منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   الحفّار (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=22500)

ياسر علي 05-29-2017 09:56 PM

الحفّار
 
الحفار

القصبة على الأرض، في طرفيها وضع حجارتين، أزاحها جانبا، هوى بفأسه على التّراب الصّلب يشقّ أخدودا من الحجرة إلى الحجرة.
كانت الساعة تشير إلى السّابعة صباحا، لم يتناول فطوره بعد، الشمس تركت حجابها وأطلت من وراء الجبل باسمة، منذ ثلاثين سنة يعيش بين الحُفر، يواري الأجساد الثرى و يسدل ستائر مسرح الحياة عند نهاية كل عرض، لم يفرغ بعد من تنظيف بقايا التراب والحصيّات الدّقيقة المتدحرجة من حافة القبر لتستوطن سريره، قضم قضمات من رغيفه وسكب من كظيمته كوب شاي هامسا في نفسه، صدق من قال: " من قام لم يفطر ما عساه ينتظر إلا أن يُقبر" بينما اللّقمات تعبرحلقه سافر ذهنه إلى الموتى، نسي هذا الصباح أن يقرئهم السلام، فأسرع لابتلاع ما يحول بينه وبين إسماع التحية، السلام عليكم أولا وآخرا فأنتم السابقون ونحن بكم اللاحقون، كانت رشفة الشّاي حلوة، نزل دفئها على نفسه المكفهرة منزلا طيبا، تذكر أن عمله أنساه البسملة، بسم الله أوّله وآخره والحمد لله رب العالمين، رجع إلى الحفرة معيدا البسملة التي أهملها من البداية وبمعوله يقذف بقايا التراب خارجها، شبر واحد هو كلّ عرضها، فكّر أن يوسع القبر قليلا، فهذا القادم من طينة خاصّة، لكن حرصه على المساواة في الآخرة منعته، الطول يكبر القصبة ببعض حبات فتهبط وتصعد راقدة بسلاسة، أعاد القياسات فالعمق يجب أن يقف عند الرّكبة على طول اللّحد، اطمأن لعمله وذهب لإحضار صفائح اسمنتية مربعة يغطى بها القبر حتى يُجهّز صاحبه، يجب أن يكون عددها وترا، سوى كل شيء بعناية ومهابة دون أن تهوي حصاة واحدة إلى القاع.
الفقيد صديق طفولته تجمع بينهما أخوة متينة، صلّيا العشاء معا، لا يعاني من مرض يستوجب القلق، ولا ظن مخلوق أنه سيغادر، افتقده اليوم عند الفجر، خمّن أن النوم غالبه وربّما كانت فرصة للإيقاع بصاحبه المجتهد ورميه بالتقصير، فور عودته من المسجد سمع عويلا يملأ بيته، توالت ضرباته على الباب، فتح الشّابّ وخيوط النوم لاتزال قابضة على جفونه، والدّهشة صفعت ملامحه، أجاب السّائل والغصّة رابضة في حلقه: "ربما مات أبي" خفق قلبه، كادت ركبتاه تجثوان عند العتبة، "الموت كلّه" لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، أكّد الشّاب: "انتظر حتى تبكيه أمي وأخواتي، وسترى بأم عينيك" كان الولد محقّا، فصديقه شبع موتا وما أيقظه الصراخ، وما هي إلا لحظات حتّى هبّ الجيران ملبّين واجب العزاء والعجب يوشّح حركاتهم و يتخلّل صريح تعبيراتهم. يمضي الحاجّ علي في استدراكاته: "والله إن الرجل لقويم، وإنّ سلوكه لرشيد، ولا نقول فيه إلا ما عايشناه، لكن الموت باغته، وغدر بأمانيه و آماله في حضور زواج ابنه هذا، وا أسفاه كان وجهه سيتهلّل إشراقا وتغمر السعادة قلبه لو حضر مولد واحد من الأحفاد، أو حتّى قدّم له هديّة أو شاغب لحيته. رحمك الله يا مسعود."
"رحمك الله يا مسعود" هكذا ردّد الحفار مرارا، مسترجعا شريط هذا اليوم الكئيب، يقول الحفار بشيء من التعاسة و عيناه محتقنتان، تنتظران من يدير صنبوريهما لتنطلقا جاريتين: "آه صديقي، ما أنا فاعل بعدك، إنك والله لمخطئ في قرارك هذا، بئس ما فعلتُ، ما كنت لأحفر بنفسي قبر صديقي. كان الأحرى أن أبعد عنه الموت وفعاله."
استيقظ مسعود في الحمّام منتفضا في وجه غاسله، تعالت الزغاريد والصيحات حتى وصلت أذن الحفّار وهو ساه دافن وجهه بين ركبتيه، طفق الشّاب مهرولا جهة إلى المقبرة والبهجة تملأ أخاديد انكساراته، هاتفا: "عمّي عمّي....استيقظ أبي ..." لم يستجب الحفّار لهذا النداء، لا يستطيع أن يفعل وقد لبى النداء.

عبدالعزيز صلاح الظاهري 06-01-2017 08:39 PM

قصة سمائها أمطرت
وسالت شعابها
وحفرت بمائها الأرض
وانحدرت كنهر إلى غايتها بكل يسر
الأستاذ ياسر
لست بناقد ولكن أرى الجمال وأتذوقه وما قدمته بالنسبة لي فن رفيع وإبداع

صبا حبوش 06-12-2017 04:09 AM

لا أدري سبب ازدياد ضربات قلبي وأنا أقرأ هذه القصة،فيها من الخوف والرهبة والحزن الكثير..
سطور بسيطة وصفت لحظات يعيشها ذلك الرجل بمهنته الشاقة ، مهنة تحاكي مصير البشرية، ونهاية كل إنسان منا ستضمه ذات الحفرة يوماً ما ..
أوجعني نصك...دام إبداعك أستاذي ..

ياسر علي 06-16-2017 07:05 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالعزيز صلاح الظاهري (المشاركة 223771)
قصة سمائها أمطرت
وسالت شعابها
وحفرت بمائها الأرض
وانحدرت كنهر إلى غايتها بكل يسر
الأستاذ ياسر
لست بناقد ولكن أرى الجمال وأتذوقه وما قدمته بالنسبة لي فن رفيع وإبداع


أستاذ عبد العزيز

حفظك الله، رمضانك مبارك وكريم، وأعيادك مسرات.

جميل ما توجت به النص من جميل الكلم وأطيبه

تحياتي

ياسر علي 06-16-2017 07:18 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صبا حبوش (المشاركة 224148)
لا أدري سبب ازدياد ضربات قلبي وأنا أقرأ هذه القصة،فيها من الخوف والرهبة والحزن الكثير..
سطور بسيطة وصفت لحظات يعيشها ذلك الرجل بمهنته الشاقة ، مهنة تحاكي مصير البشرية، ونهاية كل إنسان منا ستضمه ذات الحفرة يوماً ما ..
أوجعني نصك...دام إبداعك أستاذي ..

الاستاذة صبا حبوش،

لا نطيل النصوص إلا لنحكي وجعنا، هكذا قال واحد من الّذين أثق بتجربتهم في الكتابة.

متى كانت كمّية الحزن الرابض على القلب واف، فلا تنتظر نصّا مترعا بالانشراح، أتمنى أن أكذب كما أتمنى أن لا يكون صديقي صادقا.


الأستاذة صبا

أشرقت الصفحة بحضورك .

تقديري الوارف.

ايوب صابر 06-29-2017 01:03 PM

سرد قوي ومؤثر واسلوب متين وحبك مهني متقن ومكثف ولا يكاد المتلقي يجد كلمة ليس لها دور مهم في النص.

جزء مهم من التاثير ناتج عن تسخير التضاد في السرد، فعلى الرغم من ان الحديث يدور حول حفار ومقبرة وموت ، لكن القاص تمكن من ادراج كلمات توحي بالبهجة مثلا وصف الشمس وجعلها "باسمة" حينما برزت من خلف الافق.

لكن ابرز علامات التاثير في النص تاتي من النهاية المدوية والمفارقة التي لم نكن ننتظرها كمتلقين . كنا نتوقع موت مسعود صديق الحفار فعلا ودفنه في القبر الذي حفره الحفار لكنا نكتشف ان القبر صار للحفار نفسه الذي مات بينما عاد مسعود صديقه من الموت اثناء غسله.

وهذه المفارقة تركت اثرا مزلزلا في نفس المتلقي حتما.

نص غاية في التاثير كونه يعالج ثيمة الموت والحياة وهي اهم ثيمة يكون لها مثل هذا الاثر المزلزل في السرد.

*كما ان المتلقي سيجد بان القاص حشد مجموعة من ادوات السرد المؤثر التي جعلت النص حيا مدهشا ، وبليغا، على الرغم انه يعالج ثيمة الموت، ومن ذلك الحركة والحفر والحوار والصراخ والعويل مما جعلني كمتلقي اشعر بان النص واقعي وكأن ابطاله حققين يسكنون بين ظهرانينا.

سرد موفق. *

ياسر علي 07-23-2017 06:52 PM

أستاذي أيوب

كل التقدير على هذه القراءة الجميلة التي حبت هذا النّص بعناية و رعاية و لكم الشكر العميق لما تكابدون من أجل الرقي بمنبر القصّة.

احترامي

أميمة محمد 09-26-2017 07:10 PM

قصة مكثفة وسرد من قلم متمكن
تركتنا النهاية في دهشة نخمن ما إذا كان الحفار قد لاقى المصير الذي كان ينتظر صاحبه
جعل الله التوفيق حليفك أخي ياسر، دمت طيباً.

منى شوقى غنيم 10-03-2017 02:43 AM

قصة تتصف بتوافر جمال السرد ، وعنصر التشويق ..رائعة
تحياتي واحترامي

ياسر علي 02-28-2021 08:30 PM

رد: الحفّار
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أميمة محمد (المشاركة 226805)
قصة مكثفة وسرد من قلم متمكن
تركتنا النهاية في دهشة نخمن ما إذا كان الحفار قد لاقى المصير الذي كان ينتظر صاحبه
جعل الله التوفيق حليفك أخي ياسر، دمت طيباً.

أهلا بك أستاذة أميمة محمد.
تمر الأعوام بسرعة
أتمنى أن تكوني بألف خير.


الساعة الآن 05:16 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team