تشاركنا البيت ، ترفع القبعة للحاجّة كما لزوجها الذي يرتب أوراق تقاعده المريح بالدّيار الأوربية . منزل فسيح مريح ، بحديقته الجميلة ، برياضه المنقوشة ، ابن الحاجّة صيدلاني بوارزازات ، مدينة السينما العالميّة ، كان يتابع دراسته الثانوية هناك ، بين الفينة والفينة يزور مسقط رأسه ، يستعد للدخول إلى قفصه الذهبي ، الأجواء العامة مليحة ، لا حسيب و لا رقيب ، أنت و ما تمليه عليك روحك ، انقضت الأيام المتبقية من العام بسلام ، و حلّت عطلة الصيف عدت فيها بمعية أمي وأبي و خالتي لحضور حفل زفاف ابن الحاجّة ، الحاجّة تربطها بأمي رائحة قرابة ، أناديها خالتي ، امرأة برتبة رجل ، هادئة ، رزينة ذكية ، صدرها رحب رحابة السماء ، قوتها قوة جبل تهبه الرياح والعواصف ، إن بدأت بنتها الكبرى تتلوى والأرواح تتنازعها ، كانت لها الحاجّة بالمرصاد ، تضمها إليها ضمّة الأسد لفريسته ، لا أظن تلك الأرواح يسكتها غير قوة عزم الحاجة ، فلولاها لعاتوا في نفوسنا الضعيفة فسادا ، لا تطلقهم الحاجة إلا وقد هربوا من أنف الصريعة في شخير مزمجر .
ابنة الحاجة كانت متزوجة ، بل لديها بنت لم تتح لي فرصة رؤيتها عن قرب ، ربما لمحتها ذات يوم في مكان ما عند خروجي من المدرسة ، هي تسكن المدينة رفقة زوجة أبيها ، الحاجة ما تركت طبيبا ولا روحانيا إلاّ قصدته ، لكن الحال هي الحال ، زوج الحاجة إنسان عذب بطباع أوربية ، ذوقه راق ، بيديه يسقي حديقته إن لم يحضر البستاني ، يداعب "حجبة" بغلة يافعة تأكل و تشرب و لا تمارس شقاء أبدا ، "بريك" سالوقي وديع ببطاقة تحمل صورته ، وحده يفترس كميات هائلة من اللحم أسبوعيا ، ليس مثل كلبنا الذي قتله والدي بعد أن هجم عليّ و أنا أضع أمامه بقية من عظام غدائنا وبعض خبز ممزوج بالمرق ، كلبنا شرس ، لا نطلق سراحه أبدا حتى لا يهاجم الجيران ، كلما ظل في القيد ازداد وحشية ، لم يكن أبي ينوي قتله لكنه حين أراد أن يؤدبه كاد الكلب يقتلع أصابعه من جذورها ، فهوى عليه أبي بشفرة حادّة ، " بريك" يكاد يكون عاقلا ، مؤدبا ، إنه التمدن ، إنها الطباع الآتية من الغرب ، تشربها بريك كما حجبة من زوج الحاجّة ، أحبّ تلك الأسرة حبا جمّا ، بعض النّاس يستحقون كل النّعم .
لم أكن دائما ولدا صالحا ، فأنا الآن أدخن سجائر حقيقيّة ، أدخّن مع ابن الحاج عندما يزور زوجته و أسرته ، كل أولئك الذين كانوا هنا غادروا ، لم يتبقّ غير قريبتهم الصغيرة ، أنا الآن الذكر الصغير الوحيد هنا ، يعاملونني معاملة أمير صغير ، كان لهم كبير فضل في استرجاع توازني ، رغم أنني لا أحفظ دروسي إلا نادرا .

ياسر علي 06-04-2016 08:30 PM

قبل بزوغ النور في يوم رمضاني ، أبي تناول سحوره ركع ما تيسر له أن يركع ، صلّى الفجر و أتبعه الصّبح ، حمل على حماره ما جاد به الحقل من الخضر ، إلى السوق سيتوجه ، انفلق النور ، و نحن في تاركا ، نصف المسافة هو ما تبقّى ليصل أبي إلى سوق تالوين ، بعض الأطفال يرافقون آباءهم يحملون رزمة أوراق بيضاء و مقلمة ، كان الجو حارّا منذ الصّباح ، إنها أيام يونيو الطويلة ، تظهر لي تالوين من بعيد يفصلها عن السوق مجرى مائي كبير ، هو نفسه الوادي الذي تقبع عليه تاركا ، رافد قوي من روافد وادي سوس ينبع من جبال سيروا ، ، يلتقي مع وادي الملت في أساكي ، عذرا نسيت أن أحدثكم أنني أيضا أحمل دفترا و أوراقا و مقلمة ، لست ذاهبا إلى السوق ، بل سأكون في رحاب إعدادية تالوين ، مبنى ضخم تنبعث منه حمرة رمادية ، سبق أن زرت هذا المبنى عندما شاركت مدرستي في احتفالات وطنية ، "شمس العشية غربت ، واستغربت عيني من الفرقة ." هو النشيد الذي اشتركت فيه بنت الحاجّة ، كم تبدو أخّاذة هي و رفيقاتها المنشدات في زيهن التقليديّ ، الحليّ تبرق من نواصيهن و معاصمهن ، شعورهن المنسابة على قفاطينهن المطرّزة . نحن أيضا كنا في زي تقليدي صحراوي ، عصابة زرقاء تطوق رؤوسنا مع درّاع أزرق ، يومها كان الحاصل على المرتبة الأولى يشارك في مسرحية مرتديا زيا عسكريا مع كوفية فلسطينية ، كان فصيح الكلام ، ممستقيم الهيئة ، " أنا الجنديّ الذي ..."
اليوم أنا هنا من أجل شيء آخر غير الاحتفال ، فارقني أبي عندما هممت بعبور الوادي بمعية أطفال تاركا ، وجب عليه الذهاب إلى السوق و وضع الأحمال عن البهيمة ، قبل أن يلتحق بي ليرى إن سارت الأمور على خير. حسنا فعلت يا والدي فعندما دخلت المبنى وجدت إسمي على رأس اللائحة في القاعة الأولى . لكن عندما تحسّست جيبي افتقدت بطاقتي ، ما هذه المصيبة يا نورالدين ، ألم يركز أساتذتك على هذه النقطة بالذات ، حذار أن تأتي إلى مركز الامتحان بدون بطاقة ، لحسن حظي رأيت أبي في الساحة ، قصدته :" أبي ، فقدت بطاقتي .." لولا ذاك الجم الغفير لأشبعني أبي ضربا و سبا ، لكن مالعمل ، بلع غضبه بريقه الرماضني النّاشف ، أخذ بيدي مستفسرا عن مكتب المدير ، بينما رن الجرس معلنا ضرورة اصطفاف التلاميذ أمام القاعات ، المدير في تلك اللحظة مشغول باوراق الامتحانات التي ستوزّع على القاعات ، أطفال تاركا يجرون نحوي ، هذه بطاقتك ، لحسن حظك فتلميذ من مركزية تالوين وجدها في الطريق العام .

الشهادة الابتدائية ، ليست كما كانت من قبل ، فقديما يكفي الحصول عليها لتكون من البجلين ، ربما قد تنال بها وظيفة ، ليس الأمر جيدا كما يفتخر الأقدمون ، بل هي علامة صارخة على تخلف المجتمع و انتشار الأميّة . يتباهى الأقدمون بنجاحهم في المستوى الخامس ، و يظلّون يمدحون في أنفسهم و علو كعبهم و ارتفاع مستواهم الدراسي ، يلوكون جملا بالفرنسية ليعلنوا قوتهم وجبروتهم ، ليست الأمور كما تعتقدون ، بل فقط فئات عريضة لم تتح لهم الفرصة لإظهار نبوغهم . لست أدري لماذا عندما أنهينا الامتحانات انتابني شعور أنني لا أستحق هذه الشهادة ، فأنا لا أضبط العربية بشكل جيد و حدّث ولا حرج عن الفرنسية ، الذي كان يحتل المرتبة الثانية عند المعلمة في تغزوت التقيته قبل الدخول نحو المبنى ، ربع ساعة كافية لأكتشف أنّني هزيل جدّا أمامه ، حظوا هناك بمعلم جبار في المستوى الخامس أيقظ فيهم جذوة التميز التي أخفتها معلم المستوى الرابع فينا ، أكاد ساعتها أصاب بإحباط مرير .
كان امتحان العربية بسيطا وكذلك جاءت الرياضيات، حتى اللغة الفرنسية وجدت النص قرأته في المستوى الرابع بعد مجيئي إلى تاركا ، أما التربية الإسلامية فهي كشرب الماء . لا أذكر إن كنا امتحننا في التاريخ والجغرافيا ، وإن كان الأمر كذلك فكنّا نحفظ عن ظهر قلب كلّ التواريخ والمعالم والسّدود وغيرها ...

ياسر علي 06-07-2016 12:50 AM

هل قلت كل شيء ، طبعا لا ، هل سأقول كل شيء بالتأكيد لا ، هل أغفلت ربما ، هل الأسماء صحيحة نعم ، هل ستكون كذلك مع توالي الصفحات ، لا تراهنوا على ذلك ، فالاسم لايهم رغم أن تيار الإسميين يراه كذلك . أخي عبد الفتاح يقتحم عالمنا ، خرج من بعد أن أصاب أمّي بإجهاد كبير ، أذكر في ذلك الصيف كيف أصبحت أمي هيكلا عظميا تكسوه خرقة صفراء ، ليس الولد وحده من قهرها ، الحرّ الشديد مع الحمل ، موسم الحصاد مع الحمل ، رمضان مع الحمل ، لم تكن كذلك حين ولدت صلاح الدين عندما كنت في المستوى الثالث ، اليوم أراها تحارب لتعيش ، إن تجرعت الدوّاء أكاد أراه يعبر عنقها المسلوت ، يقسو عليّ رؤية منظر وجهها الممصوص ، جدّتي كلثومة ، تحوقل ، تسبّح ، يكاد وجهها يحكي حزنا عميقا ، أذكر اللحظة التي وضعت فيها أخي الجديد ، ارسلتني جدّتي لإحضار الليمون عند "عمّي عمر" ، كنت أبكي على طول الطّريق ، وعندما اقتربت من منزله و مزرعته ، مسحت دموعي لأبدو صلبا ، تعجبني صلابة الرّجل ، تذكرون أنه من أخرجنا من زنزانة القائد ، حكيت له عن طلبي ، عن حالة أمّي ، قدّم لي الليمون دون أن أرى تأثرا على وجهه . لا بأس فمجرّد أن يعطيني اللّيمون فهذا تأثر بالغ ، و تعامل جميل مع الظرف ، جدّي لا يتحدث عنه دائما بشكل جيّد و كذلك جدّتي ، حتى أبي في تلك المرحلة لا يتحدث عن أحد بإيجابية .
ذهبت إلى تاركا ، كانت المدرسة موصدة ، لائحة تعلوا بابها المقوس الجميل ، رقمي يشعّ في لائحة الناجحين ، إذا في العام المقبل سأكون في تالوين ، استضاف أبي معلّميّ و كذا زوج الحاجّة ، ذبح لهم شاة و قدمت أمّي الكسكس لأطفال المسجد ، شكرا لله على النّجاح ، شكرا لله على تعافيها . جدّي تكفل بإعداد مقامي الجديد في الموسم القادم ، زار العديد من أصدقائه في تالوين ، رحّب بمقدمي أحدهم ، سأكون تحت كنف أسرة جديدة.
الرماة يطوفون في حلقة دائرية في ساحة عملاقة مسوّرة ، الأطفال بين دخول وخروج ، عند المدخل في اليمين تستوى النساء وراء الرجال المستقبلين حلقة الرماة و ممرّ يفصل بينهما ، يطوف الرّماة حاملين عصيا ، حازمين فواقيهم بأحزمة مطرزة ، يتقلدون خناجرهم ، الطبل والدفوف متناغمة في إيقاع باسم مختلف عن إيقاع عيساوة ، يختلف أيضا عن رقصة أحواش ، ذكرية كانت أو نسائية ، يقوم الرماة بحركات رياضية ، بحركات بهلوانية ، شبيهة بالجمباز ، ترافقهم زغاريد النساء ، عندما لا ينجح الرّامي في تنفيد الحركة ، يتجه صوب وسط الحلقة ، و من ثم يخرج بحثا عمن يسدد غرامته ، يطوف حول المتفرجين ذكورا وإناثا ، هذا أعطاه درهما وتلك أعطته باقة ورد ، و الأخرى قدمت له ديكا وهكذا ، يعطي ما عتقت به رقبته للمقدم ، ثم يعود إلى التباري . منذ أن غادرت القرية ذبلت علاقتي بأطفال الدّوار ، أصبحت منعزلا أكثر عنهم ، وخاصة الذين يقصدون أساكي للتمدرس ، هناك تمرسوا الشغب بجدارة ، أصبحت أميل إلى الأطفال المنضبطين أكثر ، أبي ساهم أيضا في عزلتي ، ينهاني عن مرافقة أولئك الذين يمرحون في أحضان الحرية المطلقة ، أطفال يشاغبون على طول الوقت ، خمسة منهم اتفقوا اليوم على سلخي ، لست أدري لماذا ، مجرّد شغب ، ربما بعض غيرة من أطفال لا يفقهون في المدرسة شيئا ، قد أبدو لهم غريبا اقتحم بلدتهم مادمت خارج الدّوار ، سقطت في الفخ ، كانت خطتهم إخراجي من ملعب الرماة ، وبعد ذلك يشوون عظامي ، لست وحيدا يومها كان برفقتي ابن عمّتي ، جاءني أحدهم يستفزّني ، زاد في تحرّشه ، نهرته فتحدّاني بمبارزة في الخارج ، لبّيت نداءه ، التحق به ابن عمّه ، فثلاثة آخرون ، كلهم يكبرونني سنّا على الأقل سنة أو سنتين إلى ثلاث ، ابتدأت المعركة ، أرسل اللّكمات ، يهابون انفعالي ، كلما اتجهت نحو أحدهم هاجمني آخر من الخلف ، كانت الشّمس قد غابت ، و الظلمة تلتهمنا ، أتلقّى الضربات و لا زلت صامدا ، أحدهم يهوي على ظهري بحجارة ، ظهري يؤلمني ، ما العمل ، أصمد أو أهرب ، لا.... جنون أن أبقى مستميتا ، بدأت خطواتي تتسع ، لم يجرؤوا على ملاحقتي ، رجموني حجارة ، الظلام يحاصرني ، والحجارة ورائي ، ماذا أفعل ، بين حجارة وحجارة حجارة ، كلها تمر قريبة ، استدرت لاعرف كم ابتعدت عنهم ، تلقيت واحدة على جبيني ، رجلاي لا تزالان مندفعتان ، دم غزير يملأ ملابسي ، دموع تلاحق دمي ، أبكي وأبكي ، وأمّي تبكي . يغسلون جرحي بدواء أحمر ، يعصب أبي رأسي ، و إلى النوم . شيء حفر عميقا في دواخلي ، لم ابن عمتي لم يناصرني . لو كان هو من يتعرض للهجوم لا أظن أنني سأتصرف مثله .

في الصباح الباكر أمّي تأخذني من يدي ، تطوف بيوت الملت ، شاكية باكية متوعّدة ، و أمّهات المعتدين يطلبن السماح ، يتذرعن أنهم أطفال ، و يعدن بمعاقبة أولادهن ، أبي كما أنا أيضا يحرجني أن يعصب رأسي في أول ظهور لي في الإعدادية ، أبي يؤلمه أن يراني من سيستضيفني في بيته وعلامة الشغب ماثلة على وجهي . حسنا الكذبة هي الحل ، عندما يسألك أي شخص ما الذي أصابك ؟ وجب القول :" سقطت من على الحمار ."





ياسر علي 06-07-2016 12:59 AM

هذا بعض منّي فهل من سؤال ؟

ياسر علي 06-10-2016 02:41 AM

الآن كبرت ، و لم يتبقّ أمامي غير هذا الموسم و تكتمل عدّة عقدي مع تالوين ، هو العام الثّامن لي في هذه الأرض السعيدة ، هنا ودّعت آخر أشواط الطّفولة ، و هنا استقبلت أولى لحظات الرجولة ، عجيب ، كم من ثمان سنوات في عمري الذّي اكتشفت أنني أنفقه بسخاء على الأمكنة ، كيف ذهبت تلك السّنوات دون أن تودّعني ، دون أن تنذرني أنّي سأكبر ، و سيكون من العار الرجوع إلى الوراء ، للبحث عن ضياع حدث حين غفلة . لا أعتقد أنني غفلت لحظة عن نفسي ، بل كنت حاضرا جدّا ، و ربما أفرط في حضوري ، أما كان لائقا أن أغيب عن ذاتي و لو لحظة ، وأتركها على سجيتها ، ترتشف من أكواب الحياة ما طاب لها ، يا لصعوبة الحياة حين تعيش واعيا كل لحظاتها ، كنت دائما أعرف أن الشّقاء ليس أكثر من ممارسة الذّات لنوع من الرّقابة على الذّات ، هو سجن النّفس للنّفس ، هو الاكتفاء بعالمها الخاصّ ، هو عدم القدرة على مغادرتها إلى رحاب الطّبيعة الفسيحة ، الإعجاب السّاذج بالروح ، رشّة غرور ، أنانية ما .
لست راضيا كما بالأمس ، و ليس سهلا أن أكون راضيا ، هي روح مرحة تطفو طباعي الخارجية ، أظهر لطفا ، إيباء ، تفهّما ، إيثارا ، لكن ما يعتمل بالنفس قاس جدّا ، لا يستطيع أحد أن يشعره ، أن يتلمسه ، بل يا للعجب ليس بوسع أي شخص مهما بلغ أن يداوي ما بداخلي ، لا أحد في العالم كلّه بإمكانه أن يلبّي لنفسي مرادها ، يقول عبد الهادي ازنزارن في إحدى روائعه الغنائية : " حبيبي لم تركتك ، لم هجرتك ، ليس لأني لا أريد البقاء ، ليس بي فاقة مال ، ليس بي علّة جسدية ، لكن روحي مفلسة ."
ليس سهلا أن تشعر بإفلاس روحك ، و رغم ذلك تواصل الحياة ، تلاعب ظروفها ، تغني أحيانا قصائدها الماجنة ، تختلق حلما جميلا تركض وراءه ، حتى يلهيك عن التوقف الذي اختارته روحك ، في عالم يعجّ بكل شيء إلا الأحلام الجميلة ، عالم مفلس أيضا ، حتى في كل أفكاره ، في كل تحركاته ، كم هو معيب أن تسعى لاجل شيء في الأخير لا يستحق ما أنت تفعل لأجله ، كنت دائما مؤمنا منذ الصغر ، أننا نلاحق السراب ، كنت منذ أولى اللحظات التي عاينتها ، أننا نكذب على أرواحنا ، نسوّف ونسوّف ، حتى أدمنا التسويف ، فلا نستمتع بالشيء حين يكون في اليد ، بل نستمتع ونحن في انتظاره ، لا توجد حقائق في الكون تغرينا لاقتناصها ، هناك حقيقتان تتصارعان ، حقيقة النفس ، وحقيقة المجتمع ، هي النّفس ما يجعلنا نستحلي الكذب و تأتينا لحظات نتوهم فيها السيطرة على العالم ، السيطرة على واقعنا ، تحقيق الوجود القوي للذّات ، وحقيقة مجتمعية تبقى بالمرصاد لنا ، تضعنا في كل وقت في خانة ، مرة مع المرغوبين ، و مرة مع الحثالة ، و مرة لا محلّ لنا من الإعراب .
يقول عصيد في إحدى استجواباته النادرة التي يتحدث فيها عن نفسه : " ما يخجلني هو عندما لا تستطيع حتى أن تعلن حقيقك للذين تحبهم و يحبونك ، حين تضطرّ لتزييف نفسك حين تغتال ذاتك " لا أظن أن في الكون شخصا تفطن لتك الجزئية في استجواب بانورامي ، فيه من الاعتزاز بالنفس الشيء الكثير ، فيه من سيرة الرجل الشيء الوافي . حتى عبد الهادي حين قدم له الميكرفون و هو يتهيأ للصعود للمنصة ذات سهرة ، ليقول شيئا أجاب بالحرف : " قولوا أنتم ، يا من لا تكفّون عن الثرثرة ." ليست الحياة مجرد قول ، ليست مجرد تدوين للسيرة ، ليست مجرد رأي ، الحياة ليست فكرة ، ليست كلمة ، ليست ما نتفوّه به ، الحياة شيء آخر ، غيرهذا كلّه . كثيرون هم الحكماء الذين يعيشون بيننا ، يمشون في الأسواق ، يشربون الشّاي ، يقتاتون ممّا تنبت الأرض ، لا يرجون غير أن تكون الحياة بسيطة . وأن يكفّ هؤلاء المزعجون عن تعقيدها أكثر و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ، خذها بالمهل يا أيها الإنسان و اقصر ، لكن العجلة دارت فمنذا الذي يستطيع فرملة هذا الهبوط الحر .
لعلكم تنظرون أن أواصل رحلتي التي قطعت فيها شوطا ، ولعلكم تريدون تفاصيل الثمناية أعوام فلا تذهبوا بعيدا فأنا قريب منكم .

ياسر علي 06-11-2016 02:00 AM

بيت الحاجّ يكاد يكون نسخة مماثلة لبيت الحاجّة ، الفرق أن هذا مكتظ بالناس ، الحاج وأخوه و زوجتاهما و وبنتا أخيه ، ولده و زوجته وطفلتهما ، حفيده الذي يكبرني بسنوات قليلة . يا إلهي لماذا أعامل كأمير صغير في كل بيت آتيه ، لكونهم حدّادين يذهب الرّجال إلى عملهم ، كلّ يوم عدا الإثنين ، فهم يتوجّهون إلى السّوق و هناك يبيعون بضاعتهم التي اشتغلوا عليها طوال الأسبوع ، معاول ، فؤوس ، مناجل ، صفائح البهائم ، و غيرها مما يصوّب من الحديد. الإبن يملك دكانا يقضي فيه فترة ما بعد العصر حين يتحرر من الحدادة ، أما حفيد الحاج ، فعندما يتخلص من عمله الشّاق ، و يغتسل ، يصوب شعره ، و يحمل مسجّلته ليغازل الفتيات في الحقول والوادي . أنا بين تالوين والدوار الجديد الذي أسكنه أسير مشيا على الأقدام ، مسافة 45 دقيقة تتكرر في يومي أربع مرّات ، هذه عقوبة حقيقية ، لكن أتحمل مادام بيت الحاجّ يوفّر لي كلّ أسباب الرّاحة ، أسرة شهمة كريمة، هي ميسورة حقّا ، ولدان من أبناء الحاجّ في أوربا ، والرابع يمتلك شركة للعجلات في البيضاء ، الحدادة مجرّد هواية ، مجرد حفاظ على الجذور ، على التاريخ ، على الذّات ، أيضا هذه الأسرة لها حقول و أراض يتكفل بها الخمّاسة . المسجد من المغرب إلى العشاء طقس يومي لا يناقش ، نصلّي المغرب و نلزم المسجد ، نقرأ القرآن حتى العشاء . عند العودة ندخل إلى غرفة طويلة ، هنا يتناولون العشاء ، وهنا أيضا أنام ، وهنا أحفظ ، التلفاز يدير لي ظهره في الطرف الأيسر من الغرفة ، و هم مستلقون على الزّرابي في الطرف الأيمن ، أحفظ دروسي بانتظام ، بين الفينة والفينة أسترق السمع إلى ما تحمله الشّاشة من جديد أنباء ، حرب الخليج ، طقس يومي أيضا ، طائرات عراقية تقصف ، صواريخ تصيب ناقلات النفط ... ، العراق و إيران حاضران معي كل يوم ، فلسطين ليست أيضا ببعيدة ، أبو عمار يطوف المدائن، الكفاح ، الثورة ، وطني أيضا في حرب في تلك الفترة ، لكنها ليست كحروب الشرق ، حرب خرساء ، رغم أنها هوجاء ، تسقط فيها الطائرات ، وتخترق فيها الحصون ، لكننا لا نعيشها كل يوم في التلفاز ، أخبارها تأتي متواترة من الجبهة منذ سنوات ، لا تتحدث عنها الإذاعات إلاّ نادرا ، راديو الجزائر نتابع عبره بعضا من فصولها ، رغم أنها مزيّفة ، لكنّها تشعرنا أنّنا في حالة حرب ، لا أثر للحرب في حياتنا ، رغم أنّنا لا نبتعد عن الجبهة بأكثر من 300 كيلوميتر. سرب طائرات الميراج أحيانا نراه يقصد الشرق أو يعود من هناك نحو الغرب ، أرطال من الدبابات أحيانا تمر عبر تالوين باتجاه الشرق محملة على شاحنات عملاقة ، هذا كل ما نراه . أما الحياة فهي تسير بإيقاعها البسيط الرتيب ككل الأيام ، لا تحسّ فيها دخان البارود و لا قرع رعوده .
نجاة عتابو تغني : " سمحي لي الوليدة " نجاة عتابو تغني :" هانا جيت ، هانا جيت واخّا جيت جينيمار " نجاة عتابو تغني: " شوفي غيرو أو شتك ديما تبعاه " هذا ما كانت تصدح به مسجّلة حفيد الحاج ، أشرطة مختلفة تحمل صيحات نجاة عتابو ، تسرّب إيقاعها المتعسّف إلى دواخلي ، سرت رعشتها المتمرّدة في عروقي ، أصبحت أحبّ نجاة عتابو .
كان الحاجّ وأخوه مثالا للأخوة ، هما في عمر جدّي ، أمضيت في بيتهما حولوين كاملين ، الأولى إعدادي و كذا الثانية ، من سوء حظّي كنت أدرس في فصل ينقصه أستاذ اللغة الفرنسية ، عام آخر إذن سينضاف إلى المستوى الرابع الذّي زعزع استقرار مسيرتي التعليمية ، لم أندمج بسهولة في الإعدادي فنتائجي كانت متوسطة ، واللغة الفرنسية أزعجت مسيرتي التعليمية ، إذا كانت العربية يعزّزها الإعلام ، و كذا كون كل المواد ندرسها بالعربية ، فالفرنسية بقيت وحيدة بعد تعريب العلوم ، آخر القلاع التي كانت توازي الاستقرار اللغوي للتلاميذ ، الفرنسية في بلادي لغة إدارة ولغة اقتصاد ، والعربية لغة إعلام و دين وفن ، كان خطأ فادحا أن تعرّب العلوم ، نحن الجيل الأول في التعريب ، يسبقنا فوج واحد ، حتى المستويات الأخرى في الإعدادي لا يزالون يقرأون العلوم بالفرنسية ، يعاني أساتذتنا من هذه المشكلة طول الوقت ، فهم ألفوا تدريسها بالفرنسية ، فمجمل دروسهم تكون بين اللّغتين فيضيع التركيز ، النكتة الكبيرة أن التعريب ما استطاع أن يكمل طريقه في الجامعة فإلى اليوم تدرّس كلّ العلوم في الجامعات باللغة الفرنسية ، وضع غريب جدّا ، كان ضحاياه كثيرين ، اكتشفت في الإعدادي أن ميولاتي علمية أكثر منها أدبية ، رغم أن خالي الذي يشتغل في مكتبة البلدة قدم لي بعض القصص ، قصة الاسكندر ، قصة ماجدولين ، مجلة العربي ، المغامرون الخمسة ، قرأت قصصك خالي لكن أعتذر ميولاتي ليست أدبية بالمرة .
أحب القصص ، و منذ الثالثة ابتدائي أستمتع بتمثيلية الأزلية في المذياع ، وكذا بتمثيلية الأسبوع التي تقدم كلّ أحد ليلا ، ماجدولين ، شيء آخر ، ليست قصة و حسب ، بل مسار حياة يعاند البطل استيفن ، قصة تنقل الحب مصلوبا على صخرة الواقع والمجتمع ، قصة نفس بريئة ، حلم جميل شيّده استيفن رفقة ماجدولين تحت ظلال الزيزفون ، ما لبث أن خنقته حقيقة المجتمع ، ليتحوّل إلى كابوس مرعب . إلى اللحظة التي قرأت فيها ماجدولين لا أحس أنّني أحبّ ، تعجبني الفتيات الجميلات ولا تملّ عيني من الاستمتاع بجمالهن .



ياسر علي 06-12-2016 09:13 PM

كلّ أحد يحملني الشّوق فأطير العشر كليلومترات غير آبه ببرد و لا حرّ ، أتلهّف لرؤية أبي و جدّي وجدّتي وأمّي و إخوتي ، نعيمة ليست هناك ، إنها في أكادير ، رحلت مع خالتي ، ستصبح مدنيّة ، هناك ستكمل مشوارها الدّراسي ، لم تمض إلا عاما واحدا في تغزوت ، أذكر أنّها كانت تطير من الفرح عندما همّت بالرحيل ، تحاول أمّي فرملة اندفاعها ، لكن خالتي تغريها بمرافقتها . صباح الإثنين أغادر مع أبي قبل بزوغ النور ، حمارنا يحمل الخضروات ، و بطّارية التلفاز ، هناك في تالوين يتمّ شحنها ، تمضي البطّارية أسبوعا في منزلنا ، و أسبوعا في تالوين ، أسرتي تشاهد التلفاز أسبوعا و تصوم أسبوعا . أذكر يوم أحضر أبي التلفاز ، و أذكر كم كهربائيا جاءنا لتركيبه وجعله ينقل لنا الصور ، كم مرة بدّل أبي الهوائي ، كم مرة غيرنا الأعمدة التّي ستجعله في علوّ أكبر ، رادار تالوين موجاته قصيرة ، رادار تيزي نتاتس بعيد ، رغم ذلك شغّلنا التلفاز و بدأنا نتفرج ، يوم السبت سهرة الأسبوع ، أرى وجوه الفنّانات اللائي كنّ يصدحن بأصواتهن الجميلة في الإذاعة ، ننتظر لنرى نجاة عتابو عند نهاية السهرة ، جعلت أختي أمينة تحبّها ، تعجبني تصفيفة شعرها الرّجولية ، شعرها المجعّد على أسلوب الهيبيزم ، رأسها كبّة صوف دائرية ، ملامحها الأطلسية الحادّة.
عند الزوال يوم الإثنين ، أعبر الوادي نحو السّوق ، غالبا أجد أبي أنهى بيع الخضر ، نتوجّه إلى المقهى وقد اشترينا السّكر والشاي بالتقسيط ثم علبة أسماك مع رغيفين من الخبز ، يعطينا القهوجيّ الصّينية والبرّاد و الكؤوس والماء المغليّ والصّحن ، بعد الغداء يشتري أبي سلع دكّانه ، سكّر ، زيوت ، شاي ، قنّينات المشروبات الغازية ، كان الله في عونك حمارنا ، لن تصل الملت حتى ينكسر ظهرك . يغادر أبي نحو الملت بينما أعود للإعدادية لمتابعة حصص المساء .
رفاق الطريق مساء قد يكونون من أهل تاركا أيضا ، منهم من يأتي لتالوين صبحا و يعود مساء ، أذكر طفلا كان متفرعنا جدّا في تاركا ، سليط اللّسان ، كثير السّب والشّتم ، عدت بمعيته مساء ، بدأ يتبختر، يريد أن يستهزئ بي ، كمّشت ملابسه على مستوى صدره و جررته جرّا و نصحته : " يكفيكم أننا سكتنا لكم ونحن في دياركم ." بدأ يبكي و يطلب مني أن أسامحه" . هكذا وقع لطفل آخر في تالوين ، يريد أن يتنمر عليّ ، بل فعل و أنا ألوذ بالصّمت ، يوما خدعته باستفزازه و استدرجته خارج البلدة بعيدا عن رفاقه . حتى إذا ابتعد ، قصدته عاقدا لكمتي ، فبدأت عيناه تدمعان . " لماذا لستم رجالا إلا في حضرة من يحميكم . كونوا رجالا ليوم واحد واعتمدوا على ما في جعبتكم."
كانت السنة الأولى في الإعدادية رتيبة جدّا ، لاشيء مثير حقّا ، أولاد دوزرو سرقوا منّي مصباحا جيبيا في مستودعات تبديل الملابس ساعة الرياضة ، أحضره صباحا أيّام الشتاء ، حيث أنطلق من عند الحاجّ قبل أذان الفجر في السابعة صباحا ، و ندخل الأقسام عند الخيوط الأولى للنور، كانت الإدارة تشتغل بالتوقيت الصّيفي في عز الشتاء. كانوا عصبة أطفال لا يتفرقون ، تعطيهم الجماعة زخما قويّا ، واحد من أبناء أساكي كان يسكن إلى جوارهم ، يشبعونه ضربا ، كان مشاغبا و قويّ البنية ، لكن الحمية تغلب السبع ، أعرف أنهم سرقوا مصباحي ، تظاهرت كأن لا شيء وقع . أحيانا يكون التّجاهل هو الحلّ .

ياسر علي 06-13-2016 09:26 PM

جئت أكادير، في عطلة الربيع ، دار عمي اكتمل طابقها السفلي ، نتسلق السّلالم و ننظر إلى الشارع من سطح البيت المسوّر ، أنا وعبد المالك نطوف أيت ملول جيئة وذهابا ، نركب الحافلات ونتوجه إلى انزكان و من ثم نسير على أقدامنا إلى الدشيرة ، في سوقها نتابع السيرك ، حائط الموت ، درّاجيّ يتسلق بدرّاجته النّارية حائطا خشبيا دائريا ، تسير الدراجة بأقصى سرعتها ، نشاهده من أعلى ، يخطف الخطفة كأنه يقصدنا فيعود إلى المنتصف ، يا إلهي ، يلف وجهه بقطعة قماش ، يضم يديه إلى صدره ، ماذا تفعل يا بهلوان ، لو سقطت لأصبحت ماء و ملحا . يشغل السّيرك ساحة واسعة من سويقة الدّشيرة ، هناك توجد محلبة يعمل فيها ابن عمتي ابراهيم ، تذكرون أن أمّه ماتت منذ زمان بعد مولدي بقليل ، أبوه اشترى منزلا في الدشيرة، لا أعلم لم غادر إبراهيم المدرسة، رأيته مرة واحدة من قبل، عندما أحضره عمّي عبدالسّلام مع أخته إلى الملت ذات عطلة وقت كنت في تاركا ، يومها حسبته قارئا ماهرا، ساعدني في إنجاز عقوبة في اللغة الفرنسية، ما أذكره جيّدا هو انسيابية خطه المتموج ، يده ترسم بسهولة . لا يهم الآن هو صاحب المحلبة ، أبوه يعمل في أوروبا و زوجة أبيه تسكن هنا في الدشيرة و كذا أخته ، ناس طيبون ، لماذا جئت إلى هنا ، عمّي عبد السلام هو من يأخذ بيد إبراهيم و يساعده في تسيير المشروع ، عمّي يتكون في معهد التكنولوجيا التطبيقية ، قريبا سيصبح تقنيا في مجال الهندسة ، يعطينا عمي العصير ، و نأكل الميلفوي ، نتقدم ونتفرج على الفأر ، حلقة ضخمة ، في وسطها يوجد فأر ظريف داخل آنية بعد أن توزع كل الأوراق و يراهن المتحلّقون على أرقام البيوت ، عندها سيتم رفع الآنية عن الفأر ، فينطلق الصّياح في به مطاردة للفأر الأبيض الجميل بأرجله الحمراء ، حتى ظننته آتيا نحوي يريد استيطان البيت الذي يجاورني إذ به يعود جاريا إلى بيت آخر ربما ظنه آمنا . أعلن الفائز بالرّهان ، اختر جائزتك ، برّاد أو صينية أو كؤوس ، في البوق يهنئ المنشط الفائز و تنطلق الأنغام بقوة معلنة بداية جولة أخرى ، راقصات هن من يوزعن الأرقام مقابل بعض الدّريهمات ، تمتدّ الأيادي إلى أجسادهن ، يضحكن ويحاولن إخفاء أصواتهن الرجولية ، إنهم إذن رجال تنكروا بحرفية في أجساد نساء .
مساء والليل أسدل ستائره على الساحة القليلة إضاءتها، قمنا نحو الأرجوحات ، طوال الأيام الماضية أرى أطفالا يصغرونني وهم يتأرجحون بمرونة باغلة ، بل منهم من لا يحتاج لمن يدفع أرجوحته فهو بنفسه يصعد على أحد أطرافها ليضغط ، يبدأء التأرجح شيئا فشيئا حتى يصبح جنونيا ، حسبتني سأفعل مثلهم و أكثر ، فأنا أتارجح في القرية بين الأشجار كالبرق ، و أنا أمارس الأشغال الفلاحية الشّاقة ، ممّا يجعل جسمي صلبا قويّا ، سأترجح بسهولة ، جلست واستويت دفع صاحب الأراجيح قليلا ، رجعت إليه ودفعني دفعا زائدا ، يا إلهي ، يتنمل جسمي ، يتعرق جبيني ، زاد صاحبنا في الدفع فانطلق لساني مستغيثا ، و قد دارت الدّنيا من حولي دورانا مريعا ، وصّاه عمّي بالمزيد من الدّفع ، فبدأت أصيح بلا توقف حتى أجبرتهم على إيقاف الأرجوحة اللّعينة التي كادت تسقطني من على ظهرها كفرس جامحة . منذ ذلك الحين و أنا أبتعد عن ألعاب السيرك .


ياسر علي 06-14-2016 09:06 PM

موسم عيساوة في تالوين ليس كمثله في بلدتي ، الإيقاع يختلف والطقوس أيضا ، لكن نفس الأجواء الروحانية ، لم أحدثكم أن الحاجّ هو مقدّم عيساوة في هذه البلدة ، ولم أخبركم أيضا أن علاقته بجدّي تعود إلى حقب غابرة عندما كانا شابّين ، حيث كانت هذه القرية والملت تتشاركان في موسم عيساوة ، نحتفل معهم و يحتفلون معنا ، الآن تغيرت أشياء كثيرة ، لم يعد موسم عيساوة كما كان من قبل ، بل مجرّد طقوس لا أكثر ، بدأت القيمة تتلاشى في الأشياء كلّها ، حتّى جدّى ماعاد عيساويّا ، دقّت الطّبول في ساحة البلدة و بدأ الحاجّ ينظم الأذكار والأشعار بلحن رقيق ، تخيلوا أن أكون في رحاب بيت يعتبر العيساويّ ذا قيمة ، وسط كبار عيساوة أجلس ، رأسي بدأ يتحرك ، مع كل ضربة طبل و طقطقة دف ، أنا الآن في الصف أهز رأسي و أهوي به ، أتنغّم بزغاريد النّساء ، أشدّ بزميليّ في الحضرة واحد في اليمين والآخر في اليسار ، جسدي اشتعل نارا ، روحي لا تريد التّوقف ، أحسست ضربة خفيفة على مستوى أنفي ، مرفق أحدهم كان بالقرب ، الدماء تبلل ملابسي ، رأسي في صعود وهبوط ، توقفت دمائي عن الهطول ، وتوقفت العصي عن صفع الطبول ، لا بد بعد كل جولة من استراحة خفيفة ، فيها تنظم الأشعار الروحانية ، فيها تهمس الدفوف بخفة ، فيها يتحرك العيساوي ببطء ، فيعي اللحن والنظم معا ، لكن حذار عند بداية الجولة، ساعتها ينتفض العيساوي انتفاضة الطائر المذبوح ، انتفاضة بنت الحاجّة و قد جعّدت الأرواح ملمسها ، انتفاضة جمل خرج عن طوره ، انتفاضة مارد حقيقي يقفز ويقفز و لا يستكين ، لا أعرف كيف انتهى بي الأمر مطروحا على الحصير ، وقد انتهت الحضرة ، عندما استفقت كانت النساء يتبركن بأعلام عيساوة الخضراء والصفراء والزرقاء ، عندما قمت لأمشي تخبط الدوخة بقدمي ، لكأني أسير على مركب يبحر في بحر هائج ، لكأني راكب على حافلات انزكان ، لكأني على أرجوحة الدشيرة .

نهاية الأسبوع حلّت ، فخر عظيم يغمرني و قد تمكّنت من ممارسة عيساويتي ، أمر لا أستطيعه في بلدتي ، لن يسمح بهذا أبي ، لن يسمح بهذا نهجه و مساره الذي ارتضاه لأسرته، بعد أن سحب القيادة من جدّي ، و ظفر بتوجيه بوصلة الأسرة، مخلّصا إياها من رواسب فترة جدّي و من شطحات عمّيّ عبد الله و عبد السلام ، كلاهما كانا راقصين بارعين في فن أحواش ، لكن الآن كل شيء في منزلنا تحت وصاية أبي . هذا اليوم يستظيف أبي معلّما من مدرسة الملت ، نسيت أن أقول لكم أن الملت فتحت بها مدرسة و أختي رشيدة الآن تقصدها ، حفل افتتاحها حضره القائد نفسه الذي اعتقلني ، كنت من المرحبين به ، أنشد النشيد الوطني . من المدرسة إلى المنزل كان المعلّم يقيس وزني ، أظنه أخطأ القياس ، لا أخفيكم أنّني لم أكن حتّى أعره اهتماما ، هو ما زال يقيسني و أنا عبرته طولا وعرضا ، وجدته لا يستحق ، كنت أستشف من كلمه نبرة عتيقة جدّا ، عرفت أنه ما نال التعليم العصري، و لسانه لا يكاد يفقه غير لغة واحدة .
إلى الصّالون إذن ، هناك وجدنا أبي في انتظارنا ، بدأت كؤوس الشاي والحلويات ، خدمتهما و رجعت إلى مكاني لأضع رجلا على رجل ، نبّهني المعلم أن جلستي تلك لم تكن لائقة ، و لا تدلّ على تربية جيّدة ، كنت سآكل من أذنيه لولا أننا من استضافه ، لست أدري هل كان أبي يريد امتحاني أو يريد أن يتفاخر بولده الذي يقرأ في الإعدادي لمّا طلب منّي أن أحضر كتبي لأراجعها مع المعلّم ، غبت قليلا وعدت إليهما ، حملت دفتري الذي يحتوي قواعد اللغة العربية بعد أن استبعدت دفتري الرياضيات واللغة الفرنسية إشفاقا على المعلم أن يصيبه الحرج من عدم معرفة فكّ الرموز . بدأ يسألني برفق عن بعض العناوين و أنا بجانبه ، بعفوية رفعت رجلا على رجل ، هذه المرة نهرني ممعنا في إهانتي ، أخذ منّي الدفتر و فتح من الصفحة الأولى ، هيا استظهر ، في البداية استغربت ، ولمّا أضاف أنني قليل أدب و قليل فطنة ، كان لساني قد انطلق سبّا و شتما و رجلاي تبتعدان عن مجلس أبي و لكمتي فجرتها على باب الغرفة و لساني لا يريد أن يسكت عن التعريض به .لاشكّ أحرجت أبي غاية الحرج ، وفاجأت المعلّم الذي ظن أنه لامس علياء النجوم ، و لاشكّ فشلت في تقديم صورة مرضية لأبي ، ففي هذا الموسم أحسست أنّي قادر على استرجاع مكانتي وقادر على إثبات علو كعبي بين الأقران .

ياسر علي 06-15-2016 04:42 PM

ما الذي جعل السنة الثانية مميّزة عن الأولى ، هل أستاذ اللغة الفرنسية الذي ما سمعته يوما ينطق غير الفرنسية ، واحد من أبناء تالوين البررة ، شاب رياضي يمارس كرة القدم بكثير من المهارة ، متمكن من بيداغوجيته غاية التمكن ، يحزّ في نفسي أن أكون غير قادر على التجاوب معه ، يؤلمه ربما أن أكون حاملا لإسمه دون أن أكون في مستوى تلاميذه المتفوقين ، أذكر كم مرة جاء وهمس في أذني ، مالذي ينقصك يا رجل ؟ حاول الاستعانة بالقواميس ، حاول الاستعانة بكتب الصرف والتراكيب ، لم يكن أستاذي يعلم أن كل ما أوصاني به أملكه دون غيري من التلاميذ منذ سنوات الابتدائي ، فعمّي عبد السّلام يمنحني العديد من كتبه ، لماذا لم أكن جادّا في التعامل مع الفرنسية ، هذا سؤال لم أجد له جوابا في ذهني ، و في حقيقة الأمر لم أكن أراجع دروسي إلا ما ندر، و لست ذلك الذي يقضي الساعات الطوال صحبة الكناش ، إن التقط ذهني شيئا بين جدران الفصل فذاك و إن لم يلتقط شيئا فإنه ذهب أدراج السراب ، ولن أبدل جهدا خاصّا لاستعادته و الغوص فيه لعلني أفهمه ، مكتف بسويعات الدراسة ، وهذا ما أختلف به عن باقي التلاميذ ، أستاذ اللغة الفرنسية يرى التفاوت البالغ بين ما أجنيه عنده من النقط ، وما يملأ سلتي من المواد الأخرى ، طفل نجيب حقا عند الآخرين ، لم يستسغ المعادلة ، و لكن هذا أنا يا أستاذي .
أستاذ اللغة العربية ، حقيقة هو أستاذ للفلسفة سدّ به الفراغ ، جعلنا لا نحبّ قواعد اللغة العربية ، دروس يمرّ عليها مرّ الكرام ، لكن حذار أن تنسى كلمة شرحها ذات يوم ، مذكرة خاصة بالمفردات و معانيها ، نصوص القراءة تشرح شرحا أكثر من مفصّل وتحلّل أكثر من تحليل ، الإنشاء يطرقه طرقا حقيقا ، لا مجال للحشو و لا مجال للأسلوب المترهل ، اكتب و إلا سلخك سلخا ، كان أستاذا عظيما حقا ، أستاذ الرياضيات قبل أن يغادرنا لمرض ألمّ به كان شديد الروعة ، كنت الأول دائما في قسمه ، أستاذ الاجتماعيات ، رجل حقيقي ، يحبّ ثقافتي السياسية ، ما أن يطرح سؤالا ثقافيا له علاقة بالسياسة فالجواب من عندي يأتي . من الصعب حقا أن تحظى بكوكبة من الأساتذة العظام و لا تسجّل إعجابك بتلك السّنة ، سنة لها فوائد جمّة على السّنتين المواليتين عند ختم الإعدادي .
انتشر نبأ مشاركتي في الحضرة بالملت ، جدّتي تتشفى قائلة أرسلوه ليقرأ و يتعلم و عاد إليهم عيساويا، في الحقيقة ليست جدّتي بل فقط قطعت حبل سرّتي ، هي جارتنا ، أقصد زوجة أخ جدّي، عمّي لحسن ، ليس أخا شقيقا لجدّي ، بل أخوه من أمّه فقط ، مات إخوة جدّي الأشقاء منذ الزمن الغابر ، جدّي كان يتيما عند مولده ، مات أبوه وأمه حاملة به ، تزوجها أخ زوجها، هو من ولد عمّي لحسن ، لست أدري لم تحمل الأسر الحقد لأبنائها ، عجيب أمر جدّتي تلك ، أنا أحبّ أبنيها حبّا جمّا ، هما في عمر عمّي عبد السلام ، واحد منهما تزوج الآن و له طفل ، شابّان لا تشبع من مجلسهما ، في كلامهما نبرة فكاهة ، في سلوكهما بعض رزانة ، في حركتهما رشاقة ، صاحبت الأكبر فيهما للاحتطاب يوما ، هو والعسكري ، العسكري هو أيضا من أبناء موسى ، أدّى الخدمة العسكريّة دون أن ينخرط في الجيش ، و هو من جنود الاحتياط ، كنا في الغابة البعيدة ، لست إلا طفلا ، في العادة أرافق أبي لنحتطب كل يوم أحد صبحا ، اليوم كنت مع القوم ، حين قطعوا الحطب ، شحّر العسكري كأس شاي معتقة و أوقد سيجارته ، يومها يستعدان للزواج ، شربنا الشاي ، فقال العسكري لابن عمي : " أرأيتها؟" التفت يمينا و يسارا ولم أر شيئا ، لم يريا شيئا ، إنها نشوة الشّاي ، التمتع برشفة الشاي كما لو أنك ترى أمامك حسناء ، كما لو أنك ترى غزالة ، كما لو أنك تمد يديك إلى وردة فيحاء ، ما أجمل التعابير التي تنم عن إشباع ما ، عن شوق ما ، عن إسقاط ما . ما أجمل الحياة البسيطة .




ياسر علي 06-16-2016 01:20 PM

ليس فصلي وحده ما أتعقّب أخباره ، كل الفصول الأخرى يستهويني معرفة من الشاطر فيها ، من الرياضي القوي ، من المشاغب العاتي ، من المجتهد الذي لا يكلّ من الحفظ ، من الذّكي الذي يرتجل بحذق ، من و من ؟ لا أحب أن أكون غافلا عن عالمي ، أريد أن أعرف ، ليس فقط تلك المعرفة السّطحية ، ليس فقط تلك القشور الخارجيّة ، كلاّ ، أريد شيئا غير هذا ، لا أطمئن حتى أحيط عالمي بنظرة كليّة فاحصة ، في الطريق وعند الخروج من المدرسة كنت أتابع الحركات ، المشية ، اللّباس ، من يضحك ، من هو هادئ ، من يكثر من الكلام ، من الجدّي و من الرّزين؟ ثلاث فتيات لا يفترقن أبدا ، نفس الديكور ، الوسطى فيهن هي الأطول ، التي توجد في اليمين نحيفة ، و التي توجد في اليسار قصيرة ، عجبا أن لا يملّ البعض من نفس الصّحبة ، من نفس الكلام ، قال لي يوما زميل ، ما نقوله نعيده و لا نشبع منه ، عاشرته لسنة فقط ، كيف لمن تعاشرن لأعوام عديدة ، بيت الوسطى أعرفه ، يفرحنى أن أراه ، عندما أمر على حيّهن المكتظ بالبنايات ، هناك أراه على ضفة الوادي تترقرق المياه خلفه لكأنه يطل عليها ، لكنه بعيد عن الحافة ، فقط المشهد هو ما جعله قريبا ، لا أستطيع أن أسير دون أن اتفقده مرات عديدة . العام اقترب من نهايته و رمضان على الأبواب ، فرح الجميع بقدومه ، بيت الحاجّ مبتهج غاية الابتهاج ، عند السحور الأول جاءني حفيد الحاجّ ليوقظني ، نورالدين قم ، هذا وقت السّحور، كانوا جميعا ينتظرونني في فناء المنزل ، هناك يتناولون السّحور و هناك أيضا يتناولون الفطور ، فالقيظ يخنقهم في الغرف ، رجعت إلى النوم بعد أن وعدته بالحضور ، جاءني بعد ذلك ابن الحاجّ: " إن وقت السحور سيفوتنا ، قم يا نورالدين " ، حسنا حسنا ، سآتي ..لكنّني افتعلت النوم ، فسمعت أخ الحاجّ يطلقها مدوّية : " جميل ، كيف يمكن أن نستضيف من لا يريد أن يصوم ، إنه كبر على أكل رمضان ، أعلم أباه أن يجد لابنه مأوى آخر في السنة المقبلة ، سنصبر عليه هذه الأيام المتبقية من العام .." استحسن الحاجّ كلام أخيه . إنه الطّرد إذن ، لكن ما العمل ، أنتم أحرار ، أمّا أنا فلست أستطيع الصّيام في هذا الجو الحارّ والأيام الطويلة ، أضف إلى ذلك أنا من يعرف نفسي أكثر ، فمازلت طفلا و إن كنت طويلا بعض الشيء .
لم تمض غير أيام معدودات لتأتينا العطلة ، أخبرت أبي بما قرّره الحاجّ ، هذا العام هو آخر عام في طفولتي ، مع بداية الموسم القادم ، سيبدأ جسمي في اكتساب سمات الرجولة شيئا فشيئا .

ياسر علي 06-17-2016 12:57 AM

هل لي هواية ، ربما الهواية نوع من الالتزام ، و هل أستطيع الالتزام كرها لألتزم طوعا ، التزام واحد كنت أتقنه منذ الصغر ، هو محادثة النفس ، لا يمرّ يوم دون أن أعرف إن كانت نفسي هي نفسها ، أو تغير فيها شيء ، هذا التزام ثقيل جدّا ، حتّى أنّني فكرت مرارا ، أن أضع الخطوط العريضة لأهم معالمي ، جميل أن تعرف إطارك الحقيقي ، حدودك ، أعمدة نفسك ، تعرف من أنت ، يبدو لي الأمر سهلا ، بسيطا ، أنا فلان ابن فلان ، هذه معتقداتي ، هذه محاسني ، هذه نقط قوتي ، وتلك نقاط ضعفي ، هذا ما أحبه وهذا ما أكرهه ، كم مرة هممت بأخذ القلم لأكتب هذا ، لست أدري هل كنت خائفا أن أستفيق يوما فلا أعرف من أنا ، و عند الرجوع للمفكرة سأسترجع ذاتي أو ربّما أبني ذاتا على منوال التصميم .
لنعد من هناك لأنّني ما كتبت يوما مثل هذا الدستور ، لأنّني كلما سعيت لأعلن عن نفسي وجدتني أكبلها ، ألزمها بالسير على نهج معين ، كلا... يجب أن تظل حرّة ، تخترق تلك الحدود التافهة متى رأت الأمر يستحق ، عرفت أن الذات حقيقة ، لكن الأفكار ليست كذلك ، هي مجرّد سلوة للذّات ، تأخذ منها ما تشاء وتترك ، أن تؤطر الأفكار الذات ، وتجعل النفس أمة لها ، أمر غير محبوب ، تخيل أن تكون رهين فكرة ، تهيمن على حياتك كلها ، ما أتعس من كان كذلك ، ما أجبن من يعيش الدّهر كلّه في حفرة هو من حفرها. لنعد من هناك فكلما ابتعدت وجدتني أقترب ، أقترب من هوايتي ، نجاة عتابو ، لطيفة رأفت ، سميرة سعيد ، و النجمة العملاقة نعيمة سميح ، هو المذياع يجعلهن بمعيتي كلّ لحظة ، أعيش على إقاعات "مغيارة "، على رقصات "ياك أجرحي" ، على نغمات " مش حتنازل عنك أبدا مهما يكون .. " الفن ما أعظمه والغناء ما أروعه ، عبد الوهاب الدكالي " كان يا مكان " عبد الهادي بلخياط "يا بنت الناس " أسماء عديدة تلازمني فلم الهواية إذن ، أنا هاو جيد ، أطير فرحا كلما حطّم سعيد عويطة رقما قياسيا عالميا جديدا في المسافات المتوسطة ، أتابعه في كل الملتقيات ، فرحت لما أحرز الميدالية الأولمبية ، و فرحت لنوال المتوكل أيضا ، فرحت لفريق الجيش الملكي لكرة القدم عندما حصل بطولة أفريقيا للأندية ، الفريق حاضر في ذاكرتي بأسمائه إلى اليوم ، من أحميد في الحراسة إلى الغريسي كرأس حربة ، فرحت وابتهجت بأسود الأطلس في الكان المنظم بمصر 1986 نتابع مباريات الفريق الوطني المغربي بقيادة المايسترو عزيز بودربالة ، من ستنسى ، ضلمي أو البياز ، لمريس أو تيمومي ، لحظات جميلة حقا، الآن أنا في عطلة و منتخبنا يلعب هناك في المكسيك ، الليل تجاوز المتنتصف ، أقفز من تحت الإزار كلما سجل خيري هدفا ، العزّاوي يصيح بكل ما أوتي من قوة ، أطرب أرقص ، تغلب البرتغال بأهداف ثلاثة ، ماذا أنسى ، أننا وقفنا شوكة في حلق لينكير إنجلترا ، أو بونياك بولونيا ، أم لوبيز البرتغال ، كلهم سحقناهم و احتل منتخبنا الرتبة الأولى في مجموعته ، يا للشهامة ، يا للغزة ، لولاك يا ماتيوس ، لفزنا بالكـأس و ما ظفر بها مارادونا ، مارادونا ، قريب جدّا إلى قلبي ، كفنّان ، كشخص ، كأسلوب حياة ، كانتفاضة روح .
الكوكب المراكشي هل قلت لكم أنه فريقي المفضل محلّيا ، مراكش نجمة الغرب الأفريقي ، المراكشيون أصحاب نكتة ، لسانهم خفيف الظل ، مجاملون برتبة ماريشال ، لكن حذار ، فقد تكون الفرجة ممزوجة ببعض خبث ، ليس الخبث وحده بل أيضا ببعض مناورات ، و بعض حيل ، نترك ذلك جانبا ، فهم ليسوا كالبيضاوين ، رغم حدّة البيضاوي وخشونته يبقى آمنا أكثر من بني مراكش ، هي بعض صفات المكان لا غير ، فكل أرض تنبت من الطباع ما تشاء ، ماذا أريد منهم ، سأعود إلى هوايتي ، فالكوكب فريقي المفضل ، وأرتاح لاسم مراكش أكثر من البيضاء ، هو العزاوي من نقش اسم مراكش في ذاكرتي الرياضية ، أحب تعليقاته ، أشتم منها حبا لكوكب مراكش ، رغم أنه لا يصل أن يظهر لغير نبيه ، هو مذيع فوجب الحياد ، محترف هو ، يعرف كيف يتموّج و كيف يستظل تحت الكلمات ، نورالدين كديرة ، إذاعي لامع ألمع من العزاوي نفسه ، على لسانه شربنا عشق الكرة وكلّ الرياضات ، الإذاعة موطني ، دكّان النّاس ، مع الإعلامي محمد أبو الصواب ، هو أيضا مراكشي ، أحب برنامجه الترفيهي ، برنامج يحبه الحرفيون أكثر ، الأحد لكم برنامج يستغرق صبيحة كل أحد يمتد لثلاث ساعات ابتداء من العاشرة ، قال لنا والدي تابعوه اليوم ، لا تحتاج أن توصيني ، فماذا سافعل وأنا في الحقول ، إلا السفر مع الأثير ، بعيدا عن فعل يداي و رجلاي من حفر و سقي وغيره ، الذّهن يجب أن يذهب هناك ، يرتحل عبر البرامج ، و إلا رجع إلى النفس يسبرها ، يناورها ، يعذبها ، يغازلها ، يقارعها .. هل ستكون هناك ياعمّي ، هل سيستضيفك المذيع ، هل ستحظى بفرصة المرور عبرأصوات الإذاعة ، هل ستكون أول رجل من أبناء موسى يحمل الراديو صوته إلى كل بقاع العالم ، إنهم مجموعة من المتفوّقين ، على صعيد المغرب كلّه ، و في كل مجالات الدراسة و التكوين ، شرّفهم ملك البلاد باستقبال ، الإذاعة كانت هناك ، وسجلت معهم مجوعة من الاستجوابات ، أنتظر وأنتظر ، أخيرا جئت يا عمّي لم يخنّي حدسي ، وكذا ما خاب حدس أبي .

ياسر علي 06-17-2016 11:24 PM

المعرض الفلاحي الأول لتالوين ، حول ملعب تالوين لكرة القدم كانت الخيام منصوبة ، أروقة عديدة ، كل ما تنتجه تالوين ، بداية بالزعفران ، المنتوج الأول في منطقة سكتانة و منطقة أسكاون إلى تازناخت ، إنه الذهب الأحمر ، المعيل الأول للعديد من الأسر في تلك البلاد الجبلية الباردة ، تلك الوردة الأرجوانية تُخرج من ثغرها الباسم خيوطا دقيقة حمراء كألسنة الحيّات ، هذا الخيط الأحمر هو معبود تالوين ، قد يكون زيت الأركان نادرا في العالم كلّه لكونه يتستوطن سوس فقط ، و ربما نوع آخر من هذه الشجرة يوجد في المكسيك حسب معارفي القديمة ، وأنت تتجول في المعرض سترى الأركان و كيف يتم عصر زيوته ، سترى الثوم البلدي و الرورمي ، سترى اللوز والجوز ، سترى الحبوب ، سترى كل الصناعات التقليدية الموجودة بالمنطقة ، سترى أنني كنت هناك أسير من خيمة إلى خيمة ، البارحة فقط كنت هنا ، رأيت كل هذا مع زملائي ، رأيت الطاحونة التي ابتكرها واحد من هوّاة الصّناعة في قرية نائية ، رأيت الكثير ، اليوم لا تستمتع عيني بكل هذا ، بل فقط أستحلي الدّوران ، كنّ ثلاثة يقتحمن الخيمة فتضيء الدنيا ، سحر عجيب أراه في المناديل المطرّزة ، في الزرابي المزخرفة ، في نقوش الحناء عند العارضات ، في الرحى المنحوتة بإزميل فنّان منتش برؤية القمر، هكذا بدأت أدور المعرض مخدّر الإحساس ، كلما التفتت تجدني هناك بالقرب ، كلما رأيت عينيها تمنيت لو تعودا قريبا ، كيف أنت يا لؤلؤة ، يا من يغار اللؤلؤ من بريق يضيء في تضاريسك ، أرى امتداد يدها نحو سريدة صوفية سردتها فنانة عظيمة ، صوفها حريري الملمس ، رقيق منساب ، رأيتها تذوب في رحاب الليونة ، رأيتها تعانق الوجه الصبوح ، رأيتها فلا أستطيع غير الدوران ، إن بقيت هنا العمر كلّه ، فكلما استدرت نعم ستجدينني بالقرب . لماذا ؟ لا أعرف ، أنت قصيدة جميلة ، أنت تغريدة في ليلة ساكنة ، أنت شعاع قمر ، أنت ماذا ، لم أر بعد شيئا قد يكون أنت ، فأنت أنت .
لم أخبركم أنّني الآن أسكن دار الطالب رفقة مئتين و يزيد من الأطفال والمراهقين ، ربما هناك بينهم من يظهر لنا وقتئذ كرجال اكتملت رجولتهم ، رغم أنّهم في بداية الثانوي ، حتى تالوين ما بدأ فيها الثانوي إلا يوم التحقت بها ، تازناخت أيضا ما كانت بها إعدادية إلا عندما التحقت بتالوين ، كان المئات من طلبة تازناخت يدرسون في تالوين ، لكن هذا العام بالضبط غادروا بأفواج كثيرة ، إنهم يبتعدون عن تالوين بأكثر من مئة كيلومتر جهة وارزازات ، بعضهم الآن لا يزال بدار الطالب ، كما أن أفواجا من تلاميذ أولاد برحيل يلتحقون بتالوين لاستكمال الثانوي ، تبتعد هي أيضا بأكثر من سبعين كيلومترا جهة آكادير ، كلهم يسكنون القسم الداخلي ، كان هذا الملعب الذي أقيم عليه المعرض يشهد لقاءات نارية في كرة القدم بين أربعة فرق لا ترضى أي منها الهزيمة ،"تابيا" أو لنقل الحي الذي توجد فيه الثانوية ، "تكركوست" أو لنقل الحي الأكبر في تالوين ، دار الطالب أو فرقة تازناخت ، و القسم الدّاخلي أو بصفة أدقّ أولادبرحيل، مباريات نارية كثيرا ما تنتهي بالعصي والحجارة، أمّا السّباب والشّتم فحدّث ولا حرج ، نفس الفرق تكون أيضا في صراع عند أي بطولة في نوع رياضي آخر ، حتّى و لو تعلق الأمر بالكرة الطائرة ، و كرة السلة أو كرة اليد .
سوء الحظ يلاحقني ، في اللغة الفرنسية ، مرة أخرى عام بلا فرنسية، أستاذ مريض في حضوره كما في غيابه الذي قد يطول شهورا ، الرياضيات هي فرسي اللّعوب ، كلما انطلقت لن يكبح جماحها أحد ، اللغة العربية ، يا إلهي ، ماهذا ؟ جئتم مجتمعين من الشعر الجاهلي والإسلامي ، من الغزل إلى الهجو إلى المديح ، انس عنترة و فخره ببني عبس ، اترك طرفة العبد ، وامرئ القيس ، هات جميلا أقبل رأسه ، يا صاحب بثينة ، ماذا فعلت بي يا رجل ، محورت أشعارك مرارا ، و كررت ، ماذا فعلت في دنياي لتكون أنت و المنفلوطي في طريقي ، اتركاني غدا أبدل أحبابا و أوطانا ، قهرتني ماجدولين يوما فلم جئت يا بثينة . ألا ترحمون الناس أيها الشعراء كما الأدباء .
جميل أن يكون الّذي يحتلّ المرتبة الأولى في تاركا معي في القسم مرة أخرى بعد عامين من الفراق ، هنا سأعرف إن كنت أتقدم أم أنّني أتقهقر ، لا تنسوا فهو أدبي الملامح ، عند الطبيعيات ، ندرس الجيولوجيا ، قمنا بخرجة إلى الوادي رأينا كل الظواهر الجيولوجية الموجودة في المقرر ، هذا من حسنات المناطق الجبلية ، الطبيعيات هي أسهل العلوم ، سواء تعلق الأمر بالجيولوجيا أو بالبيولوجيا ، الطريف حقّا هو أنّ أستاذ الطبيعيات يسألني في كل حصّة و يدوّن على مذكّرته بقلم الرّصاص، يا أستاذي أنا لا أراجع الدروس إطلاقا ، منذ هذه السنة سوف لن أفتح دفترا خارج الفصل ، حتى تلك الواجبات التي كنت أنجزها سابقا مثل تلك التمارين التطبيقة ، كفى ، الحرية المطلقة ، وداعا لكل التزام ، رغم ذلك فعلومك يا سيدي كشرب الماء ، تلتصق بدماغي يا أستاذ ، فاستجوبني في كل حصة ، ستجدني حاضرا ، ألا يوجد في في الفصل غيري يا أستاذ ، بدّل ، كم نقطة سجلت إلى الآن ، لا أدري ، الحصة الأخرى نورالدين لعوطار قم ما هو الفالق ؟ ماهي الطيّات ؟ ما هي الصخور الرسوبية ؟ ألا تستحي يا أستاذي ألا تنقّط للآخرين ، لا يهمك إلا أنا ، لا بأس جميل ، يقولون أنك طيب ، الكلّ يصفك بأنك لطيف ، بأنك و أنك أتاجاوز عنك .

ياسر علي 06-18-2016 06:01 PM

لم نتجاوز عن البعض و لا نصفح عن الآخرين ؟ بل تبقى غصتهم في ذهننا على مرّ الأيام ، لماذا نقبل الإذلال من البعض ؟ و نرفضه من الآخرين ؟ هل يكفي أن تقول جماعة أن فلانا جميل ليكون كذلك ؟ تجاوزت عنك لأنك أستاذ جيّد ، تقوم بواجبك أحسن قيام ، تجاوزت عنك لأنك ما لفظت يوما ولو همسا لفظ إهانة ، تجاوزت عنك لأن عينيك لا تنفثان الحقد ، رغم ذلك لا تنتظر منّي أن أحبّك ، هذا عام يا رجل و أنت تمتحنني دون غيري ، هل في الأمر منطق ؟ بالتّأكيد لن يوافقك أحد ، حتى الذين يحبّونك لابدّ يشعرون ببعض تمييز تمارسه ، الكل يحبّ أن يمارس التمييز ، رغم ذلك نحن لا نحبّ أن نكون الطبقة المغبونة ، الطبقة التي يمارس عليها التمييز ، الطبقة المهانة ، فمثلا طوال عمري ، و أنا أبحث عن التميز كما أنت ، في مجال ما ، في شيء ما ، و لو في كفيّة ارتداء طاقية ، و كل منّا يحس بتلك النّشوة عندما يرى نفسه يتفوق على الآخر ، ألم أقل لكم أنّني أغتبط كلما حققت المرتبة الثالثة ، طبعا فأنا أطمح إلى الأولى ، لكن قدراتي ما أهّلتني يوما إلى الأولى ، لذلك أحسّ بعض غبن ، لكن يمسحه أنّي تميّزت على الكثيرين . أضغيغ هو موطنه هو قريب من جبل سيروا ، هذا أوّل أصدقائي ، سيصفع الأمر الكثيرين لو قدّر لهذه المذكرات أن تكون في متناول الوسط الذّي أعيش فيه ، هو أيضا كان يختبره أستاذ الطبيعيات العام كلّه ، هو أيضا يسكن دار الطالب ، مظهره ليس جذابا ، و هناك شيء ما في شكله يجعله غير متناسق ، لكنه إنسان حقا ، تحمّل أستاذ الطبيعيات ، و تحمّل إهانات رئيس دار الطالب ، لا يحبّ هذا المسؤول أن يشمّه ، كلما رآه انطلق لسانه :" يا مجرم ، ياحرامي ، اغرب عن وجهي " كاد لقب المجرم يلتصق بظهره بين النزلاء ، لكن أنا يا صديقي ، سأكون معك ، ستكون صديقي و رفيقي ، هو ذكيّ رغم ذلك ، فليس سهلا أن أعترف بالذكاء لشخص بيسر ، إنسان خيّر جدّا ، تتدفق الطّيبة من كيانه ، يحسّ اعتزازا بالنفس ، حيّ المشاعر ، قوي رغم أن الوسط يحب أن يجعله منبوذا ، الأمر ليس فيه تعاطف ، فلو كانت الصّداقات تبنى على التعاطف، لكان لي من الأصدقاء الآلاف ، الصداقة نهر فياض من المشاعر لا ينضب ، هي الإحساس بالأمن ، هي الإحساس بوجود الآخر المختلف عنك ، فلن تشيّد صداقة مع إمّعة يفعل كل تفعله ، هي روح عظيمة ، و في احيان كثيرة ، هي أقوى من الحب نفسه ، إذ تتميز عنه بالإضافة إلى المشاعر بكثمان الأسرار ، والمشاركة في المغامرات .
ربما سأترك "عبد المومن" هنا رغم أنّه يستحق أكثر من إشارة .
دار الطالب تنظم نشاطا ثقافيا ، مسابقة بين الثالثة إعدادي والرابعة إعدادي ، مجرد أسئلة في المقرر ، أضف إلى ذلك أسئلة في الثقافة العامة ، اختير المشاركون حسب المعدّلات المحصلة في الدورة الأولى ، إبراهيم على يميني و لحسن على يساري ، نحن إذن ثلاثة ، مقابل ثلاثة من هؤلاء المتعجرفين ، نحسّ منهم نفخة كبيرة ، لكن لا تصل إلى درجة تبعث على الكراهية ، لكنها تدفعنا إلى المنافسة ، سحقناهم سحقا جميلا ، لا تستهينوا بنا و لو أنكم تعتبرون أنفسكم العلماء ، إبراهيم مثابر ، و لحسن أيضا ، لحسن تذكرونه هو الحاصل على الرتبة الأولى في تاركا ، إبراهيم لا أتذكر أنه درس معي في قسم ، لكنه يحتل المرتبة الأولى في قسمه تلك السنة و ربما في السّنة المواليّة ، نحن رفاق على أية حال ، كنّا أصحابا جيّدين ، ابراهيم رفيق جيّد ، لحسن يفلسف الأمور أكثر ، هو جليسي في الفصل ، كنّا ضيفين في تاركا و ها نحن أيضا في تالوين ، طباع دواره قريبة من طباعنا ، نقع على نفس الوادي ، و يمرّون على قريتنا كلّما توجّهوا إلى أساكي ، أخوه الحسين متفتح أكثر منه ، بل فنّان ، لحسن أيضا فنّان ، يحب العزف ، وأخوه يحبّ الرّسم ، لنعد من هناك . إبراهيم قوي البنية ، أتعارك معه مازحا كل يوم ، لكن الغلبة تكون له على الدوام ، نتمازح مع آخرين ، نغلبهم ويغلبوننا ، إبراهيم فيه جرعة أنانية ، رغم أنه لطيف جدّا ، في مزاحه ، وحتى وأنت تعلن انهزامك ، يزيد في خنقك ولا يريد أن يتوقف ، شيء لا يمكن أن يقبل بين الأصحاب ، لذلك أعود لمصارعته مرة أخرى عساني أصل إلى أن ألقنه ذلك الدّرس ، تمنيت يوما أن أوفق في ضم رقبته ، ولن أطلقه ولو أحس بالإجهاد والاختناق . لكن ما العمل ، لا تكون الأجساد دوما على قدر الأحلام

ياسر علي 06-19-2016 02:54 AM

أستاذة الفزياء والكمياء ، وصول الصحوة إلى تالوين ، مقدمات المدّ الحركي الإسلامي ، أستاذة مقبولة جدّا كما زوجها ، تذكرني بمعلّمتي في تغزوت ، أحس أنّي قريب منها بشكل جيّد ، نقطي هي السبب ، وإنسانيتها هي ما يجعلها تسلب روحي ، المبادئ الأولى للفزياء بسيطة و الكمياء أيضا ، إن أنهت دروسها قد تتحفنا بحديث أو بآية قرآنية ، تستلهم منهما الخلق الحميد ، النصح الجميل ، بعض النّاس لا يستطيع التجرّد عن ذاته ، يريد للجميع أن يشاركه عالمه ، لا بأس أستاذتي ، أنت في واد و أنا في واد ، سيجارتي لا تفارقني ، انطلاقا من هذه السّنة سأكون مدخّنا محترفا ، كل ما يمتّ للاتزام بصلة ، لا تحدثني عنه ، يكفي التزمت كثيرا فيما مضى ، طفولتي كلّها التزامات ، آن للأسوار أن تتهدم ، أتلذذ بذاتي كما هي ، خارج الإطارات ، أحب التسكع ، أحب الذّهاب إلى نادي الفيديو ، هناك وجدنا عالما مختلفا ، العديد من المدخّنين ، و أشخاص تجعدت أرواحهم ، فقدت وجوههم النضارة و هم في عز الشباب ، قبل بداية الفيلم ، تتحفنا الشاشة برقصات نجاة عتابو ، أو بمباريات الفريق الوطني في المكسيك و غيرها من الأكسوسوارات في انتظار اكتمال النصاب لتشغيل الفيلم ، هناك تعلقنا ببروسلي وجاكيشان ، هناك عرفنا سطالون رامبو و شوارزينيكر ، هناك عشقنا كلينتيستوود ، هناك تعرفنا على شارل برونسون ، من الصين إلى أمريكا ، من هناك نعود إلى الهند فنرقص على إيقاعات بوليود ، مع أميتاب باتشان ، هناك رأينا الجسد و الحركة ، رأينا ، معاني مختلفة للشهامة ، رأينا عالما مدهشا حقّا ، بين الشاشة و واقعنا مسافات ضوئية ، هناك تعيش أرواحنا لحظة استراحة ، لحظة انعتاق ، لحظة انشراح . عندما نعود إلى عالمنا نشخّص الحركات ، نشخّص الرقصات ، نتحدّث بصوت البطل ، نذوب في رحاب العوالم الجديدة .
خرفت السنة و حلّ رمضان ، أول شهر سأصومه ، رفعت شعار الاستبسال والتّحدي ، بعد الزوال ، كنا بمعية أستاذ الاجتماعيات ، ذهب بنا إلى المختبر ، سنرى وثائق مهمّة على الشاشة ، يضع الوثيقة تلو الأخرى في غرفة مظلمة ، أحس روحي ستودّع ، حاولت التماسك ، سمعت رنّة خفيفة ، لكأن كأس زجاج ارتطم بالأرض و أحدث صوتا لا ينقطع ، سمعت صرخة زميلة ، وجدت رأسي تحت صنبور منفلت و زملائي يحملونني ، انتفضت في وجوههم ، وقفت على رجلاي ، نظرت نحو الجميع ، تذكرت أين أنا ، إذن أنت هكذا أيها الصوم ، لم أكن أعلم أنك ستغدر بي ، ستفضحني أمام زملائي ، كنت أكابر و أتبختر منذ الصّباح ، لكن ماذا فعلت بي ، لا بأس ، فأنا لا أزال حيّا ، أرغمني أستاذي على شرب الماء ، أحسست به يجري في أحشائي ، كاد القيء يغالبني ، أستاذي تأثر كثيرا ، قال لي : " كل يوم سأعدّ لك طعام الغداء في منزلي ، فلا تتحرّج في مرافقتي " تبسّمت و قلت له : " سأصوم يا أستاذ و لو قتلني رمضان."
عبد الله الذي كان يحتلّ المرتبة الثانية في تاركا ، عندما خرجت من عند أستاذ آخر وقد تعرق جبيني وجدته عند الحنفية ، يشكو وهو يرتوي ماء ، مالك يا عبد الله ، كدت أموت يا نورالدين ، أتقيّأ و أتقيّأ ، قلت له معزيّا: " أنا عدت من الموت ، أرسلوني لإحضارك ، تبسّم و هو يسحت الماء.
في الصيف جئت أكادير ، عمي تقني ، له مسكن مستقلّ عن عمّي عبد الله ، أصبح عمّي رجلا ، اصطحبني إلى السّينما ، أدهشني المنظر ، لم أفهم شيئا في الشريط ، كان الشّريط مبتورا ، القصّ من مميزات بعض القاعات ، لا يؤمنون بعمل المخرج ، يستعملون شرع أيديهم ، هكذا كل حياتنا ، كل الحقائق نمعن في تطويعها ، نبتر جوهرها ، نشذبها تقليما ، نريد لها أن تكون كذلك ، لا تصل إلى هنا و لا إلى هناك ، ندر أنفسنا معلقين ، هكذا أنا أيضا ، أعرف أنّني يجب أن أنجح ، لكنّني لا أجتهد بما يكفي ، أعرف أن الحياة التزام ، لكن ما الذي أفعله أشذب دعائم الالتزام ، كل شيء فينا هو هكذا ، رغم ذلك فالشريط داعب نفسي بحدة ، هتك المستور فينا ، قصد جوهر ذواتنا ، رأيتهم و رأيتهن ، في رحاب اللذة .
كان لا بدّ أن أدخّن عسى روحي تعود ، لكن عمّي بجانبي ، تذرعت بالمرحاظ ، هناك سكبت في جوفي أطنانا من الدخّان ، عمّي يعرف ماذا سيفعل ليتخلص من خدر الشّريط ، لكن يجب أن يتخلّص منّي أولا ، ما العمل ، الحافلة في الانتظار ، تذرّع أن هناك ما يشغله ، تركته و ذهبت.



ايوب صابر 06-19-2016 01:00 PM

استاذ ياسر

استمر سيكون هناك عدة اسئلة حتما لكن دع هذا البوح يستمر الان...


الساعة الآن 05:13 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team