منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   عيون و شفاه (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=2812)

رشيد الميموني 12-26-2010 11:36 PM

عيون و شفاه
 
--------------------------------------------------------------------------------

عيــــون وشفــــــاه
فتح الكتاب الضخم الذي ألفاه بجانبه دون أن يدري من أتى به ، ثم شرع في قراءة الحكاية ..." تقف غادة متلفعة بملاءة سوداء وسط بطحاء قاحلة ، لكنها تعج بصبايا في مثل عمرها ، وزعن عبر مجموعات هنا وهناك. لم يسألها أحد حتى الآن عن هويتها وهي تباع في سوق النخاسة لأنها، و بكل بساطة غير معروفة ولا تنتمي لهذا الزمان . لكنها تنتمي للمكان، لأي مكان تفرعت فيه جذورها. وحين يسألها مشتر وهو يتفرس فيها ، مبهورا بعينيها السوداوين الواسعتين وشعرها الفاحم وشفتيها القرمزيتين ، يجيب عنها وليها :
- هي من سمرقند . أبوها تاجر من فرغانة و أمها كانت من سبايا الموصل بعد زحف هولاكو . أما هي فقد غنمها وهي تائهة في الطريق إلى البقاع ، قاصدة حطين ، ومنها إلى عين جالوت ، موطن جدها الأكبر والله أعلم .
ثم ينشغل عنها لمرور موكب من الأعيان وقد ترهلت أجسادهم البدينة فوق عرباتهم الفارهة ، وينحني تحية لهم لعلهم يتفضلون بالتوقف ومعاينة بضاعته الجديدة النادرة ، فيغتنم المشتري الفرصة ويهمس :
- هل أنت حقا من سمرقند ؟
فتجيبه عيناها قبل لسانها الأبكم :
- أنا فرع من فروع الكرمة . عنبي ألذ العنب . هل تفضله سكرا أم رزقا حسنا ؟
- ما أفصحك . لكن قولي .. هل جدك من عين جالوت ؟
تنطق شفتاها القرمزيتان دون أن تتحركا :
- أنا من صلب حاتم الطائي ، واسم من الأسماء الحسنى .. جدي كان سادنا قبل أن يسقي الناس في بئر السبع وعين جالوت .
- هل هو لغز ؟
ابتسمت عيناها ، لكن نور الأمل الذي توهج فيهما لدى اقترابه منها بدأ يخبو وحلت محله نظرة سخرية ومرارة وخيبة أمل..
- ظننتك تفهم بالإشارة .
- لا تظلميني.. فقط أريد أن...
لكن وصول أحد الأعيان يتقدمه كرشه الكبير، يقطع الحديث بينهما ، وينبري النخاس معتذرا للسائل الحائر :
- عفوا سيدي... الفتاة رهنت .
حز في نفسه عدم إتمام سؤاله ، بل وعدم الإسراع بإتمام الصفقة سريعا.. لماذا يلازمه سوء الطالع وتلاحقه الهزيمة أنى حل وارتحل ؟..
- لكني لم أعط رأيي في الثمن ؟
- دفع غيرك مئات أضعاف الثمن.. ثم إنك لم تحسم أمرك... آسف ..– ويلتفت إلى الثري – تفضل سيدي.. هاهي الدرة النادرة .. ملك يمينك .
لكن الثري يأنف من الدنو من الفتاة وبجانبها منافسه الذي بدا في هيئة عابر سبيل ، فينبهه النخاس :
- من فضلك أيها السيد .. اذهب لشأنك ، ودعنا نبحث عن أرزاقنا .
وحين لا يبدي هذا الأخير حراكا ، يأخذ الرجل بذراع السبية ويتنحى بها بعيدا . وتظل هي تنظر إلى الوراء .. في عينيها تساؤل و إلحاح . كيف السبيل إليها وثمنها الجديد يفوق ميزانية بيت مال أمة بأسرها ؟.. ولم هو مسمر في مكانه ؟.. هل أصابته سهام لحظها أم شظايا أنفاسها الملتهبة ؟.. أم أنه انساق بغير إرادته وانصهر فيها مفتونا بمتاهة الغموض الذي يلفها ؟ .. كيف السبيل لإطفاء اللهب الذي أضرمته نظراتها وشفتاها.. بل وكلماتها في كيانه ؟.. هو لا يستطيع شراءها بالمال ، فهل يستولي عليها بالقوة ؟ ولم لا مادامت سبية ؟.. يشعر بالارتياح للرأي الأخير رغم صعوبته وهو يرى النخاس يفرك يديه فرحا بما ناله من ربح في أول النهار ، بينما خادم الثري ذي الكرش العظيم يسوق الفتاة نحو مركبة سيده الفارهة .. فكر في اقتحام القصر ليلا واختطافها كما يحدث في حكايا ألف ليلة وليلة ، لكنه أحجم عن ذلك.. ربما لأن عيني السبية وشفتيها تمنعه من ذلك . إذن فما عليه إلا أن يبادر بإزاحة العراقيل ويبدأ أولا بمن سبا الفتاة ، ثم بمن اشتراها وبعد ذلك يخلص جميع السبايا .. هكذا قالت له نظرات الغادة وشفتاها .
يفرك عينيه ويصحو من غفوته ، فيجد البطحاء مقفرة إلا من غربان تنقر بقايا عظام ، وكلاب تخيلها برؤوس آدمية ، تلعق روث الذبائح ، وذباب يملأ أزيزه المكان ، متنقلا بين الجلود المتناثرة وأفخاذ البهائم المتجهة في عناء بأحمالها صوب الدواوير المستسلمة للغبار.. قضي الأمر ، وبيع من بيع ، وتمت الصفقات ، وربح من ربح ، وخسر من خسر ، إلا هو . بقي متفرجا . يتنهد تارة ويتميز غيظا تارة أخرى ثم.. لا شيء سوى الغبار . ما أصعب تمييز الأشياء حين يعلو الغيار ويحل الظلام . حتى الطريق يختفي من تحت الأقدام ، وتختفي معه الأصوات والحركات .
يشعر بالخوف وهو يرى الأشياء تندثر وتتبدد من حوله . وينظر إلى السماء عله يلمح بصبصا من وميض النجوم يستأنس به و يهتدي به . السماء حالكة السواد . كيف.. والشهر قد انتصف ؟ هل هي كثافة الغبار التي حجبت البدر والنجوم ، أم أنه أخطأ الحساب؟ يحملق في الظلام فيتمثل له المكان هوايا و أخاديد سحيقة . يمد قدمه في حذر، ثم يتذكر أن القصر الذي سيقت إليه السبية قبالته . فهو لم يتحرك من مكانه قيد أنملة . يعتريه إحساس طاغ بالسعادة ويتجه بمهل نحو الأمام مبسملا محوقلا .." عسى أن تسعفني العيون السود والشفاه القرمزية بما يسدد خطاي ويحقق مسعاي ".. لكنه يعود قليلا بمخيلته إلى لحظة انقياد الفتاة مرغمة وراء السيد الجديد ويسترجع نظراتها المترجية نحوه وشفتيها الضارع صوتهما وهو يهتف جليا :
- اذهب و أهلك .. واطلب يدي من أهلي هناك في حطين وعين جالوت ، ثم عد وخذني من هنا .. ستجدني في انتظارك ."
رفع رأسه ، فإذا بالفجر بازغ في الأفق .. رفع قبضة يده وصاح وهو يحث الخطى :" إلى حطين... إلى عين جالوت."
هنا انتهت الحكاية ، أو انتهت مرحلة منها لتبتدئ أخرى . أقفل الكتاب الضخم ووضعه حيث وجده ، ثم استلقى منهكا على الأريكة وهو يتمتم :" إلى حطين.. إلى عين جالوت .. ما أشهاك أيتها السبية الأبية .. وما أعذب كلماتك ."

آمنة محمود 12-27-2010 02:03 PM

عشنا معك وعصر البطولات العربية حيث حطين وصلاح الدين الأيوبي ومعارك المسلمين في عين جالوت
قصتك ذكرتنا بالبطولات الخالدة في فلسطين
نسأل الله أن يأتي بصلاح الدين ويحرر أقصانا السليب
من دنس الاحتلال الصهيوني
قصة رمزية راقية

رشيد

كل يوم تأتي بحلة جديدة
وروعة أجمل من ذي قبل
بوركت وجزيت خيرا
تحياتي

رشيد الميموني 12-27-2010 02:31 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة آمنة محمود (المشاركة 49885)
عشنا معك وعصر البطولات العربية حيث حطين وصلاح الدين الأيوبي ومعارك المسلمين في عين جالوت
قصتك ذكرتنا بالبطولات الخالدة في فلسطين
نسأل الله أن يأتي بصلاح الدين ويحرر أقصانا السليب
من دنس الاحتلال الصهيوني
قصة رمزية راقية

رشيد

كل يوم تأتي بحلة جديدة
وروعة أجمل من ذي قبل
بوركت وجزيت خيرا
تحياتي

العزيزة الغالية آمنة ..
نعم .. هي عيون تنطق بما يعتلج القلب من حسرة و ألم ..
وهي شفاه تنبس بالآمال المعلقة على الأجيال القادمة علها تنجب صلاح الدين و معتصم آخرين ، و تحقق صولات و جولات مثل عين جالوت و حطين و أجنادين ..
شكرا لمرورك العبق آمنة ..
كوني دوما بالجوار ..
لك كل المحبة .

ريم بدر الدين 12-27-2010 10:11 PM

مساء الورد
استخدم النص لغة أقرب الى الشعرية مدمجة برمزية عالية ليكون نصا حافلا و غنيا بالكثير
بالاضافة الى الثيمة الرئيسية للنص و التي تردنا الى ثوابتنا كأمة توالت عليها الهزائم و النكبات و بيدها لا بيد عمرو و هي قضية عولجت في كثير من النصوص الأدبية
بالاضافة الى ما سبق ذكره يطرح السؤال نفسه : كيف يوظف الكاتب ثقافته و مخزونه المعرفي و قدرته على تكوين الاسقاطات دون أن يسبب الملل للقارىء، دون ان يتعالى على القارىء، دون ان يبدو استعراضا ثقافيا ؟
هنا استطاع الكاتب رشيد الميموني أن يحيط بجوانب نصه ليوازن اطراف المعادلة ليكون النص عالي الاداء و عميق الفكرة
نص جميل حقا
تحيتي لك دوما

رشيد الميموني 12-27-2010 11:56 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريم بدر الدين (المشاركة 49984)
مساء الورد
استخدم النص لغة أقرب الى الشعرية مدمجة برمزية عالية ليكون نصا حافلا و غنيا بالكثير
بالاضافة الى الثيمة الرئيسية للنص و التي تردنا الى ثوابتنا كأمة توالت عليها الهزائم و النكبات و بيدها لا بيد عمرو و هي قضية عولجت في كثير من النصوص الأدبية
بالاضافة الى ما سبق ذكره يطرح السؤال نفسه : كيف يوظف الكاتب ثقافته و مخزونه المعرفي و قدرته على تكوين الاسقاطات دون أن يسبب الملل للقارىء، دون ان يتعالى على القارىء، دون ان يبدو استعراضا ثقافيا ؟
هنا استطاع الكاتب رشيد الميموني أن يحيط بجوانب نصه ليوازن اطراف المعادلة ليكون النص عالي الاداء و عميق الفكرة
نص جميل حقا
تحيتي لك دوما

الأخت الكريمة ريم ..
لا شك أن هذا التعليق الذي أعتبره نقدا محكما لقصتي سيكون من الردود التي سأرفقهابالنص لتكون شهادة ووساما اعتز به ماحييت .
وجدت في ردك اختاه ما أثلج صدري و جعلني أعود من جديد إلى قصتي لأتمعن في كل سطر كتبته ..
شكرا لك من كل قلبي و أملي لأن تبقي هنا بالجوار حتى أسعد بردودك البهية .
مودتي .

أحمد فؤاد صوفي 12-31-2010 02:37 PM

الأديب الكريم رشيد الميموني المحترم

تتميز مثل هذه القصص بدفع القارىء برغبة ومتعة إلى القراءة بتمعن واهتمام
وشعور آسر باستكمال القصة . .
كما تدل على الثقافة التاريخية والموسوعية للكاتب . .
وميزها أيضاً عدم دخول الملل أو شعور الحشر والتطويل عليها . .
كانت اللغة بسيطة مباشرة تناسب الجميع . .
الجمالية المحيطة بالسرد كانت عالية . .

أقدم هنا تحيتي وتهنئتي . .
كان الله معك دوماً . .
تقبل مني كامل المنى . .


** أحمد فؤاد صوفي **

رشيد الميموني 12-31-2010 09:38 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد فؤاد صوفي (المشاركة 50603)
الأديب الكريم رشيد الميموني المحترم

تتميز مثل هذه القصص بدفع القارىء برغبة ومتعة إلى القراءة بتمعن واهتمام
وشعور آسر باستكمال القصة . .
كما تدل على الثقافة التاريخية والموسوعية للكاتب . .
وميزها أيضاً عدم دخول الملل أو شعور الحشر والتطويل عليها . .
كانت اللغة بسيطة مباشرة تناسب الجميع . .
الجمالية المحيطة بالسرد كانت عالية . .

أقدم هنا تحيتي وتهنئتي . .
كان الله معك دوماً . .
تقبل مني كامل المنى . .


** أحمد فؤاد صوفي **

الكريم الفاضل أحمد فؤاد ..
أعتبر نفسي محظوظا إذ تلقى كتاباتي المتواضعة كل هذا الاهتمام وهذا الثناء منك ..
أملي أن أكون دوما عند حسن ظنك .
محبتي .


الساعة الآن 03:21 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team