منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية. (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=6821)

ايوب صابر 04-28-2012 08:42 AM

بيت شباب تكرّم صاحب «طعم الرماد»
هذه الليلة يلتقي محبّو يوسف حبشي الأشقر وقرّاؤه في بيت شباب، مكانه الأثير، لإحياء ذكرى الأديب الكبير الذي مضى ١٥ عاماً على رحيله. الاحتفال يقام بمبادرة من «لقاء بكفيا الكبرى الثقافي» الذي يهدف إلى إعادة الاعتبار لأدباء لبنانيين بارزين «كي تبقى وجوههم مضيئة في ذاكرتنا الجماعيّة»، بتعبير الإعلامي والناقد ميشال معيكي.
تسعى الجمعيّة التي تأسست قبل ثماني سنوات، إلى لعب دور ثقافي فعّال، عبر مخاطبة الوجدان الجماعي. هكذا نظّمت مثلاً احتفالات تكريميّة للأديب النهضوي أمين الريحاني، للكاتب الرائد توفيق يوسف عواد، لعازف البيانو العالمي وليد عقل، وللعلّامة الشيخ عبد الله العلايلي....
وها هو «لقاء بكفيا الثقافي» ينظّم بالتعاون مع مجلس بلدية بيت شباب، الشاوية والقنيطرة احتفالية في ذكرى رحيل يوسف حبشي الأشقر. يتطرّق اللقاء إلى جوانب عدّة في مسيرة يوسف حبشي الأشقر، الأديب والإنسان. وتشارك في الندوة التي يديرها معيكي، الأكاديمية مايا الأشقر ابنة الكاتب الراحل، والدكتور لطيف زيتوني، والكاتب والناقد محمود شريح، والإعلامي جورج كعدي.
ويعرض خلال اللقاء شريط وثائقي بعنوان «طعم الرماد». مادة الشريط الذي تبلغ مدته ساعة، توليف لمقتطفات من أحاديث تلفزيونيّة عدّة أجراها معيكي مع الأشقر في النصف الأول من الثمانينيات، ضمن برامج مختلفة كان يقدمها المذكور على «تلفزيون لبنان». يضاف إلى المادة الأرشيفيّة مقابلات مع نجلي الأشقر: مايا، وإميل الذي انتحر قبل سنتين. يظهر الشريط مرارة الأشقر تجاه تلك الحرب العبثية، كما نجدها في كتاباته الأخيرة. ونسمعه يصف المتحاربين بأنهم مجرد أدوات تهدف إلى خراب لبنان.
ويعتبر معيكي أنّ يوسف حبشي الأشقر لم يأخذ حقّه من الحفاوة والنقد، وبقي على هامش المشهد الثقافي، لأنّ الأضواء لم تكن تعني له شيئاً. كما أنّ الأوضاع السائدة في ثمانينيات القرن الماضي، لعبت دوراً في هذا الاتجاه. ويستغل معيكي المناسبة، للتذكير بالثغر التي تشكو منها المناهج التربوية اللبنانية، إذ تغيب عنها أعمال بعض الرواد المجدّدين في الرواية اللبنانية.
لقاء تكريمي في ذكرى رحيل يوسف حبشي الأشقر، السابعة من مساء اليوم في مسرح دير مار أنطونيوس، بيت شباب. للاستعلام 03/884470

******
قراءة في دفتر الحرب
عبد المجيد زراقط
يلفت في تاريخ الرواية اللبنانية المتعلّقة بالحرب الأهلية أنّ محمد عيتاني أنهى روايته «حبيبتي تنام على سرير من ذهب» بفصل عنوانه «نحو العاصفة»، إذ إنّ المجتمع اللبناني -كما تمثّل في الرواية -كان يتجه نحو عاصفة الشرّ (الموت). ما استشرفه عيتاني حدث، وقامت الحرب التي تدور أحداث رواية يوسف حبشي الأشقر «الظل والصدى» في فضائها ومناخها. وهو الفضاء/المناخ الذي أفضى إليه المسار الروائي لثلاثية الأشقر الممتدّ من «أربعة أفراس حمر» فـ«لا تنبت جذور في السماء» إلى مقدّمة «الظل والصدى».
في هذه الرواية الأخيرة، يعاين القارئ الحرب (الشرّ)، بوصفها قوة قاهرة تتحكم بمصائر العباد والبلاد كأنها قدر لا يقاوم، وقد صُوّرت أدوات هذا القدر (أمراء الحرب) في الرواية في صور جعلت غير قارئ يسأل الروائي «كيف تجرؤ، وأنت تعيش بينهم؟». أجاب يومها: «من حسن الحظ...» ثم صمت لحظة، وأضاف بعدما هزّ رأسه وابتسم ابتسامة ساخرة: «... أو من سوئه أنهم لا يقرأون!». تعيد هذه الإجابة إلى الذهن صورة سياسي كان يقلّب ورقة بين يديه، على شاشة التلفاز، ويقرأ «مُستطيَر» وهي وصف لـ«شرّ» الحرب المستشرَف من سياسيّ آخر. فسواء كان هذا السياسي لا يجيد القراءة فعلاً أو كان يسخر، فإن الحرب/الشرّ التي عشنا ويلاتها وقرأناها، لم تعلّم، كما يبدو، أمراء الحرب القراءة التي تجعلهم يمضون في خط آخر، أراد إسكندر، الشخصية الرئيسية في «الظل والصدى»، أن يمضي الوطن فيه.
فقد بقي من أبطال الثلاثية، في الجزء الأخير منها، إسكندر المثقف الثري الليبرالي المنفصل عن عالمه، وأنسي المثقف اليساري. قاتل أنسي ثم هاجر بعدما عرف حقيقة الحرب، ورفض مواصلة دور الأداة. وصعد إسكندر إلى كفرملات، موطن الميليشيات، ليحقّق هدفين: أولهما المشاركة في دفن أمه وثانيهما وهو الهدف الأساس، الاحتجاج على الحرب بفعل يدفع المشاركين فيها، أو بعضهم، إلى الإحساس بالإثم والندم...
قديماً، في «أربعة أفراس حمر»، أقدم يوسف الخروبي وهو يحتج على عالمه، على إنقاذ غريق. كان يعرف أنه لا يجيد السباحة، فغرق... وها هو إسكندر يعيد ما قام به صديقه القديم، فيقدم على فعل يحتج به على عالمه، فيعود إلى عالم معادٍ، عالم الميليشيا، وهو يعرف أنه لا يجيد السباحة فيه ويعرف أنه سيغرق (يقتل). لكنه يمضي لأنه يُريد أن يحدث غرقه (قتله) إحساساً بالإثم/الندم يحرّك سعياً إلى الخلاص من الحرب/الشرّ.
وهذا ما يحدث، إذ يعي يوسف خليل (الميليشياوي) الحقائق، فيترك الميليشيا، لكنه لا يهاجر كما فعل أنسي بل يسلّم نفسه للمخفر، ويكتب تجربته لمن يريد أن يقرأ في دفتر الحرب. وهكذا تحقق لإسكندر ما أراده، إذ إنه سعى إلى موت في خطّ أوّل يحرّك العالم الذي يتوجه إليه في خط ثان.
فهل نجيد اليوم، ونحن نمضي «نحو العاصفة» من جديد، القراءة في دفتر الحرب الذي كتب يوسف خليل تجربته فيه، ونتحرّك في خط آخر سعى الروائي الكبير يوسف حبشي الأشقر، الذي لم يأخذ حقه من العناية بعد، إلى بيان معالمه في نص روائي ممتع وكاشف وراءٍ في آن؟

الاخبار
الخميس ٤ تشرين الأول 2007

ايوب صابر 04-28-2012 08:46 AM

بمناسبة إصدار "المظلة والملك وهاجس الموت" في "كتاب في جريدة"
يوسف حبشي الأشقر بين جبلين
في لبنان والرواية العربية


شوقي عبدالأمير
بالأمس وصلت "مظلّة الملك" ليوسف حبشي الأشقر، هذا الروائي العربي الرائد إلى ملايين القارئين تحت مظلة "كتاب في جريدة". وهو حدث روائي عربي بامتياز قبل أن يكون تحيةً وتكريماً لهذا المبدع الذي كان بعيداً عن الأضواء إلا ما تثيره الطلقات النارية والانفجارات من ضوء يخترق عزلته في "كفرملات" في جبل لبنان، أثناء الحرب الأهلية في أواخر القرن المنصرم والتي كان في كل حرف يكتبه يرفع يد إدانة وصمتَ صرخة بوجهها..
لقد ظل يوسف حبشي الأشقر ابن القرية والجبل متأبطاً المدينة بركامها وأضوائها ودهاليزها لا يأبه لذلك إلاّ عندما يخترق بنظرته اللافتة وريشته المبلولة بالدمع والدم في رسم صورة لبنان يومذاك، متوارياً في رسالة لزوجة هجرتْ، أو لأبناء تمرّدوا أو لأم وأب ظلاّ مُحصَّنَين ضد الرصاص بالبراءة والحب، حتى الموت.
إنها المرّة الأولى التي أكتب فيها عن كتاب أو كاتب صدر في "كتاب في جريدة" وتلك حيادية أحرص عليها وطبّقتها منذ الإصدار الأول ونحن اليوم بعد عشرة سنوات في الإصدار الـ105,.
ترى هل أن نص يوسف حبشي الأشقر وحده هو الذي حرّضني أم تقف وراء ذلك أسباب أخرى؟
في الواقع أنني نادراً ما قرأت قصصاً بحساسية شعرية ولغة تكاد تتماهى مع الأحداث والأشخاص بهذه الشفافية والتلقائية وهو ما يمنح لهذا الروائي خصوصيّة أولى. ما زال حبشي الأشقر يتربع على قمة جبل عالٍ ناءٍ ليس في لبنان وحسب إنما في الرواية العربيّة، إنه المفاجئ الذي يستجوبك منذ الصفحات الأولى لتكتشف أنك متأخر جداً في علاقتك مع الفن الذي يقدمه والبلد الذي ينتمي إليه في حين لا تحس أن ما يحدث لك يعنيه في شيء ما.. ثم تجد نفسك أنت الآخر تتماهى بسحر لغته ولقطاته في حيثيات قصصه وبانكفاءات أبطاله وانفعالات شخوصه.. يقودك بقوة إليه دون أن يشعرك ولا بأدنى حاجة لذلك.
لم أرَه، وسمعت عنه الكثير، وقد لامني ـ أقولها الآن على حق ـ العديد من الأصدقاء اللبنانيين بالأخص الذين يعرفونه عن تأخر صدور عدد له في "كتاب في جريدة" ولا أريد الآن الدخول في هذا الشأن، ولكنني أريد أن أؤكد بهذه المناسبة بأن يوسف حبشي الأشقر كان يجب أن يكون الروائي الأول الذي يصدر عن لبنان في "كتاب في جريدة".. ليس في ذلك إساءة لأحد ولكن تصحيح لمسار.
أستطيع أيضاً أن أضيف وهذه معلومة لا يمكن أن يقدمها أحد سواي في "كتاب في جريدة" وهي ردود الأفعال الخاصة بكل إصدار وفيما يخص هذا الإصدار فإنني تلقيت عربيّاً أصداءً وحماساً يرقى إلى فرادة وأهمية هذا النص.
هذا من ناحية كما أنني أردت لهذا الإصدار أن يأخذ أهميّة مزدوجة لا تنبع فقط من مكانته الروائيّة كما هو معترف بها من كل من قرأ هذا النص ولكن هذه المرّة أردتها باسم "كتاب في جريدة" رسالة إلى كل لبناني يعيش اليوم هاجس ورعب الانزلاق نحو هاوية لم يخرج البلد بعد كليّاً من كوابيسها ومآسيها وهي الحرب الأهلية مع موكبها من المآسي والكوارث.. وقد وجدت في قصص يوسف حبشي الأشقر أعلى نموذج لصرخة إنسانية من لبنان إدانةً للحرب وويلاتها ومن ثم لتعبر حدود لبنان إلى العالم العربي وكل إنسان.. إنه نص اليوم في حاضرتنا التي تتشدق بالدم والدمع تحت شعارات وأقنعة لم تعد تخفي عمق الهول والمأساة التي تتخبّأُ وراءها.
جاء نص حبشي الأشقر تواكبه رسوم رائعة لـ جنان مكي باشو الفنانة اللبنانية التي هي الأخرى عرفت كيف بشظايا القنابل أن ترسم صرختها ضد الحرب وكيف تصور خريطة بيروت مشطورةً كجسد يدمى لتقف مع نص الأشقر في عناق خلاّق من أجل لبنان.
إن يد يوسف حبشي الأشقر التي ترتفع فوق ركام تراجيديا الحرب اللبنانية السابقة تواكبها شظايا" جنان مكي باشو يحملها "كتاب في جريدة" هذا اليوم لكي تكون الصوت اللبناني المتعدد الأعمق الذي يعلمنا أن لا ننسى وأن نمضي معاً
==
يوسف حبشي الأشقر
https://docs.google.com/file/d/0B85L...hl=en_US&pli=1

ايوب صابر 04-28-2012 09:15 AM

يوسف حبشي الاشقر

- لا نعرف الكثير عن حياة يوسف حبشي الأشقر. نعرف أنّه ولد ودفن في بيت شباب التي أعارت الكثير من ملامحها لكفرملّات. درس الحقوق والفلسفة، وعاش حياة الموظّف الرتيبة في الضمان. نعرف أنّه كان يكتب في المقاهي، ويقرأ كثيراً في الليل. وأنّه عانى في سنواته الأخيرة من مرض الكلى، باختصار عاش في الظلّ، في ظلّ أدبه، منزوياً عن ضجيج الحياة العامة. نعرف غليونه الأبدي، وقصص بسيطة أخرى. نعرف أنّه من رموز ذلك العصر الذهبي لبيروت، شاهد عيّان على صعود المدينة وانهيارها، أحد روّاد الحداثة المستحيلة..

- لقد ظل يوسف حبشي الأشقر ابن القرية والجبل متأبطاً المدينة بركامها وأضوائها ودهاليزها لا يأبه لذلك إلاّ عندما يخترق بنظرته اللافتة وريشته المبلولة بالدمع والدم في رسم صورة لبنان يومذاك، متوارياً في رسالة لزوجة هجرتْ، أو لأبناء تمرّدوا أو لأم وأب ظلاّ مُحصَّنَين ضد الرصاص بالبراءة والحب، حتى الموت.

- عاش يوسف حبشي الأشقر في الظل، موزعاً بين الميراث الريفي، ونداء المدينة. عاش مسكوناً بهاجس الموت، ورحل بصمت بعدما نقل الرواية اللبنانيّة من زمن إلى آخر.

رغم امه كان مسكونا بالموت وعاش في الظل ...وذلك يقول الكثير عن طفولته وحياته وشخصيته لكننا لم نجد تفاصيل عن اسباب ذلك وعليه نعتبره .

مجهول الطفولة.


ايوب صابر 04-28-2012 11:55 AM


68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس

الصورة الوصفية في رواية " الدقلة في عراجينها"للكاتب التونسي بشير خريف (مقاربة سينمائية)
الصورة الوصفية في رواية" الدقلة في عراجينها"
للكاتب التونسي بشير خريف(مقاربة سينمائية)
الدكتور جميل حمداوي
تمهيــــــد:
يعد البشير الخريف(1917-1983م) منأهم الروائيين التونسيين الذين أرسوا دعائم الرواية التونسية إلى جانب مجموعة منالروائيين الآخرين مثل: محمدالعروسي المطوي، وعبد الحميد منيف، ومحمد رشاد الحمزاوي، وعلي الدوعاجي، وعبدالعزيز السعداوي، ومحمد بيرم التونسي، وعبد الكريم الحناشي، وحمودة الشريف، ومصطفىالفارسي، وعبد المجيد العطية، وسالم السويسي، ومحمد سعيد القطاري، ومحمد صالحالجابري، وعبد الرحمن عمار، وعبد القادر بن الحاج نصر، ومحمد المختار جنات،وآخرين...
ويتفرد البشير خريف عن هؤلاء الروائيين باستخدام لغةعامية خاصة ، وهي اللغة الجريدية أو لغة جنوب تونس. كمايتميز بكونه مؤرخا صادقا لبيئته الجريدية منذ دخول المستعمر الفرنسي إلى حيناستقلال البلاد.
هذا، وقد ترك البشير خريف مجموعة من الأعمال الإبداعيةالأدبية الشاهدة على منحاه الفني والجمالي. ومنأهم رواياته: " برق الليل"(1960م)، و" إفلاس أو حبك درباني"(1980م)، و"بلارة" (1992م)، ومجموعته القصصية: " مشموم الفل"(1971م).
وعليه، سيظل البشير خريف من الروائيين المتميزين في تونسبرؤيته الواقعية الاجتماعية، وسيبقى أيضا من ألمع كتاب بلده، وذلك باهتمامه الخاصبكتابة رواية الفلاحين والعمال، وتوظيفه للغة الجريدية، وتشغيل الوصف الاستقصائيالتفصيلي في كثير من الأحيان، والتأنق فيه سردا وتقويما وتعقيبا. وكلهذا من أجل التأريخ والتوثيق التسجيلي والواقعي، وتقديم رؤية إنسانية متكاملة شاهدةعلى تطور تونس الحديثة.
 أحجاماللقـــطات الوصفيــــة:
من المعروف أن السينما قد استمدت مجموعة من التقنيات منالرواية كاستفادتها من زاوية النظر التي تنبني على الرؤية السردية، وطبيعة الرؤية ،ووظائف الراوي، وطبيعة المنظور السردي ، والذي يحيل على اللقطة السينمائيةوأنواعها. ومنهنا، فاللقطة السينمائية ما هي في الحقيقة سوى تحوير لزاوية النظر في علم السرديات، وذلك بكل تمفصلاتها الفرعية. ومنثم، فنحن في حاجة إلى استعمال مصطلح اللقطات السينمائية ، وذلك لتوظيفها في ورقتناالنقدية هاته من أجل التمييز بين مجموعة من اللوحات الوصفية على ضوء المنظورالسينمائي على حد خاص.
1- اللقطـــة الوصفيـــة البعيـــدة:
تعتمد اللقطة الوصفية البعيدة على التقاط المكان الموصوفمن زاوية بعيدة ، وذلك لتقديم فضاءات الأحداث والشخصيات كي يتعرف عليها القارئالمتقبل، كما في هذا المقطع الروائي الذي يرصد فيه الكاتب فضاء كيفان الطين الحمراء:" كان يحث السير فجرا، وراء كيفان الطين الحمراءوهو في برنوسه الصغير يتبع المنعرجات، كأنه إجاصة تسعى، هو ذاك الطريق يلتوي صاعداإلى المواعدة حيث المرح والحنان، حيث أمه الطالق وابنة الخال ولطفها وصغرها، يتخذهالعبة، حيث العربي أخوها، الذي يستجيب له سريعا، إذا ما اعتدى عليه أحد فيالزقاق"(ص:23).
وتحضر هذه اللقطة الوصفية ، وذلك حينما يذكر الراوي فضاءالمتلوي ، والذي كان في السابق أرضا صحراوية جدباء ، لتتحول بعد ذلك إلى أرض طافحةبالكنوز الثمينة والمعادن النفيسة، يستمتع بها المحتل الأجنبي استعماراواستغلالا:
" أصبح الولدان في المتلوي يتجولان بتطلع واهتمام في قرية جديدة قد سمعاعنها الكثير.
انك لتسأل أحد قدماء العملة العائدين إلى البلد عنالمتلوي، فيدوخ رأسه حسرة ويبتسم، ناظرا نظرة بعيدة غائبة ويكتفي بأنيقول:
-
أوهوه! المتلوي!
الأرض لأولاد بو يحيى، تقع على ثمانين كيلومترا شمالينفطة، أودية قفراء، وتلال جرداء تصهرها الشمس ويحدو سمومها فحيح الأفاعي والحيات،إلى أن مر بها البيطار الفرنسي فيليب طوما.
استرعت هذه المفازة انتباهه، وكرفت عبقريته النافذة، إنهذه الطبيعة القاحلة، المكفهرة، تضم خيرا كثيرا، فتوقف ونصب خيامه ونقب فاكتشف سمادالفوسفاط فتأسست شركة صفاقس قفصة في أواخر القرن الماضي(1886).
عمل الفكر الإنساني عمله، فأرغم الطبيعة واحتال علىاستخراج خيراتها من جوف الأرض
".(ص:143)
وقد جاءت هذه الصورة الوصفية البصرية الراصدة عبر نظرةالكاتب البعيدة إلى الفضاء والأشياء، وذلك لتقديم إطار الأحداث في عموميتهالبانورامية.
2- اللقطــــة الوصفيــة العامـــة:
يقصد باللقطة الوصفية العامةGénérale تصوير المكان على ضوء رؤية عامة، مع تركيز عدسة الرؤية على الشخوصالموجودة داخل هذا الفضاء ، كما هو الحال في هذا المقطع الذي ينقل فيه الكاتبمجموعة من الشخوص الروائية داخل الفضاء ، ولكن من زاوية نظر عامة وبعيدة إلى حدما:" خرج الصبية وأدركوا الأحمرة، وانطلقوا ركضا إلىالواد. هناكجنة الأطفال الماء والرمل والحمير والنخل. وجدوا أبناء عمومتهم وجيرانهم وصبية من العروش الأخرى، وعجائز يغسلنالصوف وبنات يلعبن بالماء، مشمرات ثيابهن المبللة، والصغيرات في بذلة حواء، ورؤوسالنخلتذوي بالضحك وصراخ من حلقت به الدرجيحة فوقالأشجار"(ص:33).
وهكذا، ينقل لنا الكاتب في هذه الصورة الوصفية منظرا عامايحوي الشخوص الرئيسية في الرواية.
3- اللقطـــة الوصفيـــة المتوسطـــة:
تنقل هذه اللقطة الوصفية المتوسطةMoyenne ثلثيالجسد ، وذلك داخل إطار الرؤية الوصفية التي يستند إليها الكاتب الواصف، وهي تقابلالرؤية الشاملة التي تعتمد على تصوير الشخصية بشكل كلي.
ومن هنا، فالكاتب يصور لنا العطراء الصغيرة، وهي تبكي علىوردتها التي انتزعت منها عنوة من قبل حفصة بنت رقية:" خبطتالعطراء على فخذيهاوبكت،ثم التقطتها وانصرفت تتأمل ورقها الممزق وبين الدارين أمسكت عن البكاء، فليس هناكمن يسمعه، ولا فائدة فيه، وجعلت تدعو على حفصة بجميع الأمراض المنكرة والحوادثالفظيعة والبلايا والرزايا، وتهيب بالعقارب أن تلدغها والأفاعي أنتنهشها"(ص:39-40).
وينقل لنا الكاتب في هذه الصورة ثلث جسد العطراء إلىالفخذين، وذلك للتعبير عن بكائها الشديد ، وتصوير صراخها الملتهب من أجل استعادةوردتها. وتشبه هذه اللقطة المرصودة اللقطة الأمريكية، والتي تركز غالبا على نصفجسد الممثل.
3-
اللقطــــة الوصفيـــة القريبــة:
من المعلوم أن اللقطة الوصفية المقربةRapprochée أواللقطة الصدرية تنقل لنا الشخصيات من الصدر إلى الأعلى، وذلك للتركيز علىالانفعالات الجسدية والنفسية سواء أكانت شعورية أم لاشعورية. ومنبين الأمثلة التي تعبر عن هذه الرؤية الصدرية المقربة اللقاء الحميمي الصادقشعوريا، والذي كان يجمع خديجة المطلقة بابنها المكي، بعد غياب أسبوعي في الزبدة معوالده وجدته الحاضنة زبيدة ، وذلك بعيدا عن والدته الحنونة الحقيقية:"فيسكن إلى صدرها، وسط ثيابها، يتنفس العود قرنفل والعفص منعبونها. فإنهمشتاق هو أيضا إلى رائحة الأمومة الحقة. ويدسوجهه في صدر مليء لحما وقوة وعطفا لا كصدر بيبي، الأجرد الجاف"(ص:24).
وتعبر هذه الصورة الصدرية في الحقيقة عن الصدق الأمومي،وافتقاد المكي للعطف والحنان والرأفة والشفقة ؛ وذلك بسبب غيابه الأسبوعي عن أمهالتي طلقها زوجها الزبيدي. ومنثم، فهذه اللقطة تعبير صادق عن المناحي السيكولوجية، والتي تعمل اللقطة على تجسيدهاحركة وسلوكا وتفاعلا ووجدانا.

ايوب صابر 04-28-2012 12:01 PM


4- اللقطـــة الوصفيـــة الكبيـــرة:
ترتكز اللقطة الوصفية الكبيرةGros plan علىنقل ملامح الوجه المعبرة، ورصد انطباعاته النفسية بدقة تشخيصية وتصويرية، كما فيهذا المقطع الوصفي الذي يبين لنا الكاتب فيه حالة شخصية حفة بعد اختفاء العربي:" دخل حفة إلى الحوش وعلى شفتيه ابتسامة صفراء ،وقال: إنهذه نتيجة مخالفة رأيه، وانه لم يشأ أن يعطي العوض لكن قلبه رحيم، فلم يقو علىمعارضة الناس فجاراهم وعليه، فهو في حل مما يحدث.
دخلت العطراء من البويبة تنظر وتسمع فذهلت وعادت إلىالحوش اللوطاني."(ص:140).
وترد هذه اللقطة الوصفية في موضع آخر ، وذلك لتبيان حالةعمير النفسية والثورية أثناء تأجيج نفوس العمال المضربين حقدا وغضبا:" راغ عمير مخلوع القميص مبحوح الصوت على رأسشرذمة من أولاد بويحيى وأولاد دينار والجريدية والقبائل وانتشروا في ساحة المركز،وكان يهتف ناتئ العينين أحمر الوجه في جانبي فمه رغوة وفي شفته السفلى خط أبيضجاف."(ص:249).
هذا، وتعبر هذه الصور المقربة جدا عن الحالات النفسيةوالانفعالية الشعورية واللاشعورية ، والتي تظهر على وجوه الشخصيات بشكل جليومجسد.
5- اللقطـــة الوصفية الكبــرى جــدا:
يلتجئ الكاتب إلى الاستعانة باللقطة الوصفية الكبرىZOOM / Très gros plan ، وذلك لتبئير الموصوفات والعناصر المنقولة، حيث يتم التركيز علىالأشياء الدقيقة من الوجه والجسد والرجلين ، وذلك لتقريبها بشكل جيد إلى القارئالمتلقي أو الراصد المتخيل. ومنهنا، نرى الكاتب في روايته الواقعية يصف كلبا عبر هذه الرؤية ، وذلك لكي يبين شراسةالحيوان تجاه الآخرين، وشروعه في الشر للانقضاض على الصبية، بعد رجوعهم من نزهةالوادي:" اعترضهم كلب هزيل، شرير يردهم بنباحه، ويهددهمبعينيه المخضرتين المحمومتين وأنيابه المكشرة، فارتدوا إلى القنطرة ولاذت العطراءبالرجوع وظهر حمة الصالح يعدو بين النخل يتبع الريبة ويصيح على كلبه." (ص:34)
كما يركز الكاتب بشكل مكبر جدا على يد العطراء ، وذلكللتركيز على ما تفعله الصبية بنبتة كانت بيديها، فتقطعها غضبا وحنقاوحقدا:" فقالت العطراء وهي تنظر إلى يديها وتبرم حشيشةبين أصابعها:
-
اعطاهالي حمة الصالح من العيون.
صاحت رقية بابنتها:
-
قلت لكاعطيها انتاعها، خلي تمشي علينا.
فمرستها وقطعتها وألقتها."(ص:39)
وهكذا، نجد أن اللقطات الكبرى جدا في رواية البشير خريفتحدد لنا الأبعاد النفسية للشخصية الرئيسية أو الثانوية أو العابرة ، أو تعكس لنامختلف الوظائف والمسارات التصويرية لمختلف العوامل والممثلين ذهنيا ووجدانياوحركيا، وتبرز لنا أيضا ملامحها الشعورية واللاشعورية بكل وضوح وجلاء.
q
زوايـــاالتقـــاط الصـــورة الوصفيـــة:
يلتقط الكاتب البشير خريف العناصر الموصوفة على غرارالكتابة الإخراجية السينمائية من زوايا متنوعة، حيث يستعمل السارد اتجاهات عدة ،وذلك لالتقاط صوره الروائية الوصفية، فقد يكون اتجاه الالتقاط أفقيا أو عموديا أوسفليا أو متحركا. ويمكن توضيح ذلك من خلال الشواهد والأمثلة النصية التالية:
1- اللقطـــة الوصفيـــة العموديـــة:
تلتقط هذه الصورة الوصفية من الأسفل إلى الأعلى، ويعنيهذا أن عدسة التصوير والوصف تتجه من تحت إلى أعلى ، وذلك للتعبير عن التساميوالتحرر والاستعلاء والسيادة والتفوق، واستجلاء ماهو علوي وروحاني ، بعيدا عن عالمالبشر المحنط بالماديات كما في هذه الصورة الرمزية:" خرجت الأنثى ووقفت، وتبعها الذكر، ولبثا هنيهة،كأنهما لم يدركا ما تبدل في وضعهما، وكأنهما لم يحفلا كثيرا بما منحا من حرية، ثمأمال الذكر رأسه ونظر إلى طاقة الشباك وخفف وطار، وتبعته أنثاه وتبعتهما العطراءببصرها، فرأتهما يحلقان إلى عنان السماء، ثم يتجهان إلى سحاب أبيض سمقت إليه نخلتانمتساندتان، وأضحيا نقطتين متتاليتين، وحطا في لفافة النخل." (ص:298)
ومن هنا، تبدو هذه اللقطة العلوية العمودية تعبير صادق عنالرغبة في التسامي، والتحرر من الكائن المادي، والتخلص من قيود الحس، وذلك نحوالفضاء العلوي المطلق.
2- اللقطـــة الوصفيــة الأفقيــة:
تعتمد اللقطة الوصفية الأفقية الثابتة على رصد الموصوفأفقيا كما في هذا الشاهد الوصفي:" حولت عينيها(العطراء) إلىزوجها(محمد الحفناوي) وقارنت، إنهما يشبهان بعضهما تماما كما تشبه البسرة الغمقة، نعم، يشبهانبعضهما، غير أن النظر لذا أذى ولذلك شفاء، ذلك له عينان وأنف وفم، وذا له عينانوأنف وفم، كل رقبته وشعره، لكن شتان بين الرخمة والطير البرني.
وعادت تنظر إلى الشاب، فتخيلت أنها تغسلبصرها
." (ص:305).
وهكذا، يتسم اتجاه الإدراك في هذه الصورة الوصفية بكونهاتجاها أفقيا ثابتا يقوم على النظرة المواجهة.
3- اللقطـــــة الوصفيــــة السفليــــة:
المقصود بهذه الصورة التقاط العناصر الموصوفة من عدسةتصويرية موجهة إلى الأسفل ، وغالبا ما يكون الغرض من هذه النظرة الوصفية التعبير عنالضعف والانكسار والانسحاق والانهيار، كما في هذه الصورة الخرافية التي تناجي فيهاالبنات فرعون المنكسر توسلا واستغاثة ، وذلك لمساعدتهن على إضفاء الجمال عليهن، وإنكانت هذه الصورة تحمل في طياتها مؤشرات جاهلية ووثنية قديمة العهد:
" وقفت إحدى الفتيات على ربوة وصاحت بالواد، كأنها جاهلية تخاطبإلاها:
-
فرعون،يا فرعون، طول شعري وكبر قعري،
وتلك من العادات التي لبثت حية، من القدم إلى يومنا هذاوهي لا تقل فائدة- لوتدبرها المؤرخون- عنآثار الحجارة المنقوشة، لعلهم يجدون بي

ايوب صابر 04-28-2012 12:03 PM


قراءة في رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف من تونس</SPAN>
الأخضر الزاوي</SPAN>
ولد البشير خريف بنفطة، دراسته مزدوجة بالخلدونية يعمل مدرساً وهو من ألمع أدباء تونس ورائد الفن الروائي فيها، كتاباته تنوعات شتى في معنى الحرية من مؤلفاته:</SPAN>
- إفلاس أو حبك درباني قصة </SPAN></SPAN></SPAN>1954</SPAN>
- برق الليل روياة تاريخية </SPAN></SPAN></SPAN>1960</SPAN>
- الدقلة - في عراجينها رواية 1969</SPAN>
</SPAN></SPAN>- يطرح الكاتب في هذه الرواية "الدقلة في عراجينها" مسألة الأرض كينبوع للمأساة الإجتماعية ويتبعها بطابع تسجيلي انتقادي بمعنى أن عديداً من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكيء على الانتساب الحزبي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات، كما امتزج بخليط من المؤثرات الأجنبية وتتجلى لنا ملامح هذه الرؤية معاً كلما أوغلنا في عالمها الفسيح خطوة خطوة...</SPAN>
تمتد حدود الزمان الحدثي في الرواية على مساحة زمنية واسعة جداً تتخللها ثغرات زمنية كثيرة مما يجعل عملية متابعة الخط الزمني تقريبية، يبدو مرة ساطعاً دقيقاً محدداً ويختفي مرات أخرى فلا يكاد يبين، ثم يقفز قفزات زمنية واسعة لا تذكر فيها أية أحداث ، ليأتي فجأة على أيام قليلة فيشحنها بالأحداث والوقائع الكثيرة وهكذا دواليك.</SPAN>
فأحداث الرواية تنطلق في عيد المايّو أي الرابع عشر من شهر ماي وهو عيد قومي لفرنسا"1"، ومع هذا العيد يكون عمر العطراء، ثماني سنوات "2"، وتبدأ الوقائع مع هذه الاحتفالات منتقلة إلى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء وفصل الربيع، تدور مع الفصول، لتصل الوقائع إلى نهاية الرواية عندما يشير الراوي أن عمر العطراء بلغ الثامنة والعشرين "3"، وقد كان عمرها ثماني سنوات، أي تضاف مدة عشرين سنة مضافاً إليها زمن تقريبي عبر عنه الراوي "وبعد أشهر" أي من رجوع العطراء من العلاج في صفاقص قام الحفناوي وتزوج امرأة ثانية، واستمرت الأمور على هذه الحال حتى وضعت له المرأة الجديدة ولداً، "وانصرف يعجب بوليد وضعته امرأته الجديدة، قالوا إنه كفلقة البدر" "5" ثم مرضت العطراء وتوفيت "6" أي حوالي سنة تقريباً بما فيها فترة الحمل وأشهر الإنتظار، وهكذا يقدر الزمن الحدثي في الرواية بواحد وعشرين سنة تقريباً، بما فيه من ثغرات زمنية كثيرة، ويلاحظ أن الراوي يذكر تاريخ الاضراب الذي قام به العمال التونسيون في معمل الفوسفاط في المتلوي وبقيادة الدبنجق قائلاً: وقع الاضراب في نوفمبر </SPAN></SPAN></SPAN>1928</SPAN> </SPAN></SPAN>" "7" مما يدفع إلى الإعتقاد أن الوقائع التاريخية لهذه الأحداث جرت في هذه الفترة بين الحربين العالميتين، حيث كانت فرنسا متواجدة في المغرب العربي بما فيه تونس.</SPAN>
رغم أن الرواية كتبت في الستينيات "*" فهي تعالج أحداث تاريخية ماضية مما يجعلها نظرة نقدية متأخرة للواقع الإجتماعي التونسي، تنتشر هذه الوقائع على بساط مكاني محدد في بلاد الجريد، وهي آخر نقطة في الجنوب الغربي في تونس "8" وبالضبط في نفطة التي يسكنها البطلان المكي والعطراء، ثم قرية المتلوي "9" التي تبعد بثمانين كيلومتراً شمال نفطة، وبجوارها قرية فليب طوما "10" حيث مصنع الفوسفات "11" ثم إلى السجن "12" وإلى صفاقص "13"عولجت العطراء، ثم العودة إلى نقطة في نهاية المطاف.</SPAN>
الأحداث والبناء الروائي:</SPAN>
- مظاهر التمدن والاختراعات الأروبية</SPAN>
يتصدر دور البطولة في رواية الدقلة في عراجينها للبشير خريف، كل من المكي بن علي الزبيدي والعطراء بنت المولدي، في إثر خلاف بين خديجة أم المكي مع زوجها بخصوص شراء خلخال ذهبي لها، لطالما وعدها به، ولكنها اكتشفت أن الخلخال كان مغشوشاً، مما أدى إلى سوء علاقتها مع زوجها، فرجعت إلى بيت أخيها المولدي وأخبرت عبد الحفيظ أخاها الأكبر، الذي كان له خلاف مع علي الزبيدي الذي جاءه ليسترد زوجته ولكنه رفض، وهكذا سارت وضعيتها إلى الطلاق حتماً رغم أن خديجة ندمت ندماً شديداً، وأرادت في مرات متتالية أن تعود إلى زوجها، لكنها منحتْ أرضها إلى أخيها "حفة" ولذلك رفض علي الزبيدي، ومع ذلك لم تيأس وظلت تحاول الرجوع رغم أن الزبيدي تزوج بامرأة أخرى، وطوال هذه المدة بقي البطل المكي يزور أمه وأخواله كل خميس وجمعة، وكان يلتقي بابنة خاله المولدي، العطراء ويلعب معها الأرجوحة، ويلعب مع العربي، لكن لم تدم الحال وبسرعة غير متوقعة مرض المولدي فتوفى، وبعده بأيام قليلة وتحت وقع هذه الصدمة تتوفى زوجته تبرْ، وتترك أبناءها لرعاية خديجة.</SPAN>
وينشأ المكي مع العطراء زمناً غير قصير تنمو فيه الذكريات وتزداد أواصر المحبة وثوقاً، و لا يستمر هذا الصفا، حتى يعاود الزمن بضرباته، ويحتد النزاع بين حفّة الذي يمنع أخته خديجة من الرجوع إلى بيت زوجها علي الزبيدي، ويرفع عليه قضايا في المحكمة ويخرج له المنفذ، لاحتجاز حقوق خديجة، لكن خديجة تريد الرجوع، ويسوء حالها فتصاب بمرض خطير وتتوفى، عندها يفترق شمل هذه الأسرة فيسافر المكي والعربي ينخرط في الجيش الفرنسي، أما المكي فينتقل إلى العمل في معمل الفوسفاط، في المتلوي في صفاقص، ويناضل هناك كثيراً مع زملائه العمال وينال رضى "لاكاز" و"بواسييه" مسؤولي المصنع، كما أعجب به العمال العرب وخاصة كبيرهم الدبنجق الذي وصف المكي بأنه مخ ومفكر بالنسبة لباقي العمال خصوصاً وأنه متعلم، وهكذا قام بالتعاون مع الدبنجق وعبد الناصر وآخرين بتعليم العمال القراءة والكتابة، وتوعيتهم بحقوقهم، وتجنيدهم في الإضراب الذي استمر أسبوعاً كاملاً كما وقعت مواجهات مع الفرنسيين خلفت كثيراً من الضحايا وسجن من سجن وفرّ من فرّ.</SPAN>
ثم يمرض المكي ويطول به المرض فيفصل عن العمل ويرجع إلى بلده في نفطة، يتفق مع حفّة على زواجه من العطراء ولكن يموت في مرضه، فتتزوج العطراء مع الحفناوي ابن حفة، وبعد شهرين تمرض بضرسها فيأخذها إلى صفاقص للعلاج، وعند العودة يركبان القطار لكن مؤامرة تدبر لهما فينزل الحفناوي وينطلق القطار، فيصل إلى قفصة، ويبيت الحفناوي بعيداً عن زوجته، وهنا تأتي امرأة مومس اسمها غرسة فتأخذ معها العطراء وهي امرأة لم تخرج أبداً من قريتها، ولم تسافر، وبطرق شيطانية تحتم عليها ما ترفضه وينتهك جلول عرضها وفي الصباح يرجعونها إلى المحطة، فيصل زوجها، ويأخذها إلى بلده نفطة دون أن تبوح له بشيء، وكان ذلك سبب انحلال علاقتها مع زوجها الحفناوي فيتزوج عليها وتمرض فتموت.</SPAN>
- خصومة الأرض ينبوع المأساة الإجتماعية:</SPAN>
تنتقد الرواية موضوع ملكية الأرض وحب الاستيلاء عليها من طرف عبد الحفيظ، الذي يملك منها مساحات معتبرة، إلا أنه ظلّ يتطلع إلى أخذ المزيد منها من أصحابها الفلاحين، وهو ما حدث فعلاً عندما جاءت سنون عجاف فاشترى أراضي الفلاحين، المعوزين بثمن بخس، واستعان في عملية الشراء بأموال أخيه المولدي، الذي كان يرسلها له من المهجر، ولكنه في النهاية قيد كل شيء باسمه، وحرم أخاه من حقوقه فأصبحت شخصية عبد الحفيظ تمثل شخصية الإقطاعي في الرواية.</SPAN>
لذلك اشتد النزاع بينه وبين صهره علي الزبيدي الذي يملك أراض مجاورة له خاصة عندما وقع خلاف بين خديجة وعلي الزبيدي زوجها، لأنه وعدها أن يشتري لها خلخالاً ذهبياً، وهكذا استغل عبد الحفيظ هذا الموقف لتوسيع أراضيه أكثر، بحصوله على نصيب أخته خديجة، ورفض أن يرجعها إلى علي الزبيدي، لكن خديجة ندمت كثيراً على هذا الخلاف الذي استغله عبد الحفيظ، وحاولت طول حياتها الرجوع إلى زوجها لكن عبد الحفيظ أخذ منها أرضها، ولذلك رفض علي الزبيدي ارجاعها بدون أرض، وتزوج بامرأة ثانية وقام عبد الحفيظ بتعقيد الموقف بشكل نهائي، فرفع قضايا في المحكمة ضد علي الزبيدي باسم خديجة وهي رافضة، وتمرض خديجة مرضها الأخير وتدعو بالانتقام من عبد الحفيظ وتتوفى، ومع وفاتها ترجع حقوق الأراضي إلى علي الزبيدي بسبب أبنائها، ولا تتوقف خصومة الأرض عند مأساة خديجة مع زوجها علي الزبيدي، بل تصبح المأساة متوارثة مع إرث الأرض، فعندما يقوم بطل الرواية المكي في نهاية مشواره الذي مرض فيه بخطبة العطراء ابنة خاله المولدي، التي كان يحبها وكانت تحبه ويضغط عليه عبد الحفيظ بأن يتنازل عن خصومة الأرض مقابل زواجه بالعطراء فيوافق ولكن طرفاً آخر يجدد النزاع وهو العروسي أخوه من أبيه، الذي يرفض زواجه من العطراء، مخافة أن يتوفى وهو مريض فترث العطراء من أرضه وتصير في صف عائلة عبد الحفيظ، ويجتهد في بث المشاكل، ونشر العراقيل لأخيه المكي حتى يحول الموت بينه وبين زواجه من حبيبته العطراء.</SPAN>
- الإضراب والنضال العمالي:</SPAN>
بعد الصراع على الأرض وسنوات الجفاف وبيع الأراضي لفائدة عبد الحفيظ، انتقل العمال من الريف إلى صفاقص وبلدة المتلوي حيث مصنع الفوسفاط الضخم، الذي يمتص كثيراً من اليد العاملة ومع وجود الدبنجق على رأس العمال إلى جانب المكي ، الذي لقي استحساناً واسعاً من زملائه، بعد حادثة اصطدام عربات قطار المصنع، وانضمامه إلى حركة العمال بقيادة الدبنجق، ومن ثم شرع مع عبد الناصر في تعليم العمال الكتابة والقراءة وبعد أربعة أشهر من التعليم قرأ أحدهم جواباًً جاءه من أهله، وكان المكي والدبنجق يقضيان الليالي في السهر مع العمال، أما الدبنجق فاقترح بعد رفع الجهل عن العمال وتوعيتهم أن يؤسسوا حزباً مثل الحزب الدستوري في العاصمة تونس.</SPAN>
وقد سبق أن حاول محمد علي أيامها تأسيس حزب مماثل في المتلوي ولكنه فشل، لكن الدبنجق والمكي ضاعفا أعمالهما في توعية العمال وتعليمهم، إلى أن بلغ الوعي درجة التعبئة العامة التي وصلت إلى اقتراح الإضراب وتوزيع المناشير، ثم القيام بالإضراب لمدة أسبوع كامل وما تبع ذلك من حوادث الإعتقالات والمواجهات الخطيرة، التي خلفت كثيراً من الضحايا، علاوة على حملات التفتيش التي قام بها العساكر وما نجم عن ذلك من انتهاك الحرمات وهتك الأعراض، مما أدى إلى وقف الإضراب وأعقب ذلك سجن عدد كبير من العمال، ومثولهم</SPAN> f</SPAN> </SPAN></SPAN>أمام المحاكم العسكرية الفرنسية، وعلى رأسهم الدبنجق أما المكي فقد أخلي سراحه بعد مثوله أمام المحكمة.</SPAN>
إن المتأمل في رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف ينجذب انتباهه إلى الخطوط الأفقية التالية، لما لها من أهمية بصفتها مواقف حدثية أساسية في الرواية:</SPAN>
خصومة الأرض وشراء عبد الحفيظ لأراضي الفلاحين المعوزين ليصير من كبار الملاك.</SPAN>
خصام خديجة مع زوجها علي الزبيدي وتدخل عبد الحفيظ الذي يمنعها من الرجوع إلى زوجها بعد أخذ نصيبها من الأرض.</SPAN>
علاقة المكي بالعطراء ابنة خاله منذ الطفولة وحبهما المتبادل.</SPAN>
النضال العمالي، وتعليم العمال وتوعيتهم بواسطة الدبنجق والمكي، وتعبئتهم للإضراب الشامل.</SPAN>
العطراء تتزوج الحفناوي ابن عبد الحفيظ بعد وفاة المكي.</SPAN>
العطراء تسافر إلى صفاقص للعلاج وما يحدث لها.</SPAN>
إن هذه النقاط المرجعية في الرواية ترتبط جميعاً بفكرة الصراع سواء من أجل الأرض وتوسيع الملكية كما يفعل عبد الحفيظ أو من أجل الحق والعدالة، حينما يدافع العمال عن حقوقهم، والمطالبة بالزيادة في الأجور والمساواة مع العمال الفرنسيين، الذين يشتغلون معهم في معمل الفوسفاط في الأجور والحقوق، ومهما يكن الصراع وصوره وأشكاله فهو ضد الظلم، سواء كان هذا الظلم من كبار ملاك الأراضي مثل عبد الحفيظ الذي أخذ أراضي الفلاحين المعوزين، فانتقلوا إلى معمل الفوسفاط، ليواجهوا ظلماً جديداً في عدم المساواة وهضم الحقوق والمس بالكرامة الإنسانية، فكأن الرواية أرادت أن تسوي بين كبير ملاك الأراضي والقوة الإستعمارية فكلاهما يأخذ الأرض ويمارس الظلم، ومن ثم وجب انتقادهما معاً على حد سواء، إلا أننا نلاحظ أن شخصية العربي أخا العطراء وصديق البطل المكي، يأتي من التجنيد في نهاية الرواية فيجد المكي قد توفى دون أن يتزوج بالعطراء وهي حلم حياته، فيكشف ما يسميه مكائد الشيوخ أو مذهب الشيوخ، وهكذا يحتفظ عبد الحفيظ بالعطراء لابنه الحفناوي ولا يظهر هذا الأمر إلا فجأة عندما يتوفى المكي مريضاً، لكن لا يسعد بها عندما تقوم العطراء فتنتقم لنفسها ولحبيبها وعلى طريقتها هي خلال سفرها إلى صفاقص.</SPAN>
* الرؤية والرواية:</SPAN>
تندرج رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف ضمن الرؤية غير المحدودة، وفي نمط الرؤية من الخلف </SPAN>vision par derriere</SPAN> </SPAN></SPAN>التي يمتلك فيها الراوي جميع فرص القص باعتباره أكبر من الشخصية في العلم فالراوي يروي هنا بصيغة ضمير الغائب المفرد عن البطل المكي وباقي الشخوص الروائية، فهذه العطراء تستيقظ من النوم يروي عنها الراوي بصيغة ضمير الغائب "العطراء"، العطراء، خرجت بنية في الثامنة من عمرها، ما تزال في بذلة نومها، تُميلُ رأسها وتعشش عينيها لتبصر بابن عمتها" "26".</SPAN>
ويقرأ الراوي ما يدور في نفس خديجة من تساؤلات وحيرة بعد طلاقها ومحاولتها الرجوع إلى زوجها علي الزبيدي، وخوفها من أخيها عبد الحفيظ الذي يرفض ارجاعها "بقيت تتساءل" لعل الحق معه؟ فنظره خير من نظرها، له الفضل والشكر لم تجد في نفسها أية ثقة، لو يتركها، وقد فارقها زوجها، ومات أخوها الصديق، فهل تقدر على المسك بزمام مصيرها؟ ألا تذهب حياتها أدراج الرياح؟...."27" فالراوي يسرد الأحداث بصيغة الضمير المفرد الغائب، ويقرأ ما في نفس الشخوص من تساؤلات لا تصرح بها، وهذا يمثل إحاطة الراوي الذي أصبح عالماً بما يخص الشخوص ويتعلق بها.</SPAN>
- طرق العرض: السرد والحوار:</SPAN>
1- السرد:</SPAN>
يستعمل الراوي تقنية التهيئة لما سيحدث من أحداث سعيدة أو غيرها ويمهد لحصولها، فهذه العطراء تنظر إلى طائر صغير في السماء وتسأله عن حبيبها المكي الذي رحل ولم يعد، فكأنها تتنبأ بعدم رجوع حبيبها إليها، وهو ما يحدث بالفعل في باقي أحداث الرواية، تغني العطراء أغنية رائعة في ذلك الزمان " ** "</SPAN>
"يا طويرة ماك تعليتْ</SPAN>
ثمش ما رأيت</SPAN>
كأنك على مولى بيتي</SPAN>
رحل ما ولا شي "28".</SPAN>
ومعلوم أن العطراء لا تلتقي بعد ذلك بحبيبها المكي إلا خفية في الليل عندما يتسلق جدار ممنزلها وتقدم له السلم للنزول، لأن عبد الحفيظ كان يرفض أي لقاء بينهما رغم أن المكي خطبها من أخيها العربي، ووظف الراوي التلميح لما سيحدث إلى جانب التنبؤ عندما توفى المولدي وتبر، وتركا أبناءهما العطراء ، والعربي في رعاية خديجة إلى جانب ولدها المكي.</SPAN>
تهدد خديجة ولدها الوحيد المكي أنها ستموت إن تمادى في احتكارها على حساب العطراء وبالفعل لا تعيش هذه الشخصية أحداثاً كثيرة إذ قارب دورها على النهاية، حتى تمرض فجأة وتموت "وهددته إن هو تمادى على احتكارها، تموت هي أيضاً فتلتحق بالمولدي وتبر هناك في الصورة فيبقى حقيقة بلا أم.... فلقد رأت الموت يعمل وجاش قلبها إشفاقاً وحناناً."29" </SPAN>
كما اتخذ السرد وسيلة جديدة للتلميح لما سيحدث من وقائع في الرواية، وهي الدعاء فبعد وفاة المكي وزواج العطراء من الحفناوي تدعو الله أن يمكنها من زيارة المدينة والتفرج عليها وعلى العباد فيها "ناجت ربها، ربّ يقولون إنك على كل شيء قدير، وأنا نؤمن بهذا، رب انظر لمخلوقتك العطراء نطلب المستحيل وما هو ما فش المستحيل في حقك، رب مخلوقتك العطراء، ع نطلبك تطلب مشية للمدينة أيه مشية هكاكه نشوف ونتفرج على العباد وعلى الدنيا... فقد استمع الله إليها."30".</SPAN>
ويتخذ السرد شكل التقرير، حيث يقرر الراوي معلومات لا تناقش بخصوص مسألة ما، يقرر الراوي الصفة التي تكون عليها علاقة المرأة بالرجل فيقول: "والمرأة من ناحيتها تعيش مع زوجها عيشة الريبة وعدم الإطمئنان، عيشة عدو مغلوب، فلاتدع فرصة إلا سرقته ولا غفلة إلا سحرته، ولا مناسبة إلا أضعفته لكي لا يتخذ عليها ضرة"31" وأورد الراوي تقنية الحلم في السرد ليضفي عليه جانباً مأساوياً وليلمح لما سيقع من أحداث، ينام المكي فيرى أمه خديجة في الحلم تبتسم له وتصلح بينه وبين العطراء، رغم أن خاله حفّة طرده من البيت، "وضع رأسه على حجر ونام. رأى أمه كأحسن ماعرفها صحة وابتساماً وطيبة، تصلح بينه وبين العطراء، وجد نفسه يشكو وهي تهدهده وتضحك من جزعه حتى فهم أن المسألة لا تستدعي كل هذا فاستحى مما به، انتبه فسقط في واقعه"32". واستخدم الراوي تقنية استبدال القص أو التواتر في القص بحيث يحكي عن موضوعين بالتناوب، وهكذا يحكي عن وقائع ليلة العطراء"33" ثم يوقف القص ويحكي عن وقائع أخرى هي زواج الحفناوي بامرأة أخرى "34"، ثم يرجع إلى إكمال تفاصيل ليلة العطراء "35" وهكذا.</SPAN>
2- الحوار:</SPAN>
أ- يلاحظ قلة مساحات الحوار بالنسبة لمساحات السرد الطويلة، التي طغت على معظم أجزاء الرواية، وحتى في فقرات الحوار القليلة تحاصرها التعاليق وتعقبها التفاسير المطولة، فأثناء الإضراب الذي يقوم به العمال في معمل الفوسفاط، تجري تساؤلات عن الجحشة التي قاطعت الاضراب يقول الراوي: أصبحت القرية في موكب مشطور خرج العملة للأخبار مهتاجي العواطف متوتري الأعصاب، السوق حافل كأنه الموسم، الأخبار تتوالى:</SPAN>
- الجحشة خدمت</SPAN>
- ما خدمتشي؟</SPAN>
- مشوا للوصيفَ؟</SPAN>
- ما مشوش</SPAN>
- نتعرض لهم</SPAN>
- ما نتعرضوش</SPAN>
طرق الأنفاق خالية، والقطار الذي ينقل العملة إلى الوصيف ينفخ وحده " "36"، فالحوار يجري بين أشخاص مجهولة من العمال ، وهو موجه إلى السامع، ولا يتوقف السرد عن أن يكون خلفية أساسية، يبنى عليها الحوار، ليكون هو الغالب في مساحة الرواية برمتها، وتأتي فقرات الحوار ثانوية فيها، ويأتي الراوي عنصراً ثالثاً في الحوار بما يقدمه من شروح وتعاليق.</SPAN>
ب- وهناك الحوار الداخلي أي المونولوج الذي يجريه البطل المكي مع نفسه بعد عشائه عند "لادت عبد القادر " وحديثه المطول مع خضراء وكانت متحجبة فإذا المكي يحاور نفسه، ويقارن بين الخضراء والعطراء وأرليت الإيطالية يقول مخاطباً نفسه: "الحمد لله هذا الوجه الذي تقتصدين في ابدائه، فعليك الأمان لو تبدين عارية من رأسك إلى أخمص رجليك، فإن لي دونك منشعلاً، تعلمين بعضه فما قولك في العطراء؟ تلك في البلد وأما هنا يا ليتك ترين أرليت، إذن فلا تتوهمين أن شفتك المرفوعة خطراً علي."37".</SPAN>
ج- وزين الراوي الحوار بأبيات من الشعر الشعبي باللسان الدارج، فعندما يسهر العمال في الكوخ يصيح سليمان أن هذه الليلة مبروكة وهم كلهم يتراقصون، "-أو الله ليلة مبروكة هذه: نظر إليهم الدبنجق وطرشق تصفيقة وركز قدمه ورفع رأسه وترنم:</SPAN>
هاي هي كنعمللو

</SPAN>

الحاج غليوم كطاح سعدو

</SPAN>

ألو ألو ألو ألو

</SPAN>

زيد قدم تربح قالو

</SPAN>

خرج القوم غناء وتصفيقاً ورقصاً على رجل واحدة كمثل الرقص الروسي..."*".
يا أميمة ما زلت صغير
</SPAN>

يوصل عمري للعشرين</SPAN>
أدوني للدردنيل</SPAN>
ذقت عذابو وأهوالو ألو ألو ألو ألو</SPAN>
زد قدم تربح قالو "38".</SPAN>
د- يسجل أن الراوي استعمل اللغة الدارجة كما لاحظنا وعلى نطاق واسع مما ترك آثار المحلية وطابع البيئة الواقعي واضحاً، وجاء الحوار في عمومه موجهاً إلى السامع وليس إلى المشاهد.</SPAN>
3- الوصف:</SPAN>
أ- يسجل أن الراوي استخدم أنواع من الوصف منها الإيحاء عن طريق الوصف التشبيهي، فيصف شيئاً ثم يشير إلى وصف وقائع تشبهه، حيث يصف الراوي علاقة ثنائي من الحمام يتبادلان الحب ثم يصف المكي والعطراء يتحدثان منفردين بينما المكي يصفف لها شعرها"...أدخل رأسه تحت جناحه وفتشه بمنقاره وهي تنتظره فهم بها ثم تشاغل بتخليل ذيله، ثم مشى ورأسه يصك وهي تتبعه، نظر بعين واحدة إلى فوق، فاقتربت منه وطلبت منقاره، فطار فلحقته ووقع في ناحية قريبة من السطح، وكأن الذكر فطن لرغبتها، وكأن الأنثى تتجنى فجعل يبقر ويجر ذيله، ثم ينظر لها ثم يبقر مكفكفاً نحو الأرض، فأدخلت منقارها في منقاره وأنشآ يتساقيان الحب كأنهما يملآن من بئر، دخلت خديجة فوجدت ابنها يصفف شعر العطراء وهما يتحدثان في رفق وإطمئنان، وعهدها بهما لا ينفردان وعهدها بهما لا ينفردان إلا وصراخ أحدهما يطلع إلى عنان السماء"39".</SPAN>
فكأن الراوي يوحي لنا بأن زوج الحمام يتساقى الحب، مثلما يفعل البطل المكي مع العطراء إذ يرتب لها شعرها ويحادثها، فتعدت علاقة الوصف من رسم لوحات فنية ومشاهد مثيرة إلى تشبيه لوحة بلوحة ومشهد بمشهد عن طريق الإيحاء والتلميح.</SPAN>
ب- ويقدم لنا الوصف للأشياء لوحات جميلة إنه وصف للمدرسة الفرنسية، وما توحيه هذه اللوحة من مؤثرات أجنبية وشدة انضباط وجمال المدرسة بمرافقها، وكان المكي تعلم القرآن في الجامع حتى أصبح قادراً على إقامة صلاة التراويح بالمصلين في رمضان، وها هو يدخل الآن هذه المدرسة الفرنسية يقول الراوي:"أرض ساحة الكوليج حصباء دقيقة، وجدرانها نظيفة البناء، مستقيمة الأركان، ملساء يكسوها نبات متسلق، تعج بالتلاميذ، وفي وسط الساحة السادة المعلمون يحيطون بالمسيو لافو مدير المكتب"40"</SPAN>
ولما دخل المكي القسم الدراسي انبهر به وأحب اللغة الفرنسية، وأصبح غالب كلامه بها" أراه مقعداً، فجلس وكتّف يديه، ينظر إلى النوافذ والصور التي بينها ويتصور نفسه في المتلوي، بلد الحضارة، ولما عاد منه، يومه الأول صاح من السقيفة:" مانج لادات، أي أكل التمر، وأصبح غالباً كلامه بالفرنسية "41" فالمدرسة الفرنسية ضمنت جمالها ودقة بنائها ونظامها في اللوحة الفنية، كما ضمنت تأثيرها المتغلغل في النفوس حيث أصبح المكي يدير غالب كلامه باللغة الفرنسية بعد رجوعه إلى بلدته نفطة.</SPAN>
ج- يقدم لنا الراوي وصفاً دقيقاً لعمليات تصفية معدن الفوسفاط وإعداده للصناعة، يتفرج عليها المكي والعربي بعد أن سمح لهم مسؤول المصنع بذلك، يتفرجان على معدن الفوسفاط وهو يصل إلى المصنع وكيف يعالج "يؤتى به في عربات على السكة بعد اقتلاعه من الجبل مخلوطاً بالتربة والحجارة، فينكب في قمعٍ واسع يسميه العملة "الدريبة " ثم تحمله سلسلة من القواديس تصبه قليلاً قليلاً بين عجلتين تسحقانه وتسلمانه ناعماً إلى البساط الساري، فيحمله ويسكبه في غربال هناك يبخ عليه من فوهتين تيار ماء فيغسله، فينزل الوسخ والحصال إلى أسفل، ويدفع بالفوسفاط صافياً في ثقب الغربال فيقع في البساط فينزل به إلى حيث تقطر عليه عقاقير كيميائية، كمثل القطران ويخضه لولب حتى يختلط بالسواء وتستمر رحلته إلى برمة في حجم أربع قاطرات يسمونها" الحماصة" يتقد في جوفها أتون تبلغ حرارته ثمانمائة درجة قد أبيض جمره الحجري وتراقصت فيه زيقات تأخذ بالبصر، فيجف، ثم يصعد به البساط إلى مستودع فيتكوم جبلاً سحابي اللون ناعماً وتمر من تحته العربات فارغة"42".ويسجل أن الوصف الذي اختلط مع السرد رسم لوحات رائعة، زينت ثنايا الرواية، وأعطتها نكهة خاصة ومذاقاً عذباً، ينقل الواقع بكل فعالياته وطبيعته، ونقل لنا الوصف المؤثرات الغربية على البيئة العربية التونسية وما خلفته من "كوليج" أي مدرسة ومعمل عصري للفوسفاط تتبع الوصف عمليات تحويل المعدن فيه.

ايوب صابر 04-28-2012 12:19 PM

البشير خريّف
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة


البشير خريّف هو البشير بن إبراهيم خريّف ولد بمدينة نفطةبالجريد التّونسي في 10 أفريل1917، وتوفي بتونس العاصمة في 18 ديسمبر1983 وبها دفن [1] [2] ، أديب وروائي وكاتب قصصي تونسي.
نشأته وتكوينه</SPAN>

عاش البشير خريف في وسط عائلي يهتم بالأدب حيث كان أغلب إخوته فضلا عن أبيه من أهل الأدب والشعر [3]، فقد كتب والده الشيخ إبراهيم خريف عن تاريخ الجريد، وكانت أختاه تنظمان الشعر باللهجة العامية، وبرز أخواه محمد الناصروالبشير على الساحة الأدبية حيث كان الأول أديبا وكان الثاني شاعرا [4] نشر ديوانين هما "الشعاع" و"شوق وذوق".
انتقل البشير خريف مع عائلته من الجريد إلى العاصمة لتقطن بأحد أحياء المدينة العتيقة ولم يكن له من العمر آنذاك إلا ثلاثة أعوام [5]، ثم دخل مثله مثل إخوته الكُتّاب، ثم التحق بمدرسة قرآنية فمدرسة دار الجلد والمدرسة العلوية حتى عام 1934 [1] إذ فصل عنها. وفي عام 1937 عاوده الحنين إلى التعلم فدخل مدرسة الفلاحة بسمنجة التي غادرها في نفس العام ثم أخذ يتردد على دروس المدرسة الخلدونية حتى تحصل على شهادة البروفي، ثم شارك في مدرسة العطارين للغة العربية فأحرز على شهادة انتهاء دروسه عام 1947.
حياته العملية</SPAN>

في بداية حياته المهنية، مارس البشير خريف صناعة صناديق حلوى الحلقوم وصناعة الشاشية ثمّ احترف التّجارة بسوق القبابجية طيلة خمسة أعوام من 1942 إلى 1947، فكان يبيع الأقمشة الصّوفية والحريرية ويتأثّر بجوّ الحياة التّقليدية في ظلال الأسواق العتيقة. في الأحياء الشّعبية بالعاصمة فتنطبع مشاهد منها في ذاكرته لتخرجها مخيلته من بعد لوحات قصصية طريفة. ثم بعد نجاحه في امتحان شهادة انتهاء الدراسات العليا غادر مهنة التجارة ليباشر مهنة التدريس وتنقل بعائلته من السند إلى أريانة ثم إلى عين دراهم فإلى فرانسفيل (العمران حاليا) حتى أحيل على التقاعد المبكر عام 1966، وقد كلف في الأثناء بمهمات إدارية وثقافية في الدواوين الحكومية وفي الإذاعة والتلفزة التونسية[1].
الأديب</SPAN>

كان البشير خريف يقبل على قراءة كتاب السيرة لابن هشام وكتاب الأغانيلأبي الفرج الأصفهاني، وكان يدرس التاريخ التّونسي وخاصة القرن العاشر الهجري. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يخالط رجال الثّقافة والأدب والفنّ وكانت له مجالس أدبيّة و ثقافيّة منذ أن كان مولعا بمجالس الشيخ العربي الكبادي و كان يجتمع بالأدباء بمقهى المغرب و بنادي الثّقافة ابن خلدون و كان من مؤسّسي نادي القصة التّابع للثّقافي أبي القاسم الشّابي بالوردية [2]. وفي أواخر عام 1958 انضم إلى أسرة مجلة الفكر بنادي قدماء الصادقية إلى جانب مديرها محمد مزاليوالبشير بن سلامة وأخيه الشاعر مصطفى خريف والأديب زين العابدين السنوسيومحمد فريد غازي وغيرهم. وعن طريق هذه المجلة عرفه القراء في قصته "إفلاس أو حبّك درباني" التي مزج فيها الفصحى بالعامية فكانت عرضة للانتقاد. كما نشرت له مجلة الفكر:
  • "النقرة مسدودة"، 1959؛
  • "خليفة الأقرع"، 1965؛
  • "رحلة الصيف"، 1970؛
  • "محفظة السمار"، 1970.
آثاره</SPAN>

لقد كتب البشير خريف المقال والقصة القصيرة والرواية والمسرحية، وترجمت آثاهة إلى اللغات التالية: الفرنسيةوالروسيةوالإسبانية [6]. ومن مؤلفاته [1]:
  • برق الليل، الدار التونسية للنشر، تونس، 1961، وهي رواية نال بها جائزة بلدية تونس لعام 1960.
  • الدقلة في عراجينها، الدار التونسية للنشر، تونس، 1969، وهي رواية اعتبرت من ضمن أفضل 105 رواية عربية من قبل اتحاد الكتاب العرب بدمشق [7].
  • مشموم الفل، الدار التونسية للنشر، 1975. (مجموعة قصصية)
  • حبك درباني، شركة فنون الرسم، تونس 1980، وهي رواية، صدرت على حلقات في مجلة الفكر.
  • بلارة، وهي رواية صدرت بعد وفاته من تحقيق فوزي الزمرلي.
وفي عام 2009 قامت دار الجنوب للنشر تحت إشراف وزارة الثقافة والمحافظة على التراث بنشر أعماله الكاملة في أربعة أجزاء، تضم رواياته وقصصه القصيرة وأقاصيصه ومسرحياته ومقالاته ورسائله وحواراته وقد جمع تلك الأعمال وحققها وقدم لها فوزي الزمرلي [8] [9].
تخليدا له</SPAN>
  • ينظم بنفطة ملتقى يحمل اسمه "الأيام القصصية البشير خريف"، وقد انتظمت الدورة الخامسة فيما بين 12 و14 فيفري 2010 [10]،
  • كما سميت عليه عدد من المؤسسات التربوية: منها مدرسة إعدادية بمدينة المحرس من ولاية صفاقس، معهد ثانوي بمسقط رأسه بنفطة.
  • ويطلق اسمه أيضا على دار الثقافة ب السيجومي بالضواحي الغربية للعاصمة التونسية.
مراجع</SPAN>
  • أحمد الطويلي، البشير خريف حياته ورواياته، دار بوسلامة للنشر، تونس 1983.
  • فوزي الزمرلي، الكتابة القصصيّة عند البشير خريّف. تونس – ليبيا – الدار العربية للكتاب 1988.
  • فوزي الزمرلي ومن معه، البشير خريّف في عيون النّقّاد، نشر [اتحاد الكتاب التونسيين]]، تونس 2003.
  • حسين العوري، ندوة البشير خريف وتطور القصة التونسية، بن عروس، 1997.
من أعلام آل خريّف أيضا</SPAN>
إشارات مرجعية</SPAN>


ايوب صابر 04-28-2012 12:23 PM


البشير خريف
ولد الكاتب القصصي البشير خريف سنة 1917 بنفطة بالجريد التّونسي وهو شقيق مصطفى خريف صاحب ديواني "الشعاع" و"شوق وذوق" تعلم بالكتاب ثم التحق بمدرسة قرآنية فمدرسة ار الجلد والمدرسة العلوية التي فصل عنها وركن للكتابة يتسلّى بها.
ثم عاوده الحنين إلى التعلم فدخل في سنة 1937 مدرسة الفلاحة بسمنجة التي غادرها في نفس العام ثم أخذ يتردد على دروس الخلدونية حتى تحصل على شهادة البروفي ثم شارك في دروس معهد الدراسات العليا فأحرز على شهادة انتهاء دروسه.
وفي بداية حياته العاملة مارس صناعة صناديق الحلقوم وصناعة الشّاشية ثمّ احترف التّجارة بسوق القبابجية طيلة خمسة
أعوام من 1942 إلىسنة 1947 فكان يبيع الأقمشة الصّوفية والحريرية ويتأثّر بجوّ الحياة التّقليدية في ظلال الأسواق العتيقة
وفي الأحياء الشّعبية بالعاصمة فتنطبع مشاهد منها في ذاكرته لتخرجها مخيلته من بعد لوحات قصصية طريفة.
تزوج البشير خريف سنة 1938 وهو في سنّ الثانية والعشرين وفي سنة 1947 وبعد نجاحه في امتحان شهادة انتهاء الدراسات العليا غادر مهنى التجارة ليباشر مهنة التدريس وتنقل بعائلته من السند (على بعد خمسين كيلومتر من مدينة قفصة) إلى أريانة ثم إلى عين دراهم فإلى فرانسفيل (العمران حاليا).
كان يقبل على قراءة سيرة الرسول لابن هشام و"الأغاني" لأبي فرج ويدرس التاريخ التّونسي وخاصة القرن العاشر الهجري.
وانضم في أواخر سنة 1958 إلى أسرة مجلة "الفكر" بنادي قدماء الصادقية إلى جانب أخيه الشاعر مصطفى خريف والأديب زين العابدين السنوسي صاحب كمجلة العالم الأدبي" والأستاذ محمد مزالي مدير مجلة الفكر والأستاذ الباحث محمد فريد غازي.
وعن طريق مجلة "الفكر" عرف القراء البشير خريف في قصته "إفلاس أو حبّك درباني" التي مزج فيها الفصحى بالعامي فكانت عرضة لانتقاد المحافظين لكن خريف واصل نشر رسالته الأدبية بعزيمة المؤمن التي لا تفتر.
من مؤلفات البشير خريف :
  • نخال بية: صحيفة الزمان-1936
  • ليلة الوطية: صحيفة الدستور-1937
  • حبك درباني: مجلة الفكر-1958
  • النقرة مسدودة: مجلة الفكر-1959
  • خليفة الأقرع: مجلة الفكر-1965
  • رحلة الصيف: مجلة الفكر-1970
  • محفظة السمار: مجلة الفكر-1970
  • الدقلة في عراجينها: الدار التونسية للنشر-1959.
  • برق الليل: الدار التونسية للنشر-1961
  • مشموم الفل:الدار التونسية للنشر- 1975

ايوب صابر 04-29-2012 11:09 AM

- يطرح الكاتب في هذه الرواية "الدقلة في عراجينها" مسألة الأرض كينبوع للمأساة الإجتماعية ويتبعها بطابع تسجيلي انتقادي بمعنى أن عديداً من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكيء على الانتساب الحزبي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات
- البشير في الحديث عن الموت والمتنقضات وتحدث عن مشاكل المجتمع والصراعات المتعددة بشكل ممتاز.
- لا تتوفر تفاصيل عن حياتة لكن الظروف العامة التي عاشها واثر الحروب العالمية في زمنه والاستعمار على تونس ربما جعلت حياتة حياة ازمة ونلاحظ انه انقطع عن الدراسة ثم عاد اليها وفي ذلك ما يؤكد على وضع الازمة في حياته لكننا سنعتبره مجهول الطفولة.

مجهول الطفولة.

ايوب صابر 04-30-2012 07:44 AM


69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس

النخاس

المصدر : ملحقثقافي- 28/2/2006م - لصلاح الدين بوجاه
صدرت عن دار الحوار في اللاذقية الطبعة الأولى من روايةالنخاس للكاتب التونسي صلاح الدين بوجاه وهي تتألف من مجموعة فصول وتقع في 022 صفحةمن القطع المتوسط.
في روايتهالجديدة يجمع بوجاه صور الحلم، من خلال الانفتاح على الاساليب السردية الروائيةالقادمة من التراث العربي ،و لاسيما تراث الف ليلة وليلة.ففي الرواية الواحدة تتداخلالاحداث والحكايات لتطرح اسئلة وافرة وذكية ومثيرة يمكن ادراجها كموقف حياتي وجماليوثقافي، يساعد على الاستمرار في الحياة الراهنة رغم كل الغربة والمرارة والانكسارالذي يلف الواقع اليومي المصاب بلعنة الحروب المتواصلة والمتفتجرة دون مبالاة. جاءفي الكلمة المنشورة على الصفحة الاخيرة: ليست النخاسة في هذه الرواية بيع الرقيق،بل ولوج حياة الآخرين، وشرح صدورهم والنظرفي دخيلة امرهم ومكنون صمتهم، ثم رتقوجودهم الغبي الصامت المنكفيء على مافيه. والنخاسة ايضاً كما تجلوها هذه الروايةهي،تجارة اسرار وفيض خوارق حكايات واحداث مما ترك إلا ولون، وقائع واوهام، وبالتاليفالنخاس هو الرحالة الذي لايستقر ،والشاعر نخاس وهم وهو يرسل الظاهر على الباطنوالباطن على الظاهر ويدرك الجهر بالسر،و النحات نخاس صخر وطين،والنخاس ايضاً هو كلمن اقبل ذهنه او يده على تحويل الشيء من حالة الى اخرى. بهذا المفهوم ينسج الكاتبالحكايات التي ترسم حيوات واحداث سفر المسافرين في السفينة من تونس الى ايطاليا،حيث تشتبك اسئلة الشمال والجنوب ،ووعي الذات والعالم، والطبيعة والروح والجسدوالكتابة. وحيث يتلاقى فن التوريق (الارابيسك) والتاريخ والتراث السردي، كما تتلامحالف ليلة وليلة في مغامرة جديدة وفاتنة من مغامرات صلاح الدين بوجاه الابداعية.‏


==
تدور الأحداث فى رواية " النخّاس " على ظهر السفينة الايطالية " الكابو – بلا " حيث يسافر الكاتب الأديب " تاج الدين فرحات " سندباد القيروان وأديبها، والحالم بأوراق العمر، والعاشق لرائحة الورق والحبروالجلد، والباحث عن الحقيقة المضنية، والذى يعالج الكتابة ويعشق الخلوة ويطيل السهر ويمنى نفسه بجائزة حياته الأدبية . يسافر من مدينته القيروان إلى جنوا آملا الحصول على مبتغاه . وفى الطريق تبدو السفينة وكأنها مثقلة بالأسرار وحافلة بالغرائب ومليئة بشخوص وإن بدت قليلة على ظهر السفينة إلا إن وجودها وسط هذه البحر الغامض المتلاطم رمز إلى الحياة باستيهاماتها ومواطن الضعف فيها والقوة .
ويتجول تاج الدين داخل هذا العالم الملغز العائم فوق المتوسط باحثا ومنقبا، فيصطدم أول ما يصطدم بالمرأة حين دخل المرقص وجدها أمامه عفية باهرة : " لبث برهة منجذبا مثل مريد فى الحضرة، ثم أخذ يدنو من المرقص .
رآها .. أنثى سمراء رائقة تهتز، تسطو على لهفة الرجال المتوثبين، تثير صلف النساء، تدعو، ترتد إلى ذاتها، وعيناها جمرتان " (7) . ولأن لعبة المعرفة كانت لعبته المفضلة فقد إنجذب ناحيتها، وبدأ فى قراءتها قراءة متأنية عله يصل من خلالها إلى ما يشفى غليله أو يرضى بواعث فضوله : " لعبة المعرفة والألم تغويه، تثير فطنته وغباءه وتشحذ جنونه، وهذه الراقصة يعرفها، هل صادفها فى بعض مغاور الرهبان فى جبال كريت، أم سقته لبنا أبيض فى بعض مغاور مضارب الرحل فى الصحراء الليبية، أم أمسكت يوما بذراعه فى صلف رومانى وقادته إلى والدها ليبارك بعض انتصاراتهما المتبادلة فوق هذه الأرض أو تلك ! " (8) . وللمرأة مع تاج الدين فرحات جولات وصولات، فالذى علمته " النخّاسة " كانت امرأة اسبانيولية من بائعات الحرير و " الدنتيل " ومشابك الصدف، تعرف عليها فداورته وتركته تائها فى خضم الحياة بعد أن ألجمته معنى النخّاسة وبواطن أمورها، كما سبق له أن تعرف على امرأة فى صباه كانت تسكن بيتا واطئا من بيوت نهج خلف الجامع الكبير، علمته فنون الغنج والمداورة، وكانت تهتف له قائلة وهى تتثنى راقصة فى " : أطوار حياتنا هذه، ألا ترى الدنيا بيتا مرصودا كالمتاهة داخله مفقود والخارج منه مولود ؟ ". (9) . إن هذه المتاهة التى حدثتها عنه هذه المرأة تشبه إلى حد كبير " متاهة بورخيس " حيث تتوالد حكاياتها وتتناسل خرافاتها وأوهامها وملاحمها وكأن بينها وبين " نخّاس " النص تماثلا وتقابلا فى المعنى والمبنى، وكان للنساء فى نفسه مكانة لا تبارى جاء ذلك من خلال وصفه للفتاة " لورا " أبنة القبطان " غابريللو " ضمن الذين وصفوا فتنتها وجمالها، عندما مرت أمامهم لتنزل القارب إلى الماء ولعل ذلك كان هو المعبر عما يجيش به صدره نحو هذه الفاتنة اللعوب ونحو كل النساء اللائى على شاكلتها : " ليس الخبر مثل العيان ! صغيرتى بيضاء حبيبة رائقة مثل مرجان الخرافة، شعرها من ذهب الحكايات القديمة، وعيناها مثل يمامتين على حافة الجدول . ليس الخبر مثل العيان ! خدّاها مرسلان فى زعفران المدى ولبن الأنهار المعبقة، حبيبتى صغيرة لدنة مطواع، وليس الخبر مثل العيان ! فاذا ما وضعت أفضل ثيابها وهى تتهيأ للخروج مساء فى العاصفة والنوء، مضى عطرها يفوح كالسيف، فالعاصفة تجعله أقوى وأكثر نفاذا، والعاصفة تشحذ غلمة الأنف، وليس الخبر كالعيان ! " (10) .
ويبدأ الصدام الحتمى بين " النخّاس " تاج الدين فرحات وبقية شخوص النص على ظهر السفينة خاصة القبطان " غابريلو كافينالى " هذا الرجل العجائبى المخاتل الذى ترك مهنة طب الأسنان وتعلم فنون البحر والمخاتلة والسحر والشعوذة ، وأبنته لورا الفتاة اللعوب التى تحاول بشتى الطرق فك الألغاز التى تحيط بالسفينة خاصة ما كان يخبئه أبيها فى غرفة القيادة وغرفة المومياء المحنطة والغرف السبعة الأخرى المغلقة على أسرارها، وعبدون القبايلى تاجر الحرير، والأمير عبد الله الغريب، وشريفة الزواغى القيروانية التى هى فى الأصل الجارة " زينب " التى كانت تجاور أبو محمد عبد الوهاب والتى نبشت تابوت المومياء وأغوت خدم المطبخ داخل السفينة، والتى كان يحوم حولها الأمير عبد الله الغريب، كذلك جرجس القبطى، والناصر التيجانى جزار السفينة، والراقصة لولا الفاسية التى ولدت بفاس وعاشت فى باريس وتزوجت قبرصيا من الإسكندرية .
وتتوالى الفصول والحكايات مع نسيج النص وكأننا مع شهرزاد فى ألف ليلة وليلة تعمل فينا عملها الحكائى المثير للدهشة والأبهار . فى لغة لها من قوة المفردات وتأثيرها التراثى الفعال ما يعّول على قوة الشكل السردى مما يجعل أصالة المعنى يمتزج بنسيج حداثة الفن الروائى ليكّونا لنا كما قال الشاعر منصف الوهايبى فى مقدمة الرواية نصا معقدا معنى ومبنى : " هذا النص متراكبا مبنى ومعنى ومغنى يصنعه صاحبه، مؤلفا وساردا . وقد يتلاشى الصنيعان حتى ليستعصى تمييز الفروق الدقيقة بينهما ... أو إظهار ثوابت فعل كل منهما " (11) . فما يكاد الفصل يثير فينا غريزة البحث والإثارة والترقب حتى ننتقل إلى فصل جديد يبدأ بحكاية أخرى تاركة أيانا مع الفصل الأول فى حيرة من أمرنا، لا نكاد نفرغ من الأثارة والتشويق فى موضع من النص حتى نفاجأ بمعالم جديدة وشخوص أخرى غريبة، ونسيج سردى يحمل داخله أمرا جديدا محيرا . وهى سمات البنية التراثية التى تواجدت فى العديد من النصوص القديمة ذات الأبعاد الشعبية والصوفية والتى استحضرها الكاتب ليضئ بها معالم الطريق السردى داخل هذا النص . وهو فى حكاياته المتواترة يعتمد على العديد من الفصول المهيئة لتحميلها بحكايات الشخوص والمواقف والصعاب والأهوال التى قابلتها شخصيات النص عبر مواقفها المختلفة واللعنات التى صاحبت شخصيات تاج الدين فرحات والقبطان ولورا وارتطامهم ببعض فى أكثر من موقف ، وموقف البحر وعواصفه وسمك القرش الذى كان مصاحبا للسفينة فى سيرها مما كان يثير الكثير من التساؤلات الغريبة، وطير النوء ودلالات تواجدها فى محيط المكان دائما وسيرها تجاه وجهة السفينة ، والفهرست الأول الموضوع لأخبار النخاسين من المحدثين والغابرين ممن عرفوا طريق الماء والبحر، ومواقف تاج الدين المتلصصة وسرقة أدواته ومخطوطاته منه ثم عثوره عليها مرة أخرى، وكثير من المواقف التى تعرضت لها الشخصيات ، وقد لخص الكاتب فى نهاية النص هذه المطاردات التى مرت بكل الشخصيات فى مواقفها مع نفسها وتجاه الآخرين معبرا بذلك عن مضمون النص ومعادله الموضوعى : " مطاردات جمة تنشأ داخل المركب وخارجه : " لورا " تطارد والدها التائه المقبل على الهلاك، تاج الدين يطارد مخطوطات رواياته وكشاكيله ومسودات فهارسه التى اختلسها غابريال يوم كان مولعا بأخبار الوهم وحكايات الغابرين، المسافرون يطاردون تاج الدين بحثا عما تحويه مصنفاته من حكمة يمكن أن تنير سبيل الضارب هذا الماء المعتق فى متاهة ضياع ليس لها قاع، طير البحر يطارد القرش، والقرش يطارد سمك " الاربيان " الصغيرة اللامعة ! الكواكب السيارة بعضها يطارد البعض، وقليلها يغوى كثيرها، وشرها يكافئ خيرها، ومخالبها تنشب فى اطرافها، وقديمها يدرك محدثها ... ! " (12) . لقد كان واحد من هذه الشخصيات المطاردة والمطارده يحاول أن يجلو موقف أو يثير فضول شئ ما هو مغرم به وهو معنى قريب من معنى " النخّاسة " إن لم تكن هى النخّاسة الحقيقة فى هذا النص الذى اعتمد على الغرائبية فى المضمون والبطولة فى اللغة والتجريب فى الشكل الحداثى للرواية .
ولا شك أن البناء الفنى للنص والمتحلق حول اللغة التى استخدمها الكاتب يكاد يتكأ أساسا على معطيات الأشياء المسرودة داخل المعالم التراثية الموجودة فى إطار المدونات والمخطوطات المحتفى بها فى نسيج النص، وهى سمة طبعت النص بخصوصية تناثر الأشياء فى كل مكان . ولا جرم أن احتفاء الكاتب بهذه الخصيصة نابع من اهتمامه المستمر على مدار النص والنصوص الإبداعية الأخرى فى عالمه الروائى والقصصى بل والنقدى أيضا بهذا الموضوع وكأنه مغرم بجمع الأشياء وترتيبها فى قاموس عبثى خاص يحمل داخله معانى ودلالات الواقع الذى يعبر عنه فى نصه الإبداعى، ودلالة ذلك هو أن اطروحته النقدية التى سبق ان نشرت فى كتابين تحت عنوان الواقعية الروائية ، وقد حددها الكاتب عن دراسة الأشياء فى بعض أعمال الرائد التونسى على الدوعاجى ونجيب محفوظ وصبرى موسى والطيب صالح ، وكان عنوان الكتاب الأول " الشئ بين الوظيفة والرمز " وعنوان الكتاب الثانى " الشئ بين الجوهر والعرض " وهو فى ذلك يقول فى مقدمة أطروحته : " يكاد لا يخلو نص روائى خلوا تماما من الأشياء . وإنما يكون حظ هذا أو ذاك منها بحسب التقاليد الأدبية السائدة والدوافع الفردية والجماعية الكامنة فى صلب شخصية الكاتب والموجهة لأختياراته الواعية واللاواعية . فالرواية نوع أدبى يقوم عامة على محاكاة الواقع المرجعى . وبما أن الإنسان يعيش بين الأشياء ومعها وفيها فمن المنتظر بداهة أن يتجلى ذلك عبر البناء الفنى المفرز للواقع الروائى الداخلى . ولقد عبر عن ذلك الكاتب الفرنسى آلان روب جرييه وهو أحد الوجوه البارزة إبداعا وتنظيرا ضمن مدرسة الرواية الجديدة فى فرنسا ، ملاحظا : إنه الطبيعى ألا توجد فى كتبى إلا الأشياء ، وإن ذلك لشأنها فى حياتى : أثاث غرفتى ، الكلام الذى أستمع اليه ، أو المرأة التى أحب " (13) .
لذلك نجد أن صلاح الدين بوجاه فى رواية " النخّاس " يحتفى بتواجد الأشياء قدر إحتفائه بلغة هذه الأشياء ، ففى كل موضع من فصول النص نجد أن كثيرا من الأشياء تتناثر على الورق وكأنها لوحة سيريالية معبرة تحوى العديد من أشياء قد تكون متناسقة وقد تكون متنافرة ولكنها تشكل أبعادا وخطوطا تخدم الموقف وتحيط الشخصيات بسمات خاصة من هذا التشئ يعبر عن واقعها وسيكولوجيتها فى نفس الوقت ، والنص يحتوى على كثير من هذه التجمعات الوصفية للأشياء التى استخدمها الكاتب فى تأطير العديد من الجوانب الدلالية فيه : " أما الزوايا والكوى والرفوف ومقاصير الغرفة الداخلية فملأى بالمشارط المنسية وأحزمة المطاط وقطع الزجاج الحادة المشحوذة وبشتى أنواع الأوانى من خزف وزنك ورصاص وقصدير وخشب مطلى، فضلا على العلب الملونة وحقق العاج المنقوش ولفافات الكتان والحرير والبردى والتبغ ومجففات ورق العنب والتوت و " الكافيا – فو " اليابانية ذات الشذى العنبرى الرصين، وشتات من قطع الصندل والفلين وكرات غبرة " التلك " البيضاء والمعادن والأسنان وشظايا عظام الفك ومربعات اللادن وبقع الدم المتجمد وأصناف المحنطات وضروب شتى من الحناجر وقنانى العطور القديمة حيث تكاد لا تلحظ غير ثمالة عطر قد جفت أسفل الزجاج واتخذت لون الصفرة الداكنة وفاحت منها رائحة الصمغ اللزج ورطوبة المحلات الموصدة التى لا يدخلها الهواء ولا تنفذ إليها الشمس ولا يهذبها حضور البشر .. " (14) . ولعل تكرار هذه التجمعات الشيئية فى أكثر من موضع من نسيج النص قد قدم لنا ثراء تأويليا لما يريد أن يجسده الكاتب فى هذا المناخ الغرائبى الذى يبدو سيراليا فى بعض المواقف . كما الأضافة الملموسة فى هذا النص هو تواجد العديد من سمات الحداثة داخل النص وهو ما يمثل تناصا فى بعض المواقع والمواقف مثل توظيف بعض المقاطع من الأغانى الشعبية التونسية، والتعبير المجازى لنصوص رامبو وبودلير بلغتها الأصلية دون ترجمة ، وبعض المقاطع التقريرية التى احتفى بها الكاتب بهذه الطريقة مثل التقرير الفنى الذى كتبه كبير مهندسى السفينة " الكابو – بلا " أثناء إصلاحها .
وفى حوار خاص تم مع صلاح الدين بوجاه حول عالمه الروائى ليس فى رواية " النخّاس " فحسب، بل وفى باقى إبداعاته القصصية والروائية .. يقول صلاح الدين بو جاه : " إن الكتابة باب مشرع على الهاوية ! لذلك يحلو لى أن امعن تيها فى القيروان القديمة، فى مقام " سيدى فرحات " فى اضرحة الأولياء وخلواتهم .. لو عشت فى زمن آخر منذ قرن أو قرنين مثلا لكنت من دراويش الحضرة وقتئذ، لهذا لا أميز كثيرا بين المجذوب والشاعر والكاتب والمحلل النفسانى، لا أميز كثيرا بين تلك التخوم الغامضة المحببة إلى نفسى والقريبة منى .. تلك التى تقول غربتى وغربة شخوصى . فشخوصى ليست أنا، إنها كائنات من لغة وتخاييل، لكنها تعبر عن دهشتى وخوفى وجنونى !
وبناء عليه فأنا مسكون " بالمعرفة " فى أوسع معانيها وأضربها سهما فى الواقعى والغرائبى أيضا ، لهذا تكون المدن القديمة والنساء وغرف النزل البعيدة والشواطئ الخالية من اروع المراقى إلى الخلوة التى تحملنى إليها موجدتى ويؤدى بى غليها وجدى ويغرينى بها وجدانى !
و " النخًاس " يختزل هذه المدارات بالنسبة لى، لقد أردته : " سرّاق صور وتخاييل ورؤى " ، وأردته تائها باحثا منقبا ، لقد أردته أن يكون مجنون معرفة ، إنها تلك المعرفة التى تطوحنى بعيدا فى ذهن الآخرين أو فى أجسادهم . ولعل " الغرفة السابعة " التى جاء ذكرها فى الرواية كانت هى الكتب والنساء والشواطئ البعيدة والنزل الخالية التى شاءت الحكاية القديمة أن تتركها موصدة .. لأحكام الغواية ولمزيد من الإغراء لحدوث التوقف والصبوة والمعرفة (15)

ايوب صابر 04-30-2012 07:46 AM

صلاح الدين بوجاه ومرآة النقد:
" النخاس " ونقاد ثلاثة
تعد رواية " النخاس " للروائي التونسي المتميز صلاح الدين بوجاه، واحدة من الروايات التي وصلت إلى ذروة الاغتراف من التراث السردي القديم، ومحاولة إعادة تشكيله في ضوء معطيات جمالية وأسلوبية ودلالية تعبر عن التراسل بين الماضي والحاضر، من خلال صهر فنيات السرد القديم بجماليات الإبداع الروائي المعاصر، بحيث لم ينبت الوعي الروائي الحديث عن شجرة نسبه البكر الكامن في أوليات الحكي لدى القدماء، حين تراسلت لديهم فنون الشعر والمشهد الحواري، إلى جوار صناعة الخبر و المقامة، لتكون هذه الفنون في كليتها العميقة نزعة إنسانية تصب في مجر أوسع يعبر عن مبدأ راسخ يشير إلى أهمية السرد.
ومن هذا المنطلق الذي يصل بين الماضي والحاضر، بواسطة استرفاد الجوانب الحية في تجربة السردية العربية القديمة، نبتت أفكار بوجاه التي تصوغ وعياً جديداً لسرد مغاير، يستلهم قصص العرب ورواياتهم وأخبارهم وأيامهم وخيالاتهم وبطولاتهم لينسج من جملتها مدونته الرواية، ويصوغ من خلالها مفاهيمه الروائية الخاصة حول الرواية اللغوية أو رواية الواقعة اللغوية، والتي تستند إلى وعى عميق بمكونات الماضي القادرة على الحضور وإعادة التوظيف.
وإذا كان التشديد على التمازج بين فن السرد القديم والرواية الحديثة على هذا النحو من البروز في تجربة صلاح الدين بوجاه الروائية على الصعيدين النظري والإبداعي فلن تكون مغادرة هذا الملمح أو تجاهلها من قبل مرايا النقد الروائي، ومن هنا وجهت الكتابة النظرية والإبداعية الخطاب النقدي الدارس له نحو العصب المركزي الذي تصب فيه البؤرة المركزية لخلاصة تجربته الروائية، ولعل تتبع مرايا النقد العاكسة لعناصر رؤيته كما تبدت في ذراها من خلال رواية " النخاس " ما يكشف عن تقارب الفضاءات النقدية وتقاطعها إزاء عناصر محددة تمثل نقاط إجماع بين نقاده على أهميتها في تشكيل هذا التقارب مع التراث السردي إن العودة إلى تقديم منصف الوهايبي للرواية ودراسة د. عبد الله أبو هيف عن استلهام التراث السردي في روايات بوجاه، بجانب دراسة د. صبري حافظ عن الرواية والتي بعنوان (متاهة اللغة، مرآة الرواية) ، جميعاً تكشف عن تجاوب بين أفق التوقعات النقدي، وتقارب في توصيف العناصر المكونة لضفيرة السرد في " النخاس "، وتغرينا عمليات التلاقي بين هؤلاء النقاد في التقاط الملامح المائزه للرواية بتتبعها لدي كل ناقد منهم.

في تقديمه " النخاس " يلمح منصف الوهايبي صلة الرواية بشجرة نسبها العريقة التي تنبع من تربة التراث الإبداعي العربي الثرية، وفنونه البواحه دائماً بعبق الماضي فما تتدثر الرواية به من سمات التفريغ من الأصول و التعريج عن الفروع وإدراك التشعيب غايته، يمثل وشيجة عجيبة تقربها إلى فن " التوريق العربي " أو ما اصطلح عليه مؤرخو الفن الأوربي بلفظة الأرابيسك، ففي (النخاس) أشتات من الأمشاج والصور المستمدة من التاريخ وسيره، تتقاطع مع سيرة بوجاه ذاته، ومن ثم يفجر السرد الروائي مكنونات الشكل القديم ويطلق روحه الحبيسة ليكشف خباياها، فى مزيج غرائبي يكتظ بالشخوص والعوالم العجيبة، تضرب فى أرض الواقع بسهم وتشارف الحلم والرؤيا من خلال التركيز على صورة البحر الأبيض المتوسط، وبنية الترحال التي تجمع فى مسيرتها أشتات الأمم والحضارات المتاخمة له ماضيا وحاضرا : فإلى جوار العرب نرى الترك والبربر والأسبان والقبط والفرنسيين والطليان والزنج.
ويؤكد الوهايبى أنه بواسطة هذا التمازج العجيب بين شكلين : قديم وجديد يداور أحدهما الآخر، أي العربي القديم والجديد الذي طورته الرواية الأوربية، يخدم الشكل الروائي فى محصلته النهائية متخيلا ينبني على التعدد والتداخل بين الأجناس وتحقيق قدر كبير من الكثافة، فهي تسمى الأشياء وتعددها في اللحظة ذاتها، غيرأن هذا الاحتشاد ينطلق من وعي الكاتب بلعبته الروائية التي يؤدها ببراعة، فلا نجد صوتاً نشازاً أو لحناً ناتئاً بين أمشاج النصوص والأصداء (فالمجردات والمحسوسات جميعاً لا تتدافع ولا تتزاحم قدر ما يفتح بعضها على بعض وينهض بعضها لبعض)، فلا قداسة مزعومة للغة الفصحى، وإنما تداخل لغوي يجمع بين عربية رصينة وأخرى عامية، إلى جوار نسيج مصنوع بحرفية من برج من اللغات فرنسية وإيطالية وسواهما…
على أن المبني لا ينفصل عن المعني فهذا التعدد يقود إلى حركة لا تبتغي التوقف ولا تقبل السكونية، تعطي طرفاً من القول وتفتح باباً واسعاً لتعدد لا يحد في تنوع معاينة التي لا تقبل الاختزال.
وفي دراسته التي تحمل عنوان استلهام التراث السردي في الرواية العربية والتي تتخذ من روايات صلاح الدين بوجاه نموذجاً، يؤكد د. عبد الله أبو هيف على أهمية رواية " النخاس " في مجال استنباش التراث السردي العربي القديم، وهذا ما يظهر جلياً منذ عتبات النص ومداخله.
إن تصدير الرواية بمقولة ابن سينا المأخوذة ( من الإشارات والتنبيهات) تنقلها إلى كمال الوهم وأقصي أمداء التخييل من خلال عالم أشبه بمغامرة شائقة سردياً ولغوياً، بداية من عتباتها (العنوان ، الإهداء ، الكلمات المفتاحية، التذييل المسمي أطراف النص)
عنوان الرواية لا يحمل في طياته كما يذكر أبو هيف تلك المعاني التي أسندها إليه بوجاه، فالنخاس يشير إلى بائع الدواب ويتسع المعني ليشير إلى بائع الرقيق، لكن بوجاه أضاف للكلمة معان جديدة يدخل فيها (ولوج جراح الآخرين وشرح صدورهم والنظر في دخيلة أمرهم)، ويدخل فيها أيضاً المقايضة جليلها وحقيرها وضروب المداورة والتجوال، ويتحول النخاس بحركة هذه المعاني إلى حلزون تائه يزحف في دنيا الناس يكشف الخطايا في أسواقهم وبهذا المعني ينقطع معني النخاس عن مراده اللغوي المباشر المذموم ليعبر عن معان إيجابية دالة على الرحالة الذي يدرك بواطن الأشياء.
ولا تتخلق رواية " النخاس " في بنائها الروائي إلا وهي تضع نفسها في خضم أثير تحوم فيه داخل متاهات السرد وغوايته الغامضة والتي تكشف عن توق إلى الدخول في لعبة الكشف عما يحدث في الأبعاد العيانية الظاهرة أو الداخلية فيما وراء الأنفس، ولعل استخدام فعل (تداوره) الملتصق دوماً بحالة السفر نحو استلام الجائزة، والذي يكشف أبو هيف عن دوره بدقة تتبعه لوروده المتواتر على طول الرواية، ما يدل على توغل الرواية صوب التعدد وصراع التأويلات ويدخلها في تضافر الأشكال السردية يقول د. أبو هيف " إن فعل المداورة يغني معانيه وتأويلاته مثال لبناء الرواية التي تنوع أشكال سردها من الخبر إلى الحكاية إلى السيرة إلى المقال إلى النزوع إلى الشعر، فتضافر الأشكال جميعها في ذلك التشكيل الفريد لانهيارات السرد وضبطه في الوقت نفسه"
وعلى مستوى علاقة السرد الروائي المتخيل بالأبعاد المرجعية نجد أن بوجاه في " النخاس " مثلما يناهضه لمرجع بالتخييل فإنه كذلك يناهضه التخييل بالإيهام حينا وبالمبالغة في المحاكاة أحياناً أخر، وهو ما يظهر في عناوين فصول الرواية، كما يتجلى كذلك في التداخل المقنن بين المبني الواقعي والأستعاري ، فالوحدات القصصية لها طبيعة منطقية ذات ترتيب واع، بالإضافة إلى وجود نسق من التنضيد داخل الخطاب الروائي تفصح عنه فاعليات التناص مع نصوص وإشارات ثقافية،إلى جوار تحول الكتابة إلى فضاء فنتازي بواسطة انصهار اللغة والمخادعة السردية والمرجعية وإظهار الراوي في بؤرة.
ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث
ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث النثري العربي، مما يرهف قدرتها على التعامل مع متغيرات العصر وتبدلات الحساسية الأدبية، ويطرح في اللحظة نفسها بنية روائية جديدة تكتسب بها الرواية العربية خصوصيتها وفي هذا الأفق جاءت رواية " النخاس " لبوجاه لتجسد على صعيد أولي طموح كاتبها لتطوير أداته الروائية بعد روايته الأولي (مدونة الاعترافات والأسرار)، كذلك لتؤكد على مذهبه الذي أصطلح على تسميته بالواقعة اللغوية" وهي واقعية ذات مستويات ثلاث كما يؤكد د. صبري حافظ ، أول هذه المستويات.
- تصوير مباشر للواقع العربي الأعجف الخارجي قديمه وحديثه
- بناء واقع روائي داخلي صرف يحيل على ذاته، ملتمساً جل عناصره من بناه الداخلية بل ورموزه التي لا فك لسننها إلا صدوراً عنها وعودة إليها.
- إقامة واقع لغوي محض يعبر عن واقع لغتنا التي نهوى ونعشق، هذه التي تسكننا ألماً جميلاً ونسغاً حلالاً، يروي كرمة غدنا غوصاً من تربة ماضينا.
ولقد ظل هذا الطموح يداور بوجاه حيناً ويغدو عصياً في بعض الأحيان إلى أن تحولت مراوداته لهذا الطموح إلي واقع في روايته " النخاس"
وتتسم ( النخاس ) بقدرة روائية تمزج بين الوهم بالتسجيل، والواقع بالخيال وأشكال السرد التراثية القديمة ببنية السرد المعاصر، كل ذلك يقيم قواعد اللعبة النصية المخاتلة، عبر متاهة نصية ممتعة يستحيل معها تلخيص الرواية، فالرواية لا تعتمد في رأي د. صبري حافظ على مسار الحدث على الرغم من مسيرته الشيقة ولا ثراء الشخصيات على الرغم من خصوبتهما، بل على التراكب والتناسخ وتراسل الدلالات.
مبدأ التناسخ ذات الأصول الهندية والذي يري أن كل صورة ما هي إلا تجل لصور سابقة، هو مبدأ عمل الأحداث والشخصيات في عالم الرواية فالرواية تؤكد على أن لكل شئ بعده التاريخي، وأن تراكم طبقات الخبرات والمعارف يمكنا من استيعاب الأشياء والجزئيات والشخصيات والتصورات.
ويتوقف د. صبري عند دلالة التصديرين الاستلهلاليين، والذي يتقاطع فيهما بوجاه مع قول لابن النديم من كتاب "الفهرست" وآخر لابن سينا من "الإشارات والتنبيهات" وهما يمثلان مفتاح قراءة للرواية، وهذا ما يتضح في دلالاتهما على شمول التجربة وإلى تحول جميع الأمم والأزمنة، بالإضافة إلى منهج التجاور الذي يسفر عن نفسه في بنية العبارة المقطعة، حيث تتجاور الأخبار والأنساب والأماكن والمناقب والمثالب مما يؤدى إلى توليد علاقات جديدة وتفجير العلاقات التقليدية كذلك الولع بالتركيز والاقتصاد، والمبدأ الجمالي الذي يعي أهمية الكمال كمصدر الكمال وأن مصدر هذا الجمال هو كمال الوهم.
ويلتفت الناقد أيضاً إلى دور عناوين الفصول في تقديم بعد إرشادي للقراءة، يوهم ويذكر بعناوين النصوص القصصية التراثية القديمة، وتنهض هذه العناوين بعدة وظائف أولها إجهاض التوقع واستباق الحدث، بجانب التقليل من التشويق دون الإجهاز عليه، وثالثها إرهاف من حدة الجدل التناصي مع النصوص القديمة، وأخرها دورها في الإيحاء باستقلالية كل فصل.
والحكي ينطوي كما يري د. صبري حافظ على مبدأ الغواية الجاذبة نحو السفر والترحال والوهم الذي يباطنه ظن بالحصول على جائزة، الرواية تقص رحلة الكاتب تاج الدين فرحات البحرية على سفينة " الكابو – بلا " السوداء إلى جنوه، حيث تلقي دعوة من هيئة جائزة (مينالدو) الأدبية لزيارة البلاد الإيطالية، ولكنه مدعو إلى لحضور حفل الإعلان عن الفائز بالجائزة لا حصوله هو عليها، (فثمة تعلق بوهم وتعلة، منذ بداية الدعوة، إذ إن غايتها ملفعة بالأسرار والترجي وإن كان مقصدها الجغرافي واضحاً وهو جنوه).
على أن هذه الرحلة المجسدة داخل الرواية من خلال ارتباطها بدلالات السفينة والمؤلف/ البطل، تشير إلى أبد الرحلة ولانهائيتها كما يقول د. صبري، فالسفينة تشكل استعادة دالة على كوكبنا الأرض، وربما تشير أيضاً إلى قارتنا الأفريقية؟ أو إلى المؤلف – صلاح الدين بوجاه نفسه؟ وحيرة هذه الأسئلة التي تتنازع فيما بينها في تشكيل دلالة الرواية تخلق قدراً من الالتباس لتوسع أفق دلالات الرحلة. (فالرحلة في هذه الرواية هي الرحلة الأفقية والرأسية معاً، أي رحلة الغوص في البحر وتكبد مشاق عباب الغمر، ورحلة الغوص في قيعان النفس البشرية وطبقات التواريخ المطمورة ومستويات اللغة المتراكبة في آن واحد"

إن السفينة في الرواية تمثل صورة مصغرة للعالم الخارجي ونجح بوجاه في أن يجعل منها نواة مركزية للعالم الروائي، بواسطة تجسيده خصوصية السفينة وعموميتها معاً بتلك الطريقة الشاعرية، التي تنسج خيوطاً محكمة لشبكة من العلاقات والأحداث.

إن تتبع مسارات الآراء النقدية السابقة, لهؤلاء النقاد الثلاث, على الرغم من اختلاف المنطلقات النظرية لكل منهم, ليكشف عن وجود عناصر أساسية وسمات تعبيرية, لا يمكن أن تتجاوزها العين الناقدة الخبيرة لفن السرد العربي الحديث, فمن خلال تحاور الرؤى حول "النخاس" تبرز أهمية العنوان الروائي والعناوين الداخلية للفصول ونبية العبارة السردية المخاتلة واستخدام الموروث السردي القديم فى بعد إشاري مغاير, كل ذلك يسهم فى صناعة فصل روائي متعدد الدلالات والرؤى, يغوص فى الأوجاع الفردية ويجعل منهما تجربة إنسانية لها صفة الشمول.
ولا شك أن هذه القراءات الثلاث لتكشف كذلك على قدرة الإبداع الأدبي أن يحرك استجابات جمالية متعددة بحسب المنطلق المحرك للتلقي, لكن هذا التعدد لا يعبر عن الخلاف الجذري, بقدر ما يولد أفق جامع وفضاء مشترك للقراءة, إن كل أدب يتسم بالاستمرار والديمومة لا شك يوكل فى كل منا إحساس ما ويستدعى تجربة ماضية لنا خاصة بكل فرد, لكنه كذلك يستطيع أن يجعلنا جميعا نتقارب فى أبعاد معينة, من خلال نقطة التقاء مشتركة, ومن هنا كان الدرس النقدي حول "النخاس" معبرا عن قدرتها على مزج الخاص بالعام, والفردي بالجماعي, ككل إبداع عظيم, يرجى له فى لحظة ما بالدوام, وبالكشف المستمر عن خبايا التجربة الإنسانية.



==


دراسة جديدة حول الروائى القيرواني صلاح الدين بوجاه نشرها كاتبها مصطفى عبدالله بالعدد الأخير من الأسبوعية الإماراتية الصدى

" النخاس " .. و روايات المتوسط


مصطفى عبد الله


١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٤


أجد أن مناقشة رواية ( النخاس ) هنا في الإسكندرية ، داخل قصر الكلمة ، في حضور مؤلفها الروائي العربي الكبير صلاح الدين بوجاه بين مبدعي الثغر ، و كبار نقاده فرصة لتبني مشروع إبداعي ضخم حول روايات البحر المتوسط .. هذا الحوض المائي الكبير الذي شهد ميلاد الحضارات في فلسطين و مصر و اليونان و نهضتها في إيطاليا و فرنسا و تميزها في الشمال الإفريقي و الأندلس . و ربما يكون هذا المشروع نواة لحوار من نوع جديد ، لنا مع الآخر ، الذي نشاركه هذه المرة شريان الحياة المائي ، و نهر الإبداع الروائي .


و قد أغرتني هذه الرواية بإعادة قراءتها و تقديمها في طبعتها الشعبية في مصر لعدة أسباب ، أولها أنها تنتمي إلى كاتب قيرواني استطاع أن يضع بصمة واضحة في تاريخ الرواية العربية في تونس ، حتى أنه أصبح ثاني الأسماء التي تقفز إلى الذهن عندما يرد الحديث عن الرواية التونسية بعد الرائد الكبير محمود المسعدي ، الذي قدمه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للمشرق كله عندما نشرت روايته الشهيرة (السد) ، و كذا لكونها رواية مربكة مريبة ، تأخذ بقارئها في بعض مساربها ، فإذا ما اطمأن و أسلس القياد طوحت به بعيدا حتى يضيع منه المعني فيدخل بيداء الغموض .


وهذا هو الانطباع الأول الذي يقابل قارئ ( النخاس ) ، هذه الرواية المداورة ، فيزج به في منطق اللهاث و التقصى .. اللهاث خلف أحداثها المتعاقبة الشيقة ، و تقصى مضامينها التي تغوص في تربة الأسئلة الوجودية الكبرى من ناحية، و في استفهامات العالم اليوم من ناحية ثانية .


و ربما يكمن هنا ثراء هذا النص الذي يثير قضايا الموت و الميلاد و المتعة و الألم و البداية و النهاية إثارته للصراع الغريب المتقد بين الحضارات ، حتى يتحول البحر في الرواية من بؤرة صدام بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب ، فيكون الأداة و الرمز في آن واحد .


و لأن حوض المتوسط ملتقى لحضارات و ثقافات عدة ،فإن ( النخاس ) تستدرج أجناسا و شعوبا ، منها الإيطالي و الإسباني و الفرنسي و التركي و اليوناني والمصري : القبطي و المسلم ،فضلا عن التونسي طبعا ، فتستدرج بذلك مناخات متعددة تغني الرواية ، و تمدها بثراء فريد ، و تتخطى بنا أحادية الأسلوب و الأغراض للخوض في حوار حول جنس الرواية ذاتها .


و لعل هذه الوجهة في الفهم هي التي أغرت الناقد الدكتور صبري حافظ بالإشارة إلى أن روايات صلاح الدين بوجاه قد أنشأت حوارا جديدا مع الرواية في المشرق العربي .


و ضمن هذه الوجهة نضع ( النخاس ) التي تدعونا إلى قراءات متجددة كثيرة للوقوف على خفايا بنيتها ، و مجاهل قضاياها .. و متعة أسلوبها ، و هي وجهات في الفهم و التأويل يلخصها الشاعر التونسي منصف الوهايبي بقوله : "تبدو الرواية على وشيجة عجيبة بفن الترويق العربي ، أو ما اصطفى له مؤرخو الفن الأوروبي لفظة " أرابيسك " ، حيث يسم التفريع الأصول ،كما يسم التعريج الفروع ، و يدرك التشعيب غايته .. قبل أن تنكفئ الحكايات على ذاتها مثلما في (ألف ليلة و ليلة)" .


لهذا نكرر على أننا إزاء أسلوب ساحر ، ونص سردي مريب ، و إثارة عجيبة للمعاني و الأغراض .. تدفعنا جميعها إلى التوقف عند نص نزعم أنه من النصوص المؤسسة لمرحلة جديدة في الإبداع الروائي العربي .


لهذا فإننا لا ندعو إلى قراءة هذه الرواية فحسب ، إنما تأملها ، و مقاربتها المقاربة النقدية الضرورية ، و مقارنتها بالجديد المصري و العربي.. و وضعها ضمن مسارات إبداعن الروائي الحديث . هكذا تدرك استفهامات الرواية الكثيرة أفقها الفعلي ، و هي الساعية إلى تجاوز الواقع التونسي أو المغاربي بصفة عامة إلى إثارة مسائل إقليمية حارقة ، هي " قضايا البحر المتوسط " على وجه الحقيقة ، وعلى وجه الإطلاق قضايا تونس و مصر وغيرهما من البلدان العربية .


تاج الدين فرحات، غابريللو كافينالي ، لورا ، الراقصة ليلى ، وجرجس .. جميعها شخصيات يمكن أن نقول في شأنها ما قال الكاتب في (النخاس ) : " تاج الدين نخاس كاتب أبدا ، حلزون تائه زاحف في دنيا الناس كاشف خفاياهم شارح صدروهم ، حلزون يحمل قوقعة عذابه فوق ظهره ، صدره كونه من الشموس و النار و الثلج و الخوف و الخامات النفيسة و قصور الحكام و فحش آخر الليل ، و الحياء و العفة ، و المخطوطات النادرة و أولياء الله الصالحين . هذا كله شجعني في هذا التمهيد على استجماع عناصر حيرتي و أنا أقرأ رواية أعجبتني كثيرا في مراوغاتها الممتعة ، و دعتني إلى الإسهام في التفكير الكوني الذي يثار الآن حول مسألة الحوار العالمي ، و إسهام العرب في الجدل الحضاري القائم ، و سالف إسهاماتهم في حضارة الأمس و اليوم .


و كم احتلت هذه الرواية حيزا من مناقشاتي مع بوجاه كلما التقينا هناك في تونس أوهنا في مصر ، و قد أكد لي أن شخصيات النخاس لا ظل لها على أرض الواقع ، و إنما هي تجسيد لحضارات متبانية ، بل و متصارعة فيما مضي في حوض هذا البحر. ولكنها تتجسد في سفينة تبحر من تونس إلى إيطالية ،و كأنها تعلة للانعطاف على لعبة كبرى ..


و من يبحث عن القيروان مجسدة داخل ( النخاس ) سيرهقه البحث ، فصلاح الدين بوجاه يؤكد أن المدينة لا تعدو أن تكون مجرد خلفية مكانية و زمانية ، و هو حتى عندما يقرر أن يكتب عن القيروان أو يدونها في رواية أخرى مثل ( السيرك ) مثلا فإنه يقدمها كمحصلة لقراءته في المدينة العربية بشكل عام .


فهل ننعطف في الختام على موقف الناقد العراقي ماجد السامرائي الذي أكد :" حين تسأل الروائي صلاح الدين بوجاه أن يقص عليك رحلته مع الكتابة تجده يبدأ مع "الراوي عن نفسه" ليخبرك بأن الرغبة في الكتابة ولدت عنده منذ طفولته الأولى ؟ أم ندعى إلى أن نهتف مع بوجاه نفسه : ماذا يفعل الكاتب في النهاية غير محاولة تشويش المثل و الحقائق قصد إعادة تنظيمها ؟!" .

ايوب صابر 04-30-2012 07:47 AM

صلاح الدين بوجاه

١٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٤
مولود في القيروان .تونس1956
متزوج له 4 ابناء
متحصل على دكتوراه دولة في الادب العربي...وجوه الائتلاف والاختلاف بين الرواية التونسية والرواية المكتوبة بالفرنسية في تونس .
كاتب تونسي يسهم في الحركة الثقافية العربية منذ بداية السبعينات.معروف في المشرق العربي باسهاماته النقدية والقصصية والروائية.
صدرت اعماله في كل من تونس وبيروت والقاهرة ودمشق وشارك في عدد من لجان التحكيم مشرقا ومغربا
عضو اتحاد الكتاب التونسيين وعضو اتحاد الكتاب العرب .ينتمي الى الجامعة التونسية منذ منتصف الثمانينات.عميد سابق بكلية الاداب بالقيروان.
عضو الجمعية المغربية الفرنسية للاداب المكتوبة بالفرنسية.
عضو هيئة تحرير مجلة الحياة الثقافية.
يقدم عديد البرامج في الاذاعة والتلفزة .
حاصل على الجائزة الوطنية للاداب 2003
من اعماله المنشورة

في المجال النقدي
الاسطورة في الرواية الواقعية.بيروت .1990
الجوهر العرض في الرواية الواقعية .بيروت .1992
مقالة في الروائية .بيروت .1994
كيف اثبت هذا الكلام؟.تونس.2004
في المجال الابداعي
مدونة الاعترافات..تونس.1985
التاج والخنجر والجسد.القاهرة .1992
النخاس.تونس.1995
السيرك.بيروت.1997
سهل الغرباء.تونس.1999-القاهرة 2000
لا شيء يحدث الان.تونس 2002-القاهرة 2002
مخطوطاته
وجوه-بورتريات-
حمام الزغبار ـ رواية
مداخل الى ادب بوجاه
التراث.التجريب.الفنطازيا.العبث والسريالية.الوجود والاسئلة الكبرى.الموت.تعاقب الحضارات. الوجود سرك كبير .مشهد الكتابة هو الابقى.
العنوان ---38.نهج ابن الربيب.حي سيدي سعد.القيروان 3100 الهاتف-216.98950426

ايوب صابر 04-30-2012 07:48 AM

مع الروائي صلاح الدين بوجاه

كتبهاكمال الرياحي ، في 2 سبتمبر 2006 الساعة: 13:57 م

المصدر : المدونة الرسمية للكاتب التونسي كمال الرياحي :

حِــكاية نخّاس الحكايا أو قصة الكاتب صلاح الدين بو جاه
الذي يركب الرواية والقصة القصيرة ويرتكب النقد ويداور السياسة
حاوره : كمال الرياحي
تجدّف بك سفينة إبداعه نحو عوالم التراث السردي فتشتمّ منها عبق المخطوطات وكتب التراجم و أدب الرحلة.وتجنّح بك السّفينة لتحملك في طبق طائر وتقذف بك في مجرّات مظلمة من العبث والسريالية فتتقلّب في مناخات كابوسية تذكّرك بعوالم كافكا وترمي بك أمواج السرد أحيانا في عجائبية غريبة تبقى عندها مشدوها هل أنت عند ماركيز أم أنت في جراب السندباد تشاركه رحلاته أم أنت بطلا من أبطال المخيال الشّعبي , وتنحرف بك السفينة مرة نحو عوالم اللاّمعقول فتدخل بك "مقاصير" السحر والشعوذة والطفولة الملتبسة لتكرع من نهر الأسرار وعوالم الغيب وتأسرك مرّة كتابة الجسد وكتابة الأشياء ولغة الكتابة .من هو ؟ هو بكل سخف الأسماء واختزاليتها المميتة :صلاح الدين بو جاه من أهمّ الأصوات الروائية في تونس , لفت إليه أنظار النقّاد والباحثين منذ نصّه البكر "مدوّنة الاعترافات"1985 فنزل هذا النصّ ضيفا على بحوث جامعيّة كثيرة في تونس وخارجها ومازال إلى اليوم يغري النقّاد والقرّاء معا لما توفّر فيه من صنعة روائية غير مسبوقة استفادت من الأشكال السردية التراثية . لم يتوقّف بو جاه عند هذا النّص بل ظلّ يباغتنا كلّ حين بنص جديد رغم مشاريعه الجامعية ونشاطاته السياسية التي نحسب أنّها أكلت من وقته الإبداعي الكثير .
ولد بالقيروان سنة 1956 ليكون كاتبا تونسيا متميّزا يسهم في الحركة الثقافية العربية منذ السبعينات .عرف في المشرق العربي بإسهاماته النقدية والقصصية والروائية .صدرت أعماله في كل من تونس وبيروت والقاهرة ودمشق .عضو باتحاد الكتاب التونسيين واتحاد الكتاب العرب .انتمى إلى الجامعة التونسية منذ منتصف الثمانينات .شغل خطة عميد كلية الآداب بالقيروان .عضو الجمعية المغربية للآداب المكتوبة بالفرنسية وعضو هيئة تحرير مجلة الحياة الثقافية .قدم عديد البرامج في الإذاعة والتلفزة حصل على الجائزة الوطنية للآداب سنة 2003 وناقش أطروحة دكتوراه دولة في الأدب المقارن حول الرواية التونسية المكتوبة باللسانين العربي والفرنسي .من أعماله المنشورة في المجال النقدي :
الأسطورة في الرواية الواقعية ’بيروت ’1990
الجوهر والعرض في الرواية الواقعية’بيروت’1992
مقالة في الروائية’بيروت’1994
كيف أثبت هذا الكلام؟ تونس ’2004
وصدر له في المجال الإبداعي :
مدونة الاعترافات ’تونس ’1985
التاج والخنجر والجسد ’القاهرة ’1992
النخاس,تونس 1995
السيرك’بيروت 1997
سهل الغرباء ,تونس 1999 ,القاهرة 2000
لا شيء يحدث الآن,تونس 2000 ,القاهرة 2003
من مخطوطاته:
وجوه ,بورتريهات
حمام الزغبار ,رواية
هذا الحوار يسلّط الضوء على تجربة الرجل القصصية والروائية ويحفر عميقا في ملامح بوجاه بحثا عن حقيقة الطفل الذي يحمله , وعن المناخات التي أثّرت فيه فدفعت به إلى ارتكاب الكتابة ,في اللقاء سياحة مختلفة في فضاءات السحري والعجائبي والكابوسي والسياسي .
- قرأنا لك حديثا عن روايتك البكر "مدوّنة الاعترافات والأسرار" تقول فيه : "العمل الأول يختزل تجربة صاحبه إذ يكون بمثابة البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، الآن وقد مرّ على روايتك البكر ما يناهز العشرين سنة أما تزال ترى فيها البذرة التي قام عليها مشروعك الرّوائي أم أنّ هذا المشروع قد اتّخذ مسارات مغايرة وطَرَق سُبُلا لم تكن في ذهنك إبّان فراغك من الرواية نطفة المشروع ؟
oo "البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، هذا تعبير قديم يُفيد أنّ المشاريع تكون مختزنة في كلمة أحيانا، أو فكرة، أو ما دونها، والحق أنني اليوم، بعد مرور سنوات طويلة عن بداياتي الأولى أعود لتأكيد هـذه الفكرة ! فكرت أولا في قول العكس، كأن أقول أن مشروع الكتابة عندي قد اتّخذ مسارات كثيرة جديدة بحيث بدا مختلفا عن استهلالاته، ثم استقر الأمر عندي دون عناد أو مناكفة للجزم بأن "مشروع الكتابة"، إن كان لي مشروع كتابة حقا – قد انطلق مع بداية السبعينات حين أقبلتُ على عرض قصصي القصيرة الأولى على مجلات تونسية وعربية.
وأجدك تعيدني إلى بداية الثمانينات، وبالتحديد إلى المقدّمة التي شفعتُ بها "نصّي" الأول. فعلا طال الحديث بعد ذلك، فهناك من قال إنه لا جدوى من أن يُرفق النص الأول بمقدمة، وهنالك من رأى أنها غير مناسبة لنص قصير، فادعاءاتُها كثيرة متنوعة، ومُنجزه محدود قليل !!
موقفي لم يتغيّر ! لا أجدني اليوم مدفوعا إلى تبرير أي شيء أو الاعتذار عن أي شيء ! كل ما هنالك أنني أعلن الآن أنّ تصاريف الحياة والتجارب، وتنوع الاطّلاع الثقافي العام والروائي الخاص قد أدّت بي إلى تغيير ملامح أسلوبي، بحيثُ بدا مختلفا عن البدايات. وهذا طبيعيّ، فليس هنالك من يُحافظ على السمات الأسلوبية نفسها، وعلى معالجة القضايا ذاتها. لهذا أعود لتأكيد الجملة التي افتتحنا بها هذه الكلمة "البذرة التي تختزل حلم الشجرة". هذا لا ينفي أن "المشروع" قد اتّخذ مسارات مغايرة وطرق سبلا جديدة لم تكن في ذهني إبّان الفراغ من الرواية النطفة. ولا أخفي هنا أنّ أسعد لحظات حياتي كانت تلك التي قال فيها الأستاذ توفيق بكار والناشر الأستاذ محمد المصمودي، في دار الجنوب بتونس، بعد أن دفعتُ إليهما بعملي الموالي لرواية "النخّاس" : "فعلا… هذا أيضا موسومٌ بأسلوب بوجاه / C’est du Bougeh !". في ذلك الوقت علمتُ أنّني قد تمكّنتُ من ابتداع أسلوب خاص بي، والأسلوب هنا لا يتعلّق بظاهرة اللغة فقط، إنّما يتّصل بحيثيّات السرد، والمضامين أيضا ! وقصارى ما هنالك أن "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كانت تتضمّن اهتماما بـ"المفارقة" و"تعريضا بالمستقر" و"اختيارا للألفاظ النقيّة" في الغالب الأعم و"ميلا إلى الحلم والفنطازيا والعبث"… وهذه هي ذاتها السماتُ التي تطبع أعمالي الموالية حتى اليوم. كل ما هنالك أنها قد اتّخذت ألوانا جديدة، وأضيفت إليها ظلال أخرى مستحدثة، وخاصة في مجال التخفّف من "صفوية اللغة" واسلاس القياد نحو استعمال العربية قريب من اليومي… أو قُل "إنّه يميل إلى أن يكون قريبا من الجملة العربية العادية اليوم". والحق أنّ الأمر عندي ليس من باب التألّق، إذ التعلق القديم بالفصحى هو الذي يعيدني إلى طفولتي، وإلى كتب الوالد، وإلى المدوّنة التراثية التي نهلتُ منها.
n انشغلت روايتك البكر في نزعتها التجريبية بالهاجس اللغوي أو "الواقع اللغوي" كما عبّرت عنه فكانت اللغة تجهد لتتماسّ مع الأعجاز بما طفحت به من شاعريّة، و ما توفرت عليه من ترميز وما انبنت عليه من تكثيف، أهو الإيمان بأن المشروع الرّوائي هو مشروع لغوي أوّلا وأخيرا أم أنّه الانتصار للغة بوصفها إحدى المكوّنات الهامة والركائز القويّة لحضارة من الحضارات ؟
oo النزعة التجريبية، والهاجس اللغوي، والرمز، والأبعاد الحضارية… كانت الركائز التي انطلقتُ منها. كنّا في منتصف السبعينات نستند إلى نصوص متباينة : مدونة كرم ملحم كرم، "الإنسان الصقر" لعز الدين المدني، "حدّث أبو هريرة قال" للمسعدي… فضلا على نماذج كثيرة من النشر العربي القديم التي استهواني الاطلاع عليها، والاستناد إليها، بالإضافة إلى التراث الغربي متمثلا خاصة في مزيج من كافكا، وجان بول سارتر والشعر الحديث، على يد أعلامه المعدودين مثل بودلير ورامبُو وفرلين ! هذا هو المزيج غير المتجانس الذي استند إليه، فإذا أضفتَ إليه القرآن الكريم، والأناجيل، انتبهت إلى أنه أمشاج شتّى من الغرب والشرق تمازجت بالشائع من أدب الستينات والسبعينات. بيد أن محاولاتي الأولى، مثل كتابتي الراهنة، لم تنتهج درب "الأدب المناضل" أو "الواقعيّة الاجتماعية"، كتابتي ردة فعل على هذا التيّار، باختياراته الأسلوبية والمنهجية ومواضيعه وأغراضه.
بالنسبة إليّ لا قيمة لدراسة الأبعاد الاجتماعية إلا في كنف التعامل مع الأغراض الوجودية الكبرى، مثل الحياة والموت، والولادة واللذة والألم والبداية وخوف النهاية. ليس الأدب فعلا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا… إلا في نهاية المطاف ! إنه فعل عميق جاد يرقى إلى مستوى النصوص الكبرى، الشعر، المسرح اليوناني، الكتب السماوية. لهذا أتشبّثُ بسعي النص النثري العربي إلى الشاعرية، أو قُل تشبّث النثر بأفق الشعر يمتح منه أساليبه ويعالج قضاياه.
ليس الأدب سعيا سياسيا أو اجتماعيا، وليس الأديب رجل صحافة، أو رجل ضرب من الأحزاب. الأديب أرفع من هذا ! أو فلنقل أنه مختلف مغاير، وكفى ! لكل مهمّته ووظيفته. لهذا نجزم بأن الأديب ليس مترجما، كما أنه ليس رجل معارضة ! الأديب "معارض" بالمعنى العميق، بل العميق جدا. الأديب ليس معارضا سياسيا، إنه "معارض" للمجتمع، معارض للخيارات الإنسانية الكبرى… من حيث هو مسهم في الجدل الأصيل حول الإنسان، وتجربته الروحية العميقة. بهذا المعنى ندرك أنّ الأديب محرّك للوجود، ومُثَوِّرٌ للمستقرّ، ومُسهم في معارضة التفسيرات القاصرة المحدودة، ومُشجّع على تبنّي التوازن الروحي في وجود لا يكاد يؤمن إلاّ بالظاهر المادي المحسوس. على هذا الأساس ينبغي أن ينهل الأدب من التجارب الصوفية، ويكون فنطازيا سرياليا في بعض توهّجاته الكبرى !
n لامك بعض النقّاد على التوطئة النقدية التي أردفتها بروايتك "مدوّنة الأسرار" ورأوا فيها إسقاطا كان يجمُلُ بالكاتب تركه للنقاد والاكتفاء بتقديم عمله الإبداعي، تاركا إياه يتحدّث عن نفسه دون أن يسطّر له التأويلات الممكنة أو يشرح له ما أشكل أو يساعد القارئ على فتح مغالقه فيظلّ النص بذلك ببهائه ورونقه، وقد لاحظنا عزوفك عن هذه المسألة /التوطئة في أعمالك اللاّحقة، أكان ذلك من باب تطييب خاطر النقاد أم أنه اقتناع فعلي بأن ما تطلّبته باكورة أعمالك الرّوائية من توضيح – بوصفها العمل البكر – لا تحتاجه بقية رواياتك ؟
oo فعلا، العمل الأول يختلف دائما عن الأعمال اللاحقة، وقد سلف أن أكدتُ أنه "مثل صندوق الأم يحوي "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". إنه يحوي المتناقضات المتنوّعة الكثيرة، لذلك يحسن أن يُشفع بمقدمة تدعمه وتفسر مغاليقه وتُسنده. والحق أن وضع مقدمات بين يدي الأعمال ليس بالبدعة، خاصة بالنسبة إلى الأعمال الأولى… سواء من قبل الكتاب أنفسهم أو من قبل بعض أصحابهم. انظر على سبيل المثال سلسلة "عيون المعاصرة" تجدها تضم أفضل المقدمات التي أنشأها كتاب، أو نقاد، يتناولون العمل المنشور بالنظر الأدبي الرفيق، فيضيفون إلى فهم القرّاء ويمهّدون الطريق أمامهم.
ولعلّ الحرج الذي قابل به النقاد مقدّمة العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" يعود إلى أنها كانت فعل بين "المقدمة" و"البيان"، أو لعلها كانت إلى البيان أقرب. فعلا كانت بيانا مشفوعا بأنموذج مما يدّعي صاحب البيان. وكان من الطبيعي أن ينشأ تفاوتٌ بين النظري والتطبيقي، فضلا على أن الناس لا يستطيبون بيانا يصدر عن كاتب لم يُنشئ حتى ذلك الحين إلا بعض القصص القصيرة المنشورة في عدد من المجلات. لعلّهم كانوا ينتظرون بيانا ممّن ترسخت قدمهم في عالم الكتابة القصصية. لهذا نشأ عندهم حرج واسع بين قبول "المقدمة-البيان" أو رفضها، ورفض العمل الإبداعي الذي يصحبها.
n جاءت لغة روايتك "مدوّنة الاعترافات" مع قوّتها ومتانتها لغة شفافة ومتألقة، كثيرة الرواء، مفعمة بالشاعرية. أكان ذلك راجع إلى كثافة حضور الذات في الرواية بوصفها العمل البكر أم هو الحنين يشدّك إلى التجربة الشعرية أم هو الاعتقاد في أن الطابع الشعري ضروري لتقع الرّواية من الأنفس المتلقية موقعا حسنا ؟
oo أجنَحُ إلى الإقرار بالعفوية. لهذا أقول هنا : تلك هي الطريقة التي كنت أحسن استعمالها. فعلا، ذلك هو الأسلوب الذي ورثتُ عن الأغاني، ونشوار المحاضرة والكامل، والعقد الفريد، والمقامات، والأدب الكبير، فضلا على مطالعاتي الغربية التي تحتفظ منها "المدوّنة" خاصة بعمل شهير، سلف أن توهّتُ به، هو "التحوّل" فرانز كافكا. كنت في ذلك الوقت قد قرأتُ "التحوّل" فراقتني كثيرا، لم أكن قد اطّلعتُ بعد على ما نشأ حولها من نقد، بل ما تراكم من آلاف الصفحات حول الكتابة عند فرانز كافكا، وحول تمثيله لمرحلة مهمّة في تاريخ الرّواية الغربية. لقد شعرت بقيمة الكتاب، وأغوتني بنية كتب أخرى لكافكا، مثلا "المحاكمة" أو "القضية، فانتبهتُ إلى أننا إزاء مشكلة وجودية أصيلة، فضلا على الإحساس بالحصر الذي يخصص عصر كافكا. في ذلك المجال من العبث، والإحساس بضيق الكائن، تحرّكت رغبات الكتابة عندي، فألفيتني في عملي الأول أحن إلى بهاء الأسلوب [فيما ورثتُ عن قراءاتي العربية] وإلى أشكال البنية وتداخلها، وتعقد المعاني. لهذا كانت "المدونة عملا مثيرا للاستفهام خاصة ببنية الحاشية والمتن، التي استعارها للمرّة الأولى في تاريخ الرواية التونسية المعاصرة.

ايوب صابر 04-30-2012 07:49 AM

n راهَنَتْ رواياتك إجمالا ورواياتك البكر تحديدا على التراث اللغوي تنهل من منابعه وتستلذّ ثماره المعتّقة وتنثر عنه غبار الزمن باعثة فيه روحا جديدة تستجيب لإشكاليات المرحلة. فهل ترى أنّ الاستفادة من الموروث هي إحدى الإمكانات المتاحة للمبدع وهو ينسج نصّه أم أن استلهام الموروث وهضمه وتجاوزه هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن ؟‍!!
oo أحتفظ بقولك "إن استلهام التراث، وتجاوزه، هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن". أضع استلهام التراث عند ركن الزاوية. فعلا، فهو حجر الأساس بالنسبة إلى كل بناء جادّ ينشد البقاء. ليس في إمكاننا بناء معلم باق إلاّ باستلهام التراث، والانطلاق منه والنسج على منواله. لكنّ شرط التجاوز من الشروط الأساسية في هذا البناء. انظر الهندسة المعمارية مثلا، تجدها تطبّق هذه المقولة تطبيقا رصينا أصيلا كاملا. لهذا فإنني أعتقد أن النصوص الجيّدة تبنى لا محالة على مزيج من النصوص القديمة المستقرّة، أما البناء من عدم، أو قل "ادّعاء البناء من عدم" فأمر مردود لا يكون أصلا.
وقد يكون من الطريف أن ألاحظ هنا أنّ تجارب الكتابة عندي قد نشأت، أول نشأتها، تراثية صرفا، وليس في ذلك أية غرابة، إن كنت تحت تأثير الكتب التراثية الكثيرة التي طالعتُ في مكتبة والدي، فانبثقت كتاباتي الأولى من قبيل المحاكاة، فـ"الأدب" بالنسبة إليّ هو ذاك ! بالإضافة إلى أنّ والدي الزيتوني لم يكن يعرف مفهوما مغايرا للأدب. أودّ هَهُنا أن توقف بعض الوقت للإلحاح على دور والدي في تكويني، خاصة في المرحلة الأولى، لقد كان معلما فعليا بالنسبة إليّ، معلما في الصرف والنحو، بل في الرياضيات والعلوم الطبيعيّة… قل إنه المعلم الشامل، وكفى. جعلت شخصيّته بقية شخصيات المدرسين في الابتدائي والثانوي تمضي غير ذات قيمة، إلا فيما ندر ! وقديما كان النقّاد حين يكتبون ترجمة أديب أو شاعر يشيرون إلى شيوخه. شيخ شيوخي كان والدي، بتكوينه التقليدي الذي كان يميل إلى النثر، ولا يحفظ من الشعر إلا شواهد قليلة دالة، بالإضافة إلى إشاراته المتكرّرة إلى المعلّقات.
في هذا الباب يمكن أن أقول إن تجربتي في الكتابة تستند إلى طبقات، بل هي طبقات متراكمة : الطبقة التقليدية التي ورثت الأدب عن بداية القرن العشرين [أو قل آخر التاسع عشر] مع جبران خليل جبران وكرم ملحم كرم خاصة، ثم عقبتها طبقات شتّى متنوّعة بدخول الفرنسية في تكويني، وإضافة عوالمها الشيّقة جدا، خاصة عالم السريالية الذي بقي عالما شيّقا جدا، إذ أتاح التعبير عن العقلاني، والتخييلي الاستيهامي في وقت واحد ! في طفولتي كنتُ أسأل نفسي كيف أعبّر عن خيالات الصبا الأول بكيفية رصينة متوازنة، ثم حدث انشطار عندي فصرتُ أميّز بين العالمين… حتى كان كافكا من ناحية، والسريالية الفرنسية من ناحية أخرى، فتمكّنتُ من قول الهجنة التي تسكنني. لذلك تعثر في كتاباتي اليوم [في تناولي لقضايا الحياة والموت والبداية والنهاية والمتعة والألم] عن مزيج غير متجانس بينها جميعا !
n قال بعضهم إنّ بنية نصّك "مدوّنة الاعترافات…" يعتريها شيء من التفكّك على ما في النص من طرافة فكرة وسلاسة لغة وثراء خطاب، بهذا المدى الفاصل بين زمن كتابة الرّواية وزمن قراءتك لها اليوم. هل ترى فيها هذا الرأي أم ترى أن كفاءة التلقّي ما تزال تنفر من الجديد الصادم وتأنس بالقديم المألوف ؟ ألا ترى معي أن الذائقة الرّوائية والإبداعية عموما تكشف عن ملامح الذهنية العربية الشرقية وعن آليات اشتغالها ؟
oo ليس القارئ مجبرا على "رأب الصدع" في البداية كنت أحمله ما لا يحتمل، فأقول إنه ينبغي أن يُسهم في كتابة الرّواية برأب الصدع، أو تصوّر النقائص وملئها. والحق أنني أميل اليوم للإلحاح على أن العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كان فعلا "عملا أول"، بما يتضمّنه ذلك من إشارات إلى البكارة والبداية واكتناز التجربة… لكنه أيضا كان عملا أول من حيث النقائص الكثيرة التي يتضمّنها. كنتُ أوحيتُ فيما سبق أنّ الاستناد إلى التراث بالنسبة إليّ يعود إلى سببين : أوّلهما تكويني وأثر والدي، وثانيهما اختيارٌ معقلن يقضي بوجوب الاستناد إلى التراث. حدث ذلك بإيجابياته وسلبياته. وهنالك مسألة يمكن أن تكون دالة هنا، وهي الاختلاف بين الثقيل المشرقي والتونسي. لقد نشرتُ في القاهرة رواية ومجموعتين قصصيّتين، ويمكن أن أقول أن القارئ المصري، أو قل المتأدب المصري، مطّلع على ما أكتب ويقبله قبولا عاديا، أمّا القارئ التونسي فيميّز بين التراثي في "المدوّنة" خاصة و"غير التراثي" مثلما ظهر في الأعمال اللاحقة.
إلى جانب خياراتي الأسلوبية أحيل على "أفق التقبّل"، أفق التقبّل في مصر – وفي المشرق عموما – يختلف عن أفق التقبل في تونس، خاصة أن أعمالي الأولى ظهرت مباشرة بعد انتشار "الأدب النضالي" الذي لا يعني بالنسبة إليّ أيّ شيء، بنضاليته الفجّة وانغماسه المبالغ فيه في الواقع اليومي المعيش.
n لنبقى مع اللاّئمين، فنذكر لك ما عابه عليك الدكتور مصطفى الكيلاني – بعدما أطنب في الإعجاب بالرّواية – من تجريد فيقول في مؤلّفه : "صلاح الدين بوجاه قد أعاد في هذه المحاولة الروائية طرح إشكالية اللغة الإبداعية في المجال الروائي والمسألة الحضارية معا في زمن نحتاج فيه إلى مثل هذا الطرح بغية إنشاء رواية عربية أصيلة حديثة، ولكنّنا نعيب على هذا الطرح طابعه التجريدي".
هل كنت قصدت ذلك التجريد حتى يكون عملك الإبداعي أفّاقا ومتحرّرا من حمولات الواقع وما يرشح به من إسفاف، أم أنّك كنت تسير في طريق كان قد بدأ تعبيدها المسعدي بأعماله الشهيرة ؟
oo هو بين هذا وذاك في الوقت نفسه. فقد سبق أن قلت إنّ ثقافتي الأولى تقليدية، مما جعل أمامي أفقا تقليديا لقول ما أريد أن أقول. قد يكون الأمر ناتجا عن توازن بين تلك الثقافة الأولى، وسعي إلى التحرر من القضايا اليومية التي تثقل الكائن. أما اليوم فأنا أميل إلى التعبير عن أوسع الرموز وأهمها وأبعدها غورا بأحداث إنسانية بسيطة تطبع الكائن. حياة الكائن مثقلة بها يُتيح الإحالة على الأبعد وأكثر ثراء والأعمق دلالة. في أدب محمود المسعدي نعثر أيضا على هذا الجوار الدال بين ما هو قريب وما هو بعيد، في أدبه يحدث وفاق عجيب بين بسائط الأمور وعظائمها. لهذا نعلن هاهنا أنه مرحلة هامة جدّا في تطوّر الأدب العربي عموما، رغم أنه لم يلقَ الشهرة العربية التي هو بها جدير. المسعدي مشهور جدا من حيث الأسهم، لكن القرّاء في المشرق قلّما اطّلعوا على أعماله. بعض النقّاد طالعوا نتفا من "السد" أو "حدّث أبو هريرة قال" والحق أنه ينبغي اليوم أن نعود إلى أدبه بالكثير من التمعّن على اعتباره مرحلة هامة جدا من مراحل تطور الأدب والفكر.
n يقول عز الدين المدني في كتابه التأسيسي "الأدب التجريبي" : "وما الأدب التجريبي إلاّ مرحلة مؤقّتة وانتقالية ستفضي إلى الأدب الكامل بعد اجتيازها". لماذا طالت هذه "المرحلة المؤقّتة" وطال انتظار هذا "الأدب الكامل "؟ وهل يمكن أن نتحدّث عن جمالية وفنية في العمل الإبداعي خارج سؤال التجريب وألعاب الإطاحة بالسائد ؟
oo مع احترامي للأديب الصديق عز الدين المدني لا أعتقد أنّ هنالك أدبا كاملا. الأدب تجريبي أبدا، أما الأدب الكامل فنسعى إليه ونتوق إليه دون أن يكون وجودا فعليا. "موريس بلانشو" يعبّر عن هذه الفكرة الرائعة للجزم بأن الأدب هو "ما نُقبل دوما على ابتداعه"، الأدب في حركته وتبدله وتطوره وتغيره. من قبيل التبسيط القول بوجود مرحلتين : مرحلة تجريبية مؤقتة، ومرحلة أخرى نهائية ودائمة. على العكس المرحلة التجريبية هي الدائمة عبر ترافد حلقاتها الكثيرة المتعاقبة. ولا أشكّ في أنّ أفضل نص ابتدعه عز الدين المدني هو قصة "الإنسان الصفر"، بمراحلها القديمة والجديدة المنشورة في "كتاب الأسئلة" لخالد النجار. لقد كانت هذه القصة القصيرة قصة رَحِمِيَّةً مكّنت الكثير من النصوص من أن تكون. لهذا أجد لها أثرا فيما أكتب وفيما يكتب إبراهيم الدرغوثي خاصة.
لقد سعت إلى تجريد الأشياء من قداستها، وإلى قول ما يعسر أن يُقال، أو قوله بطريقة أخرى مغايرة، فمثّلت منطلقا حقيقيا للكثير من عيون الأدب اللاحق، حتى "دار الباشا" لحسن نصر تتضمّن فصولا تذكّر بـ"الإنسان الصفر" لعز الدين المدني.
n وضعت عبارة "رواية تجريبية" عتبة تلقّي في "مدوّنة الاعترافات…" وغابت هذه العتبة عن بقية أعمالك الرّوائية رغم أن هاجس التجريب ظلّ يرافق النصوص. هل يعني هذا أنّ التجريب في النص الأوّل كان سؤالا مركزيا بينما تحوّل في النصوص اللاحقة إلى استراتيجية لطرح أسئلة أخرى قد تكون مضمونية ؟!!
oo إشارتك هذه ذكية جدا، إذ تلتقط سمات التجريب وتميّز الموجود منها في النص الأول لمقارنته ببقية النصوص الموالية. مثلما أشرت التجريب جزء من الاستراتيجيا المركزية في صلب النصوص الموالية، إنما لم يعد القضية الأساسية. أما الأسئلة الجديدة فمضمونية. لهذا يُمكن أن أقول إن العمل الأول أعلن إجمالا عن خيارات أسلوبية معيّنة، ثم تأتي الأعمال الموالية لتأكيدها مع تقديم فسحات غرضية مغايرة. فكأنّ الأعمال اللاحقة من قبيل دعم الأصل بإضافات جديدة. لهذا، ومن هذا المنظور أساسا، أقول أنها تنويعات جديدة تدعم الأصل وتُغنيه. أما الأسئلة الجديدة التي تتضمنها فقد سلف أن عبّر عنها محمد الغزّي إذ أعلن أنها أسئلة وجودية، في المعنى العام الواسع.
الأدب الذي يُثير المسائل الأساسية كالموت والحياة واللذة والألم هو الأدب الذي ينغرس في بنية الكائن للتعبير عن حرقته إزاء الاندهاش الأصيل الذي صاحب نزولنا من الجنّة. الطفولة هي جنّتنا الأولى، لهذا تبقى أعمالنا معبّرة عن فترة نزولنا من الطفولة نحو الكهولة والشيخوخة وتركنا ذلك العالم الأول الأثير الرائع العذب. هذا ما قاله الشابي وهذا، وهذا ما قاله المسعدي، والبشير خريف وعلي الدوعاجي… حتى لا نتحدث إلا عن تونس.
n يتواتر سؤال السبيل في روايات صلاح الدين بوجاه، هل يعيش المؤلّف أزمة الاتّجاه في زمن اندثرت فيه معالم الطريق أم هو سؤال المثقف في كل الأزمنة باعتباره توأم الاغتراب ونزيل غربة دائما وتلك ضريبة "الوعي الشقيّ" ؟!
oo أقول هو "سؤال الإنسان"، فعلا لا أميل إلى التمييز بين المثقّف وغير المثقّف، إنما أريد أن أجزم هاهنا بأنّ كلاّ منهما يعبّر عن المأساة الفعلية الأصيلة بكيفيته الخاصة. منذ النصوص القديمة التي التقطناها، منذ الكتب السماوية الأولى، وآثار الفراعنة، ومدوّنات السلالات البائدة… لم يقل الإنسان إلا فكرة واحدة في كل ما كتب : لقد فغرَ فاهُ ليصرخ : آهٍ كم هو رائع هذا الوجود، أه كم هو مروّح الموت، أي لماذا تأتي النهاية بسرعة ! تلك هي الجملة الواحدة التي كتبت فيها الآلاف المؤلفة من الصفحات، وأقبل كل أديب، وكل شاعر، وكل نحّات، وكل رسّام، وكل موسيقار للتعبير عن عمقها الكاوي بطريقته الخاصة. أما غير هذه الجملة فخواء لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع ! لذلك تجد الأدب الجيد مجرّد تنويع على هذا الأصل الواحد الذي يُعبر عن دهشة الكائن الفرد المعزول الأعزل إزاء الحقائق الكبرى في الوجود.
فجأة ننتبه إلا أننا لا نريد أن نقول شيئا، ولا نريد أن نعبّر عن شيء، قصارانا أن نعلن خيباتنا، وحدود أفعالنا، وسعة الفضاء الكوني الذي يشملنا !
n قرأنا في روايتك "السيرك" عن ظاهرة أكل لحم الكلب أو "غزال السطح" التي تنتشر في إحدى مناطق الجنوب التونسي والتي يُنكرها أهلها، رغم أن التيجاني سبق إلى تدوينها منذ قرون في رحلته الشهيرة. هل في ما ارتكبته شيء من نيّة فضح المسكوت عنه وما يجري في المناطق الخلفية لوجاهة الإنسان المتمدّن وما يعيشه من وحشية ونزعة إلى ارتكاب الممنوع والمحرّم ؟!
oo هي نزعة أثيرة عندي. أهدف إلى كشف المستور وإزاحة القداسة عن الواجهات الهشة التي كثيرا ما تخفي ممارسات شتى خفية، وعادة أكل الكلب من قبل الأفّاقين والمجرمين والسكارى عادة منتشرة في أكثر من جهة، لكن الناس يتستّرون عليها، على أنها من العادات المكروهة. وكم من عادات مكروهة تخفي الباقات المنشّاة والأفعال الموزونة. عادة أكل الكلب يشيع أنها كانت منتشرة في حي "الرحبة" في مدينة القيروان. وهذا الحي قد جمع الأفّاقين وباعة الحشيش والخمر منذ عصور… حتى أصبح أنموذجا واسعا للمسكوت عنه بكل أنواعه. المسكوت عنه، الجنسي والديني والسياسي أيضا من المسائل التي أصبو إلى الكشف عنها ويهتك أستارها. من هذا المنظور يبدو الروائي دارسا أنثروبولوجيا كاشفا منقّبا يُعرّي العورة ويهنك السرّ ويُفضي إلى النقيصة.
الكشف عن النقائص أيضا هدف أسمى يسعى إليه الكاتب، لأنّ وضع الإنسان إزاء ذاته، إزاء حقائقه الأولى البسيطة، هو من أهداف الرّوائي التي ينبغي أن يحتفظ بها ويقدّمها. هذه هي الأهداف التي أتشبّث بها ويعنيني أن أواصل العناية بها بكيفيات مختلفة فيما أكتب. الكتابة في ذاتها تنبع من نزعة نحو إتيان المحرّم، نزعة قصية في أعماق الكائن البشري عموما ! وهل أعتى من الكتابة في مجتمعاتنا هذه التي تعتبرها نسيا منسيا، بل عادة سرية مرذولة مكروهة !
n قرأنا في "السيرك" إصرارا على إقحام العامية التونسية من خلال مجموعة من الأسماء والأفعال عمدت إلى تفسيرها في ملحق/ذيل، هل كنت تختبر لغة المتداول اليومي أم كنت تريد الإيهام بالواقعيّة أم كان دافعك البحث عن تلك الأسلبة التي أعلنها باختين في تناوله للخطاب الرّوائي ؟!!
oo تلك هي الرّواية التي هتف بعد قراءتها الأستاذ بكار : "هذا أسلوب بوجاه !". أقول هذا لأنني فعلا سعيت إلى ترصيعها بألفاظ عامية لخدمة وظائفها السردية أولا، ولاستحضار معجم واقعي تونسي يتماشى خاصة ومعمار الرّواية. الرّواية تُبنى عبر الزقاق والسقيفة والمجالس والمقاصير والمستراقات، وهي جميعا تحيل على المعمار العربي القديم في البيوت القيروانية، وبيوت تونس بصورة عامة، وقد رغبت في اعتماد الكثير من "الأشياء" في تسمياتها العامية الدارجة بيننا تماديا في تصوير الواقع اليومي. ورغم ذلك انتبه "عُتاةُ القرّاء" إلى الأسلوب الخاص بي الكامن في تجاويفها والنابع من بنيتها السردية والملابس لأحداثها. أما مسألة إدراج ثبت يُفسّر العامية فمن اقتراح الأستاذ بكار. ذلك أن النص كان سيصدر ضمن سلسلة "عيون المعاصرة" مثل نص "النخّاس"، ووضع مقدمة له الأستاذ الصحبي العلاني، وطلب الأستاذ بكار بوضع "معجم" في آخره يشرح الألفاظ التونسية للقرّاء في المشرق العربي. لكن ظروف النشر شاءت بعد ذلك أن يصدر النص ضمن "منشورات دار الأدب" ببيروت، قبل أن أعيد نشره – على كاهل المؤلف – سنة 2002.
n لاحظنا غلبة الجمل الاسمية في روايتك "السيرك" والتي تفيد عادة السكون وانحسار الحركة وهو ما يتناقض مع دلالة العنوان الذي يحملنا إلى عوالم الحركة بامتياز. هل هذه المفارقة بين اللغة والمتخيّل من ناحية وبين العنوان والمتن من جهة أخرى من قبيل المراوغة أم المصادفة ؟
oo غلبة الجمل الاسمية… مجرّد صدفة غير مقصودة، إلى حدّ اللحظة لم أعد إلى النص للقيام بإحصاء غلبة هذا النوع أو ذاك من الجمل عليه. والحق أنني لا أحفل كثيرا بمثل هذه الملاحظات الأسلوبية أو أن الكتابة، لأنها مما يُرهق الرّوائي ويضع الأغلال في أقدامه. قد يكون من مهام النقاد أن ينتبهوا إلى مثل هذا، لكن حركة النص، ودلالات الشخصيات داخله، وأبعاده المعنوية تبقى حرة متحركة بعيدة عن هذا أو ذاك من التفسيرات التي تبقى مجرّد تأويلات.
n تمرّ بنا فصول روايتك من خلال عناوينها من الزقاق إلى السقيفة الأولى فالثانية ثم وسط الدار فالمجلس الكبير ثم المستراق مرورا بالمقصورة لتخرجنا من الخوخة. في هذه العنونة مبرّرات كثيرة لقراءات مختلفة ففيها إشارة إلى وعي الرّوائي بشعرية العنونة، وفيها معنى الاستضافة : استضافة القارئ، وفيها ما يحيل على جمالية المكان، فكأنك تؤثّث فصول الرّواية كما يؤثّث بيت عتيق، فأيّ هذه الدلالات كانت حاضرة في ذهن بوجاه وهو يضع عناوين الفصول ؟
oo الدلالة الأولى نابعة من إعجابي بـ"الدقلة في عراجينها" للبشير خريف. كنتُ أعتقدُ – ولا أزال – أنه قد تمكّن من ابتداع بنية رائعة بتقسيم روايته إلى شماريخ وعراجين، فرغبتُ في محاكاته بكيفية أخرى إذ عملتُ على استحضار بنية "البيت العربي" القديم بمختلف عناصر عمارته. وأعتقد أنني قد نجحت في لفت انتباه القارئ التونسي والمشرقي. فكثيرون هم الأصدقاء الذين لاحظوا ذلك وتساءلوا عن دلالاته ! لهذا أجزم معك أنها غاية جمالية تلك التي دفعتني إلى استحضار المعمار القديم المساوق للمضامين.

ايوب صابر 04-30-2012 07:50 AM

n تصرّ في خاتمة رواياتك أن تقحم إمضاءك فتغتال الرّاوي في عملك، هل كنت أنت المؤلف الذي يروي دائما أم أنّه يحزّ في نفسك أن تترك تلك العوالم الرّوائيّة لشخصيّة ورقيّة ؟
oo فعلا ملاحظتك طريفة جدا، والحق أنّ هذا التقليد حاضر في "المدوّنة" و"النخّاس" و"السيرك" و"التاج والخنجر والجسد". أستحضر اسمي مباشرة، أو بعض ألقابي الظاهرة أو الخفية، كأن أقول "أبو يُسر" وهي كبرى بناتي، أو "تاج الدين فرحات" تنويعا على "صلاح الدين بن فرحات" وهي لقبي الأصلي… إلى غير ذلك من "الرموز" المفضوحة الواضحة التي تصبو إلى الإحالة على المرجع الخارجي، وجعل النص "نسبيا" أي نسبيّ الانغلاق، أو الإحالة على ذاته. والأمر نابع من تصوّري للعلاقة بين النص والمرجع، فليس في كتابتي "سيرة ذاتية" بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن فيها يقينا نابعا من الجوار الدال. بين النص المكتوب والمرجع المحكي، حتى لأكنهما واحد. في ذلك تصور للفن الروائي الساعي إلى الانبثاق من الحياة والعائد إليها، ينبثق منها بإثارة أسئلتها الوجودية الكبرى، ويعود إليها للإلحاح على استفهاماتها الأصلية.
… ثمّ انتبهتُ بعد ذلك إلى أن الشاعر الزّاجل في قصائدنا العامية يُضمن اسمه للتباهي في نهاية "القسيم"، فاستطرفتُ ذلك حقّا !!
n لاحظنا في آخر أعمالك وفي "السرك" تحديدا أنّك تنزع إلى الوصف مستعملا لغة واقعيّة محايدة خلافا لعملك البكر الذي جاء مثقّلا بحضور كثيف للذات جعلها تقف منظّرة ملقية بحكمها ورؤاها. هل انحسار هذه الذّات الوجودية وانفجار الواقع ليعبّر عن نفسه في علاقة بانهيار الإيديولوجيّات والفلسفات اليوم ؟
oo قد أوافقك على "انهيار الأيديولوجيا وانحسار الواقع"، لكنّني أولا وآخرا أعيد الأمر إلى "العمل الأول" الذي افتتح به هذا الحديث. فالعمل الأول يقتضي منا أن نقول كل شيء، فكأنه يختزل، ويختزن، جميع الأعمال التي تعقبه، أما الأعمال الموالية فأقل ادّعاء، لذلك تكون أكثر صمتا، وأميل إلى الإيحاء دون جلبة أو ضجيج. فلنقل إن التفسير مزدوج إذن، هذا وذاك في الوقت نفسه، لكنّني أعود لأكرر الإشارة إلى أنّ الكاتب إذ يكتب لا يقصد إلى هذا الأمر أو ذاك، إنما من مهام الناقد فيما بعد أن يُعمل أدوات التأويل فيما بين يديه.
n تحدّث سعيد يقطين في حوار أجريناه معه عمّا سمّاه بـ"الرّواية التفاعليّة" التي استفادت من الثورة المعلوماتيّة. هل يعتقد بوجاه أنّ هذة الاستفادة كفيلة بأن تضمن للرّواية حداثتها، أم أنّ هذا التوظيف لا يعدو أن يكون صرعة فنيّة سرعان ما يعود بعدها الرّوائي إلى سحر المخطوط وجماليات البصري العتيق ؟
oo أنا من القائلين بأنّ "الإنسان بصدد التغير والتبدّل"، فعلا، الإنسان إذ يبتدع أدوات جديدة يدخل علاقات مغايرة، وبالتالي يُغيّر من ذاته، لهذا لا يمكنني اليوم أن أجزم بأن البقاء للمخطوط. إنّما يعنيني أن ألاحظ أن المسألة بالنسبة إليّ تعود إلى الاحتفاظ بالمكتوب، أما بالنسبة إلى غيري فمن يدري. أنا ممن يؤمنون بالقدرة التحريرية للكتابة الروائية التي تحتفظ لنفسها بمجالات الهدوء والصمت والتأمل والرويّة وإعمال العقل. هذه الجوانب هي الكفيلة بالإسهام في تحرير الإنسان، أما الجلبة فلا تغني ولا تسمن من جوع !
n شخصيّة "تاج الدين" – سيد الورق في روايتك "النخّاس" – فيها الكثير من صلاح الدين بوجاه. هل كنت تراوغ الرّوائي بالذاتي وتضفر الرّواية بالسيرة والمتخيّل بالواقعي في مؤلّفِك ؟!!
oo هي هباءات متمازجة، وفي الإمكان أن تعثر على إجابة على هذا السؤال طيّ الصفحات السابقة، تاج الدين فرحات هو صلاح الدين بوجاه، وهو جيل بكامله من أصحاب صلاح الدين بوجاه، لكنه مخلوق روائيّ نصيّ قد قُدَّ من كلمات. لذلك لا أميل إلى التأكيدات الخاوية الجازمة النهائية، إنما تستهويني الأجوبة المفتوحة غير المكتملة. ولا أعتقد أنّ "النخّاس" رواية سيرذاتية، رغم رغبة الرّاوي في الإيحاء بذلك. إنما هي تبنى – مثلما أسلفْتُ- على حوار أخّاذ بين الواقعي المرجعي والنصّي الصرف، لذلك تتردّد بين هذا وذاك. والحق أنّ ما يُنبئ فيها بالسيرذاتي يوجد في غيرها من رواياتي، بل من مجاميعي القصصيّة، لذلك أميل إلى تأكيد ما يمكن تأكيده بالنسبة إلى غيرها… فيها مزيج من نتفٍ وهباءات قد تذكّر بسيرتي لكنها تتجاوز سيرتي لتضرب بسهم في سيرة جيل بكامله، مدوّنة الاعترافات والأسرار كذلك، وبطلها الذي يختفي منذ الصفحة الأولى.
وكنتُ قُلتُ في ذلك الحين، إنه قد غاب، أو غُيِّبَ. وأعلن هاهنا أيضا أنّ "تاج الدين" في "النخّاس" هو أبو عمران سعيد في "المدوّنة" وهو الرّاوي في "التاج والخنجر والجسد"… وهو جميع هؤلاء الذين سيترددون على محاولاتي الرّوائية القادمة، له سماتهم وعلى لسانه شذراتٌ مما يقول، وفي ملامحه أيضا !!
n نواصل الحديث في هذه المسألة : "نصوصي تشبهني، فهي لا تحتيا في كنف العافية، إنما تقوم على مطلق الانشطار والخفّة… والبحث عن الجديد البعدي المبهج".
هذا الكلام لك، ومع ذلك تستدرك سريعا لتقول أنّك لم تقصد كتابة سيرتك ولا سيرة جيلك، وإن كانت الوجوه التي عرضتها في نصوصك تشبهك أو تشبههم.
هل فعلا يقدر الكاتب أن يحسم في ذلك الشبه أم أن المتلقّي هو الذي قد يعثر على ذلك الشبه بينك وبين تاج الدين مثلا لأن الكاتب قد يكتب تحت ثقل اللاوعي فتنسرب من بين أنامله حيواته وخلاياه وجيناتـه وهـو لا يعلم ؟!
هل تكتب وأنت على عرش وعيك أم أنه يحدث أن تراجع نصّا كنت قد كتبته فتغيب عنك دوافع ارتكابه ؟!!
oo فعلا، أنا لم أقصد إلى كتابة سيرة جيلي قصدا، لكن تلك السيرة تظهر من تجاويف الرّواية، تمدّ رأسها لتنظر من خلال شقوقها. وأجزم مجدّدا أنّ نصوصي تشبهني، وأنها مثلي لا تحيا في كنف العافية، إنما تتصادم ولا تترافد ! أقول إنّ هذا ينبع من بنيتها، وبنيات شخصياتها، لهذا فهي "لا تقول هذا" لكنّها "توحي به"، هذا هو لبّ المسألة. وأنا معك في أنّ الأمر يُترك ليحسم في شأنه المتلقّي بما يريد. وقصارى ما أقول هنا لا يعدو أن يكون تفسيرا واحدا من بين تفسيرات شتّى كثيرة يمكن أن تصيب، كما يمكن ألاّ تصيب ! وأشير هاهنا إلى أنّني أكتب نصوصي دفعة واحدة، ولا أعود إليها.
النص الوحيد الذي كتبتُه على مرحلتين، الأولى تفصلها على الثانية سنة كاملة، ثم عدتُ إليه لأتناوله بالكتابة مجددا… حتى تجلّى ذلك في بنيته وترجيعاته… هو "التاج والخنجر والجسد" أما بقية الأعمال فكتبت مرة واحدة، بل دفعة واحدة !
n تقول في الشهادة الأردنية (عمان عدد 101) إنّك اكتشفت أخيرا أنك لا تتوق إلى قول شيء بعينه. وإنّه كل همّك الآن هو معالجة فوضاك ومخاتلته زمنك وقرنت ذلك الشعور بمسألة الكتابة والخوف والحرية ؟
أولا : هل يعني هذا أنّ مقولة رسالة الكاتب (الحضارية) مقولة بائدة وليس عليه أن يكون لا مصلحا ولا مساهما في ثورة أو تحوّلات اجتماعية وكل ما عليه أن يلتفت إلى وجهة ؟!
ثانيا : لنتوسّع في الحديث عن الخوف والحريّة، ألا يحتاج الكاتب أحيانا ذلك الشعور بالخوف ليكتب كتابة مختلفة. ألا ترى في الخوف أو القمع منافع أدبية جمّة فبحضوره يمكن للكاتب أن يخلق أدوات جديدة فتحمله بعيدا عن المباشرة الفجّة التي قد توقعه فيها الحريّة ؟!
oo قلتُ ذلك الكلام لأن الكاتب في بداية تجربته يسعى إلى أن يُعلن عن مواقف، أما حين تتقدّم به السنوات فيُصبح أقلّ وثوقا، وأكثر تواضعًا… حتى أنه يكاد أن يعتبر الصمت أفضل من النطق ! لهذا أقول إنّ منتهى ما أصبو إليه هو أن أخاتل زمني وأعالج فوضاي. أما الخوف الذي أشرتُ إليه فخوف فعلي في بداية حياتي، نابع من مجاورة "الجان" في اعتقادات الطفولة ومجاورة الموتى في فناء الولي الصالح، حيث كان الأجداد قد اتّخذوا الفضاء مقبرة يدفنون فيها موتاهم. أمّا بعد تقدّم السن، فلقد أصبح الخوف سبيلا إلى الحرية. في هذا المستوى أوافقك على اعتبار أنّ الكاتب فعلا يحتاج ذلك الخوف لكتابة روايات أكثر إيحاء، وأقدر على الاستشراف. خشية الانفضاح تجوّد أدوات الكتابة عندنا، وتندرج ضمن المستقبل. استشراف المستقبل هو الضامن لوجود كتابة تحترم ذاتها. لكن الكتابة الأجدى تبقى – رغم كل هذا – جهادا ضدّ الضغط والظلم والخوف… جهادا في سبيل الحرية.
n يمثّل الفنتاستيكي رافدا من روافد تجربتك، فهل هو ناتج عن انغماسك في المدوّنة التراثية أم عن قراءاتك لأدب أمريكا اللاتينية… أم هي طفولتك القرويّة القيروانية بين الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت، أم كل هذا مجتمعا. نريد قليلا من البوح والتجلّي في علاقتك بالسحري والعجائبي واللامعقول ؟
oo أجواء باهرة هذه التي يحيل عليها سؤالك، تفتح مجالا رحبا لتمثل "الأدب". وهل "الأدب" بصفة عامة إلا ذلك الانغماس المبهج في "ألف ليلة وليلة" التي على إيقاعها تمضي طفولة الفتى في مدننا القديمة، وعلى إيقاع ما نُسج على غرارها من "صور متحركة" و"ألبومات مصورة" تمضي طفولة الفتيان شرقا وغربا. لهذا ليس من العسير اليوم أن نهتف أن "الأدب" هو ذلك البراح الفاتن الذي عليه تنفتح ألف كوّة من كوى الطفولة والشباب. الأدب الفنتاستيكي أوسع من أن يُضبط في رواية أمريكا اللاتينية، أو أجواء الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت.
علاقتي بالسحري واللامعقول تعود إلى أغوار خفية في تركيبة طفولتي، إلى أشياء صغيرة جدا تواريها أمي في حقق من العاج والمعدن والخشب، بعضها معلوم وأكثرها غير معلوم، إلى اعتقادها أنّ كائنات عجيبة تشاركنا حياتنا وتملأ أركان غرفنا ومقاصيرنا، إلى حكايات العمة الوافدة من أعماق القص الشرقي، إلى ليالي الشتاء الطويلة الصامتة تلف خيالنا بألف ملاءة من بيارق ملوّنة وبخور لذيذ، إلى "زيارة" أولياء الله الصالحين تفعمها الشموع… إلى رائحة الدم في أضاحي المساء البعيدة، حيث تولد الحكايات من كمّ فرحنا وخوفنا وتوقنا إلى الجديد الرائق.
هل أقول يا أخي كمال إنّ الأصل هو العجيب، وإنّ كل ما عداه ثانوي واستثنائي وطارئ. أوَدُّ ههُنا أن أجزم بأن الذائقة الغالبة على إدراكنا للرواية اليوم هي الذائقة "الفرنسية المدرسية" التي قنّنت الرّواية وضبطتها وجعلت منها ما يُعرف بين جمهور النقّاد بأنموذج "القص الكلاسيكي"، كأنما جاء وقت قد تمحّضت فيه نواميس بعينها للتعبير عن جنس بعينه واضح الملامح، جليّ العلامات، والحقّ أن هذه القوانين الكلاسيكية لا تعدو أن تكون رافدا من روافد القصّ موصولة بمحور بعينه من محاور الرّواية في العالم. وفي إمكاننا أن نشير على وجه الدقّة والتحديد إلى أنّ الرّواية الفرنسية هي التي أورثت العالم هذا الإدراك بتمحيضها رافدا بعينه من روافدها واعتباره الأصل والمحور، واعتبار كل ما عداه فرعيا طارئا غير أصيل. والواقع أن توسيع دائرة الإدراك سرعان ما يُنبئنا عن فضاءات روائيّة أخرى كثيرة منها الرّواية الإسبانية خاصّة، والرّواية الألمانية، وقد لبثتا منفتحتين على مستنداتهما المشرقية انفتاحا ذكيا جدا، ومنها المستندات العربية، والفارسية والهندية والإفريقية.
ولقد عملت على تطوير ذلك الموروث الثري وإعادة تأمّله فتيسر لها الكثير من الغِنى والطرافة وتوطّدت قدرتها على استدراج آليّات مشرقيّة بالغة الأهمية، منها خاصة آلية الشعر الصوفي، وما يُتيحه من عروج على مقامات بهيّة غير معلومة.
عن الرّواية الإسبانية أو أكاد أقول الإسبانية/العربية القديمة) تولّدت الرّواية الأمريكية الجنوبية، بمختلف نماذجها، هذه التي أضحت اليوم دُرجة أدبية في العالم. والحق أنّني قد اطّلعتُ عليها اطّلاعا واسعا في السنوات العشر الأخيرة، إذ كنتُ قد لبثتُ أسير النظرة الطاغية القديمة… رغم إيماني الثابت بوجوب تطعيمها بموروثنا الشخصي الأمومي الدراويشي التراثي القريب قصد تطويرها وإغنائها بالجديد. لهذا أذكر مجدّدا "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" و"المسخ" لكافكا و"ذئب البراري" لهرمان هسه… قبل أن أذكر أيّة رواية أخرى !
n وصف الأستاذ محمد الغزّي روايتك "النخاس" بأنّها "بالأدب الملحمي أوثق صلة"، هل يعني هذا أنّ الرواية انعطفت على سابقتها "الملحمة" لتتشرّب منها ؟ هل يعني هذا أن الرواية تُقبل على إحياء الملحمة التي كانت المتهم الأول في إراقة دمها ؟!
oo لقد غدا مقرّرا الآن أنّ الرّواية جنس "أَكُول"، يتغذّى على الأجناس الأخرى، فيقتات من الشعر، والملحمة والقصة القصيرة والموّال والعروبي والخرافة والأسطورة، يستحوذ على فضاءاتها، حتى يكون – مثلما أثْبَتُّ يوما ما – مثل النواسخ التي تدخل على المبتدإ فيكون اسمها وعلى الخبر فيكون خبرها. الرواية بهذا الفهم تُحدث تشويشا في النظام القائم، نظام الوجود، لتعويضه بنظامها المبتدع.
على هذه الشاكلة فهمتُ الكتابة الرّوائيّة، وأمارسها اليوم، وضمن هذا الإدراك أفهم قول الصديق الشاعر محمد الغزّي "إنّ النخّاس بالأدب الملحمي أوثق رحما". والواقع أنني لم أكتبها لغاية معيّنة أو ضمْن هدف بعينه… إنّما كان قصارى ما رغبتُ في إنشائه لا يعدو أن يكون نصّا يستلهم التراث العربي والرواية الحديثة في الوقت نفسه. المأزق الحقيقي الذي انبثقت منه كتابتي يكمن في برزخ اللقاء بين الوهم والحقيقة. كل ما حولي في طفولتي يعلن عن نفسي العقل، خاصة في رحاب الولي الصالح سيدي فرحات ورحاب الصحابي الجليل أبي زمعة البلوي، بينما الدُرجة العربية في السبعينات خاصة كانت تتمثّل في التشبّث بالعقل لدى النخب المثقفة على الأقل.
مع مدونة "كافكا" انتبهتُ إلى إمكان التعبير عن المتناقضات، قول العقول والحدس والعجيب في الوقت نفسه، هذا هو اليقين الذي نحن في حاجة إليه الآن، أن نكون في مكانين في وقت واحد، أو قل أن نكون في المكان وخارج المكان، هذا هو إيقاع العصر، وليس في إمكان الرّواية العربية إحداث إضافتها الكونية اليوم إلاّ بتجاوز المنطق الأحادي، والجد المبالغ فيه وارتياد مجاهل الوهم والعجيب واللامعقول. ليس لدينا مدوّنة فلسفية نستند إليها، كل ما هنالك نُبذٌ من شتات غير واضح من الرؤى التي يمتزج فيها الكياني الأصيل بالسياسي المتغير السريع غير الثابت لا سلاح لنا اليوم غير التناقض، والتهكّم، والعجيب. بهذا قد نتمكّن من رصد واقع عربي متناقض عجيب غير معقول، واقع لا نملك فيه شيئا، ولا نتحكّم فيه.
الرّواية التقليدية تتصوّر أنّ الكاتب ذات قوة فاعلة قادرة على التغيير، والحقّ أنّ قصارى ما تتوق الرّواية إلى تسجيله لا يعدو أن يكون تأكيد عجزها وعجز شخصياتها، وعجز الرّوائي عن الفعل.
المنفذ الوحيد للنجاة اليوم من مخلب الواقع المرير يكمن في السخرية منه، فلا مستندات فلسفية عربية واضحة اليوم، ولا مستندات فلسفية غريبة يُمكن أن تعبر عن الواقع العربي العجيب. لهذا فإنّنا نعلن أنّ رواية قائمة على التناقض هي الأقدر على التعبير على همومنا الكثيرة الطاغية. ضمن هذا الأفق ندرك قولة الغزي أنّ الرواية لدى بوجاه تتوق إلى الملحمة !

ايوب صابر 04-30-2012 07:50 AM

n كيف تُدرك مستقبل الرّواية العربية في ظل ما نرى من تنوّع أسلوبي ومناخي لهذا الجنس في العالم. هل تصمد الرّواية العربية أم تتحوّل إلى مسخ قبل أن تتحلّل ؟
oo من صُلب التنوّع الأسلوبي والسردي والمناخي تُولد الرواية العربية وليس العكس. وكلما كانت الرواية قادرة على التحول والتبدّل والتجدد تمكّنت من الصمود أكثر من السابق. هذه الصيرورة هي التي تريدها الحركة الطبيعية لتحول المجتمع ويؤسفني كثيرا وجود بعض الأدعياء ممن يزعمون الإيمان بالماركسية وبإطنابها في رصد التحوّلات التاريخية، وهم في ذلك لا يتجاوزون الأخذ بالظاهر الذي هو من قبيل الموضة الاجتماعية، يُنكرون على الرواية تحولها الداخلي. والحقّ أنّ هذا الجنس – عبر تاريخه الطويل – قد أكّد قدرته على أن يُولد في كل منعطف ولادة جديدة. فالقصّ الشرقي، ورواية الفروسية، وما يُعرف بالرواية الكلاسيكية، والرواية الرومنسية والسريالية، والواقعية، والرّواية الجديدة، والسحرية والذهنية… وسواها… لا تعدو أن تكون تنويعا على أصل واحد. لهذا نؤكّد مجددا أنّ مستقبل الرواية العربية لن يكون إلا بإصرارها على امتلاك مبدأ التنوع والتحول الذي تشير إليه في سؤالك صديقي كمال.
الرّواية لا توجد في المستقبل إلاّ إذا ما أيقنت بالغرق وقبلت الاختلاف، وأقرّت بهما، حينها فقط تكون قادرة على أن تطفو فوق سطح الرداءة. لا امتلاك لمستقبل الرّواية إلا بالإقرار بالخروج من الرّواية وهجرانها ومغادرة مضاربها. في عالمنا العربي حصل هذا دون قصد، فمن صلب رواية القرن التاسع عشر، بطابعها التعليمي والتاريخي، انبثقت "الرّواية الفنية" في سعي إلى تمثل البداية الغربية -والفرنسية على وجه التدقيق – وتقليدها تقليدا تاما كاملا مباشرا، ثم كان الحدث الرّوائي الكبير الذي مثله نجيب محفوظ في مصر والبلاد العربية، والذي اختزل تجارب متتالية كانت الرواية الغربية قد عرفتها في عشرات السنين.
وعلينا أن نشير أيضا إلى أنّ الرّواية لم تعرف المسار التاريخي ذاته، فتطور الرّواية العربية غير تطوّر الرواية الفرنسية، وغير تطوّر الرواية الإسبانية مثلا، تلك التي مثّلت تاريخا مختلفا عن تاريخ الرّواية الفرنسية، فعلا كانت تاريخا مغايرا للسائد باعتمادها على إنجازاتها الداخلية المستندة بدورها إلى مبدأ القصّ القديم، بحواشيه واستطراداته الكثيرة، وزمنه الدائري، وكثرة هواتفه وشخوصه وأصواته. لهذا فمنتهى ما نقول هنا أننا ننفي هاهنا قطعيا أن تكون الرّواية قد احتفظت خلال تاريخا الطويل بسمات معيّنة يُمكن أن تغلبها على بقية السمات الكثيرة المتبدّلة المتغيّرة على الدوام. علينا أن نكتب رواية مختلفة في كل مرّة نمسك فيها بالقلم، علينا أن نكتب نصوصا جديدة.
n صلاح الدين بوجاه من الرّوائيين القلائل الذين لم يتنكّروا للقصّة القصيرة بعد أن ذاقوا طعم الجنس الرّوائي ! لماذا هذا الوفاء للقصة القصيرة ؟ هل هي ألذّ طعما ؟
oo لستُ ممّن يُميزون بين الرّواية والقصة القصيرة. وأعتقد جازما أنه ليس من شأن الكاتب أن يُميّز بين الرّواية والقصة القصيرة. هنالك مواضيع تتلاءم مع هذا الجنس، وهنالك أخرى تتلاءم مع الجنس الآخر، بكيفية عفويّة نابعة من جوهر الجنس الأدبي القائم في واحدة على اللمحة القصيرة، والأحداث المقتضبة والشخصيات القليلة – في الغالب الأعم – وعلى عكس ذلك في الأخرى. أمّا أمر التمييز فيُتركُ للنقّاد. وأعتقد أنّهم لا يعودون إلى الفصل بين القصة القصيرة والرّواية إلا أثناء التدريس، أما حين يتعلّق الأمر بالتقبل – مجرد التقبّل – فإنّهم يقتصرون على الاستمتاع. وهاهنا مربط الفرس مثلا يُقالُ، فهناك متعة فنية صرف تنشأ بين النص والقارئ، تُسهم بعض المتع الجانبية في صياغتها، ومنها متعة الموضوع وقربه أو بعده عن النفس، ومنها متعة الأسلوب… لكن الأمر في جوهره يتّصل بمتعة كبرى واحدة طاغية هي "متعة السرد"، فإذا ما نشأ تواطؤ بين كاتب النص وقارئه حول أمر السرد كان كل شيء، وإذا لم ينشأ ذلك لم يكن شيء.
وتدركون جيدا أن أمر المتعة ليس مقنّنا، فهو أمر عجيب يستعصي على القياس والضبط. لهذا يبقى غائما ضبابيا… لكنه ثابت حاضر أثناء كل عمليات التقبّل. لهذا فإنّ القصة القصيرة لا تختلف في أمر ولادتها عن الرّواية. انظر حقلا شاسعا تملأ الأزهار جنباته، ترى هل يتساءل في أول انبثاقها عن نوعها وجنسها وأسرتها وفرعها ؟ وما أن يدخل عالم نبات حتى يستهل عملية جديدة طارئة على الطبيعة وهي الضبط والتبويب والتفريع، حينها تولد القصة القصيرة، وتولد الرّواية، وتولد الملحمة، والقصة الطويلة… وسواها كثير. لهذا فإنّه ينبغي أن نميّز بين لحظتين تتكاملان لكنها لا تندمجان، تترافدات وتتساندان. لكن إحداهما لا تعوّض الأخرى بأيّة حال من الأحوال.
وكنت في بداية أمري قد أنشأت عددا من القصص القصيرة، ثم تركت هذا الصنف لوقت طويل اشتغلتُ فيه بالرّواية، وهي جنس رائع لأنّه يحقق عشرة عجيبة بين الكاتب وشخصيات عمله، عشرة محببة جدا إلى نفسي، فكأنها الصداقة الفعلية التي تنشأ بين الناس في الحياة، لذلك أفضل – في المطلق – الاشتغال بهذا الصنف. لكن القصّة القصيرة تمدّ أعناقها من أعطاف الوجود لإغرائي في لحظات بعينها. وأعتقد أنّ جنس "البورترية" هو الذي يجتذبني في أصل كل قصة قصيرة. لهذا فإنها تعتمد على شخصية واحدة في الغالب الأعم.
n لاحظنا اهتماما كبيرا بالأشياء في جل أعمالك الإبداعية، حتى أنّك قد تجعل من الشيء البطل أحيانا مثل قصة "المصعد" فهل يعود ذلك إلى شغفك بالأشياء أم إلى تأثّرك بالرّواية الجديدة في فرنسا، واهتماماتك النقديّة ؟
oo الأشياء هي الحياة. وفيما وراء الانتباه إلى كون "الشيء" فاعلا أساسيا في القصة ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الشيء يمثل الوحدة الأصلية في الحياة، أو قُل جوهرها الباقي. فهل الحياة – في نهاية المطاف – غير ثَبْتٍ غير متناسق من الأشياء، ثبتٍ مشوش، لكنه أصيل صادق، ثبتٍ طبق الأصل !! تفتنني الأشياء، وقد أشرتَ في استفسارك إلى "المصعد" في قصة سرفنتيس رسخت في ذهني طواحين الهواء. لبثتُ استعيدها مرات بعد الفراغ من النص. لقد كانت حقا أهمّ من الدون كيشوت ! الطواحين والحصان !
ألستَ معي يا صديقي كمال في أنه يُمكن اختيار عنوان أروع للدون كيشوت يكون "الطواحين والحصان". العالم الجديد يغيب الإنسان، ويجعل منه مجرّد ظل للوجود، مجرّد رقم. فلنتخيّل معا نهاية لرواية "الطواحين والحصان"، وسرعان ما سوف ننتبه إلى أنها، في جوهرها لن تختلف كثيرا، لكنها ستكون أصدق وأكثر تطابقا مع الواقع. لهذا أكرّر أنّ الأشياء تفتنني، اليوم أُمسك بالمعجم (أي معجم/لسان العرب مثلا) وأستهلّ قراءته على أنه قصة، أو قل مجموعة من القصص المتتالية التي يمكن قراءتها بلا توقّف، تستهلها متى أردت، وتستوقفها متى شئت، ثم تعود إليها فجأة، وبلا سابق إصرار… هذه هي القصة وهذه هي الحياة.
"النخّاس" مثلا حُبْلَى بالأشياء، فوق المناضد، في الطبيعة، في ذهن الكائن البشري، والأشياء تحيل على الوجود، وجود الأبطال، المسألة في رأيي فكرية، وليست سردية أو فنيّة. الأمر يُحيل على تمثل للوجود وتصور للحياة أعمق من تمثل القصة وتصوّرها، لهذا فإنه يعنيني هاهنا أن أتشبّث بما استُهلت به هذه الأسطر : الأشياء هي الحياة. فأيّة رواية يمكن اختزالها في كلمات، هي أشياء مضمونة إلى بعضها البعض. إنّي أحلم بكتابة قصة أو رواية لا تعدو أن تكون ثبتا متلاحقا من الأشياء. فعلا أحلم بكتابة معجم لأشياء متلاحقة يُعرّف بعضها البعض الآخر. وأعتقد أنني سوف أساق يوما إلى كتابة هذا، أو إلـى كتابـة شـيء مماثل !
n ألا يعني هذا أنّ الناقد يباغتك أحيانا ويضع بردته على كتفيك ؟
oo أعتقد، على عكس الظاهر، أنه لا يسكنني ناقد خفي يضع بردته على كتفي، إنما أظنّ جازما أنّ كائنا متفلسفا يملأ كياني، كائنا همه الاستنجاد بأعمق ما ينبجس من وجودنا العربي لمّا لشتات نظرية عربية في الرواية. إنّ همّي يكمن في مجال اللقيا بين الرّواية والنظرية الفلسفية، وإني لأدرك جيدا أنّ غياب نظرية فلسفية متكاملة ممّا نسمّيه مجتمعا عربيا هو أصل هذه المهزلة. والواقع أنّ المجتمعات العربية (التي نصر دوما على نحتها المجتمع العربي والحد) متفاوتة الوعي بالأشياء، تتحكّم فيها علاقات متداخلة مختلفة من مجتمع إلى آخر… لكنها في منتهى أمرها تنتمي إجمالا إلى المرحلة نفسها.
أُدرك أن كثيرين سيجزمون باختلاف بنية الأسرة في تونس مثلا عن بنية الأسرة في الخليج، لكنني أعود للجزم بأن الأمر في منتهاه يؤول إلى جوهر واحد، فالظاهر هو الذي يتخير ؛ زد على ذلك أنّ الأمر لا يستقيم للمقارنة الكمية، فأسر قليلة في العاصمة التونسية مثلا تغيرت العلاقات داخلها بكيفية تامة، فأضحت تختلف عن مثيلاتها في أي مكان عربي آخر، أما الغالبية العظمى ففي جوهرها (ورغم التعليم والتجربة والاحتكاك بالمجتمعات الأخرى) أسرٌ عربية صميمة. لهذا أعود إلى سؤالك للإلحاح على أنّ ذات الكاتب تستجمع الناقد والمتفلسف ورجل السياسية ورجل الاقتصاد لتصنع منهم في النهاية ذاتا واحدة قائمة على التناقض. والتناقض هو لبّ المسألة وجوهرها !
عليه ينبني الثراء الذي يزعمه الكاتب، فالنفوس الهادئة المستكينة التي لا تعرف تقلقلا نفوس غير كاتبة، أما الذات الكاتبة فذات متعددة، تدرك جيدا أنّ كائنات شتى كثيرة تسكنها، وأنها لا تعيش في كنف الوئام والاستقرار إنما تتدافع على الدوام، فيجذب بعضها البعض الآخر، و"يُبهذل" بعضها البعض الآخر، فيستخف به ويسخر منه ويتهكّم عليه ! هذا هو مناخ الرّواية، إنها – مثلا أكرر دوما – ليست بنية معرفية تنشد الحقيقة، إنما هي تنشد حقيقة ما… قد تختلف من قراءة إلى أخرى… بل إنها لتختلف من قراءة إلى أخرى حسب اختلاف القرّاء.
n تجلّى في مدوّنتك النقدية اهتمامك بالأدب المقارن، والأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، هل وجدت ما يُميّزه عن الأدب العربي المكتوب بالعربية ؟
oo بقي الخطاب الرّوائي الغربي – في أعراف نقاد كثيرين – خطاب أطراف، تستوي في هذا المدوّنتان العربية والمكتوبة بالفرنسية ويتوافق الموقفان المشرقي والأوروبي. ويبقى الخطاب النقدي الذي يتناوله مخطئا أهدافه معرضا عن تقصّي مكامن الأدبية فيه وعن اعتباره من جيد الأدب، في الشائع الغالب الأعم. فالاهتمام بالمدوّنة المغربية (ضمن مجال الأدب المقارن) يعود إلى الإحساس بهذا التناقض الأصيل الذي تتبع عنه ثنائية المشرق والمغرب، أو قُل أنه ينبع منها !
وهو يستند إلى تبريرات متعددة، منها الشخصي الناتج عن إسهامنا في الساحة الثقافية التونسية، ومنها الموضوعي الكامن في بحوثنا الجامعيّة، ومنها المستقبلي النابع من توقنا أي إبراز ما يخصص هذه النصوص، ويُسهم في التعريف بأدبيّتها، ويُنبه إلى مطايا التأثير المتبادل بينها. لهذا فإنّنا نودّ أن نُسجل هنا أن مشروع اهتمامنا بالأدب المغربي مشروع طموح، ذو غايات متنوّعة، وهو المتردّد بين ثقافتين تتبادلان المدّ والجزر والإغناء المتبادل منذ عقود من زمان. ومهما يكن من أمر فإنّ اقتضاء البحث في هذا المجال الأوسط بين إبداعين روائيّين تونسيّين، أو مغربيّين، كُتبا في لغتين مختلفين، قد أضحى اقتضاء عاما ينبجس ممّا يُحبّر فوق أعمدة الصحف، ومما ينشأ في الملتقيات الأدبية العامة، فضلا على ما قد تظفر به طيّ هذا المصنف المتخصّص أو ذاك.
والملاحظ أنّ الأدب المغربي بصفة عامة قد أخذ في الآونة الأخيرة يلفت الانتباه، ويتطلّب الانعطاف بالنظر والدرس والتمحيص، بيد أنّ المسألة لم ترق إلى حدود المقارنة بين أساليبه، وأنساقه السردية، وأغراضه ودلالات خطابه. ولاشك أنّ تواتر صدور روايات جديدة تستعمل اللسان الفرنسي، في تونس والجزائر والمغرب، بعد عقود من انقشاع الحماية، يُعدُّ من القضايا التي تتطلّب النظر والتحقيق، فضلا على المواضيع المعالجة والخيارات السردية والأسلوبية وجميع ما يحف بها من مستلزمات وحواف، تعود إلى التقاليد الأدبية والفنية والثقافية العامة.
لهذا فإنّنا نتوق إلى توظيف المقارنة بين المدوّنتين العربية والفرنسية في بلاد المغرب لتجاوز الموازنات التاريخية والاجتماعية والسياسية نحو البحث في إنشائية النص الرّوائي المغربي بصورة عامة.
n لاحظنا أنّ الأدب العربي في المهجر، وخاصة منه التونسي، يعيش على الذاكرة، ولا يستفيد من الفضاءات التي يعيش داخلها، باستثناء قليلين، فكأنّه لبث أسير "القصبة" أو "القيروان". هل قدر الكاتب العربي على البقاء أسير الذاكرة ؟
oo فعلا هذه الملاحظة ذكية جدا، تؤكّد أن الكاتب يبقى أسير حضارته، وما تقوله هاهنا يُمكن أن ينطبق على الأدب في المهجر بصفة عامة، فجماعة جبران وأبي ماضي، وميخائيل نعيمة مثلا لم تستفد كثيرا من الفضاء الحاف بها مقارنة باستفادتها من المخزون الداخلي الذي حملته معها عبر المهاجر المتكرّرة التي قصدتها. فكأنّ الأدب يبقى محكوما بنواميس داخليّة ترجع إلى الثقافة التي يتربّى داخلها الكاتب طفلا، أكثر من عودتها إلى المناخات الجديدة التي يعرفها كهلا، لهذا فإنّنا نؤكّد معك أنّ الأدب العربي في المهجر قد ظلّ يعيش على ذاكرته الداخلية دون أن يستفيد كثيرا من الفضاءات التي يعيش داخلها… دون أن أضيف قولك "باستثناء قليلين"… فهؤلاء القليلون أيضا – في جوهر أعمالهم – يَمور الأدب العربي القديم. خُذ مثلا على هذا عبد الوهاب المدّب، صاحب اللغة المعقدة جدا، حتى بالنسبة إلى الفرنسيين أنفسهم، وصاحب المدوّنة المفعمة بالمصطلحات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية الدينية، فلسوف تنتبه إلى أنّ مدوّنته قد انبنت على استرجاع التصوّف بكيفية دائمة وثابتة. لقد أكّد أن تلك العودة تعني إسهاما في الحضارة الكونية، التي يدخلها من خلال الفرنسية بمخزون ثري هو التراث الصوفي، بأنواعه.
لكن الأحكام التي ننشئها حول مدوّناتنا لاحقة بالنسبة إليها. فنحن نكتب أولا، ثم تأثير الأحكام بعد ذلك. والحكم هاهنا لا يُبرّر الأصل إنما يؤكّده. لهذا نلح على أنّ عبد الوهاب المدّب كاتب عربي يكتب بلغة أجنبية عزيزة جدا، قريبة من نفسه. فالعروبة والأسلوب في أعمق تجلّياتهما يطلاّن برأسيهما من فجوات مدوّنته بكيفيّة لافتة.
n تكتب القصة القصيرة بنفس روائي، حتى أنّك تعود أحيانا إلى القصة نفسها لتستأنفها كقصة "زرنيخ" مثلا، وبعض قصصك أشبه بروايات قصيرة، مثل قصة "المرأة التي تدبغ ظهور الرجال" !؟
oo أنا على يقين من أنّ أعمال الكاتب تنفتح على بعضها بعضا. يحدثُ ذلك بسُبل خفية كثيرة، ويحدث أحيانا بكيفيات واعية غير خفية، والملاحظ أنّني أتولّى إحداثه جهرا بإشارات كثيرة، فرواية "حمام الزغبار" التي أتولّى نشرها هذه السنة تُختتم – على سبيل الذكر – بهذه الطريقة : "وقد ورد ذكر هذه الدروب والحمام والفرناق في مخطوط "التاج والخنجر والجسد" الذي وقعت بين أدينا نسخة منه، حيث وصف الكاتب السراديب الطوال المودّية إلى زاوية سيدي فرحات، الواقعة شمالا على مسيرة نصف يوم لراكب الدابة من القيروان". ولك أن تنتبه إلى أنّ رواية "التاج والخنجر والجسد" تتضمّن في خاتمتها إشارة إلى "حمام الزغبار"، أما رواية "النخّاس" فتشير إلى هذين النصين كما تتولّى الإلمام إلى روايات أخرى كُتبت، وإلى نصوص مخطوطة، وإلى أعمال لازالت في ضمير الغيب، إنّما أصبو إلى تجبيرها مستقبلا. ضمن هذا التداخل المقصود أُدرك أبعاد إشارتك إلى أنني أكتب القصة القصيرة بنفس روائي، وكنت ضمن هذا الحديث أشرتُ إلى انفتاح هذين الجنسين أحدهما على الآخر. هذه وجهة في التصرّف تروقني كثيرا، وإني لموقن من أنّ الواحد منا – مهما يكن من أمر – يعالج نصا واحدا بكيفيات مختلفة.
وغالبا ما يكون الأمر مختزنا في روايته الأولى، أو الثانية، انظر الأفلام الأولى لكبار المخرجين في العالم تجدها تحوي كل شيء، مثل "صندوق الأم في المقصورة القديمة"… أمّا الأشرطة الموالية فتعكف على بعض اللمحات أو المشاهد الموجودة في "الصندوق الأول" فتعيد معالجتها وتوظيفها… شأن الزئبق المستعصي على المعالجة !
n هل كنت تلملم، بسفينتك في "النخّاس"، مثل نوح بقايا شعوب المتوسط ؟
oo لقد كنتُ، على حدّ عبارة ابن النديم، أرغب في لملمة جميع شعوب الأرض. وأزعم أنّ مهمّة الرّوائي تتمثّل في جدوى أن يقول كل شيء في وقت واحد. أو قل أن يُعبّر عن الجزئي وهو يتعرّض إلى الكلي. صورة الطوفان، وسفينة نوح، تروقني كثيرا. فهي تعني التجميع، والبدء من جديد والاستئناف فالخلاّق، كما تعني الحياة إذ تُبنى على زوجين من كل جنس. بصورة عامة هو ذاته الهدف الذي قصدتُ. التجميع والاستئناف والابتداع كلّها مسائل تعنيني كثيرا.. لهذا أقبل الليغوريا الطوفان ونوح للتعبير عن "النخّاس". كذا النخّاس كانت تتوق إلى جمع "العرب والعجم والبربر، وكل ما عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" عسى أن تقول كل شيء، أن تمسك بالجوهر في حركته غير المرئية المنسوبة داخل تجاويف الزمان والمكان.
وفكرة لملمة الشعوب تعني ضربا من الكوسموغونيا، أي القصة التي تحكي البدايات، وتقول الاستهلال. كذا النخاس تتوق إلى التعبير عما به كانت بدايات المتوسط خاصة، في ذلك الحوار العجيب بين اليونان والرومان والعرب، في صدام خلاّق ابتدع الفلسفة، والحب، والخير والشر، ابتدع الله الشيطان، والحرب والسلم، ابتدع القمح والشعير والعسل والزيت الذي يكاد يُضيء !!!
وألبث دوما أصبو إلى كتابة نص مثل النخاس، وإنّي الساعة أشتغل على موضوع آخر يُتيح بالنسبة إليّ الكثير من إمكانات التجميع التي تشير إليها، وهو موضوع "الكثرة" و"التعدّد" و"التكسّر" التي تسكن الكائن البشري، أو قُل تسكنني، وتعبر عن هجنتي وتعدّدي. هاهنا أقدم صورة الكوميديان القادر على تمثيل جميع الأدوار دون أن يتقمص أيا منها تقمّصا نهائيا. هذه هي المواضيع الكبرى التي تغريني يا أستاذ كمال، بل تُغريني للإمساك بها يعسر حقا الإمساك به في وقت يتحتم على جنس الرواية أن يقول الكثير ، بل يتحتّم عليه أن يقول كل شيء !!!
n كيف ترى المرأة ؟ بعين الفنان أم الشاعر، أم النخّاس ؟
oo بعيون هؤلاء جميعا ! المرأة كائن خارق بالنسبة إلى الرجل (كما أنّ الرجل كائن غير عادي بالنسبة إلى المرأة)، لهذا ينبغي أن يتحفز ذهنه، وحواسه وخياله، وكل ذكائه لإدراكها والإلمام بالعامل السحري الذي تشيعه فيما حولها. وموقع المرأة في الأدب أجلُّ من موقعها في الحياة وأبقى. لذا فإنّني ألحّ على ضرورة أن يتعاضد الفنان، والشاعر، والنخّاس للإحاطة بهذه الظاهرة التي تتأبّى على الإحاطة : الفنان كي يُحيطها بهالة من التقديس، والشاعر للتغني بآلائها، والنخاس لاختراق كيانها وتطويعها لأداء مهمات أرضية !؟ هذا هو التناقض الأصيل الذي يقوم عليه وجود كل امرأة، والذي ينبغي التعامل معه بكيفيات مختلفة متفاوتة.
الشعر والفن والنخاسة تتعامل مع فتنة يعسر التعامل معها، مع زئبق يعسر الإمساك به وتذوبه. وجذر الفتنة – مثلا تدرك أستاذ كمال – متنوع الدلالات. لهذا فإنّ ذلك يتطلّب تعدد سُبل التعامل معه. فهو يقوم على :
ـ الغواية
ـ الحرب / وبعد الشُّقة
ـ والفتّان هو الشيطان
ـ السحر.
لذا تأكّد أن تحافظ المرأة الفاتنة بسرب من الفنانين والشعراء والنخاسين كي يُسهموا في تعداد آلاتها، والوقوف بين يدي غوايتها والخضوع لها، والخروج عليها وانتهاك حرمتها. هذا التناقض الأصيل في كيان المرأة هو الذي رغبت بلا شك في الإمساك به عبر رموز (الفنان والشاعر والنخاس)، وهو بلا شكّ لبُّ الأمر كله في لعبة التبادل الآسر التي تحدث بين المرأة والفن.
ولك أن تنظر في مختلف تجاربي في مجال الرّواية ولسوف تظفر بما يؤكّد هذا التعدد في التعامل مع المرأة. فهي محل الرغبة، ومنطلق الإغواء، وباب من أبواب اختراق المقدس. "مدونة الاعترافات والأسرار" تؤكّد هذا و"راضية والسيرك" و"النخاس" والمجاميع القصصية و"التاج والخنجر والجسد"… وغيرها من القصص القصيرة، تدور جميعها حول معاني الإقبال والإدبار في التعامل مع هذا الكائن الروحاني الأرضي، الإلهي الترابي، البعيد القريب، العجيب الساحر والبسيط المتاح !
عليه فإنّني أبوح هنا بأن الأدب برمّته قد لا يعدو أن يكون ترددا بين مختلف إشكالات الوجود الكبرى، وهل المرأة غير واحد من أهم إشكالات الوجود !؟
n ألا تعتقد أنّ الروائي العربي اليوم انقلب إلى نخّاس ؟ أنا أرى ذلك فعلا. فهو يحشو نصوصه بالشفاه والقُبل وأجساد النساء.. ؟ كيف يكتب بوجاه الجسد ؟
oo إنّ الاكتفاء بالنخاسة (على معنى الإجابة السابقة) يُعد تقصيرا صريحا، خاصة في مستوى الرّواية. لهذا فإنّني أعتقد أنّ الروايات (أو الرّوائيين) التي تشير إليها (أو تشير إليهم) لا يمثّلون الأنموذج العربي الأوسط، أو الأنموذج الأكثر شيوعا بين الأدباء. لهذا فإنّني أودّ أن أشير إلى أنّ الروايات الجيّدة أو الروائيين المجيدين، أرفع من مجرّد معنى النخاسة، أو المفاهيم الحافة به. وأسوق على سبيل الذكر لا الحصر رواية مثل "فساد الأمكنة" لصبري موسى، حيث تُنتهك المرأة، بل تباع وتشترى في سوق السياسة وتشابك المصالح المشبوهة. يحدث ذلك من قبل طغمة يرغب الكاتب في تصوير صلتها بملك مصر، دون أن يجعلها الأكثر سيطرة على حظوظ الناس والمجتمع، إنّما قُصاراه أن يُلمح إلى وجودها، بل وانتشار ممارساتها، وسيطرتها على أصحاب القرار وأولي الأمر. أمّا أولئك الذين يجعلون من رواياتهم دكاكين لعرض أجساد النساء فإنّهم الخاسرون أولا وآخرا. فالرّواية تتوسّل بالفن لتخييل الواقع، أو قل لابتداع واقع آخر يوازي هذا الواقع الخارجي ويتخطاه. والفن يسقط بالوقوع في المباشرة.
وما أتوق إليه في رواياتي يُختَزل في سِعَة التعاطي مع نساء الواقع ونساء الفن بكفيات غير تعبيرية، أي غير مباشرة، لهذا ففي النخاس مثلا تجد نفسك في عالم حسي تماما، لكنه حسّ الخَفَر، والحياءِ الفني (لا الحياء الأخلاقي العام طبعا). فوصيّتي للكتاب بسيطة، أعمل بها قبل غيري، "كلما سقطت الكتابة في المباشر هجرت الفن، وضحّت بالعماد الأوحد لوجود الرواية، فالمؤلف ليس في مجال حديث اجتماعي أو سياسي، أو أخلاقي… إنه في مجال فنّي يرتفع فيه الأنموذج المتعامل معه مع المادي إلى المجرد، ومن الأرض إلى الجميل القدسي كلما تركنا التصريح واكتفينا بالتلميح الدال.

ايوب صابر 04-30-2012 02:57 PM

الكاتب العربي ما يزال يعاني منرقابة الدين والأخلاق والأسرة
الروائي التونسي صلاح الدين بوجاه
أجريالحوار: حاتم النقاطي

القدس العربي
28/07/2008

أصدر الروائي التونسي صلاحالدين بوجاه هذه الايام عن دار الجنوب وضمن سلسلة عيون معاصرة روايته "لون الروح" مضيفا للناقد وللقارئ استفهامات جديدة حول عمق ما يعبّر عنه في أدبه من إشكالاتداخل شخوصه وأزمنة وأمكنة وملامح حضورها في مخيّلتنا، وقد نال مؤخرا صاحبها بهذاالعمل جائزة كومار للرواية ولذلك فان شرعية الدخول لخلفيات كاتبها هي صورة أخريلتأويل عوالمها.
إنّ حتميّة انتماء الإنسان للزمان تؤكد حقيقة تطوّر علاقةالانسان بمحيطه واستيعاب تناقضات الواقع وتوحيدها عبر ذاك الوعي البشريّ القادر عليصهر الآن في ماضيه واستشراف القادم لتأسيس ذاك الوجود المنشود حيث الإمتاع والحرية. ولعلّ الأديب التونسي "صلاح الدين بوجاه" يحمل وعيا خصوصيا بالزمن اذ أنّ معرفتيبهذا "الانسان" تعود الي ثلاثين عاما خلت ولكنّ الزمن ما استطاع أن يغيّر جوهره،هادئا متأمّلا صريحا منفتحا علي كل الآراء مؤمنا بمساهمات الجميع لبناء النصالثقافي والابداعي علي حدّ السواء.
ما زال هذا الأديب منغرسا في الشأن العاممساهما في العمل الجمعياتي اذ أنّه علاوة علي عضويّته بمجلس النوّاب التونسيّفانّّه يترأس أعتي منظمة تونسيّة هي "اتحاد الكتّاب التونسيين" مجمّعا الفرقاءومشجّعا الكلّ علي الابداع والتقدّم بالنصّ وقراءته في آن.
ه
و صوت تونسيّ دخلالساحة العربية من جميع منافذها المشرقيّة والخليجية والمغاربية محاولة لعالميّةممكنة اذ في نصّه ذائقة إبداع انسانيّ رائدة أو هي أسئلة الروائي المهووس بذاكالغائب المختفي المسكوت عن صوته وصورته.
ولعلّ هذا الحديث محاولة لإضاءة نصّثريّ يتطلّب من النقّاد مغامرة الجدّة والصراحة لفهم الخفيّ والعــميقداخله.
لكلّ كتاب جديد اضافته فما الذي يحمله عملك الجديد للقارئ؟
الجديد فيمستوي المعني يكمن في الجمع بين فكرتي "التلصص" و" الإرهاب" فقد اخترت لروايتيالجديدة مكانا خارج تونس، صحراء العريس في القطر المصري الشقيق، الموجود علي بعدكيلومترات من الحدود الاسرائيلية. وفي يقيني انّ هذا الموضع مهم جدّا، لأنّه يحويكلّ المتناقضات التي تعالجها "لون الروح". وكنت قد أقمت هنالك أيّاما قمتُ فيهاببحث حول الطبيعة، من عصافير ونبات وصحراء وحيوان... أفادني كثيرا في كتابةالرواية.
بيد أنّ أهم عنصر أعتبره جديرا بالنظر في هذا العمل الجديد هو بنيته،فهي بنية مفتوحة، تكتب فيها الرواية مثلا ترسم اللوحة الزيتية رويدا رويدا... فلايكتمل العمل الاّ عند نهايته.
انّ النصّ يلعب دورا فاعلا في تحديد منزلة المؤلفلدي القارئ ولكن للناقد أيضا إضاءاته للنصّ اذ أنّه يساهم في تعريف القريب والبعيدبفحوي أبعاده. فما الذي أضافه النقد لأعمالك زمن "موت الكاتب وميلاد القارئ" عليحدّ عبارة "بارت"؟
أخشي أن أصدمك اذا ما أكدت انني لا أعتقد انّ النقد قد أضافالي أعمالي، أو الي مشروعي شيئا. وباستثناء نفر قليل من أساتذتنا لا يوجد نقد فيتونس.
اذا ما استثنينا كلاّ من توفيق بكار ومحمود طرشونة وحمادي صمود وفوزيالزمرلي... صعب أن نتحدث عن نقد في تونس بكل ما يعنيه مفهوم النقد من استناد اليمنظومة شرقية كانت أو غربية، ونقد النصوص وقدرة علي غربلتها. لهذا فانني أكاد لاأنعطف، اضافة الي الاسماء سالفة الذكر الا علي الزملاء هادي خليل وعادل خضر، ومحمدالغزي ومنصف وهايبي وعمر حفيظ وأحمد السماوي، فلقد تمكن هؤلاء من الغوص في جوانب منمدونتي الروائية.
أما في ما عدا هذا فإنني أعتقد انني لم أقرأ بعد قراءة شاملةتضع الامور في مواضعها، وتنخل نصي لتبرز ايجابياته وتشير الي سلبياته. أنا أزعمانني صاحب مشروع متكامل في كتابة الرواية، وانني في تونس غير مقروء بما فيهالكفاية. أما خارج تونس فأشير خاصة الي صبري حافظ وعبد الله ابراهيم.
ألا تريمعي أنّ الوعي النقديّ في ساحتنا الثقافية التونسية والعربية ما استطاع أن يضطلعبدوره الحقيقي داخل سلطة المألوف والسائد أي أنّه ما وجد بعد جرأة فحص "البواكير" فإذا به يعيد النظر في السائد المهترئ (محفوظ ـ الغيطاني) شرقا (الدوعاجي والمسعدي) تونسيّا مما أضاع فرصا ثمينة لتصفّح عوالم أدبيّة أخري هنا أو هناك؟
أنا معكتماما في هذا، بما أنه ليس لدينا نقّاد ـ الا فيما رحم ربك ـ فانّ أغلب "كاتبينا" يقنعون بالركون الي خانة المعروف المعهود لا يتجاوزونه. فبما أنه يوجد من كرّسهالاستعمال فما جدوي الغوص في مدونات ابداعية أخري.
يمكنني أن أزعم أخي حاتم اننيمقروء في مصر والشام أكثر من تونس. ولعل هذه المفارقة تعود الي انني قد التزمت بنشرأعمالي في كل من القاهرة وبيروت ودمشق فضلا علي البلاد التونسية وهو ما حدا بالناقدالمصري صلاح فضل الي مداعبتي بقوله : أنت معروف في القاهرة أكثر من تونس.
هذهمفارقة غير مريحة طبعا، ثم أنا لا أبحث عن أن أكون معروفا شخصيّا، انما أريد أنيكون نصي معروفا... وهذه رغبة كل كاتب في اعتقادي.
أنت اذن مع سلطة نصّ آخر يجدسلطته الفعليّة في قارئ ذكيّ فهل تؤمن حقّا بهذا القارئ والأمّة العربيّة تعاني منشبه أميّة بصريّة؟
لا أذيع سرّا اذا قلت انّ القارئ الذي أتوق اليه هو قارئمثقف. فالقارئ المثقف، بل متعدد الثقافات، هو الذي يعنيني. ومن نماذج ذلك الدكتورالهادي خليل، الذي أتحفني بقراءة من أبدع ما اطلعت عليه في السنوات الاخيرة.


ذلك انّ مراجعي متعددة بعضها عربي وبعضها أجنبي، وأنا واسع الاطلاع علي الرواية الغربية، وأرجو أن تكون نصوصي مندرجة ضمن سياقاتها العالمية.
نحن مكرهون علي المطالبة بقسطنا من انتمائنا الي الثقافة العالمية التي نعتبرها بشكل من الأشكال ثقافتنا. أنا ضد كل أنواع التقوقع، وأعتقد انّ لحظات الضوء في حضارتنا العربية هي تلك الموسومة بالاندراج ضمن السياق العالمي. ولقد تمكّن أجدادنا بفضل هذه الرؤية الذكية المتحركة من احداث تأثير كبير في الحضارة العالمية حولهم، ويعنينا أن ننجح في ذلك اليوم أيضا.
ألا تري أنّ تطوّر المجال الافتراضي ودخول الادباء والقراء الي هذا العالم قد خلق ذائقة أخري لمتابعة الفنون مما يحتّم علي الشريكين "القارئ والكاتب" تأهيل حضورهما واستبدال الورقي بـ "الملتيميديا"؟
الملتيميديا لا يمكن الاّ أن تكون من المتممات، فهي من قبيل النوافل ضمن العملية الابداعية، ويعسر أن تغدو أصلها. لهذا فمرحبا باللقيا الافتراضية بين الكاتب والقارئ... لكن دون استبدال الورق!
أنا وفيّ جدا للورق رغم انني أحسن استعمال الكمبيوتر، اذ أري أن صلتي بالكتابة هي صلة مادية بالورقة، لقد تربيت علي هذا ويصعب أن أبدل عاداتي.


ايوب صابر 04-30-2012 02:57 PM

أما فيمسألة "الفنون" عموما، فقد يكون هذا القول قولا سليما، ذلك انّ الحوامل الرقميةتتيح امكانات عرض غير محدودة، وتنويعا للأشكال وانخراطا ضمن حدودالإمكان.
فالجوانب المقدرة، الافتراضية، تعين علي الحكم وتكشف عن امكانات أخرياضافية، يصعب تجميد حركيتها أو الامساك بها. انها مثل النهر المتحوّل.
إننا نعلمأنّك "أكاديمي" اذ أنّك حامل "دكتوراه" في اختصاص "الرواية" ألا يمكن لهذه المعرفةبالمناهج والأساليب والأطر أن تؤثر سلبا علي مجال ابداعك؟
كنت أخاف هذا فيالماضي. والملاحظ انني بدأت مبدعا، فلقد ظهرت قصصي القصيرة الاولي، حين كنت فوقمقاعد المدرسة الثانوية علي صفحات مجلة "الفكر". بيد انّ تنوع التجارب، واختلافهافي الزمان مكنني وبكثير من المرونة من التعامل مع لحظة الابداع الروائي.
الروايةاليوم سبيل آخر من سبل المعرفة بالنسبة اليّ، أدخل لعبتها تحت دفع اغراءات شتيبعضها منــدرج ضمن سياق المتعــة، وبعضها ضمن سياق المعرفة، وفي المعرفة متـــعةأيضا.
المهم انني اليوم أواصل مشروعي، وأترك الحكم له أو عليه للمستقبلوالتاريخ. فأنا لست متعجلا، كما أنه لا يعنيني أن يعرف الناس نصي خلال حياتي، أناأراهن علي الخمسين سنة المقبلة، دون ادّعاء طبعا.
ألا تري أننا في مرحلة تقتضيمنّا اعادة الوعي بتصنيف الفنون ممّا يجعلها تنفتح علي بعض وممّا يؤهّلها الي "شعريّة" أخري يضطلع بها المؤلف والقارئ والناقد علي حدّ السواء؟
أنا معك في هذاالفهم، وفي زعمي تحمل الرواية اليوم هذا المشروع، ويمكن أن تحيله مستقبلا عليالكثير من النضج. التجاوب بين الفنون هو جوهر بقائها.
الشعر، النحت، الرسم،المعمار، الموسيقي... كلّها من الفنون التي تغني النصّ الروائي اليوم. وتضيف اليهالكثير. ولقد بدأ النقد اليوم يتحدث عن تحوّل الرواية الي "ديوان العرب" اليوم، بعدأن كان الشعر يحتل هذه الوظيفة في الماضي. وهذا مهم جدّا، لأن الرواية تمكن الكاتبوالقارئ من امكانات غير محدودة للتوافق بين الفنون.
في أوّل التسعينات أصبحتنائبا في البرلمان ولكنّك بدأت الكتابة ونشرت نصوصك قبل ذلك بسنوات. فبماذا أفادتكالسياسة داخل عالمك الروائي؟
الاشتغال بالشأن العام فتح عيني علي الواقع، مكننيمن معرفة البلاد، فلقد زرت كل مناطق الجمهورية تقريبا. وفي ذلك غنيمة كبيرة بالنسبةالي روائي.
لقد جبت الأنحاء، واطلعت علي الخفايا، فأغني هذا عالمي الروائي. "النخاس" ظهرت بعد دخولي البرلمان، لكنها كتبت قبل ذلك.
أما باقي الروايات، وهي "السيرك"، "سبع صبايا"، "لون الروح" و "النهر قرب المدينة"... فقد كتبت في المرحلةالبرلمانية، وهذا أنا مدين به لهذه التجربة الثرية جدا التي مكنتني من الاطلاعالعميق علي حياة الناس في كل مناطق البلاد. وفي ذلك غني وتنوع وتعدد ثقافيبديع.
بعد أزمة حقيقية داخل اتحاد الكتّاب التونسيين وبعد خلاف عاصف بين العديدمن الكتّاب وبين الهيئة المتخلية وقع انتخابك رئيسا لهذا الهيكل. الآن وبعد ما يزيدعن السنتين من اضطلاعك بهذه المهمة ما الذي لم تستطع تحقيقه؟ وما هي موانعه؟
لقدتمكنت من قبول عدد كبير من الكتاب ضمن الاتحاد خلال السنوات القليلة الفارطة (ثلاثسنوات) بلغ حوالي 300 كاتب. بيد أنني بقيت علي حرماني، لأنه يوجد كتّاب كثيرون،وكتّاب كبار، لم يدخلوا الاتحاد.
وأنا أعتقد أن الأمر يعود الي رغبتهم في البقاءخارج الهياكل، ولا يعود الي خلاف ايديولوجي مع الرؤي السائدة في الاتحاد.
هل تريفي تعددية تمثيل "الكتّاب التونسيين" من خلال وجود هياكل جمعياتية موازية مجالالتطوير وعي الادباء بالفضاءات الثقافية والمدنية علي حد السواء؟
نعم، أنا معتعدد الهياكل، فلتعدد الجمعيات الثقافية، إغناء لتجارب كتابنا وتفتيق لأذهانهم،ونشر للثقافة الجديدة بين صفوفهم.
بيد أنّ وفاء هؤلاء جميعا ينبغي أن يلبثللكتابة والكتّاب أوّلا وأخيراً. لهذا فلا ينبغي أن ينشأ هذا العمل المتنوع في كمّالسياسة مهما تكن وجهتها، انما ينبغي أن يزدهر في حضن الثقافة.
للأسف هنالك منرجال القلم اليوم بيننا من يعنيه الحضور السياسي أكثر من الحضور الادبي، وهذا خطأمحض.
لو تبوّأت سلطة سياسية متصلة بمجال الثقافة مما يطوّر هامش التصرّف لديك "سلطة وقرارا وتنفيذا" فما الذي ستسعي لتحقيقه للكاتب وللقارئ ولعالم الفنعموما؟
يا أخي حاتم... يمكنني أن أعد بالكثير دون أن أطبق شيئا حين يتوجبذلك!
لو جالست السيد وزير الثقافة لالتمست منه شيئا من التوازن في التعامل بينالكاتب ، المخرج السينمائي والرسام التشكيلي فقط.
لقد سبق لبعض النواب بمجلسالأمة كما كان يسمي سابقا أو مجلس النوّاب حاليا أن أصدروا مذكّراتهم عما كان يدوربهذا الفضاء فهل تنوي لاحقا اصدار "مذكّرات"؟ ولماذا؟
لا، لا أنوي ذلك، تجربتيفي مجلس النواب يمكن أن تضيء تجربتي عموما، لكنها لا ينبغي أن تستفرغها تماما، بحيثتغدو هي الاصل.
أنا كاتب رواية في المقام الاول، ثم أنا مدرس في الجامعة فيالمقام الثاني، وعضو في مجلس النواب في المقام الثالث...
...
ولا أريد أن أخلطالأوراق!!
انّ الكتابة لا يمكن لها أن تتطوّر الاّ في عالم الحريّةوالديمقراطية. فما نصيب الكاتب العربيّ من ذلك؟
الكاتب العربي غير حرّ. وهذا لايعود الي رقابات وزارات الداخلية، وقد قلت هذا وكررته مرات متعاقبة. انما هو عائدالي الرقابة الدنيئة، والرقابة الأخلاقية، والرقابة الأسرية. لي صديق شاعر كبير بلغالستين، ساءلته زوجته : "كيف تواصل الحديث في الغزل، وبناتك اليوم شابات!!" هذه هيالمسألة!!
لعلّها لا تقوم من غير ايجاد موقف ضروري من الذات والتاريخ و"الآخر" الشبيه والمختلف تجاوزا لموانع "الآن" والماضي واستشرافا لنصّ آخر؟
هذه بعضشروطها، كلنا نحمل الماضي العقدي عبئا يقيد حركتنا، بينما جعل منه غيرنا دافعا نحوالمزيد من الإبداع والحرية. حين ننجح في ذلك... قد يكتب لنا البقاء والتأثير فيعالم اليوم!
اذن من أين تبدأ الكتابة والي أين تنتهي؟
لا بداية للكتابة ولانهاية محددة لها، في يقيني أن الرواية تستهل في لحظة ما، يمكن ألا تكون ضرورةالبداية المادية فوق الورق، انما هي نابعة من لحظة إحساس الكاتب بها. لذلك فالكتابةعملية سيميائية عسيرة جدا، يصعب الإمساك بها أو ضبطها في الزمان أو المكان، أو شدهاالي رؤية بعينها، الرواية متبدلة متحولة علي الدوام.
لهذا أود أن أصرح هنا أنالكتابة تعينني علي تحمّل أعباء الوجود، مواجهة تعب الأبناء، والشغل، الاحساسبالمتعة التي يفتقدها الكائن الاجتماعي في الحياة اليومية.
انّ الرواية هياضافتنا الي الثقافة، علي افتراض أن الثقافة هي اضافتنا الي الطبيعة. هل أمازحكفأقول ان تعريفي للانسان ينبع من كونه كاتب رواية!


وعنده القيروان ...خزينة ذكريات يمكن أن انعطف عليها في أية لحظة.


ايوب صابر 04-30-2012 03:06 PM

مقطفات مما قاله صلاح الدين بوجاه
- الأدب الذي يُثير المسائل الأساسية كالموت والحياة واللذة والألم هو الأدب الذي ينغرس في بنية الكائن للتعبير عن حرقته إزاء الاندهاش الأصيل الذي صاحب نزولنا من الجنّة.

- الطفولة هي جنّتنا الأولى، لهذا تبقى أعمالنا معبّرة عن فترة نزولنا من الطفولة نحو الكهولة والشيخوخة وتركنا ذلك العالم الأول الأثير الرائع العذب. هذا ما قاله الشابي وهذا، وهذا ما قاله المسعدي، والبشير خريف وعلي الدوعاجي… حتى لا نتحدث إلا عن تونس.

- لا أميل إلى التمييز بين المثقّف وغير المثقّف، إنما أريد أن أجزم هاهنا بأنّ كلاّ منهما يعبّر عن المأساة الفعلية الأصيلة بكيفيته الخاصة. منذ النصوص القديمة التي التقطناها، منذ الكتب السماوية الأولى، وآثار الفراعنة، ومدوّنات السلالات البائدة… لم يقل الإنسان إلا فكرة واحدة في كل ما كتب : لقد فغرَ فاهُ ليصرخ : آهٍ كم هو رائع هذا الوجود، أه كم هو مروّح الموت، أي لماذا تأتي النهاية بسرعة ! تلك هي الجملة الواحدة التي كتبت فيها الآلاف المؤلفة من الصفحات، وأقبل كل أديب، وكل شاعر، وكل نحّات، وكل رسّام، وكل موسيقار للتعبير عن عمقها الكاوي بطريقته الخاصة. أما غير هذه الجملة فخواء لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع ! لذلك تجد الأدب الجيد مجرّد تنويع على هذا الأصل الواحد الذي يُعبر عن دهشة الكائن الفرد المعزول الأعزل إزاء الحقائق الكبرى في الوجود.

- فجأة ننتبه إلا أننا لا نريد أن نقول شيئا، ولا نريد أن نعبّر عن شيء، قصارانا أن نعلن خيباتنا، وحدود أفعالنا، وسعة الفضاء الكوني الذي يشملنا

- الكاتب في بداية تجربته يسعى إلى أن يُعلن عن مواقف، أما حين تتقدّم به السنوات فيُصبح أقلّ وثوقا، وأكثر تواضعًا… حتى أنه يكاد أن يعتبر الصمت أفضل من النطق ! لهذا أقول إنّ منتهى ما أصبو إليه هو أن أخاتل زمني وأعالج فوضاي.

- أما الخوف الذي أشرتُ إليه فخوف فعلي في بداية حياتي، نابع من مجاورة "الجان" في اعتقادات الطفولة ومجاورة الموتى في فناء الولي الصالح، حيث كان الأجداد قد اتّخذوا الفضاء مقبرة يدفنون فيها موتاهم.

- أمّا بعد تقدّم السن، فلقد أصبح الخوف سبيلا إلى الحرية.

- في هذا المستوى أوافقك على اعتبار أنّ الكاتب فعلا يحتاج ذلك الخوف لكتابة روايات أكثر إيحاء، وأقدر على الاستشراف.



- الكتابة الأجدى تبقى – رغم كل هذا – جهادا ضدّ الضغط والظلم والخوف… جهادا في سبيل الحرية.
  • مما يقوله صلاح الدين بوجاه في هذه المقتطفات اعلاه لا شك اننا نستطيع ان نقول بأنه عاش حاية ازمة وخوف من الموت وغيره من الاسباب.
مأزوم.

ايوب صابر 04-30-2012 11:25 PM

70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين

نبذة النيل والفرات:
"من جبل تبدو نابلس كانون نار، والمصابيح تتألف كحبات الدق، لكن العتمة والآهات ونداءات الشباب. وحسام المصادر أين ينام؟ يجئ مع شقشقات الفجر وآذان الصبح ينقر شباك العلية ويقول وهو ما زال خلف القواطع: "صباح الخير عمتي". يسعد صباحك ويطلق جناحك ويجعل نهارك نور وسرور. فوق يا عمتي فوق، فوق خدلك غفوة". وتقوم من فراشها فيندس فيه، وينام حتى قبل الظهر. وذات مرة جاءها برفيق له، وكان جائعين كالقطط الضالة، فأكلا الخبزات واستقرضت المزيد. وبعدها بأيام جاءها بالرفيق نفسه وفي صدره صلية دمدم. ومات الشاب بين يديها وحسام يبكي في العتمة وقف على السطح وصفر، فجاءوا كالجن من الليل حملوه ودفنوه في لحظات دون أن تعلم أمه، وحين حملت لها الخبر المشؤوم صاحب بجنون: ابني لحالي؟ ابني وابنك، أنت سحبتيه!وتذكرت. بلى والله، فهي من قصت سرته، وهي من تلقت بشارته، وهي من حملته يوم طهوره، واليوم، هي من تسمح دمعته الأخيرة، وتذكرة عينيه الغائمتين ورائحة عرقه، مات وهو يحلم بحمام ساخن، ودفنوه بعرقه ورائحة الأصطيل والتبن العالق في شعره. صامت الولادة فهرعت إليها. وأطل الرأس ثم غاب فنامت وبرد الطلق وتراجع وخافت أن يبرد أكثر، فصاحت فيها تصيحها: عيني ولدك يا مستورة، عيني ولدك!" من واقع معاناة شعب فلسطين ومن جراحهم المذبحة بالدماء، تلتقط سحر خليفة صور روايتها هذه "باب الساحة" لتروي للعرب وبأسلوبها المعبر البسيط مشاهد تحدث كل يوم خلف هذا الباب الكبير الذي هو صورة لأبواب أخرى تخفي خلفها نفس المعاناة في فلسطين. في حي من أحياء نابلس شرح الكاتبة بقلمها لتلتقط صورها من كل البيوت، ولترسم وعبر شخصية "الداية زكية" وبيراعها ما يحدث من تخريب في بيوت نابلس وحرق ودمار على يد أصحاب العلم ذا اللونين الأزرق والأبيض وهي بما ترسم لم تنسى التوقف عند واقع المرأة الفلسطينية المتدهور محاولة المقارنة بين حالها اليوم بعد الانتفاضة وحالها قبل ذلك أيام العز حيث لم يكن للدمعة في عيونها طريق ولا للخوف في ملامحها تعبير.


نبذة الناشر:
"وناولها ثاني قصيدة، فتحتها، قرأتها، وطوتها ثم ابتسمت. سألها بخوف: ألا تعجبك؟ قالت: لا بأس، أحسن من الأولى، ولكن بعد؟ "بعد، وماذا بعد؟" قالت: "بعد صغيرة؟" من هي الأولى أم الثانية؟ قالت بعتاب: "بل الفكرة. يا ابني يا شاطر في الأولى أنا كنت الأم، والآن، أنا كنت الأرض، وغداً، طبعاً، أكون الرمز، اصح يا شاطر، أنا لست الأم، ولست الأرض ولست الرمز، أنا إنسانة. آكل أشرب أحلم أخطئ أضيع أموج وأتعذب وأناجي الريح. أنا لست الرمز، أنا المرأة." قال بإحساس: "بل أنت سحاب." ضحكت بكل نواجذها وهمست بجبين مرفوع: وأنت المشتاق للآفاق".



=
كتبهاabdalla makki ، في 4 يناير 2007 الساعة: 07:16 ص



سحر خليفة
فلسطين



وبدأ يلاحقها كالمسعور. يذهب يوميا إلى المكتبة، يقرأ، يحلم، يصغ، وينام، ويقرأ ثانية ويفكر. وتمر الأيام ولا تحضر. ثم تحضر فجأة. بدون نظام. ومعظم المرات تجيء بعد انصراف المدارس عند الظهر. ويلمحها من وراء الزجاج تتقمز بالكعب العالي واللبس الأنيق. القوام الممشوق كالخيزران والتنانير الضيقة والواسعة، وسترات صيفية تعطيها مظهرها الرياضي الأنيق. تقف على "الكاونتر" لتعيد الكتب ثم تمشي وتطقطق فوق البلاط وتغيب طويلا بين الرفوف.

وبدأ يتجسس عليها. الاسم، التخصص، مكان الدراسة، اسم الوالد واسم العائلة. أبوها نجار "مستور،" أخوتها ما زالوا صغارا، فهي الكبرى، تدرس العلوم والأحياء، تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن نالت منحة. كانت من العشرة الأوائل. فهي أذن ذات عقل وفهم. الجامعة الأميركية والأحياء؟ يا رب السماء! فليقرأ أذن كتب العالم.
وماذا تقرأ؟ أدب، فلسفة وسياسة، علوم تاريخ وسياسة، اقتصاد، شعر وسياسة، سياسة، سياسة. فليقرأ إذن كل هذا وذاك، وليسمع ويناقش ويتسيّس.
الآن وهو يذكر أصل السياسة في ماضيه البعيد، يقر بالاعتراف الخطير، فلولاها ما عرف السياسة بهذا العمق. لكان تذوقها ككل الناس: مجرد واقع، واحتلال وبؤس وثورة تجيء من الطرف الآخر عبر الأردن.
حين سمع صوتها أول مرة كان قد كبر كثيرا. مرت سنتان أو أكثر وهو يتابعها في الأحلام والكتب المستعارة والمكتبة. كان قد اجتاز التوجيهي وقدم أوراقه "للنجاح" (*). وحينذاك اعتقل صدفة. سجن إداري ككل الشباب، ومن بعدها انكسر الخوف. ما عاد يخاف من سلطة أبيه. ما عاد يقف بالصف على الدرج ويقول بذل حزين: "مسا الخير يابا." ما عاد يخجل من النظر مباشرة في عين البنات. ما عاد يشعر أن النظر خيانة. وأهم من هذا وذاك، ما عاد مقتنعا بهذا الحب، الحب من طرف واحد، حب الأحلام، حب يجيء من الصفحات والرغبة المكبوتة في الأعماق، والعقل الواعي صمام الأمان. بدأت قراءاته تجدي. الآن يفهم ما يقرأ، ويحلل ويعلل ويتأمل. وقل المكوث على السطح بين "الروبابيكيا" والأجراس. وكثرت زياراته لباب الساحة وخان التجار. وانتمى لأول تنظيم ثم اعتقل. ثلاثة أشهر ثم "النجاح." ثم التنظيم الثاني، ثم سنة وصف خرج بعدها وقد اشتد عودا، يفهم ويعرف ماذا يريد، ويريد أبدا أن يعرف.
ورآها في معرض للكتب. اللباس الأنيق نفسه والكعب العالي والقد الملفوف. ما زالت حلما، والقلب يخفق بهدوء مشوب. اقترب من الطاولة حيث تقف وهي تقلب كتابا جديدا. قال بتحد: "أي بلد هذه؟ خمس سنوات أو أكثر وأنا أعرفك ولا أعرفك."
التفتت بسرعة واضطرت لرفع عينيها. كان قد بات طويلا، أطول منها. التقت عيناها بعينيه. همست بصوت عريض أبح بطيء: "ما عدت تدمع." قال بهدوء موقوت: "كبرت." هزت رأسها وابتسمت بفهم "واضح. واضح."
أي عنف هذا؟ هذا هو الحب الأول، بل أول حب وآخر حب. في حبها اختلط الحنان بقدح الرأس ورعش البدن. الشمس أصفى مما هي، والأرض أغنى مما هي، والبلد القديمة كالأحلام. يسير في حي القصبة، يهوم بين الأبنية القديمة والأقواس والكليل العريض ورائحة السيرج والجفت الحار والخبز الساخن وشي الكباب وقزحة وسماق ومناقيش زعتر وقينر وحلاوة طحينية وجوزة الطيب. بهارات العالم في شوالات، وبصيص النور في كوات، ونجوم مذهبة في المسجد، وسقف الخان وفوق القباب.
والآن ما عاد يستمتع بمواجهة أبيه. ما أن يرى السيارة مدبرة في الطريق حتى يقفز السور ويدفع الباب ويدخل، ويجلس في إحدى الشرفات الزجاجية ويمد ساقيه ويسرح. ومن خلال الزجاج تتسلل شمس الخريف حاملة دفء العالم وإشراقه.
من أين لهذه المدينة كل هذا السنى؟ وامتداد الأفق الغربي يملأ الضباب. وفي الأمسيات البعيدة يغدو الغروب أثيرا يحلحل عقد المفاصل. ويقف منتشيا على سطح الدار يشم الشذى ورائحة الأرض ويحلم بالوصول إلى ابعد نقطة، حيث الخلود وأسواق الروح القصوى، والحب الشامل الوجود كله.
تلال زواتا وقمة روبين وانحدار البطاح لقرص الشمس وحب فتاة عيناها أجنحة الشفق وريش السنونو وذهب السنابل. كانت المرأة صورة، وما زالت، كرمز الأرض. أو أن الأرض هي المرأة. لكن الأرض ما عادت حلم الأحلام. الآن وقد دفع الثمن الغالي يعرف كيف يموت المرء على صخرة أو جحر مهجور كابن آوى. ولولا الروح وإيمان القلب لكفر، وكفر بكل الناس. لكن الناس هم المعبد، هم القبلة، وهم اللازمة لكل صلاة. فبدونهم ما طعم الأرض؟ ما طعم الروح ومعنى الوطن؟


مقطع من رواية باب الساحة لسحر خليفة.
الناشر دار الآداب، لبنان (1999).
الطبعة الثانية. ص 53-56=


ايوب صابر 04-30-2012 11:31 PM

باب الساحة
نشرت الروائية سحر خليفة روايتها باب الساحة عام 1990 وأعادت طباعتها للمرة الثانية عام 1999م . في هذه الرواية المتوسطة الحجم ، أطلقت الروائية العنان لمخيلتها فخلقت مجموعة من النساء تتظافر العوامل فتجمعهن في بيت واحد ، وعلى اختلاف أولئك النسوة وتمايز كل واحدة في تفكيرها ومستواها الثقافي إلا أنهن ينجحن في إزالة سياج شائك مترس بالإسمنت بطريقة ذكية طالعتنا عليها الروائية .
تدور أحداث الرواية في منطقة ( باب الساحة ) في نابلس إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتتعرض بكل جرأة لما أصاب المجتمع الفلسطيني من عدم الثقة بالآخر إلى أن وصل الأمر حد إعدام إحدى نساء باب الساحة للاشتباه بتعاملها مع العدو وجفاء جميع سكان الساحة لابنتها " نزهة " ليس لشيء بل لاعتقادهم بالمثل :" طب الجرة على ثمها بتطلع البنت لإمها " ولا تتوانى نزهة في هذه الرواية عن إكالة الشتائم لفلسطين إلى حد أني خفت على كاتبتها من أشباه النقاد فيصبح مصيرها عند البعض مشبوهاً فتغدو كوليمة حيدر حيدر !!
تطالعنا الكاتبة في صفحة 211عمّا قد يقوله إنسان ما في لحظة ضعف وتخلي الجميع عنه ما جاء على لسان الشخصية الأكثر حضوراً وغموضاً في الرواية " نزهة " المشبوهة من قبل الجميع ...:
- اهدي يا نزهة مشان الله.
- - بلا الله ومحمد وعيسى وموسى والصليب الأحمر واليو إن . لا حدا شايف ولا حدا سامع ، من إيمتى العالم بيتذكر إنا أوادم ؟
- وهذا اللي متربع وقاعد فوق ، مش شايفتيه ؟ ناديه وحاكيه وقولي له ليش يا خواجة ما بتتذكر إلا الأنذال : إيش عملنا ؟ ليش بتطلع علينا بالورب ؟ عينه مفتوحة على البواريد وإحنا غلابا وما إلنا حد .
الحقيقة إن سحر خليفة في روايتها قد نجحت في رسم معالم المجتمع الفلسطيني إبان الانتفاضة الأولى متمثلاً بالضعف الإنساني ، والخوف من كلام الناس ، وسطوة الأب ، والذكورية المفرطة لهذا المجتمع .
فلنغلق هذا الباب وننتقل إلى الباب الآخر .

ايوب صابر 05-01-2012 09:57 PM

سحر خليفة
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

سحر خليفة واحدة من أهم الروائيين الفلسطينيين. ولدت في نابلس عام 1941. تزوجت في سن مبكرة زواجا تقليديا؛ وبعد مرور ثلاثة عشر عاما من الإحباط وخيبة الأمل، قررت أن تتحرر من هذا الزواج وتكرس حياتها للكتابة. وقد عادت لتواصل دراستها الجامعية، وحصلت على شهادة الدكتوراة من جامعة أيوا(University of Iowa) في دراسات المرأة والأدب الأمريكي. تعمل الآن مديرة لمركز شؤون المرأة والأسرة في نابلس.
رواياتها

كتبت حتى الآن عشر روايات. روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" (1974) أحدثت صدى كبيرا بسبب دفاعها عن حرية المرأة، غير أن سحر لم تلحظ بالاعتراف الأدبي إلا بعد صدور روايتها الثانية "الصبار" (1976). ترجمت معظم رواياتها إلى العبرية والفرنسية والألمانية والهولندية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية والماليزية واليونانية والنرويجية والروسية.
نالت العديد من الجوائز العربية والعالمية أهمها: جائزة ألبرتو مورافيا للأدب المترجم للإيطالية، جائزة سيرفانتس للأدب المترجم للإسبانية، جائزة نجيب محفوظ عن روايتها صورة وأيقونة وعهد قديم، وجائزة سيمون دي بوفوار التي رفضتها لأسباب وطنية عام 2009.
أصدرت أيضا:
  1. (لم نعد جواري لك)م (1974)
  2. (الصبار) (1976)
  3. (عباد الشمس) (1980)
  4. (مذكرات امرأة غير واقعية) (1986)
  5. (باب الساحة) (1990)لاتلبالبا
  6. (الميراث) (2002)
  7. (صورة وأيقونة وعهد قديم) (2002)
  8. (ربيع حار) (2004)
  9. (أصلٌ وفصل) (2009)
  10. (حبي الأول) (2010)
في عملها الروائي تعبر سحر خليفة عن إيمانها العميق بأن وعي المرأة النسوي هو جزء لا يتجزأ من وعيها السياسي، وهي ترينا في رواياتها، وبأسلوب فني مقنع، أن نضال المرأة الفلسطينية والمحن التي تمر بها هي جزء من النضال السياسي الفلسطيني العام من أجل التحرير. أسلوبها الروائي حساس ومقتصد وشفاف؛ ورغم أنها تكتب بالعربية الفصيحة، فإن لها قدرة عجيبة على استعارة العامية الفلسطينية وتعبيراتها الدارجة عندما يقتضي حال الحوار في الرواية.
عملها

تتمتع الروائية والكاتبة والباحثة والناشطة النسوية سحر عدنان خليفة بحضور عربي وعالمي. ولدت في نابلس ودرست في مدرسة الخنساء ومدرسة خاصة في القدس، ومدرسة الراهبات الوردية في عمّان. وحصلت على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة بير زيت التي عملت فيها مديرة للأنشطة الثقافية لثلاثة أعوام ومديرة لدائرة العلاقات العامة من 76 - 1978 ورئيسة تحرير والمحررة المسؤولية عن مجلة "غدير" التي تصدرها الجامعة من 74 - 1977. مؤسسة ومديرة مدرسة الحنان النموذجية في نابلس 66 - 1969. مترجمة في سفارة نيجيريا في طرابلس - ليبيا 72-1973.
مترجمة في شركة شمال أفريقيا للتأمين في طرابلس - ليبيا 1970-1972.
حصلت على درجة الماجستير في جامعة (شبل هل) في ولاية (نورث كارولينا) في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1983. وحصلت على درجة الدكتوراه في الدراسات النسوية جامعة (ايوا-ايواسيتي) في الولايات المتحدة الأمريكية، ودراسات نسوية لمدة ثلاثة أعوام. أسست في عام 1988 مركز شؤون المرأة والاسرة بنابلس وما زالت تتولى إدارته، كما تتولى المنشورات التي يصدرها المركز. ومنذ العام 1997 تتولى تنفيذ إنتاج برنامج التثقيف التلفزيوني للمركز وأسست وأدارت مركز شؤون المرأة في غزة 1991-1994. نشرت أول رواياتها (لم نعد جواري لكم) عام 1974 عن دار المعارف في القاهرة والآداب - بيروت وحولت إلى مسلسل إذاعي في (الشرق الأوسط) القاهرة. والى مسلسل تلفزيوني في القاهرة عام 1982. وصدرت روايتها الثانية (الصبار) عام 1976 عن أربع دور نشر في القدس ودمشق وبيروت. وترجمت إلى اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية والهولندية والإندونسية والإسبانية والإيطالية والعبرية. وصدرت روايتها الثالثة (عباد الشمس) عام 1980 عن أربع دور نشر في القدس ودمشق وبيروت. وترجمت إلى اللغات الفرنسية والالمانية والهولندية والإيطالية والإسبانية والعبرية. وصدرت روايتها الرابعة (مذكرات امرأة غير واقعية) عام 1986 عن دار الاداب- بيروت وترجمت إلى اللغات الألمانية والهولندية والإيطالية والإسبانية. وصدرت روايتها الخامسة (باب الساحة) عن دار الاداب – بيروت وترجمت إلى اللغات الألمانية والهولندية والإيطالية والإسبانية وصدرت رواياتها السادسة (الميراث) عام 1996 عن دار الآداب - بيروت وترجمت إلى اللغتين الفرنسية والالمانية. القت محاضرات في عدة دول أوروبية وعدد من الولايات الأمريكية

ايوب صابر 05-01-2012 09:59 PM

مذكرات إمرأة غير واقعية
رواية سحر خليفة التي تجاهلها النقّاد!؟

د. نـبـيـه القــاسم


نجحت سحر خليفة منذ روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" الصادرة عام 1974 أن تشدّ إليها اهتمام القراء والنقّاد وأن تُرسّخ وجودها على الساحة الأدبية. وبصدور روايتيها الصبار(1976) وعبّاد الشمس (1980) وتصويرها لوضع ومعاناة الانسان الفلسطيني تحت نير الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ حزيران 1967 فرضت سحر على نفسها التزام هموم شعبها وتصوير حياته اليومية وما فيها من تعقدات وتشابكات خاصة بكل ما يتعلق بوضع المرأة وعلاقتها بالرجل، وبالمقابل في مرافقة نضال الناس في مواجهتهم لاحتلال الأرض وظلم الانسان. حتى باتت سحر تُؤطّر بين ثنائيتين هما : المرأة في مواجهة الرجل. والانسان الفلسطيني في مواجهة جندي الاحتلال. هاتان الثنائيتان المترافقتان والمتلازمتان في معظم رواياتها حتى أصبح من الصعب الفصل ما بين النضال ضدّ المحتل الغريب والنضال ضدّ ظلم الرجل والمجتمع للمرأة، والاقتناع أنّ تحرّر الوطن من رَبَقة الاحتلال لا يكون كاملا وناجحا إذا لم يُرافقه تحرّر المرأة من قيود المجتمع والرجل.

لقد عايَشت سحر خليفة الناسَ وعانت ما عانوا وآمنت لفترة من الزمن أن ظروف الاحتلال والمقاومة قد تصقل المجتمع الفلسطيني وتأتي بشعب جديد عركته النضالات ووحدته الأهداف ومحت الفوارق بين فئاته ووضعت المرأة في مكانة واحدة مع الرجل لأنها كانت مرافقته وساعده الايمن، وفي كثير من الحالات المتقدّمة عليه ورأس الحربة في مواجهة المحتل، هكذا آمنت سحر ورسمت في روايتيها "الصبار و عبّاد الشمس" وهذا ما عملت على تحقيقه وفَرضه في حياتها اليومية والجامعية حيث نشطت في مختلف المجالات وكانت صاحبة الصوت القويّ والحضور الملموس
لكنّ خيبة أمل سحر خليفة كانت كبيرة وهي ترى أنّ سنوات الاحتلال العجاف التي زادت على العقد والنصف لم تُحقّق الذي أمِلته، وظلّ المجتمعُ الفلسطيني بكل موراثاته القديمة هو الضاغط، والرجل الذي أمِلت، من خلال مرافقتها له في الحياة النضالية والمَعيشية اليومية، أن يكون قد تغيّر وتبدّل وتفهمّ لأهمية دورها، ظلّ هو الرجل الذي لم تُغيّره الشهادات التي يُعلّقها على الحائط ولا ما تفرضه عليه ظروف الاحتلال وما فيها من إهانة وإذلال واحتقار وإلغاء لعنجهيتة الجوفاء. وزاد من حزن وثورة سحر ما ألمّ بالفلسطيني، وبالتحديد بالمرأة الفلسطينية في لبنان وما وصلها من أخبار المجازر التي تجاوزت كلّ حدود اللامعقول والخيال في مخيّمي صبرا وشاتيلا.
هذه الخيبات المتتالية كانت ثمرتها رواية سحر خليفة الجديدة "مذكرات امرأة غير واقعية" التي صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 1986
تروي في هذه الرواية قصة فتاة باسم عفاف ولدت زمن الحكم الأردني في مدينة من مدن الضفة لأسرة ميسورة الحال، والدها يعمل مفتشا مما أكسبه وأهلَ بيته مكانة وهيبة بين الناس. ما أزعج عفاف منذ صغرها هذا الانحياز الكلي للولد الذكر على حساب البنت، فكل ما يعمله مغفور ومقبول، بينما البنت مرفوضة ومقيدة ولا حقوق لها. وهذا ما دفع عفاف لمحاولة إلغاء هويتها بالتظاهر والتصرّف كالولد الذكر مما أثار عليها انتقادات الأهل وجعلها ترفض وتتحدّى وتثور. وأخذت تصادق زميلاتها من الأسر الفقيرة وتلعب مع أولاد في سنها رغم تحذيرات أمها ومنعها من ذلك. تكبر عفاف وهي تعمل على كسر تابو الذكر، فارضة وجودها ومثيرة انتباه الكلّ، غير آبهة بالانتقادات والتحذيرات والأوامر. في المدرسة، بعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة، تُصادق زميلة باسم نوال منظمَة حزبيا ومناضلة في الحزب الشيوعي، تقوم بتوزيع المناشير الداعية للفكر الاشتراكي والرافضة للاحتلال. لكنها تظل في نقاش حادّ مع نوال حول مَن يأتي في المرتبة الأولى من الأهمية: العمل على تحرّر المرأة من ظلم الرجل والمجتمع كما ترى عفاف، أو العمل على تحرير الوطن من المحتل أوّلا كما ترى نوال.!؟ وتفشل الواحدة في اقناع الثانية ويظلّ السجال بينهما.
ويحدث أن يضبط والدها في دفترها ورقة كتبها لها فتى تعرفه يُصارحها بحبّه لها، فتثور ثائرة الأب والعائلة وتُزوّج عفاف من تاجر موسر يعمل في إحدى الدول الخليجية ، وهناك تعيش في بيت وحيدة طوال ساعات اليوم لا تكلم أو تُجالس أحدا، تضيق بزوجها الذي أرغمت على الزواج منه وفَشل في كسب ودّها، وكرهت أن تلدَ له ولدا فعملت على اسقاط الحَمل مما تسبّب بمضاعفات خطيرة أدّت إلى استئصال الرحم وعقمها وجعل حياتها خاوية لا أمل لها فيها، فزوجها، انتقاما منها، لا يقبل طلبها بالطلاق، ويهملها ويعيش حياة ليلية صاخبة حيث يعود إليها ساعات الليل المتأخرة ليزيد عذابها باهانتها وضرب قطتها المؤنسة الوحيدة لها في غربتها، وتفشل عفاف في كل محاولاتها حتى نجحت أخيرا في إقناعه بالسماح لها بزيارة الأهل في الوطن ولكنه يتركها تعود وحيدة بينما هو يختار الدول الأوروبية ليسافر إليها . في عمان تلتقي عفاف صديقة صباها نوال التي تعمل الآن في مصرف، وتكشف لها نوال عن زيف صديقها الثوري الذي أحبته وبادلته الحب والأحلام والعمل النضالي، لكنه رفض الزواج منها مفضلا ابنة عمه عليها. وكذلك تلتقي عفاف بفتى أحلامها الذي كتب لها كلمات الحب وسبّب في زواجها وحياتها التعيسة، واكتشفت أنه لا يختلف عن أي رجل فهو يريدها عشيقة له بينما يصرّ على الابقاء على زوجته والحفاظ على أولاده وبيته مما صدمها وجعلها تبتعد عنه وتتركه وتتابع سفرها إلى أهلها في الضفة الغربية. وتُصدَم مما ترى وتجد، البيت البارد الخالي من أهله إلاّ الأم الوحيدة التي تعاني من الإهمال والوحدة بعد موت الزوج، والإخوة المشغول كل منهم بمشاغله وهمومه الخاصة، جلسات النساء المملة والنابشة في اعراض الغير، وجو الخمول والاستسلام والعجز الذي يعيشه الناس في ظل الاحتلال مما دفع بالعديد للقبول بالواقع المرّ أو الهجرة وترك الوطن.
كل شيء صدمها في الوطن، المدينة ليست المدينة، وبيت الأهل ليس الذي عرفته، غريبة هي في بيتها ووسط ناسها، ليس لها وجود، حتى صورة العائلة المعلّقة على الحائط لا وجود لها فيها. حياة الناس هي هي، لم يتغيّر شيء، نفس الكلام. نفس الأفكار، ولا يبقى أمامها إلاّ أن تتخذ القرار الصعب، ولكنه الوحيد، بالعودة إلى زوجها والاستسلام للحياة التي فُرضَت عليها.
تبدو القصّة للقارىء عاديّة في موضوعها لا تختلف عن روايات عديدة قرأها، لكن القارىء نفسه قد يستغرب ويتساءل عندما يعرف أنّ الكاتبة فلسطينية والرواية تحكي قصة أسرة فلسطينية وتعكس واقع وفكر مجتمع فلسطيني يرزح تحت نير الاحتلال ولا يزال. والأكثر إثارة للتساؤل أنّ القارىء لم يلمس أثر الاحتلال القوي على سير الأحداث وحركات الشخصيات وواقع الحياة اليومي!!
لعلّ الكاتبة سحر خليفة قصدت ذلك، وأرادت أن ترفع صرختها عاليا لتُنبّه الجميع إلى ما آل إليه الوضع في الأراضي المحتلة، وكيف أن احتلالا كهذا الواقع ، والسنوات الطويلة التي انقضت لم تفعل فعلها وتعمل على تغيير بنية ومفاهيم وأفكار أبناء هذا المجتمع. لعلّ سحر أرادت أن تقول: إنّ مجتمعا يحتقر المرأة ويستهين بها ويهمشها لن يكون مجتمعا قادرا على نيل حريته واستقلاله.
ولعلّ النقّاد من جهتهم تبنوا الموقف الثاني وهو أن تحرير الوطن هو الأهم وكلّ القضايا الأخرى يمكن تاجيلها وحلّها فيما بعد، وهذا ما دفعهم إلى عدم الاهتمام بالرواية وتناولها بالتحليل والنقد، خاصّة وأن الانتفاضة انفجرت في الأراضي الفلسطينية بعد أشهر من صدور الرواية عام 1987، وجاءت بعد سنوات الركود والقهر والحزن وشبه الاستسلام للواقع مفاجئة للجميع، فشدّت إليها الاهتمام وألهبت حماس الجماهير في كل الوطن العربي ولفتت انتباه العالم.
لقد نقلت الكاتبة صورة قاسية لهذا المجتمع الفلسطيني لا تختلف، كما أعتقد، عن واقع المجتمعات العربية الأخرى! مجتمع يحتقرُ فيه الغنيّ الفقير، ويخضع فيه الضعيفُ للقوي ويتذلل له وينافقه. فأم عفاف تكاد تُجن عندما علمت أنّ ابنتها تلعب مع فتيات من الطبقة الفقيرة، وحاولت ردعها عن ذلك. ووالد عفاف يتهادى متفاخرا بمركزه بين الناس البسطاء المبهورين ، ولكنه يتصاغر أمام المفتش الأعلى منه درجة في العمل. مجتمع تُحتَقر فيه البنت من يوم مولدها بينما يُحتفى بالمولود الذكر، ويتعطرون ببوله وتُغتفَر له ذنوبه مهما كبرت طوال سنوات عمره، بينما البنت تُراقَب وتُدان وتُعاقب وتُقيّد وقد تُقتَل لمجرّد أن زلّت بها القدم أو رفض مجتمعها الذكوري تصرّفها.
لقد أرادت سحر خليفة من خلال شخصية عفاف أن ترفع صوت الفتاة المتمردة المطالبة بحقها في الحياة والحرية، الفتاة التي ترفض هيمنة الذكر الأب أو الأخ أو العم أو حتى الفارض هيمنته من خلال استغلال موقع الأم وتأثيرها. لقد أرادت سحر أن تؤكد على حريّة الفتاة في تصرفاتها وجسدها وأفكارها وطريقة عيشها ومن خلال شخصية نوال المناضلة الشيوعية، أحقيّة البنت وجدارتها في دورها النضالي المقاوم. أما تلك النماذج من النسوة المتمثلات في الأخوات والجيران الراضيات بواقعهن والمستسلمات لقدرهن والمنزويات في بيوتهنّ، الغافرات للرجل كلّ ذنوبه، فهنّ النموذج للمرأة المنسحقة في المجتمع العربي الذكوري، النموذج الذي يُريد الرجل الإبقاء عليه وتكريسه. ومثل هذا النموذج النسائي هو الذي ترفضه الكاتبة وتريد توعيته وتثويره وتفعيله ودَفعه للمواجهة والوقوف في وجه الرجل ليأخذَ حقوقه ودورَه في صنع الحاضر والبناء للمستقبل. والمجتمع الفلسطيني لم يعدم مثل تلك الفتيات المناضلات أمثال تلك الفتاة التي شاركت الرجال في القتال والمقاومة (ص137) والمرأة التي رفضت كلام الناس وتزوجت بعد مقتل زوجها المقاوم حفاظا على مستقبلها ومستقبل ابنتها (ص142-143).
وتصوّر سحر خيبتها من إمكانية تحقيق التغيير السريع في مجتمعها وفي الرجل بشكل خاص بانكسار كل من نوال وعفاف. نوال التي خُدعَت بالرجل الثوري، رفيقها في الحزب وزميلها في النضال، واكتشفت بعد أن أسلمته قلبَها وجسدَها أنّه لا يختلف عن باقي رجال مجتمعه(ص 117). وعفاف التي قضت السنوات تتوق للقاء فتاها الوحيد الذي تصوّرته مغايرا فاكتشفت أنّه ككل رجال مجتمعه أنانيّ محبّ لنفسه يحتقر المرأة ويراها أداة لهو وإناء تفريغ لأحزانه وهمومه وشبقه، ويقتصر دورها، في رأيه، على توفير الجنس للرجل وتربية الأولاد وتدبير البيت، "فالرجل العربي مهما تعلّم يظلّ يحتفظ بنفس الصورة، المرأة فريسة وهو الصيّاد"(ص 135).
وسحر نفسها بوصفها لبطلة روايتها "امرأة غير واقعيّة" قد توقع القارئ في وَهْم استسلامها للواقع، والاعتقاد بأنّ تصرّفات عفاف وأفكارها هي المرفوضة بينما كان الآخرون على حقّ. بينما ما تُريد الكاتبة أن تقوله ويتبنّاه القارئ، هو أن عفاف بالفعل لم تكن امرأة واقعية في مثل هذا المجتمع الذي لا يزال يعيش في مفاهيم ومعتقدات كانت مقبولة قبل مائة عام وأكثر، لكنها اليوم وفي الربع الأخير من القرن العشرين، وقد تطوّر العالم وتغيّرت المفاهيم والأفكار والحياة، وانفتح الكلّ على الكلّ، كيف ترضى بواقع مجتمعها واستكانة أبناء شعبها واستمرارية تحكّم المفاهيم والمعتقدات التي كبّلت المرأة وهمّشتها وأخرجتها من دائرة التأثير والعمل، وحتى كبلت الرجل وسحقت شخصيته وجعلت منه مخلوقا مستعبَدا لا يثق بقدراته وينتظر رحمة السماء لعلّ وعسى!؟ مجتمع كهذا يرزح أهله تحت نير احتلال غريب يُصبح هو غير الواقعي وغير المعقول، يجب التمرّد عليه والثورة ضدّه، وهذا ما فعلته عفاف بطلة رواية سحر خليفة الواقعية جدّا.
لقد اختارت سحر خليفة أن تكتب روايتها على شكل مذكرات ترويها عفاف بطلة الرواية. والسرد بضمير المتكلم المفرد وَفّر لبطلة روايتها القدرة على اختيار المواقف والأحداث التي تُريد التركيز عليها والوقوف عندها، وجعل صوت عفاف، بطلة الرواية، هو الصوت الوحيد المقدّم للقارئ يحمل وجهة النظر الوحيدة، وإذا ما قُدّمت وجهات نظر أحد أفراد أسرتها أو صديقتها نوال فترتد إلى داخل ذاتها مستحضرة الماضي عبر شريط تستعرضه لحوار لها مع ذلك الشخص. لكن هذا السرد بضمير الأنا أعطى للقص دفئا خاصا وقرّب عفاف من المتلقي ليتعاطف معها ويتفهم أناها المعذبة ويؤيدها في رغبتها الانعتاق من الظلم وإثبات وجودها كأنثى لها مكانتها.
كون عفاف، بطلة الرواية، هي الساردة الوحيدة للأحداث جعلها تعتمد تيّار الوعي حيث تتنقل عبر الأزمنة، تخلط ما بين الحاضر والماضي والمستقبل، وإن كان الزمن الماضي هو المستأثر بالقسط الكبير، لأن ما تسرده هو مذكرات لأحداث جرت تستعيدها من الذاكرة، حتى غدت حياتها الحاضرة مقتصرة على ما كان في الماضي لدرجة أنها تعترف قائلة: "أحسست أني قطعة من ذاك الماضي، وأنّ الماضي ما زال حولي وأني ما زلت بانتظاره كي يمرّ في إحدى الطرقات ويراني أمامه".(ص28) فعفاف لا تحلم بمستقبل أجمل تعمل للوصول إليه بل نراها تحلم بالماضي وبعودته حيث فيه تجد حبيبها وسعادتها وكيانها. وإذ يتحقق لها ذلك بلقاء صديقتها نوال وحبيبها الولد الأهبل وأمها وأهل بيتها والجيران، تُصدَم ويتعرّى زيف هذا الماضي الجميل الذي تَوهمته، فترتدّ إلى نفسها وتختار حاضرَها مع كل قسوته مفضلة إيّاه على الوهم الكبير الذي عاشته كل السنوات الماضية في الغربة.
وكما طغى الزمن الماضي على فكر وحياة عفاف هكذا كان للأمكنة القائمة في الوطن سطوتها على عفاف في بلاد الغربة حيث كانت تستعيدها بكل عواطفها وحبها وشوقها، رافضة مكانها الذي تقيم فيه حيث الصحراء والوحدة والجو الخانق فَ "ربيع بلدي شيء آخر"(ص 73). صحيح أنّ علاقة عفاف مع الأمكنة بدت سطحية مجرد ذكر اسمها أو وصف خارجي عابر ، فلا نجد هذا الاحتضان للمكان والتماهي معه والوقوف على تفاصيل جزئياته ووصفها، حتى البيت الذي أقامت فيه وحيدة في الغربة وكانت تقضي فيه ساعات اليوم بطولها لم تهتم أن تصفه واكتفت بذكر الغسالة وحبل الغسيل والصحون والخزانة بكلمات عابرة. هكذا كانت علاقتها بمدينة عمان التي تتمثلها بسجن الفقراء، ومدينة القدس التي تنحصر رؤيتها لها في كونها مدينة سياحية مفتوحة لجنسيات مختلفة وأديان مختلفة. حتى البيت الذي ولدت وكبرت فيه لم تتوقف عند جزئياته واكتفت بذكر ما شدّ انتباهها ورغباتها مثل البركة والأوراق التي كانت تسقط فيها من شجرة الخشخاش.
لقد تألّقت سحر خليفة في روايتها هذه باستعمال مختلف أساليب السرد والحوار، والمرونة باستخدام اللغة ما بين الفصحى والعاميّة، وحافظت على عفويتها في اختيار الكلمات والعبارات، وتميّزت كعادتها بجملها القصيرة وكلماتها القليلة الحادّة في دلالتها وإيقاعها. كما اعتمدت أسلوب الوعي خاصة في مشاهد حياتها مع زوجها وعلاقاتها مع عنبر قطتها في الغربة.
صحيح أنّ النقّاد تجاهلوا رواية سحر خليفة هذه، وقد تكون لهم أسبابهم التي حاولنا توضيح بعضها، إلاّ أنّ الصحيح أيضا أن رواية سحر هذه "مذكرات امرأة غير واقعية" تشكّل علامة بارزة ليس في إبداع الكاتبة فقط، وإنّما في الإبداع الروائي العربي حتى منتصف سنوات الثمانينات من القرن العشرين.

ايوب صابر 05-01-2012 10:23 PM

سحر خليفة والارتداد إلى الذّات الجميلة



د. نبيه القاسم


أصعب ما يُواجه الكاتب، خاصة المبدع، حالة التأطير التي يقيّده بها النقّاد والقراء، حتى يغدو، دون أن يُدرك، حبيس هذه الدائرة التي قيّدوه بها وصاحب تلك الصورة التي فصّلوها له، ومهما حاول وجاهد وتمرّد وثار يظلّ حبيسَ الدائرة وصاحب الصورة.
هكذا حال كاتبتنا سحر خليفة، فقد كاد النقاد يجمعون على تأطيرها ضمن ثنائيتين هما: ثنائية الرجل والمرأة، حيث تظهر المرأة بأنها الضحية المضطهدة الفاقدة لكل حقوقها في مقابل الرجل السيّد الذي يفرض هيمنته وسطوته، وتحرّرها وتحرّر الرجل من ظلمه لها يؤّدي إلى تطوّر المجتمع، ومن ثم تحرّر واستقلال الوطن. وثنائية الاحتلال والمقاومة، الانسان الفلسطيني في مواجهة جندي الاحتلال الاسرائيلي.
وإذا كان النقاد، وحتى القراء، قد صَدَقوا في هذا التأطير لسَحر خليفة، لأن هذا ما يستخلصه كلّ مَن يقرأ رواياتها: الصّبار، عبّاد الشمس، باب الساحة، مذكرات امرأة غير واقعية، الميراث. إلاّ أنّهم، وأقصد النقاد والقرّاء، سرعان ما يقَعون أسرى أنفسهم بهذا التأطير لسحر في روايتها "صورة وأيقونة وعهد قديم" التي صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 2002.
تعود سحر خليفة في روايتها هذه، في غَفلة الآخرين، إلى زمن بعيد وأيام خوال وعهد قديم لا يزال يتفاعل في داخلها، يَدفعها إليه بَعد هذه السنين من الجَفاء والهجر والقَطيعة، زمن كانت فيه تنطلق من ذاتها لذاتها، فتسمو وتشفّ وتُحلّق وتضيع من ذاتها في ذاتها، وعندما تعود للواقع تجده كما تركته بكلّ قاذوراته، فلا تغضب، وتُتابع، بكل الصدق الجارح، خطواتها بثقة وأمل نحو الأمام كما عهدها الآخرون.
في رواية "صورة وأيقونة وعهد قديم" لا تكون الانتفاضة محور الأحداث رغم أنّ الرواية كُتبَت وصدرت في خضمّ أحداثها. ولا تكون المرأة ومعاناتها من ظلم الرجل ما يُشغل الشخصيات ويُحرّك الأحداث. بل تَحكي الرواية قصة حبّ جنوني، وعلاقات انسانيّة وارتباطات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، ليس في الزمن الفلسطيني المعيش، وإنّما في كلّ زمن من أزمنتنا الحاضرة.
أعادتني سحر بروايتها هذه سنوات إلى الوراء، إلى روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" التي صدرت عن دار المعارف بمصر ضمن سلسلة إقرأ عام 1974 التي تناولتُها في دراسة طويلة نشرتُها في مجلة "الجديد" وكانت سبب تعرّفي على سحر ولقائي بها بعد هزيمة الجيوش العربية واحتلال الضفة وباقي الأراضي العربية في حزيران 1967.
تحكي سحر خليفة في "لم نعد جواري لكم" قصة حب عنيفة بين شابة جميلة مثقفة في أوّل تفتّحها ورسّام ثوري عصفت بهما الأحداث حيث اعتقل وحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة. فتقطّعت العلاقة وتباعد الحبيبان. هي تزوّجت رجلا غنيّا مات بعد سنوات قليلة، تُدير مكتبة هي صاحبتها في مدينة رام الله، وهو خرج من السجن وغادر الوطن ليعود بعد سنوات فنّانا مشهورا ليُقيمَ معارض لرسوماته في الوطن. ويلتقيان من جديد، ولكن بشخصيّتين متباعدتين. يستذكران الماضي، كلّ يُلقي اللوم على الآخر ولا يسامح، فيفترقان من جديد وقد تأكّدا من عدم إمكانيّة التلاقي والحياة معاً.
وكما أنّ وقائع قصة "لم نعد جواري لكم" حدثت قبل حزيران 1967، أيام الحكم الأردني، هكذا أيضاً فالقسم الأول من أحداث قصة "صورة وأيقونة وعهد قديم" وقعت في الفترة الأردنية بينما باقي الأحداث كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي للضفة.
أحداث قصّة سحر تمتدّ على مَدى ثلاثين عاما، من منتصف الستينات حتى أواخر تسعينيات القرن العشرين. وفضاؤها مدينة القدس وقرية من قراها القريبة من رام الله. إبراهيم شاب مسلم من مدينة القدس يحلم أن يُصبح كاتبَ قصة معروفا، كان ضحيّة والده الذي ترك البيت ليتزوّج من امرأة تنجب له الأبناء الذكور، وخاله الذي أراد أن يُزوّجه من ابنته. فهرب ليعمل مُدرّسا في إحدى قرى المنطقة، لكنه سرعان ما وقع في حبّ فتاة مسيحيّة باسم مريم، مثقّفة تُجيد أربع لغات تُحبّ الأدبَ وتقرأ لفرانسوا ساغان، مَلكَت عليه حياته بما تمتّعَت من جمال وجاذبيّة وسحر وصَمْت يُخفي الكثيرَ من الأسرار. فطاردها ثمّ طاردته وسافرا معا إلى القدس فتكشّفَت له عن فتاة أخرى دائمة الحركة والحيويّة، تُحبّ الحياةَ واللهوَ والرقصَ، كانت قد عاشت، كما روت له، قصةَ حبّ غريبة مع كاهن في البرازيل حيث عاشت مع أفراد أسرتها، ممّا دفَع باخوتها لإعادتها إلى الوطن مَنعا لسقوطها الكامل. وفي رحلة ثانية لهما إلى القدس يقضيان ساعات جميلة بين معالم القدس وكنائسها، ثمّ تأخذه إلى دير للأرمن وينامان معا في هوستل الدير.
وتنتشر قصة حبّهما في القرية ويستنكرها الجميع. لكنّ ظهور الحَمل عقّدَ القضيّة واستَدعى حضور اخوتها من البرازيل لمسح العار، فيهرب إبراهيم مُتخفّيا إلى القدس بينما تلتجىء مريم إلى الدير فيحميها. وتنقطع العَلاقةُ بين إبراهيم ومريم باحتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية ورحيل إبراهيم.
ويعود إبراهيم بعد ثلاثين سنة إلى القدس رجلا غنيّا، لكنه لا يعرف السعادة ليبدأ عملية بحث شاقّة عن مريم، وعن ابنه أو ابنته، ثمَرَة تلك الليلة البَعيدة. وينجح بمساعدة راهب القرية التي تعرّف فيها على مريم، في الوصول إلى ابنه ميشيل الرّاهب العاكف على مداواة الناس ومُساعدتهم، لكنّ الابن يتنكّر له ويرفضه. ويتعرّف إبراهيم على عجوز باسم جميلة، مسؤولة عن بيع بيت مريم في القرية، تكشف له أنّها التي حضنت مريم ورعت ابنها ميشيل وتبنّته بعد أن تركته أمه واختارت الدير سكنا لها. ويصل إلى مكان مريم بعد مشقّة طويلة وتنقّل ما بين القرية والقدس والناصرة حيث وجدَها أخيرا في دير نوتردام في القدس، وقابلها واعتقد أنّه سيحرّك مشاعرها ويُعيدها إليه، فحدّثها عن ابنهما ميشيل الذي قابله ورغبته في أن يعيشا وإبراهيم معا. وخلال حديثه كانت مريم تكتفي بالابتسام وتَرديد كلمات: "هل عُدتَ يا ابراهيم؟ يا ابراهيم!. وقدّم لها صورتَها التي عثر عليها, فقالت: صورة قديمة وما حاجتي الآن إلى صورة".(ص227) ولم تنفعل ولم تتجاوب، وظلّت تبتسم بصمت وسخرية قاتلة رافضة الاستماع إليه ممّا دفعه لتركها والخروج إلى الشارع حزينا مُحطّما. وتكون النهاية بوقوعه وسط معركة غير متكافئة في ساحة المسجد الأقصى بين جند الاحتلال الاسرائيلي والمصلين، ولم يُنقذه من الموت الأكيد غير ظهور جميلة، وأخذها له إلى بيتها.
تبدو سحر خليفة في روايتها هذه مُرتاحة هادئة مُنسابة مُتصالحة مع ذاتها، تعيش الجوّ الذي تُريد، تترك مَشاغل الحياة الصاخبة لتُحلّقَ في قصة غرائبيّة نَسجها خيالُها الراكض نحو عوالم أخرى لا يعرف سكانها غير حياة الحبّ وفقط الحبُ. قصة تظهر فيها قوّة المرأة وقدرتها على التّعايش أينما كانت، وخَلق الجوّ الذي تُريد وإقامة العلاقات التي ترغب، غيَر آبهة بما يتعارف عليه الناس من عادات وتقاليد ومجتمع. امرأة متفتّحة على الحياة، تَعيشها بكلّ رغباتها المتوثّبة لا يردعها ثوبُ الكهنوت للحبيب المعشوق، ولا حاجز الدين للذي اعتقدته البديل. امرأة قد تُضحي في سبيل الوصول إلى مَن تُحبّ بكل غال، ولكنّها تحتقر هذا الرجل وتنفر منه إذا ما تكشّفَت لها أنانيّته وبان جُبنه وآثَر سَلامةَ نفسه وقتَ المحنة.
هكذا احتقرت مريم ابراهيم عندما تركها صباح تلك الليلة التي قضياها في هوستل الدير في القدس وذهب، دون أن يخبرها، ليُحضر الدولارات من والده وراودته مشاعر المذنب والرغبة في التكفير والدّخول إلى المسجد الأقصى ليصلي. فتركته وعادت وحيدة لبيتها وقد قرّرت، وصارحته بأنها ستعتبره صديقا ليس إلاّ. وبعدما تركها وآثر الهرب بعد احتلال الضفة عام 1967 قرّرت التنازل عنه نهائيّا وحتى عن ابنها الذي يُذكّرها به، واختارت أن تعيش حياتها وتُنهيها كما أرادت راهبة مُتعبّدة في الدير.
الحبّ كان محوَر رواية سحر خليفة، والرغبة في التمتّع بكل لحظة تُتاح كانت ما يُشغل مريم، وجُبنُ ابراهيم وعدم قدرته على استيعاب مثل هذا الحبّ كان المُثيرَ والمُغضبَ لمريم ومن ثمّ لابنها ميشيل الراهب الذي احتقر والدَه ابراهيم وصارحَه بكلّ القسوة قائلا: "ماذاتريد؟ تريد أمي؟ هي لا تُريدك. تريد رجوعي؟ أنا لن أرجع. تُريد مني أن أرضى بك؟ أنا لن أرضى. فدعني وشأني".(ص246).
تؤكد سحر خليفة في روايتها هذه قدرتَها على الخروج من عالم الواقع غير البادية بوادرُ التغيير فيه، عالم الظلم والقهر والاحتلال للوطن والمقاومة والذلّ العربيّ وانسحاق الانسان الفَرد، لتُعَيّشَنا قصّة حبّ غرائبيّة، بطلتها فتاة تشعر أنها "غريبة في أرض الوطن، وحيدة بين الاخوة، ووحيدة بين الأغراب"(ص50) رفضت أن تكونَ مجرّد صورة أرادها الناسُ لها، فعَرَفت كيفَ تُرضي الناسَ في قريتها بظهورها أمامهم في الصورة التي يُريدونها لها، وكيفَ تتمرّد وتثور وتعيش حياتَها التي أرادت بعيدا عنهم، إذا كان ذلك في البرازيل أو في مدينة القدس، وشجاعة في مواجهة المواقف الصعبة حيث اقترحت على ابراهيم عندما أحاق بهما الخطر الهرب والزواج بعيدا عن القرية وأهلها (ص 86). وحازمة وقاسية في رفض طلب إبراهيم عندما عاد إليها بعد ثلاثين سنة، وقد ضاع منها شبابها وحبها وابنها، يطلب منها أن يجدّدا الحبّ والحياة مقدّما لها صورتها أيام شبابها بقولها: "صورة.. صورة قديمة، وما حاجتي الآن إلى صورة؟" (ص 227) وابتسمت بكل الألم وأهملته، لم تنظر إليه ، تركته بستجدي عودتها ويجهد نفسه في اقناعها، وتسأله على فترات: "هل عدتَ يا ابراهيم؟" حتى يئس وتركها غاضبا فاقدا كلّ أمل في استرجاعها.
بينما أظهرت جُبْنَ الرجل وضعفَه وضياعه بمصارحة ابراهيم لنفسه "ما عدتُ أعرف مع مَن أعيش ومَن أعشق، أعيش مع مريم من خلال الكتاب وأعشق مريم من خلال الكتب وجوّ المكتبة وصور الأدب. ولم يخطر ببالي على الإطلاق أنّ المشكلة في ذاتي وليست مريم. ولم أكتشف تلك النقطة، أو تلك الجنحة أو المَثلبة إلاّ في ما بعد، بعد عشرات السنين، 20 سنة، 30 سنة، أو ربّما أكثر بقليل، وظلّت علاقتي بدنيا الناس تتخبّط لأنّي أتعامل مع أشخاص من صنعي، أصنعهم من الكتب ومخيّلتي، وأحللهم حسب ذوقي واجتهادي، وأفسّر طوابعهم وطوالعهم بما يحلو لي وما يُعجبني أو ما يدور في رأسي من فكر وأحلام وخواطر. فأعلو وأرتفع مع التحليل ثمّ أغرق، وأرى زوايا ليست هناك، وأبني توقّعات على ما أرى، ثمّ تأتي الصدمة كالإنفجار"(ص 24-25)، وتمزّقَه بين تعلّقه بأسرته ومُعتقداته وخوفه كلام الناس وعقاب الرّب. فكما هرَب أوّل مرّة من مُواجهة خاله ومصارحته بعدم رغبته في الزواج من ابنته، يُفكّر بالهرب ثانية من محبوبته مريم بعد قضاء ليلته معها في هوستل الدير، وأنْ يُكَفّر عن فعلته بالعودة إلى رحاب الأسرة وطاعة الرب، وبعد أن يَظهرَ الحَمْلُ لا يُفكّرُ إلاّ بالخلاص منه، وإذ يفشل يهرب من مواجهة الناس وإخوة محبوبته، ويجد في احتلال الجيش الاسرائيلي للضفة الغربية المناسبة للهرب وتَرك الوطن والمحبوبة والجنين الذي على وشك الولادة.
وتُظهر جَهلَ وسطحيَةَ الرجل (ابراهيم) الذي يعمل مُدرّسا ويُريد أن يكون كاتبَ قصص عندما يُفاجَأ في القرية التي ذهبَ ليعمل فيها بأجواء وحياة سكانها المسيحيين المختلفة عن حياة المسلمين، ويُبهَر بها، رغم أنّه ابن مدينة القدس، وُلد وكبُرَ ولا يزال يعيش فيها، فالكنائس، وخاصة كنيسة القيامة، لم يزرها طوال حياته، ودخلها أوّل مرّة مع مريم. وحتى مشهد المُواجهة الدّامية بين جنود الاحتلال الاسرائيلي والمُصلّين، والذي انتهى بقتلى وجرحى، لم تكن الغاية منه فقط تَصوير بشاعة المحتل وظُلمه، وإنّما جاء ليبرّرَ انقطاع كلّ خيوط امكانيّات اللقاء بين ابراهيم ومريم وابنهما ميشيل. وأنّ هذه العلاقات التي كانت غيرَ طبيعيّة وغيرَ صادقة، لا يُمكنها أن تبقى وتَتجدّد وتَحيا وتستمرّ. وقد يكون مَقتل إيلاي اليهوديّ الروسيّ صديق أبي يوسف في المُواجهة مع مَقتل محمود العربي، جاء ليؤكدَ على بشاعة الاحتلال، وأنّ ضحاياه ليسوا العرب فقط وإنما الفقراء اليهود الذين خُدعوا وغَرّروا بهم وجعلوهم يتركون مواطنَهم الأصليّة ويأتون إلى إسرائيل! رغم أنّه لم يكن لاحتلال إسرائيل للضفة ومن ثمّ لكلّ أعمال المقاومة ، بما في ذلك الانتفاضة، أيّ تأثير مُباشر على الأحداث، وإنّما كانت في النهاية إشارات لتغيّر المكان والزمان والأجواء، حيث تذكر المستوطنات، واحتلال اليهود لبيوت العرب، وأخيرا انفجار المقاومة بين المصلين المسلمين وجنود الاحتلال في باحة المسجد الأقصى.
هذا التّكامل المُتناسق بين كلّ أجزاء الرواية، والانسياب الأخّاذ في استمراريّة الأحداث، والّرسم الرّائع لشخصيّة مريم المُتكشّفة للقارىء مع كلّ حدَث ونَقلة وحوار يلتقي مع اللغة الهادئة السلسة الجميلة التي تُدخل القارىءَ في أجواء الخيال والحبّ بَعيداً عن هموم الحياة، وتُذكّره بجماليّات وأجواء وسحر رواية سَحَر خليفة الأولى "لم نعد جواري لكم" ، وتؤكّد ما ذهبتُ إليه في مُفتَتَح الكلام، بأنّ سحر خليفة في روايتها هذه تُغافل القارىء وتعود إلى زمن بعيد وأيّام خوال وعهد قديم لا يزال يتفاعل في داخلها، يَدفعها إليه، بَعد هذه السّنين من الجفاء والهَجر والقَطيعة، زمن كانت فيه تنطلقُ من ذاتها لذاتها، فتسمو وتشفّ وتُحلّقُ وتَضيع مع ذاتها في ذاتها. سحر خليفة في روايتها هذه "صورة وأيقونة وعهد قديم" تَرتدّ إلى ذاتها الجميلة رغمَ أنّها لا تنسى أنّ الواقعَ الذي يُحيط بها واقع ظلم وقَََهْر وظََلام.



www.nabih-alkasem.com


ايوب صابر 05-01-2012 10:26 PM

رسمت بقلمها الواقع بلا "تجميل"

سحر خليفة: نحن عرب "قُح".. بـ"ملءِ الفم" قالت!


غزه - أسماء صرصور

يا لها من بصمةٍ مميزة تلك التي تتركها المرأةُ في كلِّ مكان..حتى في عالم الأدب..ذاك العالم المختلِف الذي يعبِّر فيه الإنسانُ عن ذاتِه ويعكِس من خلالِه الحياةَ بشكلها العميق.. وأمام عالم الأدب يقف عَالمٌ آخر بكامل خصوصيتِه.. إنه عالم المرأة.. ذاك الذي يدفعُ "بفضولِنا" الصحفيَّ للتعرف على ذاك المنظور النسائي الخاص، لتخرجَ إليكم "مقهى الأدبِ" عن نمطِها المعتاد، وتقدِّم عبر "البريد الإلكتروني" فنجانَ قهوةٍ بصحبة كاتبةٍ فلسطينية وروائيةٍ غير تقليديةٍ.. إنها ابنة نابلس "سحر خليفة"، والتي كرَّست حياتَها للكتابةِ بعد ضياعِ ثلاثة عشر عاماً من سنيّ عمرها في "خيبة الأمل " التي خلَّفها زواجُها.

ولدت "ضيفتنا" في نابلس عام 1941، وتزوجت في سنٍ مبكرةٍ، لكنها تخلصت بعد ذلك من الإحباط الذي عاشته في حياتها، وانتقلت من "عش الزوجية" إلى "عش الدراسة" الجامعية حتى حصلت على شهادة الدكتوراة في "دراسات المرأة والأدب الأمريكي".

وكانت المسيرة الأولى لها في الرواية "لم نعد جواري لكم" عام 1974، والتي أحدثت صدى كبيرًا، ولكنها لم تحظ بالاعتراف الأدبي إلا بعد روايتها الثانية "الصبار" عام 1976، وترجمت معظم رواياتها إلى العبرية والفرنسية والألمانية والهولندية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية والماليزية واليونانية والنرويجية والروسية.

طبيعة الحياة هي الحَكَم
الأدب هو الجمال والحكمة والفهم، وأداة التواصل مع ذاتي ومع الآخرين"، هكذا استهلّت خليفة حديثها، مبينة أن أسس التعامل معه – من وجهة نظرها-هو الالتزام، والانتظام بمواعيد محددة للإنتاج، والصدق في التعبير، والعمل المستمر على تطوير الأدوات الفنية والمعرفية، "فالموهبة وحدها لا تكفي" وفق تعبيرها.

وتتابع حديثها:"بدايات المرأة الأدبية اقترنت بمستوى تعليمها، إذ لا يمكن لامرأة أمية أو متدنية المستوى التعليمي أن تنتج أدباً، فالمرأة الموهوبة والمتعلمة والمُثقفة مثل الرجل سواء بسواء"، لافتةً النظر إلى أن الإنسان حين يشعر بأن لديه شيء يقوله، ولديه القدرة الفنية والأدوات يفعل ذلك، وتضيف: "فالمسألة لا تحتاج لقرار، لأنها تأتي بشكل تلقائي وبدون تخطيط، لكن الاستمرار في الكتابة بحاجة لتخطيط، وتنظيم، والتزام".

وتشير إلى أن لكل امرأةٍ ظروفها الاجتماعية والسياسية والشخصية، فإنتاج المرأة محكومٌ بما تعرف، وبأسلوب الحياة الذي تعيشه، مستدركةً:"لكن باستطاعتِنا المُجازَفة بالقول إن المرأة حاولت أن تعبّر عن واقعها الشخصي والاجتماعي وما تعانيه من تمييز ضد الجنس، وبالنسبة للنساء في العالم الثالث، وبالذات الفلسطينيات، كان للواقع السياسي حيز كبير في أدبها، وأحياناً، يختلط الواقعان: الشخصي والسياسي، بحيث لا نستطيع الفصل بينهما، كما هو الحال في أدبي أنا".

نحن كباقي العرب
"تقولين إن نتاجك الأدبي هو صورة حقيقية مغايرة للتصورات المصطنعة أو الوهمية عن الواقع الفلسطيني، صورة حقيقية بلا هالات، فما المغاير فيه؟"، تجيب: "لطالما قدمنا الشعر الفلسطيني أو العربي في صورة شعب مختلف عن بقية خلق الله سواء من حيث التركيبة الاجتماعية، أو المزايا الخلقية، أو النزعات البطولية الفذة التي خلقها الله بتحيزٍ تام وجعل منا أبطال هذا الزمان والمكان، وأنا حاولت عبر مسيرتي الأدبية الطويلة أن أقول بملء الفم إننا مثل بقية خلق الله، "عرب أقحاح"، بكل ما لدى العرب من بؤس وفقر وتخلف، وأيضاً، قصص بطولة تتحدى الظلم والاستعمار، إلا أن واقعنا المحلي المتردّي، وموازين القوى العالمية المتحيّزة ضدنا على طول الخط، لم تثمر وتعطي بقدر ما قدمناه من تضحيات وضحايا، وهذا يحتم علينا أن ندرس هذا الواقع بشقيه المحلي والعالمي حتى نعرف أسباب الضعف ومؤهلات القوة".

وتكمل:"أنا حاولت، وما زلت أحاول، أن أقدم الواقع الفلسطيني من خلال هذا المنظور، وأقدم نماذجه البشرية بشكل حقيقي، بلا هالاتٍ ولا أوهام ولا تصنع، والناس حين يقرؤون شخصياتي يسارعون إلى وضعها في سياق حقيقي كما لو كانوا يعرفون تلك الشخصيات معرفة حميمية، شخصياتي.. حتى التي جسدتها منذ السبعينيات وما بعد، ما زالت تعيش في مخيلة الكثيرين من القراء".

ثنائية النقاد!
هناك من يرى أن روايات سحر خليفة انعكاس لمأساة مدينتها "نابلس" وشعبها، لكن هي ذاتها لا ترى ذلك، وتقول: "نابلس بالنسبة لي هي المختبر، والمحك العملي الذي أبرهن من خلاله أن الإنسان العربي المتشابه في الوعي والمعرفة والجهل والتخلف والاضطهاد والصراع مع القوى الأجنبية، ومع ذاته هو نفسه، سواء كان مكانه في نابلس أو بيروت أو دمشق أو بغداد أو تونس، فالشخصيات النابعة من حارات نابلس لا تختلف إلا ببعض التفاصيل الثانوية والمحدودة عن الشخصيات النابعة من حارات دمشق أو القاهرة أو المغرب، الإنسان هو الإنسان في كل مكان، ولا يميزه عن غيره سوى عوامل الثقافة والبيئة وظروف العيش بما فيها من بطالة وقمع وتخلف وقوى استعمار واستبداد.. نابلس هي رمز فقط، وهي واقع، وهذا الرمز هو الواقع!".

وتستأنف حديثها بالإشارة إلى الثنائية التي يحصرها النقاد في إطارها: "الرجل/المرأة، الاحتلال/المقاومة"، لتقول: "هل لدينا حقًا نقد أو نقاد؟ فلنكن دقيقين في التعريف، فما لدينا هو نوع من الصحافة النقدية أو الدراسات الأكاديمية، فالدراسات الأكاديمية لا تصل إلى القارئ العادي ولا حتى القارئ المثقف، وتظل محصورةً ومحشورة في أطروحات تناقش في المحافل الجامعية للحصول على شهادة أكاديمية ثم يُلقى بها في مخازن وأرفف المكتبات الجامعية وتموت هناك تحت الغبار".

وتضيف:"أما الصحافة النقدية التي تعتمد على وجهات نظر عاطفية غير مستندة إلى علم أو معرفة بأساليب النقد العلمية الحديثة وكل ما لديها هو التشهير أو المديح العاطفي والحماس غير المبرر، فهذا لا نسميه نقداً بالمعنى العلمي للكلمة، ولماذا حصرَني النقاد بين هاتين الثنائيتين، فلأن هاتين الثنائيتين هما الأسهل للتقييم أو المديح أو التجريح، أما الأبعاد الأخرى التي تتناول البنية الفنية وتطوير الشخصيات وتحليل البنية الاجتماعية النقدية، والثورة على أنماط التعبير التقليدية وجمود الاصطلاحات اللغوية، فهذه أصعب بكثير".

تاريخنا أصل الدَّاء
وتتحدث خليفة عن الدافع الذي جعلها بعد رواية "ربيع حار" التي تدور أحداثها في مرحلة حصار الرئيس عرفات التوجه إلى التاريخ في روايتيها "أصل وفصل" و"حبي الأول"، لافتةً النظر إلى أن الأمور توقفت عند تلك المرحلة ولا شيء جديد، فالحصار كان ولا يزال حصارًا، تماماً كالوضع الفلسطيني الذي يعيش حالةً مستمرة من الجمود والتفسخ، والانقسام أضافَ لعنةً جديدة إلى باقي اللعنات، فماذا أكتب؟ ورجوعي للتاريخ هو لنبش المخبوء وما خجلنا منه وما نسيناه أو تناسيناه، فبرأيي أن أصل الداء هو في التاريخ، ومحاولتي استعادة ذاك التاريخ هو للتذكير بأن أصل الداء ليس أميركا ولا (إسرائيل)، أصل الداء كان فينا، في تربيتنا، في قيمنا، في تركيبتنا الاجتماعية ونظرتنا الخاطئة أو السطحية للأشياء".

وتكمل:"في رواية "أصل وفصل" استحضرت "عز الدين القسام"، وفي "حبي الأول" عبد القادر الحسيني، والآن أستعد لتجسيد "أنطون سعادة"، إنهم من حاولوا القيام بثورات جزئية أو شمولية، بمعنى ثورات ضد الاستعمار أو ثورة تتخطى الاستعمار إلى محاربة الوضع الداخلي وقوى التبعية والرجعية، وفشلوا في تحقيق انتصارات تذكر لأن الوضع الداخلي لم يسعفهم، بل على العكس، أحبطهم وغدر بهم وكسر شوكتهم".

وتوضح الأسباب التي تدفعها للتذكير بهم، فالسبب الأول لوضع اليد على الجرح وتوجيه البوصلة إلى بيت الداء، والسبب الثاني لنتذكر هؤلاء الأبطال ونجعل من قصصهم عبرًا نعتبر منها، وسبب ثالث لا بد من ذكره، حتى يرى أبناء الجيل الجديد الذين يعيشون مرحلة الانحدار والتصحر أن هذا الوطن أنجب لنا رجالاً عظاماً ولم يبخل علينا بمن يستحقون الخلود والاستقرار في ذاكرتنا حتى يكونوا مبعث فخر واعتزاز وكرامة.

وتضيف: "مشروعي الروائي هو رصد تأثير تجربة الاحتلال على المجتمع الفلسطيني في تحولاته المختلفة، وبالتالي فإن رواياتي هي حكاية مجتمع بأسره، وهو مجتمع مليء بالقصص وكثير من الهزات والتحولات والظواهر القابلة للاستنتاجات التي يمكن تعميمها على مجتمعات عربية بأكملها"، متابعة: "من المؤكد أننا لا نستطيع أن نفصل بين هواجس الروائي وحياته وانطباعاته والأدب الذي يكتبه، ذلك لأن الأدب بالضرورة أداة تعبير عن الحياة وتجاربها، فبالنسبة لي لا أستطيع الكتابة عن أميركا اللاتينية، حتى لو تسنى لي ذلك، لأن المكان ليس مكاني، والمجتمع ليس مجتمعي، والأحداث ليست ملكي".

"إذًا هل أنت راضية عن نتاجك؟!"..كان ردها:"راضيةٌ وغير راضية، راضيةٌ عن نفسي لأني اتخذت القرار الصحيح في الوقت المناسب، واتخذت قرارًا بأن أصبح كاتبة تعكس حياة الناس وهمومهم، وأن تقول الصدق ولو على قطع رقبتها، لكن ما زلت أطمح للمزيد، وبإنتاج الرواية الصعبة التي تصل إلى كل قارئ عربي فتهز كيانه، وإلى كل أجنبي فتهز عقله ومواقفه وضميره".

المصدر: صحيفة فلسطين

ايوب صابر 05-01-2012 10:41 PM

سحر خليفة في

حبّها الأوّل وغصّة الواقع الأليم


http://alkasemnabih.homestead.com/sahar11.jpg


د. نـبـيـه القــاسم

"إنّ المعرفة بالواقع هي الصورة الحقيقيّة للواقع، أي للإنسان، إذ لا واقع في عدسة تنأى عن الواقع وتنحرف عنه"[1].
هكذا قالت سحر خليفة التي رافقت بإبداعاتها الروائية- نضالات شعبها الفلسطيني منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في الخامس من حزيران 1967، وهي التي ووجهت بكثير من الاتّهامات وحتى الرفض لمواقفها الصّلبة، وجرأتها في توجيه سهام الانتقاد باتّجاه الكثيرين.

السؤال الدّائم ورحلة الاسترجاع
لكنّ سحر نفسها، وبعد انقضاء العمر الجميل، وانحسار الأمل بتحقيق الحلم البعيد، وجدت نفسَها، كآلاف غيرها، تسأل: كيف حصل ذلك؟ لماذا؟ إلامَ نظلّ؟ وإلى أين نسير؟
وكانت رحلتها الاسترجاعيّة نحو الماضي للبحث والتنقيب والوقوف على حقائق الواقع الذي كان، رغم ما في رحلة الاسترجاع هذه من مفاجآت أليمة، محزنة، مُفجّرة للغضب.
بدأت رحلة الاسترجاع بروايتها "أصل وفصل"، وأعادتنا لتلك السنوات وأحداثها، وأهمها انفجار ثورة 1936 ومَقْتل رمزها الشيخ عزّ الدين القسّام، وانتهاء الثورة، وانقسام الزعماء في مواقفهم تجاه الثورة واستمرار النضال، بينما أصرّ الكثير من الشباب على مُتابعة القتال رغم دخول البلاد وسكانها في أجواء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت بريطانيا المنتدبة على فلسطين طرفا أساسيّا فيها.
وقفت بنا سحر خليفة في روايتها "أصل وفصل" عند عام 1939 لتعود في روايتها هذه "حبّي الأوّل"[2]، لتُتابع السّرد وتصل إلى عام 1948، عام النكبة وضياع البلاد.
"أعود اليوم لدار العيلة لأقومَ بإصلاح ما تصدّع ونَخرَه السوس، وأجعل من الدار، دار العيلة، مكانا يُسْكَن، شيئا يُذكر وله تاريخ، ما عُدتُ أطيق جوّ الغربة والطيّارات والمطارات والبَدْء من جديد في كلّ مكان أذهبُ إليه. هناك عمّان، قبلها بيروت، ثمّ لندن، ثمّ باريس وواشنطن، ثمّ المغرب، وأخيرا جئتُ إلى الضفّة. شيء مُزعج أن تحسّ أنّك طَرد آدميّ مُتنقّل في كلّ مطار. ما أن تستقرّ في مكان ما حتى تنتقل إلى آخر، وإلى آخر بلا نهاية، وبلا تحديد."(ص9).
هكذا تبدأ سحر خليفة، على لسان راوية القصة، بتصوير حالة الفلسطيني المرفوض في كلّ مكان، مطرود من كلّ مطار، غريب لن يدخل، "برسونا نون جراتا"، كما وصفه الشاعر سميح القاسم.
وتوضّح أنّ عودتها سببُها أنّها "في هذه الدار وُلدتُ أنا، وأمي وداد وستي زكيّة. أنا كنتُ هنا منذ التاريخ" (ص10). وتشرح ما حلّ بالدار وأهلها "على هذه الدار مرّت أجيال، ومرّ احتلال وعواصف وزلزال رهيب جعل مدينتَنا مقلوبة، رأسها لتحت وأرجلها لفوق وحولها دمار وشظايا وغبار كثيف. وكذا الاحتلال ، مثل الزلزال." (ص10)
وتتساءل بألم: "في هذا الجوّ، مَن كان هنا؟ ستّي وأنا، وخالي وخالي، وخالي الآخر في السعوديّة، وأمي وداد. مَن ظلّ هنا؟ لم يبق أحد إلاّ سافر، هاجر، ولّى، أضحى ذكرى. وأنا أعود بعد كلّ السنين لأصلح ما اهترأ وتصدّع بعد الزلزال، وقبل الزلزال، وأعيد إلى الدار بعض الرّونق، وأزيل الغبار." (ص11)
راوية الحكاية
وراوية القصة هي نضال ابنة وداد بنت زكية، وشقيقة أمين ووحيد القحطان، الشخصيّات التي عرفناها في رواية ( أصل وفصل). ونضال الراوية هي التي عرّفتنا على نفسها في "أصل وفصل" بقولها "ولدتني وداد، لكن أمي الفعلية كانت ستّي، أمي كانت شبه طفلة، بعد أن تُرضعَني تُلقي بي في حجر الأم وتهرع لتعود للمستشفى ودرس التمريض. ومع الأيام بدأتْ تستوعبُ ما تسمعُ من كلام وأفكار وتتقبّلها بحماس، بأنّ الجيل القديم سيتغيّر إذا غيّرناه، وأنّ التقليد سيتغيّر إذا كسرناه، وأنّ الثورة تعني التغيير، وأنّ التغيير يبدأ بالنفس، فواظبَتْ على تغيير تلك النفس، نفسها هي، ولم تشملني، كانت مشغولة بما تحلمُ وبما تعملُ وتكسير القيود. وكنتُ أنا ضمن القيود فكسَرَتْني، وكانت تُحسّ أنّي امتدادٌ لماضيها وقيود الزواج فنبذتني."[3].
وكانت النكبة عام 1948 ليلفظها وطنُها، ويتنكّر لها الشقيقُ والأهلُ والغريب، وتذرو بها الرياح فترميها في مختلف العواصم المُتباعدة. كانت نضال قد عاهدت نفسَها وقد نُكبَتْ بفقدان الوطن والأهل أنْ تعيش بلا ذكريات وبلا أحزان، أن تنسى ما هي اليوم وما كانت بالأمس وتعيش فقط من أجل الفن، أن تعيش لإحساسها وترسم لوحات خرافيّة فيها ألوان مُشرقة وعيون خضراء وعسلية.(ص134). وتمرّ سنون التشتّت والغربة والضياع، وتُقرّر، وقد شارفت على السبعين من عمرها، أن تعود للوطن والبيت، رغم حراب جنود المحتل، لتُرمّم بيت العيلة، وتُعيد لحياتها بعضَ الاستقرار والطمأنينة والرّاحة.

أساليب السّرد
اتّبعت سحر خليفة في روايتها هذه أسلوب التوزيع ما بين ثلاثة أزمنة: الماضي المَسحوب من الذاكرة البعيدة، الماضي المُسَجّل على الأوراق، والحاضر المُخفّف من عبءِ الماضي، والشاهد على ما أوصلتنا إليه أعمال وخيانات الذين تاجروا بالبلد والشعب. وكان لتيّار الوعي حضور كثيف في العديد من المشاهد كتلك التي تستعيد فيها الماضي وتستحضر الأمكنة والأزمنة والناس الذين كانوا، خاصة في وقوفها أمام لوحاتها التي رسمتها بعيدا عن الوطن وعادت تحملها وتعمل على ترتيبها في بيت العائلة الذي تقوم بترميمه وإعادة الحياة إليه. فيختلط في ذهنها الحاضر بالماضي والرغبة في الانطلاق للمستقبل المرجو كما رأيناها في ساعة سماعها لكلمات ياسمين عن الرجل الطويل الذي وقف أمام الدار وقال إنه كان يوما من رُوّادها، فقفزت بها الذكريات إلى البعيد البعيد لتستعيد فتاها ربيع الذي أحبته وتعود لتعيش الساعات التي قضتها برفقته. والحالة نفسها أصابتها وهي تنظر إلى سعد الصغير الذي خبأته ياسمين في الخزانة عند مُلاحقة جُند الاحتلال له. واعتمدت سحر أيضا أسلوب الكتابة التوثيق في نقلها لبعض الحوارات التي دارت في اللقاءات بين عبد القادر الحسيني والزعماء والقادة العرب في دمشق، كما أرفقت الوثيقة والصورة، وحافظت على لغتها البسيطة القريبة من اللغة العاديّة القريبة للقارئ التي كتبت بها الجزء الأول من الرواية "اصل وفصل"، مع ازدياد المشاهد التي طغت الشاعرية والإيقاعيّة والجمالية على لغتها، مشاهد عاشتها في الماضي البعيد مع حبيبها الأوّل أيام المراهقة ربيع، ومشاهد حضرتها مع خاليها وحيد وأمين وحسنا، في مواقف الانكسار والتّوحّد والشعور بالهزيمة والضياع. ومثل المشهد الذي تنقل فيه ما دار من حديث بين وداد وأخيها أمين حول حبّه لليزاوحبّها هي لعبد القادر الحسيني.

عودة للماضي والحبّ الأوّل
تعود بذاكرتها الاسترجاعية نحو الماضي البعيد أيام طفولتها وحياتها مع جدّتها في بيت العائلة في نابلس لتستكمل صورة العمل العشوائي غير المنظم للعمل العربي السياسي والعسكري ضد الاستيطان اليهودي في البلاد الذي أسهبت في وصفه في رواية "أصل وفصل"، تستعيد شريط حياتها في عملية استرجاع للماضي البعيد، لتلك السنوات التي تلت مقتل عزّ الدين القسّام واستمرار الشباب في نضالهم ضدّ المحتل الانكليزي الغريب، وضدّ عمليات الاستيطان التي يقوم بها المهاجرون اليهود بدعم من المحتل. تسترجع أحداث الرحلة التي قامت بها مع ستّها زكيّة لموقع الثوّار حيث يتواجد خالها وحيد، مُتابع دربَ القسّام وحامل لواء قيادة الثورة، ولقاءها بالفتى ربيع مُرافق خالها وابنه المُتَبنّى، وكيف خفق قلبُها الصغير له."رأيتُ عينيه مثل قمرين أخضرين في وجه شبيه بوجوه البنات، أملس، أمرد، إلاّ من زغب فوق الفم، كان جميلا، طويلا نحيلا ومُثيرا فبدأتُ أحسّ بشيء يطفح داخل صدري كفوّار ماء، ماء ساخن، دفّاق، يُرسل موجات تلو موجات ترتفع وتصل حتى رأسي، ووجهي يصيرُ كرغيف خبز خرج من النار." (ص36). وتتابع شريط الماضي واستعادة المشاعر التي أحسّتها وهي برفقة ربيع وجدّتها في طريقهم للقاء خالها وحيد، "الولد الشاب طيّر عقلي، استولى عليّ، ما عدتُ أرى إلاّ خياله ولا أسمع سوى رنّة صوته."(ص45) لم يطل هذا اللقاء بسبب تحرّكات مُريبة لجُند الانكليز وقرار وحيد بعودتهم السريعة للبيت.
وتستعيد أحداث اليوم الذي فاجأهم فيه خالها وحيد، عندما دخل برفقة ربيع ليُعلن لهم "أنّ الثورة بدأت تنهار، وكيف جلس وخالها أمين يتبادلان الحديث حول الأوضاع. وزيارتها لخالها وحيد في قرية زواتا برفقة جدّتها ولقاءها بربيع، وما سمعت وشاهدت خلال زيارتها من أحداث المُواجهات بين الثّوّار وجُند الإنكليز وسيطرة اليهود على الأرض وعجز أصحاب الأرض عن المواجهة، والاكتفاء بالشكوى والنّدب. وتتذكر زيارتها وجدّتها لقرية صانور التي استقرّ فيها وحيد وتزوّج من حسنا وتحوّل ليُصبح فلاحا يعمل في أرضه.
وتتذكرُ آخر لقاءاتها مع ربيع والحالة الحزينة التي كان عليها بسبب تدهور الأوضاع وانهيارات الثوّار، قال لها معترفا : "انحلّت الثورة من الداخل، وما عاد بإمكاننا أن نتجمّع. كل فرد منّا بات يبحثُ عن مخرج لخلاصه. وأمثالي الآن بلا مخرج. لا مال ولا أرض ولا عمل ولا مستقبل. فماذا لديّ لأعطيك؟ لا شيء لديّ أعدك به لأقول بصدق انتظريني، كوني لي وانتظريني. وها أنا أقول لا تنتظري لأنّي سأهجّ من هذه الأرض وأبحث عن أرض تؤويني. أبحث عن عمل، أبحث عن خيط يهديني لأنّي الآن بلا حياة ولا مستقبل. أنا لا شيء، مجرّد لا شيء."(ص108) وتتذكّر كيف قبّل يدها يستسمحها، ووضع رأسه في حضنها وبكى عليها وعلى نفسه، وكيف بكى وبكى وهي بكت أيضا، وأقسمت أنها لن تنساه طوال حياتها، وستظلّ وفيّة على عهدها ما ظلّ نفَس في صدرها، وستظلّ له، وستنتظره، ولن تكون لرجل غيره".(ص108) وكيف قبّل يديها مرات عديدة وقبّل جبينها وسألها وهو يُفارق: لن تنسيني؟ وكيف ضمّت يديها إلى صدرها وقالت كصلاة قدسيّة: كيف أنساك؟ أنتَ ربيعي!." (ص 109).
وتقف نضال مع الماضي البعيد وهي تسال نفسها: " الآن، وأنا أتذكّر تلك الأيام، وأتذكّر ذاك الوداع وذاك الموقف أقول لنفسي كم ضاع العمر بلا ثمرة! كم خفق القلبُ بلا إحساس! لو ظلّ ربيع هل كنتُ أمرّ بتلك الخيبات؟ هل كنتُ أضيع بهذا العالم بحثا عن بديل لربيعي؟ لكن ربيع لا يُستبدل ولا يتجدّد، مرّة في العمر، فقط مرّة. هو حبّ الصبا وربيع القلب وحلم التغيير"(ص110).
وتتذكّر ما حدث من مُواجهات مع المستوطنين اليهود المدعومين من جند الإنكليز، واستيلاء اليهود على الأرض، والمواجهة الحاسمة التي كان من أثرها انفضاض شمل العائلة، فوحيد وزوجته حسنا انضما للثورة بقيادة عبد القادر الحسيني، وكان ربيع قد سبقهما، نضال وجدّتها عادتا لتقيما في بيت العائلة في نابلس، وأمين تابع عمله الصحافي يتتبع أخبار الثوّار والثورة.
تتوقف استرجاعات نضال عند هذه الأحداث الأخيرة التي شهدتها، وهي على يقين الآن وهي في السبعين من عمرها وقد عادت إلى بيت العائلة لترميمه تحت قيد الاحتلال الإسرائيلي للوطن، أنْ لا أحلام تنتظر تحقيقها، ولا أفراد عائلة يمكن أن يقفوا إلى جانبها، ولا أصدقاء ومعارف تبني معهم حياة جديدة. فكل الذي عرفت وعاشت كان ماضيا وانتهى.

عودة ربيع حبّها الأوّل وقد ضاع العمر الجميل
لكن في هذا الماضي السحيق كان ما يبعث الأمل ويشدّ الذاكرة ويرسم البسمة على الشفاه ويعود لينبثق ويتجدد مع كلمات جارة نضال ياسمين التي قصّت عليها ما حدث للفتى الذي هرب إليهم من جند الاحتلال وخبأته في خزانتها، وأسهبت في الحديث عنه بكل العواطف ممّا أثار حبّ معرفة المَزيد لدى نضال وذكّرها بفتاها ربيع الذي أحبته، ولكنه غاب عنها وانقطعت أخباره.
هكذا يتداخل الماضي بالحاضر وتتقابل الصور بعضها ببعض، وينتصب الوهم البعيد مُتجسّدا في كلمات ياسمين جارتها، عن ذلك الرجل الطويل النحيف ذي العيون الخضراء والشعر الأبيض ويحكي بلهجة قرويّة، الذي صادفته أمام الدار وأخبرها أنه يعرف الدار من داخلها لأنه كان كفرد فيها وابن العيلة، وكيف وقف بالباب عدّة دقائق وهزّ رأسه عدّة هزّات وقال: يا خسارة الدار، يا خسارة الدار وأهل الدار. ول يا زمن!" (ص168) فأيقظت أحاسيس نضال من مكامنها، وأعادت إليها ذاك الحبيب البعيد، ربيع الذي عشقت وفقدت كلّ أثر له بعد ضياع الوطن وتشتّت الأهل. وهل كان ربيع إلاّ حلما، رحلة قصيرة، صورة جميلة، مراهقة آفلة مَنسيّة، راحت، ضاعت، طواها النسيان"(ص169).
وبينما كانت تتنقل بين زوايا بيتها المهجورة وتُعيد الأدوات لأماكنها، بعد أنْ تركها العمال حين سماعهم دويّ الانفجار وإعلان مَنْع التجوّل، سمعت طرقا على البوابة الحديدية. وفوجئت بالرجل الذي رأته يقف أمام البوابة، كان رجلا غريبا بسَكسوكة، كبيرا بالسن، شعره أبيض ، بنظارات طبيّة، وقميص أمريكي بكاروهات وجينز أزرق لونه باهت. وقف يُحدّق في وجهها بنظرة غريبة، وقال بصوت مألوف: تغيّرتِ كثيرا يا نضال!
فسارعت لتقول: إذن أنت ربيع!
وبعد لحظات ارتباك وحيرة دعته للدخول. أخبرها أنه "كان في طريقه إليها ليسلّم عليها حين سمع بالانفجار وبدأ التجار يُغلقون الدكاكين والناس يتطايرون كالعصافير. وجد نفسه محشورا في المدينة، فالطريق أُغلقت والسيّارات أوقفت ولم يجد أمامه إلا أن يُكمل طريقه إليها حتى تفرج وتنفتح الطريق."(ص212-213) فقالت معلّقة: " إنّ الإغلاق قد يستمرّ عدة أيام، وهذا يعني أنّه سينام في هذه الدار طوال أيّام وليال."(ص213). وسالت نفسَها: ماذا سيقول الناس عنها، وماذا سيقول الجيران! رجل غريب في داري في هذا الزقاق؟ غير ممكن".( ص213)
وخلال جلوسهما في الحديقة كان يحدّثها عن نفسه وهي تتأمّله وتفكر، كم تغيّرنا واختلف ربيع! أهذا ربيع حفيد أم نايف بائعة اللبن والخبيزة وابن خالي بالروح ووريث الحسيني وسعادة؟ كنت قد سمعتُ من خالي أنّهما حين ذهبا للقدس بعد صانور التقيا بربيع في مقرّ قيادة الثورة عند الحسيني بقرية بير زيت. كان قد التحق بالحسيني وقوّاته وظلّ معه حتى استشهاده في القسطل، وبعد القسطل ذهب مع أمين إلى سعادة.(ص215). "وبعد هرب سعادة إلى دمشق بدأ رجال الأمن يطاردون أعضاء حزبه فالتجأ ربيع إلى السفارة الكندية، وهناك تعرّف على موظفة كانت تزورهم في مركز الحزب و هربت معه إلى كندا وهناك تزوجا وأنجبا" (ص258)
أخبرها ربيع أنه بعد هروبه إلى لبنان مع خالها أمين بدأ حياته رجل مطابع، تعلّم صف الحروف في جريدة الزوبعة الشهيرة في ذاك الوقت. صف الحروف تطوّر منذ ذاك الزمن، ومع تطوّره تطوّر هو من صفّ الحروف باليد حتى الإنترتايب والمونتايب والزينكوغراف والأوفست ثم الطباعة الالكترونية والكمبيوتر. وهو الآن لديه في الإمارات شركة ضخمة للكمبيوتر وآلات النسخ والتصوير والطباعة، يستوردها من كوريا واليابان والهند وألمانيا والبرازيل. يستورد كمبيورات وبرامج ويُتابع الثورة التقنيّة في كلّ مكان في العالم." وهو الآن رجل أعمال ومبرمج. زوجته ماتت منذ سنوات بسرطان الثدي. وقد تقاعد وأبناؤه يديرون أعماله.(ص215).
وروت نضال لربيع ما آلت إليه حياتها بعد النكبة وتشتت الأهل والشعب وضياع البلاد قالت: "بعدما ماتت ستي، وأمي اختفت ألحقني خالي بمدرسة الراهبات، وهناك اكتشفن موهبتي فدبرن لي بعثة فنيّة إلى روما، ومن هناك بدأت حياتي كفنانة وعشتُ حياتي بالطول والعرض. تزوّجتُ وطُلقت ثم تزوجت ثم تمرّدت ثم أحببت ثاني مرّة وثالث مرّة وعاشر مرّة، ثمّ قرّرتُ ألا شيء يستحقّ انشغال القلب إلا فنّي ورسوماتي، وها أنا أعود إلى داري حتى أرمم ما آل إليّ من آل قحطان."(ص216).
أيام الحصار أجبرت ربيع أن يبقى مع نضال في بيت العائلة، حيث كانت تتركه في الليل لينام وحيدا، وتنام هي عند صديقتها وجارتها ياسمين. هذه الأيام كانت مناسبة لإطّلاع ربيع على مذكرات أمين خال نضال وترتيب أوراقها. ومن خلال هذه المذكرات التي قرأتها نضال بتشجيع من ربيع، تعرّفنا على ما ألمّ بفلسطين بعد مَقتل عز الدين القسّام وانهيار ثورة عام 1936 وتشتت الثوار في مناطق مختلفة من البلاد. وبالتحديد تُطلعنا على تفاصيل الحرب المقدسة التي أعلنها عبد القادر الحسيني ضد الاحتلال الانكليزي، وضد الاستيطان اليهودي في منطقة القدس. ويُسجّل أمين في مذكراته تفاصيل أحداث تلك السنوات وما لاقاه عبد القادر الحسيني من لامبالاة الزعماء العرب وحتى زعماء فلسطين، ورفضهم مدّ يد المساعدة له وتزويده بالسلاح عندما ذهب إليهم في الشام، وقابلهم وبيّن لهم خطورة الوضع وأهمية توفّر السلاح. لكن الرفض والسخرية والاتّهام كان ردّ الزعماء العرب على عبد القادر الحسيني، مما جعله يعود منكسرا يائسا واعيا لما قد تؤول إليه حالة البلاد.
وكان الذي توقّع، فقد استطاعت القوّات اليهودية المدعومة من جُند الاحتلال الانكليزي أن توسّع سيطرتها على مساحات كبيرة من البلاد، وأن تحسم الحرب بعد استشهاد عبد القادر الحسيني يوم 7 نيسان 1948 في القسطل، حيث قامت بهجوم كبير وكاسح احتلت على أثره كل المنطقة القريبة من القدس. وكانت مقدمة لسقوط كل البلاد فيما بعد.

الواقع تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي
أرادت نضال، بطلة سحر خليفة، أن تؤكّد منذ البداية أن عودتها للبيت والوطن كان عن إدراك وإصرار ورغبة في التحدّي والبقاء والاستمرارية في الوجود. "أجد نفسي الآن بلا صاحب وبلا مأوى. بقيتُ مثل السيف فردا. إن كان الأهل رحلوا مثلي، وأنا رحلتُ مثل الباقين، مَن ظلّ هنا؟ ما ظلّ هنا سوى هذي الدار. لهذا عدتُ ، هنا من جديد، لأجعل من الدار، دار العيلة، بيتي الأول هو بيتي الأخير، جاليري، متحف، صور ورسوم وبراويز، مثل المعرض."(ص15)
وتمحور اهتمام نضال بما حدث في الماضي، وذكر هذه الأحداث التي جرت، وقصّة الناس الذين كانوا يعيشون فيها، لم يصرفها عن نقل صور ومشاهد لما كان يجري.
اهتمت سحر أن تنقل للقارئ على لسان ياسمين جارة نضال صورا عن حالة البلاد والناس تحت الاحتلال الإسرائيلي. "كانت تحكي عن الحواجز والإغلاق، والفقر والهمّ وإسرائيل. دار أبو حمدان نسفوها، ابن البقّال مرمي في السجن من عشر سنوات، بنت المعتوق اعتقلوها مع جوقة شباب معهم ديناميت، نسفوا دار أبوها ونسفوها، يعني حبسوها عشر سنين." (ص63).
وتروي ياسمين ما حدث "الليلة اشتباك عند الجامع. دخلوا الزقاق بالجرّافة وبعدين لحقتها المركابا. المركابا يا جارتنا أعلى من الدار. عمرك شفتيها المركابا؟ المركابا لمّا تمرق أشوف الجندي رأسه براسي، رأسه أعلى من العليّة، يعني المركابا يا جارتنا أطول من الدار، أطول وأعرض، وتهدّ الدار. عمرك شفتيها المركابا؟.(ص76). وكيف أنّ الشباب كانوا في حالة ثورة دائمة ضد جند الاحتلال مما كان يستدعي فرض الحصار ومنع التجوّل على فترات متقاربة.
ونقلت على لسان ياسمين بعض مشاهد من أيام الانتفاضة وكيف كان الشباب يُقاتلون المحتل، ويواجهون العملاء والوشاة من بين أبناء شعبهم. "دارك أنتِ. كانت مهجورة ومفتوحة. شباب الانتفاضة كسروا الشبابيك ونزعوا الحديد ودخلوها. نزلوا في القبو يناموا هناك ويحاكموا هناك ويُعذّبوا هناك. بأوّل انتفاضة كنّا نبعث لهم بيض وجبنة، ومرّات صينيّة مقلوبة ومرّات كفتة. لكن بعدين لمّا صاروا يحاكموا فيها خفنا منهم. صرنا ما نقرّب عليهم ولا نتجرأ نحكي معهم، لكن نسمع، نسمع صياح، نسمع كرابيج ومسبّات، ونسمع الجيش يقتحم الدار. اقتحموا داركم ثلاث مرّات. أمي خوّيفة ومريضة، ستّ كبيرة، خايفة على حالها وعلى دارها، خايفة من السلطة ومن حماس، وخايفة من اليهود ومن العملاء" (ص64-65).

ايوب صابر 05-01-2012 10:45 PM

تابع

مُلامسة الزّمن في الرواية
تحدّد زمن الرواية في عشر سنوات من سنة 1939-1948 وهي السنوات التي شهدت فيها البلاد حدّة النزاع والصراع ما بين العرب واليهود على مَن منهما يكون صاحب البلاد وسيّدها.
لكن سحر بمزاوجتها بين الماضي والحاضر واستحضار شخصية ياسمين امتدت بزمان الأحداث إلى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، لكنها اقتصرت على نقل صور متفرقة ومشاهد من حياة الناس، تحديدا في مدينة نابلس، تحت نير الحكم الإسرائيلي.
ورغم أنّ الزمن كامن في وعي كلّ إنسان وفي خبرته، إلا أنّه لم يُشكل أيّة قيمة لدى الإنسان العربي في كل مراحل مواجهته للقوى الاستعمارية الانكليزية أو للمستوطنين والمقاتلين اليهود. وكان تصرّفه على الغالب وكأنه يملك الزمن كله، فلا قيمة للساعات والأيام والسنوات، كما بَدا ذلك واضحا في رواية "أصل وفصل". وإذا كنّا نرى تغيّرا ما في التعامل مع الزمن في رواية "حبّي الأوّل"، إلا أن الزمن ظلّ ثانويّا ومُهمّشا بالنسبة لمجموع الناس وخاصة أصحاب الوجاهة والسيادة والزعماء، فعندما وصل عبد القادر الحسيني ورفاقه لمقابلة القائد العام في دمشق ليشرح له ولباقي الزعماء الحالة التي عليها الوضع في فلسطين، كان الموعد المُحدّد للمقابلة الساعة التاسعة والنصف صباحا، لكن البوّاب أخبرهم عندما وصلوا ولم يجدوا أحدا، أن السكرتير يحضر في التاسعة والنصف ومدير المكتب في الساعة العاشرة والقائد العام في الساعة الثانية عشرة.(ص289) والمواجهة في فلسطين على أشدها، والزعماء والوجهاء يقضون وقتهم في مقاهي دمشق وحتى في اجتماعهم مع عبد القادر لسماع تصوّره عن الواقع الراهن، وطلبه منهم الإسراع في تقديم السلاح للمقاتلين في أسرع وقت وإلا ضاعت الفرص وضاعت البلاد، لم يهتموا لما يسمعونه وأخذوا يضيّعون الوقت في جَدل عقيم وحوار بعيد عن الهدف مما أغضب عبد القادر الحسيني وجعله ينسحب من اللقاء.(ص291-318) وهذا التصرف رأيناه في المواجهات بين المستوطنين اليهود وأهالي القرى العربية ورجال الثورة، فبينما يُعدّ المستوطن نفسه ويجهزها للحظة الحسم والمواجهة نجد العربي والثوري يُشغل وقته بالقصص والجَدل والتسويف. والأمثلة التي تُقدمها الرواية عديدة في جزأيها: "أصل وفصل" و"حبّي الأوّل".
وقد شكّل الزمن بالنسبة لنضال، راوية القصة" حقيقة صعبة وظلّها المُلازم في كل ساعات يومها، يُذكّرها بالماضي الذي كان ولن يعود، ويُعيدها لمشاغل الحاضر الضاغط، ويدفع بها لتفكر في الغد الآتي. وإذا كانت نضال قد قرّرت في لحظة في الماضي، وعاهدت نفسها، أن تعيش بلا ذكريات وبلا أحزان وأن تنسى ما هي عليه اليوم وما كانته بالأمس، وأن تعيش فقط من أجل الفن ولإحساسها، وأن ترسم لوحات خرافيّة فيها ألوان مشرقة وعيون خضراء وعسليّة (ص134)، فقد كانت هذه اللوحات الفنيّة التي رسمتها هي الباعث للزمن الذي كان، والمحركة فيها الأحاسيس بالماضي، والآخذة بها في رحلة لاوعي إلى الماضي البعيد البعيد. فأخَذ الزمن يتداخل في وجدانها ما بين الحاضر والماضي وهي تقف أمام لوحاتها في بيتها الذي عادت إليه، وهي تُقارب السبعين من عمرها.

سحرُ المكان وتمدّدُه في الرواية
وأمّا المكان فقد امتد على مواقع عديدة في فلسطين، خاصة في مناطق الضفة الغربية ومنطقة القدس. وقد شكل المكان قيمة واضحة ومهمة في الكثير من المشاهد، خاصة تلك التي كانت في القرى المختلفة حيث نجد التركيز على الوصف التفصيلي للمكان والنباتات والناس الذين يعيشون فيه."خالي في القرى هناك بين الثوار في رؤوس الجبال بين الصخور والمغر والشوك وشجر الصبّار. وأنا وستي نذهب مشيا لأن الجبال بلا شوارع ولا سيارات ولا حتى حمير"(ص17) و "أم نايف تلك بيّاعة لبن وتين وفقّوس. في موسم الصيف تأتي بالعنب والتين والفقّوس ولبن وزبدة. وفي فصل الشتاء تأتي بالحلبة والفريكة وعدس وبرغل. وفي الربيع خبيزة وشومر وميرميّة وسلال عكّوب غير معكّب."(ص18) و "خرجنا مع الفجر وكانت المدينة ما زالت تصحو من النوم ببطء وخشوع. الشوارع خالية إلا منّا، والسوق العتيق بلا زبائن، وبعض التجار يعلقون بضائعهم أو يكنسون أمام المحال ويشطفون الأرض بماء أسود فنضطر للقفز وفَحج الخطوات."(ص20) و "دخلنا القرية مع آذان الظهر، ورأينا الرجال يتّجهون نحو مسجد صغير وسط البلد. وسط البلد هو شارع ضيّق فيه إسفلت، شبه إسفلت، مليء بالحفر والتراب والقشّ وبَعر الغنم، ويُحيط به خرفيش الربيع والخبّيزة، وعلى الجانبين دكاكين صغيرة وفقيرة أمام حواكير لدور من اللبن والتبن تختفي بين الخوخ والتين والمشمش، وخلفها حقول العدس والفول والبندورة." (ص24)
ولا يقتصر المكان على النقل الفوتوغرافي وإنما يكشف عن الذكريات البعيدة، ويكون مرآة أفراح وأحزان، ولا يكون ساكنا وثابتا بل هو متحرك ومتغيّر. فنضال عندما تمسك بلوحة " حرش الصنوبر" كانت قد رسمتها من سنوات بعيدة، يدور بها خيالها وتجعلها ذاكرتها تغوص وتتوغّل في ذاك الحرش، قبل أن توغل في الذكرى ، والحبّ البعيد، حبّها الأوّل. فقد التقت في ذاك الحرش وهي في بداية مراهقتها بحبّها الأول، بربيع الذي كان يكبرها قليلا.(ص32-33) كذلك تنقلها لوحة صانور ومرج الزنبق إلى البعيد وتُعيدها إلى رحلتها وستها إلى بلدة صانور واللقاء بربيع فتنتعش مشاعرها من جديد، وتعود لتعيش لحظات الحب المتدفق. "أنظر إلى عينيه الخضراوين، وأرى حقول القمح والبابونج، رائحة الزعتر والطيّون، عطر الميرميّة والريحان، غيوم الصنوبر واللزّاب وأعشاش الدوري والشنار تختبئ عميقا بين الغيوم" (ص97). كذلك أعادتها لوحة رسمتها للشهباء ومهرتها للماضي، وتؤكد أن صورة خالها فوق الشهباء ومهرتها تركض خلفه. صورة لبطولة ما اكتملت، لكن الوقت لن يمحوها، ولا ذاكرتها، ولا عشب نبت على الجدران"(ص111).
لقد استطاعت سحر خليفة أن تجعل من المكان في روايتها هذه مكوّنا من المكوّنات النصيّة الأخرى، حيث يؤسس مع الزمن والشخصيّات والوصف والحدث علاقات متبادلة. وأهميّته في تشكيل النصّ الروائي أنّه يُشكّل المساحة التي تجري فيها الأحداث، وتزداد أهميّته بعد أن تتشابك علاقاته مع الشخصيّات والمواقف والزمن.
كما ونجحت سحر خليفة في إضفاء وإسقاط الحالات النفسيّة للشخصيّة على المكان، بحيث أصبح المكان جزءا من طبيعة الشخصية وأحوالها ومشاعرها، كما رأينا في رحلات نضال إلى قرى زواتا وصانور، وفي علاقتها العاطفية وإسقاطاتها النفسية على كل مكان في بيت العائلة وما يُثيره من ذكريات وأحاسيس وانفعالات.
فعندما تعود بعد سنوات القطيعة الطويلة إلى دار العائلة في نابلس وتتنقل بين أجزاء الدار المهجورة، يعود الماضي بكل ما كان ليحيا من جديد وينتفض قويا، فتتحرك الأمكنة وتهتز تستعيد رونقها ويحضر أهل الدار وتدبّ الحياة من جديد.
وهذا البيت نفسه لا ينحصر دوره في كونه بيت آل قحطان العريق الذي تعود إليه نضال لترمم ما تهدّم منه وتُعيد إليه الحياة، وإنما كان ملجأ الثوّار ومركز قيادتهم ، والسجن الذي حبسوا فيه العملاء والخونة، والمحكمة التي حاكموا فيها وأصدروا قراراتهم . كما ومثّل صمود الوطن والأهل ضد كل محتل غريب.
ونكاد نجد قدسية المكان ورمزيته ومركزيته في صنع الحدث أو دافعا للحدث أو مكونا للإنسان ومُقررا مصيره في معظم أجزاء الرواية. ولا ننسى أن الصراع الحادّ والشديد والمستمر بكل شراسته بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود يدور حول المكان، ومَنْ مِنَ الطرفين صاحب الأحقيّة فيه وسيكون صاحبه؟

شخصيّات مستمرّة في دورها
لم أتوسّع في تناولي للشخصيات في الجزء الأوّل من الرواية "أصل وفصلوالسبب أنّ هذه الشخصيات لم ينته دورها وإنما استمر عملها في الجزء الثاني "حبي الأوّل".
"وكما أنّ المكان لا يأخذ أهميّته بغير الإنسان، والإنسان لا يتحقّق وجوده إلا من خلال المكان، والزمان ملازم للمكان، فإنّ هذا الثالوث معا هو التشكيل الأساسي لكل عمل روائي متكامل."[4] فالزمان والمكان، كذلك الشخصية تُشكل عنصرا مهما في البناء الروائي.
فستّي زكيّة الشخصية النسائية المركزية في "أصل وفصل" التي أمسكت بزمام الأمور واعتنت بعائلتها، وعملت وتعبت في سبيل تربية أفراد أسرتها، وظلّت ترعاهم وتوحّد بينهم خاصة في مواقف الخلاف والتنافر، وكانت صاحبة الرؤيا والاستشراف للآتي البعيد والتنبؤ بما ستؤول إليه أوضاع البلاد من ضياع وتشريد لأهلها، لم تغب في "حبي الأوّل" وإنّما استمرت في دورها ومركزيتها من خلال استعادة حفيدتها نضال لذكرياتها ورحلاتها مع جدّتها زكية لزيارة خالها وحيد في الأماكن التي يتواجد فيها مع الثوّار في قرى زواتا وصانور وغيرها، وفي إبراز دورها المهم والاحترام الذي تحظى به عند كل رجال الثورة كما برز في المواجهة الحادّة التي كادت تصل إلى حدّ القتال وإطلاق النار بين الثوّار، "بحضرة الحجة أنا ابن ناس ومؤدّب. أنا بحضرة الستّ الوالدة لطيف ومؤدّب."(126) هكذا يقول الزيبق أحد رجال الثورة المشهورين المخيفين بعد أن كان يبغي القتال وتأدّب بحضرتها. فقد نجحت ستي زكية أن تحافظ على مركزيتها وأهميتها في تشكّل وتطوّر الأحداث منذ اللحظة التي توفي فيها زوجها وحملت عبء تربية أبنائها حتى يومها الأخير.
ومثلها كانت ابنتها وداد التي عرفنا في "أصل وفص" في سيرتها الطويلة، فتاة خجولة، تُزوّج من ابن خالها وتلاقي الأمرين منه ومن إهماله لها وخيانتها مع الفتيات اليهوديات، ثم ما حدث لها من تغيّرات جذرية بعد هربها إلى القدس ومرافقتها لليزا في مختلف المواقف الوطنية، ثم عودتها للبيت وإصرارها على العمل ودراسة التمريض حتى ولو أدّى بها ذلك إلى إهمال ابنتها نضال وتركها في عهدة أمها لتتولى تربيتها. وتعود بنا نضال في "حبي الأوّل" لتكشف لنا الكثير من سيرة والدتها وداد. كيف أصرّت على متابعة دراستها في دورة التمريض وثم العمل في المستشفى ومداواة الجرحى. وكيف تطوّرت فكريا وثقافيا وأصبحت تملك رؤيا ثورية نضالية. ثم تكشف لنا، من خلال مذكرات خالها أمين، أن والدتها وداد عالجت القائد عبد القادر الحسيني واعتنت به مدّة نزوله المستشفى، وأنها وقعت في حبّه وعانت الكثير من هذا الحب الصامت.
كذلك تذكر ليزا الفتاة المسيحية التي كانت المؤثرة الأولى على وداد، ومن ثم كانت معشوقة خالها أمين ومدى الشخصيّة القويّة التي ملكتها وفرضتها على أمين وكل مَن عرفها.
وسردت لنا تفاصيل من حياة خالها أمين مستعيدة بعضها من ذاكرتها البعيدة وناقلة البقية من مذكرات أمين نفسه، وكيف أن خالها أمين ظل في عمله الصحافي ومتمسكا بمواقفه المبدئية الناقدة رغم ما أوصلته إلى مُواجهات وصدامات حادّة مع شقيقه وحيد. وأن أمين هام بحب ليزا وكان عبدها المطيع، يعشق كلّ ما يمتّ لها. وكيف أنّ أمين بعد فشل ثورة وحيد ورجاله في القرى، انضم إلى عبد القادر الحسيني وأصبح مرافقه الملازم في كل تحرّكاته حتى اللحظات الأخيرة وسقوط عبد القادر شهيدا في القسطل وأمين إلى جانبه. وبعد استشهاد الحسيني ذهب أمين إلى لبنان ليلحق بليزا وبأنطوان سعادة الذي وعد بتحرير القدس.(ص383).
وعرفنا من خلال ذكريات نضال وما سجله خالها أمين في مذكراته ما حدث لخالها وحيد بعد استشهاد عز الدين القسّام وفشل ثورته عام 1936. كيف أنّ وحيد استلم قيادة الثورة وتابع القتال ضد المحتل الإنكليزي وضدّ المستوطنين اليهود، ولكنه نقل ثورته من شمال فلسطين إلى قرى منطقة نابلس. وأنه أصبح القائد المُطاع والمحبوب حتى آلت به تطوّرات الأحداث السياسية وخيانات القيادات العربية ودعم الإنكليز لليهود أن يُعلن فشل الثورة وانتهاء القتال، وتحوّل ليكون مزارعا عاديا، وتزوج من حسنا المناضلة القوية، ومن ثم انضم للقائد عبد القادر الحسيني وقاتل معه حتى استشهاد الحسيني في القسطل، أمّا وحيد نفسه فقد قُتل في دير ياسين.
المشترك بين هذه الشخصيات كلّها أنها كانت مركزيّة، ولها دورها المهم في صنع الأحداث وتطوّرها، وكانت دائمة التطوّر في تكوّن وبلورة واستقلال شخصيتها ورؤيتها النضالية والسياسية والفكرية.
نضال راوية القصة في "حبي الأوّل" عرفناها في "أصل وفصل" في مراحل تكوّنها جنينا ينتظره مستقبل غير واضح المعالم. وها هي تعود إلينا فنّانة تحمل لوحاتها، تقترب من السبعين من عمرها، لتُرمّم بيت العائلة وتموت في الوطن بعد عناء الشتات والغربة. وهي تروي لنا ما خفي عنّا في السنوات الأولى بعد استشهاد القسّام وتفجّر الثورة في قرى منطقة نابلس بقيادة خالها وحيد. تروي لنا قصّة رحلاتها مع جدتها "ستي زكية" إلى مواقع الثوّار حيث خالها وحيد، وقصة حبّها لربيع الصغير مرافق خالها وساعده الأيمن، وما حدث في كل المنطقة من أحداث وتغيّرات. وما آلت إليه أحوالها بعد إدخالها للدير في القدس ومن ثم مغادرتها الوطن وعودتها إليه بعد الغياب الطويل، وتعرّفها على جارتها ياسمين، ومن ثم مقابلتها وحياتها مع ربيع الذي أحبته في سنوات مراهقتها، ربيع العائد من الماضي البعيد شيخا هرما يملك المال ولكنه يفتقد للجسد القوي والأمل الكبير والرؤيا البعيدة.

شخصيّات حملت الراية وتابعت الطريق
عبد القادر الحسيني قائد منطقة القدس وشهيد فلسطين الذي سقط في القسطل يوم 7 نيسان عام 1948. وقد لعب دورا مركزيا في مواجهة الإنكليز والقوات اليهودية، ومثّل النموذج الأسمى للرجل القائد المخلص المتفاني في سبيل شعبه ووطنه. وقد استحضرته سحر خليفة، كما استحضرت غيره من القادة المناضلين، لتؤكّد مصداقيّة ما سعت إليه وما حصلت عليه بالوثائق المثبتة ويجيب على السؤال الضائع منذ ستة عقود وأكثر: مَن أضاع فلسطين وكيف؟ وقد اعتمدت المراجع الكثيرة من وثائق ومذكرات وشهادات وصور، أثبت بعضها في الهوامش وضمن الرواية .
ربيع حبيب نضال شخصيّة جديدة عرفناها في "حبي الأوّل" فتى في بداية حياته، ترك والده وعاش مع جدذته ثم التحق بالثورة وكان الإبن المُتَبنّى لقائدها وحيد القحطان وريث الشهيد عز الدين القسّام. ربيع كان اليد اليمنى المخلصة للقائد وحيد وظلّ في رفقته حتى انهيار الثورة وتشتّت رجالها فتركه لينضم إلى عبد القادر الحسيني ويكون مع أمين القحطان أقرب المقربين حتى استشهاد عبد القادر في القسطل، فترك ربيع البلاد إلى لبنان، ومن ثم عرفنا مما رواه لنضال بعد التقائهما، أنه سافر إلى كندا وتزوّج من فتاة كندية ماتت بسرطان الثدي، وعاد إلى البلاد رجلا ثريا وقد تعدّى السبعين من عمره ليعيش فيها هادئا مطمئنا بعد أن أوكل لأبنائه إدارة أعماله.
وقد مثّل ربيع شريحة الشباب الثوري الذي آمن بالعمل الثوري ومقاومة المحتل ولكنه أصيب بخيبة الأمل من الزعماء والقادة والوجهاء وخياناتهم التي أدّت إلى فشل الثورات وضياع البلاد وتشتت الشعب.

دور المرأة البارز
شكّلت المرأة دورا بارزا ومهمّا في كل مهمّة قامت بها، وقد فاقت الرجل في الكثير من المهمّات والمواقف النضالية. فالنساء في "أصل وفصل" خرجن في المظاهرات، وواجهن الحاكم الإنكليزي وعملن على مساعدة الثوّار والعناية بالمصابين منهم، وساهمن في الثورة الاجتماعية والفكرية وتبلور المجتمع الفلسطيني الحضاري. وقد كانت وداد القحطان النموذج المثالي للمرأة الرافضة واقع الظلم الذي فرض عليها، والتي ثارت وتمردّت وخرجت لتعلن ثورتها وتعمل على خلق واقع جديد لها ولكل أبناء مجتمعها بالخروج على العادات والتقاليد ورفض هيمنة الرجل وحكمه، فتعلمت وعملت وشاركت في كل نضالات أبناء شعبها.
ومثل وداد كانت حسنا المرأة المناضلة ذات الشخصية القوية التي اختارت وحيد سيّد الرجال وقائد الثورة، ليكون زوجا لها بعد استشهاد زوجها المناضل. حسنا التي وقفت إلى جانب وحيد تتحدّى مختار القرية وتُعيب مواقفه المُتخاذلة أمام استشراس المستوطنين اليهود في الاستيلاء على الأرض. والتي لم تخف سطوة وقسوة وعنف الزيبق الذي فاجأ الجميع فيبيت المزرعة في صانور ودخل عليهم مهددا حيث فاجأته بوضع البندقية في ظهره وتهديده بالموت إذا تمادى في غيّه. "فجأة رأينا حسنا تسدّ باب المطبخ فحجبت النور بثوبها الأسود وضخامتها، وبندقيّة بيدها موجّهة إلى ظهر الزيبق. وبدون كلام، غرست الفوّهة في ظهره فجمد مكانه وحملق عينيه ثم ابتسم بسمة خبيثة وقال متسائلا : حسنا؟ أكيد حسنا؟ أكيد حسنا.عفارم عليك! (ص130-131).
وكانت ياسمين جارة نضال في نابلس الشخصيّة التي سحبت الزمن إلى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، ورغم أن هدف الكاتبة التمحور في السنوات التي سبقت يوم النكبة عام 1948 وفي الأحداث التي جرت ما بين أحداث 1939 و1948 وكشف المستور عمّا جرى من مؤامرات على الشعب الفلسطيني وتعرية القادة والزعماء والوجهاء الذين خانوا فلسطين وشعبها، وتركوا الشعب يواجه أبشع جريمة، وهي ضياع الوطن والتشريد، إلا أن ياسمين بحيويتها وحبّ استطلاعها وفرض صداقتها على نضال كانت التي نقلت أحداث السنوات التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني تحت الحكم الإسرائيلي، فذكرت الكثير من المواقف النضالية للشباب ضدّ جند الاحتلال، خاصة زمن الانتفاضة الأولى، وكشفت الكثير من ممارسات جند الاحتلال غير الإنسانية، كما أنها أعطتنا صورة عن التحوّلات الاجتماعية والفكرية وحتى السياسية في المجتمع الفلسطيني تحت الحكم الإسرائيلي. ورغم أنّ ياسمينكانت قد تزوّجت وطلّقها زوجها لأنها عاقر، وعادت لتعيش مع أمها لم تفقد الحيويّة والطرافة وحبّ الدعابة، وأضفت على المَشاهد التي شاركت فيها جو المَرح والضحك بتعليقاتها وحركاتها التي كانت تُثير الآخرين وتخرجهم من همومهم الذاتية والعامّة ليضحكوا ويفكروا بما يُفرحهم ويُطيل البسمة على شفاههم، " واستدارت بكلّيتها لصديقها الصغير الذي كان يُضحكها ويسلّيها ويسألها عن أخبار خزانتها وعن الراديو وهي تضحك، وأنا أضحك، وأمّها ترمقها بامتعاض خفيف لأنّها تشعر أنّ ابنتها ليست راكزة وثقيلة وتضحك بخفّة ورعونة كالمهفوفات، لكن يا سمين لم تأبه لنظرات الأمّ وهزّات الرأس وظلّت تضحك."(ص222)

مَن قتل عبد القادر الحسيني؟
مَن قتل البطل، أهمُ اليهود أم هي الشام وزعماء القدس؟
بهذه الحدّة ونغمة الاتّهام القوية تُوجّه سحر خليفة سؤالها الدائم القاسي: مَن قتل عبد القادر الحسيني؟ وهذا يعني مَن قتل الحلم والقضية والبلد والشعب وكل ما حارب من أجله عبد القادر الحسيني واستشهد في القسطل؟
وبهذا السؤال المتّهم تصل سحر خليفة إلى الجواب على السؤال الذي طرحته مع انطلاقتها لكشف المستور والمخبّأ وأسرار ومؤامرات وخيانات كانت السبب في وقوع النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني عام 1948.
فهؤلاء الزعماء والوجهاء والقادة الذين رفضوا مَدّ يدِ العَون لعز الدين القسّام ورجاله في ثورتهم ضد جند الإنكليز والمستوطنين اليهود في ثورة 1936، تخلوا عن وحيد القحطان ورجاله عام 1939، وعادوا وكرروا موقفهم مع عبد القادر الحسيني عام 1948، ولهذا لم يجد الثوار أمامهم من مخرج إلا الدخول في معارك غير متكافئة كانت نتائجها معروفة سلفا. "إنّ الثورة عادت لتكرر الأخطاء نفسها. خالي أمين كتب، وآخرون كتبوا وقالوا إنّ ما حدث في ثورة 1929 أعيد ثانية في ثورة 1936 وها هو يُعاد في نهاية1939.." (102)
وبمرارة ساخنة يقول أمين لأخيه وحيد حين طلب منه وحيد أن يتوسّط لدى وجهاء القدس للحصول على سلاح الذي سافر إلى الشام ليجتمع بالقادة العرب ويطلب مساعدتهم: "ما زلنا نغني الموال نفسه ضع يديك بماء بارد. هؤلاء الوجهاء والزعماء لا يعبأون بك ولا برجالك ولا بالثورة. أنت تظن أن رجالك يتصرفون بهذا الشكل لأنهم فقراء وأشقياء وبلا تعليم؟ لو أنك هناك وسمعت الزعماء والوجهاء لكفرت بكل شيء حتى بنفسك(ص114)
وكانت فجيعة عبد القادر عندما اكتشف أنّ القائد العام للمعركة المكلف من قبل زعماء العرب لا يعرف قراءة الخارطة ولا يعرف تحديد موقع مدينة القدس أو حيفا أو يافا أو عكا أو نابلس ويسأل بغباء: "يافا على البحر؟ وهي ميناء؟ وتل أبيب؟ وميناء حيفا؟ ولكن القدس ليست على البحر وليست ميناء، فلماذا لا تحاصرون تل أبيب بدل القدس؟"(ص294). وبينما كان عبد القادر يشرح للقادة والزعماء كانوا يرشفون القهوة والشاي والزهورات ببطء وجمود لأنهم- كما عرفنا وكما هو واضح- ملتزمون بعهد قطعوه لبريطانيا بألا يُعطونا سلاحا ولا ذخائر، ولا يُدرّبونا على حَمْل السلاح، وألا يعترفوا بالجهاد المقدّس وقائدنا."(ص297).
ويُسجّل أمين في مذكراته مَحضر الجلسة، "وقال لهم عبد القادر وقد يئس من تجاوبهم وتلبيتهم طلبه: "هذه فلسطين العربية بين أيديكم، والشعب العربي يُناديكم لأنكم الزعماء والقادة، ومَصير الأمّة بمختلف أقطارها أمانة في أعناقكم."(ص300) وكيف صُدم عبد القادر من كلام القائد العام: "أنا يا عبد القادر قلت لك إنّي غير متحمّس لحصار المستعمرات وأفضّل حصار تل أبيب حتى نقضي على رأس الأفعى ونُحقّق نصرا تاريخيّا ونمحقهم."(ص300) وعاد عبد القادر ليطالبهم بالسلاح وقال: أستحلفكم بالله، أناشدكم. القدس أمانة في اعناقكم أنقذوها."(ص302) وطار صواب عبد القادر وأمين وربيع وهم لا يصدقون ما يقوله القائد العام وقد نفذ صبره ولم يعد يريد سماع عبد القادر: "ولماذا كلّ هذا الاهتمام بالقدس؟ أنا لا أفهم! لو كانت على البحر لاستحقّت، لكنها ليست على البحر. لو كانت على البحر لساعدناك وأعطيناك، لكنها ليست على البحر ولا هي مرفأ."(ص302). ولم يعد عبد القادر يحتمل وقد بلغته أخبار سقوط القسطل، وهو يرى صفاقة القائد العام بحمق ورعونة وهو يقوم بحركات بهلوانية برفع يد وإنزال يد، ويقبض على الهواء بقبضته ويقول ضاحكا: هذه دبابات، خذها، تفضّل. وهذه مدافع ، خذها حبيبي، خذها، تفضّل. تريد سلاحا؟ ما فيه سلاح. تريد مالا؟ ما عندنا مال. نحن نعرف شغلنا ونعرف الحقائق ولدينا ما يكفي من المعلومات."(ص316)(5)[5] فردّ عليه بغضب: "ما هذا الهراء؟ ما هذا العبث بمصير الناس والأوطان؟ ألا تخجلون؟" (ص317) وجنّ جنون عبد القادر من تعليقات وجواب القادة والزعماء العرب: "خلاص ماكو، ماكو مدفعيّة، ماكو سلاح وماكو مال وماكو قنابل."(ص318) وقال موجها اتّهاماته وسهامه لهم: "سيسجّل التاريخ أنّكم السبب في ضياع القدس وبقيّة فلسطين، أنتم المسؤولون عمّا سيحلّ بنا وبكم. أنتم متآمرون مع بريطانيا. أنا سأموت ولن أستسلم. سأحتل القسطل بلحمي ودمي ولحم رجالي ولن أستسلم، وسيسجّل التاريخ ما فعلتم. أنتم متآمرون. أنتم خونة."(ص318).
ويذكر أمين القحطان في مذكراته أنّ عبد القادر "خرج من الباب وصفقه بعنف فاهتزّ البناء، ومشى أمامنا كأنّه يركض، ولحقناه نحن حتى خرجنا ووقفنا على الرصيف تحت السماء ونحن نلهث. وبعد دقائق من الصمت والوجوم والتّنفّس، سمعناه يقول: اسمعوا يا رفاق. هذه بداية النهاية، ليس أمامنا إلا التالي: إمّا أن ننتحر هنا في الشام، أو نذهب إلى بغداد ونختفي فيها،أو نعود إلى فلسطين ونموت هناك، ماذا ترون؟ وقبل أن يسمع إجابتنا، سمعناه يقول: نذهب إلى فلسطين ونموت هناك."(ص318). وهذا ما حدث،
فقد عاد عبد القادر الحسيني وأمين وربيع إلى القدس وبدأ يُعدُّ رجاله القلائل لمعركة استعادة القسطل، ورغم تحذيرات أمين وغير أمين لعبد القادر بالنتائج الوخيمة للمعركة لعدم التكافؤ ما بين العرب واليهود، إلا أنه أصرّ على خوض المعركة التي كانت نتائجها استشهاد عبد القادر والعديد من الرجال وسقوط القسطل وبعدها دير ياسين ومعظم أراضي فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني.
ولم يعد سؤال سحر خليفة: مَن قتل عبد القادر؟ بالسؤال الصعب، فجوابه واضح ولا لبس فيه، فالذي قتل عبد القادر الحسيني هم الذين ضيّعوا فلسطين وشرّدوا شعبها. والمُضحك المُبكي أنّهم يبنون أمجادَهم ويُثبّتون مقاعدَ حكمهم بشعاراتهم الصاخبة التي يُعلنونها وقسمهم بتحرير فلسطين.

بداية الرواية ونهايتها
لقد حقّقت سحر خليفة في روايتها هذه، بجزأيها "أصل وفصل و حبّي الأوّل"، ما أرادت تحقيقه بكشف كل أسرار الجريمة التي كان ضحيتها شعبها الفلسطيني بضياع الوطن وتشريد الشعب. لكن سحر التي بدأت "أصل وفصل" بتصوير مأساة أسرة وحيد وأمين القحطان واستشراف النكبة التي ستحل بكل الوطن وأبنائه، أرادت أن تنهي الجزء الثاني "حبّي الأوّل" بومضة أمل وإشراقة مستقبل مرجو وفرحة قد تكون من نصيب الشعب الذي صبر ولا يزال، فقد أنهت الرواية بمشهد دخول ربيع ومعه "سَيل عرمرَم من الزوّار، كبار وصغار، نساء ورجال، وأطفال رضّع وحوامل. قدّمهم لي، الأكبر فالأصغر فالرُّضّع: هذان التوأمان، توأما حسنا.هذان وحيد وعبد القادر، وهؤلاء، كل هؤلاء، أبناء وحيد وعيلة قحطان. هؤلاء أولاد وحيد وأحفاده، وأولاد عبد القادر وأحفاده، وعديّ ونضال."(ص391)
وبكت نضال من الفرحة والتأثّر ولم تعدّ. كانوا اكثر من أيّ عدد."(ص391).
وبهذه النهاية تقول لنا سحر: ليَقْتُلوا ويُشَرّدوا ويَعتقلوا، فشعبُنا باق، وحلمُه لا يخبو.وليذهبْ كلّ الخَوَنة والعُملاء والسماسرة الذين ضيّعوا الوطن، وسبّبوا في تشريد الشعب إلى الجحيم.
[1]من كلمتها في مؤتمر الإبداع الروائي الذي عقد في القاهرة يوم 16شباط 2008

[2]دار الآداب 2010

[3]أصل وفصل ص361/363
[4]نبيه القاسم، الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف (دار الهدى للطباعة والنشر كريم 2001م.ض كفر قرع ). ص31

[5]كلمات الحوار في معظمها حرفيّة، أوردها أمين سرّ الجهاد المقدّس قاسم الريماوي في: مخطوط عبد القادر الحسيني 1950، كما تشير الكاتبة في الهوامش..

ايوب صابر 05-01-2012 10:47 PM

صدور كتاب جديد للدكتور نبيه القاسم "سحر خليفة وصرختها العالية:لا"
http://www.mjdna.com/images/dot2.jpg

"سحر خليفة وصرختها العالية:لا"... هو الكتاب الجديد للدكتور نبيه القاسم. وقد صدر الكتاب هذا الأسبوع عن دار الهدى للنشر لصاحبها عز الدين عثامنة. والكتاب يُشكل حلقة جديدة في أعمال الدكتور نبيه القاسم النقدية.
وقد أكّد الكاتب أهمية سحر خليفة الأدبية بقوله:
تميّزت سحر خليفة في إبداعاتها بالتزامها معالجة هموم الشعب وتصوير حياته اليوميّة وما فيها من تعقيدات وتشابكات خاصّة بكل ما يتعلّق بوضع المرأة وعلاقتها بالرجل، وبالمقابل في مرافقة نضال الناس في مواجهتهم لاحتلال الأرض وظلم الإنسان حتى باتت تُؤَطّر بين ثنائيتين هما: المرأة في مواجهة الرجل. والإنسان الفلسطيني في مواجهة جندي الاحتلال.

سحر خليفة واحدة من الذين شاهدوا وتوقّعوا وحذّروا ونبّهوا وصرخوا، وتكاد تكون الوحيدة التي لم تُهادن ولم تتراجع ولم تقبل بكلّ التفسيرات والتعليلات والتطمينات والإغراءات، وظلّت على موقفها المنتَقد الرافض.
سحر خليفة، صاحبة الرؤية الثاقبة الصحيحة، والرؤيا البعيدة، والرّافضة لكل مخادعات الواقع ومُغريات الحياة، اختارت اللغة القريبة للغة الصحافة اليومية لتخاطبَ الناس وتحكي لهم قصّتهم التي يعيشونها ليعرفوا حقيقة واقعهم ويرفضوا رفع راية التسليم. ورغم سهام الاتّهام التي وُجّهت لها ظلّت على مواقفها الصامدة الرّافضة المتّهمة مُعلنة صرختها العالية: لا.

ايوب صابر 05-02-2012 03:41 PM

في حزيران الفلسطيني يشتعلُ الوجع والحصاد
التفاحةُ انشطرت رجل وامرأة
2008-06-09
امل جمعة –رام اللة/ فلسطين
التفاحةُ انشطرت رجل وامرأة

وقفت على المنصة تشكر الحضور المثقف رجالا ونساء، وتروي بصوتها -المجرب والخبيربجذب الاخرين - كيف هاجمها النقاد مع صدور روايتها الاولى "لم نعد جواري لكم" - كتبته سرا عن زوجها آن ذاك –اتهموها بالعجز والقصور عن فهم (ماهية الرجل والمرأة ) ، وقالوا:"امرأة محبطة تكره الرجال وتكره انوثتها. اختبأت سنوات قبل ان تصدرروايتها الثانية (الصّبار) وفي مطلع الثمانينات خرجت "كعبادالشمس" من عمق الارضلتحلق بالضوء ، وتنبأت بها بالانتفاضة الاولى لتأتي فيما بعد روايتها "بابالساحة" مشهدا روائيا يؤرخ للمرأة والانتفاضة .
فجأة، وسط انتباه الحضور الشديد اخرجت الروائية سحر خليفة من كيس بلاستيكي ابيضتفاحة حمراء يانعة امام الجمهور المندهش صارخة بمرح وبالم مستتر:" لولا التفاحة لماكنا نحن ولا انتم ولولا فضول حواء لما وقفت على هذه المنصة"، القت بها لنائب رئيسجامعة بيت لحم ( د.روبرت سميث) قائلة: " لا تأكلها احتفظ بها وتذكر ان التفاحةالمشطورة بين الرجل والمرأة لابد ان تكتمل بهذا الشكل .
الروائية الفلسطينية سحر خليفة ابنة مدينة نابلس_ شمال الضفةالغربية_ ، تأتيوطنها فلسطين وبالتحديد الى مدينة بيت لحم -جنوب الضفة- لتكرم في" مؤتمر الادبالقلسطيني الثالث" والذى تحتضنه جامعة بيت لحم للسنة الثالثة على التوالي بعنوانلافت ومثير (الأدب النسوي في فلسطين) ويرعى من جهتين، نسوية وثقافية مركزالمرأةالفلسطينية للابحاث والتوثيق والتي تديرها زهيرة كمال وزيرة المرأة الاولىوالسابقة ومؤسسة عبدالمحسن القطان الثقافية المتمركزتين في مدينة رام اللة .
بين الجمهور جلست سيدة بشعر اسود وصوت جميل، غنى للوطن والحرية يوما ما / قبل انتختار سامية بدران الصمت . تقول :" منذ سنوات الحاني واغنياتي لا تجد من يطبعهااو يروج لها . دمعت سامية -مدرسة الموسيقى في مدرسة الفرندس-وفيلم قصير يستعرض حياةسحر خليفة ويحكي عن كبت وظلم مارسته الام اولا ثم مدرسة الراهبات الداخلية ومرورابزواج اجبرت عليه اثمر زهرتين جمليتين قبل ان تشهر قلمها وتعلن نهاية عصر الجواريعام 1974، لتنطلق وتنضم لجامعة بيزيت ولها من العمر 32 عاما ، وام لمراهقتين لتحصلعلى درجة الدكتوراة من جامعة ايوا الامريكية "دراسات المرأة والادب الامريكي"،
لفتتانتباهي هذة السيدة المتحمسة لأدب سحر خليفة وشدتني دمعة فلتت منها قالت في اروقةالاستراحة : اتدرون هذه السيدة الظالمة ( وتقصد والدة سحر خليفة ) كانت السبب فيحياتي، فقبل ان تنقذني من الغرق في بئر مجاور لبيتنا ولي من العمر سنتين انجبتامي ،احترت في مشاعري-تقول منفعلة - اسمع واشاهد خالتي تتحدث عن اول سجانيها " جدتي " التي احبها وخالتي التي ربتني كابنتها الروحية .
تلك المشاعر المتناقضة تعيشها النساء تجاه بعضهن واردة كثيرا في حياتنا العربية .سحر خليفة تعد اليوم من اشهر الكاتبات النسويات في المنطقة العربية ولا زالت اقلامالنقاد والناقدات تطال الروايات الست التي اصدرتها ومنها "باب الساحة "والذي صدرنهاية الثمانينات كانت حجر الزاويه الاهم ورغم الترجمات التي وصلت الى ثلاث عشر لغةلكتبها توصف بانها" كاتبة نسوية "هذا الوصف تصر عليه وان بدا وصفا نقديا ملغومافالمتلقي العادي مثلا لا يحسم ان كان الوصف على سبيل المدح او الذم .
انا كاتبة نسوية اقر بذلك ملتزمة بقضايا المرأة تجهر بها سحر خليفة بالمؤتمر بما يشبه الاعلان ، في مؤتمر اتخذ عنوانا له الادب النسوي وخصصت اوارق عمله الكثيرة للذاهب الى الرواسات الممهورة بتوقيع النساء وتشرح :"ابنتي مثلا تتصرف بحرية وتدافع عن نسويتها بقوة لكنها ترفض لقب نسوية ، والشاعرةالعظيمة فدوى طوقان صرحت في اكثر من مرة ،"انا لست بشاعرة نسوية" ومع ذاك كتابها "رحلة جبلية رحلة صعبة" هو اقوى مثال على ما اقصد بالكتابه النسوية كان هذا في محضر اجابتها عن الفرق بين الادب النسوي والادب الذي تكتبه النساء وهو محور المؤتمر المنعقد يومي 6/7 حزيران الجاري .يقودنا هذا لتعريف مصطلح الأدب النسوي والذي جاء في اجندة المؤتمر" الكتابة من وجهة نظر نسوية ملتزمة بقضايا المرأة بغض النظر كانت ابداع رجل او امرأة لكن بالغالب ولاسباب مفهومة ومبررة النساء يكتبن بها اكثر. وهذا يختلف عما يسمى بكتابة النساء برأي الناقدة سماهر الضامن
==
سحر عدنان خليفة
حياتها في سطور:
- ولدت عام 1941.
- تعلمت في ابتدائية الخنساء في نابلس من 1949 – 1953,
- متوسطة صهيون – القدس عام 1954- 1955.
- كلية راهبات الوردية عمان الأردن عام 1955- 1959.

تقول سحر خليفة عن حياتها في كتاب عثرت عليه في مكتبة بلدية نابلس ص. 564 + 565+566:
- ولدت في نابلس عام 1941 من عائلة محافظة.
- كنت إحدى ثماني بنات إلى جانب ولد واحد، ماتت اثنتان منهما وهما ما زالتا طفلتين، وكنت اسمع نسوة العائلة يتبادلن تعليقات تشي بالارتياح لان العبء نقص اثنتين. بمعنى أننا كبنات عوملنا كما لو، كنا عبئا، بعكس أخي الذي عومل منذ البداية كما لو كان سر استمرار العائلة وسرج سعادتها. وهكذا وعيت مشكلة التمييز الجنسي منذ الطفولة.
- طفولتي كانت مليئة باللعب والحركات الصاخبة . الضجيج كان متنفسي، لكني حين كنت أعود إلى البيت واخلد إلى السكون كنت أحس بوحشة خانقة.
- كان أبي منشغل بعمله، أمي بهموم الحمل والميلاد والذرية، أخواتي كل في عملها الصغير، فاستعضت عن برودة الجو بعالم مليء بالخيالات والهوايات المتعددة المتنوعة. قصص مليئة بالإحداث المختلقة أقصها على أقران الطفولة على أنها حقائق فيصدقونها كما أصدقها أنا.
- تنقلت بين المدارس المتعددة. فترة الابتدائية قضيت معظمها في مدرسة الخنساء الابتدائية في نابلس، وفترة الثانوية قضيت معظمها في كلية راهبات الوردية في عمان.
- مراهقتي كانت صعبة لأبعد حد. وعانت أمي كما عانيت أنا من أحاسيسي المتطرفة. وفي تلك الفترة قرأت كثيرا ورسمت كثيرا ورقصت وغنيت وملأت الدنيا ضجيجا وأزعجت الآخرين فابكوني وأحببت وكرهت فعاقبوني فتماديت حتى كادت أمي تفقد عقلها خوفا مني وخوفا عليّ، فوضعتني في مدارس داخليه لراهبات تعمدت أن يكن صارمات، فأخفتهن كما أخفنني ثم أحببتهن كما أحببني.
- تأثرت باللمسة الشعرية التي تحيط بحياتهم: دهاليز معتمة وأخرى مضيئة وترانيم تنطلق من وراء زجاج الكنائس الملون مع عنبر البخور وأعياد تكثر فيها الشموع والزينات والورود وشجرة الميلاد والمغارة والتماثيل الصغيرة بين نباتات تزرعها في أوعية صغيرة بانتظار العيد.
- كان لكلمات الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط أثرها العظيم في نفسي حين سمعته في أول محاضرة ألقاها في المنتدى الثقافي في نابلس حين تحدث عن الفن، ومنذ ذلك الحين أصبح إسماعيل شموط قدوة ومثالا ومعلما. وكان كبيرا فأحاطني بالرعاية وكنت صغيرة ومضعضعة الثقة فرفع معنوياتي وباتت كلماته وتجاربه الفنية والحياتية نورا اهتدي به والتجئ إليه كلما اشتدت وطأة الحياة عليّ.
- زواجي كان كابوسا أفقت يوما وكنت في الثامنة عشرة فوجدتني مقيدة الى رجل هو ابعد الناس عني. وبالإضافة إلى بعده النفسي والعاطفي والفكري فقد كان مقامرا مدمنا مما جعل حياتي الزوجية حطاما لا أمل فيه. ورغم ذلك جاهدت السنة تلو السنة حتى يستمر الزواج ويظل البيت قائما من اجل البنتين وأجلي فلم أوفق، وانتهى الزواج بعد 13 سنة وكنت في الحادية والثلاثين.
- روايتي الثانية لم نعد جواري لكم كان لها اثرا كبيرا على حياتي إذ كانت الحد الفاصل ما بين الزواج والأدب. وكان زواجي قد وصل الى مرحلة من اليأس كادت تؤدي بي الى الانتحار فكان قبول الرواية للنشر في دار المعارف مؤشرا على وجود أمل في النجاة.
- في شهر أيار عام 1972 غادرت زوجي وليبيا إلى غير رجعة. ووجدتني أعود إلى البداية ولكن بمسؤوليات وهموم وطموح أكبر من إمكانياتي بكثير. وكنت لا املك إلا إلف دينار هي حصيلة عملي في ليبيا، وشهادة ثانوية، وأحلام كبيرة- وطفلتين.
- وكانت العائلة التي طالما فمعتني وحمتني قد أضحت شتاتا ، أبي تزوج امرأة أخرى. أمي هدتها هموم الدنيا، أخي مصاب بالشلل أثر إصابته بحادث سيارة. أخواتي بعضهن متزوجات وبعضهن يخططن للزواج ، وأنا وحدي ضد العالم وفي رقبتي مسؤولية طفلتين وحلم كبير.
- منذ البداية كنت اعرف ما أريد ، أن أصبح أديبة وذات دخل ثابت..كان ذلك ما أريده باختصار فسعيت نحوه مباشرة ودون تردد.

ايوب صابر 05-02-2012 03:53 PM

اهم الاحداث المؤثر في طفولة سحر خليفة:

في ردها على سؤال من الصحفية نوارة لحرش من جريدة النصر الجزائرية في 21 أفريل 2009جاء فيه :
- برأيك ما هي أهم أسئلة الرواية الفلسطينية، هل بقيت نفسها أسئلة الهوية والوجود أم إنضافت لها أسئلة أخرى؟
تقول سحر خـليفة : الأدب بالنسبة لمعظم الأدباء الفلسطينيين أداة صراع من أجل الحرية والتغيير. هذا بشكل عام، أما بالنسبة لي، فأنا أعمد أن أطلق في رواياتي الأسئلة الحارة ذات الأبعاد الوجودية، والسياسية، والاجتماعية، وكل ما يمكن أن يمس وجودنا: ما يعطله أو يحركه أو يقلقه.

بالنسبة لي، كان الأدب كل هذا: أسئلة وبحث وفهم وتصوير وجمال، رسم بالمشهد والكلمة، فكما سبق وقلت، بدأت حياتي الفنية كهاوية، ثم تطورت. أصبحت أديبة ملتزمة. تعلمت أن أكون ملتزمة.

ربما بحكم ظروفي الشخصية، وربما لأني عشت مرحلة انتكاسات واحتلال وانتفاضات وثورة ونضال وعنف ودمار.
- و ربما لأن الفن الفلسطيني بجملته كان تعبيرا عن ألم جماعي متواصل وأحلام فردية لا تتحقق.
ربما بسبب كل هذا وذاك اخترت لنفسي هذا النوع من الفن: الأدب، الرواية، الرواية السياسية ذات الأبعاد الوجودية حيث الأفراد يتصارعون مع الذات ومع الخارج. والخارج مجتمع ما زال في طور التكوين ومستعمر، ومفاهيم ما زالت محكومة بالتقليد ورفض التجديد وتقييد الفرد. والذات التي تجد نفسها محاصرة بدوائر متتابعة لا حصر لها. فهناك الإخفاق الذاتي، فالاجتماعي فالسياسي المحلي فالعالمي.
وكلما زاد الوعي وانكشف المحيط زاد الإنسان تساؤلا وتعمقت أزمات الفرد. لكن الفرد هو البذرة، بذرة المجتمع ولبنته المرصوصة في ذاك البناء. ومن العبث التساؤل حول من الأكثر تأثيرا في الآخر: الفرد في المجتمع، أم المجتمع في الفرد. فهذا من ذاك، وذاك من هذا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعزل الواحد عن الآخر. وعليه، فحين نصور الفرد من خلال عمل فني - وبالذات في الرواية، لا بد وأن نأخذ بالاعتبار تأثير الخارج على الداخل، أي تأثير المجتمع على مسرى الفرد. ولا بد أيضا من رصد تحركات الفرد ومعاناته وتفاعلاته والأساليب التي يبتدعها أو يرتضيها للتعبير عن ذاته ومكنوناته.
- وهذا ما أحاول فعله في رواياتي: تصوير أفراد مأزومين يعيشون واقعا لا يرضيهم. يثورون عليه، أو يسحقون تحت ثقله، أو يقدمون التضحيات لتغييره سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، المستوى الفردي أو الجماعي.
- فقضيتنا كمجتمع مهزوم مأزوم متخلف، لا يمكن حصرها بالاحتلال والاستعمار. ومسألة التغيير أعقد وأصعب من مسألة الاستقلال الوطني والتحرير. ولذلك، نجد دعاة التغيير والتطوير ملاحقين، وأحيانا منبوذين ومستهدفين في مجتمعهم مثلما هم ملاحقون من قبل حكوماتهم والمستعمر. وهذا ما أحاول رصده في رواياتي. أو بالأحرى، هذه هي الأسئلة التي أطرحها والأجواء التي أرصدها والإجابات التي أبحث عنها من خلال شخوصي، ومن خلال الجو، ومن خلال واقع أحياه وأعرفه وأتصارع معه وأتمنى لو أغيره، أو أساهم في تغييره. أي أن أقذف في مياهه الآسنة بحصاة تساهم في تعكير ركوده.

واضح ان سحر خليفة عاشت طفولة ونشأة صعبة جدا اختبرت فيها الموت وهي في سن صغيرة حينما توفيت اثنتان من اخواتها الثمانية، لكن ازمتها امتدت مع ام صعبة ومدرسة داخلية متزمته هي راهبات الوردية وهي تقع في مكان بعيد عن مكان الولادة ( عمان )، وزواج تقليدي مبكر في سن الـ 18 وكانت حياتها خلاله اكثر صعوبة ولم يقف الحد عند ذلك فلما عادت بعد عذاب الزواج لمدة 11 سنه وجدت العائلة قد تشتت فالوالد تزوج من امرأة اخرى والاخ الوحيد اصيب بالشلل نتيجة لحادث سيارة.

اذا عاشت سحر خليفة ظروف شخصية صعبة وظروف عامة اصعب تمثلت في مرحلة انتكاسات واحتلال وانتفاضات وثورة ونضال وعنف ودمار، فجاءت الكتابة عندها تعبير عن ألم فردي والم جماعي متواصل.

مأزومة.

ايوب صابر 05-05-2012 01:50 PM

ابرز حدث في حياة كل واحد من الروائيين اصحاب افضل الروايات العربية من رقم 61- 70:

61- فساد الامكنة صبري موسي مصر.............
62- السقامات يوسف السباعي مصر........................يتيم
63- تغريبه بني حتحوت مجيد طوبيا مصر.............مجهول الطفولة
64- بعد الغروب محمد عبد الحليم عبد الله مصر.........مأزوم.
65- قلوب علي الاسلاك عبد السلام العجيلي سوريا........مأزوم
66- عائشة البشير بن سلامة تونس.............مجهول الطفولة.
67- الظل والصدي يوسف حبشي الأشقر لبنان.............مجهول الطفولة.
68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس..............مجهول الطفولة
69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس.....................مازوم
70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين......................مأزومة.

ايوب صابر 05-06-2012 03:21 PM

71- سابع أيام الخلق عبد الخالق الركابي العراق

نبذة الناشر:
يبدو أن "سابع أيام الخلق" نص يجمع نصوصاً متفرقة، لا على مستوى مخطوط الرواق وحسب، بل على مستوى الاستدخالات من نصوص مختلة في الجنس والاتجاه... الروائي هدف إلى إنتاج "نص ممتع يجمع بين المتعة الحكائية والمخبلات الصوفيى العرفانية.
استطاع عبد الخالق الركابي في روايته المثيرة للجدل "سابع أيام الخلق" أن يبني نصاً ذكياً وحاذقاً حين أقام مجموعة من التوازيات بين الماضي والحاضر وبين "مدينة الأسلاف والمدينة الحاضرة" وبين "عالم الباطن وعالم الظاهر" وبين "العالم الصلب والباطن الصوفي الحدسي" وبين "المؤرخ والروائي". وكلها تشكل قضية السيد نور الذي اختفى بطريقة غريبة حين دخل كوخه ولم يخرج منه بعد ذلك ومعه النص الأصلي لـ"السيرة المطلقية" التي هي الأساس الذي تقوم عليه الأحداث.
نبذة النيل والفرات:
يفصح المؤلف في روايته عن رؤيته لواقع وأحداث كان جزءاً منها، شغلته بهمومها كما شغلت كثيرين من أبناء جيله، إلا أنه نظر إليها نظرة لا تخلو من الشمولية. لقد كشف ترسب من أوهام وأفكار في نفوس أبطاله تاركاً لهم حرية الإفصاح عن مكنونات نفوسهم دون أن يفقد سيطرته على أحداث الرواية. أما إبطاله فهم أموات وأحياء، أموات قد غادروا عالمنا أو مازالوا فيه لكنهم يقفون على مسافة من الواقع وينغمسون في أحلامهم وتهويماتهم الصوفية، وهم أحياء بعث فيهم الحياة ورسم لهم طريق العبور إلى الخلود، وهم بيننا يكاد لا تخلو إحدى مدننا منهم لقد التقط المؤلف تفاصيل روايته من الواقع الحي، المعاش وغلفها بتلك الرؤية الخاصة التي لا يمتلكها إلى المتميزون والمبدعون، وبعد فإن القارئ ليحار أيقرأ رؤية أم كتاب تاريخ يؤرخ لما سيأتي، أم أنه يقرأ سفراً من أسفار الخلق.

ايوب صابر 05-06-2012 03:23 PM

اثر الزمن في خلق البنية الدلالية في رواية سابع ايام الخلق

(سابع أيام الخلق) للروائي (عبد الخالق الركابي)

1. المقدمة
يمتاز المنجز الابداعي للروائي عبد الخالق الركابي بميزتين أساسيتين، هما: التنوع والغزارة. فهو منذ صدور مجموعته الشعرية الاولى (موت بين البحر والصحراء)، تواصل في نتاجه الأدبي ورفد المكتبة العربية بالعديد من الاعمال الأدبية، بل زاد في ذلك من خلال انتقاله في مختبره الابداعي بين الأنماط الأدبية من قصة قصيرة ورواية ومسرحية. إضافة الى نصوص قصصية منفردة ولقاءات صحفية عبر فيها عن رؤياه الجمالية في منجزه و في غيره.
غير ان ما يلفت النظر في ذلك المنجز على تنوعه. ان الركابي لم يكن به ميلاً الى تكرار الانتاج في نمط واحد يقدم فيه عملاً سوى الرواية. فقد اصدر مجموعة شعرية واحدة، آنفة الذكر، وهي البكر في إنتاجه الأدبي، ومجموعة قصصية واحدة هي (حائط البنادق) . ومسرحية (البيزار) التي كرر في نمطها مسرحية (نهارات الليالي الالف). في حين اصدر روايات عدة هي على التوالي: (نافذة بسعة الحلم)، (من يفتح باب الطلسم)، (مكابدات عبد الله العاشق)، (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق), التي تعد من بين اعماله الروائيه الاكثر تميزا، و (اطراس الكلام) واخيرا (سفر السرمدية) التي نشرت على حلقات في إحدى الصحف. مما يؤكد ميله الى استخدام الرواية اداة تعبير يحقق من خلالها قدرة القول ويفصح عن رؤياه الجمالية عبر تقنيات كتابتها.
وقد استثمر في ذلك التنوع بين الانماط، تنوع آخر في أساليب كتابتها، بين المستل من عمق التراث، وبين المستحدث على وفق أخر التطورات التقنية في فن الكتابات السردية.
اعتمد الركابي في تلك الاعمال جميعها التعبير عن البيئة العراقية على المستويين المحلي والوطني. كانت من بينها الاعمال الروائية الثلاث (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق). التي اعتمدت ومثل ما اعتمدت سابقاتها وفي إطارها الجغرافي على البيئة المحلية نفسها. وتحديداً منطقة طفولته وصباه، غير انها إتصلت مع بعضها عبر وشائج تحاول بها ان تحيل القارئ الى أماكن أكثر اتساعاً والى زمن اكبر مما استغرقه فعلا . فأصبحت بذلك أعماله ترتبط بتاريخ واسع لجغرافية محددة قابلة للانفتاح.
إن المنجز الابداعي آنف الذكر للركابي على المستويين الكمي والنوعي. خلق له حضورا في الواقع الثقافي العراقي تحديداً. وان لم يكن ذلك الحضور واضح على المستوى العربي. لاسباب لا يمكن عدها ثقافية. فهو صوت مهم من بين الأصوات العربية التي قدمت تجربتها الجمالية عبر الكتابة الروائية. وقد كانت روايته (سابع أيام للخلق) إضافة نوعية مهمة للرواية العربية والعراقية معا. لما تمتاز به من خصائص فنية على مستوى البناء والسرد فيها، والذي قال عنها في حوار معه في مجلة الموقف الثقافي (العدد السادس لسنة 1998 ص 108): ((سبق لي ان كتبت روايات محدودة الطموح، لكن الأمر يختلف مع روايتي الأخيرة - سبع أيام للخلق - فهي تمثل النقطة الأساسية في نتاجي الروائي)). وكذلك استثمارها جملة من المعارف لا تمت بصلة مباشرة الى هذا النمط الابداعي من بينها الأسانيد التراثية والمعارف الصوفية، وتحديداً نظرية وحدة الوجود، مما جعلها لا تُعد – من وجهة نظرنا – جزءاً من ثلاثية او امتداداً لها، أصبحت نتيجة لتلك الخصائص نصاً مكتفياً بذاته من دون إحالات الى ما سبقها من عملين روائيين (الراووق) و (قبل ان يحلق الباشق) وان تشابه الموضوع بينهما.
فالرواية على الرغم مما تشيعه من فوضى ظاهرية أشار إليها المؤلف في المتن الروائي، غير انها خضعت لبناء فني دقيق يكاد يضيع في تلك الفوضى الظاهرية على القارئ غير المتمرس، وجعل من إمكانية الوصول الى معرفة تلك الدقة يتطلب القراءة المتأنية لغرض الوصول الى معرفة ما تقوله وحاولت البوح به . وهو ما حاولنا القيام به.
ان تفحص اثر الزمن في خلق البنية الدلالية في الرواية، لكي لا يكتفي بما يوفره التنظير من إمكانية خلق رؤيا قد تقترب من رؤيا الخطاب الفلسفي في موضوعة الزمن التي يشوبها التناقض والاضطراب فيه، جنح الى اختيار إنموذج روائي يحقق لنا إمكانية تتبع ذلك الأثر، فكان اختيارنا لرواية (سابع أيام الخلق) للروائي (عبد الخالق الركابي) لجملة أسباب من بينها: تنوع مستويات السرد فيها، بين سرد سابق عل تشكل المتن الحكائي، وسرد لاحق عليه، وسرد متزامن معه، كان لها الأثر الواضح في خلق قيم دلالية عبر تشكل البنى التي توختها، معبرة بذلك عن رؤية المؤلف للوصول الى غايات تم تحديدها في محلها من الدراسة.
كذلك استثمارها جملة معارف تراثية موغلة في القدم، كانت تؤدي في الأصل الذي وجدت فيه وظائف معرفية مختلفة عن الوظائف التي أدتها في النمط الابداعي الذي استثمرت فيه. من بينها أساليب الاسناد التراثية، ونظرية وحدة الوجود الصوفية، كان استثمارها قد أدى بها الى خلق وظائف دلالية جديدة عبر البنى التي شكلها السرد بأزمانه المتعددة في الرواية.
كذلك استثمار ما عرف بتاريخ التوثيق المعرفي العربي (بعلم الرجال) الذي تطلبته فترة توثيق السنة النبوية الشريفة، والذي عد التوثق من صدق الرواة يتطلب إخضاعهم الى ضوابط سلوكية دقيقة على ضوئها يمكن الاعتداد بروايتهم او اهمالها. وهو معيار حاولنا استثمار بعض من خواصه، من بين وسائل عدة، وإخضاع رواية السيرة المطلقية في الرواية اليه، للوصول الى قناعات بصحة المروي، او الكشف عن أهداف أُخر عبر اصطناع تلك الصحة، حاول الروائي الوصول إليها او إقناعنا بها .
ان معاينة اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية (سابع أيام الخلق). فصل مجتزأ من مخطوطة أوسع نشر منها فصل واحد بعنوان (المخطوطة في رواية سابع أيام الخلق) في العدد الثالث لسنة 2000 من مجلة الأقلام. تناول الزمن التأريخي في الرواية، وهو على ارتباط مباشر بموضوعة السرد التي يتناولها هذا البحث، لذا اقتضى التنويه للراغب في الاستزادة

2. التمهيد
شكل الزمن منذ بدء الوعي به إحدى المعاضل العصية على الحل، فهو لا يأبه بالافراد او بالمجتمعات، وسيره حثيث باتجاه مغاير لسلوك الاشياء، فكان تقسيمه الى زمن اللحظة المعاشة وزمن اللحظة التي غادرت لتوها وزمن لحظة اتية، فكانت (الان) نقطة تماس تلك اللحظات، وبتراكمها حين تنصرم تخلق تاريخ الأشياء الذي اتفق عليه عرفاً انه (الماضي)، والذي يمثل التيار المعاكس لخط سيرنا الذي يمخر عباب الزمن الآتي (المستقبل) مستفيدا من لحظة التماس بينهما وهو (الحاضر). وبذلك يتشكل وعينا بالزمن عبر تقسيمه وإيجاد وسائل اصطلاحية تساعدنا على فهمه ومن ثم إدراكه، ليخلق ذلك الفهم والإدراك الوعي به.
غير ان ذلك الوعي، الذي يخلق الرؤية المتشكلة به وبالأشياء التي تتحرك فيه، أسير وعي جمعي في جانب منه خلقه التراكم الكمي والنوعي لاحتمال الصواب والخطأ في فهمه. واسير وعي فردي يخلقه التأمل فيه ثانيا. فكان تنوع الرؤى وتناقضها في فهمه غير قادرة على حرث أرضه، فتركت برغم المحاولات الكثيرة، من دون اطمئنان من إمكانية استنبات أفكارنا فيه لتثمر يقينا، يدفع بنا بعيدا عن شك احتمال الصواب والخطأ. فكان الزمن بذلك أرضا بكر يصلح دوما لادعاء إمكانية إعلان ابتكاراتنا فيه من دون ادعاء الريادة في ذلك. وهو ما دفع (بالقديس او غسطين) للقول : ((...... ان لم يسألني أحدا عنه، اعرفه. اما ان اشرحه فلا استطيع)) (1).فكانت سهولة النظر فيه مغرية لولوج عالم عصي على الإمساك، عل العود يكون احمد بما يشفي الغليل من ظمأ سكن الوعي الفردي والجمعي منذ بدء تشكيل ذلك الوعي.
فقد ذهب (ارسطو) الى تحديد معنى الزمن عبر تحديد أجزاؤه بقوله: ((ان الأجزاء التي يتألف منها الزمان : أحدها كان ولم يعد بعد موجدا، والثاني لم يأتي بعد. والثالث لا يمكن الامساك به، فأجزاؤه اعدام ثلاثة))(2). ينتهي الى ان الزمن يستحيل ان يشارك بالوجود لاتصافه بالعدم. غير ان اثره يرتبط جليا حين يرتبط بالحركة ويكون بالامكان معرفة ماهيته. ذلك التصور الذي يتفق مع فلسفة العلوم وان اختلف معها في طبيعة تلك الحركة، حيث ذهبت النظرية النسبية، التي شكلت الأثر الأكبر في خلق التصور الفكري عن الزمن في فلسفة العلوم الحديثة الى انه ((... لا مكان للقول بالزمان المطلق لان الزمان يختلف من نظام مرجعي الى آخر، تبعا لكون هذا النظام المرجعي يتحرك بسرعة دنيا او سرعة تصل او تقترب من السرعة القصوى التي هي سرعة الضوء))(3) فكان الزمن قد فقد ماهيته من دون ان يرتبط بحركة، غير ان فلسفة العلوم تؤكد ان الحركة بذاتها متغيرة وعلى ضوء تغيرها يتغير الزمن كذلك. وهو ما يناقض رؤيا (بروكسن) عنه حيث ذهب الى ((ان الواقع الحقيقي للزمن يكمن في الديمومة. اما اللحظة فليست الا تجريداً لا واقع له .. فاللحظة تقطيع خاطئ للزمن ... فالديمومة تدرك في وحدتها التي لا تقبل الانقسام))(4).
بين ديمومة الزمن على وفق رؤية (بروكسن)، وعده عدم لا يشارك في الوجود على وفق رؤية (ارسطو)، تنوعت الآراء بين المنجذب الى هذا والمفترق عنه. فكان (روبنل) من بين الأصوات التي تتناقض في رؤياها للزمن مع (بروكسن) ولا تتفق بالمقابل مع النظرية النسبية في فهمها له. حيث يعد (روبنل) الزمن ((... يكمن في اللحظة، والديمومة تركيب لاواقع له .. ان حقيقة الزمن تصبح اذن مركزة في الحاضر الذي يفهم الماضي انطلاقا منه ..))(5). وهو ما يتفق به مع (باشلار) الذي يذهب الى ان ((ليس للزمان الا واقع هو اللحظة. فالزمان واقع محصور في اللحظة ومعلق بين عدمين. يستطيع الواقع دون شك ان يتجدد. ولكن عليه قبل ذلك ان يموت فهو لا يستطيع ان ينقل كينونته من لحظة الى آخرى لكي يكون من ذلك ديمومته))(6). ذلك الرأي الذي يتفق معه (القديس او غسطين) الذي قال فيما سبق ((اما ان اشرحه فلا استطيع)). فهو في محل آخر يشرحه بظن الوضوح نافيا تقسيم الزمن الى ماض وحاضر ومستقبل، بل يعده ((... جزء واحد من الحاضر، والصحيح ان يقال ثلاثة أقسام، حاضر لأشياء مضت، وحاضر لأشياء حاضرة، وحاضر لأشياء ستأتي))(7).
مما تقدم يتضح حجم الاضطراب في الرؤى الفلسفية التي حاولت معرفة ماهية الزمن، فهي بين ان تعده مطلقا، وبين ان تربطه بالحركة، وبين ان تعده لحظة الحاضر حسب. وان كنا اهملنا عن عمد التسلسل التاريخي لاعتقادنا ان سيادة او شيوع مفهوم فلسفي معين، لا يمنع من وجود مفاهيم أخر على الضد منه في الفترة نفسها، وكان هدفنا من ذلك بيان هذا الاضطراب والتعارض في فهمه.
فاذا كان الزمن في الخطاب الفلسفي يشوبه الاضطراب والتناقض فأنه في الخطاب الأدبي يمتلك إمكانية اكبر على تجسيد تلك الرؤى. ومن ثم يكون التوظيف لهذا المفهوم، وان خضع في الأصل للرؤيا الفلسفية لمنتج الخطاب، تحكمه عوامل مختلفة عن تلك التي تحكمه في الخطاب الفلسفي، حيث ((هناك بعدان في كل عمل فني: بعد اجتماعي (منطلق من الواقع المعاش). وبعد فردي (منطلق من خيال الفنان)..))(8).واذا كانت ((... قابليتنا للتخيل هي قابليتنا لنتذكر ما خبرناه مسبقا ونطبقه على موقف مختلف))(9). فأن خيالنا نفسه يتحول الى ضرب من ضروب التفاعل مع الزمن، او ان الزمن يمثل جانبه الحيوي. لذا فأن الزمن في الخطاب الأدبي، وان تنوعت الأساليب في استخدامه، لا يمكن اغفاله او استبعاده من العوامل المؤثرة. فالخطاب الادبي نفسه لا يمكن ان يمتلك فاعليته الحقيقية في التأثير ان لم يكن قد ارتبط بزمن سواء كان ذلك الزمن تاريخياً ام مفترضاً ام وهمياً ام نفسياً، ففي جميع الأحوال لا بد للخطاب الأدبي ان يرتبط بزمن وان كان على درجة متفاوتة من الظهور والفعالية. ففي حين يمثل الزمن الاطار العام الذي تنمو فيه الاحداث سواء في علاقتها السببية، كما في (الحبكة) والتي تشكل لنا في النهاية شكل العمل الروائي. ام في علاقتها الزمنية التعاقبية، كما في (القصة)، فأن تلك العلاقات يشكلها الزمن اولا، ثم تكون لأدوات الفنان الخلاق قدرة تشكيلها بالطريقة التي يعدها مؤثرة في خلق قناعتنا او تغيرها او توكيدها. فاذا كان ((الأدب موجود في الزمن وخارجه معا..))(10). على وفق رأي (هوجارت)، غير ان الادب لا يمكن على وفق هذه الرؤيا، ان يفهم انه خارج الزمن حقيقة، بل في زمن غير قابل للتحديد، او زمن يستغرق مدى اوسع ((يكاد يكون مستحيلا))(11). وبهذا فلا يمكن تصور وجود ادب خارج الزمن بل لا يمكن ان يكون هناك نشاط نعيه ما لم نربطه بزمن، وان تنوع بين زمن خارجي او زمن داخلي، او زمن واقعي، او زمن تخيلي، شأنه في ذلك شأن الخيال العصي على الامساك. فالزمن على وفق رأي (ستايجر) يمثل ((.. توقا داخليا وهو توترا، وهو القاعدة الهامة التي تدعم تركيبة العمل الفني))(12). وتخلق ابعاده المراد عبرها نقل ما يود الخطاب الادبي ايصاله الى الآخر، في محاولة الاجابة عن سؤال، او تحفيزا لاثارة سؤال، فيكون بذلك الزمن وتبعاً لاساليب الاستثمار، متنوع التأثير كما هو متعدد الاستثمار. ففي حين يمثل العنصر الاساسي في الاعمال السردية عموما ومن بينها الاعمال الروائية، نظرا لوظيفته في (الحبكة) و (القصة) معا، فان الذاكرة في الاعمال الشعرية تشكل ((... ملكة الشعر لأن الخيال نفسه يعد ترويضا للذاكرة))(13). والذاكرة نفسها تعد في جانبها الاساسي تفاعلا مع الزمن. بل ان الخطاب الادبي عموما، حيث يمثل في جانب منه وضع المتلقي في موضع منتجه. فأن ذلك يتطلب من المتلقي بالمقابل ان يضع نفسه ((مكان البطل .. ان يوضع في زمنه))(14). وبذلك يكون الزمن، عنصرا، لكي يحقق كامل فاعلية الخطاب الادبي، يجب ان يكون مشتركا بين المتلقي والمنتج معا للوصول الى ذلك التأثير.


ايوب صابر 05-06-2012 03:23 PM

تابع ،،،
ان الزمن في الرواية يشكل الاطار العام الذي تنمو فيه الآحداث المعبرة عن تعارض او اتفاق الآراء او المصالح بين الشخصيات، حاملة تلك المفاهيم والمعبرة عنها، والتي تحاول إيصالها من خلال المتن الروائي او ألاحالة الى خارجة، على وفق حيثيات توفرها الأحداث او المناخ الروائي العام. فتكون بذلك الرواية من خلال خوضها غمار تجربة إنسانية تبتغي التأثير في قناعاتنا بالتوكيد او المعارضة، وسيلتها في ذلك عناصر متعددة بتفاعلها يتأرجح المعنى وضوحاً او غموضاً، توقاً يجسده النص او إحباطاً يحاول ان يرتقي به حد التعاطف معه والمشاركة فيه. مكتفيا بنفسه او بالاحالات الى خارجه عبر القرائن التي يخلق حيثياتها الخطاب. حيث ((.. المعنى يتأرجح بين لغة العمل وشبكة القرائن التي ليست في العمل, ولكنها ضرورية لتحقيقه))(15).ان تلك العناصر بتفاعلها المبتغي تحقيق التأثير في الآخر، تعتمد الزمن عنصرا مشتركا في معادلات التفاعل تلك، وحيث ((هناك عدة أزمنة تتعلق بفن القص، أزمنة خارج النص: زمن الكتابة وزمن القراءة . وازمنه داخل النص: الفترة التاريخية التي تجري فيها الرواية، مدة الرواية. ترتيب الأحداث، وضع الراوي نفسه لوقوع الأحداث))
(16). فأنها جميعا تمثل ضروبا متنوعة على إيقاع الزمن عموما، سواء وصفنا ذلك الزمن بالخارجي تبعا لزمن إنتاجه أم زمن تلقينا الخطاب، ام وصفناه بالداخلي، والذي يتعلق بزمن تشكله في زمن منتجه او وسائله التكنيكية التي استثمرها في تنويعه او إخراج ذلك التشكل من الذهن. غير ان زمن الكتابة لا يمكن عده خارجيا بمعنى الفصل التام بينه وبين الازمنة الداخلية في العمل الروائي، زمن الكتابة يمثل زمن الوعي المعبر عنه بأزمنة داخلية في الخطاب. أي ان الخطاب الأدبي اثر منتج لاحق لذلك الوعي، كذلك زمن القراءة. وان كان زمن لاحقا على زمن الكتابة الذي يمثل الأثر المعبر عن وعي زمن الكتابة عبر الأثر المنتج (الخطاب) على وفق رؤيا يشكلها زمنه نفسه، فيكون بذلك الخطاب بافتراقه زمنياً عن زمن القراءة بشكل ماضياً قريبا او بعيداً تبعاً لذلك الافتراق. فيتم الوعي بذلك الخطاب على ضوء الوعي بالواقع المعاش في زمن القراءة. حيث ((وقائع الماضي ذات معان مختلفة عندما تؤدي الى إعادة ترتيبها، و بصورة مختلفة ومحتومة، في نظام على ضوء القضايا المعاصرة ))(17).
ان ما يعنينا في هذا المقام هو تفحص امكانية تحول الزمن في الرواية من اطار يمكن على ضوئه تفحص (القصة) و (الحبكة) في الاعمال الروائية، الى عنصر من عناصر العمل يشترك في خلق البنية الدلالية التي تمنحنا فرصة وعي الخطاب الأدبي إضافة الى عناصره الفاعلة الاخر.
ان تنوع الازمنة في الاعمال الروائية لا يؤدي بنا الى الاضطراب او التناقض، كما هو الحال في الخطاب الفلسفي عندما نتمكن من الاتفاق على التمييز بين مستويين من الزمن ضمن العمل الروائي. ليس على أساس التمييز بين الزمن الداخلي والزمن الخارجي حسب، وانما على أساس تداخلهما معا.
حيث على الراوي ان يقص علينا فيتطلب فعل القص ان يربط أحداثا مضت او تحدث الان او أنها ستحدث، فيكون بذلك امام ازمنه ثلاثة تمثل مستويات سرد لابد ان يتم القص بها، سواء وصلنا ذلك القص عبر ضمير الغائب او ضمير المتكلم ام حوار داخلي ام ضمير المخاطب(18)، على تنوع الإمكانيات التي توفرها تلك الضمائر في سرد الأحداث وموقع الراوي فيها، حيث لا يمكن رواية احداث دون ارتباطها بزمن محدد او واسع غير قابل للتحديد، غير ان تعاقب الاحداث وطريقة السرد تحتم وجود تسلسل زمني لوقوعها. وان كان بالامكان وقوعها جميعا في زمن واحد. وسواء اتصف ذلك بالزمن التاريخي ام المفترض ام زمن خارج النص او زمن داخله، فأننا نكون أمام ثلاثة خيارات للتعامل مع تلك الأحداث على وفق موقعنا وموقعها وموقع الراوي في اللحظة الراهنة. أي لحظة روايتها. وبذلك فان الزمن على وفق تلك اللحظة (لحظة الروائية) يكون بأحد أبعاده الثلاثة، اما حاضر او ماضي او مستقبل،
وعليه فان السرد كونه يمثل فعلا زمنيا فانه يرتبط ببعد او اكثر من أبعاد الزمن نفسه، ومن ثم يتحدد موقع الراوي فيه وموقع الحدث تبعا لتلك اللحظة.
وللإمكانيات الواسعة التي يتيحها فن الرواية الابداعي في التعامل مع الزمن، فان تشكل المتن الحكائي لها وان تميز بقابليته على القياس عبر التعاقب وتطور الاحداث في المتن، فان زمن سرد تلك الاحداث يشكل تنويعا على ايقاع الزمن، يرتبط بالرؤية التي تشكل وعي الروائي وحاجته الفنية في الاستثمار. فاما ان يكون السرد لاحقا على اكتمال السرد الحكائي، فيقع الفعل في المبنى الحكائي بصيغة الماضي، او متزامنا معه وفيه يقع الفعل بصيغة الحاضر او سابقا عليه فيقع المتن بصيغة المستقبل، او متداخلا وفيه يحدث تنويعا آخر للزمن من الحالات السابقة(19). فيكون بذلك السرد مرتبطا بزمن على أساسه يمكن تحديد موقع الراوي بسبقه او تآخره او معاصرته للحدث.
ان التنوع الذي يخلقه ارتباط السرد بالزمن يخلق معه قدرته على خلق بنيته الدلالية القادرة على منحنا فرصة ((.. فهم شمولية الظاهرة التي عبر عنها الكاتب))(20). .. أي ربطها بالوعي الجمعي. وبذلك فان مستويات السرد وان كانت ترتبط بالزمن الروائي في المتن الحكائي لكونه يعد الاطار الذي يبني المتن نفسه، غير انه في استثمار قابليته على التنوع في المبنى الحكائي يمنح الرواية قدرة تشكل بنية دلالية قادرة على خلق معنى، عبره ندرك رسالة الرواية عبر طرائق السرد فيها.

3. اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية (سابع ايام الخلق) السيرة المطلقية

اذا كان الزمن يمثل البعد المضاف على بعض الفنون ومنها التشكيلية، فيمنحها بذلك افقاً دلالياً جديداً ينأى بها عن الانطباع ليدخها في دائرة الايحاء ويزيد من زخمها الدلالي والانفعالي في المشاهد، فان الزمن في الاعمال الادبية والسردية منها خاصة، لم يكن عنصراً مضافا وجديدا الى عناصر بنائها، فهو اطار عبرها تُمنح الشخصيات فرصتها في النمو والتكامل، وتبين اثرها في الأحداث التي تنشؤها او تنشأ منها. وفيما اذا كان الزمن مؤطراً بحدود معلومة، فانه يؤدي الى كشف جوانب في البيئات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للفترات التي تنشأ الرواية فيها، او تتحدث عنها، ومن ثم لا يمكن تصور (القصة) او (الحبكة) في الاعمال الروائية ان تنمو وتتطور من دون احداث تشكل علاقاتها، ولا بد للأحداث تلك ان تنشأ بزمن تاريخي او زمن مفترض او زمن وهمي او زمن نفسي او زمن واقعي.
تلك الازمنة، على تفاوت قيمتها الدلالية واهميتها الفنية في العمل الروائي، تبعا لأهداف الروائي او الاساليب الفنية المتبعة في استثمارها تمتلك خاصية مشتركة في قدرتها على خلق البنية الدلالية والتحول من اطار تتحرك عناصر العمل الروائي فيه الى عنصر يؤدي وظيفة في المتن الروائي.
وقد استثمرت رواية (سابع أيام الخلق) (21). هذا العنصر على مستويين بنائيين. الأول: ارتبط بالسيرة الشفاهية ورواتها، والثاني: بالمخطوط / الراووق ودارسيه. فكان المتن الحكائي للسيرة مرتبط بزمن مفترض لا تتوفر امكانية تحديده، اذ ان الاشارات الواردة في المتن الروائي لا تجنح الى تحديد دقيق يخضع للمقارنة بواقع سياسي او اجتماعي محدد بزمن معلوم، فيكون التعويل على تحديد فترة بعينها غير مجد من الناحية التاريخية. غير انه خلق بنيته الدلالية عبر البناء الحكائي للسيرة وأقسامها وارتباط ذلك البناء بالرواة. فكان المتن الجديد للمخطوط (رواية سابع أيام الخلق) قد اكتمل ((.. بعد العثور على أهم أوراق السيد نور)) (ص7). ذلك المتن المكون من سبعة أقسام مختلفة من حيث الأهمية والمصداقية والتي كونت مدينة الأسلاف ((مدينة الحروف والكلمات)) (ص8)، بعد ان اسدل المؤلف ((الستائر دون مدينة ... البشر والأسمنت والحجر)) (ص7) فكان دخولنا إليها عسيرا، وادخلنا الى الاولى عبر ما وفره من إشارات في المتن الروائي ارتبطت بهذه المدينة. فعلينا الاطمئنان إليها وتفحص مكوناتها، ومن بينها، تتبع اثر الزمن المفترض في بنائها ونشوئها.
ما يمكن ملاحظته في البدء. ان مدينة الحروف والكلمات لم تكن جزءاً من ذلك المتن الجديد للمخطوط، الذي تمكن الرواي السابع / المؤلف من الوصول اليه بالاعتماد على مصادر متعددة، بل كانت هي المتن الجديد له، منشطرة الى نصفين، يفصل بينهما خط وهمي يمكن تفحصه على الورق مع استحالة مشاهدته في الواقع العياني. غير ان أحيائها تختلف من الناحيتين المعمارية و السكانية، مثلما تختلف أحياء مدينة البشر و الأسمنت والحجر كون القديمة منها تمتاز ((بالتداخل والاضطراب .. على عكس المحلات التي ظهرت حديثا))(ص7). فكان بذلك الاختلاف قد تحول من الجوانب المعمارية للمدينة تلك الى الزمن نفسه الذي اثر في بنائها، فكان مضطرباً مشوشاً في جزئه المرتبط بالسيرة المطلقية، يصعب حصر مجاهيله فيها، في حين كان دقيقاً واضحاً في الجزء المرتبط بالمخطوط.
ومما ميز المدينتين على بعضهما كذلك، ان الثانية سميت بـ (الاسلاف) وهي اشارة تنم عن الارتباط التاريخي لأجيال لاحقة على الأجيال التي بنتها. من دون تحديد جيل او أجيال بعينها، بينما الاولى سميت بـ (سابع أيام الخلق) وهي إشارة الى بداية العد التصاعدي في زمن الخلق الى يوم لم يكن معلوماً نهايته. غير انه اكتمل في يومه السابع، وخلق متاعبه مع ذلك الاكتمال. تلك لم تكن متاعب الخالق، حتى وان صرحت باستراحته ((بارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح))(22).
فما دلالة زمن ذلك اليوم الذي تم فيه الخلق ؟ وهل كانت تلك المتاعب من جراء الخلق او صاحبته ام ابتدأت به ام في نهاية الايام الستة وبداية اليوم السابع ؟ هل هي متاعب الخالق ام المخلوق ؟ وحيث ان الخالق جلت صفاته، لم يكن قد اجهد في الأيام الستة التي سبقت اليوم السابع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا اُلسَّمواَتِ واْلأَرَضْ َوَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أياَّمٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (23).فهي لابد ان تكون متاعب المخلوق التي بدأت مع تمام الخلق وبعد فراغ الخالق منه وفي يومه السابع. واذا ما افترضنا وجود تلك المتاعب التي تتطلب الراحة، فهل كانت تلك المتاعب في الرواية ذاتها ام في السيرة المطلقية ام في المخطوط ام بهم جميعا ؟
واذا ما افترضنا مرة آخرى ان هناك متاعب تستوجب الراحة، فهل تلك الراحة تكمن في انجاز قراءة تلك الرواية، في محاولة اكتشاف ما تبتغي قوله ؟ وهل صرحت بذلك ام أشارت اليه ام تركته لفطنة القارئ ؟ وهل كانت تسر غير الذي تعلن ؟ واذا كان ذلك السر المفترض فيها، ففي أي جزء منها كان الراوي السابع / المؤلف قد أودعه.
ان تفحص اثر الزمن في السيرة المطلقية يقود الى تبين البنية الدلالية التي خلقها، ومن ثم توفر فرصة تفهم الظاهرة التي رغب الروائي التعبير عنها، مما يساعدنا للإجابة على تساؤلاتنا.
لذلك فان تبين تلك البنية يتطلب معالجة السيرة، ليس من خلال شخوص الرواة فيها، ومقدار الثقة فيما يروونه عبر التكوين النفسي والفكري لهم وانما من خلال وقائع السيرة ذاتها، التي ارتبطت بزمن من السعة بحيث يصعب تحديده بدقة، او ان حدود التداخل فيها يزيد احتمال انتسابها الى أزمنة مختلفة. بل هي كذلك عبر تعاقب الرواة في البوح بوقائعها التي تشكلت من رواياتهم لأقسامها.
لذلك فان تفحص اثر الزمن في السيرة المطلقية وخلقه للبنية الدلالية المعبرة عن رؤيا المؤلف يعتمد على عنصرين أساسيين فيها.
وقائعها التي اكتملت وتشكلت في زمن سابق على زمن الرواية لها (المتن الحكائي). وعلى حياة الرواة وارتباط ذلك بالاقسام التي تمت روايتها من السيرة (المبنى الحكائي).
يمكن تمثل الزمن في السيرة المطلقية وعلاقة (المتن الحكائي) لها بـ (المبنى الحكائي) بالمخطط التالي:-

• يوجد مخطط مرفق في نهاية البحث

لقد وردت السيرة بأربعة أقسام، وكان تحيد تلك الأقسام وتعددها يرتبط بتعدد الرواة واختصاص كل راو فيها بقسم منها، غير ان اياً منهم لم يرو السيرة المطلقية بكامل وقائعها، كي نتمكن من تشكيل اربع روايات، سواء كانت متفقة ام متناقضة مع بعضها لوقائع معينة بذاتها. مما يسهل احداث المقارنة بينها للوصول الى معرفة صدق ما وصلنا من وقائع. فقد عمد الراوي السابع / المؤلف الى خلق حالة ايهام متعمد من خلال تقطيع السيرة الواحدة المغيبة شعبيا، التي أشاعها في المتن الروائي وجعلها شفاهية تسرد على السن رواة مختلفين من حيث التكوين النفسي متفقين من حيث التوجه الفكري.
ومما زاد في الغموض ان تلك الشخصيات لم تكن رواياتها تمتلك الحد الكافي من القبول، لاسباب ترتبط بطبيعة الرواة ولاسباب أخرى ترتبط بالمشيخة وبالفترة الزمنية البعيدة نسبيا بين الرواة وفترات الانقطاع التي حدثت بينهم.
لقد اختص كل راوٍ منهم بقسم منها لم يتعده الى سواه. وكانت روايتهم لتلك الأقسام تتناسب عكسيا مع زمن وقوع الأحداث. فكانت رواياتهم يشوبها الكثير من الغموض. فالأول منهم (عبد الله البصير) برغم معايشته معظم احداث السيرة، وبالاخص (واقعة دكة المدفع) والتي تعد الاقرب اليه زمنيا، غير انه لا يروي لنا الا القسم الاول منها وهو الابعد عنه زمنيا، والذي يعد بداية تشكل البناء الحكائي للسيرة المطلقية، مع اسناد روايته الى(السيد نور)، وامتناعه عن اتمام السيرة وادعائه الجهل باقسامها التالية والمكملة للبناء الحكائي فيها، مع الاعتقاد بعدم واقعية الادعاء، لان الاكتفاء بقسم من الحكاية وابقائها ناقصة يدفع اما الى محاولة اكمالها من قبل الراوي نفسه او المتلقي لتفسير الغموض الذي يكتنفها او موت الجزء المنقول ان لم يكن هناك ما يتمه بعين اللحظة التي يتم بها سردها، إضافة الى ان السيرة بأكملها عبارة عن تاريخ شخصي (لمطلق) ارتبط بأحداث أثرة في حياة البواشق ومستقبلها. وهو ما فعله كذلك الراوي الثاني (مدلول اليتيم) الذي عاصر الأول وكان شاهدا على معضم احداث السيرة او في اقل تقدير جزئها الختامي (واقعة دكة المدفع) غير انه لا يروي الا القسم الثاني الذي يلي قسم الراوي الأول وهو الأبعد عنه زمنيا. مع اسناد روايته الى السيد نور، وان كان ذلك بصورة غير مباشرة من خلال الاجازة الممنوحة له من الراوي الأول مع اعتماد رواية الراوي الأول كونها تمثل له حجه لا يمكن الادعاء بخلافها. وامتناعه عن اتمام السيرة وادعاء الجهل بالمتبقي منها. وهو ما حدث كذلك للراوي الثالث حيث انه يروي القسم الثالث منها مع اسناد روايته الى السيد نور من خلال الاجازة غير المباشرة والممنوحة له من الراوي الاول.
والراوي الثاني مع امتناعه من اتمام السيرة وادعاءه الجهل بالقسم الذي يكملها مع وجود فترة انقطاع بينه وبين من سبقه من رواة وعد ما رواه الأول والثاني حجة لا تدحض في وقائع سيرة لا يتمكن من اتمامها.


ايوب صابر 05-06-2012 03:24 PM

تابع،،

ان الفجوة الزمنية الثانية التي كانت بين الثالث وما سبقه من الرواة تمنع حدوث الاتصال المباشر بينهم وتمنع كذلك إمكانية حدوث النقل الشفاهي المباشر بين الرواة مما يزيد من البعد الزمني بينه و بينهم من جانب وبينه وبين وقائع السيرة نفسها، وان اتفق سلوكه مع ما سبقه من رواة في رواية الوقائع الا بعد عنه زمنيا.
ان الحالة المغايرة في علاقة زمن سرد الوقائع مع زمن وقوعها الفعلي في السيرة المطلقية للرواة الثلاثة (عبد الله البصير / مدلول اليتيم / عذيب العاشق) تلك العلاقة العكسية. توجد حالة مغايرة لها في علاقة سرد السيد نور لقسمه الختامي ((الرابع)) (واقعة دكة المدفع) مع وجود الفجوة الزمنية الاولى بينه وبين الراوي الأول، ففي حين ان افتراقه عن (مطلق) كان في جزء من القسم الأول. وهو ما يمكن ان يكون موتاً حقيقياً او مفترضاً او نفياً اختيارياً يمنع معايشته لما تلا من الأحداث. غير انه يسرد في السيرة أبعد أقسامها عنه في زمن المستقبل. وهو ما يغاير سلوك الرواة وان كانوا يدعون الرواية بالنيابة عنه.
لقد أدى التنوع في العلاقات التي يكونها الزمن مع وقائع السيرة المطلقية التي نشأت فيه ومع حياة وموت الرواة التالية عليها وسردهم لتلك الوقائع، والحالة المغايرة في علاقة سرد قسم السيد نور مع الوقائع نفسها اضافة الى طبيعة التكوين النفسي والفكري لرواة السيرة، أدت تلك العلاقات الى تكوين بنية دلالية تنأى بالزمن من كونه إطارا تنمو فيه الأحداث ويكتمل نمو الشخصيات وتتطور من خلاله، الى عنصر من عناصر العمل الروائي يؤدي وظيفة دلالية شانه شأن عناصر أخرى مثل الشخصية والرمز. ان تبين ذلك التحول في طبيعة الزمن يتطلب تفحص السيرة نفسها من خلال وقائعها المؤثرة وبأقسامها الأربعة للوصول الى ما قالته او حاولت البوح به لمعرفة القيمة الدلالية التي توخى الروائي استثمارها في الرواية سواء كان ذلك بالترميز أم بالتصريح. فلا يمكن عد العلاقة العكسية بين الأقسام المروية وحياة الرواة كان وجودها في الرواية قد حكمتها الصدفة، بل ان القصدية في خلق هذه العلاقة تكمن ورائها غايات ترتبط بالاستثمار نفسه وبطبيعة الرؤية الفكرية التي حاولت السيرة التعبير عنها.
من تفحص وقائع السيرة المطلقية تظهر العناصر الأساسية في المبنى الحكائي لها على النحو التالي.
1. القسم الأول
أ. فشل السيد نور من ثني مطلق عن بناء قلعة فوق التل الأثرى (ص 43).
ب. انتهاء حياة الدعة والامان وغدا مطلق مصدر قلق للجميع (ص 50).
ج‌. ولادة ابن (مطلق) البكر (طارش) (ص 53).
د. الطوفان (- التل علينا الاحتماء بالتل) (ص 53).
هـ ستكون القلعة شرا وبيلا على البواشق (ص 58).
و. وفد على الديرة غريب اسمه (مجبل) ومعه زوجته (رازقية) (ص 59).
ز.بناء القلعة على أطلال القلعة الاثارية وبأجرها(ص62)
ح.ظهور نذر شؤم (ص 62).
ط.تردد ملء الاسماع صوت اصطفاق باب كوخ (السيد نور) الذي نفذ وعيده فقرر هجر مأواه القديم (ص 64).
ي‌. لقد غدا مطلق كبير المنطقة من دون منازع (ص 65).
ك.هجر السيد نور للمكان (ص65).
ل.الطاعون (ص69).
م.اعتذار مطلق (- دخيلك سيد نور) (ص70).
ن. عاد اسم المعيدي يتردد (ص 73).
س. موت مجبل وابنه .. موت زوجة مطلق (ص75).
ع. زواج مطلق من (رازقية) أرملة (مجبل) (ص 67).
2. القسم الثاني أ.اقسم مطلق بأنه سيبدأ توبته بأنه بقطع علاقته بالمسؤولين بالبلدة (ص149).
ب. ولادة (قاصد) لكن القحط كان يزداد وطأة مع مرور الزمن ... ولادة (خضر) و(ربيع) (ص1).
ج .بقي (مطلق) وفياً لوعده بالاعتكاف في الديره، ومد يد العون للآخرين (ص 152).
د.حراثة حقل مشترك ... مؤكدا ان البيدر الناتج سيوزع على شكل حصص بعدد افراد العائل (ص 153).
هـ.تعقيد مطلق - الزعامة المعنوية (ص 152).
د. بناء المضيف - الاعتراف العملي بتلك الزعامة (ص 155).
ز.عدم رضا السلطة عن (مطلق) التي كان يرتبط معها بعلاقة رفضها (السيد نور) من قبل (ص158).
ح. رضوخ (مطلق) لطلبات السلطة وإنابة ابنه (طارش) عنه لتأدية ما على العشيرة لها. (ص161)
ط.هاجس (مطلق) الدائم الحصول على البنادق (ص 162).
ي.افتضاح علاقة (طارش) مع (فتنه) بنت المعيدي (ذياب) (ص 176).
ك. زواج (طارش) من (فتنة) (ص 181).

3.القسم الثالث
أ.حصول مطلق على السلاح (ص 252).
ب. زواج أبناء مطلق.
4.القسم الرابع
أ‌. سر (واقعة دكة المدفع) (ص307).
أولا: الحكومة / خسائر البواشق البشرية الكبيرة. ثانيا: المشيخة / هزيمة بعض ابناء مطلق (طارش، خضر ,حاصود) ب.حرب بين السلطة وسلطة غازية من وراء الحدود. (ص310). ج.مطالبة السلطة مطلق يتسليم نفسه وبعض وابنائه لاتهامهم بالتعاون مع السلطة الغازية القادمة من وراء الحدود (ص 310).
د.رفض مطلق مطالب السلطة (ص 311).
هـ.فشل هجوم السلطة على القلعة(ص316).
و.هرب طارش ومعه زوجته وابنه الى (ذياب) (ص 317).
ز.ظهور المدفع (ص 319).
ح.واقعة دكة المدفع(ص 320)
ط.هرب خضر ... هرب حاصود الى جهة مجهولة. (ص320). ي.إحالت القذائف القلعة الى ركام (ص323).
تمثل الوقائع تلك سيرة رواة المعرضة المختلفة عن السيرة الشائعة بين البواشق بفعل تأثير السلطة وعملها في إشاعة ما يخالفها . حيث كان اثر المشيخة فعالاً في خلق سيرة أخرى او اكثر من سيرة داخلها الكثير من الزيف و التحريف فـ ((قد بلغ ذلك التحريف والزيف حدا من الشيوع بات من العسير فضحه، لانه تحول بمرور الزمن الى حقائق راسخة) (ص19).
عند تفحص سيرة رواة المعارضة لا نرى فيها ما يمكن ان يثير المشيخة او يشير إليها بالسلب خلال الأقسام الثلاث الاولى منها. بل وحتى في القسم الرابع، باستثناء تتم الاشارة اليه في محله، حيث ان سيرة الرواة في تلك الأقسام لم تمجد الطرف المعارض (آل غياث)، ولم تؤشر ما هو سلبي في المشيخة (آل طارش). لقد أشرت في البدء قطبي الصراع (السيد نور / مطلق) مستثمرة شخصية (السيد نور) كونها شخصية قادرة على التأثير النفسي في البواشق بشقيها بصورة عامة بين مؤيد ومعارض، وفي الرواة بصورة خاصة. وحاولت تحويل شخصية (مطلق) من شخصية سلبية تفتقر الى التعاطف في القسم الأول منها الى شخصية إيجابية تقترب عبر التعــــاطف معهـا من الشخصيـة المناقضـة لـها أصلا (السيد نور) وإحلالها محلها، وعلى الرغم من عدم إمكانية تحقيق ذلك، وان تعير صفة السلبية الى السلطة التي صنعته وناصبته العداء فيما بعد، في محاولة لتطهيره من اثامه، يضاف الى ذلك ان رواة أقسام سيرة المعارضة لم يكونوا على معرفة مسبقة بالأقسام التي تلت الأقسام التي يروونها. فكان القسم الرابع /المحظور لم يرو الا من قبل (السيد نور).
ان ما يمثل نقطة الافتراق بين سيرة المعارضة / الرواة، وبين سيرة رواة المشيخة ويكون الخلاف الحقيقي بينهما ليس في بشاعة (واقعة دكة المدفع)، وانما في هرب بعض أبناء (مطلق)في المواجهة ذاتها، التي تصفهم سيرة رواة المعارضة بالجبن، في حين تنفي سيرة رواة المشيخة هذه الصفة عنهم، او تحاول طمس هذه المعلومة من السيرة برمتها. غير ان تلك البشاعة والدموية التي كانت تدين السلطة القادرة على التحكم بمواقف المشيخة .. كانت يمكن ان تستثمر لتوكيد شرعية زعامة أبناء (مطلق) (ال طارش) من دون ان تخلق انشقاقا في البواشق، فوحدة الأهداف كفيلة بتحقيق الوحدة النضالية. غير ان غياب التلاحم الشعبي بين (مطلق) وابناء البواشق الذي تزعمهم من دون صلاحية لذلك. حيث انها فرضت اصلا من قبل السلطة التي ارتبط معها بعلاقة مشكوك فيها منذ البدء. قاد المعارضة الى خلق بؤرة تأثير مناقضة له تمثلت بشخصية (السيد نور)، سواء كان وجوده حقيقة فعلية ام خلقته الحاجة النضالية في تلك المرحلة، وان لم يتواصل شخصياً في زعامة خصوم (مطلق) او في مقاومته، قدر تحوله الى رمز للنضال قادرا على تثوير المعارضة ضد المشيخة ((وكان المزار .. فقد ناصبه الإنكليز وعملائهم .. العداء لكونه الموضع الذي حفز البواشق على النضال)) (ص103 – 104).
من ذلك يتضح ان الراوي السابع وانسجاما مع رغبة من سبقه من رواة. حاول من خلال السيرة المطلقية تسييس واقع غير مسيس أصلا (24). واستثمار ذلك الى أقصى طاقة ممكنة، مما أدى الى زج سيرة رواة المعارضة في اتجاهات تفسيرية وان كانت لا تتفق والواقع الاجتماعي الذي عاشته البواشق في تلك الحقبة، غير ان بعض رموزها قادرة على النهوض بتفسير قريب من الرؤيا السياسية التي قادته من خلال (المضامين) الى اكمال المتن الجديد للمخطوط، واتمام عمله الابداعي، الرواية، وحجتنا في ذلك مثلما حجته فيها (المضامين).
وهو تفسير يصلح دوما لكل صراع بين مؤيد / مستفيد، ومعارض / متضرر، او بتعبير سياسي، بين سلطة مستبدة او من يمثلها، وشعب مضطهد ومن يمثله، والذي يأخذ صورا متعددة، تتنوع تبعا لمراحل النضال ذاتها، فكلما ازداد البطش او احتدم الصراع ازدادت قدرات الطرف المضطهد على ابتكار الطرائق الكفيلة باستمرار النضال والنفاذ والتأثير، ومن ثم زعزعة الوضع السائد لتغيره الى ما يخدم مصالح الطرف المتضرر. ففي حين كان الرواة المغيبين روائيا يمثلون المشيخة / السلطة، وهي السيرة الشائعة شعبيا والمغيبة في المتن الروائي، فان رواة سيرة المعارضة الشائعة في المتن الروائي والمغيبة شعبيا يمثلون النقيض لهم. لذا فان رواية أي منهما لا تمثل رواية محايدة او موضوعية. بل هي رواية وقائع شكلتها الرؤيا السياسية للأوضاع القائمة، وفي ما بعد التفسير السياسي لها، وهو ما يفسر عزوف رواة المعارضة عن سرد احداث السيرة المطلقية بكامل وقائعها، وشرعوا في سرد أحداثها على شكل أقسام، وهو ما يوحي بوجود مراحل نضالية تستوجب إعلان قسم منها وحجب الأقسام الأخرى (بادعاء الجهل بها) وحسب الظروف الموضوعية التي كانوا يجابهونها، في محاولة استثمار تلك الظروف لمصلحتهم، وبما يحقق هدفهم الأساس غير المعلن على لسانهم، بل على لسان السلطة / المشيخة المدركة لغايتهم ((فالمشيخة وبإيعاز من السلطة – كانت قد حظرت على الجميع التحدث علنا بتلك الأحداث، زاعمة ان ذلك سيؤدي الى حصول الشقاق بين أبناء العشيرة الواحدة) (ص207).
كانت السيرة بأقسامها الثلاثة تتجه الى قسم السيد نور، وهو القسم / الهدف / المرحلة النضالية الحاسمة في خلق مواجهات بين المعارضة / رواة السيرة، والسلطة / المشيخة عبر تأكيد هرب بعض أبناء مطلق (طارش، خضر، حاصود) واتهامهم بالجبن لزعزعة مكانة المشيخة. واظهار عدم صلاحيتها لقيادة البواشق، وتجريد (آل طارش) من شرعية مزعومة. في حين نرى البواشق ((كانوا يستعيدون تلك الأمجاد بالاستماع الى (السيرة المطلقية) التي ساهم (عبد الله البصير) و (مدلول اليتيم) و(عذيب العاشق) في تأليفها. كانوا يقومون بذلك سرا)) (ص 206 – 207). وهي الأقسام التي لم تكن محل خلاف او نزاع بين (آل غياث) (وال طارش). واذا كان هناك ما يستوجب سرية الاستذكار في السيرة، فلم يكن ذلك في تلك الأقسام بالذات، وانما في القسم الرابع وفي جوانب محدده فيه، مع الاشارة المسبقة التي يوفرها لنا المؤلف من انهم لم يكونوا على علم بذلك القسم، ويستحيل ان تكون قدراتهم قادتهم الى معرفة جزء منه. وهو ما يؤكده الراوي السابع، من ان اياً منهم لم يكن على علم بالقسم الذي يليه من السيرة.
ان سرية استذكار السيرة بأقسامها توحي بوجود ما يستوجب الفخر بها بالنسبة لرواة المعارضة – ولم يكن (مطلق) محط فخرهم، لانه الطرف النقيض لشرعية رواياتهم او المبرر الفني لوجودهم في المتن الروائي (السيد النور)، على الرغم من انهم يدركون ان احداث السيرة مكرسة لامجاد (مطلق) جد هؤلاء الشيوخ (ص207) برغم محاولات المشيخة المستمرة على شيوع سيرة مغايرة لها وتغييب سيرة رواة المعارضة، ((فالمشيخة لم تأل .. جهدها محاولة طمس معالمها وتزييفها على مدى أعوام، مشيعة روايات تلائم غاياتها وهدفها)) (ص215) وان تسترها ومحاولة كتمانها ليس بقسمها الرابع، الذي اصبح محضورا بسببها، فقط وانما باقسامها الثلاث المتقدمة عليه، مما يعني وجودها يؤشر على وجود مثلبة عليها.
امام ما يوحي بالتناقض بين ان يفتخر المعارضة بأمجاد خصمهم، ومحاولة المشيخة كتمان / تستر مبرر فخرهم على افتراض ان القسم الرابع / المحظور، لم يكن معروفا. فانا نصل الى الاستنتاج من ان السيرة المطلقية لم تكن سيرة المعارضة ولا سيرة رواة المشيخة، وانما هناك سيرة أخرى مختلفة عنهما، قد تكون من جمعهما معا مع حذف ما يمثل التفسير السياسي لكل فئة من الفئتين. إذ ان ذلك التصور هو الذي ينحني بها بالاتجاه الذي يخدم كل فئة ويحقق أهدافها ومصالحها تبعا لذلك، إذ ان السيرة لم تكن تعني المتلقي الحايد، او بتحديد اكثر دقة المتلقي غير المتفاعل مع أحداثها. او بتعبير آخر لا تعني المتلقي غير المسيس وهو غير موجود عند وقوع احداث السيرة، وانما وجد بعد (واقعة دكة المدفع) وظهور الرواة كصوت معبر عنه، وهو ما توحي به سرية استذكار السيرة، ومن ثم لا تجد اثرها فيه، ولا يكون هو المعني سواء بسيرة المعارضة ام بسيرة رواة المشيخة.
لذلك فان سيرة رواة المعارضة التي وصلتنا عن طريق رواة شفاهيين اتجهت الى ان تتكامل بتقسيم نفسها الى عدة مراحل متوخية الوصول الى الهدف / القسم الرابع المحظور رسمياً والمعروف بين البواشق (آل غياث) و (آل طارش). بينما كانت المشيخة تحاول تغيير التصور عن القسم المحظور عن طريق الاكراه او عن طريق رواة آخرين تصفهم المعارضة (بالمأجورين), سواء كان ذلك عن قناعة بعدم واقعيته أم لانه يؤثر سلباً في شرعية زعامتهم للبواشق عل افتراض صحته.
ان رواية (السيد نور) للقسم الرابع / المحظور، كونه يمثل هدف سيرة المعارضة، وطبيعة الخلاق العكسية بين زمن السرد له والزمن الفعلي المفترض لوقوعه ضمن المتن الحكائي فيها، حيث زمن السرد لهذا القسم سابق على الزمن الفعلي لوقوع الاحداث – والعلاقة المغايرة له بين زمن سرد الوقائع والزمن الفعلي لوقوعها الذي اعتمده رواة المعارضة، التي تتخذ من رواية (السيد نور) مبرر وجودها الفني في السيرة، والتي اعتمد فيها كل راوٍ على رواية ابعد أقسام السيرة عنه زمنيا مع افتراض علمه بالأقسام التالية على ذلك القسم – كونه عايشها – وادعاء الجهل بها وتركها لراو آخر يليه. ووجود سيرة رواة المشيخة المغيبة روائيا. تلك السير بمجموعها وطبيعة علاقتها بزمن السرد والزمن الفعلي لوقوعها يقودنا الى محولة معرفة مميزاتها للوصول الى معرفة القيمة الدلالية التي توخى المؤلف الوصول إليها عبر التداخل الذي أحدثه بينها وبين زمن وقوعها وأزمنة السرد المتنوعة لها. وكما يلي:-
1. سيرة رواة المعارضة:
أ. شائعة في المتن الروائي مغيبة شعبياً.
ب. ترتبط بـ (آل غياث) القسم المتضرر من المشيخة في البواشق .
ج. آلفها الرواة بعد (واقعة دكة المدفع).
د.الادعاء بانها خالية من الزيف والتحريف.
هـ اعتمدت السرية في الاستذكار من دون القسم الذي يفضح المواجهة بين رواتها وما يمثلون والمشيخة وارتباطاتها.
و. اعتمدت، لغرض الاكتمال، مراحل ثلاث تنتهي بهدف معروف من حيث التوجه، مغيب عن قصد من حيث التفاصيل.
ز.ضياع القسم الرابع (- أدى الى شحذ أذهان الأجيال اللاحقة، فأخذت تختلق عن ذلك المضمون ما أسعفتها به سعة خيالها) (ص 109).
ح.تتهم بعض أبناء مطلق بالجبن.
2.سيرة رواة المشيخة
أ.تمثل وجهة نظر السلطة / المشيخة (آل طارش).
ب. مغيبة تفاصيلها عن قصد روائيا.
ج. معروفة من حيث التوجه ((كان مرور الزمن قد أدى الى هيمنة أمور زائفة كانت المشيخة على امتداد تاريخها قد جندت كل قواها ووسائلها من اجل هيمنتها)) (ص 102).
د.اعتمدت الإعلان مع مساندة المشيخة لرواتها لإشاعة تفاصيلها.
هـ. لم تتشكل أجزاء بعد (واقعة دكة المدفع)، وانما كانت تتواصل معها، وان خاتمتها كانت خاضعة لتفسير المشيخة، بان خلعت صفة البطولة على شخوص (واقعة دكة المدفع).
قسم السيد نور / القسم الرابع
أ.القسم الختامي في السيرة وهو نواة المخطوط.
ب.تمت كتابته قبل واقعة دكة المدفع (ص110).
ج.نص غامض غير معلن (ص 110).
د.استمر بالإضافة اليه بعد ذلك (ص110).
هـ.الغاية التي أدت إليها الأقسام الثلاثة السابقة عليه من سيرة رواه المعارضة.
غير ان المخطوط / الراووق، جوهرة التصوف والعرفان (ص114)، وانه تحول مع ازدياد سطوة المشيخة الى ((ضرب من كتابة عرفانية محاطة بالحظر والأسرار، مرورا بالإيغال في الشؤون الباطنية .. سيمياء، حساب جمل، اوفاق / جعفر)) (ص240) وأنها تداخلت مع ما الفه رواة المعارضة. لذلك فان أقسام السيرة المعلنة كانت نوعين من الكتابة:-
1. مفتتح عرفاني يتصل بجوهر المخطوط، الذي كتُب قبل (واقعة دكة المدفع) من خلال:- أ. القسم الأول / إشراق الأسماء. ب.القسم الثاني / إشراق الصفات. ج.القسم الثالث / اشراق الذات.
2. وقائع السيرة التي رويت شفاهيا بعد (واقعة دكت المدفع) من خلال: أ.القسم الأول / عبد الله البصير.
ب. القسم الثاني / مدلول اليتيم.
ج.القسم الثالث / عذيب العاشق.
فان الشك يتسرب الى عد م واقعية تأليف (السيد نور) لأقسام السيرة برغم تأكيد الراوي السابع على ان (.... (السيد نور) لم يكتف بتسطير الأقسام الثلاثة الشائعة من (السيرة) وانما أعقبه بكتابة القسم الرابع / (المحظور). ذاكرا فيه الحقائق كما جرت في (واقعة دكة المدفع)) (ص215). وهو ما يناقض جوهر المخطوط المعروف بالتصوف والعرفان اولا، وثانيا ان (السيد نور) لم يدون ما يمكن ان يقع لنقف على احتمال الخطأ والصواب، وانما (سطر الحقائق كما جرت) في واقعة لم تكن قد حدثت بعد، مع علمنا المسبق بافتراقه عن (مطلق) قبل هذه الواقعة بزمن طويل وغيابه الواقعي من خلال النفي الاختياري او الموت الحقيقي او المفترض له وحضوره الرمزي المستمر طيلة احداث السيرة، والذي جعل منه عنصر تثوير دائم يحث على النضال ضد المشيخة سواء أكان ذلك باختيار منه أم لحاجة الرواة الى ذلك.
ان ما وصلنا من خلال جمع القسم الرابع من السيرة كان الراوي السابع قد توصل اليه من خلال المضامين ((... انتهى دور الشكل، ليبدأ دور المضمون... مستهديا سبيلي نحو أوراق (السيد نور) من خلال المضامين)) (ص287) وهو ما اخذ ((يشحذ)... أذهان الأجيال اللاحقة – التي تلت فقدان النسخة الأصلية – فأخذت تختلق عن ذلك المضمون ما اسعفتها به سعة خيالها) (ص109).
وهو ما يتفق ورؤيا المؤلف / الركابي ((اذ ان هدفي لم يكن بطبيعة الحال جمع المتن القديم لـ (الراووق).. بل كنت إزاء متن جديد للمخطوط – اخذ بسبب روايتي هذه – بالظهور)) (ص288) بل ان القدر ((... لم يربط بين (شبيب طاهر الغياث) و (بدر فرهود الطارش) بتلك الصداقة الا من اجل غاية وحيدة لا تتعدى أحياء مضمون (الراووق) من خلال روايتي هذه)) (ص21). فنكون والحال هذه امام متن جديد خلقه المؤلف من خلال عد الثيمة المتغيرة المرتكز الأساسي لعمله، تلك الثيمة / السيرة التي تحتوي ((الكتابات التي كانت فصولا في المخطوط الأصلي .. صفحات (ذاكر القيم) و (شبيب طاهر الغياث) ومشروع (بدر فرهود الطارش) في إقامة متحفه..)) (ص288), غير أنها اتجهت في الوقت نفسه الى محاولة استثمار تلك المتناقضات مجتمعة لكتابة رواية معتمداً في ذلك لتحقيق رغبته الإبداعية على المضامين، وهو ما يتفق مع التوجه العام للرواة وما فعلته الأجيال التالية على فقدان النسخة الأصلية معبرين عن الرغبة الحقيقية او المفترضة لـ(لسيد نور) من خلال الجوانب العرفانية للراووق الذي لم تكن مرجعيته مقتصرة عليه وحده، بل هي مزيج من مصادر عدة كان من بينها نصوص (ابن العربي) و (عبد الكريم الجيلي) (ص325).
ولغرض الوصول الى نتائج تتعلق باستثمار الزمن المفترض في السيرة المطلقية على تعدد أنواعها وتحوله فيها من اطار تتشكل فيه الأحداث وتنمو الشخصيات وتتطور من خلاله الى عنصر من عناصر العمل الروائي يؤدي وظيفة دلالية فيها. نلاحظ:
1. تعدد السير:
أ. سيرة رواة المعارضة / الاقسام الثلاث من السيرة المطلقية الشائعة في المتن الروائي.
ب.سيرة رواة المشيخة / التي لم ترد تفاصيلها في المتن الروائي، لكنها نقيض الشائع فيها.
ج.السيرة المتشكلة بفعل (السيد النور) او باسنادها اليه / القسم الرابع من السيرة الشائعة في المتن الروائي.
د.السيرة التي شكلها المؤلف التي هي مزيج من عدة مصادر.
2. ان السير وان تعددت فأن (أ، ب، ج)كانت هي الشائعة في المتن الروائي وأنها تداخلت مع بعضها وشكلت سيرة واحدة، هي المتن الجديد للراووق / الرواية. بينما بقيت سيرة رواة المشيخة مغيبة في المتن شائعة شعبيا.
3. اتهام سيرة رواة المشيخة بالتحريف والتزييف. بينما السير الأخر تم التوصل إليها من خلال(المضامين).
ما تقدم يقودنا الى الاعتقاد بأن الوصول الى تكوين تلك السير عن طريق المضمون يعني وجود هدف مركزي واحد لجميع السير – عدا سيرة رواة المشيخة – وان اختلفت التفاصيل بينها، مما يؤدي بنا الى الاستنتاج بأن التفاصيل لا تشكل الاهمية ذاتها التي يشكلها الهدف من إشاعة السيرة المغيبة شعبيا من اجل فضح المشيخة / السلطة التي تعمل على منع ظهورها للسبب ذاته. وهي غاية تواجهها صعوبات جمة من بينها إمكانات السلطة / المشيخة ووعي الأخيرة لهذه الغاية مما دفع برواة المعارضة الى اعتماد مجموعة أساليب تحفز البواشق على النضال ضدها من خلال إشاعة السيرة المطلقية المفسرة سياسيا على وفق رؤيتها السياسية، ومن ثم خلق الظروف الموضوعية المناسبة عبر خلق الاستعداد النفسي لتغييرها. فكان من بين تلك الأساليب استثمار زمن السرد وتنويع علاقاته بوقائع السيرة نفسها واعتماد المضمون دليل عمل يوجه الأقسام التي يروونها من السيرة. من خلال:
1. سرد وقائع السيرة بأقسام متعددة / مراحل وبفترات زمنية متباعدة نسبيا.
2. إسناد رواياتهم للأقسام، وهي بمثابة شهادات، الى (السيد نور) لخلق التعاطف مع السيرة من خلال هذه الشخصية التي تحظى بتعاطف البواشق ,وكان للتسمية دلالتها الرمزية، حيث ان صفة (السيد) تعني الزعامة الدينية، والاسم الشخصي (نور) يناقض الظلمة. وهو مشتق من اسمه تعالى (النور) بينما القطب المضاد (مطلق) فان الاسم يوحي بالصفة الاستبدادية للشخصية سواء في الرأي أم في زعامة البواشق. وهي رموز تم استثمارها بشكل مؤثر في السيرة والمخطوط ومن ثم في الرواية.
3. اعتماد كل راو للقسم الذي رواه راو سبقه من رواة المعارضة واعطائه صفة الحجة على نفسه وعلى المتلقي مع ادعاء الجهل بالقسم الذي يليه، مما يتيح للراوي التالي إمكانية التصرف على ضوء معطيات الظرف المعاش وتكييفه على وفق المتغيرات اللاحقة.
4. ان عملهم وان اتصف ظاهريا بالعفوية، فانه يمتاز بالدقة والتنظيم، مما يوحي بان كل راو روى القسم الذي يناسب معطيات مرحلته من خلال المفتتح العرفاني لكل قسم، ومن ثم تسريب المعلومات المراد اشاعتها من خلال ذلك المفتتح, والاكتفاء بتلك المعلومات، وان لم تكن كافية لتغطية السيرة المطلقية، على أمل إكمالها من قبل راو سوف يليه حتما، ومما يشحذ أذهان الأجيال اللاحقة على فقدان النسخة الأصلية من المخطوط للبناء على مضمون ذلك القسم وما سبقه من أقسام، وخلق الاستعداد النفسي الكافي لتقبل القسم الختامي.
5. ترك القسم الختامي يروى مباشرة من قبل (السيد نور) لإضفاء المصداقية عليه بعد ان هيأت أسبابها قبل هذه المرحلة.
مما تقدم نرى ان التفسير السياسي اللاحق على تشكيل السيرة، وان كان لا يتفق مع الواقع الاجتماعي المعاش في تلك الحقبة من حياة البواشق، وهو واقع سبق القول عنه، غير مسيس، بحدود المعلومات التي وصلتنا من خلال السيرة المطلقية، قد سيطر على الرؤيا الفكرية والفنية في بناء الرواية، وحول الزمن من اطار تنمو فيه وقائع السيرة المطلقية الى عنصر يؤثر في خلق البنية الدلالية لها عبر تنوع العلاقات بين زمن السرد للأقسام الثلاثة منها وزمن الأحداث الفعلي للأقسام نفسها وبين زمن (السيد نور) وعلاقته بوقائع لم تحدث بعد. وهو ما يتفق والرؤيا السياسية لرواتها ومن بينهم الراوي السابع, الذي حاول استثمارها لإنجاز عمل إبداعي /رواية, كي يجعل لحياته معنى, فيكون الذكاء السياسي للرواة والذي تتطلبه مرحلة نضالية متقدمة من حيث الأداء السياسي، قد كيف نفسه الى التصدي الى السلطة / المشيخة، وما يمكن ان يتواصل من تسميات مماثلة, من خلال ما يمكن ان تدعيه سبب شرعيتها في الاستمرار في زعامة البواشق عبر الاستثمار المتنوع لزمن السرد وزرع الشكوك في هذه الشرعية، ومن ثم انتزاع هذا السلاح من يدها، او تحييده، ليبدأ البحث عن مصدر آخر لتلك الشرعية والذي لا تستطيع خلقه بيسر لوجود الاتجاه المضاد القادر على فضحه من خلال إصراره على النضال وبوتائر متصاعدة, وهو ما يفسر استمرار ظهور رواة جدد بعد الرواة الشفاهيين، كانوا اكثر قدرة على تفحص السيرة من خلال التدوين / التوثيق / التحقيق ومن ثم الاستثمار، والتؤكيد من ان المحاولات ستستمر الى الأبد.



ايوب صابر 05-06-2012 03:25 PM

سابع ايام الخلق" للروائي عبد الخالق الركابي بطبعة جديدة
10. 10. 2011


صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الرابعة من رائعة الروائي العراقي عبد الخالق الركابي "سابع أيام الخلق " بحلة جديدة والطبعة هذه منقحة ومتميزة بتجليدها الفني . تقع الرواية في 400 صفحة من القطع المتوسط .
ولوحة الغلاف للفنان الايراني مرتضى كاتوزيان .
يقول عنها الناقد العراقي طراد الكبيسي في مقدمة مسهبة يتناول فيها الرواية من جوانبها المختلفة :
في ( سابع أيام الخلق ) ليس هناك حدث بمعنى الحدث في رواية القرن التاسع عشر مثلا ، لذا لا نجد الشكل الروائي يتخذ تسلسل : البداية ، الوسط . النهاية ، الذي يراه البعض عاكساً للزمن والتاريخ .
اننا ازاء ( شكل مكاني ) يتهرب من الزمن المحسوس عبر الزمن المتخيل ، ويتموضع في جماليات تعتمد الحركة التصويرية في متابعة البحث عن مخطوط ( الراووق ) وتحقيقه للوصول الى حقيقة ما حدث في اليوم الذي سمي بـ( دكة المدفع ) ، ولذا فإن القارئ للرواية لا بد أن يحس التكرار واللاتزامن ، فالرواية مقيدة بموضوع مغلق ، والأحداث اليومية المتماثلة والشخصيات تتحرك في حركة دائرية مغلقة هي الاخرى بحكم المكان المحدد .
ويبدو أن أماكن الطفولة والشباب للمؤلف / السارد العليم / كان أكثر من تذكر أيام خلت ، بل كان آسراً الى الحد الذي جُعل وكأنه موطن الخلق الأول ، وما أعقبه من أحداث تروى ، عادة ، بتخيلات لا تخلو من أسطورية ومجريات عجائبية على نحو ما بني عليه كتاب ( ألف ليلة وليلة ) : حكايات تسرّد ، تتخللها رؤى صوفية عرفانية مستقاة من كتب المتصوفة أمثال ابن عربي وعبد الكريم الجيلي وغيرهم ، حتى تصل الحال ب ( مدينة الاسلاف ) الى يوتوبية : (مدينة الحروف والكلمات ) ينكشف فيها المرء عن ذاته ويكشف الآخرين من خلال عمل ( رواية ) .
تجدر الاشارة الى أن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أصدرت للركابي أعمالاً أدبية أخرى منها :
اطراس الكلام 2009 ، و سفر السرمدية 2005
عبد الخالق الركابي هو قاص عراقي ولد في محافظة واسط في قضاء بدرة عام 1946 وتخرج من اكاديمية الفنون الجميلة ثم عمل في التدريس تسع سنوات.بدأ عبد الخالق الركابي حياته الادبية شاعراً واصدر مجموعة شعرية عام 1976 بعنوان (موت بين البحر والصحراء) ، و بعد هذه المجموعة الشعرية بدأ بكتابة القصة القصيرة والرواية فأصدر عام 1977 روايته الأولى (نافذة بسعة الحلم).
اصدر عدد من الاعمال القصصية والروائية والشعرية منها (نافذة بسعة الحلم) وهي رواية.(الموت بين البحر والصحراء) وهو ديوان شعر.، (حائط البنادق) وهي مجوعة قصصية ،(من يفتح باب الطلسم) وهي رواية، (مكابدات عبد الله العاشق) هي رواية.، (الرواق) هي رواية احرزت المرتبة الأولى عام 1987.،(سابع ايام الخلق) وهي رواية.

ايوب صابر 05-06-2012 03:26 PM

عمل إبداعي متميّز على الصعيدين العام والخاص
الكتاب: سابع أيام الخلق
المؤلّف: عبد الخالق الركابي
الناشر: المؤسّسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2011

> لا يجيد الروائي عبد الخالق الركابي لعبة الترويج للنفس، وهي صناعة باهتة لكل من صار يعبث على الورق بركام من السخام، ويطلق عليه زوراً تسمية «رواية»، كما يطلق منحرف على نفسه لقب قديّس. هذا الروائي تعرّض لحادث مؤسف أوشك على أن ينهي حياته، وتوقّع محبّوه أن ينتحر بعد تلك الاصابة التي حوّلته كومة لحم لا تتحرّك إلا من خلال كرسي متحرّك ولا شيء فيه ـ في المراحل الأولى ـ يتحرّك غير رموشه...! ولولا الدعم والمؤازرة اللذان تلقّاهما من حفنة أصدقاء، ومن زوجته على نحو خاص، لمات الركابي على كرسيّه منتحراً في أقرب فرصة تحرّكت فيها يده بصورة مفاجئة بقوّة الأمل والحب والصداقة.
وهذا الروائي الذي توقّع كثيرون أن ينهي حياته من فوق كرسيّه المتحرّك، فاجأ الجميع حين قرّر إطلاق النار لا على نفسه، بل على التاريخ والزمن والحقارة البشرية التي صار هناك من يحتفل بها ويتلقّى برقيّات التهاني بسبب موهبة الحقارة وحدها..! إنه زمن عراقي رديء تماماً. ويبدو أن عبد الخالق الركابي، الذي يعيش الكتابة الروائية بصدق وصمت وسرّيّة ومن دون ضجيج، لم يعد مشغولاً بما كتب أو يكتب عنه، لأن كل هذا لن يفيده بشيء في اللعبة الروائية الشديدة المراوغة والالتباس. فمن حصار الداخل على الابداع الروائي، والرواية تزدهر في مناخ الحرّيّة، الى حصار الخارج حيث مرجعيّات النقد والكتابة هي مرجعيّات حزبية، عائلية، قبلية، شخصية، مزاجية، ويغيب تماماً السؤال الثقافي، وتتلاشى المعايير النقدية الجدّيّة لمصلحة الهوى والمزاج والرغبة والعلاقة، فليس غريباً أن يمدحك شخص ما ويتوقّع أن تجلب روايتك لك الأعداء، وتجد نفسك كما قال أحدهم «داخل نسيج عنكبوت، من دون رؤية العنكبوت» وبعد أيام لا أكثر، يقوم هذا العنكبوت نفسه، وبلا مقدّمات، بقيادة حملة صبيانية وغوغائية كأنه أراد أن يثبت نبوءته، أو أراد قول ما هو أهمّ، وهو: إن القول وعدمه/ المدح والذمّ/ الحب والكراهية/ يتساويان في تقاليد الغوغاء، وهذه طبيعة العقل المنهار. وحسب الناقد حمزة الحسن، فإن «سابع أيام الخلق» هي ملحمة روائية عراقية تستحق احتفالية خاصّة نسيها النقد في الخارج، ولم يتعرّض لها أحد، كما لو أن الركابي متّهم بارتكاب جريمة العيش في وطن تقلّصت حدوده الى مجرّد كرسي متحرّك، يعيش ويكتب ويحلم داخله ويحاكم الأزمنة. قال عنها الشاعر المبدع رعد عبد القادر: «إن الروائي الركابي قد ارتقى في ـ سابع أيام الخلق ـ الى مستوى الأعمال الابداعية المتميّزة على الصعيدين الخاص والعام. والرواية بعد ذلك هي نوع من الأعمال التي تعادل حياة، وهي ـ أيضاً ـ رواية بحث عميق في المعرفة الشرقية ودقائقها، تتمتّع هندستها بعمليات خلق مرئيّة وغير مرئيّة...».
هذه الرواية كتبت سنة 92، وطبعت سنة 94، ووزّعت لأول مرّة سنة 97، وللمرّة الثانية، وهذه الفترة بين الكتابة والطبع، أعطت الروائي، كما قال هو في مقابلة، فرصة إعادة النظر في النص أكثر من مرّة، وهو أمر لم يحصل في أعماله الأخرى.
تتعرّض هذه الرواية الملحمة الى فترة قرون عدّة من تاريخ العراق، وتعتمد في البناء على مرجعيّات تاريخية ومعرفية وأسطورية مختلفة، من أجل تدعيم فكرة النص، وتعزيز البناء الروائي، وهذه المرجعيّات التي وضعت كخلفية للتخيّل، لم تستخدم كما هي، بل قام الروائي بمنحها بعداً أسطورياً، وهنا أيضاً يفترق الروائي عن المؤرّخ.
والرواية تعتمد على مستويين من الزمن: زمن الحكي، أي زمن الرواية، وزمن الأحداث؛ وكما قال الروائي، إن البؤرة الرئيسية في الرواية ونقطة تلاقي الأزمنة هو: عملية الخلق. أي أن النص يُخلق خلال الكتابة، وخلال تداخل الأزمنة، وتلاقي الشخوص، وليس قبل أو بعد ذلك. وكما حصل في رواية أندريه جيد ـ مزيّفو النقود ـ، فإن إحدى شخصيات رواية الركابي هو روائي ينعزل من أجل كتابة رواية، وهذه طريقة في الحكي الروائي تعتبر من تقنيّات الحداثة الروائية، حيث يقوم الروائي بمساءلة نصّه من داخله... كتب الدكتور مهنّد يونس عن هذه الرواية في مقال له: في «سابع أيام الخلق» هناك بحث لا ينتهي، وهناك رواية داخل أخرى، ولكن بتقنيّة خاصّة تختلف كثيراً عن روايات أخرى من هذا النوع. ونذكر في هذا المجال رواية جيد ـ مزيّفو النقود ـ حيث نعثر من بين الشخصيات على كاتب روائي يكتب روايته المستقلّة داخل رواية جيد الكبيرة... «سابع أيام الخلق» هي أيضاً عودة الى أساليب الحكي التراثية، ومحاولة كتابة روائية بلغة تراثية، وهذه العودة، كما يقول الروائي، ليست استنساخاً، بل استبطاناً وبحثاً عن ذات مغيّبة. وفي هذا النوع من الروايات تقترب تجربة الركابي مع تجارب عربية أخرى، كتجرية الروائي المصري جمال الغيطاني في روايته «الزيني بركات»، وتجربة الروائي المغربي سالم حميش في روايته «مجنون الحكم»، وهي تتحدّث عن فترة حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وهي شخصية مثيرة للغرابة والتنوّع والفرادة. إن هاجسنا في هذا العرض هو توسيع دائرة النقاش والرؤية والفحص والسؤال، من أجل خلق مرجعية نقدية وثقافية غير هذه التي نعرفها، والخروج من حبس القراءة الواحدة والرأي الواحد الى فضاءات أوسع في الكتابة والحرّيّة، حتى ولو كان ذلك لا يمرّ إلا من خلال أشراك كثيرة، وفخاخ المصادرة، والرأي الواحد والشبيه، غير المسموح بتعدّده إلا عبر التناسخ والتشابه على حساب المغامرة الابداعية، وهي مغامرة الحرّيّة أصلاً >

ايوب صابر 05-06-2012 03:27 PM

عبد الخالق الركابي
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
عبد الخالق الركابي هو قاص عراقي ولد في محافظة واسط في قظاء بدرة عام 1946 وتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة ثم عمل في التدريس تسع سنوات.
حياته الأدبية</SPAN>

بدأ عبد الخالق الركابي حياته الأدبية شاعراً واصدر مجموعة شعرية عام 1976 بعنوان (موت بين البحر والصحراء)، وبعد هذه المجموعة الشعرية بدأ بكتابة القصة القصيرة والرواية فأصدر عام 1977 روايته الأولى (نافذة بسعة الحلم).
أعماله</SPAN>
  • (نافذة بسعة الحلم) وهي رواية.
  • (الموت بين البحر والصحراء) وهو ديوان شعر.
  • (حائط البنادق) وهي مجوعة قصصية.
  • (من يفتح باب الطلسم) وهي رواية.
  • (مكابدات عبد الله العاشق) هي رواية.
  • (الراووق) هي رواية احرزت المرتبة الأولى عام 1987.
  • (قبل أن يحلق الباشق)حازت جائزة أفضل رواية عراقية عام 1990
  • (سابع ايام الخلق) وهي رواية.

ايوب صابر 05-06-2012 03:28 PM

السيرة الذاتية | عبد الخالق الركابي

• ولد في العراق / محافظة واسط/ قضاء بدرة عام 1946.
• بدأ شاعراً ونشر قصائده أواخر الستينات وأصدر مجموعته الشعرية الوحيدة (موت بين البحر والصحراء) عام 1976/ مطبعة السعدون.
• أكمل دراسته الجامعية عام 1970 وحصل على شهادة بكالوريوس في الفنون التشكيلية.
• عمل في سلك التدريس تسعة أعوام . وبعدها عمل في مجال الثقافة.
• عمل مشرفاً لغوياً في مجلة آفاق عربية في منتصف الثمانينات.
• عمل سكرتيراً لتحرير مجلة أسفار.
• عمل محرراً في مجلة الأقلام حتى عام 2003.
• عضو المجلس المركزي في إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين.
• عضو جمعية التشكيليين العراقيين.
• عضو نقابة الصحفيين العراقيين.
• حاز جائزة الدولة في نطاق الرواية والمسرح أكثر من مرة.
• أُختير الروائي ضمن أربع روائيين عالميين من أجل كتابة التاريخ العربي الحديث على شكل رواية في إطار جائزة قطر العالمية للرواية، وقد ترجمت روايته إلى اللغة الإنكليزية والإسبانية والفرنسية، وستصدر في السنة القادمة.
• فازت روايته (الراووق) بجائزة معرض الشرق الكبير في بغداد عام 1987.
• فازت روايته (قبل أن يحلق الباشق) بجائزة أفضل كتاب أدبي عام 1990 عن دار الشؤون الثقافية العامة.
• فازت روايته (سابع ايام الخلق) بجائزة أفضل رواية عراقية عام 1995. كما أُختيرت الرواية نفسها من قبل الاتحاد العام للكتاب العرب ضمن أفضل عشرين رواية عربية في القرن العشرين وقد ترجمت إلى اللغة الصينية على أمل ترجمتها إلى الإنكليزية والفرنسية والروسية، وقد أقرت لطلبة الدكتوراه /قسم الآداب للعام 1995 من قبل جامعة بغداد/ كلية الآداب/ قسم الدراسات العليا.
• في عام 1995 منحه نادي الجمهورية شهادة تقديرية كما أقام النادي نفسه حلقة دراسية حول روايته (سابع أيام الخلق).
• حولت بعض نتاجاته إلى مجالات السينما والتلفاز، منها (حائط البنادق) سهرة تلفزيونية، وفيلم (العاشق) عن روايته مكابدات عبد الله العاشق إخراج الفنان الفلسطيني محمد منير فنري، وفيلم (الفارس والجبل) عن قصته (الخيال) إخراج محمد شكري جميل.
• أصدر المؤلفات الآتية:
• نافذة بسعة الحلم/رواية/1977/منشورات وزارة الإعلام.
• من يفتح باب الطلسم/رواية/1982/منشورات دار الرشيد/ بغداد.
• مكابدات عبد الله العاشق/رواية/1982/منشورات دار الرشيد/ بغداد.
• حائط البنادق/ قصص قصيرة/ 1983/منشورات دار الرشيد/ بغداد.
• الراووق/ رواية/ 1986/ منشورات دار الشؤون الثقافية العامة.
• قبل أن يحلق الباشق/ رواية/ 1990/ منشورات دار الشؤون الثقافية /بغداد.
• سابع أيام الخلق/صدرت الطبعة الأولى عن دار الشؤون الثقافية العامة بغداد عام 1994/ وصدرت الطبعة الثانية عن دار بيسان /بيروت عام 2000/ وصدرت الطبعة الثالثة عن دار المدى /بيروت/2009.
• البيزار/ مسرحية/1999/ منشورات دار الشؤون الثقافية العامة. فازت بجائزة الدولة للمسرح. وصدرت الطبعة الثانية/دار الموسوعات العربية/بيروت.
• نهارات الليالي الألف/ مسرحية/ 2001/ منشورات دار الشؤون الثقافية العامة/طبعة أولى. وصدرت الطبعة الثانية/ دار بيسان/ بيروت.
• أطراس الكلام/ رواية/2002/دار الشؤون الثقافية العامة بغداد/طبعة أولى/ وصدرت الطبعة الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر /2009.
• سفر السرمدية/ طبعة أولى صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/2005.وصدرت الطبعة الثانية عن دار الشؤون الثقافية العامة/بغداد 6005.
• صدر عنه كتاب (ثلاثية الراووق/ الرؤية والبناء) للدكتور قيس كاظم الجنابي/دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/2000.
• صدر عنه كتاب (الركابي عرّاب اللاشعور الماكر) تأليف الدكتور حسين سرمك حسن/ بيروت/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/2009.
• يصدر عنه قريباً كتاب (أثر الزمن في خلق البنية الدلالية في رواية “سابع أيام الخلق”) للأستاذ حسن كريم عاتي.
• أُتخذت رواياته مواضيع لثلاث رسائل ماجستير هي: (تحليل الخطاب الروائي في أدب عبد الخالق الركابي) /للسيدة ماجدة هاتو هاشم/جامعة بغداد/ كلية الآداب/2003.
(عبد الخالق الركابي روائياً) للأستاذ رحيم علي جمعة الحربي/ جامعة الموصل/1998.
(بناء الشخصيات في روايات عبد الخالق الركابي) للأستاذ عباس محسن خاوي/ جامعة القادسية/1998.

ايوب صابر 05-06-2012 03:28 PM

عبد الخالق ألركابي والكتابة الروائية لتاريخ العراق الحديث
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل

ليس كفؤاد التكرلي، وعبد الخالق ألركابي من وثق لتاريخ العراق الحديث والمعاصر روائيا .ونكاد نستطيع أن نقرأ التاريخ العراقي الحديث والمعاصر بأجوائه " المعقولة "، و"الغرائبية " ، فيما دبجه يراع هذين الكاتبين الروائيين .ولقد كتبت عن الروائي فؤاد التكرلي منذ زمن في كتابي "تاريخ العراق الثقافي " . وكان في بالي أن أكتب عن عبد الخالق ألركابي إلا أن بعضا من الأمور ، والانشغالات حالت دون ذلك وقد تيسرت الفرصة ألان .
عبد الخلق محمد جواد علي محمود ألركابي ،وهذا هو اسمه الكامل ، من مواليد قضاء بدرة بمحافظة واسط أي الكوت سنة 1946 .درس في مدارس الكوت ،ثم جاء بغداد ودخل أكاديمية الفنون الجميلة وحصل منها على شهادة البكالوريوس في النحت سنة 1970 . عمل في التدريس قرابة تسع سنوات ومن المدارس التي درس فيها مادة التربية الفنية " ثانوية بدرة " في محافظة واسط ..ثم اتجه نحو الكتابة فعمل مشرفا لغويا في مجلة آفاق عربية (البغدادية ) أواسط الثمانينات من القرن الماضي وسكرتيرا لتحرير مجلة "أسفار" ومحررا في "مجلة الأقلام "حتى سنة 2003 .انتخب عضوا في المجلس المركزي للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في إحدى الدورات ..وهو عضو في جمعية التشكيليين العراقيين، ونقابة الصحفيين العراقيين . نشر أولى قصائده في أواخر الستينيات من القرن الماضي في مجلة الآداب البيروتية) .)
بدأ عبد الخالق الركابي ، حياته الأدبية فنانا تشكيليا ، وشاعرا ، واصدر مجموعة شعرية سنة 1976 بعنوان : (موت بين البحر والصحراء) . و بعد هذه المجموعة الشعرية اليتيمة بدأ بكتابة القصة القصيرة والرواية ، فأصدر سنة 1977 روايته الأولى : (نافذة بسعة الحلم) ، ثم اصدر (من يفتح باب الطلسم) وهي رواية سنة 1982 ، و(مكابدات عبد الله العاشق) وهي رواية سنة 1982، و(حائط البنادق) سنة 1983وهي مجوعة قصصية. و(الراووق) 1986 وهي رواية أحرزت المرتبة الأولى من بين الروايات العراقية سنة 1987، و(قبل أن يحلق الباشق)وحازت جائزة أفضل رواية عراقية سنة 1990 ومسرحية البيزار 1990و(سابع أيام الخلق) وهي رواية، سنة 1994 و( اطراس الكلام ) 2002 و( سفر السرمدية) 2005 ،.كما اصدر مسرحية في ثلاثة فصول بعنوان: (نهارات الليالي الألف) 2001.
يقول الأستاذ قيس كاظم الجنابي في كتابه " ثلاثية الراووق :الرؤية والبناء دراسة في الأدب الروائي عند عبد الخالق ألركابي " الصادر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد سنة 2000 إن سبب تحول ألركابي من الشعر إلى الرواية هو انه "أحس بأن الشعر غير قادر على استيعاب تجربته " ،ولعل ولعه بالتاريخ العراقي الحديث وخاصة الفترة العثمانية 1516-1918 والصراع العثماني – ألصفوي الفارسي حول الاستحواذ على العراق وما نجم عن ذلك من احتلال بريطاني وتشكيل حكم وطني وماتبع ذلك من متغيرات سياسية واجتماعية ، جعله يكتب بتأن وتأمل كبيرين "يقرأ التاريخ العراقي ...ويتأمل الصراعات العديدة فيه ،فهو يستعرض احتلال إيران للعراق في عهد الشاه إسماعيل ألصفوي (914-930 هجرية -1508-1523 ميلادية ) .ثم يحاول الإحاطة بتاريخ العراق تحت حكم الدولة العثمانية مع إعطاء أهمية خاصة للوالي المصلح المتنور مدحت باشا خلال توليه لولاية بغداد 1286-1289 هجرية -1869-1872 ميلادية ) ،ثم يكمل الأحداث حتى الاحتلال البريطاني 1914-1918 فيستمر في ذلك مارا بحرب حزيران –يونية سنة 1973 .وهذا العرض التاريخي عبر ثلاثة أعمال روائية يشكل التفاتة مهمة لقراءة تاريخ العراق الحديث وهو ما دعاه إلى إعادة صياغتها مجددا في ثلاثية الراووق " . ومن الطريف أن ألركابي يقرأ التاريخ العراقي الحديث وفق منهجية تاريخية لايعمل بها إلا في جامعة السوربون فهم هناك يبدأون تدريس التاريخ بالفترة المعاصرة عندما يدرسونه للطلبة ويعودون إلى الفترتين الوسيطة ثم القديمة ..وهكذا نرى بأن الركابي ابتدأ بروايته الموسومة " نافذة بسعة الحلم " والتي نشرت سنة 1977 والتي تتعرض لمرحلة زمنية تمتد من حرب حزيران –يونيو 1967 حتى حرب تشرين –اكتوبر 1973 .
يقف الأستاذ الدكتور شجاع العاني في كتابه " البناء الفني في الرواية العربية في العراق " عند هذه الرواية ، ويطلق على ما فعله ألركابي في روايته : " نافذة بسعة الحلم " حين اختصر أحداثها في يوم واحد فقط ، مصطلح " الكثافة الزمنية " ويقول أن زمن هذه الرواية لايتجاوز بضعة ساعات ، وهي تتركز حول بطلها (حازم ) وقد جعل زمنها الروائي يبتدأ عند (الصباح) حيث مرحلة الطفولة ثم يبلغ (الظهيرة )حيث مرحلة الشباب وينتهي عند (المساء) حيث إصابته بالعوق في حرب اكتوبر -تشرين الأول. ويقينا ان الروائي الركابي أراد القول أن الزمن لايدور في صالح الأمة ، فالحرب قد انتقلت بها من النهضة إلى السقوط ، ومن الحركة إلى السكون ، ومن الاستقرار إلى الفوضى ، ومن الحلم إلى المأساة .بطل الرواية يتعوق في الحرب ويخفق في الزواج لكن مع هذا فالبطل الكلكامشي يظل يقظا في شخصية (حازم )الذي يروي الأحداث بطريقة متوازنة .يقول الجنابي ان حازم بطل الرواية حينما يروي الأحداث فأنه استطاع ان يعبر عن أزمته بطريقة أمنت له التوازن بين جو الهزيمة الخانق الذي يعيشه ، وأفق الانتصار الذي يصبو إليه .أما رواية " من يفتح باب الطلسم " فأنها تطرح فكرة نهاية الحكم العثماني للعراق مشيرة إلى احد أبواب مدينة بغداد وهو " باب الطلسم " الذي حسب السلطان مراد الرابع 1638 انه بسده سيمنع أي فاتح آخر من دخول بغداد ولكن بغداد ظلت عرضة للغزو والاحتلال ..ولم ينس الروائي ألركابي أن يوثق لكثير مما أصاب العراقيين جراء أعمال الغزاة وولاتهم من ماس كبيرة . وفي " مكابدات عبد الله العاشق " يشير ألركابي الى تأثير بلدته الحدودية : بدرة والى وادي الكلال والى ما اختزنته ذاكرته عن انقطاع المياه وسعي الفلاحين إلى تعميق صدور الأنهار عند خط الحدود العراقية –الإيرانية، ومصرع احد الفلاحين نتيجة ذلك، وتلك هي خلفية هذه الرواية وخلفية معظم روايات الركابي التي قال عنها الركابي نفسه في شهادته التي سجلها الناقد والأديب باسم عبد الحميد حمودي في نصه : " الناقد وقصة الحرب" أنها تعتمد تنوير التاريخ العراقي بل تثويره من خلال التركيز على الواقع الاجتماعي .ومن الطريف أن يكون عنوان ثلاثية ألركابي الراووق تعني مخطوطة كتبها احد أبناء عشيرة البواشق لكنها فقدت ..والراووق المصفاة التي ينقى فيها الماء من كل شائبة ولابد من أن تبذل الجهود للعثور على الراووق لتكون أساسا لمعرفة الأصول، وأداة للنهوض، والتخلص من الظلم والاستبداد والاستعباد ، والبدء بالثورة ومن هنا فأن الرواية تتوقف عند ثورة العراقيين الكبرى ضد المحتلين الانكليز وهي المعروفة ب"الثورة العراقية الكبرى " التي أجبرت الانكليز على تغيير سياستهم والشروع بالاستجابة لمطالب العراقيين في إقامة الحكم الوطني .
أقام نادي القصة في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بمقره في بغداد احتفالية خاصة بالروائي ألركابي تحدث فيها عدد من النقاد وأدارتها السيدة هند القيسي وفي هذه الاحتفالية التي نقل لنا أحداثها الأستاذ محمود النمر في جريدة المدى يوم 26 آذار-مارس 2011 تحدث ألركابي عن منجزه فقال : " إن جدية الحداثة ، والسخرية منها أمر سبق فيه العراقيون العرب الآخرين ، فقد عرفوا الحداثة قبل غيرهم تاركين لنا أيضاً أزمة الحداثة ونحن نخوض أزمة الحداثات في الفن التشكيلي والشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد...".
وأضاف الركابي لقد بات أن الحداثة من الأمور البديهية حتى أن الروائيين انتظروا طويلاً إلى سؤال مفاده ،أتصح كتابة الرواية على طريقة روائيو القرن التاسع عشر قرن الروايات العظيمة والروائيين العظام..؟ أم على الطريقة الحديثة طريقة ايريك وكافكا وجويس ،وكما هو متوقع لابد من تبني الاتجاه الأول في مجتمع لا يزال غارقا في ظلام الأمية، وكما حدثت في مجال العلوم الدقيقة قطيعة ابستمولوجيا ، حسب مصطلح باشلار مع الاتجاهات القديمة ، حدث الأمر نفسه في مجال العلوم الإنسانية والرواية من ضمن هذه الأمور ، وعلى هذه الشاكلة مثلت لدي في روايتي – سابع أيام الخلق – هذه القطيعة ،وبعد كتابة خمس روايات هي : نافذة بسعة الحلم ، ومن يفتح باب الطلسم،ومكابدات عبد الله العاشق ، والراووق ، وقبل ان يحلق الباشق . وانسياقا مع قراءاتي التي كانت تنساق إلى الفلسفة المعاصرة وجدت نفسي منهمكا إلى كتابة رواية جديدة في 1992هي - سابع أيام الخلق – لتظهر سنة 1994..." .
كتب عنه عدد من النقاد العراقيين منهم: الأستاذ عبد الرحمن طهمازي ، والدكتور علي جواد الطاهر ،والدكتور محسن الموسوي ، والأستاذ قيس كاظم الجنابي والأستاذ حاتم الصقر ، والأستاذ عيسى حسن الياسري ، والأستاذ حسين سرمك حسن ، والأستاذ مهند يونس والأستاذ حمزة الحسن .كما حاوره كثيرون منهم الأستاذ منذر عبد الحر في " جريدة الشرق الأوسط " وقال عنه انه من المبدعين الذين تميزوا بغزارة النتاج الأدبي، فقد قدم عددا من الروايات والمجموعات القصصية، وبدأ عالم الكتابة والنشر بمجموعة شعرية، سرعان ما تجاوزها إلى عالم الرواية. وتعد أهم مسألة تطرق إليها ألركابي في الحوار هي الحديث عن تكوينه الفكري والثقافي وقراءاته الدائمة والجديدة حين قال أن قراءاته اليومية تتوزع بين كتب التراث، والفلسفة ، والشعر والرواية في الغالب. يقول ألركابي : " ما أنا منهمك في قراءته هو كتاب محمد عابد الجابري (تكوين العقل العربي) الذي سبق أن قرأته منذ أعوام، إلا أنني أعدت قراءته الآن لكي أتواصل مع الأجيال الثلاثة الأخرى من هذه الموسوعة الفكرية الرائعة والمتمثلة لبنية الفكر العربي، والعقل السياسي العربي، والعقل الأخلاقي العربي... " .
وأضاف أن كتاب "ألف ليلة وليلة" ، يلازمه منذ طفولته، إذ انه لا يتذكر عدد المرات التي قرأ فيها هذا الكتاب الذي يحسب انه الكتاب الأول في تأريخ هذا الكوكب. وهناك أيضا "ديوان المتنبي "بطبعاته وشروحاته المتعددة، الذي يلازمه باستمرار، فضلا عن "حماسة أبي تمام" . وهناك «الصخب والعنف» لفوكنر، وهناك بالتأكيد" القرآن الكريم،" و"الكتاب المقدس" لا سيما "التوراة"، من دون ان ينسى ملحمة كلكامش والأساطير العراقية القديمة عموما، سواء أكانت سومرية أم بابلية أم آشورية.
يرى الناقد طراد الكبيسي أن رواية " سابع أيام الخلق" لعبد الخالق ألركابي ، هي رواية مكان " يتهرب من الزمن المحسوس عبر الزمن المتخيل، ويتموضع في جماليات تعتمد الحركة التصويرية في متابعة الحدث" . وتدور أحداث الرواية حول البحث عن مخطوط " الراووق" ، الذي ضاع الأصلمنه، واختلف الرواة في ما جاء فيه وذلك بهدف الوصول إلى الحقيقة في السيرة المطلقة .
إن الشيئ الذي أكده الناقد الكبيسي هو أن معظم روايات ألركابي تستلهم "التراث"، أو "التاريخ" ، لتنحو عبره إلى قراءة الحاضر.وهنا يمكن القول –تماشيا مع ما قاله فيلسوف التاريخ الايطالي كروتشة أن هذا الحكم يعد صحيحا ، فالتاريخ كله ،في نهاية الأمر ، تاريخ معاصر أي أننا ننظر إلى الماضي بعين الحاضر .. ندرس التاريخ لنفهم الحاضر ونستكشف المستقبل . ويقدم الناقد الكبيسي للقارئ مقدمة ضافية لعمله الذي يتناول فيه رواية "سابع أيام الخلق " من جوانبها المختلفة بقوله : في (سابع أيام الخلق) ليس هناك حدث بمعنى الحدث في رواية القرن التاسع عشر مثلا، لذا لا نجد الشكل الروائي يتخذ تسلسل البداية، الوسط. النهاية، الذي يراه البعض عاكسا للزمن والتاريخ.. إننا إزاء (شكل مكاني) يتهرب من الزمن المحسوس عبر الزمن المتخيل، ويتموضع في جماليات تعتمد الحركة التصويرية في متابعة البحث عن مخطوط (الراووق ( وتحقيقه للوصول إلى حقيقة ما حدث في اليوم الذي سمي بـ(دكة المدفع) ودكة أو دقة بلهجة العراقيين الشعبية تعني "الحادثة " أو "الواقعة " ، ولذا فإن القارئ للرواية لا بد أن يحس التكرار واللاتزامن، فالرواية مقيدة بموضوع مغلق، والأحداث اليومية المتماثلة والشخصيات تتحرك في حركة دائرية مغلقة هي الأخرى بحكم المكان المحدد.
ليس من شك في أن ألركابي أثرى الحياة الثقافية المعاصرة في العراق ، وفتح آفاقا واسعة لفهم المجتمع العراقي وإشكالاته وعقده النفسية .وفي هذا المجال يقول الناقد مالك المطلبي انه درس بعضا من روايات ألركابي ، وسلط الضوء على تراكيب السرد الروائي فأكتشف بأن الكلام عن روايات ألركابي هو كلام عن العالم المكتظ ويضيف : " في تقديري أن ألركابي يلعب لعبة داخل اللعبة ، فالفنون والآداب كلها العاب وانساق ،وان استمدت لغتها من الواقع وان اتجهت إلى القارئ الواقعي ..إنها تبدأ بالواقع وتتجه إلى الواقع لكن مابين البدء والاتجاه يوجد نسق من الألعاب وهو يلعب بموضوعه داخل اللعبة ويتعامل مع قضية الزمن على أنها قضية أساسية .وإذا قلنا بأن الأعمال الروائية تقوم على الحكايا أو ما يسمى ب"المتن الحكائي " والسرد فأن النص هو مرجع عبد الخالق ألركابي .أما الناقد فاضل ثامر فيرى أن ثمة طرقا عديدة لقراءة عبد الخالق الركابي روائيا .ففي إحدى رواياته وهي "سفر السرمدية " نجد ان شخصا طلب منه أن يدخل إلى أربعين غرفة ، وحذر من الدخول إلى غرفة واحدة . ويقينا أن هذا الشخص يعمل جاهدا للدخول إلى مثل هذه الغرفة لأنها غرفة الإسرار . ان عبد الخالق ألركابي في هذه السيرة الروائية يكشف منحى مهما فيما يسمى "ماوراء السرد أو " الميتافكشن" ، ومعنى هذا أن ألركابي بدأ رواياته الأخيرة منذ الراووق ، على التمحور على كتابة الرواية بشكل واع أو وجود رواية داخل الرواية
وأكد المسرحي والناقد عباس لطيف علي " أن هناك في حياة كل مبدع عملاً واحداً يتمحور عليه ، بدليل أن الروائي المصري نجيب محفوظ في كل أعماله (يشتر) زقاق المدق وظل (يشتر) الثلاثية ،ولكني أرى في سرديات عبد الخالق ألركابي أن هناك روحاً تجريبية تسري في كل رواية ولا يستكين إلى قالب معين يذهب إلى أقاصي المغامرة كي يمسك نسقا روائيا يتماش مع الواقع بمنظور وبمدخل جديد" . في بحثه الموسوم: "اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية
(
سابع أيام الخلق) للروائي عبد الخالق ألركابي" يقول الأستاذ حسن كريم عاتي :
"إن المنجز الإبداعي للروائي عبد الخالق ألركابي يتميز بميزتين أساسيتين، هما: التنوع والغزارة. فهو منذ صدور مجموعته الشعرية الأولى (موت بين البحر والصحراء)، تواصل في نتاجه الأدبي ، ورفد المكتبة العربية بالعديد من الأعمال الأدبية، بل زاد في ذلك من خلال انتقاله في مختبره الإبداعي بين الأنماط الأدبية من قصة قصيرة ورواية ومسرحية. هذا فضلا عن نصوص قصصية منفردة ولقاءات صحفية عبر فيها عن رؤياه الجمالية في منجزه و في غيره.غير أن ما يلفت النظر في ذلك المنجز على تنوعه. إن ألركابي لم يكن به ميلاً إلى تكرار الإنتاج في نمط واحد يقدم فيه عملاً سوى الرواية. فقد اصدر مجموعة شعرية واحدة، آنفة الذكر، وهي البكر في إنتاجه الأدبي، ومجموعة قصصية واحدة هي (حائط البنادق) . ومسرحية (البيزار) التي كرر في نمطها مسرحية (نهارات الليالي الألف). في حين اصدر روايات عدة هي على التوالي: (نافذة بسعة الحلم)، (من يفتح باب الطلسم)، (مكابدات عبد الله العاشق)، (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق), التي تعد من بين أعماله الروائية الأكثر تميزا، و (اطراس الكلام) وأخيرا (سفر السرمدية) التي نشرت على حلقات في إحدى الصحف. مما يؤكد ميله إلى استخدام الرواية أداة تعبير يحقق من خلالها قدرة القول ، ويفصح عن رؤياه الجمالية عبر تقنيات كتابتها.
وقد استثمر في ذلك التنوع بين الأنماط، تنوع آخر في أساليب كتابتها، بين المستل من عمق التراث، وبين المستحدث على وفق أخر التطورات التقنية في فن الكتابات السردية.
اعتمد الركابي في تلك الاعمال جميعها التعبير عن " البيئة العراقية " على المستويين المحلي والوطني. كانت من بينها الأعمال الروائية الثلاث (الراووق)، (قبل أن يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق). التي اعتمدت - ومثل ما اعتمدت سابقاتها وفي إطارها الجغرافي - على البيئة المحلية العراقية نفسها . وتحديداً منطقة طفولته وصباه، غير أنها إتصلت مع بعضها عبر وشائج تحاول بها ان تحيل القارئ الى أماكن أكثر اتساعاً والى زمن اكبر مما استغرقه فعلا . فأصبحت بذلك أعماله ترتبط بتاريخ واسع لجغرافية محددة قابلة للانفتاح.. وقد كانت روايته (سابع أيام للخلق) إضافة نوعية مهمة للرواية العربية والعراقية معا. لما تمتاز به من خصائص فنية على مستوى البناء والسرد فيها، والذي قال عنها قبل سنوات أنها تمثل النقطة الأساسية في نتاجه الروائي خاصة وأنها اعتمدت الأسانيد التراثية والمعارف الصوفية، وتحديداً نظرية وحدة الوجود.
إن ما قدمه الروائي عبد الخالق ألركابي ، عبر السنين الماضية وخاصة رواياته التي وثق فيها تاريخ العراق الحديث ،يعد انجازا ثقافيا متميزا يرتقى في كثير من جوانبه الشكلية ، والجوهرية إلى الأعمال الروائية العالمية التي أحدثت نقلة نوعية في مسيرة الرواية التاريخية .والاهم من ذلك كله انه صار بمقدورنا –كمؤرخين –اعتماد "النص الركابي " مصدرا لكثير من بواطن الأحداث التاريخية العراقية الحديثة .ولايمكن إغفال الروح الجمالية التي تميزت بها روايات ألركابي ولغته القوية وأسلوبه الواضح ونفسه الوطني وغيرته على بلده وتصديه لكل من يحاول العبث بمقدراته .لقد عاش الرجل بعيدا عن السلطة والسلطان طيلة أربعين عاما ..كنت أراه وهو يستخدم عكازه نتيجة حادث تعرض له كاد يودي بحياته ، وجعله طريح الفراش سنوات عديدة ، يجلس بعيدا عندما يضطر لحضور ندوة أو مؤتمر لايتقرب أحدا من المسؤولين ..كان بسيطا في ملبسه ، متواضعا في جلسته ، يصغي ، ويناقش بصوت هادئ ..كنت أحبه عن بعد وأراقبه بعين مؤرخ ، وأقول بيني وبين نفسي بمثل هذا الإنسان يرتقي العلم وتتسع دائرة الثقافة ويبنى الوطن . ومن الأمور المفرحة أن الرجل ، حظي بالاحترام من الجميع ، وان بعض رواياته حصلت على جوائز وتكريمات في العراق . كما أن بعضا منها قرر في المدارس والجامعات العراقية ، وترجم عدد من هذه الروايات إلى اللغات العالمية الحية ،ورشحت لجوائز عالمية في الرواية التاريخية ،واختيرت بعض رواياته وقدمت سينمائيا وتلفزيونيا ومن ذلك ، على سبيل المثال ، فيلم العاشق عن روايته "مكابدات عبد الله العاشق "وفيلم "الفارس والجبل "عن قصته الخيال تحية لك أيها الروائي العراقي الكبير ، وجزاك الله خيرا على ما قدمت .


الساعة الآن 01:28 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team