عاشقة الظل.. قصة قصيرة : جاسم الحمود
جاسم الحمود - عاشقة الظل.. قصة قصيرة
- 1 - يبدو أنّ ساكناً جديداً حلّ في البيتِ المقابلِ لشرفتي ، كالعادة فهو طالبٌ جامعي ، منذ ثلاث سنوات ، وفي مثلِ هذه الأيامِ سكنَ ذاك الذي عشقته ، و هزمَني ، أنا التي ما خسرتُ حرباً ، أنا المدججة بأقوى الأسلحة ، أسلحة كثيرة و قوية ، هزمتُ كثيرين في المدرسةِ ، في الشارع ، في الوظيفة ، في الباص ، هزمتُ كلَ من قابلتهم ، لاحقوني ، شحذوا أسلحتَهم ، و أعلنوا الحربَ ، لكني هزمتهم ، أمّا هو فقد هزمني دون عراك و مطاردة ، و قبل أن يرفعَ سلاحاً ، عندما رأيته أول مرة كان جالساً ، يقرأ كتاباً بيده ، حاولت أن ألفت انتباهه ، تحركتُ في الشرفة جيئة وذهاباً دون جدوى . في اليوم التالي راقبته ، و ما إن خرج إلى الشرفة حتى برزتُ مستعدة للمجابهة و التحرش ، التقت نظراتنا ، حييته بابتسامة ، ابتسم ، ثم جلس على كرسيه ، و بدأ يقرأ ، مضت الأيام أحييه بيدي ، أشير له ، فيكتفي بإرسال ابتسامةٍ هادئة ، قذفته بالحصى و الرسائل لاستدراجه ، فحافظ على وقاره و اتزانه ، أوقفت القتال في الجبهات الأخرى ، حشدت كل ما أملك من قوة وسلاح لهزيمته ، أعلنتها حرباً واحدة وجبهةً واحدة ، لكنني فشلتُ ، أطلقت سهاماً ورماحاً ، و امتشقت سيوفاً ، ولكنه لم يرمِ سهماً ، ولم يرفع سيفاً . جاء الشتاء ، هجر الشرفة ، صار يجلس في غرفته وراء النافذة ، يجلس عدة ساعات دون حراك ، و أحياناً يرفع رأسه ، ويقذفني بنظرةٍ تشتت صفوفي ، و تزعزع حصوني ، و أنا أقف أراقب ظله خلف الزجاج ، أثارني هذا الساكن الغريب إلى حدّ الجنون ، تلبّسني العناد ، تحولت إلى لبوة شرسة … إعراضه عني حطمني ، ألغى كل انتصاراتي ، و أرّخ لهزيمتي الكبرى ، و وأد أمجادي ، كل من طاردني ركع أمامي ، إلا هو ، فقد حطمني ، وتركني أركض خلفه . - 2 - انتهى العام الدراسي ، رأيته يحزم أمتعته ! . سيرحل دون أن يترك لي فرصة لأناوشه . تحطم ذلك الكبرياء الذي بنيته على أنقاض رجال لا عدد لهم … تملكتني جرأة عجيبة ، ارتديت ملابسي على عجل ، و قرعْتُ جرس بابه … سأنقل المعركة إلى أرضه ، سيفتحُ البابَ ، ويراني ، سيتغيرُ لونه ، و تتعثّر كلماته ، سيرتبك ، ويتراجع إلى الوراء ويصطدم بالكراسي ، و ربما يقع مكسوراً . وفتح الباب، ابتسم، وكأنه كان بانتظاري : تفضلي . قالها دون تكلف . ُصدِمْتُ ! . تغير لوني ، انكمشت الحروف على لساني ، خطوت بارتباك ، اصطدمت بكرسي ، كدت أن أقع ، جلست على الأريكة ، حاولت أن أبدو هادئة ، المعركة الحاسمة اليوم ، هذه أول جولة خسرتها بجدارة ، يجب أن أخطط جيداً ، سأطلب منه أن يريني غرفته … لكنه فاجأني : ما رأيك أن تتفرجي على غرفتي . الجولة الثانية خسرتها ، هذا الرجل غريب . هل يقرأ الأفكار ؟ . هل تتحدث الكتب التي يصاحبها عن التخاطر ؟ ! . غرفته رائعة ، أثاث بسيط أنيق ، لوحات جميلة تزيّن الجدران ، و الموسيقا الهادئة تخدّر الجسد و العقل … ماذا يدرس ؟ . ماذا يسمع ؟ . ماذا يحب ؟ . ماذا يكره ؟ . أسئلة كثيرة تحاصرني . - اجلسي . نطقها بحنكة شديدة . - أنا أدرس الأدب ، أعشق سماع الأغاني العراقية ، أحب البساطة و العفوية ، و أكره الهزيمة . غريبٌ أمر هذا الرجل ، إنه يفاجئني ، يضربني بأسلحةٍ ادخرتها لحربه ، يوقعني في كمائن نصبتها له ، يكشف مخططاتي ، يعلنها على الملأ . الجولة الثالثة خسرتها ، كم بقي أمامي من الوقت ، هل أوشكت المعركة على الانتهاء . - سأسافر بعد ساعة . ضربة أخرى يوجهها إليّ ، خسرت جولةً أخرى ، بقيت ساعة واحدة ، و قد خسرتُ الجولات السابقة ، لم يبق من الوقت الكثير ، ستبدأ الآن المعركة الحقيقية ، سيشتد الهجوم الآن ستخرج الأسلحة الفتّاكة المعَدّة لمثل هذا اليوم … ستكون الجولة الحاسمة ، ستتحطم بساطته و عفويته أمام درايتي و غوايتي . سألته : - ما رأيك بجمالي . = أنت جميلة بلا شك . - هل أعجبتكَ ؟ . = كلّ جميل يعجبني . - ألا ترغب في ؟ . = أنت صغيرة . - أنا أكبر منك بسنةٍ أو سنتين . = مع ذلك فأنت صغيرة . نهضْتُ من مكاني . جلست بجانبه على السرير : نحن لوحدنا ، و الزمن يمضي ، جسدي أمامك افعلْ به ما تشاء . ابتسم : لن أفعلَ شيئاً . نهض عن السرير . - لن يفيدكَ الهروب . = و لن يفيدكِ الإغواء . وقعت في حيرة ، كأني أخاطب حجراً ، لم تتحرك غريزته ، أريد أن يلمسني بإرادته ، بل أريد محاولة لمسي ، عندئذ سأغادر ، و قد نلتُ مرادي . - انظرْ إليّ . رفعت الغطاء عن شعري ، فتناثر على كتفي بانسيابية و سوادٍ ساحر . لم يتحرك ، امتدت يدي إلى الثوب ، فككت الزر الأعلى ، فككت الزر الثاني ، شعّ بريق الجيد … فقال ببرود : توقفي ، سأعلن هزيمتي ، أليس هذا ما تريدينه ، أنا المهزوم و أنت المنتصرة . لا فائدة من المقاومة ، انهارت قلاعي ، و استسلمتْ جيوشي ، رجوته : قبل أن تسافر أخبرني ما اسمك ؟ . ـ سراب . قالها همساً ، و اتجه إلى حقائبه . - 3 - هاهو الساكن الجديد يمسك كتابه ، يتظاهر بأنه يقرأ ، و يصوّب بصره نحو شرفتي ، بدا في ملابسه الضيقة بألوانها الصارخة ، و شعره المدهون بالزيت كأنه مهرجٌ أحمق ، يحاول لفت انتباهي بحركاته الصبيانية … يلوح ظلٌ خلف النافذة ، ظلٌ لشخصٍ يجلس منكباً على كتابه ، الصبي الصغير بشعره المدهون بالزيت ، يظن أني أنظر إليه ، يرسل إشاراته الطفولية . انتهى دوامي ، وقفت بانتظار الباص ، أحسست أنّ شيئاً ما يتخبّط بجانبي ، إنه ذلك الصبي بشعره المدهون بالزيت ، الغبي ينتظرني ، وحدنا تحت مظلة الموقف ، والشمس الحارقة ، أفرغت الشارع من العابرين . – مرحباً . نطقها بطريقةٍ مضحكة . تذكرت ذلك الهادئ الرصين . ـ ما رأيك بالجلوس في الحديقة ، أريد أن أكلمك في موضوع هام . بماذا يهذي هذا الصغير . ـ أنا أعرف أنك تراقبين النافذة دائماً ، فلماذا لا تردين ؟ ! . هذا الصغير لا يعرف أني أراقب النافذة دون أن اهتم بمن يسكن البيت ، لا يعرف أني أعشق ظلاً خلف النافذة ، ظل ذاك المسافر الذي أترعني بالهزائم و الخيبة . الصبي الصغير يثرثر بجانبي . - متى أستطيع أن أراك على انفراد . المسكين سينشف ريقه ، و ينشق حلقه دون أن يسمع إجابة . - إذاً اخبريني ما اسمك . = سراب . نطقتها دون وعي … نطقتها بين صليل السيوف و صهيل الجياد ، نطقتها ، و كأني أقف أمام ذاك المحارب الراحل ، نطقتها دون وعي ، و اتجهت نحو البيت ، مشيت تحت الشمس اللاهبة لتغسل فورة الدماغ ، و ذلك الصبي الصغير - الذي لا يستطيع السير تحت الشمس بقي في مكانه ينطّ فرحاً لأنه كسب المعركة معتقداً أني أعطيته اسمي بعد تمنع . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاسم الحمود - سوريا -الرقة |
رد: عاشقة الظل.. قصة قصيرة : جاسم الحمود
إرهاصات ومفارقات
وجمل محبوكة فعلا حرب نص شغلني بحلاوته بوركت أخي تحية |
رد: عاشقة الظل.. قصة قصيرة : جاسم الحمود
اقتباس:
|
رد: عاشقة الظل.. قصة قصيرة : جاسم الحمود
في العادة يكون جمال القصة بفكرتها وروعة السرد فيها وقصتك حازت على إعجابي لتضمّنها تلك الفكرتين أشكرك .. وتحية ... ناريمان |
رد: عاشقة الظل.. قصة قصيرة : جاسم الحمود
اقتباس:
|
الساعة الآن 01:28 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.