منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   جبران خليل جبران (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=8753)

[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:03 PM

جبران خليل جبران
 
[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
صبـآحكم/مسـآكم
أكـآليل يـآسمين و عنـآقيد نور

http://www.amwague.net/upload/image/...276_jobran.jpg
جبران خليل جبران



.
.
.
.
مقدمة

لا بد لكل قارئ ومحب للمطالعة والأدب أن يكون له أديبه المفضل والذي ربما تكون حروفه قد تركت بصمة لا تنمحي مع الزمن وأثرا لا تزيله عواصف الحروف الاخرى ..وكان من نصيبي جبران خليل جبران فآثرت أن أطرح فيه موضوعا،
قررت أن أتسلسل بسرد جبران ابتداءا من حياته ,,ثم بأدبه محاوله قراءة بعض ما جاء به جبران خليل جبران وهي قراءتي وقراءة غيري لجبران ,,


(حياة الأديب جبران خليل جبران ووفاته)


أولا : أسرته

بين دمشق وبعلبك تنقل أجداد جبران ،حيث كان من أبناء الأسر المتوسطة التي تعيش على ما تكسب، وحين ضاق بأجداده الحال عملوا على الخروج من دمشق الى بعلبك ولم يطل مقامهم في فيها فظلوا يتنقلون بين أرجاء المنطقة وصولا إلى قرية بشرى ،هناك إلتقى والده خليل جبران بكاملة وكان أن تزوجا علما بأنها أرملة لزوج سابق كانت تقيم معه في أمريكيا وأنجبت منه طفلا إسمه بطرس وهو الأخ غير الشقيق لجبران ، وكما أشار ميخائيل نعيمة في كتابه أن زواج أمه السابق هو الذي أتاح له فرصة الخروج مع أمه الى أمريكيا فيما بعد.
وفي السادس من كانون الأول (ديسمبر) لعام 1883 ولد جبران خليل جبران. ثم بعده بعامين أنجبت أمه بنتا أسمتها مريانا وأخرى سلطانة.

ثانيا : جبران والطبيعة
وطد جبران علاقته مع الطبيعة منذ طفولته ،و***65275; شك أن طبيعة القرية التي ولد فيها كان لها الدور الكبير في جذبه إليها ،فهي قرية جبلية تشرف على الوديان هواءها عليل يميل الى البرودة تحيطها أشجار الأرز،يميل أهلها الى الطرب وللهو، وكما يقول نعيمة جبران منذ طفولته ذو عين تتبع الجمال،وأذن مرهفة للشدو. فكان أن إنسجم مع الطبيعة وتناغم معها.
لم يقم جبران أكثر من اثني عشر عاما في ظلال هذه القرية.


ثالثا: جبران طفل مقلد يفعل ما يفعل الناس من حوله ..
نما جبران على التقاليد الأسرية وخصوصا في التدين ،فعلى الرغم من أن والده كان بعيدا عن الدين -فهو لا يهمه في الدنيا سوى كأس نبيذ ولفافة تبغ فإن لم يجد الأولى اكتفى بالثانية-إلا أن جبران الطفل كان متدينا حيث وقد ورث ذلك عن أمه وأخيه بطرس..وكان لأمه الأثر الكبير في تربيته لأن الأب كان مشغولا بنفسه والام مشغولة بتربية ابنائها ..لذلك كان جبران الطفل أحرص ما يكون على الطقوس الدينية وقد رسم الكثير من اللوحات الدينية ..
--وينبغي هنا أن نتذكر حين قلنا جبران الطفل المتدين بالتقليد ..المنتمي لطائفة المارونية المسيحية.
لأننا فيما بعد سنجد جبران آخر مختلف تماما عن جبران المقلد وهو جبران الممعن في الأمور والحريص على ابداء رأيه فيها.--

وحين نتحدث عن جبران الطفل المنسجم مع الطبيعة ،ذو الحس المرهف ،والأذن الموسيقية ،وجبران الطفل المتدين ..لا بد أن نتحدث عن جبران الآخر في تلك المرحلة وهي التالية::

رابعا:: جبران فنان ..ينطق ريشته العنف والغضب !

كان جبران عنيفا على نفسه كما أورد ذلك -ميخائيل نعيمة هنا-هذا العنف جره الى العنف الآخر وهو عنف في الرأي فلم يكن يحتمل أن يقهر في الميادين الحسية ، وكان يتمنى لو أوتي البطش من صغره ليفتك بأقرانه حتى لا يبطشوا به..وكثيرا ما كان يعود لأمه باكيا بسبب ما أصابه من أقرانه ومن هم في عمره مصرحا أنه يتمنى أن يمتلك القوة الكافية للفتك بحياتهم -وإن لم يحاولوا الفتك بحياته-هذا الأمر كان يظهر النفس العنيفة لجبران والتي بدورها أرخت له ليكون عنيفا في الرأي..ممعنا فيه.

الأم بدورها كانت تحس بهذا العنف فتحاول إزالته بالموعظة ولكن الأب كان يشجعه على ذلك وكانت هذه نقطة التقاء بين جبران وأبيه ، لأن نفسية جبران تميل الى العنف..

ولكن هذا الأمر كان سببا في إظهار موهبته في التصوير والرسم ، حيث أنه لشدة ما ضاق ذرعا بما يواجهه من مشاكل في مدرسته كانت يده تتحرك لتلتقط قطعة فحم يرسم بها على جدران المنزل .




(هجرة جبران ودخوله في أوساط الفن والأدب)



بعد خلافات متعددة بين الأم والأب والتي تمخض عنها إقناع الأم لإبنها بطرس بالهجرة إلى أمريكيا، ومن ثم اللحاق به، كانت هجرة جبران برفقة امه وأختيه مريانا وسلطانة.
سكنت أسرته في مدينة بوسطن ، في الحي الصيني المشهور بقذارته.
هناك تمكن جبران من إكمال تعليمه ،وذلك بتشجيع من والدته والتي كانت تستمتع بالإصغاء إليه وهو يقرأ لها ما يكتب ، ويلخص لها ما قرأ..فكان ذلك ان شجع جبران على أن يقرأ كثيرا ليتعلم ، وليكتب فيتدرب.
وكما هو الحال أيضا في فن التصوير حيث لقي الدعم والتشجيع من قبل مدرسته في فن التصوير، والتي عملت على إيصاله بمصور معروف في أمريكيا آنذاك هو ماجر، مارس معه جبران فن التصوير والرسم أيضا واستزاد منه وكان ذلك في سن الرابعة عشرة، وكانت أول قصة حب واجهته في اثناء تلك الفترة حيث التقى بسيدة متزوجة في الثلاثين من عمرها، جاءَت لتداعبه كصبي صغير لكن جبران ، إستطاع أن يستميل عواطفها إليه والتي كانت تعاني من زوج لا يفهم سوى لغة المادة.
قصة حبه الاولى لم تكن نقية بل خالف فيها كل قيم ومبادئ أسرته التي تربى عليها.


عاد جبران إلى لبنان مجددا عام 1897م وذلك ليتعلم اللغة العربية بعد أن كاد ينساها ونزل في بيروت ودخل مدرسة الحكمة ودرس فيها أربعة سنوات أصول اللغة العربية والفرنسية ، وبعد أن أنهى جبران الأربعة سنوات قال:
أربع سنوات على مقاعد مدرسة الحكمة ،ماذا نفعتك، اشكر ربك فقد نجوت من الصرف والنحو، والمعاني والبيان والعروض والقوافي، وإنك وإن فاتتك قواعدها لم يفتك جوهرها،وشاكر ربك فإنك قد نجوت من الصلوات في الصباح والمساء، وقد صليت في أربع سنوات ما يكفيك حتى آخر حياتك،...

وهنا يظهر جبران الآخر بعد أن كان متدينا في طفولته تنكر لرسومه الدينية، وذلك أنه في البداية كان متدينا بالتقليد أما الآن فهو ينظر لنفسه بأنه درس فأصبح له رأيه.

قبل نهاية عام 1902م كان جبران قد عاد إلى بوسطن ..وخلال هذه الفترة الى فترة 1903م كان قد فقده أخته سلطانة بداء السل ثم أخوه بطرس بنفس الداء ومن ثم أمه.
كانت تلك الفترة إنقطاع علاقة جبران عن الدين بل إعلانها صريحة ........[2].

بعد فترة عمل جبران على إقامة معرض يعرض فيه رسوماته والتي لم يبع منها أي شيء ،كان جالسا في معرضه الخالي من الزوار يشكو إلى نفسه عدم إقبال الزوار عليه، وفي أثناء ذلك دخلت إلى المعرض سيدة وهي السيدة ماري ..وبدأت تنظر إلى اللوحات بتمعن شديد ،فسألها إن كان يخفى عليها شيء فأجابته بأنها بالفعل بحاجة الى التوضيح، ثم بعد أن وضح لها سألته من الذي رسمها :فأشار إلى نفسه.

كانت هذه السيدة هي مديرة مدرسة هاسكل للبنات وتعرفت إليه ودعته لإقامة معرض في مدرستها،
ولكن كان أن سألت جبران : لماذا تكثر من صور الأجساد العارية؟
فأجاب : لأن الحياة عارية ،والجسم العاري هو أصدق تعبير عن الحياة،فإذا ما رأيتني أرسم شيئا ما جبلا أو شلالا أو غير ذلك على صورة أجساد عارية فإنما أعني أني أرى كل شيء من هذا جزءا من الحياة العارية.
ثم سألته :ولماذا تكثر من الألم والموت ؟
فأجاب: لأن الموت والألم هما ما خرج به إلى الدنيا و***65275; زالا يعايشانه حتى تلك اللحظة.

.
.
يتبــع

[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:04 PM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]

حياة جبران وموته الجزء الثاني

كان آخر ما توقفنا عنده في الجزء الأول من حياة جبران هو لقاء السيدة ماري ، ودعوتها له لإقامة معرض في المدرسة التي تديرها ::



أولا :جبران حب جديد أم قلب موزع أم أنانية ؟

لا بد لنا أن نلقي الضوء على تجربة جبران مع ماري على وجه الخصوص ومع تجربة جبران مع النساء بشكل عام وذلك ان هذه التجارب ستمدنا بالكثير عن جبران ,والتناقضات التي تعيش بداخله.

حين قدم جبران إلى المدرسة التي تديرها السيدة ماري عملت هذه السيدة على تعريفه بمدرسة فرنسية تدعى ميشلين ،أثنت عليها السيدة ماري كما أثنت ميشلين على السيدة ماري..

المثير في الأمر أن جبران أحب ماري وميشلين في آن واحد، دون أن تعرف إحداهن بأمر علاقته بالأخرى ، ومع ذلك ظل هنالك فرق بين العلاقتين، ميشلين شملت علاقتها مع جبران حبا جسديا في الوقت الذي كان حبه لماري حبا روحانيا ،كان يخاطب قلب ميشلين ،ويخاطب عقل ماري...هكذا هي المعادلة ببساطة لدى جبران حين كان يتمنى أن تحل روح ماري في جسد ميشلين.
جبران هو شخص بائس النشأة مليئ بالحرمان،لذلك كان يتمنى من كل إناء رشفة،وان ينهل من كل كأس نهلة، ففي الوقت الذي كان جبران يحارب في الناس روح الطمع والشره ونوازع التملك، كان هو على الضد من ذلك غير قنوع ولا زاهد، لذلك كان إذا وقع على شيء وتملكه يجد ما يبرر التناقض بين فعله وقوله.

ثانيا: (حب جبران ونتائجه)

يمكن تلخيص حب جبران لميشلين بالتالي : عيش في قلق نتيجة أن ميشلين كانت حامل منه ، بعد أن تسول لها راجيا إياها أن تخفي الأمر وتجهض الجنين خضعت لإرادته وعملت ما طلب ،ومن ثم رحلت عنه..وتزوجت من غيره، وقلق آخر وهو أن تكتشف ماري أمره.

أما حب جبران لماري فكان يخنلف كل الإختلاف وهو قد يلخص كالتالي ::
كما يشير توفيق الصائغ أن ماري كانت مؤمنة بمواهب جبران، وأحبته أيضا،هذا الحب هو الذي دفع ماري إلى تمويل رحلته إلى باريس لإكمال تعليمه، وهو أيضا الذي أتاح له بعد عودته من باريس أن ينشر كتبه ومقالاته باللغة الإنجليزية، فماري هي التي دفعت جبران ليعبر عن نفسه باللغة الإنجليزية إلى جوار اللغة العربية، وقد كان جبران مدرسة في المهجر تفخر به عشيرته وقومه بعيدا عنه، لذلك لم يكن يشعر بأثر ما يكتبه في حياة من يعيشون حوله حين كان يكتب بلغة قومه، ولا يلمس شهرته في المكان الذي يتواجد فيه، إلا أن دخول ماري وتقويمها للغته كان قد فتح له هذه الأبواب،

أيضا كما يشير ميخائيل نعيمة أن ماري كانت كثيرا ما تجلس وتنصت إليه ولكتاباته، كانت ذاك الباب المفتوح إليه بعد كل باب يغلق في وجهه، كانت مؤمنة بأنه فنان له خياله وواقعه وكان تراعي به هذه الأمور، وتراعي أنه قد تعرض لحرمان كثير في حياته ، لذلك كان حين يقف بين يديها ويتحدث عن نفسه مصورا جسده النحيل بأنه قوي فتي، ويصور فقره الحالي بأنه ثراء محتجز في وطنه ، وأنه ابن اسرة نبيلة كانت تعيش في بحبوحة، كانت تتقبل ذلك منه وتتقبل مبالغاته بصدر رحب ،رغم أنها تعرف انه يبالغ ويغالي، وفسر ذلك علماء النفس أنه: إحساس بخواء نفسي، ليظهر مميزا، وأكثر ما كان يظهر هذا حين يتكلم جبران أمام ماري التي يريد ان يخطب ودها، وخصوصا أنه معدم الحال،فكر جبران في الزواج من ماري وما ذلك إلا سدادا لديونها التي في رقبته وكرمها عليه، إلا أن ماري تعرف أن جبران ميال إلى النساء لا تحكمه علاقة وحيدة، بقدر ما كانت تحبه إلا أنها تعرف أن هذا الحب سيتلوث إذا تحول إلى زواج ، وإذا خرج عن إطار الروحانية، فآثرت ان تبقى العلاقة صداقة، وقد تزوجت ماري فيما بعد أما جبران فلقد بعث إليها برسالة يقول لها: سوف أظل على حبك إلى الأبد، فلقد كانت علاقتي بك هي الروح بالروح، ومثل هذه العلاقة لا ينال منها الزمن كما لاتنال منها الأحداث ....

أما التحليل النفسي للعلاقة كان كما يلي: أن جبران صاحب الحس المرهف قد فقد أمه في المهجر وهو صبي، ووجد امرأة تكبره بعشرة أعوام آوته وعطفت عليه، وكان فيها من الحنان ما يجعله طفلا وديعا بين يديها وهذا ما يفسر قوله في إحدى رسائله لماري: أملي أن تكوني المرأة التي تهجع فيّ أما صغيرة، وللعلم فماري هي التي ألهمت جبران فكرة العرافة صديقة المصطفى في كتاب النبي،وكانت حتى بعد زواجها تراجع كتاباته قبل نشرها وبعد النشر. [1]
ثالثا: (جبران في باريس وماري تعيله)


عام 1908م ذهب جبران إلى باريس وما ري كانت هي الي تقدم له الدعم المادي، ولم يكن لها هدف إلا أن يصل جبران إلى القمة في إبداعه لإيمانها بموهبته، درس جبران في أكاديمية جوليان في باريس حيث التقى هناك صديقه يوسف حويك الذي درس معه في مدرسة الحكمة ،ولكن سرعان ما شب خلاف بينهما وبين مدرسهما وذلك أن كلاهما يميل إلى المدرسة الكلاسيكية وليس التكعيبية، لذلك تركا الأكاديمية واقتسما مرسما وكان ذلك في عام 1909م ،ومن الجدير بالذكر ان جبران كان ينتمي إلى جملة من الفنانين الفرنسيين الرمزيين أمثال :بوفيس ده شافان و وجوستاف مورو.


رابعا: (إلتقاء أمين ريحاني ومحاولات عاثرة)

قبل أن يترك جبران باريس 1910م كان قد التقى بأمين ريحاني والذي كان يتفق معه في كثير من ميولاته والتي كانت سببا في جمعهما فرحلوا ومعهم الفنان يوسف الحويكإ لى لندن، وهناك وضعوا الأسس التي برأيهم تكفل نهضة العالم العربي من كبوته، وكانت الركيزة الأساسية لبرنامجهم هي حتمية التوفيق بين المسليمن والمسيحيين، وظنوا أن ذلك سيكون بتشييد دار للأوبرافي بيروت تعلوها قبتان إحداهما ترمز للإسلام وأخرى ترمز للنصرانية، إلا أن حلمهم لم يتوفق وظلت النزاعات الطائفية قائمة،وكثيرا ما عبرت كتابات جبران عن امتعاظه من هذه النزاعات .

خامسا: (إنشاء الرابطة القلمية وعميدها جبران)
في الولايات المتحدة الأمريكية..تم تأسيس الرابطة القلمية والتي نصب جبران عميدا لها وكان ذلك في عام 1920م، كانت تتألف من عشرة أدباء من أدباء المهجر،وهم جبران وميخائيل نعيمة نائبا لجبران ،وإليا أبو ماضي وغيرهم، وشعار هذه الرابطة: (ليس كل ما سطر بمداد على قرطاس أدبا، و***65275; كل من حرر مقالا أو نظم قصيدة موزونة بالأديب)، والأدب عندهم هو: (الذي يستمد من تربة الحياة ونورها وأدبها){2}



سادسا: (وفاة جبران خليل جبران){3}

بعد رحلة طويلة من الأدب كان المرض من نصيب جبران، وذلك بعد أن تضخمت شهرته واتسعت،كانت بداية نهايته فبعد كتابه يسوع إبن الإنسان، وكتابه النبي، كان المرض من نصيبه، والذي راح يأخذ دنياه شيئا فشيئا حتى إذا ما أنهى كتابه آلهة الأرض وأسلمه لرفيقه نعيمة مكتوبا بخط يده، كانت نهاية جبران وموته بعد أن أسلم للمرض قائلا: فلتفعل الأقدار ما تشاء.
وكان نعيمة في مطلع كتابه قد قال حين رآه ملقا على سرير الموت: هذا الأديب العظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بأدبياته وشعره ***65275; يتقن إلا كلمة واحدة مؤلفة من حرفين وهي (غر غر)..
وفي نهاية عام 1931م توفي الأديب جبران وتفككت من بعده الرابطة القلمية.

ومن نتاجه الأدبي :
1-باللغة العربية:
-العواصف
-الأجنحة المتكسرة
-دمعة وابتسامة
-الأرواح المتمردة
-البدائع والطرائف
--ملك البلاد وراعي الغنم ..آخر ما كتبه جبران باللغة العربية
باللغة الإنجليزية
-النبي
-حديقة النبي
ولا شك أن الكثير الكثير لم يذكر

.
.
.

إلى هنا تكون حياة هذا الأديب قد انتهت..مختصرة مع محاولة سرد أهم ما كان فيها.
والهدف هنا كما اسلفت أنه لربما نستطيع الربط بين جبران الأديب الموجود في الكتب، وجبران الآخر الموجود في الحياة العامة.
وقد نجد أيضا التناقضات التي عاشها جبران..

فحين نقرأ أدب جبران ،ونقرأ حياة جبران سنجد الكثير من التناقضات التي عاشها هذا الأديب في حياته ..وربما يصح قولي هنا في جبران أنه ختم حياته بسرد ما كان عليه من تناقضات بكتاب آلهة الأرض ..وكأنه أراد في هذا الكتاب أن يقول أنا رهين قوا داخلية ما بين الشر والخير والحب والكراهية ..وما بين المادة والروح .


لم أسرد العلاقة المهمة التي جمعت بين جبران ومي وذلك أني فضلت أن تطرح حين نتحدث عن كتابه الأجنحة المتكسرة ..لأن لمي رأي في ما جاء فيه.
.
.
.
.وبما أننا أنهينا الحديث عن حياة جبران، فإننا سننتقل إلى المرحلة التالي وهي الأكثر أهمية بنظري وهي قراءة أدب جبران

يتبــع

[/TABLETEXT]
زهراء الامير 04-30-2012 04:06 PM

[TABLETEXT="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]

في كتاب الأجنحة المتكسرة

http://farm4.static.flickr.com/3136/...9871f995_o.jpg
.
.
.


بعد أن قمنا باستعراض حياة الأديب جبران، أصبح حريا بنا أن نقف في باب أدبه،ننظر ونتمعن بما جاء به هذا الأديب، من فن وأدب وفلسفة، ونغرف ما صح لنا أن نغرفه من كتبه ومؤلفاته،وسيرته الأدبية، التي ربما لن أستطيع تغطيتها كاملة ولكن على الأقل أن نقطف من بعض زهوره، وننظر في بعض أموره، فنستفيد مما أتى به ومن فلسفته ومما نراه صائباً في نظرته إلى الحياة.
وسيكون اليوم حديثنا عن كتابه (الأجنحة المتكسرة)، ولكن قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الكتاب وما جاء به أفكار، يفترض بنا أن ننظر قليلا إلى الينابيع التي كان يستقي منها جبران ويميل إليها.

تأثر جبران بالعديد من الأدباء والفنانين الغرب .. فكان منهم:
:


1-تعرف جبران في رحلته إلى باريس ..بصانع التماثيل الفنان (أوجست رودان)، فكان من ضمن ما قاله في إحدى تماثيله والتي تمثل يدا بشرية: (.....، الفن هوحياة والحياة هو، وكل شيء يهون في سبيله لا مجد إلا منه،و***65275; جمال إلا فيه).
2-أيضا كان شديد الإعجاب بليوناردو دفنشي حيث كان يقارن بينه وبين رودان، ويرى فيه من أروع ما جادت به الحياة.

3-وليم بليك:تأثر بكتاباته إلى أبعد الحدود ليصبح وليم بليك بكل ما ألف وصور مثله الأعلى في الحياة، فيقول عنه: "بليك هو الرجل هو الإنسان(...)،إنه في رأيي أعظم إنجليزي منذ شكسبير، .......، ولكن لا يتسنى لأي امرئ أن يتفهم بليك عن طريق العقل،فعالمه لا يمكن أن تراه إلا عين العين،ولايمكن أن تراه العين بذاتها"،و لقد صور جبران نفسه بأنه وليم بليك القرن العشرين، على الرغم من أن هذه العبارة كانت شائعة على ألسنة الناس،ولكنها كانت تعني رودان وليس جبران.

4-مع كل كلامه عن بليك كان في ذات المرتبة شكسبير،فلقد كان يخصه بكلام لم يخصه لأحد من قبله،لدرجة أن كان ينوي أن يؤلف كتاباً عنه، إلا أن الظروف لم تعنه.

5-وكان قد أحب (شيلي) لعالمه القائم بذاته،يقضي وقته بالتغني بذكريات عاشها في عوالم أخرى. ومع ذلك فهو يعده أكثر شرقية وأقل إنجليزية.


أما حين عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية فلقد دخل (نيتشه) في حياته ومن بعده (زيردشت)،وكان ينظر إلى نيتشه من خلال تعاليمه وفلسفته، فنسي بليك،ولم يعد أمامه غير نتشة وزيردشت.
وأكثر ما أعجب جبران بنيتشه هو تمرده على كل المقدسات، هذا إلى ما يتميز به أسلوبه الصريح من تعبيرات لماحة تنبض بالحياة.
إن أثر نيتشة في حياة جبران ،كان كبيرا جدا، لدرجة أن جبران الذي كان يسيل رقة في عواطفه،أصبح يهيم بالقوة في كتابات نيتشة، بل أنكر ما كان يؤمن به أيام شبابه، وبخاصة مفهوم الحب،وقد أصبح عنده سيادة واستعلاء، لدرجة أن تأثره هذا جعله يجيب أحد أصدقائه والذي طلب إليه أن يجمع مقالاته العاطفية دمعة وابتسامة ب:
ذاك عهد من حياتي قد مضى بين تشبيب وشكوى ونواح، وقد كتب إلى مي بنفس اللهجة قائلا:
***65275; تذكري أعمالي الماضية لأن ذكراها تؤلمني، لأن تفاهتها تحيل دمي إلى نار محرقة، لأن جفافها يولد ظمئي، لأن سخفها يقيمني ويقعدني كل يوم ألف مرة ومرة، لماذا كتبت تلك المقالات والحكايات، لماذا لم أصبر ؟.....


ولا بد أن نعود للحديث عن نيتشة و"زيردشت"في كتاب"هكذا تحدث زيردشت" وجبران و"المصطفى" في كتاب النبي.

.
.
.
لا بد لنا أن نلقي الضوء على علاقة مي زيادة (ماري زيادة) وجبران خليل جبران.
مي زيادة فتاة فلسطينية المولد لبنانية التعلم ومصرية الإقامة،فما أن استقرت هي واسرتها في القاهرة حتى اتخذت من بيتها منتدى يؤمه أقطاب الفكر والأدب في ذلك الحين أمثال: عباس محمود العقاد،ومصطفى صادق الرافعي، وأنطون الجميل، وشبلي شميل وغيرهم، رغم الإحترام والمكانة التي كان كل أديب يكنها لمي إلا أنها لم تبادل أحدا منهم حبا،وما أن سمعت الحديث الدائر في مجلسها عن جبران وأدبه حتى تشوقت إلى معرفته، وكان أول ما قرأت له مقالة كتبها في السادس من كانون أول لعام 1908م بعنوان "يوم مولدي"، فراحت تستطلع سيرته وتبحث، ومن ثم البحث عن سبل الوصول إليه، فلم تجد غير أن تبعث إليه برسالة تعرفه بنفسها ولكن حيائها ومكانتها كانا في البداية حاجزا وخوفها من أن يردها وخصوصا أنه تلميذ نيتشة المتجبر، ولكنها فيما بعد أعادت النظر في ذلك ،وأقنعت نفسها أنها أديبة تكتب إلى أديب ومن ثم كتبت إليه رسالة تعرفه بنفسها، وكان ذلك في عام 1912م تقول: "أمضي مي بالعربية، وهو اختصار اسمي، ومكون من حرفين، الأول والأخير من اسمي الحقيقي والذي هو ماري، وأمضي (إيزيس كوبيا) بالفرنجية؛ غير أن لا هذا اسمي و***65275; ذاك، إني وحيدة والدي وإن تعددت ألقابي".

وسرعان ما جاء الرد من جبران على رسالتها، يحمل ثناءه عليها، ويحدثها عن نفسه وعن كتبه، ويرفق به آخر ما كتب في ذاك الوقت وهو كتاب (الأجنحة المتكسرة) طالباً منها أن تبدي رأيها فيه.
سعدت مي بالرد الذي وصلها،ونشطة في قراءة هذا الكتاب وراحت تخط رأيها بما جاء فيه، وتناقشه بموضوعه، وكان من بين ما كتبت له:"...ولكن إذا جوّزنا لسلمى-ولكل واحدة بذكاء وجمال وعواطف وسمو سلمى-الإجتماع بصديق شريف النفس عزيزها، فهل يصح لكل امرأة لم تجد في الزواج السعادة التي حلمت بها وهي فتاة أن تختار لها صديقا غير زوجها، وأن تجتمع بصديقها على غير معرفة من زوجها، حتى ولو كان القصد من اجتماعهما الصلاة عند فتى الأجيال المصلوب".


توالت الرسائل بين مي وجبران ولم تنقطع إلا في أثناء الحرب العالمية الأولى،ثم سرعان ما عاد الاتصال بينهما، وأخذت مي تنشر كتابات جبران وتقدم نقدها بكل حيادية،ولم يكن ذلك يسبب أي مضايقة لجبران بل على العكس كان يرى فيها بديلا لماري التي خفت علاقته بها، وكثيرا ما بعث إليها يبرر ما كتب، وأحيانا يتبرأ مما كتب،كما عرضنا أعلاه من تبرأه من (دمعة وابتسامة).

وفي ذات يوم بعث جبران إلي مي برسالة يطلب منها زيارته في بوسطن، لما يشعر به من وحدة وألم،لكن مي شعرت ان هذه الرسالة جارحة وتمس كبريائها، فبعثت إليه برسالة معاتبة شديدة اللهجة،فرد عليها بأنها قد أساءت فهمه، وراح يعتب عليها عتبا رقيقا، ثم انشغل عنها فترة في كتابه الجديد " السابق"، فأخذ القلق يقض مضجعها، فقد تكون قسوة لهجتها في الرسالة قد جرحت مشاعره،فكتبت إليه وراحت تعتذر عما بدر منها وصرحت إليه بأنها تحبه وتفضله عن غيره من الأدباء، هذا التصريح أثار دهشة جبران فهو لم يفكر بها كما كانت تفكر به، وإنما كان تفكيره أن يوطد صداقة فكرية ، فكتب إليها موضحا إليها مطمحه ونظرته إليها.

سارت الأيام والمرض ينزل بجبران،والأحداث تنزل بمي، فتفقد أبويها ،ومن ثم تبعث برسالة إلى جبران تقول له فيها:"لم يبق إلا أنت أيها الصديق"، ولكن الموت لم يبق لها هذا الصديق[1].


رواية الأجنحة المتكسرة

في هذه الرواية والتي أخذت الطابع الرومنسي في محورها الرئيسي جاء جبران ليلقي ما في جعبته من أفكار، لم تكن أفكارا عن الحب والعاطفة فقط، وعن معاناة العشاق وآلامهم ولم تكن مسلسلا رومنسيا يعرض قصة مجنون ليلى، وإن طغى عليها كلام الحب، لكني أرى أن جبران في هذه الرواية جاء ليجسد مجموعة من القيم والمبادئ الإجتماعية والسياسية أيضا، فلو استعرضنا فصول هذه الرواية التي قسمها جبران بناءاً على أفكار محددة في كل فصل ومن ثم جمعنا هذه الفصول لرأينا منظومة القيم التي يحاول إيصالها من خلال هذه الرواية، والتي حملت بين طياتها شوقا إلى الوطن، وحنينا إلى المحبوبة، ونقمة على الظالم، وحقد على التخلف القاطن في عقول الناس في ذاك الحين.
و***65275; شك أنها جاءت لتعرض مشكلة إجتماعية لطالما ظل الشرق يعاني منها،وهي مشكلة المرأة الشرقية..
.
.
.
فلو جئنا نستعرض التوطئة التي بدأ بها جبران ،نراه يتكلم ممهدا لهذه الرواية،مقدما القارئ إليها،يبدأ فيها الحديث عن سلمى والقارئ لا يعرف من هي سلمى ولكن لا شك أن القارئ أدرك منذ بداية الرواية أنه يتحدث عن فتاة ماتت، ويهدي إلى روحها، ويظهر من خلال توطئته أن سلمى هي أحد خيوط الذكريات التي لازالت تذكره ببيروت في ذاك الحين،والتي تذكره أنه أيضا بعيد عن بلاده،و***65275; غرابة أن يكون هذا النص هو توطئته، الذي يدمج فيه بين حبين وبين ذكريات متعدد،ذكريات سلمى وحبه لها، وذكريات شبابه في بيروت،وكعادته الطبيعة شيئ لا بد من الحديث عنه،والموت والحياة، واللذين مثلهما بروايته وأحداثها مع سلمى،بيروت لجبران مقبرة حلمه والتي تتمثل بمحبوبته،ومقبرة فرحته المتمثلة بسلمى ،فهناك قبر سلمى، وبيروت بالنسبة له، هي المكان الذي يؤجج آلامه في المهجر فبعده عنها ألم لا شك،وكأنه ذكرها في روايته هذه ليقول أنا لم أنس بيروت، فبيروت الألم هي ذاتها التي امضيت أيام شبيبتي فيها وهي أغلى الأيام لدى الإنسان والتي أصبحت في المهجر شيخوخة.

ثم يأتي جبران لاستعراض حالته النفسية قبل وبعد معرفته لسلمى في فصل (الكآبة الخرساء)، ولكن سلمى المحبوبة هنا وكأنها رمز للمعرفة في ذاك الوقت ، فصل الكآبة الخرساء يعرض جبران ونظرته وفلسفته لتلك الأيام التي يتحسر عليها الناس وهي أيام المراهقة أو الفترة التي تجيء بين الطفولة والشباب، الناس يتحسرون على هذه الأيام، أما جبران يرى أنه قد تحرر من هذه الفترة، لأنها فترة جهل، وقلة معرفة ولكن أليس هذا الشيء الطبيعي في الإنسان في تلك الفترة من حياته ؟ نعم يؤكد جبران على أن هذه الطبيعة المفترضة في الإنسان لكن علة في نفسه جعلت منه شخصا مختلفا،ونحن كما أسلفنا في حياة جبران في أثناء طفولته أنه كان شديد الإرتباط بالطبيعة لطالما سحرته الطبيعة بجمالها،ولطالما أحاطته بغموضها،جبران الآن في الرواية يشير إلى أنه كان يقف أمام الطبيعة والكون متأملا متسائلا،لكن تأمله أكبر منه وتسائله أكبر من معرفته فكيف سيجد له الإجابة؟

هذه هي الكآبة الخرساء التي أصابة جبران لأنه كان يجهل ما يدور في هذا الكون فعلى سبيل المثال قوله:"ما ذهبت إلى البرية إلا وعدت كئيبا" بسبب تلك الأسئلة التي تراوده و***65275; يجد لنفسه قدرة على إجابتها كانت كآبته..لأن الجهل بالنسبة لجبران كآبة.
فهو يقول:" إن الغناوة ليست كما يراها الناس خلو بعده راحة،إلا عند الذين يولدون أمواتا ولا يفكرون. وكأنه يريد أن يقارن بينه في طفولته وبين الكبير الذي أخلد إلى الراحة عن طريق المال والثراء وإن كان هذا الثراء مغموساً بالجهل، فالبنسبة لجبران الغباء القاطن بجانب العواطف والأحاسيس المستيقظة هو أفضل من هذا الثراء، وهو يقصد بالغباء مرحلة الطفولة التي ***65275; تجد أجوبة لأسئلة أكبر من عقليته.
كل ذلك بالنسبة لجبران قبل سن الثامنة عشر،والذي به عرف الحب وتفتحت عيناه على معاني الحياة، عرف به أن الكآبة واليأس،والمحبة والحلم،تملأ الحياة بالمعرفة،رأى في الحياة عندما كبرأنها تحمل النقائض،***65271;نه رأى الملائكة والأبالسة،ومن لايرى الملائكة والأبالسة يظل بعيدا عن المعرفة وستظل نفسه فارغ من العواطف،وكأنه يشير إلى الخبرة والمعرفة المكتسبة من خلال معايشة الناس ليرى من الناس أصنافا عديدة.
وفي كلا الفصلين في التوطئة والكآبة الخرساء نرى جبران يتغنى ببيروت،وأيامه فيها
بوصف ذكريات طفولته فيها فهو إذا جاء ليصف تلك الذكريات، لم يكف عن التحدث عن سحر طبيعة لبنان، وعن جبالها وسهولها،والتي كان يمضي بهما متأملا متسائلا.
.
.
.

ثم ينتقل جبران، من الحديث عن الكآبة الخرساء والتوطئة،ليبدأ بالحديث عن قصته وسرد أحداثها، ونلاحظ أنه في معظم الفصول سنجده يتغنى بطبيعة بيروت وفي فصل يد القضاء الذي يأتي بعد الكآبة الخرساء نجده يتغنى بسوريا أيضا،وهذا إن دل يدل على أنه يمهد لشيء في هذه الرواية،غير علاقته بسلمى،حتما إنه كان يمهد ليظهر ان هذا الجمال، عكر صفوه أصحاب السلطة والنفوذ أمثال المطران المتمثل برجل الدين المسيحي الذي استغل الدين لخدمة مصالحه الذاتية،ففي هذا الفصل يبدأ بتوضيح الطريقة التي التقى فيها الرجل الطيب فارس كرامة لأول مرة،صاحب النفس الطيبة ،الثري والكريم،والذي يستغل الناس طيبته، ومن هنا نعرف لماذا أسهب جبران في الحديث عن الجهل في الفصل السابق،وتحدث عن الغنى الذي يتحول إلى نقمة على صاحبه، إن كان جاهلا، غير قادر على التمييز واتخاذ القرار.
فارس كرامة صديق والده في القدم،رأى أن جبران هو ابن صديقه الذي تمثلت روح صديقه فيه،والذي التقاه بالصدفة في بيت أحد أصدقائه فكان من هنا التعارف،ثم يعرف من خلال صديقه الحزين على حال فارس كرامة،حالة هذا الرجل الميسورة ماديا،لكن للأسف محط أنظار الجشعين والطماعين،ولأنه رجل غشيم لم ير الحياة على حقيقتها...فكان مستغلا من قبل المطران
وأيضا هنا يبدأ بالتمهيد إلى فكرة الإنصياع الأعمى إلى رجل الدين من ِقَبل المجتمع، وانقياد المرأة الشرقية لرأي الأب وإن كان هذا الرأي على غير صواب، فحين يصف صديق جبران الذي كان في بيته حين التقى فارس كرامة حال فارس وابنته، يظهر أن الرجل طيب وابنته طيبة تطيعه في كل شيء و***65275; تخالفه، وإن كانت ترى استحواذ المطران عليه،والذي يهدف إلى تزويجها من ابن أخيه منصور بك طمعا بثروة والدها.
.
.
.
.
ثم يأتي الفصل الرابع وهو (في باب الهيكل) مع العلم أن جميع الفصول متسلسلة في السرد ولكن جبران عمل على إعطاء كل جزء من الرواية عنواناً وذلك لأن كل جزء يحتوي على فكرة وفلسفة،كخلاصة لهذا الفصل،وفي أغلب الأحيان تكون مختلفة عن الأفكار السابقة ولكنها ضمن نفس إطار الرواية، وهذا لوحده برأيي جميل فهو استطاع أن يجعل من هذه الرواية المترابطة الفصول في حين،رواية متعددة الأهداف ومتعددة الأفكار،دون ان يخل في أسلوب السرد أو أن يخرج عن إطار الفكرة الرئيسية.

ففي هذا الفصل،يعود جبران ليتحدث عن أيام الشبيبة الماضية ممثلا إياها بشيخوخة فارس كرامة، وشبابه .

جبران حين لبى دعوة فارس كرامة وزاره في بيته المنفرد عن المدينة والذي لا ينم إلا عن ثراء فاحش لهذا الرجل الطيب النفس،جلس وإياه يحدثه الرجل المسن عن ذكريات الشباب التي امضاها مع والده،أما جبران فراح يحدثه عن أحلامه وطموحاته والتي مثلها بأحلام الشباب التي تصطدم مع الواقع المر وكأنه حين تحدث عن هذه الأحلام ومدى حجمها عند الشباب أراد أن يقول هذا الإنسان الحالم،هو أصغر من أحلامه بكثير،فما بالك إذا اصطدم بواقع المجتمع وأعرافه وتقاليده.

ويلاحظ القارئ لهذه الرواية في كل فصولها،شيئا مما أشرنا إليه في حياة جبران،وهو المبالغة،ولكن هذه المبالغة،جاءت في محلها في بعض الأحيان،فجبران إذا ما أخذ يصف بشيء قد يكلفه حجما كبيرا من حجم الرواية، لدرجة أن القارئ في بعض الفصول قد يشعر أن جبران قد نسي الموضوع الأصلي الذي كان يتحدث عنه، وراح يتحدث عن موضوع آخر،ولكن جبران كان أيضا يمتلك على المقدرة الكاملة، لإعادة القارئ إلى مسار الرواية من جديد بذات الطريقة التي أخرجه منه، ومع ذلك حين نتحدث عن بعض النقاط التي تقف في وجه النص سنتحدث عن هذا الأمر حيث انه برأيي قد وظف أسلوب فيه مواقع أخرى بذات الأسلوب ولكنه لم يكن بذاك القوة وليكون هذا الأسلوب ضد النص وليس معه.
وفي ذات الفصل يظهر جبران فلسفة أخرى،وهي الجمال وطبيعته في نفس جبران، فهو يرى أن الجمال في الجوهر الداخلي والمكنون في سريرة النفس،"والمنبعث من قدس أقداس النفس"كما أشار.
هذا الجمال الذي رآه في سلمى ابنة فارس كرامة، وهي جالسة أمامه والذي راح يصف به،مدرجا من خلاله نظرته للجمال.

ونلاحظ في هذا الفصل أن جبران شخص حساس ،تؤثر به الكلمة سواءاً الإجابية أوالسلبية،فهو يصف شعوره حين جاء ليغادر بيت فارس كرامة، مبيديا حبه له وأنه كالابن بالنسبة له. فراح يصف ذاك الشعور الذي غمره بإسهاب شديد لأجل هذه الكلمات التي غمره بها فارس كرامة.

ومن هنا تبدأ قصة تعلقه بسلمى،فهو حين يخرج من بيتهم،يبدأ بوصف الحالة التي هو عليها من تعلق شديد بها،وإشارته أن روحه قد اتفقت تماما مع روح سلمى، ثم يظهر ان ذات الأمر قد حصل مع سلمى لأنه أشارت أن أرواحهما سبق وأن التقتا من قبل في عالم غير هذا.

.
.
.

يتبــع............

[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:07 PM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]

(الشعلة البيضاء)

في هذا الفصل يبدأ تركيز الضوء على سلمى و وطريقة الإجتماع بها ولأنه كما قلنا الفصول في الرواية هي مجرد عرض لأفكار مجتزأة من الرواية ككل: نرى أنه يوجد رابط بين العنوان الشعلة البيضاء وبين ما جاء في النص،فهو يتكلم عن سلمى واصفاً جمالها والذي كما أسلفنا في الفصل السابق أنه جمال الروح قبل الجسد فنجده يقول:"لم يكن جمالها في شعرها الذهبي،بل في هالة الطهر المحيطة بها،ولم يكن في عينيها الكبيرتين بل في النور المنبعث منهما... جمال سلمى لم يكن في جسدها بل في نبالة روحها"
فنجد انه حاول أن يثبت فكرته وهو بوصف جمال سلمى فكل ما وصفه من عينيها وشعرها هو من علامات الجمال،لكن بنفس الوقت يأتي ليقول ليس هذا ما جذبني وإنما جمال الروح والطهر..

وهو يظهر للقارئ هنا أن علاقته بسلمى كانت قد تشكلت قبل أن يبوح أي منهما للآخر بذلك،وذلك ان كلاهما كان يسمع الصوت المنبثق من الآخر،وأن كلاهما يجد الراحة لدى الآخر وذلك لقوله: إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها الشعور،وتشاركها الإحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنهما.

وكأنه يريد ان يمهد لقول:كيف يمكن لإثنين أن يجتمعا في الوقت الذي لا يوجد انسجام بينهما والفوارق كبيرة بين طبيعتيهما،كيف يمكن لمن يريد المادة (وهو منصور بك) أن يتزوج بإنسانة تؤمن بالروح،أو كيف يمكن أن يتزوجها في الوقت الذي هو لن يشاركها أحاسيسها وهي لن تشاركه أيضا.
.
.
.
(فصل العاصفة)


يتابع جبران الحديث عن الزيارات لفارس كرامة،و اللقاءات بينه وبين سلمى،في دخل منزل والدها فارس كرامة، وهذه المرة نرى أن جبران لم ينس افتقاده لأمه،فراح يصور حنان سلمى عليه بحنان الأم وراح يقارن بينها وبين الأم،على الرغم من أنها محبوبة..ربما يكون فصل العاصفة هو الحد الفاصل الذي يختم في السعادة في هذه الرواية..
وأشار هنا جبران عن اجتماع العشاء الذي جمع بينه وبين سلمى ووالدها أنه اجتماع بين ثلاثة لكل منهم مقصد ولكنه يشير:أنه مهما اختلفت مقاصد البشر،إذا اتفقت السرائر بالمودة والمحبة أمكن تجاوز الإختلافات.

وهنا نلاحظ في هذا الفصل أن المعرفة لازالت تنضج لدى جبران وهي لم تكتمل ،فهو حين أشار في فصل الكآبة الخرساء إلى المعرفة اشترط فيها الحزن والسعادة،اشترط فيها ان يعرف المرأ النقيضين

.
.
في هذا الفصل أيضا نراه يشير إلى أفكار وهي كالتالي:



صور لبنان في ساعة السكينة والحب بأنه ذاك الشاب الفتي الذي يستند على ذراعه ممددا على جبال لبنان ،صوره بذاك العملاق الفتي..ثم ليعود في الفصل التالي ويصوره في ساعة الحزن بذاك الكهل المتعب المرهق وكانه أراد ان يقول: بالحب يأتي السلام وبالكره والبغضاء واستغلال الشعوب،والاستبداد بها تأتي الحروب التي تنهك البلاد .


وكأنه يشير إلى تلك الفترة التي كانت تغصب فيها الفتاة على الزواج العيش مع رجل لم تكن تريده.



.
.
.
كأن يرى الملائكة والأبالسة..لذلك هو لازال يرى السعادة ولم ير حزنا بعد.. لذلك أشار إلى أنه وكل من سلمى وفارس كرمة ثلاثة ضعفاء يتملكهم شعور كبير ومعرفة قليلة،- كنت في البداية أظن أنه يقصد بالضعف وعدم المعرفة..هو عدم معرفة الغيب الذي ينتظر قصته مع سلمى ولكنه أتبع شعور الضعف لعدم المعرفة بالحديث عن علاقة سلمى بوالدها والتي كانت تنم عن ضعف شخصية لدى سلمى خصوصا اما والدها ونلاحظ من خلال حديث جبران المطول عن سلمى أنه وصف شخصية فتاة ضعيفة لا تجيد الدفاع عن النفس و***65275; عن حقها،مع أن والدها لم يكن شخصا ظالما ولكنه كان منقادا هو الآخر كبقية الناس لما يمليه عليهم المطران مستغلا سلطته.. 1-يرى أن الفكرة أساس كل شيء فحبه لسلمة لم يكن في البداية إلا فكرة تراوده وتراودها،لتنبثق عن هذه الفكرة علاقة حب، ثم يأتي ليسهب كما أسلفنا في طرح فلسفته بوصف مفعول الفكرة لشير أن أساس كل شيء في هذا العالم فكرة فالثورة كانت فكرة تدور في رأس رجل واحد،والحرب كانت فكرة تدور في رأس رجل واحد،فنلاحظ أنه لا يرى حبه شيئا منفصلا عن طبيعة العالم الحقيقي بل هو فكرة كبقية الأفكار التي تدور في الرأس ومن ثم لتنطلق إلى الفضاء الرحب. 2-والفكرة الأخرى وهي بنظري من اجمل التصاوير التي طرحها جبران في روايته : 3-أن العلاقة مع البشر تأتي من المحبة قبل التعايش الطويل فليس شرطا أن التعايش طويل يخلق المحبة،بل المحبة ابنة التفاهم الروحي وإن لم يأت هذا التفاهم بلحظة واحدة قد لا يتم بعام ولا بجيل. 4-ثم يشير إلى مطامع منصور بك وعمه المطران،ثم يقول لا يساوي الملك ولا المال شيئا أما الحب.


(بحيرة النار)

ربما نستطيع القول بأن هذا الفصل هو فصل التمرد على الواقع بالنسبة لجبران..

ذلك أنه أسهب كثيرا في التحدث عن السلطة والاستغلال كالتالي:
إن رؤساء الدين ***65275; يكتفون بالمجد الزائف لأنفسهم،بل ويجعلون أقاربهم وكل من يمت لهم بصلة من سادة الشعب والمستبدين به،وأن انتقال مجد الأمير هو انتقال بالارث فالمجد أصبح يورث أيضا،ومجد الرئيس الديني ينتقل أيضا إلى الأخوة والأبناء
ولم يكتف بالاشارة إلى رؤساء الدين المسيحي بل عمم هذه النظرة على جميع الديانات.


ثم يشير إلى فارس كرامة الرجل الطيب الذي لم يستطع رفض طلب المطران بولس،لأنه لا أحد يجرؤ على ذلك ،ومن يفعل ذلك يصبح كافرا بفتوة من المطران..وحينها سينبذه الناس ويحاربونه.

وأيضا يشير إلى المال الذي يجلب البلاء والشر بين الناس ويقتل الحب في القلوب ويعمي الأبصار كما عمى بصيرة المطران.

ثم ينتقل للحديث عن حال المرأة الشرقية ويلخصها بملامح سلمى حين تجبر على الزواج من رجل لا تريده،وانصياعها للواقع بالرضى والقبول التام
ثم ياتي للحديث عن أحلام المرأة على لسان سلمى حين أخذت تقارن الواقع باحلامها وتظهر النقص الذي تعاني منه بسبب المجتمع وما يفرضه عليها الواقع، ثم تقول له:تذهب بك الحياة إلى امجاد الرجال،أما انا فإلى واجبات المرأة المفروضة لضعفها لتموت أحلامها.
وتصف له قلب المرأة الذي يعشق بإخلاص،وتشبهه بساحة حرب تقتلع اشجارها وتحرق أعشابها وتلطخ صخورها بالدماء،وتبقى الارض ساكنة ***65275; تقاوم.
.
.
.
.


[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:08 PM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]

(أمام عرش الموت)

هنا يشير أيضا إلى كيفية المعاملة للفتاة وأن الفتاة ليس لها شخصية،وأنها كما السلعة وأبوها البائع و المشتري هو الذي سيتزوجها،وهي لاعلاقة لها بهذا الشأن سوى انها ستسلم للزوج الذي يريده الأب،أو تفرضه الظروف.

ثم يأتي جبران ويقارن بين نارين تقع فيهما المرأة: وهي نار المعرفة ونار الجهل، فالمرأة في المتحضرة التي تولد وتنمو في المدينة تتفتح مداركها ويزداد وعيها، وتخرج من ثوب المرأة القروية البسيطة،ولكن مع ذلك تظل سلطة المجتمع هي المسبب لآلامها.
فالمرأة بالقرية غير مدركة ولكنه افي المدينة مدركة ولكن تعيسة لأن أحلامها تصطدم بالواقع،في القرية كانت عمياء تسير في نور النهار،فأصبحت مبصرة تسير في عتمة الليل أي انها ذات وعي لمن هذا الوعي لا ينفعها في ظل مجتمع ينكرها.
ثم يقول المرأة في القرية جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها،قوية بضعفها،فصارت في المدينة قبيحة بتفننها وسطحية بمداركها، معرفتها بعيدة عن القلب.
ثم يسأل عن المستقبل وكأنه يتمنى أن تجتمع صفت الجمال بالمعرفة،أن تتوحد الصفات الجيدة في المرأة لا أن تكسب شيئا وتدفع ثمنه شيئا آخر، سواء بسببها كالمرأة التي تغويها السطحيات أو بسبب المجتمع.


وحسب نظرته الرقي سنة في البشر ومنه رقي الروح،فإذا كانت المرأة قد ارتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر تكمله ابنة المستقبل،وما تأخر المرأة بنظره إلا لأن العقبات التي تبلغها قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص.


ثم يعود الحديث عن منصور بك والمطران،فهما رمز للسيادة والسلطة والقوة،واستغلال الشعب وظلم الضعفاء،ومثل هؤ***65275;ء هم الذي يتسببون بضياع الأمم وإبادة الشعوب.
وأن الشعوب الشرقية ماهي إلا شعوب مستسلمة للنفوس المعوجة لذوي الأخلاق الفاسدة، وبنظره أن المرأة الضعيفة ***65275; تنم إلا عن أمة ضعيفة، المرأة التي المعذبة بين ميول نفسها وقيود جسدها،هي كالأمة المعذبة بين حكامها وكهانها، والمرأة هي بمنزل الشعاع من السراج.
.
.
ثم هنا وكأن جبران يتحول إلى القراء ويخاطبهم،وذلك طبعا من خلال حواره مع سلمى،أنه ***65275;بد من مواجهة هذا الظلم والفساد ولابد من الصمود في وجهه،وليس الانصياع له ولارضى بالأمر الواقع.
فهؤ***65275;ء الأقوياء ***65275; يأبهون للضعيف بل يعملون على زيادة ضعفه،فهو كسير الجناح وهم يزيدون من كسره،فكسير الجناح لا يواسيه و***65275; يداوي كسره إلا كسير ضعيف مثله.
.
.
.

(بين عشتروت والمسيح)

هنا يبدأ الحديث عن اللقاء السري الذي يجمع بين سلمى وجبران وذلك بعد ان تزوجت سلمى من منصور بك ابن أخ المطران،كان اللقاء يحدث في معبد مهجور،ويحاول جبران الآن أن يظهر انه بدأ يمتلك المعرفة،والتي اشترط حدوثها بأن يتذوق الإنسان الحزن والسعادة وأن يرى الملائكة والأبالسة،
ولكنه فلسف هذه المعرفة بصورتين في المعبد وهي صورة عشتروت والتي كانت عند الإغريق تمثل إلهة الحب وصورة يسوع وهو مصلوب -وهذا في معتقد النصارى- يصور طبيعة الحياة الممزوجةالمجدلية الواقف أمامه وهو مصلوب.

ثم يشير على لسان سلمى:"إن الكتاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة، ولكنهم إلى الآن لم يفهموا حقيقة قلبها وأسراره،لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات أي ينظرون إلى الجسد وينسون الروح والقلب فلا يرون غير خطوط جسدها، أو يفهمونها تحت مكبرات الكره فلا يصورونها بغير الضعف والاستسلام.


ثم يعود مشيرا على لسانها إلى اللوحتين: "في قلب هذه الصخرة -الموجودة في المعبد-قد نقشت الأجيال رمزين يظهران خلاصة ميول المرأة،ويستجليان غوامض نفسها المراوحة بين الحب والحزن،بين الانعطاف والتضحية بين عشتروت الجالسة على العرش ومريم الواقفة أمام الصليب،إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة،والمرأة هي التي تدفع الثمن".

.
.
.
بالحب والسعادة والمأساة والحزن،فصورة عشتار تظهر الحب أما صور المسيح تظهر حزن مريم

(التضحية)

هنا تكمن التضحية التي قدمتها سلمى،وهي التخلي عن جبران حماية له من بطش المطران،وذلك أن المطران قد شك بأمر خروجها في نهاية كل شهر،فبث إليها العيون ووظف الخدم لمراقبتها،فكانت أن أنهت اللقاء بينهما.

هنا يظهر صوت آخر لجبران، وهو الروح المؤمنة بالله..فهو يرى أن التمرد واجب وشيء إلزامي فالله يعطي وهؤ***65275;ء المستبدين يسلبون،فالمستسلم لهؤ***65275;ء ولجشعهم ونفوذهم،هو ضعيف أنكر ما أتاه الله، ومع ذلك نراه يتحدث أيضا عن بلاد المهجر والتي هي في ذاك الوقت أرض الحرية بالنسبة له وهي الحرية المعنوية والاستقلال الشخصي.


.


(المنقذ)

مضى على زواج سلمى خمسة اعوام، دون أن تحمل بطفل، والذي جعل من منصور بك يزيد من كرهه لها واحتقارها حتى أصبح يراها عدوا له.
فهو يشير إلى نظرة المجتمع للمرأة العاقر ونبذه لها،بل وجعل ذلك عيب بشخصها..
ومع ذلك،بعد خمسة اعوام وهبت سلمى بطفل ويوم الولادة كان الجميع ينتظر بهذا المولود الذي سيحمل اسم منصور بك،ولم تذكر أحد سلمى على الرغم من أن صوتها كان قد انتشر في كل انحاء الحي،وحين انجبت فرح الناس جميعا بقدوم المولود،وأقام منصور بك حفلا بقدومه،وراح يشرب الأنخاب وكأن جبران يريد أن يقول هل المرأة آلة إنجاب حين يأتي المولود نفرح به وننسى من اتى به إلى الدنيا.

لكن في الوقت الذي كان الناس فيه يحتفلون،كان الطفل ليس إلا عابر سبيل جاء ليأخذ امه ويمضي بها إلى ملكوت آخر.
ماتت سلمى ومات طفلها،ومنصور بك واقف على الدفن ينظر للأفق وينتظر انتهاء المراسم ليجد غير سلمى فتاة تفوق ثروتها ثروة سلمى...
.
.


وها قد انتهينا بحمد الله من القراءة الأولى..ولكن بقي أن أظهر ثلاثة نقاط قد يستنتجها أي قارئ للرواية وهي كالتالي:

*في فصل(عشتروت والمسيح) وجهة نظر: لن تكون وجهة نظري مخالفة لمي زيادة والتي أشرت إليها في الجزء الأول من موضوع الأجنحة المتكسرة،وأي نفس بشرية لا ترضى بهذا الشيء ولوكانت رواية او أدب فحتى للأدب حدود يقف عند بابها،فكما قالت مي زيادة أقول معها هل على كل امرأة لم تجد سعادتها مع زوجها أن تذهب وتلاقي صديقا آخر في منطقة مهجورة؟
بالطبع لا ولكن الذي أحببت أن أشير إليه،هو ضعف تبرير جبران لهذا الموقف فالقارئ يستنتج من خلال النص الذي يبرر في جبران لقائهما، أن جبران كان أضعف ما يكون في هذا النص،ومع ذلك حتما جبران قادر ان يميز أين مواضع الضعف فيذهب لتغطيتها بشيء آخر،فبعد أن برر اللقاء راح يخاطب عاطفة القارئ محاولا إبعاد العقل،مستميلا قلبه بحجة أن المجتمع قد ظلمهما فراح يلهي القارئ بأفعال المجتمع عن فعلهما،ويستميل عواطفه بدلا من عقله.



*جبران حاول جاهدا أن يخفي نيتشة وأثره في الرواية،وأكاد أقول انه استطاع ذلك إلا في بعض الفصول ،وكان نيتشة أكثر ما يكون ظاهرا في فصل بحيرة النار،ومع ذلك بوجهة نظري لا أغالط جبران على هذا فالأدب كالبناء يعلو طوبة فطوبة،وكل يستمد من الآخر ثم يزيد عليه،وفي هذه الرواية حاول أن يجمع بين تمرد نيتشة والرومنسية التي بالأصل كان هو عليها،لكن لم يستطع أن يخفي هنا أنه تلميذ نيتشة وهو لا ينكر هذا،في هذه المرحلة فجبران لم يتخل عن نيتشة إلا بعد كتاب النبي.

يتبــع


[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:08 PM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
الشــعلـة الـزرقــاء

رسائل جبران خليل جبران إلى ميّ زيادة





تحقيق وتقديم:
سلمى حفار الكزبري
والدكتور سهيل بشروني

نيويورك 2 كانون الثاني 1914



حضرة الأديبة الفاضلة.

قد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت بدون خطاب ولا جواب ولكنه لم يخطر على بالي كونك " شريرة" أما الآن وقد صرّحت لي بوجود الشر في روحك فلا يجمل بي سوى تصديقك فأنا أصدق وأثق بكل كلمة تقولينها لي ! أنت بالطبع تفتخرين بقولك – أنا شريرة – ويحق لك الافتخار لأن الشر قوة تضارع الخير بعزمها وتأثيرها . ولكن اسمحي لي أن أقول لك مصرحاً بأنك مهما تماديت بالشر فلا تبلغين نصف ما بلغته فأنا شرير كالأشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أبواب الجحيم ! وأنت بالطبع ستصدقين كلامي هذا !.

غير أنني للآن لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دعتك إلى استخدام الشر ضدي فهلا تكرمت بافهامي ؟ قد أجبت على كل رسالة تكرمت بها عليّ واسترسلت متعمقاً بمعاني كل لفظة تعطفت بهمسها في أذني فهل هناك أمر آخر كان يجب عليّ أن أفعله ؟ أو لم تبدعي لي من " لا شيء" ذنباً لتبيني لي مقدرتك على الاقتصاص ؟ لقد فلحت وأحسنت البيان , أما أنا فقد آمنت باقنومك الجديد الكلي المطلق الجامع بين أسياف " كالي" ربة الهند وسهام " ديانا" معبودة الأغريق .

والآن وقد فهم كل منا ما في روح الآخر من الشر والميل إلى الاقتصاص فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين . كيف أنت وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان )؟ هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل فعدت إلى مصر صحيحة الذراعين ؟ أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً بين أعالي الجبال وشواطئ البحر ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال ومصارعة الأحلام – تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي .

وقد سررت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعها في العالم العربي , أما صاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر وله كتابات لطيفة وقصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليف" ومما يستدعي الإعجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الافرنج إلا وعرفه حق المعرفة . أما صديقنا أمين الريحاني فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون وقد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغاية ولقد أخبرت صاحب الفنون بأنك سوف تبعثين إليّ بمقالة ففرح وبات يترقب .

بكل أسف أقول انني لا أحسن الضرب على آلة من آلات الطرب ولكنني أحب الموسيقى محبتي الحياة ولي ولع خاص بدرس قواعدها ومبانيها والتعمق بتاريخ نشأتها وارتقائها , فان ابقتني الأيام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية والفارسية وكيفية ظهورها وتدرجها وتناسخها .

ولي ميل للموسقى الغربية يضارع ميلي للأنغام الشرقية فلا يمر أسبوع إلا وأذهب مرة أو مرتين إلى الأوبرا غير أني أفضل من البيان الموسيقي الأفرنجي تلك المعروفة بالسنفوني والسوناتا والكنتاتا على الأوبرا والسبب في ذلك خلوّ الأوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلاقي وتتمايل مع أميالي . واسمحي لي الآن أن أغبط يدك على عودك وعودك على يدك وأرجوك أن تذكري اسمي مشفوعاً باستحساني كلما ضربت نغم النهوند على الأوتار فهو نغم أحبه ولي رأي فيه يشابه رأي " كارليل في النبي محمد ". ( كارلايل : أديب ومؤرخ انكليزي درس بعضا من العربية في جامعة كمبردج سنة 1795 وكتب عن النبي محمد فصلا ضمنه إعجابه بشخصيته البطولية في مؤلفه " الأبطال , عبادة الأبطال , والبطولة في التاريخ "

وهلا تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في الأسبوع واصرف الساعات الطوال جالساً على الرمال الذهبية محدقاً بالأهرام وكنت في ذلك العهد صبياً في الثامنة عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش الأعشاب أمام العاصفة , أما أبو الهول فكان يبتسم لي ويملأ قلبي بحزن عذب وندبات مستحبة .

أنا معجب مثلك بالدكتور شميل فهو واحد من القليلين الذين انبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كرد فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا .

هل قرأت الكتاب الفرنساوي الذي وضعه خير الله افندي خير الله ؟ أنا لم أره بعد وقد أخبرني صديق أن في الكتاب فصل عنك وفصل آخر عني فإذا كان لديك نسختان تكرمي بإرسال نسخة منهما إليّ وأجرك على الله .

ها قد انتصف الليل فليسعد الله مساءك ويبقيك للمخلص .



جبران خليل جبران

[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:09 PM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]


نيويورك 24 كانون الثاني 1919



حضرة الأديبة الفاضلة الآنسة ماري زيادة المحترمة .

سلام على روحك الطيبة الجميلة . وبعد فقد استلمت اليوم أعداد المقتطف التي تفضلت بإرسالها إليّ فقرأت مقلاتك الواحدة أثر الأخرى وأنا بين السرور العميق والإعجاب الشديد . ولقد وجدت في مقالاتك سرباً من تلك الميول والمنازع التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت أحلامي ولكن هناك مبادئ ونظريات أخرى وددت لو كان بامكاننا البحث فيها شفاها . فلو كنت الساعة في القاهرة لاستعطفتك لتسمحي لي بزيارتك فنتحدث مليا في " أرواح الأمكنة " وفي " العقل والقلب " وفي بعض مظاهر " هنري برغسن" ( هنري برغسن فيلسوف فرنسي حاز على جائزة نوبل عام 1927 وهو صاحب نظرية الروحانية ضد هجمات المذاهب المادية . من مؤلفاته " المادية والذاكرة" و " التطور والأخلاق" .) غير أن القاهرة في مشارق الأرض ونيويورك في مغاربها وليس من سبيل إلى الحديث الذي أوده وأتمناه .

إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة إطلاعك وملاحة ذوقك في الانتقاء والانتخاب , وعلاوة على ذلك فهي تبين بصورة جلية اختباراتك النفسية الخاصة – وعندي أ، الاختبار أو الاقتناع النفسي يفوق كل علم وكل عمل – وهذا ما يجعل مباحثك من أفضل ما جاء من نوعها في اللغة العربية .

ولكن لي سؤال استأذنك بطرحه لديك وهو هذا : ألا يجيء يوم يا ترى تنصر فيه مواهبك السامية من البحث في مآتي الأيام إلى إظهار أسرار نفسك واختباراتها الخاصة ومخبآتها النبيلة ؟ أفليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين ؟ ألا ترين أن نظم قصيدة أو نثرها أفضل من رسالة في الشعر و الشعراء ؟ إني كواحد من المعجبين بك أفضل أن اقرأ لك قصيدة في ابتسامة أبي الهول مثلا من أن أقرأ لك رسالة في تاريخ الفنون المصرية وكيفية تدرجها من عهد إلى عهد ومن دولة إلى دولة لأن بنظمك قصيدة في ابتسامة أبي الهول تهبيني شيئاً نفسياً ذاتياً أما بكتابتك رسالة في تاريخ الفنون المصرية فانك تدلينني على شيء عمومي عقلي . وكلامي هذا لا ينفي كونك تستطيعين اظهار اختباراتك النفسية الذاتية في كتابة تاريخ الفنون المصرية بيد أني أشعر بأن الفن – والفن اظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل الروح- هو أحرى وأخلق بمواهبك النادرة من البحث – والبحث اظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في الاجتماع . ليس ما تقدم سوى شكل من الاستعطاف باسم الفن .
فأنا استعطفك لأني أريد أن استميلك إلى تلك الحقول السحرية حيث سافو ( شاعرة اغريقية ولدت في مدينة ليزبوس في أوائل القرن السادس قبل الميلاد , لها تسع دواوين من الشعر الغنائي والاناشيد لم يصلنا منها سوى بضع قصائد ) وايليزبيت براوننغ ( شاعرة بريطانية مبدعة تمتاز قصائدها بالعمق والرقة والنزعة الصوفية . وهي زوج الشاعر الانكليزي روبيرت براوننغ الذي أحبها من خلال قصائدها قبل أن يتعرف إليها ثم زارها في بيتها فأحبته حباً عارماً جعلها تتغلب على مرض عضال كان قد أقعدها .) وأليس شراينر ( كاتبة انكليزية دعت في مؤلفاتها إلى تحرير النساء ) وغيرهن من أخواتك اللواتي بنين سلّما من الذهب والعاج بين الأرض والسماء .

أرجوك أن تثقي بإعجابي وأن تتفضلي بقبول احترامي الفائق والله يحفظك للمخلص.


جبران خليل جبران


[/TABLETEXT]
زهراء الامير 04-30-2012 04:10 PM

[TABLETEXT="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]

نيويورك في 7 شباط 1919



عزيزتي الآنسة مي .

لقد أعادت رسالتك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها موكباً إثر موكب . تلك الأشباح التي ما ثار البركان ( يقصد بذلك الحرب العالمية الأولى ) في أوربا حتى انزوت محتجبة بالسكوت – وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله .

هل تعلمين يا صديقتي أنني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأنني كنت أقول لذاتي هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلاداً لها وقومي قوماً لها , هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة في إذن خيالي كلما وردت عليّ رسالة منك ؟ لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ- وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة .

أما مقالة أبي الهول فالسماء تعلم بأنني لم أطلبها منك إلا بعد إلحاح مستمر من صاحب مجلة الفنون – سامحه الله . فان من طبعي استهجان اقتراح المواضيع على الأدباء خصوصاً تلك الفئة القليلة التي لا تدون إلا ما توحيه الحياة إليها – وأنت من تلك الفئة القليلة – وفوق ذلك فأنا أعلم أن الفن يطلب ولا يطلب منه , وأن في نفس اقتراح المواضيع شيئاً مانعاً عن الإجادة فيها , فلو كتبت إلي في ذلك الزمن قائلة " لا ميل لي الآن إلى كتابة مقالة في أبي الهول " لقلت مترنماً :

" لتعش ميّ طويلا فهي ذات مزاج فني لا غش فيه " الخلاصة أنني سأسبقك في كتابة مقالة , في ابتسامة أبي الهول ! وبعد ذلك سأنظم قصيدة في ابتسامة ميّ ولو كان لدي صورتها مبتسمة لفعلت اليوم , ولكن عليّ أن أزور مصر لأرى ميّ وابتسامتها . وماذا عسى أن يقول الكاتب في ابتسامة المرأة؟ أفلم يقل ليونردو دافنشي آخر كلمة في الموضع عندما انتهى من صورة " لا جوغندا " ؟ , ولكن, أليس في ابتسامة الصبية اللبنانية سر لا يستطيع ادراكه واعلانه غير اللبناني , أم هي المرأة لبنانية كانت أم ايطالية تبتسم لتخفي أسرار الأبدية وراء ذلك النقاب الرقيق الذي تحوكه الشفاه .

والمجنون ( أول مؤلفات جبران باللغة الانكليزية ) وماذا يا ترى أقول لك عن المجنون ؟ أنت تقولين أن فيه ما يدل على " القسوة" بل وعلى " الكهوف المظلمة" . وأنا الآن لم أسمع مثل هذا الانتقاد مع انني قرأت الكثير مما نشرته جرائد ومجلات اماركا وانكلترا في هذا الكتاب الصغير . والغريب أن أكثر الأدباء الغربيين قد استحسنوا القطعتين :
My Minds
و
The Sleep Walkers
( مقالتان لجبران , عقلي والسائرون في نومهم )
واستشهدوا بهما أو ذكروهما بصورة خاصة . أما أنت يا صديقتي فقد وجدت فيهما القسوة – وماذا ينفع الانسان إذا ربح استحسان العالم وخسر استحسان ميّ ؟ وقد يكون ارتياح هؤلاء الغربيين إلى المجنون واخيلته ناتجاً عن مللهم أخيلة نفوسهم وعن ميلهم الطبيعي إلى الغريب والغير مألوف خصوصاً إذا كان شرقي المظاهر . أما تلك الأمثال والقصائد المنثورة التي نشرت في الفنون فقد ترجمها عن الأصل الانكليزي أديب محبته لي أوسع قليلا من معرفته بدقائق البيان الانكليزي .

ولقد رسمت بالحبر الأحمر دائرة حول لفظة " اشمئزاز" التي جاءت في كلامك عن المجنون , فعلت ذلك لعلمي بأنك إذا وضعت كلمات
The Sleep Walkers
بين شفاه الأمس والغد بدلا من وضعها على لسان أم وابنتها لأبدلت لفظة الاشمئزاز بلفظة أخرى – أليس كذلك ؟.

وماذا أقول عن كهوف روحي ؟ تلك الكهوف التي تخيفك – اني التجئ إليها عندما أتعب من سبل الناس الواسعة وحقولهم المزهرة وغاباتهم المتعرشة. إني أدخل كهوف روحي عندما لا أجد مكاناً آخر أسند إليه رأسي , ولو كان لبعض من أحبهم الشجاعة لدخول تلك الكهوف لما وجدوا فيها سوى رجل راكع على ركبتيه وهو يصلي .

أما استحسانك الرسوم الثلاثة في المجنون فقد سرني ودلني على وجود عين ثالثة بين عينيك , وقد طالما عرفت أن وراء أذنيك آذان خفية تسمع تلك الأصوات الدقيقة الشبيهة بالسكوت – تلك الأصوات التي لا تحدثها الشفاه والألسنة بل ما وراء الألسنة والشفاه من الوحدة العذبة , والألم المفرح , والشوق إلى ذلك العالم البعيد الغير معروف .

وأنت تسألين ما إذا كنت أريد أن يفهمني أحد بعد قولي :
For those who understand us enslave something in us
" لأن الذين يدركون خبايا نفوسنا يأسرون شيئا منها"
لا , لا أريد أن يفهمني بشري إذا كان فهمه إياي ضرياً من العبودية المعنوية . وما أكثر الذين يتوهمون أنهم يفهموننا لأنهم وجدوا في بعض مظاهرنا شيئاً شبيهاً بما اختبروه مرة في حياتهم . وليتهم يكتفون بادعائهم ادراك أسرارنا – تلك الأسرار التي نحن ذواتنا لا ندركها – ولكنهم يصموننا بعلامات وأرقام ثم يضعوننا على رف من رفوف أفكارهم واعتقاداتهم مثلما يفعل الصيدلي بقناني الأدوية والمساحيق ! أوليس ذلك الأديب الذي يقول بأنك تقليدينني في بعض كتاباتك من هؤلاء البشر الذين يدعون فهمنا ومعرفة خفايانا؟ وهل تستطيعين اقناعه بأن الاستقلال هو محجة الأرواح وإن أشجار السنديان والصفصاف لا تنمو في ظلال بعضها البعض ؟

ها قد بلغت هذا الحد من رسالتي ولم أقل كلمة واحدة مما قصدت أن أقوله عندما ابتدأت . ولكن من يا ترى يقدر أن يحول الضباب اللطيف إلى تماثيل وانصاب ؟ ولكن الصبية اللبنانية التي تسمع ما وراء الأصوات سترى في الضباب الصور و الأشباح .

والسلام على روحك الجميلة ووجدانك النبيل وقلبك الكبير والله يحرسك .

جبران خليل جبران

[/TABLETEXT]
زهراء الامير 04-30-2012 04:10 PM

[TABLETEXT="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]

نيويورك 11 حزيران – 1919



عزيزتي الآنسة ميّ.

رجعت اليوم من سفره مستطيلة إلى البرية فوجدت رسائلك الثلاث والمقال الجميل الذي تفضلت بنشره في جريدة المحروسة . ولقد علمت من خادمي أن هذه الرسائل بل هذه الثروة الجليلة قد وصلت معاً منذ أربعة أيام . الظاهر أن البريد المصري قد توقف عن اصدار الرسائل من القطر مثلما حجز الرسائل الواردة إليه .

ولقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري مصغياً إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف – أقول التعنيف لأنني وجدت في رسالتك الثانية بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها . ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالنجوم ؟ وكيف أحول عيني عن شجرة مزهرة إلى ظلّ من أغصانها ؟ وكيف لا أقبل وخزة صغيرة من يد عطرة مفعمة بالجواهر ؟ إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى عتاب أو مناظرة , فأنا أقبل بكل ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا ألا نضيف فتراً واحداً إلى هذه المسافة الشاسعة بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجميل والشوق إلى المنبع والعطش إلى الخالد . يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب . وعندي أن فكرة تستطيع الوقوف أمام المجرد المطلق لا تزعجها كلمة جاءت في كتاب أو ملاحظة أتت في رسالة. إذا فلنضع خلافاتنا , وأكثرها لفظية – في صندوق من ذهب ولنرمي بها إلى بحر من الابتسامات .

ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها , فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي , بل هي كقيثارة اورفيوس ( شاعر وموسيقي تحدثت عنه أساطير اليونان , سحر بأنغامه وحش الغاب وآلهة الجحيم .) تقرب البعيد وتبعد القريب وتحول بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة . إن يوماً يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل فما عسى أن أقول في يوم يجيئني بثلاث رسائل ؟ ذلك يوم انتحى فيه عن سبل الزمن لأصرفه متجولا في إرم ذات العماد.

وبما أجيب على سؤالاتك؟ وكيف أستطيع متابعة الحديث وفي النفس مالا يسيل مع الحبر ؟ ولكن لا بد من متابعة الحديث . فما بقي صامتاً ليس بالغير مفهوم لديك .

تقولين في رسالتك الأولى " لو كنت أنا في نيويورك لكنت زرت مكتبك الفني في هذه الأيام " أفلم تزوري مكتبي قط ؟ أليس رواء أثواب الذكرى الظاهرة جسد خفي للذكرى ؟ انما مكتبي هيكلي وصديقي ومتحفي وجنتي وجحيمي . هو غاب تنادي فيه الحياة الحياة وهو صحراء خالية أقف في وسطها فلا أرى سوى بحر من رمال وبحر من أثير . إن مكتبي يا صديقي هو منزل بدون جدران وبدون سقف .

ولكن في مكتبي هذا أشياء كثيرة أحبها وأحافظ عليها . أنا مولع بالآثار القديمة وفي زوايا هذا المكتب مجموعة صغيرة من طرائف الأجيال وبعض نفائسها كتماثيل وألواح مصرية ويونانية ورومانية وزجاج فينيقي وخزف فارسي وكتب قديمة العهد ورسوم ايطالية وفرنسية وآلات موسيقية تتكلم وهي صامتة . ولا بد من الحصول يوما ما على تمثال كلداني من الحجر الأسود . إني أميل بكليتي إلى كل شيء كلداني فأساطير هذا الشعب وشعره وصلواته وهندسته بل وأصغر أثر أبقاه الدهر من فنونه وصنائعه ينبّه في داخلي تذكارات غامضة بعيدة ويعود بي إلى الماضي الغابر ويجعلني أرى الحاضر من نافذة المستقبل . أحب الآثار القديمة وأشغف بها لأنها من أثمار الفكرة البشرية السائرة بألف قدم من الظلام نحو النور – تلك الفكرة الخالدة التي تغوص بالفن إلى أعماق البحار وتصعد به إلى المجرة .

أما قولك " ما أسعدك أنت القانع بفنك " فقد جعلني أفتكر طويلاً , لا يا ميّ لست بقانع ولا أنا بسعيد . في نفسي شيء لا يعرف القناعة ولكنه ليس كالطمع , ولا يدري ما السعادة غير أنه لا يشابه التعاسة . في أعماقي خفقان دائم وألم مستمر ولكنني لا أريد ابدال هذا ولا تغيير ذاك – ومن كان هذا شأنه فهو لا يعرف السعادة ولا يدري ما هي القناعة ولكنه لا يشكو لأن في الشكوى ضرباً من الراحة وشكلاً من التفوق .

وهل أنت سعيدة وقانعة بمواهبك العظيمة ؟ أخبريني يا ميّ هل أنت قانعة وسعيدة ؟ أكاد أسمعك هامسة : " لا لست بقانعة ولا أنا بسعيد " إن القناعة هي الاكتفاء والاكتفاء محدود وأنت غير محدودة .
أما السعادة فهي أن يملأ المرء نفسه من خمرة الحياة ولكن من كان كأسه سبعة آلاف فرسخ بالطول و سبعة آلاف فرسخ بالعرض لا ولن يعرف السعادة حتى تنسكب الحياة بكاملها في كأسه . أفليس كأسك يا ميّ سبعة آلاف فرسخ وفرسخ ؟

وماذا أقول عن " جوي المعنوي؟" لقد كانت حياتي منذ عام أو عامين لا تخلو من الهدوء والسلامة أما اليوم فقد تبدل الهدوء بالضجيج والسلامة بالنزاع . إن البشر يلتهمون أيامي ولياليّ ويغمرون أحلامي بمنازعهم ومراميهم فكم مرة هربت من هذه المدينة الهائمة إلى مكان قصيّ لأتخلص من الناس ومن أشباح نفسي أيضاً . إنما الشعب الأماركي جبار لا يكل ولا يمل ولا يتعب ولا ينام ولا يحلم , فإذا بغض هذا الشعب رجلا قتله بالإهمال وإذا أحبه قتله بالانعطاف فمن شاء أن يحيى في نيويورك عليه أن يكون سيفاً سنيناً ولكن في غمد من العسل : السيف لروع الراغبين في قتل الوقت والعسل لارضاء الجائعين !

وسوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق . إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني ولولا هذا القفص الذي حبكت قضبانه بيدي – لاعتليت متن أول سفينة سائرة شرقاً . ولكن أي رجل يستطيع أن يترك بناءً صرف عمره بنحت حجارته وصفّها ؟ حتى وإن كان ذلك البناء سجناً له فهو لا يقدر أو لا يريد أن يتخلص منه في يوم واحد .

سامحيني أيتها الصديقة العزيزة فقد أزعجتك بالكلام عن نفسي وبشكواي من أمور أدعى إلى الجهاد منها إلى التذمر .

إن استحسانك " المواكب" قد جعلها عزيزة لديّ . أما قولك بأنك ستستظهرين أبياتها فمنّة أحني أمامها رأسي , غير أنني أشعر بأن حافظتك خليقة بقصائد أسمى وأبلغ وأنبل من كل ما جاء في المواكب , بل ومن كل ما كتبته وأكتبه . وأما قولك في رسوم الكتاب " أنتم أهل الفن تبرزون هذه البدائع بقوى أثيرية احتفظتكم عليها ملوك الجوزاء فنأتي بغباوتنا أشقياء مظلومون ونحن بها أشقياء خاسرون " فكلام لا أقبله بل إني استميحك بالتمرد عليه و ( ما أكثر تمردي) – أنت يا ميّ منا وفينا . بل وأنت بين بنات الفن وأبنائه كالوردة بين أوراقها . إن ما جاء في مقالتك التي نشرت في " المحروسة" عن رسوم المجنون لأكبر دليل على شعور فني عميق وفكرة خاصة دقيقة وبصيرة نفاذة ترى ما لا يراه غير القليل من الناس . ولست بمبالغ إذا قلت بأنك أول صبية شرقية مشت في غابة " الأخوات التسع ( إشارة إلى الآلهات التسع في الميثولوجيا الاغريقية المشرفات على الآداب والفنون وقد عرفن بأسماء عديدة في عصور التاريخ القديم .) بقدم ثانية ورأس مرفوع وملامح منفرجة كأنها في بيت أبيها . ألا فأخبريني كيف عرفت كل ما تعرفين وفي أي عالم جمعت خزائن نفسك وفي أي عصر عاشت روحك قبل مجيئها إلى لبنان ؟ إن في النبوغ سراً أعمق من سر الحياة .

وأنت تريدين أن تسمعي ما يقوله الغربيون عني , فألف شكر لك على هذه الغيرة وهذا الاهتمام القومي . لقد قالوا الشيء الكثير وكانوا مبالغين في أقوالهم متطرفين في ظنونهم متوهمين وجود الجمل في وكر الأرنب . ويعلم الله يا صديقتي بأنني ما قرأت شيئاً حسناً عني إلا ونحت في قلبي . إن الاستحسان نوع من المسؤولية يضعها الناس على عواتقنا فتجعلنا نشعر بضعفنا . ولكن لا بد من المسير حتى ولو قوّص الحمل الثقيل ظهورنا , ولا بد من استنباط القوة من الضعف . أنا باعث إليك في غلاف آخر بشيء من أقوال الجرائد والمجلات وستعلمين منها أن الغربيين قد ملوا أشباح أرواحهم وضجروا من ذواتهم فأصبحوا يتمسكون بالغريب الغير مألوف خصوصاً إذا كان شرقياً . هكذا كان الشعب الأثيني بعد انقضاء عصره الذهبي . لقد بعثت منذ شهر أو أكثر بمجموعة من أقوال الصحف في المجنون إلى اميل زيدان ( تولى رئاسة تحرير مجلة الهلال سنة 1914 التي أسسها والده الأديب العلامة جرجي زيدان .) وهو بالطبع من أصدقائك .

أحمد الله وأشكره على انقضاء الأزمة عندكم . ولقد كنت أقرأ أخبار تلك المظاهرات فأتخيلك هائبة فأهاب , مضطربة فاضطرب . ولكنني كنت أردد في الحالين قول شكسبير :

Do not fear our person .
There’s such divinity doth hedge a king
That treason can but peep to what it would
Acts little of his will .
لا تخافي منا
فالملك تحيط به هالة من القداسة
وليس في مقدور الخيانة
أن تبلغ ما ترمي إليه
أو تحد من عزيمته

وأنت يا ميّ من المحروسين وفي نفسك مَلَكٌ يحميه الله من كل مكروه .
وتسألين ما اذا كان لكم من صديق في ربوعنا ؟

أي والحياة وما في الحياة من حلاوة جارحة ومرارة مقدسة إن لكم في ربوعنا صديقاً إرادته تدافع عنكم ونفسه ترغب في الخير لكم وابعاد السوء عنكم وتحميكم من كل أذى . وقد يكون الصديق الغائب أدنى وأقرب من الصديق الحاضر . أفليس الجبل أكثر هيبة وأشد وضوحاً وظهوراً لسائرٍ في السهل منه لساكنيه ؟

ها قد غمر المساء هذا المكتب بوشاحه فلم أعد أرى ما تخطه يدي . وألف تحية لك وألف سلام عليك والله يحفظك ويحرسك دائماً .

صديقك المخلص
جبران خليل جبران

[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:11 PM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]

نيويورك 25 تموز 1919



عزيزتي الآنسة ميّ

منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري . ولقد صرفت الساعات الطوال مفكراً بكِ مخاطباً إياكِ مستجوباً خفاياك مستقصياً أسراركِ . والعجيب أنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في مآتيَّ وأعمالي .

أنت بالطبع تستغربين هذا الكلام ، وأنا أستغرب حاجتي واضطراري إلى كتابته إليك . وحبذا لو كان بامكاني معرفة ذلك السر الخفي الكائن وراء هذا الاضطراب وهذه الحاجة الماسة .

قد قلت لي مرةً " ألا إن بين العقول مساجلةً وبين الأفكار تبادلاً قد لا يتناوله الإدراك الحسي ولكن من ذا الذي يستطيع نفيه بتاتاً من بين أبناء الوطن الواحد ؟".

إن في هذه الفقرة الجميلة حقيقة أولية كنت فيما مضى أعرفها بالقياس العقلي ، أما الآن فإني أعرفها بالاختيار النفسي . ففي الآونة الأخيرة قد تحقق لي وجود رابطة معنوية دقيقة قوية غريبة تختلف بطبيعتها ومزاياها وتأثيرها عن كل رابطة أخرى ، فهي أشد وأصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية والجينية حتى والأخلاقية . وليس بين خيوط هذه الرابطة خيط واحد من غزل الأيام والليالي التي تمر بين المهد واللحد . وليس بين خيوطها خيط غزلته مقاصد الماضي أو رغائب الحاضر أو أماني المستقبل ، فقد تكون موجودة بين اثنين لم يجمعهما الماضي ولا يجمعهما الحاضر – وقد لا يجمعهما المستقبل .

وفي هذه الرابطة يا ميّ , في هذه العاطفة النفسية ، في هذا التفاهم الخفي ، أحلام أغرب وأعجب من كل ما يتمايل في القلب البشري – أحلام طيّ أحلام طيّ أحلام .

وفي هذا التفاهم يا " ميّ" أغنية عميقة هادئة نسمعها في سكينة الليل فتنتقل بنا إلى ما وراء الليل ، إلى ما وراء النهار ، إلى ما وراء الزمن ، إلى ما وراء الأبدية .

وفي هذه العاطفة يا ميّ غصّات أليمة لا تزول ولكنها عزيزة لدينا ولو استطعنا لما أبدلناها بكل ما نعرفه ونتخيله من الملذات والأمجاد .

لقد حاولت في ما تقدم ابلاغك ما لا ولن يبلغك إياه إلا ما يشابهه في نفسك . فإن كنت قد أبنت سراً معروفاً لديك كنت من أولئك الذين قد حبتهم الحياة وأوقفتهم أمام العرش الأبيض . وإن كنت قد أبنت أمراً خاصاً بي وحدي فلكِ أن تطعمي النار هذه الرسالة .

استعطفك يا صديقتي أن تكتبي إليَّ ، واستعطفك أن تكتبي إليَّ بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر . أنت وأنا نعلم الشيء الكثير عن البشر ، وعن تلك الميول التي تقربهم إلى بعضهم البعض ، وتلك العوامل التي تبعد بعضهم عن البعض . فهلا تنحينا ولو ساعة واحدة عن تلك السبل المطروقة ووقفنا محدقين ولو مرة واحدة بما وراء الليل ، بما وراء النهار ، بما وراء الزمن ، بما وراء الأبدية ؟

والله يحفظك يا ميّ ويحرسك دائماً


جبران خليل جبران

[/tabletext]
زهراء الامير 04-30-2012 04:17 PM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
نيويورك 9 تشرين الثاني 1919



عزيزتي الآنسة "مي"
أنتِ حاقدة عليّ , ناقمة عليّ , ولك الحق , ومعك الحق , وما عليّ سوى الامتثال فهلا نسيت إثماً اقترفته وأنا بعيد عن عالم المقاييس والموازين ؟ هلا وضعت في " صندوق الذهب" ما لا يستحق الحفظ في الصندوق الأثيري ؟

إن ما يعرفه الحاضر يجهله الغائب وليس من العدالة أن تحسب جهل الغائب جريمة فالجرائم لا تكون الا في موضع الإدراك والمعرفة , وأنا لا أريد أن أسكب سهواً قليلاً من الرصاص المذوب أو الماء الغالي على أصابع العارفين المدركين لعلمي أن الجريمة نفسها عقاب المجرمين وأن مصائب أكثر الناس في ما أسند إليهم من الأعمال .

لقد استأنست بذلك العنصر الشفاف الذي تتلاشى أمامه المسافة والحدود والحواجز , والنفس المستوحشة لا تستأنس إلا بذلك العنصر ولا تستصرخ سواه ولا تستنجد غيره . وأنتِ – أنتِ التي تعيشين كثيراً في عالم المعنى تعلمين أن العنصر الشفاف فينا يتنحى عن جميع أعمالنا ويبتعد حتى وعن أجمل ميولنا البيانية وأنبل رغائبنا الفنية , فهو وإن جاور الشاعرية فينا لا ينظم ذاته نشيداً غنائياً ولا يضع خفاياه في الخطوط والألوان . كل بشري يستطيع التكلف بمنازعه واللعب بمطامعه والمتاجرة بأفكاره ولكن ليس بين البشر من يستطيع التكلف بوحشته أو اللعب بألمه أو المتاجرة بجوعه وعطشه . ليس بين الناس من يقدر أن يحول أحلامه من صورة إلى صورة أو ينقل أسرار نفسه من مكان إلى مكان . وهل بإمكان الضعيف والصغير فينا أن يؤثر على القوي والعظيم فينا ؟ هل بإمكان الذات المقتبسة وهي من الأرض أن تحور وتغير الذات الوضعية وهي من السماء ؟ إن تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تتغير وتحول ولا تتحول وتأمر ولا تأتمر . وهل تظنين حقيقةً , وأنت أبعد الناس فكراً , أن " التهكم الدقيق " ينبت في حقل يفلحه الألم وتزرعه الوحشة ويحصده الجوع والعطش ؟ هل تظنين أن "النكتة الفلسفية " تسير بجانب الميل إلى الحقيقة والرغبة في المجرد المطلق ؟ لا يا صديقتي , أنت أرفع من الشك والارتياب . الشك يلازم الخائفين السلبيين والارتياب يلاحق من ليس لهم الثقة بنفوسهم , أما أنت فقوية إيجابية ولكِ الثقة التامة بنفسك فهلا كنتِ مؤمنة بكل ما تضعه الأيام في راحتيك ؟ هلا حولتِ عينيكِ عن المظاهر الجميلة إلى الحقيقة الجميلة ؟

قد صرفت شهور الصيف في منزل منفرد منتصب كالحلم بين البحر والغاب فكنت كلما أضعت نفسي في الغاب أذهب إلى البحر فأجدها وكلما فقدتها بين الأمواج أعود إلى ظل الأشجار فألتقي بها . إن غابات هذه البلاد تختلف عن غابات الأرض كافةً , فهي غضة كثيفة متعرشة تعود بالذكرى إلى الأزمنة الغابرة , إلى البدء اذ كان الكلمة عند الله وكان الكلمة لله ! أما بحرنا فبحركم وذلك الصوت المجنح الذي تسمعونه على شواطئ مصر نسمعه نحن على هذه الشواطئ , وذلك القرار الرهاوي الذي يملأ صدوركم بهيبة الحياة وهولها يملأ صدرنا بهول الحياة وهيبتها . لقد أصغيت إلى نغمة البحر في مشارق الأرض ومغاربها فكانت ولم تزل هي هي الأغنية الأزلية الأبدية التي تعلو وتهبط بالروح فتكسبها تارةً الحزن وطوراً الطمأنينة . لقد أصغيت إلى تلك النغمة حتى وعلى رمال الإسكندرية – نعم على رمال الإسكندرية – وكان ذلك في صيف 1903 فسمعت اذ ذاك حديث الدهور من بحر المدنية القديمة مثلما سمعته بالأمس من بحر المدنية الحديثة , ذلك الحديث الذي سمعته للمرة الأولى وأنا في الثامنة فاحترت بأمري وألبست عليّ حياتي فأخذت أحارب بسؤالاتي الكثيرة صبر المرحومة أمي وجلدها , ذلك الحديث الذي أسمعه اليوم فأطرح السؤالات ذاتها ولكن على الأم الكلية فتجيبني بغير الكلام وتفهمني أموراً كلما حاولت اظهارها للآخرين تحولت الألفاظ في فمي إلى سكوت عميق . أنا اليوم , وقد صرت في (الثمانين؟؟؟؟) مثلما كنت وأنا في الثامنة , أجلس على شط البحر وأنظر إلى أبعد نقطة من الأفق الأزرق وأسأل ألف سؤال وسؤال : " ترى هل لنا من مجيب في ربوعكم ؟" ترى هل تتفتح الأبواب الدهرية ولو لدقيقة واحدة لنرى ما ورائها من الأسرار والخفايا ؟ أليس بامكانكم أن تقولوا لنا كلمة واحدة عن تلك الأنظمة السرية النافذة حولنا في الحياة قبل أن يضع الموت نقابه الأبيض على وجوهنا ؟" وأنت تسألين ما اذا كنت لا " أستطيب الفائدة في التفكهة بلا اجهاد " إني أستطيب الفائدة , أستطيبها إلى درجة قصوى ولكن بعد أن أترجم لفظها إلى لغتي الخاصة
أما الاجهاد فسلّم نصعد عليه لنبلغ العليّة . أنا بالطبع أفضل الصعود إلى عليتي طائراً ولكن الحياة لم تعلّم جانحيّ الرفرفة والطيران فماذا أفعل ؟ وأنا أفضل الحقيقة الخفية على الحقيقة الظاهرة , وأفضل الحاسة الصامتة اكتفاءً واقتناعاً على الحاسة التي تحتاج إلى التفسير والتعليل . غير أنني وجدت أن السكوت العلوي يبتدئ دائما بكلمة علوية .

إني أستطيب الفائدة , بل وأستطيب كل شيء في الحياة إلا الحيرة , فإذا جاءت الفائدة وعلى منكبيها غمر من الحيرة أغمضت عينيَّ وقلت في سري " هذا صليب آخر علي أن أحمله مع المئة صليب التي أحملها " وليست الحيرة بذاتها من الأمور المكروهة ولكنني قد رافقتها حتى مللتها – قد أكلتها خبزاً وشربتها ماءً وتوسدتها فراشاً ولبستها رداءً حتى صرت أتبرم من لفظ اسمها وأهرب من ظل ظلها .

أظن أن مقالتك في " المواكب" هي الأولى من نوعها باللغة العربية . هي أول بحث في ما يرمي إليه الكاتب بوضع كتاب . حبذا لو كان بإمكان أدباء مصر وسوريا أن يتعلموا منكِ استجواب أرواح الكتب دون أجسادها واستفسار ميول الشعراء النفسية قبل استقصاء مظاهر الشعر الخارجية . يجب عليّ أن لا أحاول اظهار امتناني الشخصي على تلك المقالة النفيسة لأنني أعلم أنها كتبت وأنت منصرفة عن كل شيء شخصي . وإذا ما حاولت اظهار امتناني القومي بصورة عمومية أوجب عليّ ذلك كتابة مقالة في تلك المقالة وهذا أمر يحسبه الشرقيون في الوقت الحاضر من الأمور التي لا تجاور الذوق السليم ! ولكن سيجيء يوم أقول فيه كلمتي في " مي " ومواهبها , وستكون كلمتي هائلة ! وستكون طويلة عريضة ! وستكون صادقة لأنها ستكون جميلة .

إن الكتاب الذي سيصدر في هذا الخريف هو كتاب رسوم خالٍ من " ضجيج التمرد والعصيان ." ولولا اضراب العمال في المطابع لظهر منذ ثلاثة أسابيع . وفي السنة القادمة سيصدر كتابان الأول " المستوحد " وربما دعوته باسم آخر " وهو مؤلف من قصائد وأمثال والثاني كتاب رسوم رمزية باسم " نحو الله " وبهذا الأخير انتهي من عهد وابتدئ بعهد آخر . وأما " النبي " فكتاب فكرت به منذ ألف سنة ولكنني لم أكتب فصلاً من فصوله حتى أواخر السنة الغابرة . وماذا عسى أقول لك عن هذا النبي ؟ هو ولادتي الثانية ومعموديتي الأولى . هو الفكرة الوحيدة التي تجعلني حرياً بالوقوف أمام وجه الشمس . ولقد وضعني هذا النبي قبل أن أحاول وضعه , وألفني قبل أن أفكر بتألفيه , وسيرني صامتاً وراءه سبعة آلاف فرسخ قبل أن يقف ليملي عليّ ميوله ومنازعه .

أرجوك أن تسألي رفيقي ومعاوني العنصر الشفاف عن هذا النبي وهو يقص عليك حكايته . اسألي العنصر الشفاف , اسأليه في سكينة الليل عندما تنعتق النفس من قيودها وتتملص من أثوابها وهو يبوح لكِ بأسرار هذا النبي وبخفايا من تقدمه من الأنبياء أجمعين .

أنا أعتقد يا صديقي أن في العنصر الشفاف من العزم ما لو وضعنا ذرةً منه تحت جبل لانتقل من مكان إلى مكان آخر , واعتقد , بل واعلم , أننا نستطيع أن نمد ذلك العنصر سلكاً بين بلاد وبلاد فنعلم بواسطته كل ما نريد أن نعلمه ونحصل على كل ما نشوق إليه ونبتغيه .

ولدّي أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفاف وغيره من العناصر ولكن عليّ أن أبقى صامتاً عنها . وسوف أبقى صامتاً حتى يضمحل الضباب وتنفتح الأبواب الدهرية ويقول لي ملاك الرب " تكلم , فقد ذهب زمن الصمت وسر فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة ."

أي متى يا ترى تنفتح الأبواب الدهرية ؟ هل تعلمين ؟ هل تعلمين أي متى تتفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب ؟

والله يحفظك يا " مي" ويحرسك دائماً




المخلص
جبران خليل جبران

[/TABLETEXT]
زهراء الامير 04-30-2012 04:18 PM

[TABLETEXT="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
نيويورك 15 تشرين الثاني 1919



وفي 15 تشرين الثاني 1919 تلقت مي زيادة رسالة يحمل مغلفها التاريخ الآنف الذكر كانت عبارة عن بطاقة دعوة لمعرض فني كبير أقيم في نيويورك لفنانين أجانب وأميركان . وقد كتب جبران على تلك البطاقة إلى مي العبارة التالية :

( هذه دعوة إلى وليمة فنية فهلا تكرمت وشرّفتينا !!)



نيويورك 30 تشرين الثاني 1919



وبعد أسبوعين , أي بتاريخ 30 تشرين الثاني 1919 استنادا إلى ختم البريد في مصر المسجل على المغلف تلقت مي رسالة أخرى تتضمن دعوة من نادي " ماكدويل" في نيويورك , كما هو واضح في الصورة اللاحقة , لحضور أمسية فنية أدبية في 2 كانون الأول 1919 يقرأ فيها جبران بعضاً من حكاياته وأمثاله , وينشد فيها " ويتر باينرز " بعضاً من أناشيده , وقد كتب جبران على هامش البطاقة بالانكليزية ما يلي :


Would that you were here to lend wings to my voice and turn my mutterings into songs . Yet I shall read knowing that among the " strangers" an invisible " friend" is listening and smiling sweetly and tenderly
.

( حبذا لو كنت هنا لتعيري أجنحة إلى صوتي وتحيلي همهماتي إلى تراتيل . ومع ذلك فسوف أقرأ وأنا واثق أن لي بين الغرباء صديقاً لايُرى يسمعني ويبتسم لي بعذوبة وحنان .")




المخلص
جبران خليل جبران

يتبع لاحقاً

ماجد جابر 05-01-2012 05:12 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكر لك أستاذة زهراء الأمير موضوعك الماتع حول جبران خليل جبران، حياته، وأدبه وأعماله الأدبية وهذا الاطلاع الماتع والموضوع المثمر لكل من هو مستزيد ومتبصِّر.
كما وأشكر نشاطك المثري، وعلمك النافع وخاصة في منابر علوم اللغة التي ترحب بك وبقلمك الجميل،
بوركت وبورك المداد.
ولي عودة بعون الله لتثبيت الموضوع.

ماجد جابر 05-01-2012 10:39 PM

يرفع الموضوع ويثبَّت لأهميته.

زهراء الامير 05-02-2012 03:39 PM

شكرا اخى الكريم
ولى عوده باذن الله لاكمال كل ماهو لرائع جبران خليل جبران
تحياتى واحترامى

[/tabletext]
زهراء الامير 05-05-2012 11:41 AM

[tabletext="width:70%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
نيويورك 28 كانون الثاني 1920




عزيزتي الآنسة مي

تريدين أن تعلمي بالضبط معنى ندامتي وماورء طلبي المغفرة منك من الأسرار النفسية . وإليك بالضبط البسيط ما كان وسيكون وراء تلك الندامة وتلك المعاني وتلك الأسرار وتلك النفسيات .

لم أندم على كتابة تلك الرسالة المعروفة لديك " بالنشيد الغنائي " - ولن أندم .

لم أندم على أصغر حرف فيها لا ولا على أكبر نقطة فيها - ولن أندم .

لم أكن في ضلال لذلك لم أر داعياً للاهتداء.

وكيف يا ترى أندم على أمر موجود الآن في نفسي مثلما كان موجوداً إذ ذاك ؟

وأنا لست ممن يندمون على وضع ما في نفوسهم بين شفاههم .
ولست ممن ينفون في يقظتهم ما يثبتونه في أحلامهم , لأن أحلامي هي يقظتي ويقظتي هي أحلامي , لأن حياتي لا تقسم إلى خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء .

أما الاثم الذي اقترفته - أو توهمت بأني اقترفته وأنا بعيد عن عالم الموازين والكمية - فهو هذا : بعد أن قرأت كلامك عن ذلك اللبناني الذي زارك قبل مغادرتك القاهرة إلى رمال الاسكندرية - أعني ذلك الرجل الذي " بكل أسف لم تسكبي سهواً بعض قطرات من الماء الغالي على يده " معاقبة له على " أمر غير محمود" - بعد أن قرأت كلامك هذا انتبهت لشيء كان من الواجب عليَّ أن أفطن له قبل أن أضع تلك الرسالة في صندوق البريد , فظننت أو تخيلت , أو تصورت , أن تلك الرسالة قد سببت لك بعض الانزعاج من هذه الوجهة . ومن منا لا يتأفف ويتبرم إذا علم أن الأشياء المختصة به دون سواه قد مرت بين أصابع وأمام عيون من ليس لهم الحق بمعرفتها ؟

هذا هو الأمر الذي انتبهت له فندمت وهذا هو الشيء الوحيد الذي طلبت إليك وضعه في صندوق النسيان . وقد دعوت " قلم المراقبة " والأسباب التي أوجدته والنتائج التي أوجدتها " بعالم الموازين والكمية "- دعوته بهذا الاسم لبعده عن العالم الذي كان يشغل فكري حينئذ بعد الجحيم عن غابة الحق .

ولقد عرفت في العام الغابر عن " قلم المراقبة" ما يضحك البوم بين القبور ! فقد كان بعض الفتيان الموظفين في تلك الادارة النبيلة يفتحون الرسائل الواردة إليّ من الشرق ويذيلونها بالحواشي والسلامات والتحيات والملاحظات السياسية والعمرانية والأدبية وبعضهم كان يطلب مني المال لأغراض لم أسمع بمثلها .

وأغرب من هؤلاء جميعهم مراقب في دمشق وجد فسحة بيضاء واسعة في رسالة موجهة إليّ فنمقها وطرزها بقصيدة طويلة يمدحني بها! ولو أخبرتك حكاية تلك القصيدة بتمامها لغضبت عليّ .

أما تلك الرسالة المعروفة " بالنشيد الغنائي " فهي مني وبي وفيّ , وهي أنا مثلما كنت ومثلما سأكون , وهي الآن مثلما كانت بالأمس ومثلما ستكون في الغد فهلا آمنت وصدقت يا توما ( هو القديس توما أحد رسل المسيح الاثني عشر . لم يؤمن بقيامته الا بعد أن رأى آثار جراحاته ووضع فيها اصبعه . وهو الذي أدخل المسيحية إلى الهند .) أتريدين وضع اصبعك في الجرح يا ميّ ؟

واسمحي لي أن أقول ثانية أنني أكره التهكم الدقيق والغير دقيق بين الأصدقاء , وأكره النكتة الفلسفية والغير فلسفية بين المتفاهمين بالروح , وأكره التكلف والتصنع في كل أمر حتى وفي الصعود إلى السماء . وأما سبب كرهي هذه الأشياء فهو ما أراه حولي في كل دقيقة من مظاهر هذه المدنية الآلية ونتائج هذا الاجتماع السائر على دواليب لأنه بدون أجنحة .

أظن أن السبب الذي يجعلك أن تعزي إليّ " التهكم الدقيق " هو بعض ما جاء في " المجنون" وإذا صح ظني أكون أول ضحايا ذلك الكتاب لأن " المجنون" ليس أنا بكليتي , والأفكار والمنازع التي أردت بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لدي من الأفكار والمنازع , واللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست اللهجة التي اتخذها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه وأحترمه . ولكن إذا كان لا بد من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته فما عسى يمنعك عن اتخاذ فتى الغاب في كتاب " المواكب " لهذه الغاية بدلا من " المجنون" ؟ إن روحي يا مي أقرب بما لا يقاس إلى " فتى الغاب" ونغمة نايه منها إلى " المجنون" وصراخه . وسوف يتحقق لديك بأن " المجنون" لم يكن سوى حلقة من سلسلة طويلة مصنوعة من معادن مختلفة . لا أنكر أن " المجنون" كان حلقة طويلة مصنوعة من معادن مختلفة . لا أنكر أن " المجنون" كان حلقة خشنة مصنوعة من حديد , ولكن هذا لا يدل على أن السلسلة بكليتها ستكون من الحديد الخشن . لكل روح فصول يا مي , وشتاء الروح ليس كربيعها , ولا صيفها كخريفها .

قد سررت جداً لانتسابك إلى عائلة لاويّة ( نسبة إلى لاوي الابن الثالث ليعقوب وقد خرج اللاويون , كهنة بني اسرائيل, من سبطة) , سررت إلى درجة قصوى وسبب هذا السرور الهائل هو هذا أنا ابن كاهن ماروني!! نعم فقد كان جدي , والد أمي, كاهنا متعمقاً بالأسرار اللاهوتية ! ( بيد أنه كان مولعاً بالموسيقى الكنائسية والغير كنائسية ولهذا قد غفرت له كهنوتيته.) وقد كانت أمي أحب أبنائه إليه أشبههم به . والغريب أنها عزمت واستعدت وهي في ربيع العمر للدخول إلى دير القديس سمعان للراهبات في شمال لبنان . أما أنا فقد ورثت عن أمي تسعين بالمئة من أخلاقي وميولي ( لا أقصد بذلك أنني أماثلها من حيث الحلاوة والوداعة وكبر القلب ) ومع أنني أشعر بشيء من البغضاء نحو الرهبان فأنا أحب الراهبات وأباركهن في قلبي . وقد يكون حبي لهن ناتجاً عن تلك الرغائب السرية التي كانت تشغل خيال أمي في صباها . وإني أذكر قولها لي مرة , وقد كنت في العشرين :

لو دخلت الدير لكان ذلك أفضل لي وللناس
فقلت لها:
- لو دخلتِ الدير لما جئت أنا .
فأجابت :
- أنت مقدّر يا ابني .
فقلت :
- نعم , ولكن قد اخترتكِ أماً لي قبل أن أجيء بزمن بعيد .
فقالت :
- لو لم تجىء لبقيت ملاكاً في السماء .
فقلت
- لم أزل ملاكاً !
فتبسمت وقالت :
- أين جوانحك ؟
فوضعتُ يدها على كتفي قائلاً :
- هنا
فقالت:
- متكسرة !

بعد هذا الحديث بتسعة أشهر ذهبت أمي إلى ما وراء الأفق الأزرق . أما كلمتها " متكسرة" فظلت تتمايل في نفسي ومن هذه الكلمة قد غزلت ونسجت حكاية " الأجنحة المتكسرة ".

لا يامي لم أكن قط من جدود جدود أمي . لقد كانت ولم تزل أما لي بالروح . وإني أشعر اليوم بقربها مني وتأثيرها عليّ ومساعدتها لي أكثر مما كنت أشعر به قبل أن تذهب - أكثر بما لا يقاس . ولكن هذا الشعور لا ينفي الروابط الأخرى الكائنة بيني وبين أمهاتي وأخواتي بالروح , وليس هناك من فرق بين شعوري نحو أمي وشعوري نحو أمهاتي سوى الفرق الموجود بين الذكرى الواضحة والذكرى الضئيلة .

هذا شيء قليل عن أمي . واذا جمعتنا الأيام أخبرتك الشيء الكثير عنها , وإني لا أشك بأنك ستحبينها . ستحبينها لأنها تحبك . والأرواح السابحة هناك تحب الأرواح الجميلة السائرة هنا . وأنت يا مي روح جميلة اذاً لا تستغربي قولي " إنها تحبك"

أما الوجه الآخر الذي نشر في " الفنون" فهو وجهها في حالة الألم النفسي . والوجه المنشور في أول صفحة من " عشرون رسماً" ( عنوان لكتاب يتضمن رسوماً بريشة جبران كتبت مقدمته اليس رافائيل نشر في نيويورك سنة 1919 .) هو وجهها أيضاً , ولقد دعوته " نحو اللانهاية" لأنه يمثلها في آخر دقيقة من حياتها هنا وأول دقيقة من حياتها هناك .

وأما من جهة عائلة والدي فإني أستطيع أن أتبجح وأتباهى بثلاثة أو أربعة من الكهان مثلما تباهيتِ وتبجحتِ بكهنة وقسس بيت زيادة ! أقرّ لك بميزة واحدة وهي وجود القسس عندكم , إن شجرتنا لم تثمر من هذا النوع ! ولكن قد ظهر عندنا خور و" سقفس" أي خوري ونصف خوري , فهل ظهر عندكم من هذا الجنس ؟ ولقد كان هذا الخوروسقفس أو هذا المونسنيور الجبراني , يصلي ويبتهل لله ليرجعني إلى حضن الكنيسة الجامعة الرسولية مثلما ارجع الابن الشاطر إلى أبيه! وحضن الكنيسة كما تعلمين يشابه صدر أبينا ابراهيم - الأول لراحة الخطأة والثاني لراحة الأموات . والمسيحي المسكين لا يتملص من هذا حتى يهبط في ذاك وأنا والحمد للسماء لم أكن من الخطأة ولن أصير من الأموات ! بيد أنني أشفق على ابراهيم إجمالاً وعلى صدر ابراهيم خصوصاً ...

هذا ولا يغرب عن بالكِ أن نصف سكان شمال لبنان من الكهنة والقساوسة والنصف الثاني من أبناء وأحفاد الكهنة ! فهل في بلدكم - وأظنها غزير- ( قرية في لبنان تقع بالقرب من مسقط رأس مي زيادة أي من قرية شحتول , كانت تؤمها للاصطياف.) مثل ذلك ؟ أما في بلدنا - بشري ( مسقط رأس جبران) فمن الصعوبات احصاء عدد الكهان والرهبان !

أجل لنتحدث عن كتاب "دمعة وابتسامة" فأنا لست بخائف! ظهر هذا الكتاب قبل نشوب الحرب بمدة قصيرة . وقد بعثت إليك بنسخة منه يوم صدوره . نعم قد بعثت إليك بنسخة من كتاب " دمعة وابتسامة" يوم صدوره من مطبعة الفنون ولكنني لم أسمع منك كلمة واحدة عن وصولها فتأثرت ولم أزل متأثراً !!

أما مقالات " دمعة وابتسامة " فهي أول شيء نشر لي في الجرائد . هي من حصرم كرمي وقد كتبتها قبل " عرائس المروج " بزمن ولقد شاء نسيب عريضة فجمعها واضاف إليها مقالتين كتبتا في باريس منذ 12 سنة . سامحه الله ! لقد كتبت ونظمت قبل " دمعة وابتسامة" أعني بين الطفولية والشباب المجلدات الضخام ! ولكنني لم أقترف جريمة نشرها , ولن أفعل . وأنا باعث إليك بنسخة ثانية من " دمعة وابتسامة " مع الأمل بأنك ستنظرين إلى روحها لا إلى جسدها .

أنا من الميالين إلى شارل جيران ( شاعر فرنسي له عدة دواوين من الشعر العاطفي الرقيق .) ولكنني أشعر أن المدرسة التي ينتمي إليها أو الشجرة التي هو غصن من غصونها لم تكن في الغابة العلوية . إن الشعر الافرنسي في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين كان خاتمة لشيء وجد بدلاً من أن يكون بداية لشيء غير موجود - أعني غير موجود في عالم الحواس . ففي عقيدتي أن رودان النحات ( وهو المثال الافرنسي المشهور الذي تأثر به جبران.) وكيريار المصور ( رسام افرنسي اشتهرت لوحاته بأنها كانت تعتمد على أرضية من الضباب .) وديبوسي الموسيقي ( من أشهر مؤلفي الموسيقى ومجدديها في القرن العشرين.) قد ساروا على سبل جديدة فكانوا حقيقة من العظام . ولكن جيران ورفاقه كانوا وما برحوا يسيرون حتى الساعة على السبل التي رسمتها لهم الحالة المعنوية في أوربا قبل زمن الحرب . ومع أنهم يشعرون بجمال الحياة وما في الحياة من الألم والغبطة والمظاهر والأسرار فهم يمثلون مساء عهد بدلاً من صباح عهد آخر . وعندي أن كتاب وشعراء العالم العربي في أيامنا هذه يمثلون , ولكن بصورة مصغرة جداً , نفس الفكرة ونفس الحالة ونفس العهد .

وعلى ذكر العالم العربي فإني أسألك : لماذا يا ترى لا تعلمّي كتاب وشعراء مصر المسير على السبل الجديدة؟ أنتِ وحدكِ قادرة على ذلك فماذا يمنعك ؟ أنتِ يا مي من بنات الصباح الجديد فلماذا لا تنبهي الراقدين ؟ إن الصبية الموهوبة كانت وستكون بمقام ألف رجل موهوب . وإني لا أشك بأنكِ إذا ناديتِ تلك النفوس الضائعة الحائرة المستعبدة بقوة الاستمرار أيقظتِ فيها الحياة والعزم والميل إلى الصعود نحو الجبل . افعلي هذا وثقي بأن من يسكب الزيت في السراج يملأ بيته نوراً - أفليس العالم العربي بيتك وبيتي ؟

أنت تتأسفين لأنك لم تستطيعي الحضور إلى " الوليمة الفنية " وأنا أستغرب أسفك هذا , أستغربه جداً أفلا تذكرين ذهابنا سوية إلى المعرض ؟ هل مسيت انتقالنا من صورة إلى صورة ؟ هل نسيت كيف سرنا ببطء في تلك القاعة الواسعة نبحث وننتقد ونستقصي ما وراء الخطوط والألوان من الرموز والمعاني والمقاصد ؟ هل نسيت كل ذلك ؟ الظاهر أن " العنصر الشفاف" فينا يقوم بكثير من الأعمال والمآتي على غير معرفة منا , فهو يسبح مرفرفاً إلى الجهة الثانية من الأرض ونحن في غرفة صغيرة نقرأ جرائد المساء . ويزور الأصدقاء البعيدين ونحن نجالس ونحدث الأصدقاء القريبين , ويسير في حقول وغابات بعيدة سحرية لم ترها عين بشري ونحن نسكب الشاي في فنجان سيدة تخبرنا عن الاحتفال بعرس ابنتها .

ما أغرب العنصر الشفاف فينا يا مي وما أكثر أعماله المجهولة لدينا . ولكن عرفناه أو لم نعرفه فهو أملنا ومحجتنا . وهو مصيرنا وكمالنا . وهو نحن في الحالة الربانية .

هذا و أنا أعتقد بأنكِ إذا أجهدتِ حافظتكِ قليلاً تتذكرين زيارتنا إلى المعرض فهلا فعلت ؟

لقد طالت رسالتي - ومن يجد لذةً في شيء أطاله .

قد ابتدأت بهذا الحديث قبل نصف الليل وها قد صرت بين نصف الليل والفجر ولكنني للآن لم أقل كلمة واحدة مما أردت أن أقوله عندما ابتدأت . إن الحقيقة الوضعية فينا , ذلك الجوهر المجرد , ذلك الحلم الملتف باليقظة لا يتخذ غير السكوت مظهراً وبياناً .

نعم كان بقصدي أن أسألك ألف سؤال وسؤال وها قد صاح الديك ولم أسألك شيئاً . كان بقصدي أن أسألكِ مثلاً ما اذا كانت لفظة " سيدي" موجودة حقيقة في قاموس الصداقة ؟ لقد فتشت عن هذه اللفظة في النسخة الموجودة لديّ من هذا القاموس ولم أجدها .. فاحترت بأمري غير أنني أشعر أن نسختي هي النسخة المصححة - ولكن قد أكون غير مصيب !

هذا سؤال صغير , أما السؤالات الكبيرة فسأتركها إلى فرصة أخرى - إلى ليلة أخرى- فليلتي هذه قد شاخت وهرمت , وأنا لا أريد أن أكتب إليك في ظلال الليالي المسنة .

وإني أرجو أن يملأ العام الجديد راحتيك بالنجوم .

والله يحفظك يا مي ويحرسك






جبران خليل جبران

[/tabletext]
زهراء الامير 05-05-2012 11:42 AM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
بعد أن ختمت هذه الرسالة فتحت نافذتي فوجدت المدينة متشحة برداء أبيض والثلج يتساقط بهدوء وعزم وغزارة , فتهيبت لهذا المشهد الجليل بطهره ونقاوته , وعدت بالفكر إلى شمال لبنان , إلى أيام حداثتي عندما كنت أصنع التماثيل من الثلج ثم تطلع الشمس فتذيبها .

إني أحب عواصف الثلج محبتي لكل أنواع العواصف . وسأخرج في هذه الدقيقة وأمشي تحت هذه العاصفة البيضاء . ولكنني لا ولن أمشي وحدي .




جبران خليل جبران

[/tabletext]
زهراء الامير 05-05-2012 11:43 AM

[tabletext="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
نيويورك 3 تشرين الثاني 1920



يا صديقتي يا مي

لم يكن سكوتي في الآونة الأخيرة سوى الحيرة والالتباس ولقد جلست مرات بين حيرتي والتباسي في هذا " الوادي" لأحدثك وأعاتبك ولكنني لم أجد ما أقوله لك . لم أجد ما أقوله يا مي لأنني كنت أشعر بأنك لم تتركي سبيلاً للكلام . ولأنني أحسست بأنك تريدين قطع تلك الأسلاك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة وفكرة وروح وروح .

جلست مرات في هذه الغرفة ونظرت طويلاً إلى وجهك ولكنني لم أتلفظ بكلمة . أما أنت فكنت تحدقين بي وتهزين رأسك وتبتسمين ابتسامة من يجد لذة في تلبك وتشويش جليسه .

وماذا أقول لك الآن ورسالتك العذبة أمامي ؟ إن هذه الرسالة العلوية قد حولت حيرتي إلى الخجل . أنا مخجول من سكوتي ومخجول من ألمي ومخجول من الكبرياء التي جعلتني أضع أصابعي على شفتي وأصمت . كنت بالأمس أحسبك " المذنبة" أما اليوم وقد رأيت حلمك وعطفك يتعانقان كملاكين فقد صرت أحسب نفسي المذنب .

ولكن اسمعي يا صديقتي فأخبرك عن أسباب سكوتي وألمي :

حياتي حياتان , حياة أصرفها بالعمل والبحث ومخالطة الناس ومصارعة الناس واستقصاء السر الخفي في أعماق الناس , وحياة أخرى أصرفها في مكان قصي هادئ مهيب مسحور لا يحده مكان ولا زمان . ففي العام الغابر كنت أن بلغت ذلك المكان البعيد ألتفت فأرى روحاً ثانية جالسة بجانب روحي تبادلها ما هو أدق من الأفكار وتشاركها بما هو أعمق من العواطف . فعزوت هذا الأمر في البداية إلى أوليات بسيطة اعتيادية , ولكن لم يمر شهران إلا وتقرر لديّ أ، هناك سراً أبعد من الأوليات وأدق من الاعتياديات . والغريب أنني كنت أعود من هذه السفرات النفسية شاعراً بيد شبيهة بالضباب تلامس وجهي , وفي بعض الأحايين كنت أسمع صوتاً دقيقاً ناعماً كلهاث الطفل متموجاً في أذني .

يقول بعض الناس أنني من " الخياليين" , وأنا لا أعرف ماذا يعنون بهذه الكلمة ولكنني أعرف أنني لست بخيالي إلى درجة الكذب على نفسي . ولو حاولت الكذب على نفسي فنفسي لا تصدقني .

النفس يا ميّ لا ترى في الحياة إلا ما بها , ولا تؤمن إلا باختباراتها الخصوصية , وإذا ما اختبرت أمراً صار غصناً في شجرتها . وأنا قد اختبرت أمراً في العام الغابر . قد اختبرته ولم أتخيله . اختبرته مرات عديدة . اختبرته بنفسي وعقلي وحواسي . اختبرته وكان بقصدي أن أكتمه كشيء خصوصي . ولكنني لم أكتمه , بل أظهرته لصديقة لي . أظهرته لها لأنني شعرت إذ ذاك بحاجة ماسة إلى إظهاره . وهل تعلمين ماذا قالت لي صديقتي ؟ قالت لي على الفور " هذا نشيد غنائي "! لو قيل لوالدة تحمل طفلها على منكبيها " هذا تمثال من الخشب وأنت تحملينه " بعياقة" فبماذا يا ترى تجيب تلك الوالدة ؟ وبماذا تشعر ؟

ومرت الشهور وهذه الكلمة " نشيد غنائي" تحفر في قلبي . ولم تكتفي صديقتي ! لم تكتفي بل ظلت واقفة لي بالمرصاد , فلم أقل كلمة إلا وذيلتها بالتعنيف , ولم أحدق بشيء إلا وأخفته وراء القناع , ولم أمد يداً إلا وثقبتها بمسمار .

بعد ذلك قنطت . وليس بين عناصر النفس عنصر أمر من القنوط . ليس في الحياة شيء أصعب من أن يقول المرء لنفسه " لقد غُلبت " .

والقنوط يا مي جزر لكل مد في القلب . والقنوط يا مي عاطفة خرساء . لذلك كنت أجلس أمامك في الشهور الأخيرة وأنظر طويلاً إلى وجهك بدون أن أنبث ببنت شفة . لذلك لم أكتب بدوري . لذلك كنت أقول في سري ( لم يبق لي دور) .

ولكن في قلب كل شتاء ربيع يختلج , ووراء نقاب كل ليل صباح يبتسم . وها قد تحول قنوطي إلى شكل من الأمل .

ما أقدس تلك الساعة المهيبة التي رسمت فيها صورة " نحو اللانهاية" . وما أعذب وأهيب الامرأة التي تضع شفتيها على عنق امرأة أخرى وتناجيها . وما أبهى ذلك النور الذي يتكلم في أعماقنا , ما أبهى ذلك النور يا مي .

وماذا أقول عن رجل أوقفه الله بين امرأتين امرأة تحوك من أحلامه اليقظة وامرأة تحوك من يقظته الأحلام ؟ ماذا أقول عن قلب وضعه الله بين سراجين ؟ ماذا أقول عن هذا الرجل ؟ هل هو كئيب ؟ لا أدري , ولكنني أعلم أن الأنانية لا تجاور كآبته . هل هو سعيد ؟ لا أدري , ولكنني أعلو أن الأنانية لا تقترب من سعادته . هل هو غريب عن هذا العالم ؟ لا أدري , ولكنني أسألك ما إذا كنت تريدين أن يبقى غريباً عنك ؟ هل هو غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسه ؟ لا أدري , ولكنني أسألك ما إذا كنت لا تريدين محادثته بلغة أنت أعرف الناس بها ؟

أو لست أنت أيضاً غريبة عن هذا العالم ؟ ألست بالحقيقة غريبة عن محيطك وعن كل ما في محيطك من الأغراض والمنازع والمآتي والمرامي ؟ أخبريني , أخبريني يا مي هل في هذا العالم كثيرون يفهمون لغة نفسك ؟ كم مرة يا ترى لقيتِ من يسمعك وأنت ساكتة ويفهمك وأنت ساكتة ويطوف معك في قدس أقداس الحياة وأنت جالسة قبالته في منزل بين المنازل ؟

أنت وأنا من الذين حباهم الله بالأصدقاء والمحبين والمريدين الكثيرين . ولكن قولي لي هل يوجد بين هؤلاء الغيورين المخلصين من يستطيع الواحد منا أن يقول له " ألا فاحمل صليبي عني يوماً واحداً " هل بينهم من يعرف أن وراء أغانينا أغنية لا تسجنها الأصوات ولا ترتعش بها الأوتار ؟ هل بينهم من يعرف الفرح في كآبتنا والكآبة في فرحنا ؟

تقولين لي " أنت فنّي وأنت شاعر ويجب عليك أن تكون سعيداً مقتنعاً لأنك فنّي وشاعر " ولكن يا مي أنا لست بفني ولا بشاعر . قد صرفت أيامي وليالي مصوراً وكاتباً ولكن " أنا" لست في أيامي ولياليَّ . أنا ضباب يا مي . أنا ضباب وفي الضباب وحدتي وفيه وحشتي وانفرادي وفيه جوعي وعطشي . ومصيبتي أن هذا الضباب , وهو حقيقي , يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء . يشوق إلى استماع قائل يقول " لست وحدك , نحن اثنان , أنا أعرف من أنت "

اخبريني , اخبريني يا صديقي , أيوجد في هذا العالم من يقدر ويريد أن يقول لي " أنا ضباب آخر أيها الضباب , فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية . تعال نسير بين الأشجار وفوقها , تعال نغمر الصخور المتعالية . تعال ندخل معاً إلى قلوب المخلوقات وخلاياها , تعال نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة الغير معروفة " قولي لي يا مي , أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات ؟

وأنتِ تريدين أن ابتسم " وأعفو"

لقد ابتسمت كثيراً منذ هذا الصباح . وها أنا ابتسم في أعماقي , وابتسم في كليتي , وابتسم طويلاً , وابتسم كأنني لم أخلق الا للابتسام . أما " العفو" فكلمة هائلة فتاكة جارحة أوقفتني مخجولاً متهيباً أمام الروح النبيلة التي تتواضع إلى هذا الحد , وجعلتني أحني رأسي طالباً منها العفو . أنا وحدي المسيء . قد أسأت في سكوتي وفي قنوطي لذلك استعطفك أن تغتفري ما فرط مني وتسامحيني .

كان الأحرى بنا تصدير هذا الحديث بالكلام عن كتاب " باحثة البادية " ( اسم مستعار اتخذته الكاتبة المصرية ملك حفني ناصيف واتخذته مي عنوانا للسيرة التي وضعتها عن ملك ونشرتها عام 1920 ) ولكن للخصوصيات دالة علينا , وفي الخصوصيات قوة تجتذبنا إليها من أقصى الأمور وأجلها .

ما قرأت قط كتاباً عربياً أو غير عربي مثل كتاب " باحثة البادية" . لم أر في حياتي صورتين مرسومتين بمثل هذه الخطوط وهذه الألوان . لم أر في حياتي صورتين في إطار واحد , صورة امرأة أديبة مصلحة وصورة امرأة أكبر من أديبة وأعظم من مصلحة . لم أر في حياتي وجهين في مرآة واحدة – وجه امرأة يخفي نصفه ظل الأرض , ووجه امرأة يغمره نور الشمس . قلت " وجه امرأة يخفي نصفه ظل الأرض " لأنني شعرت منذ أعوام ولم أزل أشعر بأن باحثة البادية لم تتملص من محيطها المادي ولم تتجرد عما يساورها من المؤثرات القومية والاجتماعية حتى حل الموت قيودها . أما الوجه الثاني , الوجه اللبناني المغمور بكليته بنور الشمس , فهو في عقيدتي وجه أول امرأة شرقية تعالت حتى بلغت ذلك الهيكل الأثيري حيث تنزع الأرواح أجسادها المصنوعة من غبار التقاليد والعادات والزوائد وقوة الاستمرار .

هو وجه أول امرأة شرقية أدركت وحدة الوجود بما في الوجود من الخفي والظاهر ومن المعروف وغير المعروف . وغداً , بعد أن يطرح الزمن ما يكتبه الكتاب وينظمه الشعراء في ( هوة) النسيان يظل كتاب " باحثة البادية" موضوع اعجاب الباحثين والمفكرين والمستيقظين . أنت يا مي صوت صارخ في البرية . أنت صوت رباني , والأصوات الربانية تبقى متموجة في الغلاف الأثيري حتى نهاية الزمن .

والآن عليّ أن أجيب عن كل سؤال من سؤالاتك اللذيذة . عليّ أن لا أنسى شيئاً . أولاً " كيف أنا؟" – لم أفكر في الآونة الأخيرة بكيفية أنا , بيد أنني أرجح أنني في حالة حسنة رغم ما في حياتي اليومية من الرفاصات المتباينة والدواليب المختلفة بالصورة والحجم . " وماذا أكتب؟" – أكتب سطراً أو سطرين بين كل مساء وصباح . قلت بين كل مساء وصباح لأنني في الوقت الحاضر أصرف نور نهاري مهموكاً برسوم زيتية كبيرة عليّ اتمامها قبل نهاية هذا الشتاء . ولولا هذه الصور والمعاهدة التي تربطني بها لكنت صرفت هذا الشتاء بين باريس والشرق . " وهل اشتغل كثيراً؟"- اشتغل دائماً , اشتغل حتى وفي نومي , اشتغل وأنا جامد كالصخر . ولكن شغلي الحقيقي ليس بالكتابة أو التصوير , في أعماقي يا مي حركة أخرى لا علاقة لها بالكلام ولا بالخطوط والألوان . فالشغل الذي ولدت له لا يتناول الريشة والقلم . " وما لون البذلة التي ارتديها اليوم ؟" – من عوائدي أن ارتدي بذلتين في وقت واحد , بذلة من نسج الناسجين وخياطة الخياطين وبذلة من لحم ودم وعظام ! أما اليوم فإني أرتدي ثوباً واحداً طويل الأذيال واسع الجوانب عليه أثر الحبر والألوان وهو بالإجمال لا يختلف عن ملابس الدراويش إلا بنظافته ! أما الثوب الثاني المصنوع من لحم ودم وعظام فهو مطروح في الغرفة المحاذية , لأني أفضل محادثتك وبعيد بعيد عني . " وكم سيجارة دخنت منذ الصباح؟" ما أعذب هذا السؤال وما أصعب الجواب عليه ! هذا يا مي يوم تدخين بتدخين فقد حرقت منذ صباحه أكثر من عشرين سيجارة ! والتدخين عندي لذة لا عادة قاهرة , فقد يمر بي الأسبوع الكامل بدون سيجارة واحدة . نعم , دخنت اليوم أكثر من عشرين سيجارة . والحق عليك ! فلو كنتُ وحدي في هذا " الوادي" لما دخنت أبداً !! ولكنني لا أريد أن أكون وحدي . أما بيتي فلم يزل بدون سقف ولا جدران , وأي منا يا ترى يريد أن يكون مسجوناً ؟ وأما بحار الرمل وبحار الأثير فهي اليوم مثلما كانت بالأمس – عميقة كثيرة الأمواج وبدون شواطئ . والسفينة التي أخوض بها هذه البحار تسير ولكن ببطء . من يقدر ويريد أن يضيف شراعاً جديداً إلى شراع سفينتي ؟ ليت شعري من يقدر ويريد ؟ أما كتاب " نحو الله" فما برح في المعمل السديمي وأفضل رسومه لم تزل خطوطاً في الهواء وعلى وجه القمر . وأما " المستوحد " فقد ظهر منذ ثلاثة أسابيع باسم " السابق" ( كتابه الانكليزي الثاني فيه يظهر المنحى الجديد الذي بدأه في المجنون وتظهر نزعته الصوفية العميقة , نشره عام 1920 ) وقد بعثت إليك بنسخة منه . وفي البريد نفسه بعثت إليك بنسخة من " العواصف" ( مجموعة باللغة العربية من المقالات والقصص القصيرة والقصائد النثرية كانت قد نشرت في الصحف والمجلات ما بين 1912 و 1918 ) وبنسخة ثالثة من حصرم كرمي " دمعة وابتسامة" , ولم أرسل إليك القائمة التي يصدرها في الصيف ناشر كتبي لأنني في الصيف كنت في البرية البعيدة – وهناك سبب آخر !! وأما الرسوم , والخزف , والزجاج والكتب القديمة والآلات الموسيقية والتماثيل المصرية واليونانية والغوطية فهي كما تعهدينها , مظاهر للروح الأزلية الأبدية , كلمات منثورة من كتاب الله . وكم جلست أمامها مفكراً بالشوق الذي أوجدها , كم حدقت بها حتى غابت عن نظري وحل مكانها أشباح الأزمنة التي نقلتها من عالم الغيب إلى عالم المرئيات . لم أحصل بعد على التمثال الكلداني من الحجر الأسود . ولكن في الربيع الغابر كتب إليّ صديق انكليزي موجود في العراق مع الحملة البريطانية وقال " إذا وجدت شيئاً فهو لك "

قد أجبت على جميع سؤالاتك ولم أنس شيئاً . وقد بلغت الحد من هذه الصفحة قبل أن أقول كلمة مما أردت قوله عندما ابتدأت في رأس الصفحة الأولى . لم ينعقد ضبابي قطراً يا مي وتلك السكينة , تلك السكينة المجنحة المضطربة لم تتحول إلى ألفاظ . ولكن هلا ملأت يدك من هذا الضباب ؟ هلا أغمضت عينيك وسمعت السكينة متكلمة ؟ وهلا مررت ثانية بهذا الوادي حيث الوحشة تسير كالقطعان وترفرف كأسراب الطيور وتتراكض كالسواقي وتتعالى كأشجار السنديان ؟ هلا مررت ثانية يا مي ؟ والله يحفظك ويحرسكِ .




جبران خليل جبران

[/TABLETEXT]
زهراء الامير 05-05-2012 11:44 AM

[TABLETEXT="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
بوسطن 11 كانون الثاني 1921

يا ميّ

ها قد بلغنا قمة عالية فظهرت أمامنا سهول وغابات وأودية , فلنجلس ساعة ولنتحدث قليلاً . نحن لا نستطيع البقاء هنا طويلاً لأني أرى عن بعد قمة أعلى من هذه وعلينا أن نصل إليها قبل الغروب , ولكننا لن نترك هذا المكان إلا وأنتِ فرحة , ولن نخطو خطوة إلا وأنتِ مطمئنة .

قد قطعنا عقبة صعبة المسالك , قطعناها بشيءٍ من التلبك , وإني أعترف لكِ بأنني كنت ملحّاً لجوجاً غير أن إلحاحي كان نتيجة مقررة لشيءٍ أقوى مما ندعوه إرادة . وأعترف لكِ بأنني لم أكن حكيماً في بعض الأمور ولكن أليس في الحياة مالا تبلغه أصابع الحكمة ؟ أليس فينا ما تتحجر الحكمة أمامه ؟ ولو كانت اختباراتي يا ميّ تماثل بوجه من الوجوه ما اختبرته في ماضيّ لما أعلنتها , ولكنها جاءت جديدة غريبة وعلى حين غفلة . ولو كنت إذ ذاك في القاهرة وأظهرتها لكِ شفاهاً وبصورة بسيطة مجردة خالية مما في الشخصيات من المرامي الذاتية لما حدث بيننا سوء تفاهم . ولكن لم أكن إذ ذاك في القاهرة , ولم يكن لدي من وسيلة إلا المراسلة – والمراسلة في هذه "المواضيع" تلبس أبسط الأمور ثوباً من المركبات وتسدل على وجه المجردات نقاباً كثيفاً من الكلفة . فكم مرة نريد أن نبدي فكرة بسيطة فنضعها في ما يتيسر لنا من الألفاظ , تلك الألفاظ التي تعودت أقلامنا سكبها على الورق , فينتج عن كل ذلك " قصيدة منثورة" أو " مقالة خيالية" . أما السبب فهو أننا نشعر ونفكر بلغة أصدق وأصح من اللغة التي نكتب بها . نحن بالطبع نحب القصائد المنثورة والمنظومة ونحب المقالات الخيالية وغير الخيالية , بيد أن العاطفة الحية الحرة شيء والبيان في المراسلات شيء آخر . مذ كنت صبياً في المدرسة وأنا ابتعد بقدر استطاعتي عن التعابير القديمة المتداولة لأنني كنت ولم أزل أشعر بأنها تخفي الفكر والعاطفة أكثر مما تظهرهما , ولكن يبدو لي الآن أنني لم أتملص مما أتبرم منه – يبدو لي أنني كنت منذ سنة ونصف سنة حيث كنت وأنا في الخامسة عشر , ودليلنا على ذلك ما أثمرته رسائلي من سوء التفاهم .

أقول ثانية أنني لو كنت في القاهرة لوقفنا أمام اختباراتنا النفسية وقوفنا أمام البحر أو أمام النجوم أو أمام شجرة تفاح مزهرة . ومع كل ما في اختباراتنا من الغرابة فهي ليست بأغرب من البحر أو من النجوم أو من الشجرة المزهرة , ولكن من العجائب أننا نمتثل ونستسلم إلى معجزات الأرض والفضاء وفي الوقت نفسه نستصعب تصديق ما يظهر في أرواحنا من المعجزات .

كنت أعتقد يا ميّ , وما برحت أعتقد , أن بعض الاختبارات لا تحدث إلا إذا اشترك بها اثنان في وقت واحد . وربما كان هذا الاعتقاد سبباً أولياً لتلك الرسائل التي جعلتك أن تقولي لنفسكِ "يجب أن نقف هنا" الحمد لله لأننا لم "نقف هناك" . الحياة يا مي لا تقف في مكان من الأمكنة , وهذا الموكب الهائل بجماله لا يستطيع سوى المسير من لا نهاية إلى لا نهاية . ونحن , ونحن الذين نقدس الحياة ونميل بكل قوانا إلى الصالح والمبارك والعذب والنبيل في الحياة , نحن الذين نجوع ونعطش إلى الثابت الباقي في الحياة لا نريد أن نقول أو نفعل ما يوعز الخوف أو ما "يملأ الروح شوكاً وعلقماً" . نحن لا نريد ولا نقدر أن نلمس جوانب المذبح إلا بأصابع طهرت بالنار . ونحن إذا احببنا شيئاً يا ميّ نحسب المحبة نفسها محجة لا واسطة للحصول على شيء آخر , وإذا خضعنا خاشعين أمام شيء علوي نحسب الخضوع رفعة والخشوع ثواباً وإذا تشوقنا إلى شيء نحسب الشوق بحد ذاته موهبة ونعمة . ونحن نعلم أن أبعد الأمور هو أخلقها وأحقها بميلنا وحنيننا , ونحن – أنت وأنا- لا نستطيع حقيقةً أن نقف في نور الشمس قائلين " يجب أن نوفر على نفوسنا عذاباً نحن بغنى عنه " لا يا ميّ , نحن لسنا بغنى عما يضع في النفس خميرة قدسية , ولسنا بغنى عن القافلة التي تسير بنا إلى مدينة الله , ولسنا بغنى عما يقربنا من ذاتنا الكبرى , ويرينا بعض مافي أرواحنا من القوى والأسرار والعجائب . وفوق كل ذلك فنحن نستطيع أن نجد السعادة الفكرية في أصغر مظهر من مظاهر الروح , ففي الزهرة الواحدة نشاهد كل ما في الربيع من الجمال والبهاء , وفي عيني الطفل الرضيع نجد كل ما في البشرية من الآمال والأماني . لذلك لا نريد أن نتخذ أقرب الأشياء وسيلة أو مقدمة للوصول إلى أبعدها , كما أننا لا نريد ولا نقدر أن نقف أمام الحياة ونقول مشترطين "أعطنا ما نريد أو لا تعطينا شيئاً – إما ذاك وإما لا شيء" لا يامي , نحن لا نفعل ذلك لأننا نعلم أن الصالح والمبارك والثابت في الحياة لا يسير كما نشاء بل يسيرنا كما يشاء . وأيّ مطمع لنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا , في إعلان سر من أسرار أرواحنا سوى التمتع بإعلان ذلك السر ؟ وما هي غايتنا من الوقوف بباب الهيكل سوى مجد الوقوف ؟ ماذا يا ترى يبغي الطائر إذا ترنم والبخور إذا احترق ؟ أو ليس في هذه النفوس المستوحدة سوى المنازع المحدودة ؟

ما أعذب تمنياتك لي في يوم مولدي وما أطيب أريجها . ولكن اسمعي يا مي هذه الحكاية الصغيرة واضحكي قليلاً على حسابي! شاء نسيب عريضة أن يجمع " دمعة وابتسامة" في كتاب , وذلك قبل زمن الحرب , وشاء أن يحشر مقالة " يوم مولدي" بين تلك القطع الضئيلة , ورأى أن يضع التاريخ مع العنوان ولم أكن حينئذ في نيويورك , فأخذ يبحث – وهو بحّاثة لا يكل ولا يمل – حتى وجد تاريخ ذلك اليوم البعيد باللغة الانكليزية فترجم " JANUARY 6 th " إلى " 6 كانون الاول"! وهكذا خصم من سني حياتي سنة وأخر يوم مولدي الحقيقي شهراً ! ومنذ ظهور كتاب دمعة وابتسامة حتى اليوم وأنا أتمتع في كل سنة بيوميّ مولدي , الأول أوجدته غلطة في الترجمة أما الثاني فلا أدري أي غلطة في الأثير أوجدته ! وتلك السنة التي سُرقت مني – يعلم الله وأنتِ تعلمين أنني اشتريتها غاليةً , اشتريتها بنبضات قلبي , اشتريتها بسبعين وزنة من الألم الصامت والحنين إلى ما لا أعرفه , فكيف أسمح لغلطة في كتاب أن تسلبني إياها ؟

أنا بعيد عن "الوادي" يا مي . جئت هذه المدينة – بوسطن – منذ عشرة أيام لعمل تصويري , ولو لم يبعثوا إليّ ببقجة من الرسائل الواردة إلى عنواني في نيويورك لعشت عشرة أيام أخرى بدون رسائلك , هذه الرسالة التي حلت ألف عقدة في حبل روحي , وحولت الانتظار , وهو صحراء , إلى حدائق وبساتين . الانتظار حوافر الزمن يا ميّ , وأنا دائما في حالة الانتظار . يخال لي في بعض الأحايين أنني أصرف حياتي مترقبا حدوث ما لم يحدث بعد , وما أشبهني بأولئك العمي والمقعدين الذين كانوا يضطجعون بقرب بركة " بيت حسدا" في أورشليم " لأن ملاكاً كان ينزل أحيانا في البركة ويحرك الماء فمن نزل أولا بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه". ( بيت حسدا : إشارة إلى اليعازر وقيامته من الموت في انجيل متى .)

أما اليوم , وقد حرك ملاكي بركتي ووجدت من يلقيني في الماء , فإني أسير في ذلك المكان المهيب المسحور وفي عيني نور وفي قدمي عزم . أسير بجانب خيال أجمل وأطهر لبصيرتي من حقيقة الناس كافة , أسير وفي يدي يد حريرية الملامس ولكنها قوية وذات إرادة خاصة , ولينة الأصابع ولكنها تستطيع رفع الأثقال وتكسير القيود . وبين الآونة والأخرى ألتفت فأرى عينين مشعشعتين وشفتين تداعبهما ابتسامة جارحة بحلاوتها .

قلت لكِ مرة إن حياتي مقسومة إلى حياتين وإني أصرف الواحدة منهما بين العمل والناس والثانية في الضباب . قد كان ذلك بالأمس , أما اليوم فقد توحدت حياتي وصرت اشتغل في الضباب وأجتمع بالناس في الضباب , وأنام وأحلم ثم استيقظ وأنا في الضباب . هي نشوة محاطة بحفيف الأجنحة , فالوحدة فيها ليست بالوحدة , وألم الحنين إلى غير المعروف أطيب من كل شيء عرفته . هي غيبوبة ربانية يا ميّ , هي غيبوبة ربانية تدني البعيد وتبين الخفي وتغمر كل شيء بالنور . أنا أعلم الآن أن الحياة بدون هذا الانجذاب النفسي ليست سوى قشور بغير لباب . وأحقق أن كل ما نقوله ونفعله ونفكر به لا يساوي دقيقة واحدة نصرفها في ضبابنا .

وأنت تريدين كلمة " نشيد غنائي" أن تحفر في قلبي ! تريدينها أن تنتقم لك من هذا الكيان الخافت الذي يحملني وأحمله . لندعها تحفر وتحفر وتحفر , بل لننادي جميع الأناشيد الغنائية الهاجعة في الأثير , ولنأمرها أن تنتشر في هذه البلاد الواسعة لتحفر الترعات , وتمد السبل وتبني القصور والأبراج والهياكل , وتحول الوعر إلى حدائق وكروم لأن شعباً من الجبابرة الفاتحين , وفي الوقت نفسه أنت ابنة صغيرة في السابعة تضحك في نور الشمس و تركض وراء الفراشة وتجني الأزهار وتقمز فوق السواقي . وليس في الحياة شيء ألذ وأطيب لديّ من الركض خلف هذه الصغيرة الحلوة والقبض عليها ثم حملها على منكبي ثم الرجوع بها إلى البيت لأقص عليها الحكايات العجيبة الغريبة حتى تكتحل أجفانها بالنعاس وتنام نوماً هادئاً سماوياً .

جبران خليل جبران

يتبع لاحقاً

ماجد جابر 05-07-2012 09:54 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زهراء الامير (المشاركة 114313)
شكرا اخى الكريم
ولى عوده باذن الله لاكمال كل ماهو لرائع جبران خليل جبران
تحياتى واحترامى

تألق يدعو إلى الإعجاب أستاذة زهراء الأمير، ويبعث على الاقتداء

حقاً ،،،إنها تحفة فنية رائعة

دام عطاؤك ،،،، ونفع الله بك وبعلمك

زهراء الامير 11-17-2012 03:05 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ماجد جابر (المشاركة 115507)
تألق يدعو إلى الإعجاب أستاذة زهراء الأمير، ويبعث على الاقتداء

حقاً ،،،إنها تحفة فنية رائعة

دام عطاؤك ،،،، ونفع الله بك وبعلمك

شكرا أخى الكريم على رقى ذوقك
وأعدك اليوم سأواصل المزيد عن الأسطورة الخالدة بأذهننا

حسن زكريا اليوسف 11-17-2012 04:54 PM

زهـراء الكنانة
مساؤك الياسمين
ماتع هذا العزف من سيمفونية جبران
تأتين بالروعة والفائدة دائماً
دام ألقك وفيض إبداعك
مع شهد محبتي وتسنيم تحياتي
ح س ن ز ك ري ا ا ل ي و س ف


الساعة الآن 01:52 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team