منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   أنا و أختي (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=11783)

ياسر علي 08-25-2013 06:01 PM

أنا و أختي
 
جم غفير أمام الشباك الوحيد ، العيد المصادف لنهاية الشهر على الأبواب ، كل ينتظر دوره للاغتراف من سيولة نقدية من هذا الينبوع ليطفئ بها ظمأ الحاجة ، و يسد بها بعضا من ثقوب حياته و أسرته وأقاربه . هذا ينتظره أطفاله على عجل ليرسم البسمة على وجوههم بفساتين وبذلات جديدة ، يمسح بها اصفرارا وذبولا علا ملامحهم و هم يقتاتون على بقايا موائد الإفطار والسحور طيلة شهر كامل ، المواقد أضربت عن العمل نهارا وقد عشش اليأس والتهاون والكسل في نفوس الآباء والأمهات . هذه تنتظر حوالة من ابنها المهاجر لتعلن فرحة العيد في غيابه ، و تشارك المتسوقين نشوة التنافس و حمل القفاف الثقيلة إلى البيوت . ذلك يأمل أن يكون راتب تقاعده الهزيل مدعاة قوامة في بيت يفقد فيه هيبته مع توالي الأعوام . عيونهم راسية على الجالسة أمام الشاشة ، هي بدورها تتأمل الفوضى التي تعم المكان ، من حين لآخر تنهر الرؤوس المشرئبة نحوها مشتكية من إغلاقها لممرات نسمات الهواء التي يقذفها المكيف ، و متذمرة من غزو الزبائن لوكالتهم التي لم تستطع نجدتها بمساعد ساعة الشدائد .
أختي شابة متحمسة متهورة ، مع اكتظاظ المكان بدأت عصبيتها تغلبها ، مرة تتزاحم مع الجمع ومرة تغادر المبنى لتستنشق هواء لعله يكون منعشا ، في هذا اليوم الذي اشتعلت حرارته منذ الصباح الباكر . وضعت بطاقتي على المنضدة المرمرية الطويلة التي تصطف فيها البطائق متراصة في التواءات حية استوائية .
نظرت جهة الباب مرتقبة إطلالة أختي فلمحته واقفا بالباب يتأمل المكان كما لو أنه يستكشفه لأول مرة ، ربما أذهلته الجموع المتدافعة داخل الوكالة و الجالسة على طول حائطها الظليل خارجها ، لم تتغير صورته كثيرا رغم ترادف الأعوام بعد الأعوام ، عشرون سنة و ما يزيد على أولى لحظات الأحلام ، كلما رأيته اختلت وقفتي ومشيتي وجلستي ، كان يملأ حياتي نشوة و متعة ، يسقيني من رحيق كلامه العذب ، يراقص أحلامي و يملأ نفسي حبورا وبهجة ، أزهرت حياتي ربيعا فتانا لأعوام بين يديه ، يملكني وأملكه ، في لساني مفاتيح أحلامه ، وفي عينيه نور دروبي . تقاطعت عيناي مع عينيه فرأيت فيهما استغرابا ، أطال التحديق وتقلص بؤبؤ عينيه ، تراه فقد نظره الثاقب ، أم تراني فقدت الكثير حتى استعصى عليه تعرف حروفي . أحسست بدوخة رمضانية ، تقدمت رجلاي نحو الباب خرجت غير قادرة على رفع بصري نحوه ، تذكرت آخر ما وقع ، حاولت إصلاح ما جرى بيننا ، حاولت إعادته إلي ، كم هو قاس قلبه الذي لا يغفر .
أختي جالسة في الظل و مددت رجليها و قد تمكن منها الصوم و خدر بعضا من وعيها و أفقدتها الحرارة و طول السهر بعضا من رشدها ، تقدمت نحوها فقالت : " أما تزال تلك المغرورة تصرخ في وجه الزبائن ؟ هذا غير مقبول ! " همست لها بود : " إنها معذورة و قد طوقوها و أحكموا خنقها " فقالت أختي : " هذا عملها يجب أن تعمل في صمت "
رجعت فوجدته باق في مكانه سلمت عليه ، فرد علي التحية بأدب و سمو مبالغ فيه ، تراه يستذر عطفي وحناني ، أم يكفر عن غلظته ، أم لا يزال يستخف بمشاعري التي أحياها وأماتها و كفنها وأقبرها مرارا وتكرارا في جوفي الأبله و روحي الساذجة ، تراه حقا سعيد مع تلك التي منحته أبناء وبنات ، تراه راض عن حياته أم أنه فقط يتقن لعبة نفاق الآخر و الدنيا ، مظهرا مشية الحمام وهو في نفسه زحاف بالكاد يعرج .
وضع بطاقته في ذيل الترتيب ، وغادر المبنى ، ربما له حاجة إدارية يريد أن يقضيها ثم يعود لسحب ما يريده من الشباك ، غاب فتبعته إلى الخارج ، ما أغبى قلبي ! قد أكون في حياته حدثا تافها ثانويا ، لا يكاد يحرك قلبه المجبول على النسيان و مسح ما يوجع الذاكرة و يثقلها . وجدت هناك أختي التي قالت : " أتعرفين رأيت شابا وسيما ، عيناه تحملان شيئا غريبا ، لا أعرف لماذا أحسست بقلبي تغير إيقاعه عندما استقر نظري على نظرته الوديعة و بسمته الجميلة ." حرقت الموضوع ، أنا التي لذغت من جحور الحب و ضاع عمري سدى في بحر الهيام و الخيال قائلة : " ماذا ستشترين في العيد ؟" فقالت أختي : " أن عاد الرجل إلى المكتب سأهدي له هدية بمناسبة العيد فما رأيك ؟ " فقلت لها : " أنت مجنونة " ثم دخلت إلى المبنى وأنا أنتظر إعلان إسمي .
رجع وهو يحمل في يده كيسا ملأه أشياء تمنيت أن أعرفها ، تراه يحمل هدايا كانت ستكون من نصيبي لولا لعبة القدر ، و مشيئة خارقة تعاكس فينا الطموح ، دخلت أختي وراءه متجهة نحوي : ثم توجهت بأصبعها نحوه . " أترينه يا أختي ، إنه جذاب ، سأذهب و أسحبه خارج الوكالة ، وهناك سنضع النقاط على الحروف " كشرت في وجهها وأنا أقول : انتظري يا مجنونة ، ربما تكون ابنته في سنك فأنا أعرفه "
سمعت إسمي فسحبت نقودي و أختي خارج الوكالة ، و هربت منه ، ذهبنا نتبضع للعيد و صورته لا تزال تملأ عينيّ ، و بين الفينة والأخرى ، تقول أختي : " لعلك تكذبين ."

ابتسام السيد 03-15-2021 09:28 PM

رد: أنا و أختي
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر علي (المشاركة 154556)
جم غفير أمام الشباك الوحيد ، العيد المصادف لنهاية الشهر على الأبواب ، كل ينتظر دوره للاغتراف من سيولة نقدية من هذا الينبوع ليطفئ بها ظمأ الحاجة ، و يسد بها بعضا من ثقوب حياته و أسرته وأقاربه . هذا ينتظره أطفاله على عجل ليرسم البسمة على وجوههم بفساتين وبذلات جديدة ، يمسح بها اصفرارا وذبولا علا ملامحهم و هم يقتاتون على بقايا موائد الإفطار والسحور طيلة شهر كامل ، المواقد أضربت عن العمل نهارا وقد عشش اليأس والتهاون والكسل في نفوس الآباء والأمهات . هذه تنتظر حوالة من ابنها المهاجر لتعلن فرحة العيد في غيابه ، و تشارك المتسوقين نشوة التنافس و حمل القفاف الثقيلة إلى البيوت . ذلك يأمل أن يكون راتب تقاعده الهزيل مدعاة قوامة في بيت يفقد فيه هيبته مع توالي الأعوام . عيونهم راسية على الجالسة أمام الشاشة ، هي بدورها تتأمل الفوضى التي تعم المكان ، من حين لآخر تنهر الرؤوس المشرئبة نحوها مشتكية من إغلاقها لممرات نسمات الهواء التي يقذفها المكيف ، و متذمرة من غزو الزبائن لوكالتهم التي لم تستطع نجدتها بمساعد ساعة الشدائد .
أختي شابة متحمسة متهورة ، مع اكتظاظ المكان بدأت عصبيتها تغلبها ، مرة تتزاحم مع الجمع ومرة تغادر المبنى لتستنشق هواء لعله يكون منعشا ، في هذا اليوم الذي اشتعلت حرارته منذ الصباح الباكر . وضعت بطاقتي على المنضدة المرمرية الطويلة التي تصطف فيها البطائق متراصة في التواءات حية استوائية .
نظرت جهة الباب مرتقبة إطلالة أختي فلمحته واقفا بالباب يتأمل المكان كما لو أنه يستكشفه لأول مرة ، ربما أذهلته الجموع المتدافعة داخل الوكالة و الجالسة على طول حائطها الظليل خارجها ، لم تتغير صورته كثيرا رغم ترادف الأعوام بعد الأعوام ، عشرون سنة و ما يزيد على أولى لحظات الأحلام ، كلما رأيته اختلت وقفتي ومشيتي وجلستي ، كان يملأ حياتي نشوة و متعة ، يسقيني من رحيق كلامه العذب ، يراقص أحلامي و يملأ نفسي حبورا وبهجة ، أزهرت حياتي ربيعا فتانا لأعوام بين يديه ، يملكني وأملكه ، في لساني مفاتيح أحلامه ، وفي عينيه نور دروبي . تقاطعت عيناي مع عينيه فرأيت فيهما استغرابا ، أطال التحديق وتقلص بؤبؤ عينيه ، تراه فقد نظره الثاقب ، أم تراني فقدت الكثير حتى استعصى عليه تعرف حروفي . أحسست بدوخة رمضانية ، تقدمت رجلاي نحو الباب خرجت غير قادرة على رفع بصري نحوه ، تذكرت آخر ما وقع ، حاولت إصلاح ما جرى بيننا ، حاولت إعادته إلي ، كم هو قاس قلبه الذي لا يغفر .
أختي جالسة في الظل و مددت رجليها و قد تمكن منها الصوم و خدر بعضا من وعيها و أفقدتها الحرارة و طول السهر بعضا من رشدها ، تقدمت نحوها فقالت : " أما تزال تلك المغرورة تصرخ في وجه الزبائن ؟ هذا غير مقبول ! " همست لها بود : " إنها معذورة و قد طوقوها و أحكموا خنقها " فقالت أختي : " هذا عملها يجب أن تعمل في صمت "
رجعت فوجدته باق في مكانه سلمت عليه ، فرد علي التحية بأدب و سمو مبالغ فيه ، تراه يستذر عطفي وحناني ، أم يكفر عن غلظته ، أم لا يزال يستخف بمشاعري التي أحياها وأماتها و كفنها وأقبرها مرارا وتكرارا في جوفي الأبله و روحي الساذجة ، تراه حقا سعيد مع تلك التي منحته أبناء وبنات ، تراه راض عن حياته أم أنه فقط يتقن لعبة نفاق الآخر و الدنيا ، مظهرا مشية الحمام وهو في نفسه زحاف بالكاد يعرج .
وضع بطاقته في ذيل الترتيب ، وغادر المبنى ، ربما له حاجة إدارية يريد أن يقضيها ثم يعود لسحب ما يريده من الشباك ، غاب فتبعته إلى الخارج ، ما أغبى قلبي ! قد أكون في حياته حدثا تافها ثانويا ، لا يكاد يحرك قلبه المجبول على النسيان و مسح ما يوجع الذاكرة و يثقلها . وجدت هناك أختي التي قالت : " أتعرفين رأيت شابا وسيما ، عيناه تحملان شيئا غريبا ، لا أعرف لماذا أحسست بقلبي تغير إيقاعه عندما استقر نظري على نظرته الوديعة و بسمته الجميلة ." حرقت الموضوع ، أنا التي لذغت من جحور الحب و ضاع عمري سدى في بحر الهيام و الخيال قائلة : " ماذا ستشترين في العيد ؟" فقالت أختي : " أن عاد الرجل إلى المكتب سأهدي له هدية بمناسبة العيد فما رأيك ؟ " فقلت لها : " أنت مجنونة " ثم دخلت إلى المبنى وأنا أنتظر إعلان إسمي .
رجع وهو يحمل في يده كيسا ملأه أشياء تمنيت أن أعرفها ، تراه يحمل هدايا كانت ستكون من نصيبي لولا لعبة القدر ، و مشيئة خارقة تعاكس فينا الطموح ، دخلت أختي وراءه متجهة نحوي : ثم توجهت بأصبعها نحوه . " أترينه يا أختي ، إنه جذاب ، سأذهب و أسحبه خارج الوكالة ، وهناك سنضع النقاط على الحروف " كشرت في وجهها وأنا أقول : انتظري يا مجنونة ، ربما تكون ابنته في سنك فأنا أعرفه "
سمعت إسمي فسحبت نقودي و أختي خارج الوكالة ، و هربت منه ، ذهبنا نتبضع للعيد و صورته لا تزال تملأ عينيّ ، و بين الفينة والأخرى ، تقول أختي : " لعلك تكذبين ."

فيها من الأسى ما فيها
ويوم من الذكريات والمواجع
فصلت كثيراً من الآلق
دام لك الإبداع

ياسَمِين الْحُمود 03-23-2021 08:17 PM

رد: أنا و أختي
 
تصوير رائع لحدث
يحدث في أي زمان ومكان
مع اختلاف الهدف
أستاذ ياسر..
أبدعت تماماً في حبك محكم
للقصة الدرس
شكرا لك :31:

ياسر علي 03-27-2021 12:32 PM

رد: أنا و أختي
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابتسام السيد (المشاركة 289753)
فيها من الأسى ما فيها
ويوم من الذكريات والمواجع
فصلت كثيراً من الآلق
دام لك الإبداع



تحية لك أستاذة ابتسام.
صعدت بهذا النص من أعماق الماضي.
حقا إن السنوات مهرولة.

لك السعادة.

تقديري.

ياسر علي 03-27-2021 12:34 PM

رد: أنا و أختي
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسمين الحمود (المشاركة 290688)
تصوير رائع لحدث
يحدث في أي زمان ومكان
مع اختلاف الهدف
أستاذ ياسر..
أبدعت تماماً في حبك محكم
للقصة الدرس
شكرا لك :31:

شكرا لك أستاذة ياسمين الحمود على الحضور الراقي

تقديري.

محمد أبو الفضل سحبان 04-14-2021 03:18 AM

رد: أنا و أختي
 
إقتناص مبهر لتفاصيل ذلك الانتظار الذي ننتظره جميعا داخل وكالة مصرفية وسط زحام شديد بسبب ظرف استثنائي "عيد" ، حيث الكل متأهب والكل يسرع لقضاء الأغراض..!!!.لكن الملفت حقا هو البراعة في التقاط التفاصيل الدقيقة المرافقة للحدث و التي لا تخلو من عنصري التشويق و المفاجأة..و من يدري ؟؟...فربما كانت المفاجأة السارة أن تلمح في الطابور شخصا عزيزا على قلبك كان قد اختفى وانقطع به كل اتصال منذ زمن ليس بقريب...!!!!!
نص أدبي جميل يستحق الإشادة
تقديري
أستاذي ياسر
:43:

عبد الكريم الزين 04-14-2021 12:40 PM

رد: أنا و أختي
 
نص أدبي جميل يسير على خطين متوازين قاسمهما المشترك الانتظار، في جو من المعاناة الخارجية ( تكدس المنتظرين بالوكالة البنكية) والداخلية (إحساس البطلة عند ملاقاة حبيبها السابق).
وكل ذلك بأسلوب سردي سلس يجذب القارىء حتى آخر كلمة وحرف.
تحياتي وتقديري.

مجد الوريكات 04-25-2021 12:59 AM

رد: أنا و أختي
 
قصة تحدثت عن الكد من اجل الحصول على لقمة العيش
و التعب و الانتظار


الساعة الآن 07:51 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team