منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   الادهاش في روايات الايتام: دعوة لدراسة جماعية لروايات الايتام وسر الادهاش فيها (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=8730)

ايوب صابر 04-28-2012 09:28 AM

الادهاش في روايات الايتام: دعوة لدراسة جماعية لروايات الايتام وسر الادهاش فيها
 
- ورشة عمل -
الدراسات التي نقوم بها هنا حول اثر الموت في قدرة المبدع على توليد نص فذ مدهش ومذهل تشير الى ان الروايات التي كتبها الايتام لا بد انها تشتمل على الكثير من عناصر الادهاش والاذهال؟!!

قد يكون لذلك عدة اسباب مثلا واقعية الحدث او الاحداث التي يرويها اليتيم والتي تعبر عما يجول في نفس كثيرين لا يمتلكون القدرة على التعبير الفني لكنهم يجدون في نص روايات الايتام ما يعبر عما يجول في نفوسهم.

وقد يكون السر في قدرة الروائي اليتيم على التعبير بفنية نادرة.
وقد يكون السر في تلك الطاقة التي تتضمنها النصوص الروائية التي يولدها الايتام.
وقد يكون السر في دارمية النصوص وعلى اعتبار ان كل روائي يكتب ويضمن رواياته شيء من سيرته الذاتية وهي عادة يعصف بها الالم وغنية بالاحداث الدرامية المزلزلة.

هذا في الواقع ما نريد ان نستكشفه ضمن هذه الدراسة وذلك بالاضافة الى كل ما يرتبط بروايات الايتام من خلال هذه الدراسة التي لا بد ان تكون جماعية اولا لانه سيكون من الصعب على شخص واحد انجازها وثانيا لان الدراسات الجماعية ربما تكون هي الحل في ظل ما وصلنا له من اغتراب كنتيجة لسطوة العالم الافتراضي .

المطلوب هنا
- ادراج اسم رواية يكون كاتبها يتيم ثم تحليلها والقاء الضوء على عناصر القوة والادهاش فيها، او ادراج اية دراسات من قبل آخرين حول نفس الموضوع.


أملي ان يشارك اكبر عدد من المهتمين بالادب بهذه الدراسة الجماعية التي سيكون لها فوائد من عدة جوانب.

اهلا وسهلا،،

ايوب صابر 05-02-2012 09:20 AM

قصائد في مديح اليُتم: البهاء حسين .. يكتبُ 'كأنَّه يتذكَّر'
المصدر : القدس العربي.


2012-05-01


القاهرة ـ محمود خيرالله: يكتب الشاعر المصري البهاء حسين قصيدته مسنوداً إلى تجربة شديدة الخصوبة، لا يقف عند العَتَبات التي بالت حوافُّها تحت أقدام شعراء، في قصيدة النثر المصرية، التي أثارت من الجدل أكثر مما حققت من الرضا، لدرجة أنه بدا في ديوانه السادس 'بكل جسدي ..بكل طفولتي' ـ الصادر مؤخراً في القاهرة عن دار 'العين' ـ كمن يضيف بصمةً جديدةً على شعرية تخصّه، لا تتشابه مع أحد، ولا تعترف بالمزاج العام لقصيدة جيل التسعينيات، الذي ينتمي إليه البهاء ـ على نحوٍ ما ـ في نهاية المطاف.
تُثبت قصائد الديوان ـ أولاً ـ أنها لا تقف عند رصد مشاهد متفرقة من حياته، تنتمي إلى نظرية سادت الشعرية المصرية في العقدين الماضيين، والتي تقول إن القصيدةَ يمكن أن تولد في الفراغ المشهدي الواسع، أو في استعمال متتالية 'العادي والهامشي واليومي'، التي اعتبرها بعض النقاد دليلاً على الشعرية الجديدة، وتُثبث ـ ثانياً ـ أنها لا تلتمس حتَّى وصفة 'الإيجاز، التوهٌّج، المجانيَّة' على نحو ما عبَّرت الأكاديمية الفرنسية سوزان برنار، في كتابها الأشهر عربياً 'قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا'، بل يتمسك البهاء في ديوانه الجديد ـ ثالثاً ـ بمقاربة عوالم حياتيَّة مباشرة، في لغة شديدة التقشف، تعكس انشغاله بما سُمِّي يوماً ـ على سبيل الاستنكار ـ 'القضايا الكبرى' في الشعر، مُستخدِماً مجازاتٍ وقاموساً وعوالم لا تتأفف من قاموس الفقر واليُتم، منتبهاً إلى شعرية الأسى الذي يصاحبهما دائماً وإلى الأبد، والذي لم يكن نمطاً حاضراً بقوة في مشاريع قصيدة النثر المصرية، رغم تعدٌّدها، رابعاً.
في ديوانه الجديد ـ ثمة شذرات من سيرة شعرية ـ قال إنها بدأت بديوان 'عود ثقاب أخير' الصادر في العام 2002 وتستكمل في جزءيْن لاحقيْن ـ حيث تبدأ القصائد من'المقابر' لتنتهي بـ'الوحدة'، باحثاً بينهما ـ بجسده وطفولته معاً ـ عن عدة درجات في سلم الموت، كان عليه أن يطأها ليفهم نفسه أولاً:
' حتى البيوت تجد مَن يُعيِّرها،
تجد العتباتُ من يحمِّلها عبء حظِّهِ العاثر،
العتباتُ التي قوَّسها الانتظار
فصارتْ أرامل'
شعرية العالم هنا تأتي من الأسى الإنساني لحياة طفل بين أم مترمِّلة وأب غائب، منذ الإهداء: 'مثل أمي وخالتي روحية، الأرملتين، أمشي كأننَّي أتذكر..'، إلى القصيدة الأخيرة: 'وحده في البيت'، مروراً بقصيدتي: 'ببطء باتجاه المقابر' و'قد تكون النافذة أختاً' وغيرها، حيث يعتقد المرء جازماً أن تيمة 'الأم ـ الموت' هي كلمة السر في هذا الديوان، وعبارة الكاتب البرتغالي الشهير خوسيه ساراماجو التي تقول 'اترك زمام أمرك للطفل الذي كُنته' ..هي عنوانه الداخلي بامتياز.
القصائد مُترعة بالحزن والأرامل، تتحرَّق فيها الذات شوقاً إلى ماضيها، كأنَّها تحفُره، تحكي قصة طفولة يتحوَّل فيها العالم إلى نوع من المرارة تتساقط تلقائياً على الشعر، ومن أول سطر في الديوان:
' لأنني أكرهكم
لا يعلق بذاكرتي منكم غير الأحذية'
الشاعر ـ الذي يُعرِّي مراراته كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً ـ يريد أن يطلعنا على حفاء الطفولة، الذي يجعل الأرض مؤلمة أكثر من اللازم، 'كانت أمي تظن أن المستقبلَ/ قادرٌ على صنع حذاء/ لامرأة وطفل يبيعان الفاكهة للظهيرة'، وهو حريص على أن يرى العالم من مناطق جديدة على الشعر، وعلى أن يضيف إلى القصيدة نمطاً من العجائز، من اللائي يعشْن تحتَ أشباحِهن، حيث أعادت ترتيب الحقائق من جديد في عين طفل يسائل الأشياء ويتماهى معها، إلى أقصى حد :
'ليس لدى فرنٍ من الطين مايقوله للنار،
سوى أجسادٍ مُبهمة
ليس للزنزانة
ليس للموت مَن يعيِّره باسمه'
وعلى الرغم من أن الطفل هو الذي يكتب في حقيقة الأمر، قصائد هذا الديوان، إلا أن الموت يأتي في كل القصائد تقريباً بوصفه أبسط الحقائق، لا في قصيدتي'ببطء باتجاه المقابر' و'موت دجاجة' فقط، بل في أغلب القصائد التي تحضر فيها 'الأم'، وأشباحها طبعاً معها، ما يوفر مزاجاً سوداوياً يميل إلى الحكمة في القصيدة، ويمنح مؤشراً على تمدد تجربة الشاعر، الذي تخطى الأربعين بقليل، ليصير ـ ربما ـ كهلاً في القصائد، كأنَّه يعيد إنتاج أمه، المأخوذة روحُها دائماً إلى هناك:
'لن أعرفَ مَن آخر شخصٍ
سيدركُه الموتُ في هذا العالم
وإلى أي حدٍ بالغ في تصوير الوحشة
وهو يموت بلا جمهور'.
لغة الشعر ـ على نقيضِ عدد من شعراء جيله ـ تأتي في أكبر قدرٍ ممكن من الشظف والتقشف، لا ارتجالية ولا ثرثرة، لا شيء يفيض في هذه اللغة المشدودة على حبل سري لا يُرى، لدرجةِ أن شاعرية اللغة تستمد نصف جماليَّاتها ـ على الأقل ـ مما تمحوه، كأنَّ المحذوفَ لغةٌ بحدِّ ذاتها، تمنح المكتوبَ في ديوان 'بكل جسدي..بكل طفولتي' حزناً إضافياً.
تعبِّر القصائد ـ فوق ذلك ـ عن خبرة جمالية باذخة بقصيدة النثر، تمددت في دواوينه السابقة، خصوصاً في 'نص الكلاب' و'آثار جانبية للسعادة' وفي خبرته كواحد من أهم صائدي 'قصيدة النثر المصرية'، حيث جازف بجمع أوَّل مُختاراتٍ شعريَّة تصدرعلى نفقة الدولة لهذه القصيدة، ـ العام قبل الماضي ـ في كتاب 'صيدٌ وحيد' الذي أصدرته 'مجلة إبداع'ـ والتي يرأس تحريرها مُعارض قصيدة النثر الأول الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وهو ما وضع الصيدَ كله في اختبارٍعسير.

ايوب صابر 06-10-2012 01:13 PM

دعوة للمشاركة في هذه الدراسة الجماعية - ورشة العمل - حول "الادهاش في روايات الايتام".

يسرني دعوة المهتمين في الدراسات والقراءات الادبية للمشاركة في هذه الدراسة هنا وبحيث يتم طرح اسم رواية على ان يكون مؤلفها يتيم ، لكي يتم تقديم قراءات ودراسات حولها ثم ننتقل الى رواية اخرى.

بأنتظار اقتراحتكم حول اسم اول رواية مقترحه لهذا الغرض.

مع التحية واهلا وسهلا،،

===========
ملاحظة :

طبعا يمكننا اختيار واحدة من روايات الايتام المشمولة في قائمة اروع مائة رواية عربية على الرابط التالي:


او واحدة من افضل مائة رواية عالمية على الرابط التالي:


او اي رواية اخرى من خارج هذه القوائم شرط ان يكون مؤلفها يتيم.


- من يعلق الجرس ويتقدم لنا باقتراح اسم لاول رواية ليتم مناقشتها ضمن هذه الورشة؟؟؟؟؟

ايوب صابر 06-12-2012 03:06 PM

حتى نطلق العنان لفعاليات هذه الورشة والتي نهدف من خلالها الى استشكاف اسرار وابعاد الجمال والروعة والتأثير والادهاش في روايات الايتام وعلى اعتبار ان اليتم عنصر اساسي في خلق الروعة وما الى ذلك من عناصر تأثير ... سنضع اليوم بين ايديكم رواية :

- رامة والتنين –

للروائي- ادوار الخراط – من مصر

وهي الرواية رقم 8 في قائمة "افضل مائة رواية عربية" حسب اتحاد الكتاب العرب لتكون اول رواية تخضع للدراسة والبحث والتحليل والتمحيص وذلك ضمن اعمال هذه الورشة الطموحة ، وسنخصص شهر كامل لهذه الرواية، نأمل في خلال هذه المدة ان نتمكن من دراسة الرواية من كافة جوانبها ، ثم ننتقل الى الرواية التالية من روايات الايتام ضمن القائمة نفسها وهكذا..:


ايها المهتمون بفن الرواية ....
هلموا دام عزكم وفضلكم الى المشاركة....

=================
معلومات منشورة عن رواية " رامة والتنين".
المصدر : الانترنت.

أول ما يستوقف القارئ في هذه الرواية،
- اللغة التي تشي بامتلاك الكاتب لها،
- وبقدرته على تصوير أحاسيس أبطال روايته من خلالها،
- وفي هذه الرواية تتداخل الأزمنة حيث تتداعى أحداث الماضي في تشابك مع اللحظة الحاضرة التي تشكل إطاراً زمنياً للرواية.
- وفي كل هذا يطل الإنسان برغباته ونزعاته وشهواته، حيث لا مفر من البحث عن نهاية يقنع عندها بأنه استنفد كل جهده، وطاقاته.

والرواية
- ترصد تفاعلات النفوس الإنسانية التي ذاقت مرارة الهزائم والإنكسارات وتفجر مكامن الخوف في الإنسان الذي تتقاذفه أقداره دون طوق للنجاة يصل به إلى بر الأمان

==


سنحاول ايجاد رابط الكتروني للرواية لنوفرها لكل من يريد ان يقرأها ويقدم رؤيته وقراءته عنها ولها....

وكل الشكر لكل من يشارك في ورشة العمل هذه ....سواء بتقديم اضافة عن الرواية منشورة على الانترنت، او تقديم قراءة جديده لها او لاحد عناصرها ....او توفير رابطها الالكتروني.

ايوب صابر 06-12-2012 04:03 PM

رامة والتنين

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
رامة والتنين هي رواية للكاتب ادوار الخراط، نشرت سنة 1980. بعد ستة عشر عاماً من صدورها، باتت ثلاثيةً، بصدور الجزء الثاني الزمن الآخر والجزء الثالث يقين العطش.
- تعتبر نمطا متميزا في الكتابة السردية الذاتية.
صنفت كثامن أفضل مئة رواية عربية.
محتوى</SPAN>

- تدور الرواية كحوار بين رجل وامرأة تختلط فيها عناصر أسطورية ورمزية فرعونية ويونانية وإسلامية.

هذه الرواية هي خير مثال في أدب إدوار الخراط للحديث عن
- الرواية التجريبية ذات المختبر الخاص، والبحث الضالع في جماليات اللغة، وقناع الذاتية.
- بالإضافة إلى اعتماد الكاتب على تكنيك سيل الوعي المتغلغل في نسيج النص من خلال شخصية "رامة" المتغلغلة بدورها هي الأخرى في نفس تكنيك تيار وعي "ميخائيل"، وتداعي خواطره الذاتية، ومونولوجه الداخلي الكاشف عن ذكريات كثيرة حدثت.
نقد

يقول سامي خشبة في دراسته حول "رامة والتنين مأساة مصرية" حول الأهمية الخاصة برواية "رامة والتنين" والهدف من التعبير عنها بهذا الطراز من الكتابة هي أن:
- «"إدوار الخراط عندما كتب هذه الرواية، إنما كتبها من منطلق واضح فيها كل الوضوح، حول تجربة الحب الضائع، التي يعيشها مثقف مصري قبطي تكونت ثقافته باعتباره (قبطيا) ينظر إلى الأشياء، وإلى تاريخ مجتمعه ولغته، من منظور فهمه الخاص لتاريخه الذاتي.»
مراجع

1. ^ التصوف كبنية روائية ـــ نبيل سليمان مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 348 نيسان 2000
2. ^ إدوار الخراط يتمرد على الشكل السردي ويعزف على تنويعات مختلفة في الشكل والمحتوى واللغة، والرؤية والأداة. الخرَّاط وخمسون عاما من التجريب الروائي السبت , 28 أبريل



ايوب صابر 06-12-2012 10:31 PM

من رواية رامة والتنين
لم يقل لها: علمني حسي بفقدانك أننا نحب وحدنا. ونموت وحدنا. واستشرفت أنّه ليس حتى في الموت برء من الوحدة. بعد حياة الوحشة المحكوم بها علينا, نحن نموت. ولا نجد في الموت نجدة. ولا نلتقي فيه بأحد. الموت يطوي الكتاب و يغلقه و يكرس ختمه.
و الحب؟
الحب كذبة. هو الشهوة العارمة للخلاص من الوحدة, الاندفاعة التي لا توقف نحو الانصهار الكامل والاندماج والاشتعال المزدهر لكنه يدور أيضا في الوحدة. وينتهي بتكريسها, أكثرُ علقماً من الموت. نحن نحب وحدنا، الحب أيضا وحدة لا شفاء منها.
***

عندما يمتزج الحب كعاطفة صادقة بوجع الحياة، تضحي الحياة أجمل حتى بعذاباتها فهي تحمل في ثنايا تواترات ساعاتها وأيامها لحظات ساحرة، وومضات آثرة من ذاك الحنين الذي يترك داخل القلب، واعدا بآمال محققة.
***
قال لها دون أن يتكلم : يا حبيبتي ، نحطم بأيدينا كل بنايات عمرنا ، هذه الجدران التي أقمناها ، كل منا على حده ، طول السنين ، بتضحيات لا أحد يعرف ثمنها ، هذه السجون التي نرتطم بأبوابها الموصدة كل يوم . حبنا نافذة في الشمس ، قطعة ممزقة من سماء الليل الفسيحة . العلاقات التي تبتر ، نظم الحياة التي تتقوض وتنهار . متاع خفيف وجوهري من الحب والكتب . قطع أخرى أيضاً من القلوب تمزق وتترك وراءنا . موسيقى التوقع والتشوف .
- قالت: الجزائر تذكرني بالإسكندرية . هل تعرف ، سآخذك معي إلى الإسكندرية ، أليست بلدة حبيبتك ؟ وأغرقك بالبحر ؟
ماذا تقول لحبيبتك التي سوف تغرقك في البحر ؟ تقول : أغرقيني ... بالطبع هذه الأمواج التي نريد جميعاً أن نغرق فيها ، دون أن تغص حلوقنا بالماء المالح ، غرقاً ناعماً هادئ النبرة . أو غرقاً عاصفاً متقلباً يفقد به المرء نفسه وتطيش عيناه . تقول لا لن أغرق أبداً ؟ وأنت منذ الآن قد خبطت القاع الرملي بالفعل ، واستقر جدثك واعي العينين تحت ثقل أطباق من الموج لا تطاق .
قالت : أنا كالعنقاء التي يحكون عنها ، تجدد ذاتها في مياة البحر .
قال لنفسه : في مياة البحر ، في معمودية النار .
قالت : في ملح البحر ، وصمته وشمسه المحرقة ، ونعومة قمره .
قال لها : دائمة الشباب ، تخرجين من المياة المحرقة كل مرة في غضاضة الصبا الجديد .
وقال لنفسه : هذه المرأة باقية لا تزول ، هي بنفسها تضع أرقام الزمن ، وفق ما تمليه حاجاتها الداخلية ، بِرْكة الحب المشتعلة هي الينبوع
الذي ترى فيه الزهرة وجهها القمحية مترقرقة أبداً قريباً من سطح الماء .وقال في نفسه : هي لا تعود أبدأً لشيء مضى ، ولا تذكر أبداً ، لا تقول إن شيئاً قد حدث وانقضى ، كل شيء عندها الحاضر ، كل لحظة تبدأ عندها من جديد ، كأن الماضي لم يحدث أبداً ، وبالتالي لم ينسى ولم يذكر لأنه لم يكن هناك أصلاً . كل حكاياتها في الحقيقة تجري بالفعل المضارع ، ولا تعرف المستقبل أيضاً ، لا تراه يوجد .

ايوب صابر 06-12-2012 11:00 PM

إدوار خراط_ مؤلف رواية رامة والتنين

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة


إدوار الخراط كاتب مصري ولد بالإسكندرية في 16 مارس عام 1926 في عائلة قبطية أصلها من الصعيد، حصل على ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية عام 1946م، عمل في مخازن البحرية البريطانية في الكبارى بالإسكندرية، ثم موظفا في البنك الأهلى بالإسكندرية، عمل بعدها موظفا بشركة التأمين الأهلية المصرية عام 1955م، ثم مترجما بالسفارة الرومانية بالقاهرة.

شارك إدوار الخراط في الحركة الوطنية الثورية في الإسكندرية عام 1946 واعتقل في 15 مايو 1948م في معتقلى أبو قير والطور. عمل في منظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية في منظمة الكتاب الإفريقيين والآسيويين من 1959 إلى 1983م. تفرغ بعد ذلك للكتابة في القصة القصيرة والنقد الأدبي والترجمة، فاز بجائزة الدولة لمجموعة قصصه (ساعات الكبرياء) في 1972م.

- يمثل إدوار الخراط تيارًا يرفض الواقعية الاجتماعية كما جسّدها نجيب محفوظ في الخمسينات مثلا و
- لا يرى من حقيقة إلا حقيقة الذات ويرجّح الرؤية الداخلية، وهو أول من نظّر للـ"حساسية الجديدة" في مصر بعد 1967م.

- اعتبرت أول مجموعة قصصية له (الحيطان العالية) 1959 منعطفًا حاسمًا في القصة العربية إذ
- ابتعد عن الواقعية السائدة آنذاك و
- ركّز اهتمامه على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس،
ثم
-أكدت مجموعته الثانية (ساعات الكبرياء) هذه النزعة إلى رسم شخوص تتخبط في عالم كله ظلم واضطهاد وفساد.

أما روايته الأولى (رامة والتِنِّين) 1980 ف
- شكّلت حدثًا أدبيًا من الطراز الأول،
- تبدو على شكل حوار بين رجل وامرأة تختلط فيها عناصر أسطورية ورمزية فرعونية ويونانية وإسلامية.
- ثم أعاد الخراط الكرة بـ(الزمان الآخر) 1985 وبعدد من القصص والروايات (وإن صعب تصنيف هذه النصوص) متحررة من اللاعتبارات الإديولوجية التي كانت سائدة من قبل.
مؤلفاته




صدر لإدوار الخراط أكثر من 50 كتابًا قصصيًا أو شعريًا أو نقديًا، ومن مؤلفاته:
  • حيطان عالية
  • ساعات الكبرياء
  • رامة والتنين
  • الزمن الآخر
  • أضلاع الصحراء
كما قام بترجمة أربعة عشر كتاب إلى اللغة العربية، وعدد من المسرحيات والدراسات.


حصل على جائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1973م.

==
وُلد إدوار الخرّاط بالإسكندرية في 16 مارس عام 1926 ، ونشأ فيها وحصل على ليسانس الحقوق من جامعتها في عام 1946. عمل في عدة وظائف، وشغل منصب الأمين العام المساعد لمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية، واتحاد الكتاب الأفريقيين الآسيويين، ثم تفرغ للكتابة.
أصدر أكثر من خمسين كتابًا، من بينها ستة كتب شعرية, منها: (تأويلات)، و(لماذا)، و(صيحة وحيد القرن)، وخمسة عشر كتابًا في النقد الأدبي التشكيلي, منها: (الحساسية الجديدة)، و(أنشودة للكثافة)، و(ما وراء الواقع)، و(مهاجمة المستحيل)، و(أصوات الحداثة). وترجم سبعة عشر كتابًا عن الإنكليزية والفرنسية، ونحو عشرين مسرحية طويلة وقصيدة.
كتب عشرين عملاً قصصيّا وروائيّا، منها: (حيطان عالية)، و(ساعات الكبرياء)، و(حجارة بوبيللو)، و(مخلوقات الأشواق الطائرة)، و(أمواج الليالي)، وثلاثية (رقرقة الأحلام الملحية)، وثلاثية (رامة والتنين)، وثلاثية (الإسكندرية)، و(صخور السماء).

ايوب صابر 06-12-2012 11:09 PM

الخراط: نصوصي ليست نسيجا معنوياً لغوياً
صاحب «رامة والتنين» لـ«الشرق الأوسط»: نريد الحرية غير منقوصة وبلا حدود
الشرق الاوسط 6 ابريل 2003

http://www.aawsat.com/2003/04/06/ima...oks.164052.jpg
القاهرة: عبد النبي فرج
احتفلت الاوساط الأدبية في مصر منذ أيام بعيد ميلاد الروائي ادوار الخراط السابع والسبعين، الذي مازال، كما يرى البعض،
- كاتباً إشكاليا.
هنا حوار معه حول رؤيته الجمالية للعمل الفني، وتقنيات السرد القصصي والروائي، ومقاربته للموضوع الديني في مصر.

* تبدو المرأة في بعض اعمالك وكأنها متخيل عقلي ذكوري اكثر من كونها واقعا فعليا معاشا؟
ـ هذا الكلام بالنسبة لي لا يستند الى قراءة متبصرة، فالمرأة خاصة في رامة والتنين، والزمن الآخر، ويقين العطش، واقعة حسية مباشرة مجردة عن كل تصور مضاف أو مقحم، فهي كيان ارضي يومي حي منسجم، فضلا عن البعد الاسطوري. وربما كانت النظرة إليها في هذه النصوص نظرة ذكورية ولكن الصحيح ايضا انها تكثيف وتجسيم الانثوية الواقعية والاسطورية المتخيلة في وقت واحد.

* يقول سارا ماجو «ان كل ما نفعله في الروايات هو قص الحكايات»، هل تتفق مع هذا المفهوم للرواية؟
ـ طبعا اننا بلا شك نقص الحكايات. ومن غير سردية واضحة أو خفية لا تقوم للرواية أو القصة القصيرة قائمة، ولكن آمل ان يكون الأمر غير مقصور على مجرد سرد حكاية
- بل ان تندرج في طوايا الرواية شرايين الشعرية
- أو اضاءات المشهدية
- أو لمحات واستلهامات من الفن التشكيلي والموسيقى،
- فضلا عن البعد الفكري اي الموقف الفلسفي بالمعنى العريض المتضمن في سرد الحكاية.

* القناع يحل محل الاصل ويقوم بدوره او يؤدي فعله، هل ميخائيل ، بطل «رامة و التنين» هو قناع ادوار الخراط؟
ـ نعم ولا، اظنه يتشابه مع كاتبه في نواح محدودة ويختلف معه ان لم يتناقض في نواح عديدة، ليس ادوار الخراط مستعدا ان يوقع من دون تحفظ بامضائه على ما يقوله ميخائيل أو ما يفعله.

* دعني استعير تحليل عبد الفتاح كيليطو لمغامرات السندباد، إذ قد يكون السندباد رجلا كسولا يعيش في أزقة بغداد له خيال نشط وان مغامراته ورحلاته محض خيال، هل من الممكن ان ينطبق هذا التحليل على ميخائيل وعلاقته؟
ـ الرد في كلمة واحدة ممكن، ولكن دعنا نتعمق قليلا في تحليل عبد الفتاح كيليطو الشائق، ان مغامرات السندباد أو أي سندباد آخر وهو قابع في عقر داره، لا يمكن ان تكون خيالا محضا فما دامت قد حكيت أو سردت أو قيلت شفاهة، فقد اكتسبت بعدا معينا مما نسميه الحقيقة، ذلك ان
- الخيال فيه غير منفصل تماما عن الواقع بل لعل فيه واقعا أعمق واقعية مما نسميه الواقع.

* ألا ترى أن صناعة نسيج لغوي اسطوري في عالم تسوده الحروب والفوضى نوع من الترف العقلي؟
ـ لا أتفق معك على الاطلاق، أولا:
- أعوذ بالله ان تكون نصوصي نسيجا لغويا.
- وآمل أن تكون فيها خبرة من الحياة والحرارة مما يتجاوز مجرد الوصف بالنسيج اللغوي.
ثانيا:
- والأهم ليس هناك ترف عقلي في الخبرة الفنية بشكل عام فهي ضرورة روحية وحياتية لا يستقيم الوجود الانساني بغيرها،
- العالم الذي يموج بالعنف والقسوة والشر هو الذي تواجهه الخبرة الفنية لكي تعمق الوعي به أولا ويأتي السعي نحو تغييره عن طريق الفن وعن طريق العمل المباشر.

* تقول «اسكندريتي كولاج قصصي تم خلالها تقطيع اوصال نصوص في غاية الفنية في سياقها»، هل يعني هذا انك مريد في حضرة الاسكندرية؟ وهل ستكرر التجربة؟
ـ أما وأنا مريد في حضرة المعشوقة فهو ماثل ولا يحتاج الى بيان، لكن الكولاج القصصي فيما ارجو قد اكسب النص دلالات لعلها كانت كامنة في الاصل فأوضحها وأظهرها للعيان.
وأما تكرار التجربة فلم لا، قد يكون هذا واردا في غير نص كما هو وارد في ما نسميه واقع الحياة نفسها الذي يتكون من كولاج نمزقه ونصله بعضا ببعض في تصوراتنا وأفعالنا كما في أحلامنا أو أوهامنا.

* هناك ازدواجية في النظرة الى المكان، مرة باعتباره رحما ومرة باعتباره ذا سطوة وجبروت، كيف ترى؟
ـ لست اظن ان هناك ازدواجية في ذلك فيمكن ان تكون للمكان ابعاد كثيرة في وقت واحد قد يكون رحما او ملاذا أو قوة طاردة، ليس للمكان في ذاته حتى لو صح هذا التعبير وجود نهائي مغلق، انه يتمروح تحت تأثير الزمن ويتقيد تحت وقع النظرة إليه أو تحت وطأة الخبرة به، المكان اذاً ليس ظاهرة نهائية مصمتة مغلقة على ذاتها، أظنه تجربة حميمة متغيرة المواقع في النص وفي الروح.

* يبدو الراوي في قص ادوار الخراط مهيمنا أبويا يخضع شخوصه لنوع من التشريح وكأنهم تحت المجهر؟
ـ يحق لك ان تراه على هذا النحو بطبيعة الحال كما يحق لي ان اراه على نحو مختلف تمام الاختلاف.
صحيح ان شخوصي تأتي من خلال نظرة الراوي إليها، ولكنها حتى في هذه النظرة لها وجود موضوعي مغاير لنظرة الراوي إليها، ذلك واضح من استقصاء الخطوط الواقعية التي ترسم بها الشخوص وبها تحيا خارج نظرة الراوي إليها. انني أكره بل امقت النظرة الابوية السلطوية وما الى ذلك، أرجو ان أكون متواضعا أشد التواضع امام حقائق الآخرين ووجودهم المائز.

* لماذا لجأت الى التوثيق في رصد الحالة الدينية في مصر؟
ـ الحقيقة ان لجوئي الى التوثيق ليس في رواية «يقين العطش» فحسب بل من فترة مبكرة من حياتي.

* أعلم، غير انك كنت تستخدم التوثيق باختصار شديد، ولكن التوثيق في «يقين العطش» أثقل على العمل رغم لغتك الشاعرية التي حاولت بها ان تخفف هذا الثقل؟
ـ عموما،
-التوثيق تقنية هامة من تقنيات السرد القصصي والروائي على شرط ان يتسق مع المتخيل لكي يخلق واقعا سرديا يختلف عما نسميه الواقع اليومي في الوقت الذي ينبع منه ويصب اليه.
ليس ما نسميه الواقع شيئا كريها في ذاته، ففيه من أهوال الجمال ما يروع القلب. الكريه في الواقع قبحه وشره وهو ما يجهر الفن في تعريته ومن ثم فضحه. ان الذي يزيل عن التوثيق جفافه او صلابته، ادراجه في سياق يتجاوز هذا الجفاف وتلك الصلابة الى شيء آخر اسميه واقعية السرد، التي لا تختلف في نهاية الأمر عن شاعرية السرد، لان الفن هو سيد المتناقضات، به الواقع والخيال بين الجسم والروح بين الصحو البارد والفانتازيا الحارة.

* رفض ميخائيل الحوار مع المتشددين في صعيد مصر.. كيف ترى هذا الأمر؟
ـ بؤرة العنف الارهابية الاساسية هي العطب الاجتماعي الذي يصيب، بل يتفشى في الوطن من جراء غياب الحرية الكاملة.
- نحن لا نريد هامشا للحرية، لماذا الهامش؟ نريد الحرية غير منقوصة بلا حدود، هذا هو السبيل الوحيد لمعالجة البطالة، قصور أو فساد نظم التعليم أو الاعلام، تفشي الفهم الضيق المتعصب للمبادئ الدينية السمحة بطبيعتها، افتقاد الأمل في المستقبل امام الشباب، الحس بأن الفرد الانساني في أوطاننا ممنوع من تقرير مصيره بنفسه، ومقموع تحت وطأة آليات كثيرة عليه ان يجالدها في لحظة، بدءا من الجوع الى لقمة العيش حتى الجوع الى فسحة الأمل،
تلك هي الارض التي ينبثق منها العنف الديني أو ما نسميه الإرهاب ولا علاج له أبدا لا عن طريق العنف المضاد ولا عن طريق الوسائل الأمنية، وإنما صلاح أو تنوير المجتمع يكون بالديمقراطية الكاملة، وهو الحل.
أما بخصوص الحوار في النهاية فلا بد ان يتم في مناخ الحرية، لا معنى للحوار مع من يرفض الحوار أصلا، ويقطع السبيل أمام كل نقاش، لا معنى للحوار في ما اظن لمن يتصور انه يملك الحقيقة المطلقة ملكية تامة وان كل خلاف معه يعد من قبيل الكفر. قيل قديما انه لا حرية لأعداء الحرية، الوضع هنا مختلف فلا علاج لانتقاص الحرية إلا بمزيد من الحرية. الحوار مفتوح وضروري لمن يقف على أرضية الحوار «وجادلهم بالتي هي أحسن».

* كثيرا ما تسرف في استخدام عبارات مثل التجريب، المغامرة، عدم اليقين، مع ان جوهر العمل الروائي لادوار الخراط هو مع المستقر في الرواية الكلاسيكية بتنوعه مثل البناء الصارم، الشخصية المركزية، الراوي المهيمن وهكذا؟
ـ بالعكس انا لا أرى في ما تسميه جوهر الروائي عندي على السائد والمكرس والمألوف، ولعلك ترجع في ذلك الى كل نقادي الذين اجمعوا على ذلك، لا، لا، لا
- أظن ان العمل الروائي هو مغامرة مستمرة وتجريب متصل، وذلك لا يتنافى مع بناء قد يكون محكما أو به صرامة في الصدق لعلها تكون ذاهبة الى غايتها،
- ولكن اللب أو المحور الاساسي هو ان العمل الفني سؤال وليس اجابة،
- اقتحام وليس انصياعا.
- العمل الفني اختراق وليس امتثالا.

ايوب صابر 06-12-2012 11:32 PM

الباب الثاني : أشكال النروع الأسطوري وتجلياته - الحدث الأسطوري
من منشورات اتحاد الكتاب العرب عام 2002

تتعدّد أشكال النزوع الأسطوريّ في الرواية العربية المعاصرة بتعدّد النصوص الروائية التي تنتمي إلى مجاله، وإلى حد يمكن القول معه إنّ كلّ نصّ روائي ينجز شكلّ النزوع الخاصّ به، والمميّز له من سواه.‏
ويمكن تنضيد مجمل هذه الأشكال في ثلاثة: شكل ينزع إلى استلهام حدث أسطوريّ، أي إلى الاتكاء على أسطورة بعينها، وثان ينزع إلى استلهام رمز أو أكثر من الرموز الأسطوريّة، وثالث ينزع إلى استلهام البناء الأسطوريّ. من غير أن يعني ذلك أنّ كلّ نص روائي يستقلّ بشكل بعينه، إذ ثمّة نصوص يستجمع كلّ منها لنفسه أكثر من شكل، كما يتردّد فيه أكثر من أسطورة. بمعنى أنّ هذا التنضيد لا يعدو كونه عملاً إجرائياً بحتاً اقتضته طبيعة الدرس النقدي فحسب، ويخضع لمنطق غلبة شكل على غيره من الأشكال الأخرى داخل النصّ الروائي الواحد.‏

فكما ثمّة، على سبيل المثال،
- في رواية "رامة والتنين" أسطورة رئيسية تشكّل أحد أهمّ حوافز النزوع الأسطوريّ في الرواية، هي أسطورة الموت والانبعاث، ثمّة، أيضاً،
- استعارات من أساطير أخرى تعزّز ذلك النزوع وتثمّن حضوره في الرواية، إذ تستدعي الأسطورة الفرعونية، إيزيس وأوزوريس، المعنية بأطروحة إحياء الإله وبعثه، رموزاً أسطوريّة عدّة، كالعنقاء، والتنين.
وإلى جانب أسطورة المخلّص، على سبيل المثال أيضاً، التي تشكّل أبرز علامات الرمز الأسطوريّ في رواية "الحنظل الأليف"، والتي تتجلّى من خلال شخصية "آدم البرّي"، ثمّة بناء أسطوريّ يُداخِل ما بين مستويين متضادين بالمعنى الموضوعي ومتعاضدين بالمعنى الفنّي / الجمالي: مستوى الواقع، ومستوى الأسطورة.‏
أعني بالحدث الأسطوريّ: ما يحيل على أسطورة مركزيّة من المنجَز الذي أبدعته المخيّلة البشرية في مغامراتها الفكرية الأولى، وما يتماهى والنسيج الحكائي للنصّ الروائي ويشكّل بؤرة المحكيّ فيه. وبالرمز الأسطوري: الأساطير الجزئية التي لا تشكّل متوناً في السرود الروائية، بقدر ما تبدو حوامل يعزّز الروائي بوساطتها، وعبرها، مقاصد الكتابة لديه. أمّا البناء الأسطوريّ، فإنني أعني به: النصوص الروائية التي تشيد عوالم أسطوريّة من خلال واحد من مكوّناتها النصّية، الشخصية الحكائية، أو العالم التخييلي، أو الفضاء الجغرافي. أي النصوص التي تمتلك الشخصية الحكائية فيها قوى مفارقة لقوانين الواقع الموضوعي وتتمتّع بقدرات تتجاوز القدرات المألوفة للبشر وتنحرف بها إلى مستوى الكائنات الأسطورية، ثمّ النصوص التي يشيد كلّ منها عالماً منبتّ الصلة بمواضعات العالم الواقعيّ ويُنتج عالماً خاصاً به ما إن يجد نفسه في مواجهة قانون مهيمن حتى يبدأ بالتمرّد عليه ويبتكر ما ينقضه، وأخيراً النصوص التي يصوغ كلّ منها فضاء جغرافياً يحيل إلى بدايات الأشياء.‏

الحدث الأسطوري‏
يتوزّع المنجَز الأسطوريّ، بعامة، بين نوعين رئيسيين: أساطير تتعلّق بأصل الخلق والتكوين وبدايات الأشياء، وأخرى تتعلّق بظواهر الطبيعة وبأكثر مؤرقات الإنسان عبر عصور التاريخ المختلفة، أي: الموت والانبعاث.‏
فأسطورة / أساطير التكوين تتردّد في معظم المغامرات الفكرية الأولى، ولدى معظم الشعوب والمجتمعات، وإلى حد يمكن القول معه إنه ما مِن شعب "إلا ولديه أسطورة أو مجموعة أساطير في الخلق.. وأصول الأشياء"(1)، حاول الإنسان من خلالها تفسير نشأة الكون وكيفية ظهور عناصره إلى الوجود، ووعي الظواهر الطبيعية المحيطة به من جهة، ثمّ ابتكار الطقوس اللازمة لاسترضاء القوى المحرّكة لتلك الظواهر من جهة ثانية.‏
والسمة نفسها تتجلّى في أسطورة / أساطير الموت والانبعاث التي تبدو هي الأخرى قاسماً مشتركاً بين معظم تلك المغامرات بسبب ارتباطها بأكثر أسئلة الوجود إلحاحاً، أي: الموت، موت الإنسان والطبيعة، الذي دفع المجتمعات الأولى جميعها "إلى إبداع عالم أسطوريّ يتغلّب فيه الانبعاث على الموت"(2)، ويحرّر الإنسان من العذاب والألم(3).‏
وبتتبّع تجلّيات هذا المنجَز في التجربة الروائية العربية، وربّما في مجمل الأجناس الأدبية العربية الحديثة، يخلص المرء إلى أن ثمّة حدثين أسطوريّين مركزيين يحاكيان تلك السمة المميّزة لترجّح المنجَز نفسه بين النوعين المشار إليهما آنفاً، ويشكّلان المصدر الأسطوريّ الأول لهذه التجربة بعامة، أي التكوين، والموت والانبعاث، بسبب ما تفيض به هاتان الأسطورتان من حمولات دلالية معبّرة عن الأسئلة الأكثر إلحاحاً في الواقع العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى الآن، أي منذ شواغل عصر التنوير الفكرية والحضارية، مروراً بأسئلة المراحل التالية للاستقلال الوطني على المستويين السياسي والاجتماعي، وبالأسئلة الجارحة التي أنتجتها المفاصل الأكثر حساسية في التاريخ العربي الحديث: النكبة الفلسطينية، وهزيمة حزيران، واتفاقات السلام.‏
1 – أســـطورة التــــكوين:‏
على الرّغم من الأساطير بعامة مثّلت زاداً جمالياً للكثير من الإبداع الأدبي العربي، وتمّ استلهامها بأشكال ورؤى مختلفة، وفي معظم الأجناس الأدبية، وعلى الرّغم أيضاً من أن الجنس الروائي يُعدّ أكثر هذه الأجناس استيعاباً لاستلهام ذلك الشكل من أشكال المغامرات الفكرية الأولى، فإنّه لمن اللافت للنظر ضمور أساطير التكوين في التجربة الروائية العربية على نحو يكاد ينفي القول بوجودها، ومسوّغ ذلك، كما يبدو، جهارة هذه الأسطورة بما يتضادّ والمقدّس الديني، ولاسيّما الإسلامي، الذي يعلّل فعّالية الخلق على نحو مفارِق للنصوص الأسطوريّة.‏
عــودة الطــائر إلــى البحـــر:‏
يُمثّل النزوع الأسطوريّ أحد أهم العلامات المميّزة لتجربة حليم بركات الإبداعي، وقد أفصحت هذه العلامة عن نفسها منذ مجموعته القصصية الأولى "الصمت والمطر" 1958، وما لبثت أن تتابعت في معظم نتاجه الروائي: "عودة الطائر إلى البحر"، و"طائر الحوم"، و"إنانة والنهر"، لتشكّل سمة دالّة على دأبه في إنجاز نصّ إبداعي معبّر عن تجذّره في تراث المنطقة المتوسطية، وعلى الإمكانات الكبيرة التي يزخر بها هذا التراث من جهة، والتي مكّنت الأدب العربي الحديث، بأجناسه المختلفة، من أداء جمالي جديد لموضوعاته من جهة ثانية.‏
وتُعدّ روايته "عودة الطائر إلى البحر"(4)، الصادرة بعد الهزيمة الحزيرانية بعامين تقريباً، أكثر تلك العلامات بروزاً في هذا المجال، أي: النزوع الأسطوريّ الذي يترجّح داخلها بين أسطورتين مركزيتين: أسطورة التكوين بروايتها التوراتية، وأسطورة الهولندي الطائر، ثمّ ما يتردّد بينهما من أساطير جزئية، أو إشارات أسطوريّة، تعزّز ذلك النزوع وتعلي من شأنه في كلّ من المتن والمبنى الحكائيين.‏
ومهما يكن صحيحاً أن أهمية "هذه الرواية تكمن.. في اعتمادها على أسلوب فني جديد"(5)، فإنّ هذه الأهمية لا تتحدّد بهذا الأسلوب وحده، كما لا يعني أنه "لولا هذا الأسلوب.. لفقدت كلّ قيمتها"(6)، فالمتن الروائي وما يزخر به من إشارات مهمة إلى الأسباب التي قادت إلى الهزيمة تنازع ذلك الأسلوب مكانته فيما يجعل من الرواية علامة مميّزة في مسار التجربة الروائية العربية، في المرحلة التي صدرت فيها خاصة.‏
وعلى الرّغم من أن معظم الدراسات التي تناولت هذه الرواية عنيَ بالحديث عن الأسطورة الثانية، وعدّها الحامل الجمالي لخطابها، مأخوذاً، كما يبدو، باستثمار الروائي لها، على نحو جزئي، في عنوان نصّه، فإنّ الأسطورة الأولى تبدو المحرّك الأساسي لهذا النزوع، وأكثر الوحدات السردية تعبيراً عن تلك الدلالات التي رغب الروائي في بثّها بين تضاعيف هذا النصّ، حتى ليمكن القول إنّ الثانية لا تعدو كونها محفزاً تأليفياً يثمّن تلك الدلالات، ويستكمل، في الوقت نفسه، ما يبدو نقصاً في الأسطورة الأولى. ويؤكّد ذلك أن أسطورة التكوين، وعلى امتداد الرواية، تُعنى بدور العربيّ وحده في إنتاج الهزيمة، وهو الدور الأهمّ، كما يتبدّى في تضاعيف الرواية، بينما تُعنى أسطورة الهولندي الطائر بإرادات القوى / الآلهة التي حكمت على هذا العربيّ بالإبحار إلى المجهول دائماً. بمعنى توجّه الأسطورة المحرّكة إلى الداخل العربي، إلى الأسباب التي أنتجت الهزيمة، والتي عُدّت الرواية، من خلال إلحاح الروائي على تعريتها وتفكيكها، من أكثر الصور الروائية العربية قوة وواقعية في التعبير عن أحداث هذه الهزيمة وعن انعكاساتها على المجتمع العربي(7).‏
ولعلّ من أهم ما يميّز استثمار الروائي للأسطورتين معاً هو اتصالهما بما يسمّيه "توماتشفسكي": "التحفيز الواقعي"، الذي يعني توفّر العمل الحكائي على درجة معقولة من الإيهام بأن الأحداث المتخيَّلة، حتى ما ينتسب منها إلى ما هو أسطوريّ، محتملة الوقوع(8)، ثمّ إفصاحه، أي الروائي، عن مصادره الأسطوريّة في مجمل استدعاءاته لكليهما.‏
وتتبدّى هذه السمات جميعها في تصدير الروائي لنصّه بما يسمّيه مستعاراً من كوميديا دانتي الإلهية: "العتبة"، وبما يعني أن ثمّة لعنة أنتجها العربي بنفسه، فغلّت حركته إلى الجحيم / المطهر، وعوّقت وصوله إلى الفردوس، وعلى نحو مقلوب ينتهي بفعّالية الخلق إلى العماء بدلاً من انتهائها إلى الخلق، محاولاً من خلال ذلك هجاء الخراب المدمّر الذي صنعه العربي بيديه، فكانت الهزيمة إحدى علاماته الأولى: "العالم ماء، والظلام يغمر كلّ شيء.. يبدو له كأنما كلّ شيء يتكوّن من جديد. الأسطورة التوراتية تتكرّر، فالأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة. إنما روح الله لا ترفّ على وجه العالم كما يُروى في التكوين الأول. ويتسلّق رمزي صفدي جبلاً.. الحزن يجتاحه. يقول ليكن نور. النور لا يكون.. يقول ليكن جلد. الجلد لا يكون.. يقول لتجتمع المياه في مكان واحد ولتشرب اليابسة. المياه لا تجتمع واليابسة تتفتت من العطش.. ويقول لتطر الطيور فوق الأطفال في المخيّمات. الطيور لا تطير.. ويقول ليكن الإنسان على صورة الله.. الإنسان لا يُصنع على صورة الله.. ورأى العربي كلّ ما فعله فإذا هو سيء جداً"(9).‏
وإمعاناً منه في ذلك الهجاء يعيد سرد تلك المروية في خاتمة الرواية أيضاً، منتجاً بذلك شكلاً دائرياً مغلقاً يبدأ بالعماء وينتهي إليه، رغبة منه، كما يبدو، في القول بأن العربي لم يُخلص لنفسه، ولم يحاول تطهير واقعه من لوثة الخراب التي سبقت الهزيمة، إذ يؤول المحكي في الرواية إلى النقطة التي بدأ منها، وعبر تعديلات طفيفة لا تمسّ جوهر النصّ الافتتاحي، ولا تضيف إليه سوى إشارة إلى أن انهماك العربي بفعالية الخلق قد يمتد طويلاً في الزمن إنْ لم يقو على استنهاض بلاده من حال العطالة التي تفترس ساستها، ومؤسساتها، ووعي الناس فيها.‏
والسمات نفسها المميّزة لاستدعاءاته لأسطورة التكوين، ولاسيّما إفصاحه عن مصدره الأسطوريّ وفيما يؤكد أطروحته المركزية القائلة إنّ وعي العربي الناقص، بل العاجز، بأسباب الاستلاب الحضاري التي قادت إلى الهزيمة، تتجلّى في استدعائه لحكاية يعقوب مع الكنعانيين كما روتها التوراة أيضاً، وفيما يسمّيه: "مرة أخرى يختن يعقوب الفلسطينيين فيتهدّم المسرح"، التي تنتهي، على لسان بطله رمزي صفدي، إلى أن "التـاريخ يعيـد نفسه"(94)، وإلى أن أبناء يعقوب في الحاضر هم أبناء يعقوب الغابر، وأن فلسطينيي اليوم هم كنعانيو الأمس الذين غرّر يعقوب بهم، ولم يعِ أحفادهم ما حلّ بهم وبأرضهم على يديه، وما يزالون في غفلة ممّا يتربّص بهم من إبادة كما حدث لأسلافم(9).‏
وعلى النحو نفسه يتجلّى استدعاء الروائي لأسطورة الهولندي الطائر، التي تبدو، في الرواية، استكمالاً لأسطورة التكوين التوراتية، ومحاولة لتخصيب مرجعيات الخراب والعجز المدمّرين اللذين يسلبان العربيّ إمكانات الخلق أو الخلاص من لعنة الإبحار في تيه لا ينقطع ومجاهل لا تقود إلى غير السراب، والتي عدّها بركات نفسه "مجازاً لتجربة الفلسطيني المنفيّ الذي تسنح له بين وقت وآخر فرص تاريخية للعودة إلى وطنه ليكتشف في كلّ مرة أن الآلهة التي تتحكّم بمصير الإنسان تفرض عليه العودة إلى المنفى مرة أخرى"(10).‏
وكما يفصح الروائي في استدعائه لأسطورة التكوين عن مصدره الأسطوريّ يفصح عن ذلك المصدر فيما يتّصل بهذه الأسطورة أيضاً: "بلاده هولندي طائر.. أمس كان يصغي لهذه الأوبرا التي استوحاها فاغنر من أسطورة تدور حول سفينة مسحورة لا يمكنها الوصول إلى ميناء، وهي لا تزال تبحر منذ الأزل. كان الهولندي الطائر قد أقسم أنه سيدور حول جبل تحيط به العواصف العاتية وإن اضطرّ أن يُبحر حتى يوم القيامة. وغضبت الآلهة أو الشياطين عندما سمعت قسمه فحكمت عليه أن يبحر منفياً إلى الأبد ولن تحلّ عنه هذه اللعنة ما لم يجد امرأة تخلص له حتى الموت"(28).‏
وكما يجهر الروائي برموزه الأسطوريّة في استعاراته للمروية التوراتية في التكوين، يجهر برموزه الأسطوريّة في استثماره لهذه الأسطورة أيضاً، غير أنّ ما يميّز هذه الاستعارة من سابقتها في أسطورة التكوين التي يكتفي الروائي بالإشارة إليها في مفتتح الرواية وخاتمتها هو تردّد هذه الأسطورة، أي: الهولندي الطائر، في مواقع مختلفة من السرد، وعلى نحو متواتر لمفردة "البلاد" التي يرتدّ الضمير فيها إلى رمزي صفدي، والتي تمتدّ لتشمل، ليس فلسطين وحدها، بل الوطن العربي بأكمله: "بلاده سفينة بلا دفة"(29)، "بلاده.. يجب أن تكون مخلصة لنفسها حتى الموت"(30)...‏
وبين هاتين الأسطورتين تتردّد إشارات عدة إلى أحداث أو رموز أسطوريّة تنتمي إلى مواقع مختلفة من الجغرافية الإنسانية، ويعمّق جميعها حركة ترجّح الواقع العربي بين حال العماء ومحاولة الخلق التي تنتهي إلى العماء نفسه. وعلى الرّغم من أن بعض هذه الإشارات يعزّز ذلك الإيمان بجدوى تلك المحاولة، ويرى في الهزيمة ضرورة لتطهير الواقع من آثام التخلّف والتفكّك، على النحو الذي يتبدّى في قول السارد قاصداً رمزي صفدي: "سيعرّض نفسه لطوفـان العالم، ولن يخـاف، كما خاف يولسيس، أن تسحره أغاني حوريـات البحر"(10)، فإنّها في أغلبها الأعمّ تؤكّد ذلك العماء، وتثير، في مواقع مختلفة من الرواية، الإحساس بلا جدوى المقاومة، بمعنى أنها تنفي النتيجة القائلة إن الروائي "متفائل بالغدّ، وبالقدرة على تجاوز أسباب الهزيمة، والانتصار"(11)، فـ"آخيل" يُهزم أمام "هكتور"، و"جسد أنكيدو يتساقط"(33)، ولعنة "تانتلوس" تحكم على الذين ينصاعون لإرادة الآلهة "بأن يقفوا عطاشاً في بركة من الماء"(62)، و"عشتروت تقتلع شعرها من جذوره، وتذرّ الرماد على رأسها"(156)، وسوى ذلك كثير.‏
وتعبيراً، كما يبدو، عن قلق الروائي في أن لا تكون رموزه السابقة قد أفصحت عن دلالاتها على نحو يُسلم مقاصده إلى سويّات معرفية مختلفة من القرّاء، أو رغبة منه، كما يبدو أيضاً، في تجذير نصه في بيئته المجتمعية العربية، يلجأ إلى ما هو شعبي، إلى "خرافة الضبع الذي خطف العروس"، التي لا تشكّل الرموز فيها سوى إضافات قليلة إلى رموز أسطورة الهولندي الطائر، والتي يصوغها الروائي وفق المنطوق والأسلوب الشعبيين للحكاية الخرافية. وغالباً ما تتجلّى هذه الخرافة داخل الرواية على النحو الذي تجلّت معه أسطورة الهولندي الطائر، إذ ما إن ينتهي الروائي من سرد الخرافة، حتى يبدأ ببثّ دلالات رموزها بين تضاعيف السرد: "فلسطين عروس اختطفتها الصهيونية.."(27)، وحتى يستلّ منها لازمة تأخذ في التواتر بين موقع وآخر من الرواية: "يغضب الفلسطيني العريس. يحمل بندقية. يطلق النار. لا يصيب. يهرب. يتسلّق شجرة، أسماها شجرة الثورة.. الشجرة لا تحميه. يبول الضبـع على ذيله ويرشّ، فينضبـع الفلسطيني.."(70)، "أبو رزق لا يزال مضبوعاً.."(83)، "بلادي أيتها العروس النائمة في سرير الضبع"(113).‏
2 - أســــطورة المـــوت والانبعـــاث:‏
تُعدّ أسطورتا: عشتار وتمّوز الرافدية، وإيزيس وأوزوريس الفرعونية، أكثر أساطير الموت والانبعاث تردّداً في المنجَز الروائي العربيّ الأساطيري، ليس بوصفهما الأسطورتين المركزيتين في بلاد الرافدين ومصر في هذا المجال فحسب، بل بوصفهما أيضاً الأسطورتين الأكثر امتلاء بالرموز التي مكّنت الروائي العربي من تعرية الواقع حوله دون مواجهة مباشرة مع القوى المتنفذة فيه من جهة، كما مكّنته من تجذير نصّه في تراث المنطقة العربية التي ينتمي إليها من جهة ثانية. ومن اللافت للنظر تعبير محاولات التجذير تلك عن انتماءات الروائيين القطرية أحياناً، والإقليمية أحياناً ثانية، والأيديولوجية أحياناً ثالثة، أكثر من تعبيرها عمّا هو قومي، إذ يكاد ينصرف معظم النتاج الروائي الأساطيري الذي كتبه الروائيون العراقيون، وروائيو بلاد الشام، والمنتمون إلى الفكر السوري القومي الاجتماعي بخاصة، إلى أسطورة عشتار وتمّوز الرافدية، كما في روايتي العراقيين: عبد الرحمن مجيد الربيعي: "الأنهار" 1974، وفاضل الربيعي: "ممرّات الصّمت"، ورواية هاني الراهب: "التلال" 1988، ورواية حليم بركات: "إنانة والنهر" 1995. بينما ينصرف مثيله ممّا كتبه الروائيون المصريون إلى أسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية، كما في رواية عبد الحميد جودة السحّار: "احمس بطل الاستقلال" 1943، ورواية عبد المنعم محمّد عمرو: "إيزيس وأوزوريس"، ورواية حسن محسب: "رغبات ملتهبة" 1981، ورواية بهاء طاهر: "قالت ضحى" 1985..‏
أ – عشــتار وتمّــــوز:‏
تتردّد أسطورة عشتار وتمّوز الرافدية في الرواية العربية الأساطيرية عبر شكلين: جزئي يكتفي بسرد ملخّص للأسطورة، أو لأجزاء منها، كما في رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي: "الأنهار"، وكلّي تبدو الأسطورة معه مندغمة بالمتن الحكائي للنصّ الروائي، كما في رواية فاضل الربيعي "ممرّات الصمت".‏
- ممرّات الصّــــمت:‏
تبدو رواية فاضل الربيعي "ممرّات الصمت"(12) امتداداً لمشروع إبداعي حاول الربيعي التأسيس له في مجموعته القصصية "أيها البرج يا عذابي" 1978، التي تتّسم نصوصها جميعاً بتطوافها "في ساحة من الخيال الفانتازي المغشّى بحالة الواقع"(13). وما لبث هذا المشروع أن أفصح عن نفسه بقوّة في روايته "عشاء المأتم" 1988 التي جاءت استكمالاً لما كان قد بدأه في تلك

ايوب صابر 06-12-2012 11:33 PM

يتبع،،

المجموعة، والتي تمتلئ بالرموز، ليس من خلال عنوانها فحسب، بل من خلال ما يتناسل داخلها من أحداث وشخصيات فيّاضة بالإشارات والاستدعاءات الأسطوريّة.‏
فالربيعي في هذه الرواية أيضاً يحايث الواقع بالوسائل نفسها التي ميّزت "عشاء المأتم"، والتي يتضافر فيها الواقعي بالأسطوريّ على نحو شديد المهارة في إخفاء دلالات الخطاب التي لا تُسلم نفسها للقارئ إلا بعد تفكيك الرموز التي يزخر بها النصّ على المستويين بآن.‏
يتوزع المحكي في "ممرّات الصمت" بين حكايات عدّة: حكاية سعيد مروان مع زهرة، وحكاية سليم عبد الجليل مع فردوس، وحكاية الشيخ ورؤياه للفارس المنتظَر، ثم حكاية هؤلاء جميعاً بعضهم مع بعض من جهة، ومع كلّ من البيت الذي أُعِدّ لاستقبال ذلك الفارس وشجرة السدر المقدّسة من جهة ثانية. وباستثناء الحكاية الثانية التي تهيمن عليها السمة الواقعية الخالصة، فإنّ الحكايات الأخرى جميعها تترجّح بين المستويين المشار إليهما آنفاً. وفي المستويين معاً تغصّ الرواية بالرموز التي يمكن تنضيدها في مجموعتين: أولى تنتجها أسطورة الموت والانبعاث الرافدية، عشتار وتمّوز، وما يتردّد داخلها، أو عبرها، من إشارات أسطوريّة رامزة: يوم الجمعة إلى الخلق، والغائب إلى المخلّص، والبيت إلى السلطة، وشجرة السدر إلى القيم المعوّقة، والرعاة الثلاثة إلى القوى المهيمنة، والأفعى إلى الفوضى والعشوائية. وثانية تتبدّى في مفردات العالم الواقعي، التي يحيل كلّ منها إلى رمز بعينه أيضاً: زهرة إلى الثورة، وفردوس إلى الوطن، وسعيد إلى الثائر المخلص لكنّه القاصر معرفياً في وعي الضرورات التي يتطلّبها الفعل الثوري، وسليم إلى نقيضه، والشيخ إلى الجموع الحالمة، والقطيع إلى الجموع الخانعة.‏
لقد أحبّ سعيد زهرة حبّاً جنونياً، واندفع خلفها حتى تلاشى جسده تحت أنفاسها الحرّى، وبدّد شبابه، كما وصفه أبوه، في اللهاث وراءها، لكنهما ما إن بدأا طقوس الخلق معاً، حتى عبر الرعاة الثلاثة بزهرة بوّابات العالم السفلي إلى "دار الظلام دون رجعة"(57).‏
والروائي يجهر بالمشابهة بين بطليه، سعيد وزهرة، وبطلي الأسطورة، تمّوز وعشتار، في أكثر من موقع، وعبر أكثر من أسلوب سردي: عبر خطاب الأقوال أحياناً، كما في تداعيات سعيد مروان: "عشتار الحزينة، ذاك هو تمّوزك: قطّعناه إرباً أرباً. وقذفنا أوصاله المدمّاة في اليمّ الغاضب. محالٌ عليك أيتها الحزينة أن تجمعي بقاياه.."(46)، وعبر خطاب الأحداث أحياناً ثانية، كما في قول الراوي: "مشى سعيد مروان شاعراً بالتعب واللا جدوى نحو الشاطئ، عازماً على أن لا ينسى زهرة أبداً. زهرة أو عشتار، التي يظنّ أنها هبطت إلى النهر تبحث عن بقاياه، عن بقايا تمّوز كي تعيد ترميم العالم"(48).‏
غير أنّ الروائي، في الوقت نفسه، لا يستلهم الأسطورة على النحو الذي حفظته المروية الرافدية في جذرها البابلي دائماً، أي قبل أن يتقنّع "ديموزي" السومري باسم "تمّوز" لدى البابليين، وإنانا" السومرية باسم "عشتار" لدى هؤلاء أيضاً(14). ومن اللافت للنظر اكتفاؤه باستبدال "ديموزي" بـ"تمّوز"، وإبقاؤه "عشتار" باسمها: "قال سعيد.. : الآن أريدُ أن أسمع منكِ الحكايات كلّها. هو ذا موقد طفولتي. فقصصتُ عليه أحسن القصص. الحكايات كلّها منذ أن هبطتُ النهر أبحث عن بقاياه المبعثرة فوجدته ميتاً في أعماق النهر، وصرختُ به: ديموزي. آه يا ديموزي مَن أثخنَ قلبك جراحاً. مَن أدمى عينيك. مَن قطّع أوصالك؟.."(99).‏
وكما لا يحفظ الروائي للأسطورة الرافدية جذرها البابلي، يعيد، بآن، إنتاج الأسطورة وفق ما يسمّيه، في تعريفه بالرواية، في غلافها الأخير: "مجرى آخر لتلك الأسطورة"، فبدلاً من أن تودي زهرة بسعيد إلى العالم السفلي، كما فعلت عشتار بتموز، يودي سعيد بها إلى ذلك العالم، وبدلاً من أن تجدّ هي في البحث عنه، وفي جمع أشلائه، كما فعلت عشتار أيضاً، التي كانت "ترحل.. في البحث عنه (تمّوز) إلى البلاد التي لا عودة منها، إلى دار الظلام"(15)، يجدّ سعيد في البحث عن زهرة، وفي جمع أشلائها التي بعثرها الرعاة الثلاثة. وما هو أسطوريّ في الرواية لا يتحدّد بتلك المشابهة المنزاحة عن جذرها فحسب، بل يتجاوزها إلى ما يتردّد داخلها، أي الرواية، من رموز أسطوريّة، يتّصل بعضها بأسطورة عشتار وتموز، وبعضها الآخر بسواها من الأساطير الرافدية، بل أساطير معظم الشعوب والمجتمعات الإنسانية الأولى. فالجدار الذي يتسلّقه سعيد مروان من أجل الوصول إلى زهرة رمز للعتبة في كوميديا دانتي الإلهية، المهيّئة للعبور من المطهر إلى الفردوس، أو إلى الثورة التي تحرّر الواقع من الجحيم الذي يتلظّى به، إذ ما إن يهبط سعيد ذلك الجدار حتى يتهيّأ لـ"الدخول في المطهر الخلاّق للمرأة القابعة في فراشها الدافئ"(21)، وحتى يمضي وزهرة "إلى يوم الجمعة، حيث بدء الخليقة وعريها المشبع بالجنون"(44). وغير خاف ما يتضمّنه تعبير "الجمعة"، المرادف للغد لدى زهرة دائماً، من دلالة أسطوريّة تعني اكتمال الخلق في اليوم السابع من بدء التكوين، فزهرة، التي تبدو كمصدرها الأسطوريّ عشتار ذات شهوة طاغية وعواطف جيّاشة(16)، كثيراً ما كانت تدعو "سعيد" إلى الدخول تحت غطائها الرقيق لتأخذه إلى "يوم الجمعة" كما كانت تردّد.‏
ولئن كان النهر في معظم أساطير الشعوب رمزاً للخصوبة، فهو في هذه الرواية رمز للخصوبة وللذاكرة معاً، فكما يغوص سعيد في أعماقه بحثاً عن زهرة، أو كما تغوص زهرة وراءه محاولة جمع أشلائه، ليعيدا تكوين الأشياء من جديد، يتجلّى للشيخ بوصفه حاضناً لتاريخ العراق الذي اصطخبت داخله حضارات مختلفة وأحداث عاصفة: "قطع نقود ملكية، دراهم عباسية وسلجوقية. شارات ونياشين الجنرال مود. سياط ممّاليك وتيجان ملوك. بساطيل جنود سيخ كانوا مع الحملة الإنجليزية، جماجم رجال ذهبوا لاستقبال تيمورلنك بالعصي، خيول هجانة وأمراء وأنصاف آلهة نفقت منذ دمار بابل، ملابس أباطرة، أسلحة وسكاكين من العصر البرونزي.."(22).‏
وكما تبدو الشجرة في معظم معتقدات الشعوب وأساطيرها رمزاً مقدّساً(17)، تحيل شجرة السدر في الرواية إلى الرمز نفسه، بالإضافة إلى كونها رمزاً واقعياً يعني التضاد بين القوى المخلصة للثورة والقوى اللاهثة وراء امتيازاتها الخاصة. فعلى حين يُبدي الناس جميعهم رغبـة في اجتثاثها، للخلاص من ذلك العالم الفظّ حولهم، يتصدّى سليم عبد الجليل لمنعهم من ذلك، زاعماً قدسيّتها ومضفياً عليها روحاً لا يجوز قتلها. وما يُعلي من شأن هذه الرمزية في الرواية محاولة الرجل البدين الذي يسارع هابطاً من سيّارة قديمة، رمز القوى المنهوكة، إلى تثبيت تلك القدسية التي زعمها سليم عبد الجليل، قائلاً: "لا تقطعوا هذه الشجرة. كنتُ طفلاً ورأيت الجرافات تتساقط، تتحطم وهي تحاول اقتلاعها"(91). وكما تُمثّل الشجرة بعامة رمزاً مزدوجاً يعني الموت والانبعاث بآن(18)، تمتلك شجرة السدر السمة نفسها، فكما هي رمز للقوى المعوِّقة، أي للموت، فإنّ اجتثاثها يرمز إلى الخصوبة والحياة(19).‏
وإذا كانت "الأفعى، عند الأقدمين، ترمز إلى الفوضى والعشوائية وإلى انعدام الشكل، أمّا ضرب الأفعى وقطع رأسها فيعادلان فعل الخلق الذي يصحبه انتقال من اللا تجلّي إلى التجلّي ومن انعدام الشكل وغياب المعالم إلى امتلاك الشكل والهيئة المحددة"(20)، فإنّها هنا ترمز إلى ذلك أيضاً، فبعد أن أتى الشيخ على سرد رؤياه عن الفارس المنتظَر وبعد أن سرى بين الحشد "أنّ يوم الخلاص بات وشيكاً"(33)، ثمّ بعد أن أنهى سعيد وزهرة مجاسدتهما الخالقة، كان ثمّة "أفعى أو ثعبان ضخم يحدّق في الكائنين بسخرية"(33)، وحين ضحك الناس من سليم عبد الجليل بعد أن اقتلع قطعة يابسة من صمغ شجرة السدر "تسلّلت أفعى اقتربت من شجرة السدر.. وراحت تتسلّقها. تلتفّ حول جذعها الضخم المتيبّس. هتف سليم..: لقد حذّرتكم. إنها مقدّسة بالفعل"(88)، ولذلك ظلّت تلك الشجرة، في موقعها الرمادي، جرداء ومتيّبسة، ومغبّرة، ولذلك أيضاً انتهت رؤيا الشيخ / الحلم بالتغيير إلى النقطة التي بدأت منها، أي إلى حيث "الأستار والحجب الكثيفة المتراكمة فوق المجهول"(20).‏
وتُمثّل الأرض التي يُشاد فوقها البناء المعدّ لاستقبال الغائب المخلّص أكثر الرموز امتلاء بما هو أسطوريّ في الرواية، وغالباً ما تتجلّى بوصفها معادلاً للأنوثة المخصبة، فهي "توشك على الولادة، تفتح رحمها الكبير ليندلق الماء صافياً، نقياً وعذباً"(50)، وحين يملأ صهيل الحصان الذي يحمل الفارس المخلّص سكون المدينة الأجوف، تبدو المدينة نفسها "مثل كأس طافحة بالعويل والنشيج، بنداءات الاستغاثة والطلق. بالزلازل التي ينبعث ضجيجها المحتدم والمكبوت من جوف الأرض، من رحمها الذي يدلق ماء ندياً طيّباً ورائقاً بين يدي رجل حالم"(55)، ثمّ بوصفها معادلاً للقاع الاجتماعي النابض بحلم التغيير، والممتلئ بالطاقات القادرة على تحقيق هذا الحلم، إذ يندفع الجميع إلى المشاركة في استنهاض الأرض من سباتها الطويل، وإلى تهيئتها لتشييد بناءٍ لذلك الغائب الموعود: "كانوا جميعاً يعملون بفرح، تنفلق الأرض في كلّ ضربة معول أو ضربة كفّ إلى نصفين. يقرعون الأرض، يدقّون أبوابها السرّية المغلقة.. يدلقون رحم الأرض.. الأرض مثل امرأة عارية مهتاجة في سريرها المعطّر مسترخية وجاهزة للاغتصاب.. تطلق آهاتها المعذّبَة طالبة المزيد حتى بلوغ الرحم حيث تربض الينابيع الإلهية السرية للأحلام والنشوة، للأسرار والطلاسم والألغاز والأحاجي، سرّ الحياة وكنزها الدفين، بذرة التوالد والتناسل"(86).‏
ويمارس العددان: ثلاثة وسبعة، دوراً في تعميق النزوع الأسطوريّ في الرواية، لكنّهما، في الوقت نفسه، يفارقان مرجعيّتهما الأسطوريّة القائلة بدلالتهما على القداسة والخلق، فالرعاة الذين يطاردون سعيداً وزهرة ثلاثة، والقوى المعوّقة للتحرّر والثورة ثلاثة أيضاً: سليم عبد الجليل، والأفعى، وشجرة السدر، والبناء الذي أُعدّ للفارس الآتي من منفاه مضمّخاً بوعد المجيء والذي يؤول إلى قبضة سليم مؤلّف من سبعة طوابق، لكأنه أشبه ما يكون بتلك البوّابات السبع التي اقتيدت زهرة إليها، والتي كان الرعاة الثلاثة يتعاقبون على اغتصابها فيها.‏
كما يمارس فعل الرقص، الذي تؤدّيه فردوس للتطّهر من الألم الذي افترس أعماقها بسبب جحود سليم ونكرانه وإخفاقه في تذوّق ماضيه معها حين أسلمت جسدها إليه، دوراً في تعميق ذلك النزوع أيضاً، وفي التعبير عن محاولات الروائي المتواترة لاستثمار مختلف الرموز الأسطوريّة التي تخصب نصّه، وتُشرعه على أكثر من قراءة. ولئن كان "الرقص يحاكي، على الدوام، نموذجاً أول، يخلّد ذكرى لحظة أسطوريّة"(21)، تعني، فيما تعنيه، استعادة فتنة البدايات، فإنّه يتجلّى كذلك في أداء فردوس له، إذ ما إن يكشف سليم عن قناعه حتى تجد فردوس نفسها "تهتزّ مع حركة الأشياء المهوّمة، مع الطبول والرايات والأجساد.. أعطوها دفّاً ورفعوا عقيرتهم عالياً في الغناء، فرقصت. هي ذي رقصة الألم الذي ينهش عظامها.. ببطء. ببطء. شبيه بالذبح كانت تهتزّ مع الإيقاعات"(28).‏
ب – إيــزيس وأوزوريـــس:‏
تعدّ أسطورة إيزيس وأوزوريس أكثر أساطير الموت والانبعاث حضوراً في الرواية العربية في مصر، ومنذ وقت مبكّر نسبياً من تاريخ التجربة الروائية المصرية تعدّدت أشكال استلهام الروائيين لهذه الأسطورة تعدّداً يعكس ما تتمتّع به من ثراء دلالي وتنوّع في مستويات القراءة والتأويل. وغالباً ما ترجّح ذلك الاستلهام بين مستويين(22): تسجيلي، يكتفي بنسخ الأسطورة وإعادة صوغها في قالب روائي، ومعبّر عن رغبة في بعث التراث فحسب، أي دونما ترهين له، كما في رواية عبد الحميد جودة السحّار: "احمس بطل الاستقلال"، ورواية عبد المنعم محمّد عمرو: "إيزيس وأوزوريس"، وآخر تعبيري يحرّر نفسه من تلك السمة، وينجز نصّاً إبداعياً لصيقاً بواقعه وهاجساً براهنه، كما في رواية حسن محسب: "رغبات ملتهبة"، ورواية بهاء طاهر: "قالت ضحى".‏
وكما يمكن التمييز بين مستويين في استلهام الروائيين المصريين لهذه الأسطورة، فإنّه يمكن التمييز بين شكلين له أيضاً: شكل يوظّف الأسطورة توظيفاً كلّياً، أي أنّه يصوغ الأسطورة كلّها في قالب روائي، على النحو الذي يتجلّى في رواية "إيزيس وأوزوريس"، وآخر يوظّفها توظيفاً جزئياً، بمعنى أنّ الأسطورة لا تشكّل سوى حافز من حوافز السرد الروائي، كما في رواية "أحمس بطل الاستقلال"، حيث ترد الأسطورة على شكل قصّة ترويها الأميرة "سشن" لخادمتها "نفرت"، وعلى نحو لا تتجاوز معه حدّ التسلية(23).‏
- رامــــة والتنّــــين‏
- تنتمي أسطورة الموت والانبعاث الإيزيسية في رواية إدوار الخرّاط: "رامة والتنّين"(24) إلى المستوى التعبيري، وعلى الرّغم من أنّ الخرّاط لا يستلهم هذه الأسطورة على نحو كلّي، بمعنى أنّها لا تشكّل متناً روائياً، فإنّها في الوقت نفسه تبدو مندغمة بهذا المتن ودالّة على كفاءة عالية لدى الخرّاط في استثمار تلك الأسطورة وبثّها في عروق الرواية، التي تُعدّ بحقّ، وفي هذا المجال بخاصّة، "واحدة من أهمّ النصوص الروائية العربية"(25).‏
ومهما يكن صحيحاً ما ذهب إليه سمير أبو حمدان من أنّ ثمّة معطى صوفياً في هذه الرواية، فإنّ الأكثر صحة هو أنّه ليس "الأقوى يداً والأسدّ مرمى والأحدّ نظراً والأشدّ احتمالاً بين المعطيات الأخرى في الرواية"(26)، فهو لا يعدو كونه واحداً من هذه المعطيات التي تتضافر جميعاً لتصوغ ما هو أسطوريّ، يبدو جماعاً لها أحياناً، ومستقلاً بنفسه أحياناً أكثر. ومهما يكن صحيحاً أيضاً أنّ أسطورة صراع الإنسان مع الوحش الخرافي / التنّين "تُمثّل.. لبّ الرواية ومحرّكها"(27)، فإنّ هذه الأسطورة تبدو امتداداً للأسطورة الإيزيسية، أو وجهاً من وجوهها. وإذا كانت فريال جبّوري غزّول التي رأت ذلك قد اعتدّت باختيار الروائي اسم ميخائيل لبطله، أي الاسم الذي ذكره العهد الجديد قاتلاً للتنّين(28)، فإنّ اسم الشخصية الروائية ليس سوى "علامة لغوية بامتياز"(29)، بالإضافة إلى أنّ ما هو أسطوريّ في الرواية لا يتحدّد بالأسطورة المسيحية، أو الأسطورة الإيزيسية، بل يمتدّ ليشمل أساطير أخرى، كأسطورة العنقاء، وبعض أساطير الإغريق، وحكايات ألف ليلة وليلة، وإشارات ورموز أسطوريّة مختلفة، تمارس جميعاً، وبنسب متفاوتة، دوراً في إثراء مقاصد الخطاب الروائي، وفي معاضدة ما يبدو الأسطورة المحرّكة في الرواية، أي: أسطورة الموت والانبعاث.‏
يترجّح المحكي في الرواية، كسابقاتها من النصوص التي تنتمي إلى مجال الظاهرة، بين مستويين سرديين: واقعيّ وأسطوريّ، يتداخلان فيما بينهما، ويتآزران ليصوغا نصّاً روائياً زاخراً بالدلالات، ومعبّراً عمّا يمكن وصفه بكتابة سردية خاصّة بإدوار الخرّاط، تكتفي بقوانينها الداخلية وتُنتج جمالياتها المنبتّة الصلة بمواضعات المؤسسة الأدبيّة.‏
ولئن كانت مهمّة الكاتب، كما يرى "شكلوفسكي"(Chklovski) تكمن في "إخراج الشيء الواقعي من متوالية الواقع إلى متوالية أدبية، حيث يكتسب الشيء معناه من وضعه في المتوالية الجديدة"(30)، فإنّ الخرّاط ينجز هذه المهمّة على نحو شديد الخصوصية من جهة، ودالّ على وعي واضح بقابليات الجنس الروائي وإمكاناته من جهة ثانية.‏
وما يؤكّد ذلك أنّ الخرّاط يستثمر الأسطورة الإيزيسية، وسواها من الأساطير المرتبطة بفعلي الموت والانبعاث، دون أن يغلّ نفسه أو أدواته إلى منظومة سردية محدّدة، إذ ينفَذُ ما هو أسطوريّ إلى نسيج النصّ، ويتماهى به، ويشكّل معه كلاً واحداً، ويتمرّد على المتواتر من الأعراف السردية. ويمكن تلمّس هذه السمة في شخصية بطلته رامة خاصّة، التي يكاد لا يميز القارئ فيها بين ما ينتمي إلى الأسطورة وما ينتمي إلى الواقع، وإلى الحدّ الذي تبدو معه هي هذا الواقع وقد تأسطر تماماً.
فرامة هي إيزيس بطلة أسطورة الموت والانبعاث الفرعونية، وإيزيس هي رامة بطلة الراهن، وكلاهما يندغم بالآخر ويتماهى به ليصل إلى درجة الإيمان لدى ميخائيل بأنّ إيزيس "لم تكن.. أسطورة من أساطير القدامى بل في مستوى من مستويات حياته كانت ماثلة لا تقبل الإنكار ولا الإثبات. قبوله لها - هل يقول إيمانه بها- ليس موضع سؤال ولا جواب"(162). وما يعزّز ذلك أنّ رامة كثيراً ما كانت تشبّه نفسها بالعنقاء التي تنبعث من رمادها دائماً: "أنا كالعنقاء التي يحكون عنها، تجدّد ذاتها في مياه البحر"(264)، وأنّ ميخائيل نفسه يصفها بقوله: "أنتِ لن تموتي أبداً"(84).‏
ويكاد الروائي لا يترك جزئية من الجزئيات المكوّنة لشخصية إيزيس دون أن يضفيها على بطلته رامة، التي يتوق ميخائيل إلى التوحّد بها كما لو أنّه يتوق إلى التوحّد بالمطلق الهارب من الواقع، أو المغيَّب عنه، أو كما لو كانت رامة هي هذا المطلق نفسه وقد أعاد انبعاث ذلك الواقع من رماده، كما أعاد إليه توازنه المفقود.‏
وما ظمأ ميخائيل الجارح إليها سوى تجسيد لذلك التوق الذي يعبّر عنه بقوله الدالّ على ما يستجمع الكثير من تلك الجزئيات المميّزة لجذر رامة الأسطوريّ، أي إيزيس. وليس قوله لها: "أنتِ الكلمة الأولى"(71) سوى إشارة، من إشارات كثيرة تتردّد في الرواية، إلى أنّها هي ذلك المطلق الذي بعث الحياة من عمائها الأول، أي بوصفها الكلمة الخالقة التي نقلت الأشياء من حال الفوضى إلى حال النظام، أو إرادة الحبّ التي تعيد جمع ما تبعثر من الأحلام كما فعلت إيزيس بأشلاء حبيبها أوزيريس. وليس قوله لها أيضاً: "كأنّك خالدة لا تموتين"(108)، أو قوله: "هذه المرأة باقية لا تزول"(265)، سوى تعبير عن إيمانه الراسخ بقيامة الخصوبة من يباس الجدب الذي يبسط ظلاله في الراهن حوله، والذي ما يلبث أن يتبدّد حين تقول رامة نفسها له بعد ستة أيّام من لقائهما الأول: "أنتَ قتلتَ التنّين"(209). بمعنى اكتمال فعالية الخلق في اليوم السابع، أو انبعاث الحياة المعبَّر عنه بقتل التنّين من ذلك اليباس الذي يُمثّله التنّين نفسه.‏
وعلى الرّغم من تلك التنويعات التي يلوّن بها الروائي استثماره لهذه الأسطورة، فإنّه، على النقيض من سابقيْه: بركات، والربيعي، يحفظ للمرويّة الأسطوريّة أصلها الذي صدرت عنه، والمقطع التالي الطويل من الرواية، والذي يصدح به ميخائيل جواباً عن سؤال الفنلندي له حول إيزيس، يفصح عن ذلك، بل إنّه يؤكّد أنّ أسطورة الموت والانبعاث هي الأسطورة المحرّكة في الرواية، كما يفصح عن الخصوصية السردية المميّزة لنتاج إدوار الخرّاط بعامّة. وهو مقطع دال، في تدفّقه دون علامات ترقيم، وفي خاتمته، على أنّ استعادة أسطورة ما، روايتها، تستهدف عَوْداً رمزياً "إلى اللحظة المعزولة عن الزمان، لحظة الكمال الأول"(31)، إذ ما إن يفرغ ميخائيل من الإجابة، بل من رواية الأسطورة، حتى يتحرّر من إحساسه الحادّ باغترابه عن العالَم حوله:‏
"إيزيس.. إلهة الحبّ القديمة والأولى والدائمة.. استكملت إيزيس المنكوبة محلولة الشعر استجماع أشلاء أوزيريس الشهيد ولم يبق إلا القضيب فإنّ لم تجده فسوف يحلّ المَحْلُ والخراب في أرض خيمي الخصيبة السمراء.. الصندوق السرير الكفن المصنوع على قدّ الإله العظيم والمصبوب عليه الرصاص المصهور في فقط مدينة الحرمان والحداد قد حملته مياه النيل الشحيحة الآن الصاعدة من وهاد العالم السفلي المنيرة بشمس لا تنطفئ دفعته إلى البحر الوسيط الخماسين الجامحة التي لا عقل لها عاصفة الجفاف والرمال الدقيقة ينخسف لها القمر ويسوّد وجه الشمس يمجّها من فيه قابيل الأول.. وهاهي إيزيس.. جناحاها شراعان مفرودان على وجه الثبج مقنّنة الموت والحياة وربّة البحر والأرض والسماء وصاحبة كلّ السفين حتى ترمي به الأمواج إلى قلب الجذع المقطوع من شجرة الأرز الفينيقية العجوز عمود الأساس في بيت ملك بيبلوس فتنمو عليه الشجرة من جديد وتونع وتحتاطه بجسمها المنيع تحميه من القهر والجفاف وسخف الروح إيزيس أخته وحبيبته عشقا أحدهما الآخر من قبل ولادتهما واقترنا وهما في رحم أمهما أوزيريس ذي العيون التي لا عداد لها المنير الواحد الضوء الحبيس المولود في اليوم الأول من أيام الخليقة والحي حتى اليوم التاسع والأخير الذي لا نهاية له.. أما إيزيس فترضع ابن ملك بيبلوس بإصبعها في فمه وتضع الأمير الصغير كلّ ليلة في عرس النار المتلظية بمعموديتها تقهر الموت وتدخله مداخل الخالدين فتجنّ أمه الملكة جنوناً وهي ترى ألسنة اللهب تلعق جسم ابنها وعندئذ تكشف إيزيس الساحرة الإلهية عن مجدها فتشقّ الأرزة العتيقة التي تتحدث عن سرها بلسان مبين وتسلم وديعتها الغالية إلى المصرية العائدة دوماً بالخبز العميم بعد التحاريق البقرة الحنون الولود ذات الضروع التي لن يمسها الجفاف ما زلتُ أراها حتى اليوم رابية الردفين في جلابيتها السوداء السابغة تحمل جرتها على رأسها ممشوقة قدها يتمّوج بين الغيطان تُرضع ألف ألف حوريس بلا نهاية بلبن الكبرياء الذي لا يغيض رغم القحط وجوع الأزمان الأرض السمراء تحت طين الوادي المشقق الحواف يغمرها الماء فإذا هو جسم إيزيس المعطاء البدي الشباب والشمس تنبثق من زهرة البشنين والثور الأسود متجددٌ مع الدهر لامع الجلد وحوريس الصقر الباشق قد انشقّ عنه شعاع القمر الخصيب وسوف يتربى ويقوم وسوف يهزم جحافل العقارب في منافي المستنقعات الشرقية بين أعواد البوص الهشة بقوة تمائم أمه الكلّية القدرة ثم يشتد عوده ويطعن فرس النهر الشرير ويوزع لحمه على المحرومين فقد أخذ بثأر أبيه الممزق الشهيد العظيم المدفون في بوزير ولكلّ شلو من جسمه القُدّوس ضريح ومزار على طول الترع والقنوات وشطي النيل الحاكم الآن مملكة الأموات الأحياء الباقية في ثيابه البيض ووجهه الأبنوسي الجميل مفتوح العين ابد الآبدين يقيم ميزان معت العدالة وإلى جانبه الوحش عمعم ربّ العقاب الذي ينهش قلوب الخطاة غير التوابين.‏
فرغ الكأس وعندما عاد إلى غرفته كان إحساسه بالغربة غير ممض"(160-162).‏
وإذا كان المقطع السابق ينتج ما يسمّيه "جينيت": "الفضاء الدلالي"، حيث يتضاعف التعبير الأدبيّ، ويتعدّد، ويتأسس بين مدلوليه الحقيقي والمجازي(32)، فإنّه في الوقت نفسه يشير إلى محاولة الروائي إعادة صوغ الأسطورة على نحو يُحيل إلى أكثر من مرجع أو رمز أسطوريّ، فصراع رامة / إيزيس مع الجدب، وصراع ميخائيل مع التنّين الذي لا تعرّفه الرواية "هل هو وجه من أوجه رامة المعشوقة؟ أم هو وجه من أوجه ميخائيل العاشق؟ أم هو كائن آخر أو قوة أخرى؟"(33)، يتعدّد في الرواية، ويتناسل في أكثر من صورة: جلجامش مع "خمبابا" حارس غابة الأرز، و"برسيوس" مع التنّين كما في الأسطورة الإغريقية، وميخائيل مع التنّين أيضاً في رواية العهد القديم، و"مار جرجس" مع مثيله كما في الرواية المسيحية. بمعنى اختيار الروائي "أسطورة جماهيرية، لها وقعها وأثرها عند الخاصة والعامة.. واغلة في القدم ترجع إلى حضارة وادي الرافدين القديمة، ولا تنقطع حتى يومنا هذا"(34).‏
ومهما يكن صحيحاً أنّ الرواية بعامة تتميّز "على الرّغم من تضافر وتشابك الأساطير فيها بالواقعيّة"(35)، فإنّ ما هو واقعي يبدو لصيقاً بما هو أسطوريّ، وتتجلّى هذه السمة من خلال شخصية رامة التي ما إن تغادر حقلها الأسطوريّ حتى تعود إليه على المستوى الواقعي نفسه، وعبر صفاتها الخارجية والداخلية معاً. فحين يسألها ميخائيل عن لون عينيها تقول إنّ لونهما يتغيّر دائماً، فيستكمل ميخائيل قائلاً: "وبهما أشعّة داكنة، صادرة من البؤرة إلى أطراف الكون"(69)، وما يلبث أن يهمس لنفسه بعد كلّ مجاسدة بينهما: "ودائماً يسيل الجنس من كلّ مسام جسدها وعقلها ويفيض من عينيها"(113)، لكأنّها إيزيس نفسها التي كان جسدها، كمثيلاتها من آلهات الخصب في معظم أساطير الشعوب، يضطرم بالحبّ والشهوة دائماً أيضاً(36).‏
وباستغوار ظلال الوصف في قول ميخائيل عنها بأنّها كثيراً ما كانت "تتحدّث بانطلاق وحرارة عن خوفها من الموت، لا موتها هي"(194)، وليس الوصف نفسه، فإنّ ذلك يعني، كما يبدو، شبهها بجذرها الأسطوريّ إيزيس التي قهرت الموت أكثر من مرّة. وليس الرمز الذي تشير إليه في قولها لميخائيل: "إنني أموت إعجاباً بغروب الشمس، أو الفجر في الحقول، وإنني أجد فيها رمزاً لما لست أدري"(262)، سوى رمز للموت والانبعاث كما مثّلتهما الأسطورة الإيزيسية، أو رمز لأسطورة التكوين، فكما يعني الغروب دخول الأشياء في ظلمة تذكّر بالعماء الأول، فإنّه يعني الموت أيضاً، وكما يعني الفجر بداية الخلق أو التكوين، يعني، في الوقت نفسه، انبعاث الأشياء وتجدّدها.‏
وكما تبدو إيزيس واحدة من الآلهة الضدّية، أي التي تجمع بين قوّتين أو سمتين متقاطبتين، أو واحدة من الآلهة المتعدّدة الصفات، فإنّ رامة نفسها تبدو على المستوى الواقعي كذلك أيضاً. ولئن كان المقطع التالي الذي ينتجه صوت ميخائيل يفصح عن تلك المشابهة بين رامة ومصدرها الأسطوريّ في هذا المجال، فإنّه، في الوقت نفسه، يُفصح عن تلك الخصيصة المميّزة للغة السرد بعامة عند إدوار الخرّاط: "سمعتُ أصواتكِ التي لا عداد لها، صوتك الطفلي الصغير الحجم وأنت تخافين الظلام، صوتك شاكية تطلبين النجدة بيأس في ليل وحشتك الذي يشغل بؤرة النهار كلّها لا شرخ لها، وصوتك صلبة لا تكسرها ضربات تفلق الصوّان وصوتك العملي الذي تصرّفين به الأمور بين العمال والأعمدة والصروح والأوراق.. وصوتك عاشقة تتوفز الرجولة في حضنك وتُطعَن، وصوتك الشهواني يتقطّر بأنوثة خالصة خاضعة"(299).‏


ايوب صابر 06-12-2012 11:52 PM

الخراط يتحدث عن ابداعه:
- أحـب أن يــأتــي الـتــاريـخ عـلـى ذكــري فــي صــفـحـة لا يـشــاركـني فـيـهـا أحــد

إدوار الـخــراط:
- أؤرخ لأشـــواق الـروح وأشـــواك الـمـجــتـمـع

- تـأثـرتُ بـجـبـران حـتـى الـتـيـه لا بـالمـنـفـلـوطـي والـعـقـاد وطــه حـســيـن

هذا الحوار حصيلة لقاء طويل أجراه "الملحق" مع الروائي ادوار الخراط، في مناسبة مجيئه الى بيروت وإلقائه محاضرة "أيار التذكارية" في الجامعة الأميركية في بيروت ــ برنامج أنيس الخوري المقدسي. وفيه يستعيد محطات من حياته وتجاربه ملقياً الضوء على جوانب كانت خافتة ومقيمة في الظل. وقد ارتأينا تقديمها كشهادة "محرَّرة" من الاسئلة. شارك في الحوار الياس خوري واسعد خير الله وماهر جرار وعقل العويط وحرره محمد ابي سمرا.

- قالت لي أمي: انتَ رضعتَ لبن الحزن.(وسام موسى)

1
ولدت في 16 آذار 1926 في حي بجنوب الاسكندرية قريب من منطقة تسمّى بحيرة مريوط. كان معظم المقيمين في ذلك الحي من الفئات الشعبية القادمة من الصعيد الى الاسكندرية. العمران ونمط الحياة فيه أقرب الى الريف منهما الى المدينة: شارع واحد رئيسي مفروش بالاسفلت يسير فيه الترام وينتهي الى قسم البوليس. وشوارع أخرى مفروشة بالحجار والرمل الابيض. البيوت كلها من طبقة واحدة او اثنتين، على سطوحها عرائش من العنب. وقد وصفت ذلك الحي في مقاطع من روايتي "ترابها زغفران". على ناصية الشارع الرئيسي كان منزل الخياطة اللبنانية السيدة روز التي تشتغل عندها فتيات في خياطة الثياب.

في الجلسات العائلية على سطح بيتنا تحت عرائش العنب، كانت جدتي وخالتي ترويان الحكايات عن الجن والعفاريت. ولكثرة ما سمعت هذه الحكايات في طفولتي، كان الطفل الذي كنته يحسب ان جنيات الحكايات وعفاريتها كائنات حية، ومن لحم ودم. كنت في السادسة او السابعة من عمري حين التقيت مرة في الليل امرأة عجوزاً فقيرة في شارع مهجور قريب من بيتنا، فأيقنت انها عفريت من عفاريت الحكايات. لم تتلفظ المرأة - العفريت بكلمة واحدة، لكني لا ادري إن كنت وقفت جامداً قبالتها دقيقة واحدة او 24 ساعة، قبل ان أروح اعدو هارباً بأسرع ما استطعت للوصول الى بيتنا، حاملاً في جوارحي ووعيي ومخيلتي الطفلية التجربة الأولى في الاتصال بقوة عالم الغيب في ما وراء الواقع والمحسوس.

من اليمين: محمد أبي سمرا، عقل العويط، ادوار الخراط، أسعد خير الله والياس خوري.

2
"روضة الكرمة القبطية" كانت المدرسة الأولى التي تعلمت فيها، وامشي نحو خمس دقائق من بيتنا للوصول اليها، وكان ناظرها منصور افندي شخصية حاسمة في تكويني الأول: رجل شديد الطيبة والحزم في آن واحد، ينظمنا صفوفاً في الصباح - نحن تلامذة المدرسة الأقباط مع قلة من المسلمين - لنروح ننشد ترنيمة "أبانا الذي في السموات"، قبل ان يبدأ برواية قصص شهداء القبط، وفي مقدمهم القديس مرقص، مؤسس الكرازة او الكنيسة القبطية، الذي تصف الحكاية استشهاده دفاعاً عن العقيدة وصفاً درامياً: قام الرومان بربط ذراعيه وساقيه الى عربة يجرها حصان أخذ يجري سريعاً بعد ضربه بالسياط، فتمزق جسم القديس مرقص أشلاء، وتركت هذه الحكاية أثراً لا يمحى في نفسي وقلبي.
اضافة الى "روضة الكرمة القبطية"، هناك مدارس الأحد التي كانت مس كاترين تعلمنا فيها الترانيم الدينية. لا أزال حتى الساعة أذكر مس كاترين الشبيهة صورتها بصورة مريم العذراء، فيما كانت تلقننا الترانيم. وفي واحدة من مدارس الأحد بدأ الطفل الذي كنته يقرأ الكتاب المقدس من دون ان يتنصر عبر طقوس العمادة. والى القراءة والترانيم، كانت توزع علينا نحن التلامذة الأطفال بطاقات مصورة مكتوبة عليها عبارات بالقبطية والعربية. كانت تلك البطاقات تروي بالصور حكايات من التوراة والانجيل، بدءاً بآدم وحواء وملاك النار الذي يحمل سيفه الناري الاسطوري. لم تكن تلك الصور او اللوحات عادية في عيني ذلك الطفل الذي كنته، اذ خبرت فيها معنى الألوان وتذوق التشكيل الفني المرتبط بالموضوع الديني. لاحقاً قرأت العهدين القديم والجديد، وتعرفت الى قصة صلب السيد المسيح الذي كان مأساة حقيقية حميمة في بيتنا، رغم ان عائلتي لم تكن متدينة الا تديناً تقليدياً، فيؤدي أفرادها فرائض الصوم من دون الصلوات. لكن الكتاب المقدس كان تأثيره كبيراً عليَّ، لأنه كان كتاب الوفيات والزيجات والولادات العائلية التي كان والدي يحرص على تدوين تواريخها عليه.
3
قدم والدي الى الاسكندرية من أخميم في الصعيد، مخلّفاً وراءه زواجه من امرأتين. تزوج الاولى في أخميم مسقطه، وبعد وفاتها انتقل الى الفيوم، حيث تزوج من امرأة ثانية دفعته وفاتها الى الانتقال الى الاسكندرية، حيث تزوج والدتي التي كانت شديدة الغيرة على زوجها من زوجتيه السابقتين المتوفيتين وأهلهما الذين تشدّدت في قطع علاقة والدي بهم وبماضيه، باعتباره رجلاً مزواجاً.

- قبل قدومه الى الاسكندرية كان والدي تاجراً في الفيوم يعمل في تصدير البصل والبيض، وكانت تجارته مزدهرة هناك قبل تعرضه للافلاس في ازمة ،1936 مما اضطره الى العمل كاتب حسابات عند اصدقائه التُجار في الاسكندرية حتى وفاته.
- الذكرى الأقدم والأقوى لديّ عن والدتي هي العبارة التي طالما كانت ترددها على مسمعي في طفولتي قائلة: انت رضعت لبن الحزن.
- ذلك لأني ولدت بعد 19 يوماً من وفاة اخي الذي ولد قبلي بسنة او سنتين في الاسكندرية، فنذروني كي يجري تنصيري في أخميم التي كان لعلاقتي بها تأثير كبير في حياتي، قبل ان أعرفها وتطأها قدماي.
- واذ كنت قد ولدت لأرضع لبن حزن والدتي على وليدها البكر، فإني في العاشرة من عمري، صحوت ذات صباح من نومي في بيتنا على صياح والدي النائح: ولدي... ولدي... ولدي، لحظة وصله خبر مقتل ابنه البكر من احدى زوجتيه السابقتين، بعدما دهسه قطار.

كان عمري نحو ست سنوات حين أخذني أهلي الى اخميم لايفاء النذر بتنصيري وتعميدي هناك.
- أذكر ان الرحلة كانت شاقة في القطار، وعن سلّم بيتنا الذي كان بلا سياج في اخميم سقطت فأصبت بجرح بليغ في ركبتي، لم يندمل أثره حتى اليوم.
4
في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الاسكندرية تُضرب بالقنابل، عندما قرر والدي أن يرسلنا، أمي وأنا واخوتي واخواتي، الى مسقطه في أخميم، ويظل وحده منصرفاً الى عمله في الاسكندرية. كان ذلك في العام 1940 او العام الذي تلاه، فاستغرقت رحلتنا في القطار نحو 17 ساعة للوصول الى اخميم بين المنيا والأقصر في الصعيد.

في اخميم انصرفت الى قراءة شكسبير وشيلي ويتس في اللغة الانكليزية. وربما في تلك الفترة بدأت بمحاولات الترجمة الاولى لبعض القصائد من الشعر الانكليزي. وقبل ذلك، في الاسكندرية، كنت قد قرأت مؤلفات جبران خليل جبران الذي تأثرت به حتى التيه والهيام، على عكس المنفلوطي والعقاد وطه حسين الذين قرأت مؤلفاتهم من دون ان يتركوا فيّ أثراً يذكر.

طوال أيام الاجازة الصيفية، بدءاً من العام ،1938 انصرفت كلياً الى القراءة والمطالعة اللتين تعبدت لهما منصرفاً عن الذهاب الى البحر ولعب الكرة وغيرها من الألعاب التي كان يمارسها اصدقائي واترابي في المدرسة. أقول قارئاً نهماً واعني اني كنت في الصباحات افتح باب المكتبة البلدية في الاسكندرية مع موظفيها، ومعهم اقفل بابها واغادرها في المساء. وقد جعلتُ لقراءاتي منهجاً صارماً، اذ وضعت قائمة بأسماء الكتّاب نظمتها بحسب التسلسل الأبجدي. كانت القائمة تبدأ باسم ابرهيم، ويليه أحمد، ثم أسعد... الخ. وحين كنت أفرغ من قراءة مؤلفات الاسم الأول، انتقل الى مؤلفات الاسم الثاني فالثالث... حتى نهاية التسلسل الأبجدي.

واذا كان جبران هو كاتبي المفضل بالعربية آنذاك، فإن التأثير الأول عليّ من كتّاب الخواجات (الأجانب) مارسه الشاعر الانكليزي شيلي. واذا قلت أني قرأت روايات جرجي زيدان في تلك الفترة، فان أثرها فيّ لم يكن يذكر، قياساً الى كتابات جبران الذي تعبّدت في محراب أدبه.

لم تستمر اقامتنا في أخميم أكثر من أشهر معدودة في نهايات الحرب الثانية، عدنا بعدها الى الاسكندرية، حيث قررت ألا أزور أخميم قبل أن أكتب رحلتي اليها ومشاهداتي فيها. وهذا ما فعلته لاحقاً في كتابي "صخور السماء". لقد حرصت على ألا ازورها كي لا أشوه تلك الصورة الأولى الغريبة التي رأيتها عليها اثناء لقائي الأول بها. ومن زيارتي الأقدم الى أخميم استعدت في "صخور السماء" اطياف طقوس تنصري وتعميدي في كنيستها استعادة دقيقة كاملة.
5
درست الحقوق في جامعة الاسكندرية. ذلك ان والدي، صاحب الميول السياسية الوفدية، كان راغباً في أن يراني رجلاً على صورة مكرم عبيد باشا ومثاله، ما دام عبيد هذا نائب سعد زغلول، زعيم حزب الوفد. لكن السياسة كانت حاضرة ايضاً في عائلتنا من جهة عائلة أخوالي الذين كان أحدهما في جماعة "مصر الفتاة"، وكان الآخر من انصار نبيل عباس حلمي. أما اليسار الماركسي او الشيوعي الذي كان حاضراً بقوة في مصر العشرينات فقد غاب تماماً عن مسرح الحياة السياسية في الاربعينات.

في اثناء دراستي الجامعية، وبعد سنتين او ثلاث من تخرجي من الجامعة، كنت عضواً مؤسساً لحلقة تروتسكية ظللت سكرتيرها العام حتى .1948 في تلك المرحلة من حياتي غرقت حتى الثمالة في الاجتماعات والمناقشات والتظاهرات واصدار البيانات وكتابة المنشورات التروتسكية، فأصدرنا مجلة "الكفاح الثوري" التي كنا ننسخها على الآلة الكاتبة ونوزعها على الاعضاء والاصدقاء.

- حين أنظر اليوم الى الوراء مفكراً في دوافع انتمائي الى تلك الحلقة من يسار اليسار، أجد ان شعوري بالظلم وفقدان العدالة كانا في اساس دوافعي العاطفية والوجدانية البعيدة. وكان مصدر احساسي بأن العالم من حولي ليس عادلاً، بل ظالم، أمرين اثنين:
- فقداني خالتي واخويّ وأختيّ الذين خطفهم الموت على نحو متواتر او متتابع. فالثلاثينات والأربعينات كانت حقبة سيئة وقاسية، عموماً، على الصعيد الصحي، اذ كانت الامراض والاوبئة، كالتيفوئيد، تفتك بالناس فتكاً متمادياً، لعدم توافر الأدوية، خصوصاً المضادات الحيوية.

- الأمر الثاني الذي يلازم الأول ويوازيه في دفعي الى اليسار، كان محنة الظروف المادية وقسوتها. فاليسر والرفاه اللذان عرفهما والدي قبل ازمة 1936 الاقتصادية الخانقة، انقلبا عسراً وضيقاً بعد تلك الأزمة، مما فاقم احساسي بالظلم واللاعدالة.

أما العنصر الذهني او الفكري في يساريتي فيعود الى وقوعي في مكتبة الاسكندرية البلدية على مؤلفات كاتب في حروف السين، هو سلامة موسى الذي سحرتني كتاباته وانكببت على قراءتها كلها، في نهم شديد، وعرفت منه ماهية الاشتراكية ومعناها. وفي تلك الفترة وبعدها بقليل قرأت برنارد شو ثم ان صديقي جورج خوري أهداني كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لفريديريك نيتشه، في ترجمة خاله فيلكس فارس، فكان تأثري بذلك الكتاب كبيراً.

يعود تعرفي الى الأفكار الشيوعية والانكباب على قراءة المؤلفات الماركسية الى شاب سوداني اسمه خليل الآسي. لكن شيوعيتي التروتسكية جعلتني معادياً للستالينية والديكتاتورية كما لم أكن معادياً لأي شيء في العالم. وكانت الشيوعية التروتسكية جواباً شافياً عن احساسي بالظلم واللاعدالة، في جمعها بين الحرية والعدالة. ثم عرفت ان تروتسكي صديق للسورياليين والسوريالية، فيما كنت منكباً على قراءة الأدب السوريالي في ترجمة رمسيس يونان.

ايوب صابر 06-12-2012 11:53 PM

6
في العاشرة من عمري بدأت كتابة ما كنت أتصور انه الشعر، ومنذ ذلك الحين لم أتوقف عن الكتابة. وحين سألنا احد المدرسين، نحن تلامذة الصف، عما نحب ان نكون ونشتغل في المستقبل، اجابه أترابي: دكتور، طيار، مدرس، مهندس، فيما أجبته أنا بأني سأكون شاعراً، فأثار الأمر استهجان التلامذة. أما انخراطي في النضال والعمل السياسي، فكان يصدر عن واجب وضرورة، لا عن رغبة. لقد ملكت الكتابة رغبتي، وفيما أنا منخرط في العمل السياسي والنضال، كنت مدركاً اني أؤجل الكتابة حتى تحقيق العدالة والاستقلال عن الانكليز وزوال الاحتلال واقامة الاشتراكية.
- لكن هذه الأحلام كلها انجلت عن اعتقالي ضمن حملة اعتقالات واسعة مع إعلان الأحكام العرفية في أيار ،1948 وطاولت جميع الفئات اليسارية والوفديين. وفي المعتقل تلاشت العداوة بيننا نحن التروتسكيين وبين الشيوعيين، فتآخينا وتعاونّا، حيث التقيت مصادفة هنري كورييل في معتقل هاكس تسام في القاهرة. رأيته من بعيد من دون أن أكلمه أو يكلمني. كان نحيلاً رقيقاً يلبس الشورت وينتعل صندلاً ويتحرك طوال الليل كالنحلة.

- أمضيت في المعتقل عشرين شهراً، وخرجت منه في العام ،1950 وكان والدي قد توفي.
وفي النوادي رحت ألقي محاضرات عن السوريالية والوجودية فتعرفت الى أنور كامل ورمسيس يونان. لكن كان عليّ أن أبحث عن عمل ما أكسب منه معيشتي، فأهداني اليه صديق تعرفت اليه في المعتقل، وكان العمل موظفاً صغيراً في "شركة التأمين الأهلية". ونبهني صديقي ذاك بألا أقول أني أحمل اجازة في الحقوق، لأن العمل المطلوب في الشركة لا يتجاوز الإلمام باللغتين الفرنسية والعربية والضرب على الآلة الكاتبة. وبعد مقابلتي المسؤول في الشركة، وقع نظري في أحد مكاتبها على فتاة جميلة رقيقة من موظفاتها، وكانت تلك النظرة العابرة فاتحة وقوعي في صفقة غرامية برفيقة حياتي التي تزوجتها عام .1958
7
في أثناء عملي في الشركة وإلقائي المحاضرات في نوادي الاسكندرية، كنا نلتقي في المقاهي، حيث تدور بيننا المناقشات حول ثورة الضباط الأحرار الناصرية. وكان الأبرز في تلك المناقشات رأيان اثنان في ثورة .1952 الأول يعتبرها ثورة ديموقراطية. أما أنا فقد ملت الى الرأي الثاني الذي كان يعتبرها انقلاباً عسكرياً على طريقة الانقلابات في بلدان أميركا اللاتينية. ومنذ الأيام الأولى للثورة حتى تأميم قناة السويس سنة ،1956 لم يتبدل رأيي في تلك الثورة. وقد يكون الخطأ الكبير الذي ارتكبته هو تصالحي مع الناصرية في أعقاب قرار التأميم. لكن برغم تلك المصالحة، ظل موقفي الشخصي من جمال عبد الناصر ملتبساً. إذ ظللت اعتبر الجانب العسكري في الثورة الناصرية سيئاً، لأن ما أتت به من انجازات ظلت فوقية لعدم صدورها عن الناس وهذا ما أكده انهيار تلك الانجازات مع موت الزعيم المصري.

عام 1955 ضربني اليأس والقنوط من عملي موظفاً صغيراً في شركة التأمين، لأعيل بالراتب الذي أتقاضاه أمي وأخواتي الأربع. كنت أشتعل حنيناً الى الكتابة التي منعني عنها الدوام الوظيفي المرهق، ففكرت في الاستقالة من الشركة، وأقدمت عليه. ومن التعويض المالي الذي تقاضيته رحت أعطي والدتي راتبي الشهري، كما لو أنني لا أزال موظفاً. في تلك الفترة كنت أمضي وقتي مداوماً على المكوث في أتيليه الاسكندرية التي يديرها أحمد مرسي، منصرفاً الى الكتابة والترجمة، فكتبت "حيطان عالية" وترجمت بعضاً من أشعار أيلوار ومؤلفات تشيخوف وكامو. وشهراً بعد شهر راح التعويض المالي يتناقص وينفد، فلم يعد في مستطاعي تقديم راتبي الشهري لوالدتي، فأجبرت على إعلامها بأني تركت وظيفتي في الشركة.

الضيق المادي الذي عشته آنذاك كان شديداً، فرحت أترجم براءات الاختراع في الميكانيكا والكيمياء لإحدى الشركات، مما أثرى قاموسي اللغوي. وفي الأثناء بدأت أبعث لأصدقائي رسائل استغاثة لمساعدتي في البحث عن عمل، حتى وصلتني ذات يوم رسالة من صديقي ألفرد فرج يطلب مني فيها الحضور فوراً الى القاهرة للعمل مترجماً في السفارة الرومانية، فغادرت الاسكندرية متوجهاً الى القاهرة في العام .1956

أثناء عملي مترجماً في السفارة الرومانية بادرت الى انشاء جمعية الصداقة المصرية - الرومانية التي رعت انشاءها هيئة من أبرز العاملين في الحقل الثقافي في مصر: يوسف السباعي الذي كان رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب، ومحمد مندور ويحيى حقي وفريد أبو حديد وعلي باكثير. ثم أصدرنا مجلة عن الجمعية التي تركت العمل فيها عام 1959 لأعمل، بمبادرة يوسف السباعي، في قسم الشؤون الفنية لجمعية تضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية، وكان مدير شؤون هذا القسم رمسيس يونان الذي عملت الى جانبه جامعاً بين فوضوية الفنان وعقلانية الرجل الإداري.
8
في يوم من عام 1968 جاء الى منزلي جمع من الاصدقاء بينهم احمد مرسي وابرهيم منصور، وطلبوا مني العمل في تأسيس "غاليري 68"، على ان ننشىء صالة للعروض الفنية والتشكيلية، ومجلة ثقافية - أدبية يجري تمويلها من عائدات بيع اللوحات التشكيلية في صالة العرض، ومن اشتراكات الاعضاء. وكان الفريق الأساسي الذي عمل في اصدار المجلة، أحمد مرسي وابرهيم منصور وغالب هلسا وسيد حجاب وجميل عطية ابرهيم وأنا. وفي ثلاث سنوات صدر من المجلة ثمانية أعداد من دون انتظام. وقامت "غاليري 68" بنشر نصوص قصصية لمحمد البساطي وجمال الغيطاني وغيرهما من ادباء الستينات الذين كانت المجلة منبراً لكتاباتهم.

والغريب ان جيل الستينات من الروائيين والقصاصين والادباء الذين تحلقوا حول "غاليري 68" كانوا أصغر مني سناً وعايشت انطلاقتهم، من دون ان أكون منتمياً الى جيلهم الادبي، ولا الى غيرهم من الأجيال السابقة. كأنني دائماً كنت مضيّعاً انتمائي الى جيل أدبي وثقافي وكتابي في عينه. ربما لأنني منذ الأربعينات أكتب من دون أن أنشر ما أكتبه، الا اذا طلب مني احد ما مخطوطة للنشر. وربما لأن تصنيف الكتّاب في أجيال وموجات لا ينطبق عليّ. فحتى في التصنيف الادبي الأكاديمي والجامعي لم أحسب على جيل الستينات او غيره.

قد أكون من التيار الروائي والقصصي الذي سُمّي تيار ما بعد المحفوظية وجمع مروحة واسعة من الكتاب المصريين مثل صنع الله ابرهيم وجمال الغيطاني وغالب هلسا وبهاء طاهر وعبد الحكيم قاسم، والجامع المشترك بين هؤلاء هو التمرد على القواعد المحفوظية في الكتابة القصصية والروائية وكسرها. أما العنصر الآخر الجامع في هذه التجارب الكتابية، فقوامه احساس هؤلاء الكتاب بأن هناك خطأ ما في التجربة السياسية - الاجتماعية للناصرية، خصوصاً بعد الكارثة التي تكشفت عنها هزيمة .1967 ورغم ان نقد الناصرية لم يصل الى ادانتها ادانة مباشرة وصريحة، فان الحذر والتوجس من شعاراتها كشفا خواءها في مقابل القمع السياسي والثقافي للسلطة السياسية. وهذا ما انعكس في الأعمال الأدبية للكتاب والروائيين.
9
- كروائي، اعتبر نفسي مؤرخاً لأشواق الروح وأشواك المجتمع.
لكن التأريخ الاجتماعي وغير الاجتماعي يحضر في وصفه عنصراً داخلياً في السياق الروائي والمشهد الروائي. وأظن ان التأريخ الحقيقي او الفعلي متضمَّن في الأعمال الروائية.
- أما السيرة الذاتية فموجودة على نحو ما في كل رواية وقصة وقصيدة ولوحة تشكيلية، وفي كل عمل فني على وجه العموم. أما كيفية تجلي حضور السيرة الذاتية في الأعمال الفنية، فمسألة غير قابلة للتقنين في قواعد ثابتة ومحددة. والذي يُخرج السيرة الذاتية، او الشرائح والمقتطفات المستخدمة منها، عن كونها سيرة ذاتية، اندماجها بالمتخيل الفني في العمل الروائي. فاستلهام وقائع وحوادث معينة، وكذلك استلهام مقتطفات من السيرة الذاتية، أمر طبيعي وعادي في الفن الروائي، شرط ان يجري استدخال هذه الاستلهامات في المتخيل الروائي. وعلاقة الذاكرة بالخيال معقدة. وربما يلازم التخييل عمليات التذكر كلها. وهنالك خيال منفصل او منقطع عن عمليات التذكر.

حين أقول ان السيرة الذاتية تدخل في الأعمال الروائية لا أقصد ان الرواية سيرة ذاتية مقنّعة، بل ان الفعل الروائي يستلزم تحويل مقتطفات من السيرة الذاتية وتحويرها على نحو ملائم للبناء الروائي.

أعلم ان هناك كلاماً عن روائيين يخلقون شخصيات روائية تروح تتفلت منهم وتستقل عنهم، فلا يتمكنون من السيطرة عليها. لا أظن ان هذا الكلام حقيقي ودقيق. فالروائي خالق شخصياته، والمسؤول عن نموها وتحولاتها ومصائرها.
- والمخطط الروائي الذي أضعه قبل البدء بكتابة رواياتي، عام غير تفصيلي لا يتجاوز الصفحة او نصف الصفحة فقط ومعظم رواياتي كتبتها مرة واحدة فقط، لأني حين أشرع في الكتابة تكون الرواية مكتوبة في ذهني او في مخيلتي قبل مباشرة كتابتها. اما ما أقوم به من حذف وتقطيع واضافة وتبديل، فأجريه لاحقاً بعد الكتابة الأولى التي لا أعيدها. هناك بعض القصص والروايات التي كتبتها في البدايات أعدت كتابتها مرات كثيرة. أما لاحقاً فقد تعودت أن أكتب قصصي ورواياتي مرة واحدة فقط.
10
- سوف يبدو كلامي متضمناً شيئاً من الصلف حين اقول أني أحب أن يأتي التاريخ على ذكري وحيداً في إحدى صفحاته، لا على صفحة يشاركني فيها غيري من الأسماء.
هذا في حال كنت في عداد من سيأتي التاريخ على ذكر اسمائهم في صفحاته.
- فأنا أشعر أني وحيد ولا صلة وثيقة تجمعني بأحد.

- تصعب عليّ الاجابة عن السؤال إن كنت مؤمناً بالله أم لا. ذلك ان أبا العلاء المعري لو قيّض له ان يكتب "رسالة الغفران" مرة أخرى، لن يسألني عن ايماني بالله، بل عن الحس الديني لديّ. مثل هذا الحس يشغلني لأنه ينطوي على الاسئلة حول الوجود والمصير والموت، أقول هذا وأميز بين الأيمان والدوغما العقائدية والاسطورة، مع العلم ان الموت عندي هو نهاية الحياة.

- أما لو سألني أبو العلاء المعري إن كنت يسارياً، فأنني أجيبه بأني يساري في معنى الانحياز الى العدل والحرية.
- وأعني العدل الكوني المستحيل التحقق.
واذا اعطيت فرصة ان أعيد كتابة ما كتبته مرة أخرى، فإني أعيد كتابته من دون ان أغيّر فيه شيئاً. أي أتركه على حاله لأن لديّ مشاريع كتابة كثيرة متراكمة عليَّ تنفيذها.
- وان كانت قد بدأت متأخراً في نشر ما كتبت، ومتأخراً أعلنت نفسي كاتباً، وما زلت أكتب مع تقدمي في السن، فإني على يقين بأن لا علاقة بين الكتابة والنشر.
- وانا الذي بدأت الكتابة في سن مبكرة، اعتبر ان لا معنى للنصائح في الفن. أي لا معنى لوصفة نقترحها ناصحين الكتاب بأن يبدأوا الكتابة في سن مبكرة او متأخرة من اعمارهم.

أذكر أني كنت أكتب "رامة والتنين" وكان عليّ أن أحصل على اجازة من عملي في جمعية تضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية التي كنت أعمل فيها لا كموظف، بل كفدائي لا يتوقف عن العمل طوال الساعات الاربع والعشرين من اليوم. لذا كنت أغادر القاهرة الى الاسكندرية،
- حيث انقطع تماماً عن الدنيا منصرفاً الى الكتابة. واذكر أني بعد انجاز مسوّدة "رامة والتنين" تركتها سنة او سنتين على حالها، قبل أن أعود الى العمل عليها حين طلب أحدهم مني أن أعطيه كتاباً للنشر. أروي هذه الوقائع لكي أقول ان الأمر نفسه تكرر في مرات أخرى مع قصص وروايات غير "رامة والتنين".
- لكني بعدما تقاعدت من الوظيفة في السابعة والخمسين من عمري، رحت أكتب بغزارة كبيرة. فرواية"الزمن الآخر"، مثلاً، كتبتها في مدة لا تتجاوز الشهرين. ذلك ان كل ما كتبته موجود بالقوة، قبل كتابته، بحسب العبارة البالزاكية.
وإن سئلت ما هو الكتاب الذي قرأته من الأدب العربي والعالمي، وأحب أن أعيد قراءته بين مدة وأخرى، فإني لن أعثر على كتاب معين او محدد. قد يـشغفني احياناً أن أعيد قراءة بعض المقاطع من كتاب "الأبله" لدوستويفسكي.
-أما نيتشه فقد تأخذني رغبة في اعادة قراءة مؤلفاته كلها.
- اما كتاباتي فإني لا أطيق قطعاً إعادة قراءة أي شيء منها.
واذا أعطيت فرصة ان انقذ خمسة كتب من كتبي كلها من طوفان أو حريق، فإني لن أنقذ سوى ثلاثة منها، هي "حيطان عالية" و"رامة والتنين" و"ترابها زعفران".

إدوار قـــلـتـــة فــلـتـــس يـــوســــف الـخــــراط
هو إدوار قلتة فلتس يوسف الخراط.
وُلد في 16 آذار 1926 في الإسكندرية لأب من أخميم في صعيد مصر، وأمّ من الطرانة غرب دلتا النيل.
- حصل على ليسانس في الحقوق عام 1946 من جامعة الاسكندرية.
- عمل أثناء الدراسة عقب وفاة والده منذ عام .1943
- شارك في الحركة الوطنية الثورية في الاسكندرية عام .1946
- اعتقل في 15 أيار 1948 سنتين في معتقلي أبو قير والطور.
- تزوج عام 1957 وله ولدان وأربعة أحفاد.
- في عام 1959 عمل في منظمة تضامن الشعوب الأفريقية - الآسيوية ثم في اتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين حتى العام ،1983 وأشرف على تحرير مطبوعات سياسية وثقافية لهما.
سافر الى معظم بلدان أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا في رحلات عمل.

شارك في إصدار مجلة "لوتس" للأدب الأفريقي - الآسيوي وفي تحريرها، وفي مجلة "غاليري 68" الطليعية، ومطبوعات لكل من منظمة التضامن الأفريقي - الآسيوي واتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين.
ترجمت رواياته الى الانكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والأسبانية والأسوجية.
له في الروايات والقصص:
حيطان عالية (قصص).
ساعات الكبرياء (قصص).
رامة والتنين (رواية).
اختناقات العشق والصباح (قصص).
الزمن الأخير (رواية).
محطة السكة الحديد (رواية).
ترابها زعفران (نصوص اسكندرانية).
أضلاع الصحراء (رواية).
يا بنات اسكندرية (رواية).
مخلوقات الأشواق الطائرة (رواية).
أمواج الليالي (متتالية قصصية).
حجارة بوبيللو (رواية).
اختراقات الهوى والتهلكة (نزوات روائية).
رقرقرة الأحلام الملحية (رواية).
أبنية متطايرة (رواية).
حريق الأخيلة (رواية).
اسكندريتي (كولاج قصصي).
يقين العطش (رواية).
تباريح الوقائع والجنون (تنويعات روائية).
عمل نبيل (مختارات).
رقصة الأشواق (مختارات).
صخور السماء (رواية).
طريق النسر (رواية).
مضارب الأهواء (قصص قصيرة).
الغجرية والمخزنجي.
إضافة الى إصداره دواوين شعرية ومجموعة من الدراسات النقدية والتشكيلية والترجمات.

ايوب صابر 06-13-2012 08:09 AM

رامة والتنين ......نبذة النيل والفرات:
عندما فتح عينيه ، وقد انتفض من النوم فجأة، دون سبب، وجد أنه لم يغادر الحلم الفائق الذي كان قد نام في قبضته، وكأنما هتف باسمها . في شجي ملتاع، كما نام، وهو ينادي به، وكأنما قال لها: رامة، رامة، هل تسمعينني، هل تردين؟ أحبك، وكأنما ضحك من نفسه ، يمزق نفسه. حوائط غرفة نومه، بخشونتها العارية والشروخ الملتوية الدقيقة فيها، تصحو معه، مهددة وتميل عليه. الستارة على نافذة الحجرة لا تحجز عنه ضغط الوحشة التي تدخل عليه، وحدها، لا شيء آخر معها، من قصة السماء بين سطوح البيوت. هل الحب هو هذا الغداء الذي لا رد عليه أبدا؟ ولا ينقطع، لا يملك أن يرده عنه ملحا، يصحبه في صحوته ونومه، منذ أمد يبدو له قديما، قديما، لا بدء له ولا تبدو له نهاية؟ هل الحب هو هذه الوحدة؟ في كل ليلة يموت ميتة صغيرة، ويبعث في الصبح، ميتا. قال لها: ما كنت أظن في نفسي هذا الغدر من المراهقة بعد. وكان قد قال لها، بصوت جهد أن يكون خافتا ومعتدلا، كأن فيه ظل سخرية: كل هذه الخيالات، هذه الآلام، والحديث الذي لا ينقطع، بيني وبينك في حلم يقظة مستمر يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة" عندما يمتزج الحب كعاطفة صادقة بوجع الحياة، تضحي الحياة أجمل حتى بعذاباتها فهي تحمل في ثنايا تواترات ساعاتها وأيامها لحظات ساحرة وومضات آثرة من ذاك الحنين الذي يترك داخل القلب، واعدا بآمال محققة. في " رامة والتنين" عطاءات روائية لطيفة، وإبداعات أدبية رائعة، تدع للقارئ مجالا واسعا للاسترسال، منطلقا مع الروائي لتلمس مساحات وجدانية تهفو لها النفس، وتأنس بصورها العين، ويتابع الذهن تلون مشاهدها بحس ناعم وشغف كبير.

ايوب صابر 06-13-2012 08:12 AM

رامة والتنين:1



عبد النبي فرج



2011-09-16


(مهداة الى ادوار الخراط ) المهندس سامي نجيب الموظف الكبير بوزارة الري المشهور في القرية بالرجل الطويل.. الذي كان يظل ساعات طويلة واقفاً أمام الباب في مواجهة الحديقة دون أن يتحرك، فقط الاستغراق في التدخين والنظر إلى المساحات الواسعة من الأراضي المزروعة بالسمسم والتين وأشجار الفواكهه حتى ان العمال لدى المعلم كانوا يتصورونه مخبولاً ولاسعاً ونهايته العباسية 'إن شاء الله' حتى أصيب بداء لا يعرف أحد مصدره في صدره وطلب ندبه لري الفيوم كما أشار الطبيب.

وانتقل إلى هناك مع الست (رندا) زوجته المتفانية حد الجنون وتعرف الخصال الدفينة الباطنية لزوجها الذي كان يحلم بأن يشتغل في الفن ويصبح مثل الفنان عبد الحليم حافظ وانتهى به الأمر حبيس جدران البيت، يستغرق في الشرب ثم يهذي هذيان المحموم ويؤلف موسيقي شريرة تجعلها مفعمة بالشهوة وتندفع في الاستغراق في ممارسات جنسية شاذة وعندما ترفض هذه الممارسات، كان ينزوي حتى يكاد يجف مردداً: الجنس لذتي الوحيدة الباقية..
وعندما ماتت الست رندا وهي تلد ابنها عوض، اغتم وزاد هزاله وشروده الطويل، والسير في حدائق الفيوم وملاهيها وبحيراتها وعزف عن العمل في المصلحة، وأخذ يشرب في شراهة ويعود إلى البيت متأخرا حتى قرب الفجر...
وفي النهار يدور في الاستراحة ناظراً إلى صورها المعلقة ذاهلاً.. يخرج ويتأمل البنت عايدة البكرية.. ويبكي في عنف (الشبه الخالق الناطق) ويمضي ذاهلاً.. يخرج في عز البرد حتى تهتك صدره ومات في عز شبابه (قدس الله روحه وجعله مع المسيح في الأعالي).
عادت عايدة في صحبة أخيها وجدها المعلم نجيب، الى العزبة في ساعة متأخرة من الليل، وتم إنزال العفش وقام العمال بإدخاله وتخزينه في واحدة من الغرف الكثيرة في القصر وأغلق عليه بالمفتاح. المعلم نجيب دخل غرفته وبكى وحده ثم جفف الدمع وخرج إلى حديقة البرتقال واتجه إلى المنحل وجلس على الرمل والنحل يطن فوقه ويسرح على جسمه ويقرصه وهو شبه غائب يخرج أقراص العسل ويصفيها في كف يده حتى تمتلىء وتنزل لتختلط بالرمل، هذا الرجل الذي ترك العمار وناس أتريس ودخل في عمق الجبل وغرس بيت وطلمبة وشجرة توت وماكينة وأخذ يروض الجبل في صبر لا يلين، وعزيمة جبارة حتى حول صخوره ووهاده إلى مزرعة كبيرة يزرع فيها البرتقال، المانجو، الجوافة، الليمون.. وضع فيها خلايا النحل لتدر له الشهد (كل دا تم بالجهد والعرق وسهر الليالي وبركة يسوع ابن الرب) وفي الصباح التالي كانت الفرس تلد وعندما ولدت، كانت مهرة جميلة سماها المعلم نجيب' عايدة، وأطلقها تصهل في الحقول. كبرت المهرة، كبرت عايدة ونبت نهداها فخرجت تقف في الفراندا وهي تلبس فستاناً قصيراً حتى ركبتيها وحبل قطن يلف حول كتفيها العاريين منقوش عليه زهور بنفسيجية، وعيناها الوسيعتان تبرق في وجه الشمس وشعرها الفاحم ينسدل حول كتفيها، وجسدها الريان بدأ ينمل، وروحها الفتية تتقافز، وعندما أقبل جدها والست دميانة قبلتهما في فرح خالص..
تعالي يا بنت يا عايدة الكنيسة خلي أبونا يباركك، اشتعل اللهب في خديها وأطرقت في صمت..
خلاص يا دميانة هي حرة وسحب العباءة على كتفيه وسار وسط الحقول، وعايدة عيونها التي تبرق في البراح تتبعهم حتى اختفوا.
اشتعلت الشمس وغاضت بالدم، وتسلل الهواء الرطب يطير ثوبها فدخلت إلى البيت وجاءت بالشرائط والبك أب ونزلت وسط الحقول تسمع أغنيات 'أم كلثوم' فيروز، ماجدة الرومي، عبد الحليم حافظ، وتشم رائحة زهور الليمون الفواحة التي تدير الرأس حتى رأت المهرة عايدة تصهل فنزلت من على السلالم واقتربت منها فوجدتها مربوطة في قدم الصبي الأخرس شمندي بن عبد الله الكومي، الواد المقطوع الذي يؤويه المعلم في غرفة في آخر الجنينة والمتربي في المزرعة مند كان صغيراً، وكان يعمل بعلف البهائم التي يربيها المعلم...
كانت عايدة تقف فوق رأسه وهو لا يراها وشمندي عفي وعروق يديه تكاد تخرج من جلده، وعندما رفع قامته كان يبلل سترته الزيتية التي كان يلبسها على اللحم والغبار المتطاير يلتصق بلحمه وينزل مع العرق على صدره المشعر، رفع قامته رآها تقف أمامه، ترك الفأس واندفع الدم الساخن كله في وجهه الأخرس، وترك العرق ينز، وبص لوجهها الخلاسي، وسيقانها السمراء اللمعة، وعنقها الطويل والمعلق به سلسلة تنتهي بصليب مغروس بين نهديها، الولد ذهل وانفرط منه الدمع، مختلطاً بالعرق والغبار ونظر إلى السماء التي تكاد تنغلق عليهم، والشمس بدأ لهيبها الأصفر يختفي. اقتربت منه وغاص حذاؤها في التراب ومسحت دموعه بيديها الطريتين، وأخذت تمسح العرق عن رقبته ووجهه وصدره العاري.



اعتم الكون وسكن الكل في الغرف، تسللت عايدة من غرفتها، ومرقت من البهو وفتحت الباب مندفعة في اتجاه الحديقة تغوص في قلب الحشائش والقمر السائب يتبعها أينما سارت، وعندما سارت إلى شجرة المانجو تجده هناك ينتظرها في قلب العتمة تبتسم وتسترخي عضلات قلبها، وتسير جواره تاركه يديها له، يسير بها في طرقات متعرجة حتى يصل إلى الغابة فيحملها ويغوص بها في وسط الماء وتطقطق الطحالب تحت قدمه العريضة الخشنة ويدفع بيديه الأخرى الغاب المهوش، وهي مستسلمة غارقة في فرح يحتوي كل كيانها حتى اجتازا الغابة وظهرت الصحراء عارية إلا من رمل ناعم، شجر عكرش منطو، وأشجار شوكية خالية من الحياة فيخلع سترته ويفرشها لها ويجلس على ركبتيه ناظراً إلى واحة عينيها، والقمر يقترب يفرش الرمال التي تضوي، هسيس النسيم يتسلل إلى جسده العاري. سرعان ما يتساقط مطر من عينيه يلمع في ضوء القمر كحبات لؤلؤ فتقوم عايدة وتمسح دموعه براحة يديها وتميل عليه وتقبله في صمتٍ تمص في شفته السفلى، ويداها تمسكان شعره الهائش وتتركه يفتح بلوزتها ويمس نهديها الصغيرين في خوف ورهبة حتى يتسلل الفرح إلى جسديهما ويشتعل الدم الفوار وتطقطق عظامها أكثر من مرة وترتعش ركبتاه رعشات متقاطعة ويتساقط الندى رطباً على الجسد العاري وفي الصباح فرحة كانت تطارد فراشات وتقفز من مكان إلى آخر حتى بدأ يدب في حشاها شيء كدودة ثم باعدت ما بين ساقيها..
يوه.. قالت الست دميانة بعد أن نظرت وتعجبت وهمست في أذن نجيب، وأخذت تدور في البيت تراقب عايدة في توجس وخوف، حتى حط المساء وغطى على الكون والمعلم يبتسم ويناغي عوض الحفيد وعندما كان الكل في مرقده انسلت عايدة وسارت في قلب الحدائق، وخطا المعلم على خطوها حتى رآها وقبض على المشهد بعينيه؛ فعاد في حذر يدور في أروقة السرايا ودهاليزها المعتمة حتى عادت عايدة.
كان ينتظرها وبجواره الست دميانة وشعرها الطويل هائشاً وصدرها مفتوح والصليب يرقد ما بين نهديها. اقترب منها المعلم ومزع الصليب من رقبتها: أنت خطية يا بنت، وكمان من مسلم.
وصفعها بعنف فسقطت على الأرض ونز الدم من رأسها: خديها يا دميانة وراقبيها.. سحبتها وصعدت بها السلالم وعايدة صامتة لم تكن تدرك ما جرى مرتبكة لم تع شيئاً، وكأنها مخدرة حتى وصلت إلى القبو الذي بناه المعلم في أعلى السرايا خصيصاً لأبينا كي يستريح فيه بعيداً عن الضوضاء في أيام عيد الميلاد المجيد قبل أن تبنى كنيسة في أتريس.
صعدت الست دميانة مع عايدة حتى وصلت فوق سطح السرايا، وأخذت تفك القفل الصدىء.. وعندما لم يفتح أحضرت لتر جاز وغمرت القفل فيه وعندما فتحت زيق الباب وشرخ الكون ودفعت عايدة في القبو وعادت لم تجد المعلم الذي دخل غرفة لا يدخلها إلا عندما يكون في مأزق كبير، وعندما دخلت عليه كان يصب لنفسه كأس نبيذ يصنعه على يديه، ناولها قدحاً: وبعدين يامعلم الواد الأول نشوف له صرفة وبعدين تفرج.. نامي، نامي أنت يا ستو.. في هذه الغرفة تم رسم السيناريو الذي سيسير عليه القبط في بناء الكنيسة وبقوة المعلم فهيم والخواجة رزق بائع الذهب وكان رأيه واضحاً..: إحنا معانا تصريح صحيح من الرئيس عبد الناصر لكن الحكاية عايزة شوية حذر... نعملها على مراحل خطوة، خطوة، قاعة اجتماعات.. أفراح، مذبح، جرس كنيسة.
وعندما نظر إلى الحية الراقدة تنظر إليه في لا مبالاة.. تذكر يوم تركها تنهش القصير اللعين الذي حاول أن يستولي على الأرض: وكان لازم أبكي عليه طول إقامة القداس.. آه.. آمال أيه. نظر إلى الأفعى، وأمسكها من رقبتها وأخذ يمسد الشعر النابت فوق رقبتها وجسمها الأملس الناعم.. وعيونها الزجاجية الحادة، أغمضت الحية عينيها، فمد المعلم يديه في جيب السيالة وأخرج سكيناً رفيعاً حادّاً وجز رقبتها مرة واحدة، وصفى السم في كوب صغير، وتركها تتقافز.. ثم عاد إلى غرفته ونام حتى فرشت الشمس وجهها على الأرض قام ونزل إلى الحديقة وأدار الماكينة وأخذ ينظفها ويضع فيها الجاز.. وقاس الزيت والفلاحون يروون الحوال البحري، كان واثقاً بأنه المنتصر وأن كل شيء سيسير وفق مشيئته: ياما دقت على الراس طبول، حتى أصبحت هذه الرأس أصلب من الحجر، وهذا الصدر حاوي مكر وأسرار ومكائد لا تنتهي، رغم أن هذا الفخ الذي وقع فيه كان كارثياً لن يستطع أن يفلت منه دون تشوهات، الولد ميت، ولكن البنت لم تعد بنت، ثمرة البرتقال أصابها العطب، الجوهرة انتهكت، كان يريد أن يجعلها سلاحاً حامياً وكان يرسم على علاقة نسب تزرع الامان داخله الفترة الباقية من عمره ولكن، السافل يجب أن يتعذب، الشرير يجب أن أرى النار تأكل فيه. وتنهشه وتمزق أحشاءه.
وقرب اشتعال الشمس عاد إلى البيت وحمل سلة بها عيش وغرف من خلاياه قطفة عسل ودس فيها السم.. وذهب بها إلى آخر الأرض.. حتى وصل إلى كوخ الأخرس.. فوجده نائماً فنادى: ياشمندي.. ياولد ياشمندي. قام الأخرس فزعاً فأشار له المعلم.. نزل الأخرس وهو متعب. أوديك للدكتور ياشمندي.
أشار بلا: طيب تعال نلعب دور سيجة.. أنا تعبان وعايز أتسلى في حاجة.. ابتسم الولد شمندي وأشار بعلامة النصر... أخذا يلعبان في همة حتى هزم شمندي المعلم.. فأخذ يضحك من قلبه.. تعالى.. تعالى ياولد.. إنت غلبت المرة دي.. ماشي.. وسحب الأرغفة والعسل وأكل.. وضرب على صدره بعلامة القوة، وعندما تبعثر دم الشمس في الأفق سحب المعلم المنديل المحلاوي ووضعه في السيالة ثم حمل السلة وسار تاركاً الأخرس يدور في الحقول ناظراً إلى القمر المخنوق وبطنه بدأت تمور... وبدأ يئن أنيناً خافتاً يتعالى شيئاً فشيئاً حتى لم يعد يحتمل فأخذ يجري باحثاً عن عايدة تحت أشجار البرتقال يخوض في الغاب والهيش ويفتش عن أثرها، يعود مرة أخرى يحاول أن يقترب من السرايا ثم يعود. إلى البوابة المغلقة، قفز من على السور وجرى في المشاية، حتى أنهك وعرف بالحدس أنه ميت وعاد مرة أخرى يريد أن يرى عايدة أن يراها ويموت، قفز السور يبحث عن صوت. لا شيء إلا أصوات الضفادع وصرير الهوام وعندما لم يعد قادراً على الاحتمال، جرى في الحديقة صارخا ولا مجيب سوى الفراغ. يقترب من السرايا التي أطفأت أنوارها وبدت معتمة يجري ويعوي في الفضاء عواء مرعوباً يهز الكون وصوته يزداد وضوحاً: إيده .. موت إيده..شندي موووووووووووووووت
وكانت عايدة تسمع صرخاته ونحيبه المؤلم في قلب العتمة، وهي تدور في القبو وقد ضربها الجنون فأخذت تضرب في الحائط وصوته يرن في أذنها أيده... موت إيده. تضرب في الحائط ويخرج جأرها كصوت عرسة تنبح في الفراغ مت.... مت يا شمندي...
وفي الصباحات التالية كانت عايدة تلتصق بالحائط مدهوشة وشعرها الحوشي ونظراتها مفزوعة ويداها تلتصقان بركبتيها لتحميا بطنها التي تعلو شيئاً شيئاً.
روائي مصري

ايوب صابر 06-14-2012 01:29 PM


ايوب صابر 06-14-2012 03:34 PM

جماليات وشواغل روائية - دراسة :

http://www.3rbe.com/books/index.php?act=download&id=420

ايوب صابر 06-15-2012 11:09 AM

رابط الرواية كاملة:


او

ايوب صابر 06-15-2012 11:31 AM

الخرَّاط وخمسون عاما من التجريب الروائي
السبت , 28 أبريل 2007
إدوار الخراط يتمرد على الشكل السردي ويعزف على تنويعات مختلفة في الشكل والمحتوى واللغة، والرؤية والأداة.
إلمقه/متابعات:

- تتسم التقنية الروائية عند إدوار الخراط بهذا النوع من السرد الروائي الذي يعتمد في حكائيته على توحد الذات الراوية مع النص الروائي بحيث يمتزج الاثنان معا ويفرزان نوعا من القص السردي.
- يعتمد هذا القص في نسيجه على خصوصية في السياق والتناول، سواء أكان ذلك على مستوى اللغة ودلالتها، أو على مستوى الأبعاد التي يرتجيها الكاتب من تنضيد نصوصه الروائية تنضيدا خاصا نابعا من الذات في المقام الأول، ثم متوجها ناحية المكان بعبقه الخاص والعام، ثم التفاعل بين الذات ومواقفها وممارساتها وبين المكان بجغرافيته الواقعية الخاصة التي تحمل وهج الذاكرة واستعادة كل المكونات التي حدثت فيه.
- وهي الخصوصية التي ميزت إدوار الخراط عن الأجيال التي صاحبته في ساحة الإبداع القصصي والروائي قرابة أكثر من خمسين عاما، انطلاقا من احتفائه الدائم والمستمر بالبحث عن أشكال جديدة، وأبنية روائية وقصصية تميزه عن غيره من الكتاب، وتسمه بسماتها الخاصة.
- ويعتبر إدوار الخراط من أوائل الروائيين والقاصين الذين حاولوا التجديد والتغيير في الشكل، واستنباط قوالب جديدة تتمشى مع التيارات الحديثة لفن القصة والرواية، خاصة ما ارتبط منها بأشكال الرواية الجديدة التي ظهرت في فرنسا على يد آلان روب جرييه، وناتالى ساروت، وميشيل بوتور.
- والمتتبع لإبداع إدوار الخراط يجد أن تمرده على الشكل السردي جاء مواكبا أيضا للعزف على عدة تنويعات مختلفة شملت الشكل والمحتوى واللغة، والرؤية والأداة في مغامرة إبداعية تجريبية طالت معظم ما كتبه طوال حياته الإبداعية.
- فمنذ صدور أولى مجموعاته القصصية وهى مجموعة "حيطان عالية" عام 1959، وحتى آخر أعماله نجد أن أعماله الروائية والقصصية جميعها تندرج تحت ما يسمى بالمغامرة الإبداعية أو الأدب التجريبي.
- والأدب التجريبي هو أدب باحث، مختبر، كما إنه أيضا أدب حركي يبحث في الشكل، ويختبر المضمون، ويختبر في اللغة، ويغامر في تقنياته المستخدمة لتأصيل جوانبه.
- وهو بذلك يغوص في قلب الواقع ليمتح منه الإشكاليات والقضايا الإنسانية الموجودة في واقع الإنسان المعاصر، كما إنه يقتبس من كافة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية العديد من أدواته، وأشكاله ومضامينه وغاياته.
ولا يقتصر البحث في هذا الجانب على الشكل فقط، بل يتجاوزه إلى المضمون، بل ويتعداه إلى ما وراء ذلك من أبعاد وآفاق.
فهو مشروع وواقع يبحث دائما عن الاختيارات الأساسية في جماليات التجربة، ويرسي قواعد ذاتية تنبع أساسا من فكر الكاتب ورؤيته، وأقصى ما تستطيع أن تعطيه أدواته، وذخيرته الثقافية والفكرية، والتفاعل الذي يتم داخل مخزونه الثقافي الخاص.
وأول من استخدم مصطلح التجريب في الرواية هو الروائي الفرنسى "إميل زولا" مع ملاحظة أن هذا الكاتب كان متأثرا جدا بالعلوم، مما جعله يعتمد في رواياته على القواعد العلمية التي اقتبسها من أبحاث العلماء في عصره.
وقد أصدر أميل زولا أثناء حياته الأدبية بحثا جماليا عنوانه "الرواية التجريبية".
- ورواية "رامة والتنين" هي خير مثال في أدب إدوار الخراط للحديث عن الرواية التجريبية ذات المختبر الخاص، والبحث الضالع في جماليات اللغة، وقناع الذاتية.
- بالإضافة إلى اعتماد الكاتب على تكنيك تيار الوعي المتغلغل في نسيج النص من خلال شخصية "رامة" المتغلغلة بدورها هي الأخرى في نفس تكنيك تيار وعي "ميخائيل"، وتداعى خواطره الذاتية، ومونولوجه الداخلى الكاشف عن ذكريات كثيرة حدثت.

لقد تم استدعاء تلك الذكريات، وتم الكشف عن مكنوناتها، والغوص في نواح متعددة من وعي الشخصية، ومشاعرها الخاصة، واستبطان ما يدور في وعيها وإدراكها، والبحث عن عالم مهّوم يجسد علاقة حميمية رابطة بين عاشقين يستلهمان واقعهما بكل ما يحمل ذلك من حب وعشق وصوفية خالصة.

- لقد نحت إدوار (ميخائيل) بنفسه اسم رامة، تماما مثلما صنع لنا شخصيتها طوال الرواية، حتى إننا لم نرها أبدا إلا من خلال تيار الوعي، وحكيه، وسرده عنها، وذكرياته معها عما حدث بالفعل، وعمَّا كان يتمنى ميخائيل أن يحدث، وعما رآه بعينيه وذهنه بين الحادث والامتناع.

ومن خلال أحلامه (كوابيسه)، نحت إدوار (ميخائيل) اسم رامة نحتا لكى يمنح الشخصية، صاحبة الاسم، المعانى التي يريدها، وأن يربطها بالصورة الكاملة للشخصية مثلما سنراها، ونحصل عليها من خلال النص، أى من خلال ميخائيل وحده.
وبمعنى آخر يمكننا أن نقول إن ميخائيل نفسه هو الذي اختار اسم رامة، أو اختار أن يعشق امرأة تحمل هذا الاسم، وأن يعيش معها تجربة الحب.
- حيث تمتزج معانى الخصوبة والموت في آن واحد، ومعانى التوحد الحر والقهر معا، ثم يعيش "معها" أيضا تجربة الانفصال المفضي إلى خسارة كل معنى جميل مؤثر وحاد، ثم إلى خسارة الموت أخيرا.

والرواية تنقسم إلى أربعة عشر فصلا يحمل كل منها عنوانا خاصا له دلالته، وهو أمر استخدمه الكاتب لتحرير النص من عزلته، والإبقاء على مكوناته متماسكة، ودالة، وإيحائية.
بحيث نستطيع أن نعتبر كل فصل قصة مكتملة قائمة بذاتها، أو جزءا من لوحة فنية لها تشكيلاتها، وقضاياها، ورؤاها، ولكنها لا تنفصل بأي حال من الأحوال عضويا ودلاليا عن باقى البانوراما الشبقية الرامزة، والمحملة على مستوى الواقع.
بحيث ترتبط أيضا وظيفة كل عنوان فرعي بتوجهات ودلالة العنوان الرئيسي للنص من خلال التقاء الجميع عند نقطة واحدة، وهى إبراز هوية النص في آليته الخاصة، وتجسيد الرؤية العامة بتكثيف وتقطير شديدين.
وقد -حاول إدوار الخراط في رواية "رامة والتنين" إبراز مستويات متعددة المعانى من خلال هذه العناوين الفرعية الموحية التي تشكل تساؤلا لما يدور بين شخوص الرواية، ويخلق انتظارا لما سوف ينجم عنه هذه التساؤل "ميخائيل والبجعة" أو ميخائيل والحياة، وما سوف ينداح عنه السؤال الكبير الذي ألح على ذهن إدوار ووعى ميخائيل في هذه الدوامة الشبقية الهائلة.

"رامة .. رامة .. أين الحقيقة .. أين الحقيقة؟"
- ويجسد إدوار الخراط في هذا العنوان المكثف "ميخائيل والبجعة" دلالات صراع الإنسان مع الحياة، وصراع الحياة معه.

"وهب ميخائيل واقفا، قائما. وثب وثبة واحدة خفيفة إلى البركة، وغاصت قدماه في الطين الرخو، بصمت، وارتفعت المياه، دون أن يتطاير لها رشاش، إلى ركبتيه، كانت يده قد قبضت على البجعة، والتفت أصابعه على العنق الطويل وهو يضغط على العظم المدور والمضلع النحيل، والريش الأسود الحريرى يكاد يغطى يديه، ويثيره."

- ويحاول إدوار الخراط من خلال هذا الطراز من الكتابة الذي يربط بين الواقع والخيال، ويختزل فيه أبعاد الزمن، بل يتنقل بين مختلف زواياه الحاضرة والماضية والمستقبلة أن يضع الموقف الروائي المضبب في مواجهة الممارسات الواقعية ليعطى دلالة الغرابة في الموقف الواقعى.

- وهو يحيل اللامعقول في الموقف المتخيّل إلى معقول على مستوى الموقف الواقعي، معبرا بذلك عن الحب الضائع، المفقود، المختبئ وراء ركام الحقيقة التي يبحث عنها الكاتب.تماما كما كان مارسيل بروست يبحث عن زمنه الضائع في روايته الشهيرة.

- وهذه السمة ( البحث عن ركام الحقيقية ) تكررت في كثير من أعمال إدوار الخراط المتقدمة مثل "الزمن الآخر" 1985، التي تعتبر امتدادا لرواية "رامة والتنين" وتكملة لها. و"ترابها زعفران" 1986، و"يا بنات إسكندرية" 1991، و"أمواج الليالى" 1991.

هذه الأعمال جميعها تندرج تحت ما يسمى بالمتتاليات القصصية، تنفصل فيها الفصول وتتجمع لتشكل بنية عامة وبناء متكاملا، وهو ما احتفى به إدوار في روايته الأولى "رامة والتنين" التي كانت هى أولى محاولاته الروائية، وتبنيه بعد ذلك ما يسمى بالحساسية الجديدة في الأدب القصصي والروائي المعاصر.

إذ
- أن كل فصل من فصول هذه الرواية، يقص الرواية كلها، ويكشف مضمون التجربة عن معنى من المعاني في العشق الصوفي الجنسي الممتزج بصور الشهوات التي يتعمق آثارها، ويستشرف من خلالها القسوة البالغة، والحب الشبقي المدمر في ضبابية شعرية مكثفة من خلال أسلوب نابض بالحرارة، وعامر بالصور والتلوين.
- كما أن كل فصل نجد فيه دلالات الجنسي الكامل، والمناقشات الجدلية في الحياة، والسياسة، والحب، بين ميخائيل ورامة.
كما نجده أيضا في أحد الفصول مع أحد العلماء الفنلنديين حيث تبرز دلالة الانتساب، ودلالة العشق لكل العلاقات، حتى التي أقامتها "رامة" مع بعض الأجانب الذين أحبتهم "الأميركي، والفلسطيني، و الجزائري".
- كما نجد أن أسلوب تيار الوعي الذي استخدمه الكاتب في أماكن متفرقة من الرواية، واتكأ عليه في إبراز العديد من الذكريات الشبقية المثيرة والموظفة تجسيدا خاصا لخدمة الحدث حيث يجسد تبادل الحب الحسي بين رامة وميخائيل كل بطريقته:

"وكانت ذراعي على فخذك العارية، والقميص الأبيض القصير منحسرا إلى أعلى، بطنك مستديرة سمراء ناعمة الإهاب، والأعشاب الخفيفة جافة.
ومن الفتحة الطويلة في النايلون الخفيف تبدو لعيني جوانب نهديك الممتلئين بالبضاضة اللدنة المستريحة، مستقرين على الصدر الذي يحمل في داخله لغز الحب، مستكنا، منيعا، خفيا."
- إن توظيف الجنس في أعمال إدوار الخراط منذ البدايات هذا التوظيف الذي يصل إلى حد الإسراف، يفقد بعض هذه الأعمال شيئا من مصداقيتها الأدبية والفنية.

- حتى إن حذف كثير من عباراته في بواكير أعماله القصصية بمعرفة الرقابة، وإحتفائه بإعادة طبعها في بيروت مرة أخرى "حيطان عالية" 1959، بعد إضافة هذه العبارات يعطي دلالة إلى أن الواقع في أعمال إدوار الخراط يتطرق، ويتطرف إلى أبعد ما يستطيع أن يعطيه الجنس من معان ودلالات فنية.
وهو ما نجده في مواضع كثيرة من "رامة والتنين" وغيرها من الأعمال الروائية عنده.
والجنس كما يقول عنه د . هـ . لورانس نتاج للنوايا غير الواعية عند الإنسان، فكيف ندينه في نواياه الواعية.
وكما قال أيضا عن الدعارة الفنية "إنها ليست تمجيدا للجنس بل إهانة له."
وكما يقول عنه هنرى ميللر "إنه استشراف للحياة بكل تعقيداتها واقتراب من صلب ومركز الرؤية العامة للكون، ومغامرة داخل النفس وخارجها، واكتساب للأبعاد الخفية التي لا يمكن الاستغناء عنها بأى حال من الأحوال."
وهو كما عبر عنه فلوبير في "مدام بوفاري" وجون شتاينبك في "عناقيد الغضب"، وغيرها من الأعمال التي ترقى إلى معالجة الحقيقة العارية في براعة ووعي ونضج فني بعيدا عن مهاوي الإثارة وسقطاتها.
وهو جزء لا يمكن الاستغناء عنه في العمل الفني ما دامت الحياة تباركه ومادام هو أحد حقائقها الكبرى، وما دام جاء توظيفه على نحو يحقق للنص الحيوية والتميز .
- أما عن الوعي ودرجته في أعمال إدوار الخراط فهو على درجة عالية من النقاوة والوضوح والدليل على ذلك هو لغة الأرابيسك القريبة من الشاعرية، والتشكيل الزخرفي اللغوى، والفسيفساء الدلالية المنبثقة داخل تضاريس وتجاويف أعماله القصصية والروائية التي تميز عالمه تميزا خاصا.
- فضلا عن أنها تتيح لهذا العالم التوحد مع لغته وإلى مرجعيتها القديمة في طقوس المعابد، والصلوات ورموز الكهنة، وقصائد المتصوفة القدامى المسلمين والمسيحيين، والأناشيد الكنسية والأذكار الصوفية، فتهيمن اللغة على الكتابة وبالتالي تهيمن الكتابة على متلقيها فيتحد بها ولا تسلبه.
- أما قوله بأنه يكتب وهو ليس واعيا تماما بما يكتب فهو أمر غير مقبول، ولا مستساغ،

- أما الرقابة الداخلية، ذلك الرقيب الآخر الملتحم بكل كاتب جزء من ذات نفسه عليه أن يصارعه، أن ينفيه نفيا إذا استطاع، فإننى في الحق لا أكاد أعرفه، لا أعيه. "أعرف عقليا أنه هناك، أليست "الأنا" العليا، بالتعبير الفرويدى القديم، جزءا من الذات لا صحة لها إلا بوجوده، بل لا قوام لها أصلا إلا بقيامه ؟ لكننى في لحظة الكتابة، في حميا هذه الدفقة وتحت ضغطها الذي لا يطاق، لا أعرف هذا الرقيب، لا أحس له وجودا."

- "تكاد تكون تجربتي، أثناء الكتابة، أقرب ما تكون إلى الخبرة الصوفية أو حتى خبرة العشق الصراح، انجذاب كامل في دوامة كأنها إيروطيقية. بمعنى أن "الخارج" و"العالم" كله يوجد، كأنما لأول مرة، بمعنى من المعانى، لكى يتجلى كله، ويتخلق كله، في مستوى آخر تماما، ويكاد "الداخل" أيضا أن يتجلى لأول مرة، وفي كل مرة، حارا وساطعا وملتبسا ومتوهجا لا راد لسطوته، هذه سطوة مختارة بوعى مسبق بائد في لحظة الكتابة، وبلا وعي، بمعنى ما.
- في تلك اللحظة نفسها.. أكاد أقول إننى أكتب وأنا لست واعيا تماما بما أكتب.
- تتدفق وتتخلق الأشياء. أشياء العالم وأشياء الروح معا، كأنما من تلقائها، ولكنها في واقع الأمر ليست من تلقائها، في واقع الأمر كان الاحتشاد الطويل قد أعمل عمله، وخاصة ذلك الجانب الذي يمكن أن نسميه "الناقد" أو "الرقيب" أو "القارئ" المتضمن أو ما شئت من تسميات."
وهو كما يقول أيضا "ما زالت تراودني مشروعات قديمة أن أكتب الشبق، كما فعل أجدادنا، بكلماته الصريحة البسيطة ذات الحروف الثلاثة. ما دام ذلك يأتي من ضرورة سياق العمل الفني وحتميته.
هذه حرية ما زالت مفقودة عندنا بعد أن كان تراث ثقافتنا قد اكتسبها لنفسه، ولنا، وحفظها لنا.

ما أبعد ذلك كله عن الفجور أو البذاءة "التي هي أساسا في ذهن المتلقي" والقائمة على أنانية وقمع روحي وغلواء عمق النفس.
- فإذا كان حقا أنه لا حياء في العلم، ولا حياء في الدين، فكم أحرى أن يكون حقا أنه لا حياء في الفن."

- من هذا المنطلق نجد احتفاء إدوار الخراط بالجنس المبني على الصراحة المغلفة بلغة شفافة تكاد تغطي واقع هذا الجنس. وهو يأتي من خلال تصوير العلاقة بين الحلم والواقع أو بين "رامة وميخائيل".
وحيث أنه لا حياء في الفن، لذا فإنه يجب الاقتراب من حدود التسجيلية الجنسية، ولو بقدر يسمح بإثارة الموقف وتوهج معانيه وإضاءة دلالاته.
لذا نجد أن هذه العلاقة تذهب إلى حدود بعيدة كما كانت بين "بول" و"ميريام" في "أبناء وعشاق" لـ د . هـ . لورانس، وبين "مدام بوفاري" وعشيقها في رواية "فلوبير".
نفس العلاقة الصاخبة التي تشير إلى المرايا العاكسة التي تشبع خصوبة فتحيل نارها إلى وهج يضئ الطريق إلى الرغبات المدفونة لكل هذه الشخصيات، وهو ما نجده في شخصيتي "رامة وميخائيل" واضحا جليا في "رامة والتنين".
- والجنس في روايات إدوار الخراط ينقلب أحيانا إلى عواطف سامية، وهو تصور نسبي إلى أبعد الحدود بين الكاتب ورؤيته، وبين المتلقي وهضمه لهذه الخاصية.

وكما يقول أندريه جيد في محاضرة له عن ديستويفسكي "إنما بالعواطف السامية تخلق أدبا غير سام."
ولم يكن يقصد هنا طبعا العواطف النبيلة الحقيقية، بل تلك الباهتة التي يصطلح الناس على أنها سامية، لذا نجد أن إدوار الخراط قد حقق مقولته بكتابة الشبق ليس كما كتبه الأجداد ولكن بطريقته المعاصرة .

وكما يقول سامى خشبة في دراسته حول "رامة والتنين مأساة مصرية" حول الأهمية الخاصة برواية "رامة والتنين" والهدف من التعبير عنها بهذا الطراز من الكتابة هى أن:
- "إدوار الخراط عندما كتب هذه الرواية، إنما كتبها من منطلق واضح فيها كل الوضوح، حول تجربة الحب الضائع، التي يعيشها مثقف مصري قبطي تكونت ثقافته باعتباره (قبطيا) ينظر إلى الأشياء، وإلى تاريخ مجتمعه ولغته، من منظور فهمه الخاص لتاريخه الذاتي.

ورغم أن ميخائيل (إدوار) يدخل تجربة الحب باعتباره (رجلا) فحسب، فإنه لا يعيشها بهذا الاعتبار المجرد، وإنما لا يعدو الأمر أن يكون ترميزا للمعادل الموضوعي الواضح في فكر ورؤية الكاتب، للعلاقة بين رامة وميخائيل، أو العلاقة بين رامة وتاريخ مجتمعها التي تسعى إليه وإلى إعادة بلورته مرة أخرى.

لذا نجد أن إدوار الخراط يلجأ إلى التجريب، والرمز للاتكاء على هذا المعنى في كثير من أعماله القصصية والروائية.
- إنه يتكئ على المستويات الزمنية المتعددة ليحقق منها الإبهار المعنوي المقصود،
- وليعقد من خلالها بينه وبين المتلقي نوعا من التواصل الحار،
- والصلة الحميمة النابعة أساسا من وهج التجميع خاصة ما يتصل مع الأنثربولوجي المصري والقبطي، وكذا التعامل مع الفصل القصصي المتواتر بحكائية خاصة تستمد خطوطها من التلاحم السخي مع اللغة.
ومن التواصل الدائم مع مفردات الموقف، ومن خلال المكان الأصيل الذي عايشه الكاتب ووضحت ملامحه المتميزة في خلفية السرد الروائي المتواتر والذي شهد أيضا منابت الشخصيات الروائية المتواجدة فيها ومعها الكاتب.
شوقي بدر يوسف-ميدل ايست أونلاين

ايوب صابر 06-15-2012 11:48 AM

التصوف كبنية روائية


نبيل سليمان


بعدما فعلت الصوفية فعلها في التراثي والحداثي من التجربة الشعرية العربية، أخذت تفعل فعلها في التجربة الحداثية الروائية، عبر العقدين الماضيين. ويمكن للمرء أن يميز هذين التعبيرين عن ذلك الفعل:
1-التعبير الثقافي: حيث يكون لعلامة أو أكثر من علامات الصوفية، حضور أكبر أو أصغر في الرواية، سواء في اللغة أم في روحية بعض الشخصيات وممارساتها. ومن هذا القبيل تبدو رواية الطاهر وطار (الحوات والقصر)، حيث جعل للصوفية قرية باسم (التصوف) ترسم لحظة دينية ومعيشية من بين لحظات القرى السبع. ومثال (الحوات والقصر) يعود إلى مطلع الثمانينات حين بدأ الفعل الصوفي في الرواية يتواتر. أما مثال رواية (فردوس الجنون) لأحمد يوسف داوود، فيأتي في نهاية التسعينيات ليقدم شخصية الراهب سليمان كتعبير ثقافي عن الفعل الصوفي. فالراهب سليمان الذي كان أستاذاً للفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، يعتزل في صومعة وفي الفيلا مع الكتاب الهندوسي (المنو سمرتي) والحلاج وابن عربي والمعري والسهروردي، ليغدو قناة الكاتب الفلسفية والصوفية. وثمة تعبير آخر في هذه الرواية عن الفعل الصوفي جاء في بعض حالات الجنون التي ترسمها، كحالة (الجنون المحترم)، أي أن تقفز بين العوالم وتعلن عن روحك، حتى لو لم تقل إلا الكلام الذي تفهمه وحدك.
وقد يكون التعبير الثقافي عن الفعل الصوفي في شخصية المرأة، حيث يتلامع الاتحاد والحلولية، كما في رواية سليم مطر كامل (امرأة القارورة) ورواية (النعنع البري) لأنيسة عبود ورواية (هشام) لخيري الذهبي، ورواية (فردوس الجنون) أيضاً.
2-التعبير الكلي: إذا كان الفعل الصوفي في التعبير السابق يظل محدوداً أو خارجياً أو عابراً أو استعراضياً، فهو في حالات -روايات التعبير الكلي يغدو فعلاً بنيوياً حاسماً وشاملاً، يعني البناء واللغة والشخصية والدلالة وسائر ماتقوم به الرواية. وإذا كانت رواية (رامة والتنين) لإدوار الخراط قد أعلنت عن ذلك عام 1980 بامتياز، فقد أسرعت الثمانينات بكتاب (التجليات) لجمال الغيطاني. وربما كان التعبير الأكبر التالي في رواية وليد إخلاصي (باب الجمر) وفي أغلب ما تلا من روايات الغيطاني والخراط.
لقد بات لعناصر التجلي والكشف والحب والنفي والجسد والكوني والخلود والاتحاد والحلول والمعرفة والحق وسواها من عناصر التجربة الروحية الصوفية، فضلاً عن التعبير الفني عن هذه التجربة، بات لذلك كله فعله العميق في البنية الروائية وفي الشخصية الروائية. وإذا كانت شخصية (محبة الجمر) في رواية وليد إخلاصي (باب الجمر) تجسد بعض ذلك، فإن أغلب روايات إدوار الخراط وجمال الغيطاني عبر
الثمانينات والتسعينيات تجسد كل ذلك. وهاهي هذه العنوانات للغيطاني تؤكد المثل القائل (المكتوب يقرأ من عنوانه): (رسالة الوجد والصبابة، دنا فتدلى، خلسات الكرى، شطح المدينة)، فضلاً عن (كتاب التجليات). ولأن هذه المقاربة ستركز همها في ثلاثية (رامة والتنين) لإدوار الخراط، وبخاصة في جزئها الأخير (يقين العطش) والصادر عام 1996، فسأكتفي بالإشارة إلى ما في (خلسات الكرى) من أمر الأنثى الصوفية التي تتعدد أسماؤها وصفاتها: الباسقة، النغمية، الروية، الشهابية، الملكة، الثريا، السنبلة، الجوهرة، البلبلة، المتكوكبة، والأنثى المجرة. وبينهن "الوافدات عليّ من حيث لاأدري، من لم يسعين قط في عالم الحسّ".
هذه الأنثى الصوفية كونية الجمال، شيرازية الطلة، بابلية العينين، قاهرية المدى، قرطبية الضمة، سكندرية النسيان، أرضية الغواية، مجمع للآفاق. ولأنها كذلك يغدو فضاء العمارة جسداً أنثوياً، وتتوحد الأنثى بالموسيقى في الوشاح الصوفي، ويكابد الراوي الذي يحمل من سيرة الكاتب كثيراً، يكابد الشجن والمقامات والآنات والنشيج المكتوم والطرب. وهو منذ مفتتح الرواية يحمل من طفولته في قريته (جهينة) ذلك (التحنين) الذي تصدح به نساء القرية قصد إثارة الأشواق إلى أرض يثرب ومكة. أليس للرواية إذن أن تصدح بنداء النظام والشيخ الأكبر ابن عربي؟ لقد ضيّع الراوي تلك المراكشية، وكاتبه مريد بامتياز لابن عربي، فليكن هذا النداء الصوفي لتلك الأنثى الصوفية، وليرمح الخيال الصوفي بالعبارة كيما تقوم (خلسات الكرى) كرواية، ولكن من دون أن تستأثر مع ماسبقها، وماتلاها من روايات الغيطاني، لابعالمه الروائي ولا بأسلوبيته، كما تدلل بقوة روايته (حكايات المؤسسة)، وبخلاف ماغلب على التجربة الروائية لإدوار الخراط منذ أسرته (رامة) عام 1980.
***
بعد ستة عشر عاماً من صدور (رامة والتنين)، باتت ثلاثيةً، بصدور الجزء الثاني (الزمن الآخر) والجزء الثالث (يقين العطش). وفيما كتب الخراط من روايات أخرى، عبر ذلك، كان للصوفية القبطية والإسلامية بخاصة والكونية بعامة، فعلها الأكبر. ولئن كان التعبير الثقافي عن هذا الفعل هو ماغلب على الروايات الأخرى، فالتعبير الكلي عن هذا الفعل هو ماحكم الثلاثية، عبر شخصيتها المحورية (ميخائيل)، وفيما عاشت من تجربة الحب لرامة.
بالطبع، وكما يليق بالصوفي، جاءت رامة امرأة استثنائية. ومنذ الجزء الأول الذي ناصف اسمها عنوانه، ترسمها الرواية هكذا: "المرأة الإلهية العرافة الطفلة الضاحكة الحارة التعسة، العابثة الداعرة القديسة العذراء الأبدية...". إنها امرأة لم تكن من سلالة البشر، لا نهاية لها الآن وأبد الدهر، وميخائيل الذي يراها غريبة يراها أيضاً جزءاً منه، لا انفصال له عنها.
هذه الممرضة التي تقرأ اللغات القديمة وتكتب الروايات وتعمل في ترميم الآثار وتطوي عشاقها -وتلك علامات سيرتها في الثلاثية الروائية- تومض في حياة ميخائيل وتختفي، تنقضها وتقيمها، فيهتف "أحبك حباً كاملاً، نهائياً، دون تحديد". ويرسم ميخائيل هذا الحب كجوهر ومطلق. ومنذ هذه البداية في الجزء الأول سينفي ميخائيل -شأن الصوفي- أن يكون الحب من قبيل الكفاءة، أو عدمها، فليس فعل الحب هو الموضوع، بل الحب نفسه. وسنقرأ في (يقين العطش) أن "الحب ليس هو -وحده- أبداً، فهو "دائماً شيء آخر، بل تتجسد فيه دائماً أشياء كثيرة أخرى، ملتبسة، من معاني الحياة نفسها، بل الوجود". كما
سنرى ميخائيل في الجزء الثالث ينفي معرفته بالحب، ويقول: "لعلني أحب الحب نفسه، بشكل ما، على طريقتي الخاصة، ولعل معرفتي الوحيدة أنني أحبك".
لقد افتتح الجزء الأول بالتوكيد على أن الحب هو الشيء الوحيد الذي لايحتاج إلى تبرير، بل يأخذ ويعطي دون سؤال. كما أسرع هذا الجزء بالسؤال عما إذا كان الحب هو هذا النداء الذي لا رد عليه أبداً، ولاينقطع. وسيلي أن الحب "عرامة شوق للحياة، لا تنطفئ أبداً، إيمان كلي بأن الإنسان لايمكن أن يظل وحيداً، وأن الحب ليس كذبة". بيد أن ميخائيل كان قد رأى الحب لعبة، وسيراه فيما بعد كذبة، وهو الشهوة العارمة للخلاص من الوحدة. ويتوسل ميخائيل للتعبير عن حبه العديد من المتناصات الصوفية، فهذا شاعر صوفي يقول:
أرى الأيام صبغتها تحول

وما لهواك في قلبي نصولُ
يخاف من النوم من كان حياً

وإني بعدكم رجل قتيل

وهذا آخر يقول:
فما حال في سري لغيرك خاطري

ولا قال إلا في هواك لساني

وهذا أبو منصور الحلاج يقول: "حويت بكلي كل حبك". وهذا القديس أوغسطينوس يقول: "بحثت عن الحب، في الحب، مع الحب، وكنت أمقت الأمان". وتتوالى الأقوال: "تحمّل قلبي مالا أبثه، وإن طال سقمي ومكنون إخباري"، "من لم يمت في الحب لم يعش به"، وأخيراً، وليس بآخر، هذا ذو النون الإخميمي، (بلديات) ميخائيل وإدوار الخراط، يقول: "أعرف الناس بمحبوبه أشدهم تحيراً فيه".
تلك بعض المتناصات في "يقين العطش"، وقد أشار الكاتب في نهاية الرواية، بصدد سائر المتناصات، إلى أنه لم يثبت مظان مااقتطف من تراث الصوفية والشعر المأثور والصحف اليومية، لأنه عدّها من نسيج الرواية. كما حرص الكاتب على أن يكتب بيت الشعر العمودي، حيثما ورد، بلا فصل بين الشطرين، توسّلاً شكلياً منه لمآل المتناصات -كقطبة- قُطَب من نسيج الرواية، فيما أحسب.
والمهم الآن أن ذلك الحب الصوفي من ميخائيل هو لرامة، لذلك كانت كما مر بنا امرأة استثنائية. لكن رامة امرأة من لحم ودم، جسد متعيّن، فكيف رسم الصوفي هذا الجسد؟
إنه الجسد الغني الوثير، القديم قدم الأزل، المتقلب بطينه، المتوفز بالشباب الغض، المتفتح بالرغبة الدائمة. ومن هذا الرسم في بداية الثلاثية إلى منتهاها يتساءل ميخائيل: هل الفيزيقية المباشرة الصريحة، هل الجسدانية البحتة هي النقية الخالصة لذاتها وبذاتها؟ وبقول ميخائيل، فإن عبادة رامة للجسد تجعلها مقدسة ونقية وإلهية: "أحسّ في هذا التمجيد غلوّ العابدين الذي يشارف الكفر، أو أن فيه سنتمينتالية لم تعد مقبولة في هذا العصر"؟ وكذا، فليس هناك غير الجسد، والجسد جميل، لكنه ملتبس، وجسد رامة خالص الجسدانية، لكنه غير مصمت، غير خالص الوحدانية، أما جسد ميخائيل فغريب "عصي عليّ، غير مطاوع، جامد مفصوم".
هذا إذن جسد المحبّ، وذاك جسد المحبوب الذي هو جسد العالم. والجسد الذي يعنون فصولاً في الرواية (جسد ملتبس -جسد طعين- جسد غامض الوضاءة: يقين العطش)، ينهض فيها برمتها جسداً
صوفياً بامتياز، على الرغم من الإلحاح على الوصف الفيزيقي والفعل الجنسي، فهذا الإلحاح محكوم بالحب الصوفي، وعلاقة الجسدين صوفية، أي أنها علاقة اللذة والألم، العلامة التي تنهك الجسد، وتتجاوزه، وتدغمه في جسد الكون، ليكون وصال الجسدين واتحادهما، اتحاداً بالكون.
غير أن هذا الوصال ملفوع بالألم واللوعة، ولحظة الفقدان كما نقرأ منذ البداية لا تنتهي، وإذا كان ميخائيل يخاطب رامة هاهنا: "أنا وأنت وقد أصبحنا نحن "فشوق الحب لا ريّ له، والعالم معجون بالألم. وفي (رامة والتنين) يعبر ميخائيل من جديد عن النحن التي اتحدت فيها الأنا والأنت باعتبار الأساس هو التوحد: "ألا يكون هناك الأنا والآخر، ألا يكون هناك اثنان، بل واحد، عطاء متبادل كامل وأخذ متبادل كامل". وفي الآن نفسه يقوم النفي، فنظرة رامة لميخائيل، كما يعبر، ليس فيها حب ولا بغض: "بل مجرد انقطاع لكل صلة، ونفي حتى للنفي نفسه، نظرة كائن من عالم آخر، ليس علوياً ولا سفلياً، ولا يحاذيني ولا يتجاوزني ولا يضمني ولا ينفيني فأعرف أنه النفي إلى أبد الآبدين"؟ ويخاطب ميخائيل نفسه قائلاً: "أنت عندما تفقد شيئاً تعرف أنه لن يعوّض، ولا يعوّض، وترفض مع ذلك، ترفض هذا الحس بالفقدان".
إنها علاقة من الوجد والاتحاد والانفصام والألم والفقدان والنفي، ليس لأن المحبوب غير معني بالمحب، بل لأن المحب لايروم سوى علاقة كهذه. وتلك هي الجملة الأولى في "يقين العطش": "كان حسه بالفقدان الذي لايعوّض عميقاً". وسيوالي التنازع بلا كلل، فميخائيل ينقض ما أغفل، وينفي ما أثبت، والحب قائم في وجه كل نقض، غير أن النفي لا يزول، وهاهو العاشق الصوفي يسائل معشوقته: "وكان فيك تلفي، فهل كان فيك -أيضاً- بقائي؟".
ولأن قارئاً قد يعاجل هذه العلاقة بالرومانتيكية والنوستالجيا وربما بالمازوخية أوالسادية أو سواهما من التحليل النفسي، أياً كان مذهبه، فإن ميخائيل يعاجل أيضاً إلى نفي الرومانتيكية عن الألم الملازم ولعلاقته برامة، ويرى مرة أن الألم واقعة حسية فقط، ثم يرى أنها قد تكون واقعة روحية. وميخائيل يهجو الألم: إنه شيء خشن، شعث، غير جميل بأي معنى، لكنه يعايش الألم متلذذاً، فهل من عجب أن يردد مع القائل، في متناص جديد:
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي

وعيني على فقد الحبيب تنام

ومادام الارتواء الكامل هو يقين العطش، فماذا يعني أن يكون الحب الجسداني بين امرأة ورجل شرطاً للحوار الكامل؟ هل يقين العطش هو -كما يتساءل ميخائيل- الفناء وتحدي الفناء معاً؟ هل من يقين وعطش ميخائيل لايطاق؟
قد يكون من المفيد هنا أن يلتفت المرء إلى المدونة الصوفية، على الرغم من متناصات ثلاثية الخراط معها، من أجل إضاءة الصوفي في هذه العلاقة بين رامة وميخائيل، فمماطلة رامة وصدودها هي مما قال فيه ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه

فعندي إذا صحّ الهوى حَسُنَ المطلُ

والحب لدى ميخائيل هو مما قال فيه ابن عربي: "الحب يزاوج بين طلب الفناء وطلب البقاء... يدعوك إلى طلب المشاهدة فيفنيك عنك، ويدعوك إلى طلب إمساك الأمر فيبقيك معك" (كتاب الحجب). وكتابة جلّ الرواية في وصف رامة هو مما قال الجنيد في المحبة: "دخول صفات المحبوب على البدل من
صفات المحب". ولوعة ميخائيل هي مما قال فيها محمد بن سوار بن إسرائيل:
وهل تتحمل النكباء مني

إليهم حاجة القلب الكئيب
فتخبرهم بحفظ الود عندي

وإن أضحى صدودهم نصيبي

فلنمض الآن إلى الفعل الصوفي في الزمن الروائي وفي الفضاء الروائي، حيث سيترجع في منتهى ثلاثية الخراط صدى البرهة الطللية في القصيدة الصوفية، فتقرأ: "هذه الأطلال صروح مازالت شامخة وقائمة الأركان، حتى إن كان أهلها قد رحلوا عنها. رامة مازالت. ليست رسماً دارساً طوحت به عاصفات الليالي، بل هي حضور،". ويتوج فصل "جسد ملتبس" من "يقين العطش" هذا البيت لجرير:
حيّ الغداة برامة الأطلالا

رسماً تحمّل أهله فأحالا

ولاينسى ميخائيل أطلال رامة على طريق بيت اللّه. ولعمري، كان قميناً به أن يردد خلف ابن سوار أيضاً:
سلام قد تضمّن كل طيب

على جيران رامة والكثيب

تستدعي البرهة الطللية ما انقضى، منتكبةً الحاضر، ولائبةً على المستقبل الذي يعيد الماضي. وهذا القوام الزمني هو ماتأخذ به الرواية، فالحاضر يظل باهت الحضور وضامر الفعل، يظل كحاضر الصوفي قفراً وكآبة وانكساراً، هكذا تبدو التسعينيات المصرية في "يقين العطش" عبر ماترسم من الأحداث الطائفية في المنيا أو من تهريب الآثار وترميمها. وقد تكون الاستدارة عن الحاضر في الجزء الأخير من الرواية أقل أو أصغر منها في الجزأين السابقين، لكن العين تظل لائبة على كل حال خلف "الزمن الآخر". وهكذا يقوم بناء الرواية على الفصول الطويلة التي تستعيد ماعاش ميخائيل ورامة، بالتزاوج المحدود مع لحظة ما من الحاضر، وبالنشدان بين حين وحين لمستقبل يتجاوز الوجود الشقي (الحاضر) ويعيد الماضي السعيد والفردوس المفقود.
ربما تشي لعبة الزمن هذه في ثلاثية الخراط بالتزامن والتكسير والاندغام بين الأزمنة التي يقوم بها زمن الرواية في التجربة الحداثية بعامة. لكن الثلاثية تكتفي من ذلك بأهونه، شأن القصيدة الصوفية. فمزاوجة خطي الحاضر والماضي، مع غلبة الأخير، ومناوشة المستقبل لماماً، هي ديدن الثلاثية التي لاتغيب عنها الرحلة أيضاً، شأن القصيدة الصوفية، سواء أكانت رحلة في الفضاء الطبيعي والعمراني والآثاري، أم كانت رحلة روحية ومعراجاً.
يقول ميخائيل إن قضيته هي أن الماضي لاينقضي. ويقول أيضاً إن الرحلة عنده متصلة في عتمة ضاربة الضوء وسرية، وليست مراحل. وفي (حركة) ترميم الآثار في مآل الثلاثية يعد ميخائيل الترميم كذباً. والفن كذباً، لأنه تجميل، والأصل بكل خشونته أو بهائه أو بكارته، لن يقوم. وللماضي، للأصل الذي لايستعاد مهما بذل الباذل، جماله الخاص الذي لاينبغي ولايجوز إصلاحه أو تعديله أو إعطاؤه صورة مغايرة، مهما كانت مشابهة أو مقاربة، أو حتى مطابقة، لأنها ليست الأصل.
تثبيت هو للماضي إذن وتمجيد، ويأس من الاستفادة يضارع ويصارع نشدانها. إنها المأساة التي تلفع الوجود، فلا يكون لميخائيل سوى أن ينقذف في الكوني، كصوفي حيث الفضاء الطبيعي، والخلود، وحيث
الحق. وتلك هي السيرورة الصوفية للرواية في الزمان والمكان، فالماضي والحاضر والمستقبل طيّ الخلود، والبيوت والفنادق والمناطق الآثارية والحدائق والشوارع.. طيّ الفضاء الأكبر: طيّ الفضاء الطبيعي.
في الجزء الأول تحضر الصحراء اللانهائية والنيل والورقة والغصن والحمامة وموجة الزمن الزرقاء الخضراء والزرقاء الثابتة، ويحضر وجه رامة الماثل أبداً في الزمن. وإذ تأخذ ميخائيل صدمة كشف تتفجر تلك العناصر في الفضاء الكوني، فإذ برامة كالكون كله، فيها قبس من كيان متقد متسام وإلهي، وحكايتها مع ميخائيل هي حكاية كونية إلهية، وهما يضربان في عالم خاص قد تحرر من القيود ومضى في طريق بهجة كونية من الحرية والطاقة المبذولة بسخاء.
يسأل ميخائيل محبوبته: "هل تظنين أنك أنت -الحقيقة- موجودة في قلب هذا التيه.. هل تظنين أنك أنت موجودة في كل عالم من هذه الأفلاك التي تتماس، ولكن لا تتداخل، تتساوق ولكن لاتتقاطع أبداً، في كل عام، وحده، من هذه التي تدور، غريبة كل منها عن الآخر".
هذا السائل هو عينه من صاغ من رامة امرأة خالدة، وخاطبها: "أنت محدودة ومحددة، دانية البحث عن كمال ما، مفقود، وكأنك كاملة، وكأنك خالدة لاتموتين". ورامة تتناسخ من قميص إلى قميص، فهي إيزيس إلهة الحب القديمة والأولى والدائمة، هي العذراء وأم موريس، وأم المسيح وسنتا الطاهرة وعشتروت وهيرا وديميتر وأفروديت، هي جماع المريمات، والجوهر غير الفاني (رامة والتنين). ورامة هي نعمة، حوريس، حتحور، ليليث، إينانا الأميرة ميريت، بنت الملك رمسيس الخامس، زهرة القمر المنير، محظية السماء، محبوبة رع، أم الإله، بنت رع... (يقين العطش). وأياً كانت أسماؤها، فهي ذات ميخائيل الأخرى كما يجهر.
لكنه أيضاً يرى الأبد كلمة لامعنى لها، والبحث عن الدوام صبياني وبدائي قليلاً، ويخاطب نفسه: "أنت ترى نفسك ميتاً، وتعيش مع الموت، تعيش الموت، تحمله معك، تصبر عليه، وتعانيه، أنت تحمل ميتاً في داخلك، والميت هو أنت أيضاً، قبر متحرك يواري هذا المدفون من غير عطاء ولاكفن".
المحبوبة خالدة إذن والمحب ميت. والخلود والموت، أو الفناء بحسب الإيثار الصوفي الذي يردده ميخائيل، وهو القائل باشتياق الجسد إلى الفناء في الجسد الآخر. إنها أبدية الحب الصوفي التي تتشظى في ثنائياته الشهيرة: الحياة والموت، البقاء والفناء، الجسد والروح، المحب والمحبوب، الهجر والوصال، النقصان والاكتمال، والسلب دوماً في الذات المحبة، والإيجاب دوماً في الذات المحبوبة. وبالطبع، لامكان للمنطق ولا للعقل في هذه المعادلات -الثنائيات، فميخائيل الصوفي يخاطب رامة "لا أحب المنطق. هنا لا أحب العقل"، والطريق سالكة إلى الجنون، وأولها الخمر والسكر.
في (رامة والتنين) حوار مطول بين الحبيبين حول الدونيزية بعامة، وفي ميخائيل بخاصة. والخمر بصنوف لاتحصى لايكاد يغيب عن لقاء الحبيبين، فالنشوة حد الجنون مطلوبة، والجنون غاية ووسيلة، بالخمرة وبدونها. كذلك يتساءل ميخائيل وهولات الجنون جراء علاقته برامة، تصفعه: (هل أنا أجن؟).
لقد سبق النوري إلى القول "العقل عاجز لايدل إلا على عاجز مثله". وسبق ابن عربي إلى أن عدّ الجنون سقف المعرفة في حديثه عن عقلاء المجانين. وهاهو ميخائيل يتقفى هذه الدرب الصوفية، حيث ثنائية العقل والقلب، وصولاً إلى الحق والمعرفة بالرؤيا.
يقول ميخائيل في الجزء الأول مخاطباً رامة: "المعرفة المحرقة هي معرفة من أحب. هذه هي المعرفة، فيم تفكرين؟ كيف تحسين؟ ماذا تقرأين؟ بم تحلمين؟ كيف تتنفسين حتى؟ ماخطاباتك، رؤاك، هذياناتك المخبوءة؟ ماذا في حقبيتك؟ ليس هذا فضولاً، والمعرفة ليست الملكية ولا السيطرة، هي الحق، وحدها، هي الحب". وهذا الحب -الجنس- المعرفة يملأ كل فجوات الماضي والمستقبل، من كما يضيف: هذا الحب ليس تملكاً ذكورياً ولا انتهاكاً للمحبوب، كما سيلي في (يقين العطش)، فميخائيل يرى نفسه مقوماً أساسياً من مقومات جسد رامة. ولئن كان في "رامة والتنين" يرى الحق انهداماً للأسوار وتدفقاً لمياه الحياة المختلطة، فهو في "يقين العطش" يبدي ويعيد في التوله وفي التصوف بالعشق، وفي المطلق توقاً إلى " معرفتك معرفة شاملة في استضاءتك النورانية، وفي مباذلك الأرضية معاً، المعرفة الشاملة، الحب الكلي.
تلك هي الدرب الصوفية التي يحدو لها ابن عربي مرة، إذ يقول: "لو علمته لم يكن". ومرة إذ يقول: "سفور الحقيقة هو إفناء لكل عين سواها". وميخائيل في مضيه على هذه الدرب، شأنه شأن الصوفي، ستغدو عبارته تشبيباً بالمحبوب، وصفاً ومناجاة ومسائلة، وستكون مرة بعد مرة شطحاً، فالشطح -كما قال الطوسي- كلام ترجمه اللسان عن وجد، وميخائيل قد أخذه الوجد، فهو لاينطق عن ذاته، وإنما عما يشاهد، كما قال الجنيد في شطح الصوفي، والمشاهدة هي للمحبوب الذي حدده الجنيد باللّه، وحدده ميخائيل برامة جسداً ورمزاً.
لقد تخللت لغة الرواية حوارات بالعامية ومفردات ومتناصات، مما وشى بتعدد مستويات اللغة، ولكن تحت هيمنة اللغة الشاعرية التي تصل إلى الدفق وغنة الغناء والإصاتة والهزج، حيناً بعد حين ، ولعلي لا أبعد إذ أعود إلى ماقال الشاعر الصوفي حسن رضوان في قول المتصوفة:
فإنهم أجلّ من أن تفتقر

أقوالهم إلى قياس مشتهرْ
أو اشتقاق إذ لهم قانون

ساروا به وسره مكنون
فلفظهم أقواله لاتفتح

إلا بذوق أو بكشف يمنح

فثلاثية الخراط لاتسير في نهج مطروق، وربما كان ذلك ما التبس على ناشر الجزء الأول في طبعته الأولى، إذ عده مجموعة قصصية. وهذه الثلاثية غير معنية بأن يغمض بعضها على قارئ. وقد التفت الخراط في هذا الجزء إلى صنيعه اللغوي والبنائي فقال: "ولعل هذا الدفق من الكلام ليس إلا جسراً رقيقاً لا قوام له فوق المهاوي الغائرة المظلمة والمفتوحة في عمق الروح القلقة والأحشاء المتقلبة بالهوى والمضض والاشتهاء والجنون". وفي مقام آخر يضع الخراط لعبته الروائية موضع التساؤل، فنقرأ: "ألا ترى أن هذا الشعر أو التصوف، أو مالست أدري، هو بتر وبتشويه لنفسك أو للعالم؟ ألا تجد زيفاً وزيغاً وكذباً مقصوداً أو غير مقصود. أبيض أو غير أبيض، في هذه الزخرفة الشعرية أو التصوفية أو مالست أدري؟".
هكذا جاء التعبير الكلي عن الفعل الصوفي في ثلاثية الخراط. ولعل هذا التعبير هو مادفع فيصل دراج إلى أن يصف لغة الكاتب بلغة المغترب المتعالي، أو مادفعه مع دوافع أخرى لأن يرى في هذا الشطر من التجربة الحداثية الروائية كهانة جديدة، بينما نعتها غالي شكري بالحداثة الكهنوتية. وفي زعمي أن التعبير الثقافي أو الكلي عن الفعل الصوفي في الرواية يمكن له أن يوفر ويتوفر على حفر في التراث
الديني غير الرسمي، وفي الذات، كما يمكن لهذا الفعل أن يشرع الأسئلة في الرواية على الكوني والإنساني عبر مفاصل الإيمان والموت والحب والجسد والطبيعة. فضلاً عن تطلب ذلك كله إلى لغة -لغات أخرى. بيد أن الأمر ليس بهذا اليسر، فالمزالق تحف بالدرب، ومثال الشعر ماثل للعيان، كما هو الأمر في تجربة إدوار الخراط، حيث وصل اللعب اللغوي إلى المجانية في مقاطع الدفق التي تتوخى جرس حرف ما (من رامة والتنين: حرف الحاء ص92- من يقين العطش: حرف الضاد ص215...). والأهم هو هيمنة الزمن الذاتي غير التاريخي على الزمن التاريخي، فمع هذه الهيمنة يتقدس الماضي، ويكون مايتعلق بالحاضر وبالمستقبل في الرواية تكأة للماضي واستعادة، وتتوحد الذات وتتضبب الرؤيا، فهل ستعيد الرواية سيرة الفعل الصوفي في الشعر وما آلت إليه هذه السيرة من تأزم في التجربة الحداثية، أم إن الرواية ستستطيع أن تجعل من الفعل الصوفي فيها فعلاً مخصباً؟

ايوب صابر 06-18-2012 10:22 AM

إدوار الخراط : العرب امة لها حضارة عميقة وكلام ادونيس لايستحق الرد عليه

قال ان العراق مبنع ريادات لا ينضب
إدوار الخراط : العرب امة لها حضارة عميقة وكلام ادونيس لا يستحق الرد عليه
حاوره في القاهرة/ ماجد موجد
أول مرة قرأت لادوار الخراط كان نهاية العام 1988، قصة لا أتذكر اسمها كانت منشورة في مجلة كل العرب ولكن أتذكر بهجتي بها وباسلوبها الفاتن، أتذكر كم شدني المشهد العاطفي الساخن بين عاشقين يلهثان على درجات السلم،
- كم كانت اللغة شيقة ورشيقة في الوصف الباذخ،
اذ لم اكن قد عهدت مثلها من قبل.
قرأت بعد ذلك عنه اشياء كثيرة، مقالاتٍ وقصصاً وحوارات، في مطلع التسعينات واثناء وجودي في شارع المتنبي ببغداد لفتت انتباهي روايته "رامة والتنين" انتقيتها وقرأتها بشغف في ليلتين ليظل - ادوار الخراط واحدا من الكتاب الذين حفروا لهم مكانة متميزة في ذاكرتي وهي المكانة التي وجدت عديد اصدقاء من الادباء والمثقفين يتحدثون عنها بانبهار.
يمثل إدوار الخراط - حسب توصيفات النقاد والدارسين للسردية العربية
- تيارًا يرفض الواقعية الاجتماعية ولا يرى من حقيقة إلا حقيقة الذات ويرجح الرؤية الداخلية،
- وهو أول من نظّر للـ"حساسية الجديدة" في مصر بعد العام 1967.
- عدَّ كتابه الأول (الحيطان العالية) والذي ضم مجموعة من القصص منعطفاً مهما في التعبير القصصي إذ ابتعد عن الواقعية السائدة آنذاك وركز اهتمامه (على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس) وجاءت مجموعته الثانية (ساعات الكبرياء) لتؤكد هذه النزعة (إلى رسم شخوص تتخبط في عالم كله ظلم واضطهاد وفساد)
- أما روايته الأولى (رامة والتنين) التي صدرت في بيروت العام 1990 فقد شكلت حدثا أدبياً من الطراز الأول، وهي لاتختلف عما سبقها في قصصه حيث الانصات الى صوت الروح العميقة والذي جرى (على شكل حوار بين رجل وامرأة تختلط فيها عناصر أسطورية ورمزية فرعونية ويونانية وإسلامية.)
ثم أعاد الخراط الكرة العام 1995بروايته (الزمان الآخر) ووتتوالى من قبل ومن بعد كتبه لتصل الى اكثر من خمسين كتابا ما بين قصص وروايات وشعرٍ ونقدٍ وغيرها.
حين أتيت الى القاهرة كان من الطبيعي ان يكون ادوار على رأس قائمة الادباء المصريين الذين سطعت بي رغبة عارمة على ان التقي بهم واجري معهم حوارات. في الايام الاولى واثناء وجودي في الاسكندرية صادف ان التقيت مدير تحرير جريدة اخبار اليوم وهو الكاتب عبد الله مصطفى على طاولة في احدى المقاهي التي ظمت الصديقين الدكتور نصير غدير والسينمائي حيدر الحلو وشاعرين من ليبيا واثناء حديثي معه اخبرت الاستاذ عبد الله عن نيتي في اجراء حوارات مع عدد من الادباء ومنهم ادوار رحب بالفكرة وزودني بارقام هواتف بعضهم...ا
كانت اسباب كثيرة قد حالت دون تحقيق ما اردته ولكن قبل اسبوع فقط تحقق لي ذلك حين اتصلت بادوار وجاءني صوته نحيفا ومغمضا على متاعب كثيرة وبالكاد حاولت ان اوصل له معلومة توضح من انا وماذا أريد، وحين سمع اسم العراق من ضمن الكثير من الضجيج الذي القمته الى اذنه، عبّر عن سروره، اعطاني موعداً وطلب مني ان اكتب عنوان منزله..
وصلت الِشارع الذي يقع في نهايته منزل ادوار حينئذ تذكرت مدخل روايته (رامة والتنين) التي كنت قد اعدت قراءتها قبل ايام، انه شارع شبه مهجور لكنه انيق وفيه عبق من مزاج القرى الكبيرة حيث محاط باشجار الجميز والتوت والكافور المتداخلة مع بعضها، كانت السيارة التي تقلني بالكاد تنعكس اشعة الشمس على زجاجها من الاخضرار المتشابك والعصافير الخفية التي تندفع مرة واحدة هنا وهناك وهي تزقزق حاجبة ايضا شرفات البيوت النائمة تحت بلل صبح اخضر لم احسس بمثل سحره من قبل.
عمارة قديمة من ثلاث طوابق في الزمالك بمحاذاة النيل، هذا هو المكان الذي اختاره ادوار ليكون فيه مكمنه، سألت البواب فأشار الى رقم الشقة التي يسكنها ادوار.
ها انا امام شقته..يا الهي هل انا على اهبة الاستعداد لأجري الحوار؟ هل ان اسئلتي جيدة يمكن ان تكون سلسة؟ ممكن ان تكون محفزة حتى يجيبني دون ان اجهده،؟ حين وضعت اصبعي على زر الجرس، خرجت لي امرأة في الستين من العمر تقريبا هكذا قدرت،- لم اعرف ان كانت زوجته او اخته او ابنته لكنها اثناء ماكنت في المنزل كانت تنادي عليه(بابي) - شرحت لها ان لي موعداً مع الاستاذ ادوار، قالت بانه نائم وبأمكاني ان آتي بعد ساعتين، اردت ان اقول لها شيئا فردت وكانها تعرف ما ساقول، انه يصعب عليها ايقاضه وعلي ان اتي بعد ساعتين، فعلت ذلك وبعد ساعتين عدت طرقت الباب فخرج لي إدوار..


الشعر العراقي اعمق من عراقيته وعربيته

كان متعبا جدا، سمعه متردي وعلي ان ارفع صوتي كثيراً، لكن المشكلة ان اسئلتي فيها نوع من ترف الصحفي الذي يريد ان يجري حوارا يقال عنه انه مهم ولذا صار ارتفاع صوتي مع السؤال المركب على نبرة واطية يبدو نشازا ومخجلا وكانت اجاباته مبتسرة واحيانا مبتورة ولذلك ازاء مارايت الحالة التي هو فيها تغيرت بعض الاسئلة وقفزت على غيرها وبدأت من النهاية حين قال لي اهلا بالعراق
فقلت له بحنوّ ماذا لديك عن العراق؟
*الكثير.. العراق بلد عظيم وهو منبع ريادات كثيرة، الريادة في العراق هي قدره وحظوته لو نظرنا فقط الى تجاربه الشعرية فهذا يكفي، الشعر العراقي شعر انساني حتى في خطابه الذاتي، تجربة السياب مثلا تجربة شعر انساني عالمي اكثر منها تجربة شعر عراقي او عربي وغيره الكثير مما اطلعت عليه حتى مطلع الثمانينات لكني اعرف ان هناك تواصلا مع هذا المناخ الخلاق في المراحل التي تلتها.
_وماذا عن الرواية والقصة؟
*لا يختلف الامر إلا ان الرواية أوالقصة بتصوراتها ومفهومها الحديث قد تكون تعبيرا يبدو تاريخه ليس موغلا في الثقافة العربية بشكل عام، ولذا لايمكن ان نتلمس فيه نماذج عراقية خاصة ولكن في مسار الخطاب الروائي والقصصي العربي، لاشك ان العراق له مكانة متميزة حتى على الصعيد التنظير لهذا الخطاب، لايمكن ابدا مثلا ذكر الرواية العربية او القصة العربية وريادتها دون ان نذكر غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومحمد خضير وسواهم لقد تركوا اثرا مهما وانا لي صداقة مع غائب وفؤاد لقد التقيتهم اثناء زيراتي للعراق ولدينا رؤى مشتركة.
_كم مرة زرت العراق؟
*لا اتذكر كم مرة لكني زرته عدد من المرات ولا تسألني ماذا تتذكر من زياراتك ولماذا لاني صراحة لا اتذكر شيئا الان " استنه شويه" كانت زياراتي في السبيعينات والثمانينات في مؤتمرات ثقافية وبدعوة موجهة من اصدقاء لدي معهم نفس النظرة للكثير من همومنا الثقافية العربية.
- الا تتابع ماحدث ويحدث في العراق؟
*اتابع واعرف بعض ما جرى هناك " يصمت قليلاً ويتأوه" كما قلت لك العراق بلد الريادات وعليه ان يتحمل تبعات هذه الحظوة الخلاقة.. اعرف ان الامر ليس هينا وفيه الكثير من المشاق والمتاعب والتضحيات ولكن لدي يقين بان كل شيء سيكون في صالح شعب العراق لانه شعب عريق وله حضارة عظيمة.. كل شيء في العراق يؤكد انه سيكون افضل حالا وسيكون الدولة المتميزة في المنطقة والعالم العربي، سيكون مثالا لتبادل السلطة السلمية والانصات الى روح الانسان والمجتمع وتطلعاته" وابعدني عن السياسة ربنا يخليك".

قبل نضوجي كنت تروتسكيا

_ هل تعيب على المثقف ان يتكلم في السياسة ويخوض غمارها؟
*لا اعيب على احد ان يقول او يفعل اي شيء حين يكون مؤمنا به بشكل ناضج ومتفهم بعقل ووعي..انا كنت في مرحلة الشباب حين كان المد الشيوعي في اوج تدفقه ِشيوعيا تروتسكيا..
- وكانت لي مثل اقراني حماسة جامحة واحلام سياسية كبيرة اكبر من نضوجنا وتفهمنا ادخلتنا السجون اكثر من مرة،
- لكني لست نادما على مغامرتي تلك ومازلت اعش المغامرات لكني ارى ان المرحلة العالمية الحالية ترى ان كل شيء فيه نظام، اليساري واليميني.. المعارضة والسلطة، لم تعد الحماسات قليلة النضوج والتنظيم لها وجود (وكفاية لحد كده).
_طيب ان تحدثت بل نظرت منذ السبعينات عن الحساسية الجديدة في الرواية ما لذي كنت تعنيه؟
*- اسلوب جديد للتعبير السردي يعنى بالوصف الدقيق والصياغة المختلفة للموجودات في المكان والزمان والشخوص والمشاعر والانفعالات ولافكار هذا هو المعنى بشكل مختصر مع التبسيط.
- كانت ومازالت ثمة محاولة لايجاد ترسيمة او رؤية مختلفة للرواية العربية والاستفادة من امكانيات اللغة العربية في الوصف وسرد الحدث بطريقة اكثر حساسية.
_ماذا تقصد بالصياغة المختلفة ومن من الكتاب نجد في كتابتهم هذه الحساسية؟
*بدون اسماء وتجارب لكن يمكن لك ان تقرأ ماكتبته لتمايز ذلك عن سواه.

_ يقول بعض النقاد ان كتاباتك في اسلوبها تمتاح من المدرسة الشكلانية فانت تعتمد الوصف وتنهك به نفسك بعيدا عن المضمون والمغزى؟
من يقول هذا الكلام؟
- أنا لا اعيب الشكلانية في الكثير من رؤاها ولكن ما اكتبه مختلف تماما، المضمون لدي امر في غاية الاهمية لكن يحتاج الى اسلوب وقوالب ولغة لكي يصل ويكون ذا غاية ومغزى.

_احدى الكاتبات المصريات وهي نعمات البحيري قالت عنك انك تنحو باتجاه جلب الرواية العربية والمصرية تحديداً الى الشكلانية أنه وتقصدك في هذا الكلام، كان يريد من المبدعين الجدد أن ينتهجوا نهجه وهو اعتماد الشكلانية كنمط إبداعي جديد‏,‏ وبذلك يلعب دوره في تفريغ الأدب العربي من مضمونه‏,‏ ومحتواه الإنساني‏,‏ مناسبة هذ القول هو ردها على مقال لك عن مجموعتها القصصية
*لا اتذكر ذلك ابدا لا مقالي ولا مقالها ولا اسمها ولا مجموعتها.


كلام ادونيس فارغ لايستحق الرد

_في حوار معك اجري قبل عامين قلت ردا على سؤال بشأن تشابه اعمالك: ان من الطبيعى جدا أن - يظهر بعض التشابه فى كتاباتى لانها خصوصية اسلوبي التي تملي علي هذا التشابه. وفي مكان اخر قلت إن العمل الفنى يملى قانونه الخاص وليس عليك ككاتب أن تملى قانونك او اسلوبك الخاص على العمل الفنى، ثمة تناقض في الرؤيتين اليس كذلك.
- *لا اتذكر ان كنت قلت مثل هذا الكلام ولكن انا اثق بمقولة قديمة مفادها ان الرجل هو الاسلوب والاسلوب هو الرجل والكاتب او الفنان مهما حاول ان يخرج من اسلوبه فلا بد ان يترك اثرا يشير اليه،
- ذلك هو الابداع الحقيقي ان يكون لك اثر ما يمكن معرفتك من خلاله مهما تطورت ادواتك وثقافتك هذا ما انا اعتقده واظنه يقترب من تصورات اغلب المثقفين في فهم العملية الابداعية.

_ما الذي نقصده حين نقول ادب عربي هل مجرد استخدام الكاتب اللغة العربية في التعبير وكشف مضمون من بيئة عربية ام ان هناك ميزات خاصة تميز عربيته ولا سيما منه السرد؟
- *اللغة تخلق ميزات خاصة في الكتابة مهما كانت واللغة العربية لمن يكتب بها بمعرفة اسرارها وخفاياها بالضرورة سيكتب تعبيرا مختلفا ومييزا عن اي تعبير اخر يكتب بلغة اخرى
- قد يكون هناك تاثر وتأثير في التعامل مع الشكل وبناء الحوار وطريقة الوصف لكن يبقى الادب العربي حين يكتبه ادباء عرب محترفين سيعطي ميزة انه ادب عربي مختلف ومن ثم ان اللغة العربية هي لغة امة لها تاريخ طويل وحضارة كبيرة وبالتالي فلا بد ان تكون ثقافتها وادبها له منبع متميز ومختلف.

_طيب ما رايك بما يقوله ادونيس من ان العرب امة منقرضة او هي في طريقها الى الانقراض؟
*هذا كلام فارغ لاقيمة له على الاطلاق ولا يحتاج الى رد لدحضه لانه يخلو من المنطق ولايمس الواقع والحقيقة انه كلام قيل للاثارة فقط ولا اريد ان اطيل في الوقوف عنده.


هذا ما يريده الله

_انت عربي مسيحي والمتعارف ان الثقافة العربية سمتها وصفتها انها ثقافة اسلامية اعني ان نقول عربي فهو بالضرورة تجسيدا لهوية اسلامية كيف تفكر وانت تكتب وتعيش هل تشعر ان ثمة مأزقا وجوديا يحيطك وغيرك من المسيحيين العرب ؟
*لا يوجد مأزق وجودي ولا غيره انا عربي هذا اولا واخيرا والثقافة العربية هي ثقافة لغة قبل ان تكون ثقافة دين بعينه وحين نقول عربي فان اول ماسيرد الى تفكيرنا اللغة ومن ثم نعطي شرحا اخر لمعرفة الهوية الدينية وتاريخ الجغرافية العربية مرتبط باللغة قبل الدين وعقد الدين كثيرة فان كانت بين دين وآخر فيهي ايضا بين مذهب وآخر
- الكاتب والمثقف لاينصت الى الصوت الصارخ والضجيج بل جل مايعنيه الانشغال بصوت الذات المنتمية اولا الى لغتها وجغرافيتها بعيدا عن اجتهادات اناس يريدون ان يحشروا كل الذوات في فكرة او بوتقة واحدة وهذا ما لايريده الله الذي اودع الاديان في الناس مختلفة ومتغيرة.

_طيب انت شاعر وروائي وقاص وفنان تشكيلي اي من هذه الاشكال التعبيرية تجد انها الاكثر قربا الى نفسك وهواجسك؟
- *كل شكل يكمل الآخر لم اسأل نفسي يوما ماهو اقرب لي ولماذا اخترت ان اعبر في القلم ام في الريشة وان اكتب سردا ام شعراً، هواجسي ومشاغلي وفكري، كل هذه المكامن المنفعلة هي التي تحيطني في لحظة تامل وتقودني الى التعبير وكل شكل من اشكال التعبير له اهميته في البقاء والتفاعل من اجل ان يشعر الانسان المثقف بحيويته حين يجد نفسه امام خيارات عدة من التعبير.

_لديك أيضا اهتمام في السينما وعرفت انك كنت رئيسا لمهرجان قرطاج السينمائي ومشاركات في مهرجانت عربية وعالمية اخرى ما طبيعة هذا الاهتمام؟
*اهتمام عادي انا لست مختصا بالسينما لكني اتابع واكتب في الوقوف عند بعض الافلام التي اراها متميزة وقد قادني التفاعل مع مقالاتي الى ان انهمك اكثر في متابعة السينما واحوالها في العالم اجمع؟
_الم تُقرّ واحدة من رواياتك وتعد للسينما؟
*حسب علمي لا لم يكن ذلك وان كان الآن فلا أعرف، لأني منذ زمن لم اعد اتابع الكثير من القضايا حتى تلك التي تخصني.

لكل مرحلة مغامراتها وسعادتها

_طيب ما الذي يشغلك الان؟
*ماذا تقصد؟
_اقصد وانت في هذا العمر ما الذي تبقى من الاهداف والغايات ما الشيء الذي يغريك للبحث والمعرفة ولماذا؟
- *لاتوجد مرحلة زمنية يتوقف فيها الانسان والمثقف على وجه الخصوص عن البحث وطلب المعرفة لان المعرفة لاتنتهي عن حد والبحث في دهاليزها مغر لكل الاعمار، ولذلك مازلت اقرأ لاكتشف ما لم اكتشفه واعرفه وكذلك مازلت اكتب وادون، الموت هو المانع والعازل عن اطماع الانسان في التعلم والمعرفة.

_أريد ان أذكرك بمقولة اظنها لفلوبير مفادها، ان الانسان في مرحلة متقدمة من العمر يكون اكثر سعادة لانه يكون خارج لعبة التنافس التي تجعله متوترا وقلقا وبالتالي يفقد لذة السعادة الخالصة.
*لا اتذكر انني قرأت لفلوبير او غيره مثل هذا المعنى لان السعادة مسألة نسبية وهي تخص انسان بعينه دون ان تخص آخر مهما كان التعبير عن السعادة احيانا سلوكا جمعيا في حالة من الحالات كما هو الحزن ولكن بالمحصلة فان السعادة ممكن ان تصيب انسان احيانا بلا سبب واضح وكذلك هو الحزن، الموضوع لا علاقة له بالعمر بتاتا وانما له علاقة بمجموع حياة الانسان وتركيبه النفسي والاقتصادي والاخلاقي والثقافي" يصمت قليلا" ثم ان لكل مرحلة من عمر الانسان وجودها الخاص، مغامراتها وسعاداتها واحزانها واحلامها واهدافها الخ الخ.

_هل انت سعيد الان؟
- *(اطلق ضحكة مجلجلة) نعم الا ترى ضحكتي؟ سعيد لاني اشعر قد فعلت ما يمليه علي ضميري الخاص وسعيد انني لم اكن متطرفا ومتماديا في كل شيء سعيد لاني اغفر واعفوا واعترف بخطأي ولي رؤية متفهمة للآخر حين يكون ملتزما هو بتفهم الآخر سعيد بوجودك.

_شكرا لك استاذي ايها المبدع واعتذر لأني اخذت من وقتك الكثير
*على الرحب والسعة وارجو ان ترسل لي الحوار بعد نشره

_الا تريد ان ارسله لك قبل نشره ؟
*لا.. لك ان تقول عني ما تشاء "ويطلق ضحكة " انا اعرف ان العراقيين لا يفعلون ذلك

_ هل يوجد لديك بريد الكتروني ارسل لك الحوار او الرابط
*هدأ قليلا وقال: لا ..سأسرك بشيء أنا امي تماما في عالم الكوبيوتر ولا اعرف عنه شيئاً
_ هل اذكر ذلك؟
*إذكره.
..........
-
انتهى
ماجد موجد

ايوب صابر 06-18-2012 11:24 PM

سيرة ذاتية للكتابة جريدة السفير 2006

وصف إدوار الخراط الشاعر أدونيس، في تفسير لقوله أنه ليس من "جمهرة الشعراء" بل هو من أفذاذهم، بأنه شاعر ومفكّر منظّر في آن، وهو شاعر مجدّد مغامر. وأضاف "ثم هو ـ أساساً ـ شاعر ملهّم وملهم في الوقت ذاته.
- وأردف ذلك بقوله "ليس ثم شاعر ـ أو فنان ـ كبير إلاّ إذا استند وقام صُلبه على أرضية من الفكر والتأمل والمعاناة العقلية.
لا أدري متى وأين نشر إدوار هذه الشهادة وفي أي مناسبة ولكن قرأتها في كتابه "مواجهة المستحيل" الذي صدر مع كتاب له آخر "مجالدة المستحيل" ـ الأول.. مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة، والآخر.. مقاطع أخرى من سيرة ذاتية للكتابة، وكلا الكتابين من منشورات دار البستاني عام 2005.
وخلال زيارتي للوطن في يناير/ فبراير الماضيين، حضرت ندوة نظمتها "جماعة الأتيلييه" في القاهرة عن سيرة الروائي الكبير الذاتية للكتابة، التي أقيمت في أوج مباريات كأس الأمم الإفريقية وخلال إحدى المباريات الحاسمة التي اشترك فيها الفريق المصري القومي. ولست بحاجة الى القول أن قلوب وعقول المصريين، من قمة الهرم الى قاعدته، كانت معلّقة بمصير هذه المباراة. لم أكن أعتقد أن المثقفين، أو في أحسن الأحوال الشبان المشتغلين بالأدب، أو حتى الكهول الذين كانوا يترددون على مسكن إدوار الخراط في الزمالك، ليستطلعوا رأيه ومباركته ـ ككاهن الحداثة وما بعد الحداثة ـ كما يحلو لي أن أسميه عن حق ـ هم في النهاية جزء من القطيع.
فقد كان الحضور جدّ متواضع، وكاد يقتصر على حفنة من طلاب جامعيين يصطحبهم أستاذهم وعدد قليل آخر من الشباب والأدباء أو محبّي الأدب. ومع ذلك، أو لذلك كانت الندوة حميمة ولم تحل دون تدفق إدوار الخراط في الردود على أسئلة الحاضرين بنفس لغته الشعرية أحياناً والموضوعية المنطقية أحياناً أخرى.

وقد حرصت على اصطحاب كتابيْ السيرة الذاتية في عودتي الى نيويورك، على أمل أن أنقل، أو بالأحرى أستنسخ للقارئ صورة إدوار الروائي والناقد والشاعر والفنان التي رسمها بقلمه لنفسه. - وعندما شرعت في الكتابة بنيّة تقديم اسكتش تخطيطي لهذا "الأوتوبورتريه" المعقد، لم أجد وصفاً ينطبق عليه أصدق من وصفه لأدونيس. وعندما رجعت الى تلك الشهادة كدت أقتنع بأنه كان في الحقيقة يصف نفسه، مع اختلاف مجاليْ إبداع الشاعر المفكّر المنظّر والروائي المفكّر المنظّر.

- فإدوار الخراط روائي أساساً، مجدّد ومغامر، كان منذ بدايته ولا يزال في شيخوخته رائداً مجدداً، ملهماً (بفتح الهاء) وملهماً (بكسر الهاء). ولكنه ربما يختلف عن أدونيس، هذا إذا جازت المقارنة بين شاعر أساساً وروائي أساساً، من أن أدونيس أكثر ميلاً الى التنظير وليس له باع إدوار في النقد، ولا دوره في تقديم عدد كبير من الروائيين والقصصيّين وحتى الشعراء والفنانين التشكيليين، في مقتبل حيواتهم المهنية.

صورة وحتى لا أنجرف في هذا السياق الى رسم بورتريه آخر غير الأوتوبورتريه الذي أردت تقديمه، لا بد من الرجوع الى تخطيطات الكاتب نفسه، لصورته الشخصية التي سجّلها في مناسبات مختلفة، من مقابلات صحافية الى محاضرات في منتديات أدبية وفكرية عربية ودولية، والتي جمعها في كتابيه من دون الإشارة الى تاريخ كتابتها أو موقع نشرها أو قراءتها، وبصفة خاصة مداخلته في ندوة الأتيلييه الأخيرة، التي لخّص فيها حصاد الكتابين. ونظراً الى أني أشرت بادئ ذي بدء الى دوره الهام في تشجيع كل ما ينمّ عن جدّةٍ وطرافةٍ وموهبة واعدة أو مُنبجسة، سواء كان صاحبها كاتباً شاباً أو طاعناً في السنّ، سواء اعترف أو لم يعترف أولئك الكتاب بثمرة هذا التشجيع، والذي عرّضه في كثير من الأحيان للانتقاد، وربما الاهتمام بالمحاباة "لتلاميذه" أو "مُريديه". وفي هذا السياق،
-يؤكد إدوار الخراط أن الإبداع ليس له حدود، "فالإبداع هو كسر الحدود، ومعناه الحرية، وفي الوقت نفسه هي مسؤولية.
حرية الآخر هي الحد الوحيد لحريتي، ولا يحد حرية المبدع إلاّ حرية النقد بروح من الفهم والمعرفة والاستناد الى دراسات معمّقة وحسنة النيّة لما يقرأ، وليس التربّص والترصّد للأخطاء.
- الفنان أو الكاتب بطبيعته طليعي وبالتالي لا ينصاع للتقاليد الاجتماعية السائدة.. فهو يخترقها ويخلخلها في سبيل إرساء قيم أسمى وأجمل وأفضل.
- هذه هي مهمة الفنان الحقيقي ولكن ليست بشكل مباشر وهي أيضاً رسالة المثقف". ويؤكد أنه لا يهتم بنقد كتابات الأدباء "الشبان" لذواتهم، أو لأنهم كما يشاع تلاميذ له أو مريدون وإنما يهتمّ أساساً بالموهبة، خصوصاً إذا كان العمل فيه قدر من المغامرة والتجريب، سواء كان لكاتب شاب أو عجوز، فهو لا يبالي بالأعمال التقليدية التي تستنسخ أعمالاً سابقة مهما بلغت كفاءتها. المغامرة وبتأكيده قيم المغامرة والتجريب في أعمال الكتّاب الذين تصدى للتعريف بهم أو الكتابة عنهم، يطبّق الروائي الكبير نفس هذه المعايير على ما ينشده في أعماله نفسه. ولا يتحرج من الإشارة الى ما يبدو في كتاباته "أن ثم تكراراً لمشاهد معينة، مواقف معينة، شخصيات معينة باستمرار…"، ثم يقول "لكني أتصور أو آمل أنه في كل مرة يحدث ذهاب الى شوط أبعد في الكشف عن مجهول لا يكاد ينتهي البحث فيه والكشف عنه". ويعود الى التساؤل.. "هل المغامرة ـ التي هي في تصوري شرط للفن ـ هي التي تعطي هذه الجدة طزاجة، وما أرجو أنه بكارة رؤية العالم وبكارة الوعي بالذات، وبالآخرين؟"، لكنه لا يدري، وإن كان يرجو أن تستمر هذه المغامرة "حتى آخر النفس".

تحدث إدوار الخراط في ندوة "أتيلييه" القاهرة عن مسألة المطلق في أعماله الروائية "باعتباره قيمة ماثلة باستمرار، بل لعلها مهيمنة، سواء كان مجسّماً بنور فيزيقي ما، أو نور يقع فيما وراء العالم الفيزيقي تحيطه في الآن ذاته ومن غير أي تناقض ظلمات تقع في أعماق "الأنا" وأعماق العالم".

وتدليلاً على وجود هذه الثنائية، النور الظلمات، في أعماق الثقافة العربية القديمة، ساق أمثلة عدة، من بينها قول عبدالله يوسف بن عبدالبصير "إذا أحاط النور بامرئ فإن ظله يقع فيه" وابن عربي "النور اسم الله، والعالم هو الظل الإلهي".

وقول السهروردي "الروح نور الله وهي نور لا يقع في حيّز المكان". وساق ثلاثة من بين ما أسماه "المطلقات المحظورات" التي لا يجوز المس بها أو تناولها إلاّ بيد الحذر والحيطة والتحرّج وهن: الله والجنس (أي الإيروطيقية) والديموقراطية الحقيقية، مؤكداً أنها محظورات مطلقة انتظمت في نسق قمعي اتخذ شكل المؤسسة الاجتماعية. ويؤكد أنه يصطدم في أعماله الروائية ـ القصصية والشعرية ـ بجلاميد صماء أو بصخور جامدة تُعزى الى تلك الهيمنة المزدوجة للمطلق.

ولكنه "يزعم" أن أعماله الأدبية تقارب هذه المحظورات، ولم تخضع "قط" لسيرة الغيبيات الظلامية. كما "يزعم"، على حد قوله، "إن قيمة هذه الأعمال مرتبطة بالنفاذ الى هذه الأراضي المحرمة ليس فقط بالنقض أو التمرد، بل بالقول أيضاً وهو لا بالانصياع ولا بالسلبية" ووضع كل شيء موضع السؤال والحرية الكاملة في مقاربة أي مسألة من دون النظر الى عقابيل الحرية والسؤال. يعود الى ماضي الثقافة العربية مؤكداً أنها في عزّ ازدهارها، كانت ثقافة تحتفي ببهجة الحياة. وهو ما يسعى إليه في مجمل أعماله الأدبية. "وهو الجانب المنير، ولكنه جانب وثيق الصلة بعتمة أشجان غامضة بإزاء مصير ملتبس". التراث وفي دفاع عن "التراث" الذي يفيض ببراهين دالة على حب المتعة وحب الحرية ومباهج الحياة، قال "ما أبعد ذلك عما يطلق عليه المتشددون إباحية وانحلالاً في "ألف ليلة وليلة". كما كانت الثقافة العربية تتناول موضوعة الجنس ببساطة وصراحة وإيجابية خلاقة، ولم يكن ذلك مقصوراً على الإبداع الشعبي. وأشار في هذا الصدد الى الجاحظ والأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه، على سبيل المثال. ويعترف الكاتب الموسوعي الثقافة، في تواضع وصدق بالغين، بأنه نضج، كرجل وكاتب وروائي، على "الف ليلة وليلة" التي فتنته منذ فجر الصبا الباكر وكانت "قوام احلامي ودمي وكتاباتي". سحر الكتابة الدائرية، رؤى الأزمان الأُخر. أحلام المستحيل، انهيار الرؤية المحدودة لليومي بازاء شساعة آفاق غير محدودة. لغة الطقوس. أنشودة للحب القدسي الحسي في آن. مجالدة التنانين في الحياة وفي الكتابة على السواء. حكاية تولد حكاية وقصة من داخل قصة، مما يثير حساً باللانهائية، اللانهائية الماثلة في جوهر المعرفة وفي صياغتها على السواء. تلك بضعة من الهبات والعطايا التي ادين بها كما يدين بها قلمي ـ لألف ليلة وليلة". فألف ليلة وليلة.. وعند الطفل الذي كانه (ولعله ما زاله) ليست كتاباً عن التجار والقراصنة واللصوص، وليست شيئاً ينتمي الى ماض غبر واندثر، بل هي ذلك البعد الفانتازي الخيالي الحلمي الشعري الواقعي معاً. القمع "ولكن فيها أيضاً القمع والفقر المدقع والطغيان والعسف، والرعب والهول والجور الذي لا يطاق، هذا البعد المنافي للسحر بعد الظلمات". ويقول الروائي ان روايته "ترابها زعفران" التي يسميها "ألف ليلة وليلة الاسكندرية"، ربما نصوصه كلها، تستند من بين ما تستند اليه، الى هذا البعد من الرعب مأخوذاً في السياق "الواقعي" في اسكندرية الثلاثينيات والأربعينيات. لا شك ان ادوار الخراط الروائي والقاص والناقد والشاعر، بطبيعة الحال، الذي لا يخطئ القارئ في التعرف عليه في كل من تلك الأنواع الكتابية، مع اختلاف ابجدياتها المتنوعة، ينفرد بلغة خاصة، لغة سحرية تمتح مفرداتها من التراث العربي الكلاسيكي، من الكتب المقدسة وعوالم المتصوفين، والشعراء المارقين والماجنين، لغة رصينة طبيعية، ومع ذلك لا ترفض، عند الاقتضاء، ان تتخلل العامية المصرية نسيجها الكلاسيكي. وهي أيضاً لغة حسية شعرية أحياناً وموسيقية أحياناً أخرى. لغة وصفها نقاد بأنها بلاغة جديدة أو بلاغة مضادة. ولكن الكاتب لا يعرف ما اذا كان حقيقية داعية الى "بلاغة جديدة"، كما ردد البعض. "ان الصلة التي تنعقد أواصرها بيني ولغتي، هذه اللغة التي هي مطلعه آخر، ليست فقط صلة التراث وما يتشقق عنه، ليست فقط ثمرة تماس حميم مع الانكليزية والفرنسية ومع لغة عامة الناس، بلهجاتها وظلال معانيها ومستوياتها المختلفة/ كذلك في مصر ان الصلات بيني وبين لغتي تكاد تكون عضوية وحشدية. اللغة عندي هي جسم العالم كما انها جسمي على نحو حميم لا معتى عنه". ان الصلة بينه ولغته ليست فقط صلة عشق بل هي صلة تدله، صلة انصهار حيوي ومتبادل يأمل ان يكون مثريا للطرفين "نشداني ان انطق بهذه اللغة حساسية وفكراً في سياق الراهن المستديم يندمج فيه ماض لم يندثر قط ومستقبل ماثل من الآن. وعن طريق هذه اللغة التي لا تنفصم عن مادة الحياة العضوية ولا عن بنية العمل الفني، ارجو ن املي صوتا لمن ليس لهم صوت، لما ليس له صوت". ويتساءل ادوار الخراط.. أهذه شكلانية؟ ولكنه يقطع انها ليست كذلك، فاللغة عنده لا تنفصل عن جسد العمل الادبي ولا عن روحه، بل لا تنفصل عن جسده نفسه وروحه. واذا كنت اعتقد ان الفقرات التي تلعب فيها اللغة دور آلة الكمان او الشيللو أو البيانو المنفرد في الكونشيرتو الموسيقي (التي تعتمد على تسييد جرس بعينه، حيث يستديم حرف بذاته من الابجدية في كل كلمة من الفقرة التي يمكن ان تمتد على عدة صفحات) هي في النهاية لغة أخرى تتجاوز فيها الحروف معانيها القاموسية، يقول الكاتب: "ليست هذه الفقرات مجرد نمنمة أرابيسك خاو. فهي تقطرـ فيما آمل على الأقل ـ جزءاً من خبرة الرواية نفسها، في كل مرة، على نحو مركز ومكثف، بل تلخص العمل كله. "ثم أنني وجدت ان الحرف عند الصوفية الحرف وحده مستقلاً عن الكلمة وعن الجملة، ليس فقط النطق بجرس صوتي أو رسم بذاته، بل إن له دلالات استنبطوها أو شققوها أو شكلوها أو اخترعوا اختراعاً. أليس من حقي إذن إذا ما اقتضى عملي الفني أن أُنشئ للحرف عندي دلالات تتجاوز العضوي والحسي حتى لو كانت هذه الدلالات تعتمد عليهما؟". أتوقف عند هذه التفصيلة دون أن أُكمل ما نويت إنجازه عندما شرعت في محاولة لمجرد رسم اسكتش، أو بالأحرى التقاط خطوط اسكتش لجدارية الروائي المتفرد إدوار الخراط "سيرة ذاتية للكتابة" التي تجاوزت في جزءيها نحو 450 صفحة. وليكن هذا الإسكتش المتواضع بمثابة تحية بمناسبة بلوغه الثمانين في الأسبوع الأخير من شهر مارس متمنياً له عمراً مديداً وكريماً بعطاياه الأدبية والفكرية والشعرية والفنية التي لم تفقد مع السنين قدرتها على الدهشة والاستفزاز والامتاع.

ايوب صابر 06-18-2012 11:47 PM

الفاجعة ومفهوم الكتابة
محمد معتصم


1 ـ هل هي تراجيديا معاصرة؟
في ميلاد التراجيديا يتحدث نيتشه عن تعارض الأبولونية والديونيزوسية، عن تعارض النحت والموسيقى، عن الاختلاف الأساسي بين الفرد المتعقل والجماعة الانفعالية المتهيجة. يقف نيتشه عند الاختلاف بين العقل وبين الحلم والنشوة. هذا التعارض والانفصال كانا تمهيدا لظهور التراجيديا، وهما ضروريان. فالأبولونية المحدودة بالشروط والضوابط والقوانين والكابحة لكل جماح تتعارض والديونيزوسية الانفعالية المهتاجة المحطمة لكل الحدود والقوانين. والتعارض يقصد منه أساسا نقاء الجنس وانفصال الطبقات في الوعي أو في المجتمع… ولكي تنشأ التراجيديا، الحس التراجيدي في الكتابة المعاصرة، كان من اللازم تمازج النقيضين، فكيف ذلك؟
يستعين نيتشه في تحقيق ذلك على الاستعارة (La métaphore) التي هي بالنسبة للشاعر الحقيقي "ليست صورة بلاغية لكنها صورة استبدالية يراها حقيقة محل الفكرة" (ص60). كما يستعين بالمسخ/التحول (La métamorphose) إلا أن العامل الأكثر فاعلية هو الموسيقى والغناء؛ لأنهما معا يساعدانه (الفرد المتعقل) على تجاوز الحدود الضابطة للعقل. ففي الموسيقى والاحتفالات الديونيزوسية يلتبس الأمر وينتفي التعارض بين العقل والحلم والنشوة، وينسى الفرد –كما يقول نيتشه- القوانين الأبولونية.
1-1- نرى في هذه الرواية تجسيدا للرؤية الفجائعية لعدد من الاعتبارات أولا، لأنها تتضمن البعدين الأساسيين في دراسة نيتشه عن ميلاد التراجيديا، يورد الخراط في أكثر من موطن من الحكاية الإله أبوللو، وفي ذكره اختزال للقيم التي حددها نيتشه: العقل والحدود والضوابط. إلا أن الكاتب لا يورد اسم الإله ديونيزوس صراحة بل يجعله روح العمل، الروح التي تسري في جسد الرواية، في أوصال العلاقات سواء مع الآخر أو مع الذات. والفاجعة عند أدوار الخراط تستمد من التمازج والانصهار بين الألم واللذة.
ثانيا؛ لأن الرواية من حيث الموضوع تتطرق لمشكلة الصراع الدامي العقائدي بين الإسلاميين والأقباط المسيحيين في مصر المعاصرة. والحس الفاجع يأتي من خلال الاختراق اللامعقول للروابط التاريخية والإنسانية التي جمعت الأقباط المسيحيين والمسلمين تحت لواء المواطنة والإخلاص والوفاء لمصر. إن تهدد هذه العلاقة بالدمار والتمزق يتضمن حسا فجائعيا يتجاوز العقائدي إلى الوجودي والمصيري. فبناء الوطن والحفاظ على استقلاله وحمايته من كل خطر يتهدده في هذه الرواية يسمو عن كل معتقد ضيق الأفق أو نزعة انفعالية.
ثالثا؛ شعور الراوي ميخائيل بالغربة والوحدة والعطش المطلق والمستشري في الذات والروح، وهو الفاجعة التي يختم بها الرواية كأفق تخييلي يختزل أبعاد الوجود والمصير الواقعيين الفعليين.
1-2- يقول ابن منظور في لسان العرب مادة (فجع)، "الفجيعة الرزية الموجعة… والفواجع: المصائب المؤلمة التي تفجع الإنسان بما يعز عليه من مال أو حميم…" (ص245). والمصائب الموجعة في يقين العطش تشمل الأقانيم الثلاثة المحددة للفضاء الروائي وموضوعاته، وهي الحب والأثر والصراع، ومحورها الأساس الوطن. يمثل ذلك الرسم التالي:
الحب
الوطن
الأثر الصراع
أ ـ في الحب: (رامة) آخر الذات، وموضوعها، وجود صعب يتأرجح بين الحضور والغياب، موضوع يبرز قلق الذات (ميخائيل) وبالتالي فهي علامة على الفاجعة. فالشعور الذي يكتسح ميخائيل لا يستقر على حال شعور يهدده الشك فيتحول الحضور إلى غياب والغياب إلى حضور، وكأن ما يسعى إليه ميخائيل هو تحويل الجسد المادة الحية إلى لغة متخيلة صعب الإمساك بها، لا تشبع اللهفة ولا تطفئ الرغبة، حضورها رمزي (بلاغي) استعاري مجرد. عند تقاطب فعلي الحضور والغياب تتولد الفاجعة في الذات.
ب ـ في الأثر: الآثار موضوع آخر تتوحد فيه شخصية ميخائيل وشخصية رامة، إلا أن الفاجعة تتولد عن تصادم وعيين متناقضين؛ عالم الآثار الذي يسعى إلى ترميم البقايا وانبعاث الماضي بكل زخمه وحرارته وحيويته، وإضفاء القيمة عليه وناهبو الآثار ومهربوها أصحاب المصالح الشخصية الذين لا يعيرون أي اعتبار للتاريخ الموحد للأمة الضامن استمرارها والمعلي مكانتها بين الأمم. إنه تصادم مفجع. وأمام استفحال اللصوصية يتحول فعل الترميم والإحياء إلى عمل عبثي. وهنا تظهر ملامح الرؤية الفجائعية وآلام الذات.
ج ـ في الصراع: لعل في لفظة "صراع" فاجعة، وتزداد حدة عندما يصبح الصراع بين مكونين أساسيين لوطن واحد، ويصبح الصراع يتهدد الوطن. أي أن معاداة طرف للآخر يخل بالوجود وبمصير المكونين معا. والطرفان هما الإسلام والمسيحية. ويورد الخراط في يقين العطش أكثر من نموذج على روح الانسجام والتعايش بين العقيدتين. لكن يورد ذلك بألم وتأس على ماضي يكاد يكون قد ولى إلى غير رجعة –هنا تصعيد للحس الفاجع- يحكي ذلك من خلال علاقة المسلمين والأقباط أيام الأعياد، ص(212-213).
1-3- إذا كانت الأقانيم الثلاثة تمثل الفاجعة فإنها كذلك تمثل اللذة والحلم والنشوة والمتعة، لكن أهم ما يبرز هذه المتع الديونيزوسية إقبال ميخائيل على الحياة، ويتجلى ذلك في الاحتفاء بالملاذ.
أ ـ الطعام: يبرز من خلال العمل الروائي اطلاع الكاتب على أنواع الأطعمة المختلفة المحلية، واهتمامه بطرائق طهيها وتحضيرها. وتلك بلاغة خاصة تنبئ عن وعي اجتماعي متجذر، وذلك أيضا معجم يؤثت به الكاتب عالمه الروائي ويكتسب من خلاله علامات التمييز الكتابية.
ب ـ الشراب: لكي تكون الجلسة ممتعة فلا بد لها من شراب، من كؤوس تنوس على الحبيبين ميخائيل ورامة، ويورد هنا الكاتب عددا من صنوف الشراب مميزا بينها في اللون والمذاق وشكل الزجاجة، والمفعول ودرجته لدى كل طرف على حدة أو على الطرفين معا.
ج ـ الألبسة: يغني الكاتب معجمه الديونيزوسي من خلال معرفته بالألبسة، ووقوفه الطويل واصفا إياها. لأن اللباس أيضا دليل على المستوى الاجتماعي وعلامة على نمط الوعي والمعرفة. فوصفه مثلا لطعام ولباس الصعايدة يختلف عن وصفه لطعام وشراب ولباس رامة.
د ـ الموسيقى: إذا كان النحت عنوانا على العقل والدقة والنظام والصرامة فإن الموسيقى عنوان على الاحتفال وعلى اختراق النظم والقوانين والحدود، وعلى الاختلاط والاندماج، هذا ما يستخلص من كتاب نيتشه. لكن الموسيقى توظف في العمل الروائي توظيفا مختلفا، فهي دليل على رقي حسي واجتماعي كما لو أن الموسيقى المتحدث عنها لا تتصل بالصخب الجماعي الديونيزوسي وإنما هي موسيقى هادئة صامتة! مما يجعل الحديث عنها هنا كالحديث عن الطعام والشراب واللباس وأيضا الأثاث المنزلي، أي أنها بلاغة ومعجم يؤثتان فضاء العمل الروائي، وإمكانية لامتصاص الفاجعة.
1-4- يناوب الكاتب بين الحسرة والألم وبين المتعة واللذة. وإذا كان الحب لديه كماء البحر لا يطفئ عطشا بل يؤجج أوار الرغبة والشهوة، ومن ثم تولد الفاجعة، فإنه في الحديث عن الصراع يجد في كلام رامة مستندا ومتكأ يعطي الانطباع ببعض الانفراج ويكسر بالتالي النغمة الدرامية والمتحسرة، تقول رامة على لسان الراوي: "قالت: ومع ذلك، وبالرغم من ذلك فإن أواصر المحبة وحسن الجوار عريقة في وجدان الناس، كل الناس، الشواهد على التآخي بيننا، لا نهاية لها، كلنا نعرفها وعشناها فعلا، كلنا". ويضيف ميخائيل على لسان الراوي كذلك: "قال: لماذا نحتاج أن نكرر مئات الشواهد والأدلة على حقيقة أولية بسيطة كان حقها أن تكون قائمة وثابتة دون برهان أو تدليل؟" (ص158).
إن الحديث عن الصراع بين الإسلاميين والأقباط في مصر سينتهي بالرواية إلى الحديث عن التسامح والتعايش بين الأديان كما رصدناهما في رواية سلالم الشرق لأمين معلوف، وفي رواية بهاء طاهر خالتي صفية والدير من خلال علاقة حربي أو إقامة حربي في الدير حماية له من صفية ورجالها وتوعداتها بالفتك والثأر والقتل، ومن خلال مكانة الدير في نفسية أهل القرية المسلمين، ومكانة (المقدس بشاي).
إن الصراع بين الأديان والمعتقدات ظهر إلى السطح كفعل فاجع في عدد من بقاع العالم الجديد، ومن بينها العالم العربي المتعدد الأديان، والذي يتكون من أقليات ذات أصول مختلفة وغير مسلمة. لقد ظهر الفعل الفاجع بعد انحسار الإيديولوجيات الكبرى، وتظهر الرؤية الفجائعية كذلك من خلال الصراع السياسي الذي يقود إلى الآفاق المسدودة وتمتهن الحق الإنساني والمصيري للأفراد والجماعات كما أوضحناه في هلوسات الترشيش لحسونة المصابحي، وفي روايات سحر خليفة.
2 ـ الكتابة والمعلوميات:
الكتابة عملية كيماوية يتم فيها تحويل الأشياء المادية وصهرها لتصبح متخيلا مادتها الأساس اللغة، والكتابة الأدبية المعاصرة أولت اهتماما كبيرا بالأشكال الخارجية وبأنماط القول أكثر من اهتمامها بالمادة المكتوبة/المنقولة ذات المحتوى الإحالي على المرجع الخارجي (الواقعي)، وقد أدى ذلك إلى خلق رؤية مغايرة ومختلفة عما أنتجته الثقافة العربية المسماة تقليدية سواء من حيث الأساليب المستعملة أو اهتمامها بالمحتوى (المعلومات)، وفي انحياز الكتابة المعاصرة إلى الأنماط والأشكال والصيغ الخارجية للقول مسايرة حركة الحياة. فالمعلومات أصبحت متوفرة بفضل شبكات الاتصال الضخمة والعالمية، ولم يبق هناك مجال للتمايز والاختلاف بين الكتاب والمفكرين إلا في طرائق صوغ المحتوى الأدبي أو الفكري. وهذا الطرح الذي نبادر به هنا لا يلغي أهمية المعلومة ولا يحط من قدر المحتوى أو الكتابات المحتفية بالمضامين، ولكنه إشارة إلى الاهتمام ببناء المحتويات وصياغتها داخليا لا خارجيا فحسب.
إذا الكتاب العرب والمفكرون أمام وضعية (جديدة)، كيف يمكنهم تقديم معلومات متداولة إلى القارئ في صورة مقبولة ومثيرة وجذابة تتضمن قدرا من الإبداع والتفرد؟ هل ينبغي الحفاظ على المتواليات السردية التقليدية في كتابة الرواية أو القصة مثلا؟ هل ينبغي البحث عن موضوعات غرائبية تمكن المتخيل من التفجر، وتمكن الكاتب من السباحة في عوالم بكر لا تمت بصلة إلى الحقيقة الموضوعية الخارجية؟
طبعا لجأ الكتاب العرب إلى التغيير في بناءات المحتويات التي يثقلونها وذلك بدمج قضية الخارج وقضية الداخل والربط بينهما ربطا وثيقا، بحيث يصبح العمل الأدبي هو الأهم لا خارج فقط أو داخل بل هما معا، فلا صيغة خارجية دون محتوى مركب ومبنين.
2-1- ادوار الخراط الذي اختار الكتابة الصعبة يصلح نموذجا لإبراز بعض تلك الإمكانات الكتابية.
تعتبر الكتابة لدى الخراط صعبة لأنه فضل الكتابة المتزامنة المحايثة على الكتابة التعاقبية. لقد حدد ادوار الخراط لنفسه موضوعا للكتابة يتمركز بين حدود الكتابة السير ذاتية والرواية الجديدة، وإقامته تلك على الحدود وجه من أوجه الصعوبة، فهو كالواقف على التخوم الملغومة. والوجه الآخر للصعوبة نراه في حفره الدائم في معطيات سابقة ومنفتحة على جل أعماله، فتبدو بعض مقاطعه السردية مكرورة ومستعادة. والكاتب ذاته يشعر بذلك في عمله يقين العطش، يقول: "ولكن كل شيء، كل فعل، كل كلمة تقريبا تتردد وتتكرر من جديد.."، لكن هذا التكرار لا يفقد القول جدته وبكارته، يضيف: "… في نمط آسر مستحوذ قابض مستمر، ولكن متجدد بدماء نظرة، كل شيء قيل، ويقال من جديد، كأنه جديد، ولكن لا جدة فيه لأنه يكرر –كل مرة- مخترع من أول وجديد، لم يسبق له ظهور، لم تسبر له أغوار، بل لم يكد يمس سطحه من قبل" (ص267). فما الذي يجعل من المتكرر والمستعاد جديدا نضرا آسرا؟
إذا فالملامح العامة التي نريد الوقوف عندها هنا نختزلها في:
أ ـ الكتابة كتحويل وكتماه
ب ـ الكتابة الحفرية الاستكشافية
ج ـ الكتابة الشذرية
د ـ الكتابة كلعب أسلوبي.
2-2- الكتابة كتحويل وكتماه:
الكتابة تحويل كيميائي للمواد الصلبة في الواقع إلى متخيل وإلى تراكيب لغوية، وهناك تحويلات أخرى ضمن التركيب اللغوي ذاته، حيث تتحول الآثار الفنية إلى رموز تدل على الحضارة والتاريخ ووحدة الأمة على اختلاف أجناسها ودياناتها المكونة، وكتحويل الأشخاص العاديين إلى علامات دالة ضمن المتخيل وتحولها إلى مثل عليا يقتدي بها الناس في حياتهم. والكتابة تقوم بهذا الدور أحسن قيام، ويقين العطش التي تقوم على الأركان الأساسية الثلاثة؛ (الحب والأثر والصراع) تعمد إلى تحويل تلك الأركان إلى علامات دالة كبرى، فالصراع الناشئ بين الإسلاميين والأقباط المسيحيين في مصر كمحاولة للضغط سياسيا على القيمين وللحصول على امتيازات واعترافات، وإفساح مكان في الخريطة السياسية يستند إلى مرجعيات ثقافية عقائدية مؤولة بتأويلات جزئية توافق الموقف الشخصي واختلاف الوقائع الداعية إلى التفرقة ونشوب الصراع (ص89) و(114) و(144). هذا الصراع رغم خلفياته وأهدافه يعلي منه الكاتب ليصبح خطرا يتهدد الوحدة الوطنية، وتآمرا ضدها ومحاولة للضغط. إن التحويل هنا يأخذ معنى التصعيد، أي أن الكاتب يتجه صوب الأهداف البعيدة متعاليا عن الغايات الجزئية التي يحاول الطرف الآخر التأكيد عليها، كالتدرب على السلاح أو إصابة أحد المسلمين بالرصاص خطأ أو …
يتخذ التحويل في الكتابة الروائية دالة أخرى غير الإعلاء والتصعيد، إنها التغير والانحدار. ويستنتج ذلك من الحكي الواقعي الدرامي الذي يبدأه الكاتب من (الصفحة84) من الرواية بعد تعيين وترقية رامة، مديرا عاما لآثار المنطقة الوسطى، يتحول الحكي الواقعي عبر ثلاث محطات تقوم بها رامة للوقوف على حقيقة الصراع بين الأقباط والإسلاميين، المحطة الأولى تبدأ بزيارة المطران، والثانية بزيارة الشيخ حسن فاضل، والثالثة بزيارة ميادة.
الركنان الآخران يعرفان نوعا مغايرا من التحول، إنه التماهي الحكائي الذي يعتمد على قوتي الخيال والحلم. ومن أشكال التماهي الحكائي في يقين العطش الاندماج والانصهار بين مفهوم الجسد ومفهوم الوطن، حيث تضيع الحدود الفاصلة ويصبح الحديث عن الجسد الأنثوي حديثا عن جسد الوطن وخريطته الجغرافية (ص95-96). هذا النوع من التماهي يحتاج إلى قوة الخيال التي لا تعترف بالحدود، قوة الانفعال ونشوة الاحتفال الديونيزوسي حيث يسبح المعنى متنقلا بحرية بين الشيء وضده، أو بين الشيء ونقيضه. وكأن التغزل في جسد المحبوبة الأسطورية الخالد تغزل في الوطن بكل مكوناته وتاريخه الباذخ الحافل، وبكل انكساراته وانتصاراته، جسد مهما قسا في البعاد والتدلل فإنه حاضر عزيز بهي في النفس والمخيلة، وأبدا على موعد للتصافي واللقاء. وبقوة الحلم والخيال تحولت رامة إلى أسطورة خالدة، إلى نقيضين لا ينفي بعضهما الآخر بل يؤكده ويدعمه، تقول رامة محتجة على هذا التحول العميق عبر المتخيل: "أنت صنعت مني شيئا كأنه عاهرة ممجدة" (ص71)، ويضيف الراوي: "لم يقل لها: هذا العهر ليس أنصع منه براءة وبكارة، عبادتك للجسد تجعلك، فعلا، مقدسة، نقية وإلهية"، (ص71-72). إن القوة الكامنة خلف هذا التصعيد
والإعلاء قوة الخيال التي تجعل إمكانية التماهي ممكنة بعيدا عن الواقع وفي قلب اللغة، بين الجسد الأنثوي وجغرافية الوطن.
إن مفهوم الكتابة الإبداعية لدى ادوار الخراط يستمد قوته من إمكانيتي الحلم والتخييل، ومن خلال مستوى التحويل والتماهي بين العناصر المختلفة والمتناقضة في الأصول، والمتعارضة على أرض الواقع، ولأن الأحلام "لا تخضع لقوانين المنطق التي تتحكم في فكرنا أثناء اليقظة كما أنها تجهل مقولتي الزمان والمكان جهلا مطبقا: (ص10)، فهي تعيد إلينا رأي نيتشه في الأبولونية التي تساوي حياة اليقظة حيث المنطق والنظام والقوانين، وفي القول حيث المتواليات السردية والحكائية المركبة تركيبا زمانيا منطقيا، وتعيد أيضا مفهوم الديونيزوسية التي تمثل لحظة الحلم حين ينتفي التمايز بين الزمان المنطقي والمكان المادي، فتحل الأشياء في بعضها بحرية وتتداخل، وهو ما نجده عند ادوار الخراط، فتتداخل الأزمنة والأمكنة ويتماهى الجسد والوطن وتصبح رامة مصر، ويتحول علم الآثار إلى حفر في الجسدين معا؛ جسد رامة البض الريان، وجسد الوطن المنهوب الممزق المعطوب.
2-3- الكتابة الحفرية الاستكشافية:
إذا ركزنا أكثر على الأحلام في تداخلاتها وعدم اعترافها بالحدود والضوابط المرجعية الخارجية (الواقعية المنطقية) وهو ما تسلكه الكتابة عند الخراط، فإن الكتابة الحفرية تعمق أكثر مفهوم التماهي؛ فليس تماهي الجسد والوطن إلا صورة على التداخل الحلمي الانفعالي الديونيزوسي. وهذا النهج نستشفه كذلك في الكتابة الحفرية الاستكشافية. فما هي مستويات الحفر وأشكاله في يقين العطش.
أ ـ الحفر الأركيولوجي: يعد الأثر كما بيننا، من بين العناصر الأساسية لمتخيل يقين العطش ولموضوعات الحكائية. يقف الحفر الأركيولوجي عند الآثار الخالدة المطمورة وتحتويها الطبقات الدنيا للأرض، ومصر بلد الآثار المطمورة والحضارة العريقة الفرعونية أساسا وغيرها من الحضارات السابقة واللاحقة المتعاقبة، إلا أن تعقب الآثار والكنوز يلقي بظلاله على قضية جوهرية ثقافية وحضارية وسياسية في آن، ونقصد قضية السرقة المنظمة وغير المنظمة للآثار وتهريبها مقابل أثمان زهيدة مهما بلغت لأن الكاتب لا يقيس الآثار، وكذلك كل عالم، بالعملة ولكن بالقيمة التاريخية التي تحمي الأمة من الضياع والتلاشي وتقدم لها قاعدة صلبة تقف عليها لتستشرف المستقبل ولتضاهي الحضارات الأخرى قديمها ومحدثها.
في هذا المستوى من الحفر يراوح المفهوم معناه العلمي، وهو التنقيب عن الآثار المطمورة تحت طبقات الأرض لتبقى دليلا على حضارات عاشت وهلكت وأغرقت تحت الطمي (أو عبارة عن بقايا أواني أو ممياءات قاومت الزمن والرطوبة أو كتابات أو أصداف أو غيرها من الدلائل الجزئية أو بعض المدن المردومة بعد الطوفان أو بعد البراكين أو الزلازل وعوادي الزمان).
إنه بحث في الحفريات واسترجاع للعصور الغابرة، وحث على إعلاء القيمة التاريخية والحضارية للأمة، كما أنها زاوية لفضح السرقات المنظمة وغير المنظمة التي تستنزف الرصيد الحضاري لمصر. وإنه تعريف بواجهة هامة، ودليل على مصر الاختلاف والتعدد الثقافي والحضاري عبر العصور، وهو رد على الصراع، الركن الأساس في متخيل يقين العطش وموضوعاته الحكائية كذلك، بين الإسلاميين، والأقباط المسيحيين، الذي تم استغلاله لخلق القلاقل، وإنه تحديد وظيفي لشخصيتي ميخائيل ورامة، وعموم الشخصيات الثانوية.

ايوب صابر 06-18-2012 11:48 PM

ب ـ الحفر في السرد:
يتجلى التماهي مرة أخرى بين الأثر ورامة. وما دامت رامة شخصية روائية محورية (مبأرة) على مسار السرد، فإن التركيز عليها من خلال استرجاعات ميخائيل أو الخطابات المنقولة والمباشرة التي اختارها الكاتب، باعتماده الحوار (قال-قالت) على لسان أصحابها وبتحريض من الراوي (السارد)، فإن رصد الحكاية وتتبع السرد يرجح السرد المتزامن والمحايث، ويرجئ السرد التعاقبي والزماني الخارجي الذي يركز أكثر على التوالي المنطقي للأحداث، لماذا؟
لأن الرواية باختيارها صيغة الحوار المنقول على لسان الشخصيات المحورية جعلت من سردها سردا متقطعا أو مقطعيا أو حتى مشهديا، لا يعتمد على التوالي الذي تعتمده الحكاية التقليدية حين يكون السرد زمانيا والأحداث فيه متعاقبة ومنطقية. لهذه الغاية اعتبرنا الكتابة لدى ادوار الخراط صعبة ومركبة كالأحلام أو كالصور المشهدية المتقطعة. هذا الحكم لا ينعت الرواية بعدم الانسجام والتفكك بقدر ما يؤكد على اختيار لنمط من الكتابة مغايرة للكتابة السائدة لدى الواقعية المنطقية (الخارجية).
فالرواية استرجاعات واستذكارات أو أنها كأحلام اليقظة، لكن أهم ما يميز الكتابة التزامنية والحفرية هنا هو التكرار. فشخصية ميخائيل الروائية لا تمل الوصف وتقليب جسد وروح رامة وكأنها عالم زاخر بالمخلفات، عالم قديم بائد حديث الاكتشاف، كل لقاء أو طيف عابر اكتشاف وفرصة للحفر واستخراج المعنى، وكل تكرار يكون آسرا مستحوذا، التكرار لدى ميخائيل الأركيولوجي في الحب –الكاتب الديونيزوسي الحالم- لا يعادل التماثل والتشابه بل الاختلاف. فرامة أرض مطمورة وكلما أزيحت عنها طبقة جيولوجية أبانت عن زخارتها وزخمها طبقة أخرى أعمق، رامة الإنسان، ورامة العشيقة، ورامة العاملة، ورامة موطن الحفر وعالم المخلفات العتيقة. هذا التماهي بين رامة والأثر الأركيولوجي له تأثير كبير على السرد لذلك نجد الراوي يحفر عميقا في جسد رامة مستبطنا كل مخلفاتها، وفي كل اكتشاف جدة، من هنا يصبح للتكرار معنى عموديا لا أفقيا، معنىالبحث ليس الرصد والتتبع التاريخي ونقل الأخبار، ومن ثم نفهم لماذا لا يمل الراوي (ميخائيل) الوصف والوقوف عند دقائق الجسد الأنثوي وفي شتى حالاته لا يهمل أي جزئية ولو دقيقة حتى حبات العرق، وحتى رجفة الرغبة وشعيرات الذراع، وفي ذلك أيضا عزاء للنفس القلقة المتشكلة التي لا يقين لها في الحب. وفي ذلك أيضا حديث عن النفس. ومن هنا قلنا عن كتابة الخراط أنها صعبة، وأنها تقف عند الحدود بين الحكي السيرذاتي وبين الرواية، جاء في النص: "قالت: تكلمنا عن الست بهية شعبان كثيرا".
"قال: أبدا… كالعادة لم نتكلم إلا عن أنفسنا، هل تكلم أحد أبدا إلا عن نفسه؟" (ص77).
إنه حفر في أرض واحدة تتماهى فيها الذوات والأشياء، تصبح رامة آخر الذات ومعادلها، المرآة التي يرى فيها ميخائيل جوانب من ذاته، من مضاعفه، ويعرضها على المتلقين، وتصبح رامة مكانا للحفر عن الآثار المطمورة، موقعا حافلا بالتاريخ كالذاكرة التي تثقل على الشخصية المحورية وتعود إليه في صور من التاريخ الشخصي والجماعي في آن؛ تاريخ الحب وتاريخ التعايش والتسامح بين الإسلاميين والمسيحيين الأقباط في مصر.
2-4- الكتابة الشذرية:
الكتابة لدى ادوار الخراط صرح يشيد من المختلف والمؤتلف، موقع أثري يزدحم بالمخلفات، إلا أن انحياز الكاتب إلى جهة الكتابة الحداثية جعله يحول الأحلام إلى آثار –كما فعل فرويد- وكما يرى جورج دوبي (G.Duby): "إن أثر الحلم "كأثر أي خطوة". ومن هذه الزاوية تصبح الكتابة لدى الخراط كتابة ذات آثار واضحة وحقيقية مهما توغلت في الصعوبة والتركيب، وهي أيضا كالأحلام التي يرى فرويد أنها على أنواع: أحلام قصيرة جدا تتكون من صورة أو بعض الصور ولا تحتوي إلا على فكرة أو كلمة..
أحلام غنية وتجري أحداثها كرواية حقيقية وتبدو أطول أحلام واضحة أكثر كالأحداث الحقيقية، ويحتاج الحالم إلى وقت كي يتبين له أن ما يحدث أمامه ليس إلا حلما.. وهكذا (ص65).
وإذا ما أعدنا ترتيب المصطلحات المبثوتة في هذه الدراسة سيتبين لنا أن الكتابة لدى الخراط مقطعية ومتزامنة ومشهدية لا تسترسل في الحكي ولا تتبع الوقائع والأحداث وإنما تنهل بغزارة من حياض الذاكرة، ومن أعماق النفس مستفيدة من الاسترجاع والاستذكار والأحلام والكتابة التوثيقية والحوار الداخلي والحوار المنقول بحياد الراوي.
2-5- الكتابة كلعب أسلوبي:
نقصد بالكتابة الأسلوبية ما كان معروفا في العصر العباسي بالبديع حيث تم الاهتمام به لإبراز قدرة الكاتب على التمكن من مادته؛ أي اللغة العربية. وفي هذا المجال دراسات بلاغية عديدة لا مجال لذكرها هنا، لكننا نريد فقط أن نبرز اهتمام ادوار الخراط باللعب الأسلوبي والذي أطلق عليه في هذا المقام (الجناس الصوتي) حيث يشتغل الكاتب على حرف أو حرفين ويخصص لهما فقرة أو أكثر كوقفة وكاستراحة وكدليل على وفرة ألفاظه، وغنى معجمه، وهذا ما لا يمكن نكرانه، فالكتابة لدى الخراط تستمد قوتها من معجمه الفني الوفير الزاخر –نتذكر هنا أبا العلاء المعري في اللزوميات، وفي رسالة الغفران مثلا- بالإضافة إلى طاقته التخييلية واعتماده الحفر بدل التعاقب التاريخي. ونسوق هنا نموذجا واحدا من بين عدد من النماذج في الصفحات (160، 161، 215، 226، 288) وعلى سبيل المثال: "عطشي لا يطاق، أمطار لا تسقط، اخطبوط متقطع الأطراف يحيطني بالحبوط، حطام أوطار حطت بها طوارق البطلان العاطفية، تتفطر النياط من وطأة القطيعة، تطبق أخطار مطردة طال بي طراد طموحات مطروحة على أطراف البطاح طوقتني وحطت على طيور الطوام خطوط رقطاء تطيح بي.."(ص288).
الكتابة عند ادوار الخراط عمل جاد ومضن لذلك فهي تحتاج إلى قراءة خاصة وإلى فهم خاص. وقد استعننا في استجلاء بعض إمكانات القراءة والكتابة معا بالحلم كمعادل للواقع والحياة الخارجية، وبالتماهي كإمكانية لإبراز التداخلات بين العناصر المكونة للمتخيل الروائي وإمكانية الانعكاس الدلالي أو تبادل التأثير بين موضوعة الحب، وموضوعة الأثر، وموضوعة الصراع. كما استعنا بمفاهيم أخرى كالتكرار والحفر الدلالي والتحويل والبديع

ايوب صابر 06-21-2012 03:51 PM

لقد بدأت اليوم قراءة رواية رامة والتنين موضوع البحث هنا وقد وجدت الجزء الاول منها " ميخائيل والبجعة " والمكون من 28 صحفة مدهشا، صحيح انه يتسم بالصعوبة، فهو نص فوق عادي، وقد يتحاج المتلقي ان يكرر القراءة لنفس الفقرة اكثر من مرة ليعرف ما المقصود، لكن النص مدهش بحق.

واهم ما يمكن قوله عن النص حتى الان هو: وضوح اثر تجربة اليتم في النص، وبروز وغزارة هذا الاثر المتمثل في تجربة الفقد، وصدمة الموت، اضافة الى ما يرتبط بذلك الفقد من مشاعر واحاسيس.

فلننظر مثلا الى هذه الفقرة في صحفة 12:
" قال لنفسه: أنت عندما تفقد شيئا تعرف أنه لن يعوض، لا يعوض، وترفض مع ذلك. ترفض هذا الحس بالفقدان، تتمرد عليه كل جوارحك كما يتمرد شيء متوفز بالحياة ضد ما يحمل أليه الموت، ترفض كأنك تحطم السماء بيديك العاريتين، كأنك سقطت على تراب القبر، تدق أرضه بقبضتك المضمومة وتقول لا، لا، ومع ذلك تظل حفرة القبر مفتوحة، في داخلك. الفقدان هناك، قائم، شيء ما قد نهش مكانه، وانتزع من فلذة النسيج الذي يغلف حياتك نفسها، لا أمل ابدا في استرداده، عليك أن تطيقه، أن تحتمل فجوة الضياع الذي لا يحتمل، وان تعيش معه. لماذا تعيش وتصبر عليه. وتعانيه. أنت تحمل ميتا في داخلك. والميت هو انت ايضا. قبر متحرك يواري هذا المدفون من غير غطاء ولا كفن".
==
- هنا نجد الكاتب يتحدث بشكل واعي ومباشر عن تجربة الفقد الذي لا يعوض. ونجده يخبرنا كيف تعامل معه ، فهو من ناحية يرفض الحس بالفقدان، وهو يتمرد عليه بكل جوارحه.
-ويخبرنا الكاتب بأن رفضه جاء لانه مفعم بالحياة والحياة دائما في صراع مع الموت وتحاول هزيمة الموت.
- ويصور لنا رفضه هذا للموت على انه " كأنك سقطت على تراب القبر، تدق أرضه بقبضتك المضمومة وتقول لا، لا، ومع ذلك تظل حفرة القبر مفتوحة، في داخلك". صحيح ان والد ادوار مات وهو في سن السابعة عشرة لكن ذلك الموت ظل قائما وكأن حفرة القبر ما تزال مفتوحة لكن في داخل من اصابته صدمة الموت تلك. وهو يؤكد بشكل واعي ايضا ان الفقدان " قائم" ، ولا امل ابدا في استرداد ما انتزع " الفقدان هناك، قائم، شيء ما قد نهش مكانه، وانتزع من فلذة النسيج الذي يغلف حياتك نفسها، لا أمل ابدا في استرداده، ".
- ثم نجد الكاتب يحاول وضع حل لما يعانيه من الم ، والحل يأتي بضرورة " عليك أن تطيقه، أن تحتمل فجوة الضياع الذي لا يحتمل، وان تعيش معه"
- لكنه الالم يظل قائما الى حد يدفع صاحبه ربما للتخلص من الحياة كحل للخلاص من ذلك الالم "لماذا تعيش وتصبر عليه. "
- وهو يقولها بوضوح اثر الفقد معاناة والم وكأن الفاقد يحمل ميتا في داخله".وتعانيه. أنت تحمل ميتا في داخلك".
- ولكنه لا يتوقف عند ذلك الحد بل يقول بصريحة العبارة ان الموت يخلف ميتا في الحياة" والميت هو انت ايضا. قبر متحرك يواري هذا المدفون من غير غطاء ولا كفن".

لا شك ان هذه الفقرة تشير بوضوح الى اثر موت والد الروائي الخراط عليه، صحيح ان الفقرة قد تكون تعبير واعي عن تجربة الموت وقد تكون تعبير غير واعي. لكنها حتما تصف تجربة الفقد واثرها المزلزل.
==
هذه دعوة متجددة لقراءة الرواية ومشاركتي محاولة تحليلها وذلك بهدف:
- هل يترك اليتم اثر في الكاتب ينعكس على كتاباته؟
- هل الروعة في النصوص لها علاقة في الموت وحجم الالم؟
- هل الادهاش عبارة عن مخرجات عقلية لشخص اصيب بصدمة الموت؟



ايوب صابر 07-03-2012 03:40 PM

شاركنا في تحليل روايات الايتام وتحديد سر الرعة فيها واطلع ايضا على اروع مائة رواية عربية:


http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=6821

ايوب صابر 07-09-2012 08:41 AM

من رواية رامة والتنين:

"قال لنفسه انت عندما تفقد شئيا تعرف انه لن يعوض ، لا يعوض وترفض مع ذلك. ترفض هذا الحس بالفقدان، تتمرد عليه كل جوارحك كما يتمرد شيء حي متوفز بالحياة ضد ما يحمل اليه الموت، ترفض ، كأنك تحطم السماء بيديك العاريتين، كأنك سقطت على تراب القبر، تدق أرضه بقبضتيك المضمومة. ةتقول لا، لا، ومع ذلك تظل حفرة القبر مفتوحة، في داخلك.
الفقدان هناك، قائم،شيء ما قد نهش مكانه، وانتزع من فلذة النسيج الذي يغلف حياتك نفسها

ايوب صابر 07-11-2012 12:46 PM

رامة والتنين: هل هي رواية أم "انجيل جديد" حاول ادوار الخراط ان يأتي به!

بقلم : أيوب صابر.
الذي يتعمق في دراسة السيرة الذاتية للروائي الكبير ادوار الخراط صاحب رواية " رامة والتنين" والتي هي واحدة من أروع الروايات العربية، وتأتي في المقام الثامن من بين المائة والخمس روايات المشمولة في قائمة اتحاد الكتاب العرب، يعرف انه كان متأثرا جدا بجبران خليل جبران، وبفكر جبران وطرحه.

وهو مثل جبران خليل جبران يرى بأن الألم هو الذي يصنع العبقرية. بل هو يذهب ابعد من جبران خليل جبران في توصيف اثر الألم على النفس البشرية وسمات الشخصية والقدرات الإبداعية ولا يحصر الأثر في الجانب الايجابي والمخرجات الإبداعية.

فبينما يرى جبران خليل جبران بأن "اللؤلؤة هيكل بناه الألم حول حبة رمل"، وأن القشرة الصلدة التي تحجب الثمرة يجب أن تتحطم حتى يبرز قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشمس، وأن الآلام يجب أن تحطم قشور الإدراك عند الناس قبل أن يعرفوا معنى الحياة ويحققوا العبقرية. يرى ادوار الخراط كما جاء على لسان بطل روايته رامة والتنين وفي جزءها الأول "ميخايئل والبجعة"، وأثناء الحوار بين البطلة والبطل بأن "اللآليء تصنعها الزلازل" وان الزلازل لأنها هي التي تكسر قشرة العقل والإدراك فتحدث العبقرية، وربما وفي تزامن يؤثر ذلك الكسر على الاتزان فيصاحب الإدراك والعبقرية الهذيان الناتج عن فقدان الاتزان .
"قالت له: نحن قد بلغنا الرشد ونستطيع أن نتحكم في أنفسنا. فلم يقول لها "أن الزلزال قد كسر قشرة العقل والاتزان".

ويظهر هذا النص القريب جدا مما قاله جبران عن اثر الألم في صناعة العبقرية، مدى تأثر ادوار الخراط بفلسفة جبران في الحياة خاصة فيما يتعلق بأثر الألم في صناعة العبقرية، فهو يتفق معه بأن الإدراك يأتي على اثر انكسار القشرة وان اختلفت التسميات.

فهو عند جبران الألم وعند ادوار الخراط (الزلزال) وسنجد بأن زلزال الخراط هو وجه آخر من أوجه الألم والحزن والمحن التي أصابت الخراط كنتيجة لجرح إصابة في ركبته لم يندمل أبدا، ومن ثم تعدد المآسي في حياته، إضافة إلى صدمة الموت الذي اختبره ادوار الخراط في طفولته وتكرر في حياته فكسر قشرة الإدراك عنده والاتزان.

والمعروف أن جبران خليل جبران تعددت محنه وتكررت، فبالإضافة إلى ألمه من جرح غائر في كتفه لم يندمل أبدا، تساقط أفراد عائلته واحدا بعد آخر. حيث اختطف الموت أخته سلطانة التي ماتت بالسل وهي طفلة، ثم مات أخاه بطرس بالداء نفسه، ثم أمه، كل ذلك وهو لم يتجاوز سن الحادية والعشرين. حتى انه حينما سؤل عن سبب إكثاره من الرمز إلى الموت والألم أجاب بأن "الموت والألم هما ما خرج به إلى الدنيا".

أما ادوار الخراط فقد رضع لبن الحزن كما كانت تقول له والدته في طفولته المبكرة على اثر موت أخاه الشقيق والأكبر منه بعام واحد بعد 19 يوما من ولادته، ثم انه اختبر ألما جسديا شديدا ومشابه لألم جبران خليل جبران على اثر إصابته في ركبته في جرح لم يلتئم أبدا، ثم إنه تأثر تأثرا كبيرا بما حل بوالده على اثر موت أخاه غير الشقيق وهو في سن العاشرة تقريبا، ثم لا بد أن الزلزال الأصعب والأقوى والذي كسر قشرة العقل والاتزان عنده كان موت والده و ادوار الخراط في سن السابعة عشرة.

يقول ادوار الخراط في إحدى المقابلات الصحفية حول اثر المآسي التي صبغت طفولته :
"الذكرى الأقدم والأقوى لديّ عن والدتي هي العبارة التي طالما كانت ترددها على مسمعي في طفولتي قائلة: أنت رضعت لبن الحزن. ذلك لأني ولدت بعد 19 يوماً من وفاة اخي الذي ولد قبلي بسنة او سنتين في الإسكندرية، فنذروني كي يجري تنصيري في أخميم التي كان لعلاقتيبها تأثير كبير في حياتي، قبل ان أعرفها وتطأها قدماي. وإذ كنت قد ولدت لأرضع لبن حزن والدتي على وليدها البكر، فإني في العاشرة من عمري، صحوت ذات صباح من نومي في بيتنا على صياح والدي النائح: ولدي... ولدي... ولدي، لحظة وصله خبر مقتل ابنه البكر من إحدى زوجتيه السابقتين، بعدما دهسه قطار. كان عمري نحو ست سنوات حين أخذني أهلي إلى اخميم لإيفاء النذر بتنصيري وتعميدي هناك. أذكر ان الرحلة كانت شاقة في القطار، وعن سلّم بيتنا الذي كان بلا سياج في اخميم سقطت فأصبت بجرح بليغ في ركبتي، لم يندمل أثره حتى اليوم".

وهنا نجد أن ادوار الخراط يذهب ابعد من جبران خليل جبران في وصف اثر الزلازل النفسية، فهي من جانب تصنع العبقرية لكنها أيضا ربما توقع صاحبها في حالة من الجنون والهذيان الذي يشير إلى حالة من حالات فقدان الاتزان.

ومن هنا يمكن فهم ما أراد أن يقوله ادوار الخراط في روايته " رامة والتنين"، فهذه الرواية تمثل من ناحية مخرج عبقري ناتج عن انكسار قشرة الإدراك عنده كنتيجة لزلازل حياته المبكرة، والمتكررة، وهي نص يحاكي فيه ادوار الخراط الرسالة في كتاب " النبي" عند جبران خليل جبران، وكأنه أراد أن يقدم للمتلقين نسخته من كتاب " النبي" .

أو ربما أراد أن يقدم إنجيله الخاص والذي يشتمل على فلسفته ورؤيته للأمور والحياة، خاصة فيما يتعلق بالجوانب الفكرية والفلسفية التي تشمل مفاهيم مثل (الموت والحياة، والحق والحقيقية والصدق والحب) وما إلى ذلك من مفاهيم فكرية وفلسفية وحياتية، حيث نجد أن ادوار الخراط يتطرق لها في روايته ويقدم تعاريف لها من واقع تجربته الذاتية.

ونجده كما يرى البعض انه يركّز اهتمامه على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس، ويرسم شخوص تتخبط في عالم كله ظلم واضطهاد وفساد.
ومن ناحية أخرى نجد الرواية اقرب إلى نتاج حالة هذيان كان يمر بها الكاتب كنتيجة لفقدان التوازن، على اثر ما أصابه من صدمة بل هي زلازل اليتم، والفقد، والحزن، والألم وتكرار تلك الصدمات التي كانت بمثابة زلازل قوية في حدتها، فتعدى نتاجها المخرجات الإبداعية العبقرية، إلى حالة الهذيان الناتجة عن فقدان الاتزان .

ونجد أن ادوار الخراط ربما أراد في رواية "رامة والتنين" أن يقدم رسالة هي اقرب إلى رسائل الأنبياء، أو على الأقل ما يحاكي رسالة جبران خليل جبران في كتابه " النبي" وعلى اعتبار أن لديهم فهم مشترك لسر العبقرية، والذي هو الألم عند جبران والزلازل النفسية الناتجة عن الحزن عند ادوار الخراط والتي تكسر قشرة الإدراك لتتولد القدرة العبقرية على التعبير.

حيث يبدو بأن الخراط كان يشعر ويعي بأن ألمه وحزنه ومآسيه زلزلته، وتسببت في كسر قشرة الإدراك لديه، وبالتالي جعلته كائنا علويا، ملائكيا، نبيا، أو ربما أنسانا إلها قادرا على أن يقول للناس رأيه في القضايا التي تخص النفس البشرية، ومكنوناتها وكل ما يرتبط بها وعلى شاكلة ما جاء على لسان الأنبياء، أو على الأقل ما جاء على لسان قدوته جبران في كتابه "النبي".

ولو أننا عدنا إلى جبران خليل جبران لوجدنا انه كان أيضا لديه شعورا مشابها لذلك الذي سيطر على ادوار الخراط ، فلا شك أن جبران كان يتصور بأن سعة الخيال الناتجة عن انكسار قشرة الإدراك هي وسيلة الخلق الوحيدة. وربما تصور نفسه الإنسان الإله! كيف لا وهو الذي وصف وليم بليك الشاعر الانجليزي الذي كان قدوته على انه:
" بليك هو الرجل، هو الإنسان- الإله. انه في رأيي أعظم إنجليزي منذ شكسبير، ورسومه أعمق بما لا يقاس من أية رسوم أنتجتها انجلترا، ورؤياه- بصرف النظر عن رسومه وقصائده- أكثر الرؤى إلهية. لكن لن يتسنى لأي أمريء أن يتفهم بليك عن طريق العقل، فعالمه لا يمكن أن تراه إلا عين العين، ولا يمكن أبدا أن تراه العين ذاتها".

والمعروف أن جبران خليل جبران كان قد تأثر جدا بعبقرية وليم بليك حتى انه وصف نفسه على انه " ويليام بليك القرن العشرين".

ويحكى أن وليم بليك هذا كان بدوره لديه شعورا بأنه إنسان فوق عادي، وربما ملائكي أو على الأقل كان يتصور بأن مصدر فنه ما هو إلا كائنات فضائية كان يدعي بأنه كان يراها منذ صباه.

ومن المعروف أيضا بأن جبران كان معجبا بالشاعر الانجليزي شلي وان سر ذلك الإعجاب كان ناتجا عن إعجاب جبران بعالم شيلي والذي وصفه جبران على انه:
" عالم قائم بذاته، تسيطر عليه روح إله منفي، يقضي وقته في التغني بذكريات عاشها في عوالم أخرى".

وعندما تعرف جبران خليل جبران على نيتشه وكتابه " هكذا تكلم زردشت" والذي بث نيشه فيه أفكاره وتعاليمه وفلسفته تعلق به ونسي وليم بليك. وأصبح عنده سيادة واستعلاء أخذها عن نيتشه المتمرد على كل المقدسات. وقال في إحدى المناسبات" لقد ولدت وعشت لأضع كتابا واحدا لا أكثر ولا اقل". ونيشه هذا المتمرد وصاحب فكرة الإنسان السوبر مان كان ينظر إلى نفسه بأنه إنسان أعلى، انسان متفوق.

وبالطبع فأن جبران كان يقصد بذلك الكتاب، كتاب "النبي" الذي كما يقول ثروت عكاشه مترجم كتاب النبي لجبران خليل جبران عنه:
" لقد حاكى جبران في كتابه النبي نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زردشت" لكنه حاكاه في الشكل وليس في المضمون. وكما اتخذ نيتشه من زردشت وسيلة لإذاعة آرائه- كذلك اتخذ جبران ( المصطفى ) في كتابه " النبي" وسيلة للتعبير عن أفكاره واتجاهاته". وكما اجرى نيتشه على لسان زردشت حكما وأمثالا- كذلك أجرى جبران على لسان المصطفى سلسلة من العظات، وكانت الحكم والأمثال التي قالها كلاهما إجابة لأسئلة مطروحة من المستمعين.
وكان كلاهما- زردشت والمصطفى غريبا عن وطنه، نزل بين قوم غير قومه، وأخذ يعظهم ويفيض عليهم من حكمته وفلسفته ثم لم يلبث هذا وذاك أن عادا أدراجهما إلى حيث كانا في جزيرتيهما النائيتين.
غير أن تعاليم زردشت لا شك في أنها تختلف في جوهرها عن تعاليم نبي جبران: فعلى حين يبشر زردشت بالإنسان الأمثل ( السوبرمان ) وأخلاقيات السادة، ويشجب الأخلاق التقليدية وبخاصة الأخلاق المسيحية، لأنها أخلاقيات تعادي الممتازين لحساب الضعفاء- يدعو ( المصطفى) أهل أورفاليس إلى الإيمان بقدرة المحبة، التي تربط بين الجميع، على شفاء كل جروح النفس، والى وحدة الوجود التي تمت بصلة إلى التراث التقليدي للمتصوفة المسلمين".

ولا شك أن الألم الذي صنع بليك، وشيلي، وجبران وما صاحب ذلك الألم من مشاعر ومخاوف ووحشه، و وحدة وعزلة، جعل لهم مخيلة خصبة وقدرات عبقرية، وتسبب لهم أيضا بحاله هي أشبه ما تكون بحالة من فقدان الاتزان. وكان بعض حديثهم اقرب إلى العظات المطعمة بالحكم والأمثال، وفي أحيان كان يتجاوز الحكمة ليتحول إلى حالة من الهذيان.

ولا شك ايضا أن ذلك الألم منحهم شعورا بالفوقية والعلوية، وإحساسا بأنهم ينتمون إلى جنس آخر من البشر هو اقرب إلى الأنبياء والملائكة، أو ربما الإنسان الإله.
من هنا نستطيع أن نفهم ما أراد الخراط أن يقوله في روايته "رامة والتنين" فهو لم يكتب رواية بالمعنى المتعارف عليه للرواية، وإنما أراد وضع نسخته من كتاب " هكذا تكلم زرادشت" أو ربما أراد أن يحاكي جبران في كتابه "النبي".

لقد صنع الألم ادوار الخراط إنسانا عبقريا فذا وجعل خياله خصبا واسعا، ومنحه إحساسا بالفوقية، أو الملائكية على شاكلة بليك، وشيلي، وجبران، وأحيانا افقده الاتزان كما يقول هو، فجاءت روايته عظة أجراها على لسان أبطال روايته، لكنها اقرب إلى الهذيان.

فهو إنما أراد إن يكتب "إنجيل ادوار الخراط" وليس مجرد رواية.

- لكن هل نستطيع أن نثبت صحة ما ندعيه هنا؟
- وما هي العظة التي أراد ادوار الخراط أن يوصلها للناس؟

يتبع،،،،

ايوب صابر 02-04-2013 12:37 PM

عناصر الادهاش وسر الروعة في رواية "رامة والتنين" لليتيم ادوار الخراطمصر:-

- أول ما يستوقف القارئ في هذه الرواية، اللغة التي تشي بامتلاك الكاتب لها.
- لديه قدرته على تصوير أحاسيس أبطال روايته من خلال اللغة التي اتقنها.
- في هذه الرواية تتداخل الأزمنة حيث تتداعى أحداث الماضي في تشابك مع اللحظة الحاضرة التي تشكل إطاراً زمنياً للرواية.
- وفي كل هذا يطل الإنسان برغباته ونزعاته وشهواته، حيث لا مفر من البحث عن نهاية يقنع عندها بأنه استنفد كل جهده، وطاقاته.
- الرواية ترصد تفاعلات النفوس الإنسانية التي ذاقت مرارة الهزائم والإنكسارات وتفجرمكامن الخوف في الإنسان الذي تتقاذفه أقداره دون طوق للنجاة يصل به إلى برالأمان.
- يعالج الروائي موضوعة الموت والحياة ويلجأ الى الاستشراف...مثال "واستشرفت أنّه ليس حتى في الموت برء من الوحدة. بعد حياة الوحشة المحكوم بها علينا, نحن نموت. ولا نجد في الموت نجدة. ولا نلتقي فيه بأحد. الموت يطوي الكتاب و يغلقه ويكرس ختمه.
- يمثل إدوار الخراط تيارًا يرفض الواقعية الاجتماعية كما جسّدها نجيب محفوظ في الخمسينات مثلا ولا يرى من حقيقة إلا حقيقة الذات ويرجّح الرؤية الداخلية، وهو أول من نظّر للـ"حساسية الجديدة" في مصر بعد1967م.
- اعتبرت أول مجموعة قصصية له (الحيطان العالية) 1959 منعطفًا حاسمًا في القصة العربية إذ ابتعد عن الواقعية السائدة آن ذاك وركّز اهتمامه على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس.
- ثم أكدت مجموعته الثانية (ساعات الكبرياء) هذه النزعة إلى رسم شخوص تتخبط في عالم كله ظلم واضطهاد وفساد.
- أما روايته الأولى (رامة والتِنِّين) 1980 فشكّلت حدثًا أدبيًا من الطراز الأول، تبدو على شكل حوار بين رجل وامرأة تختلط فيها عناصرأسطورية ورمزية فرعونية ويونانية وإسلامية.
- ثم أعاد الخراط الكرة بـ(الزمان الآخر) 1985 وبعدد من القصص والروايات (وإن صعب تصنيف هذه النصوص) متحررة من اللاعتبارات الإديولوجية التي كانت سائدة من قبل.
- منح إدوارد الخراط، واحده من اهم الجوائز لمهارته الروائية وتلاحم عناصر تجربته.
-يمتاز بقدرته على التأليف الشعري.
- له حضور جلي في نصوصه المعروفة.
- وهولا يحاكي مذهباً ولا يقلد أحداً.
- تمرس بفن الرواية مبتكراً للأشكال منوعاً فيها، فجاءت بارعة متداخلة ما بين ظاهرها وباطنهاـ
- روايته غنية بحياتها، معنية بروح العصر وبمشكلات المثقفين، وبكل ما يتيح للأدب أن يتجاور مع الواقع دون أن يتخلى عن سعيه إلى تجاوز هذا الواقع نحو عالم أكثر بهاء وحرية وإنسانية.

ايوب صابر 02-04-2013 12:42 PM

عناصر الادهاش وسر الروعة في رواية "رامة والتنين" لادوار الخراطمصر:-

-قادر على خلق كائنات حية تتجول داخل النصوص، لتلهمنا تجاربها وتمنحنا المتعة وتستثيرنا لمواجهة الواقع..
- يرى ادورد الخراط نفسه ان كتاباته تتطلب جهد مشترك يبذل هو قسما منه عند الكتابة ويتوقع من القارىء أن يبذل نصيبا من الجهد لتكتمل دائرة العمل ويصبح النص عندها مكتملا.
- يقول انه يشجع القارىء على التفكير وإعمال العقل دون التمسك بالثوابت.. بل عليه الثورة على الثوابت والتعامل دائما مع المتغيرات فلكل شىء جوانب سلبية وإيجابية والأمر يعتمد على الزاوية التى تنظر أنت منها للعمل.
- ويقول "هناك جماليات معينة تحتاج نظرة جديدة وقارئا جديدا".
- يرى انه من الطبيعى جدا أن يظهر بعض التشابه فى كتاباته لأن الكاتب واحد. ولكن مع قليل من التأمل والوعى سوف تجد الفروق والاختلافات والتنوع واضح بالتأكيد. والتكرارهنا ليس استنساخا بل هو تكرار نابع من وحدة الرؤية، وربما من وحدة الأسلوب.
- لكن هذه الوحدة لا تعنى نفى التنوع.. بالعكس الوحدة تشمل التغاير والتنوع. وهذا ما يسمى بالمنطق الجدلى.
- يقول ايضا "لا أتمسك بقوالب معينة.. فخلال عملية الكتابة أترك النص مفتوحا على كل الاحتمالات.. وبالتالى يمكننى أن أستكشف أعماقا جديدة وأبعادا جديدة أضيفها للشخصيات.. أى أن العملية ليست مخططة تخطيطا كاملا منذ البداية. وإلا أصبحت عملية قصدية.
- وفى رأيه أن جمال الفن وصدقه يكمنان فى اكتشاف الجديد حتى بالنسبة للكاتب أوالفنان. أن يكتشف خلال عمله ما كان خافيا عليه البداية. ما كان يشعر به ويحسه ولكن لا يعرفه بوضوح.
- يرى بأن العمل الفنى يملى قانونه الخاص وليس عليك ككاتب أن تملى قانونك الخاص على العمل الفنى.
- لا يأخذ الواقع بشكل مجرد. وهو يرى بان أى كاتب أو أى فنان يأخذ الواقع ويراه من منظوره الخاص.. ومن خلال رؤيته المستمدة من ثقافته وقراءاته.
- ويرى انه ليس هناك واقع نمطى يمكن أن يراه كل الناس بشكل موحد. كل الفنانين لا يمكن أن يروا الواقع بشكل متطابق أومتشابه. بالعكس التنوع هنا هو الضرورة الأساسية التى تكشف عن جوانب مختلفة من الواقع قد لا يراها القارئ العادى أو الناقد العادى. ولكن الفنان يمكنه أن يجد فى هذا الواقع جوانب مختلفة عن الجوانب التى يراها فنان آخر. وهذه هو قيمة الفن.
- الفن يمكنه أن يستكشف بكارة معينة خفية فى هذا الواقع الذى يبدو نمطيا أو متشابها. وهوطبعا ليس متشابه ولا نمطى بل متنوع ومتعدد الأبعاد والأعماق. وهذا ما يضيف جمالا إلى العمل.
- يكتب بصورة عفوية حيث يقول "انا أتركها عفوية.. أترك الأمور تجرى كما تهوى.. ولذا لا أميل إلى التسجيل أو التوثيق وأترك هذه الأمور لتأتى فى غمار العمل الفنى أو النقدى كما تتطلبه المواصفات الفنية للعمل نفسه.
- يقول "انا مع كتابة الجسد لأنه مقدس وليس مبتذلا لارتباطه بالروح.
- أخرجه القدر من براءة شبابه الأول ليلقى به فى بحر متلاطم من الحياة الشاقة التى بقدر ما أهلكته، بقدر ما خلقت بداخله قوة مختزنة، جعلته قادراًعلى مواجهة الحياة وترويضها لصالحه.

- ادبه غارق في المصرية.
-تحمل المسئولية بعد وفاة والده أنضجه مبكراً.
- كان مصدر احساسه بأن العالم من حوله ليس عادلاً، بل ظالم، أمرين اثنين:
الامر الاول: فقدانه خالته واخويّ وأختيّ الذين خطفهم الموت على نحو متواتر او متتابع. فالثلاثينات والأربعينات كانت حقبة سيئة وقاسية، عموماً، على الصعيد الصحي، اذ كانت الامراض والاوبئة، كالتيفوئيد، تفتك بالناس فتكاً متمادياً،لعدم توافر الأدوية، خصوصاً المضادات الحيوية.

الأمر الثاني: الذي يلازم الأول ويوازيه في دفعي الى اليسار، كان محنة الظروف المادية وقسوتها. فاليسر والرفاه اللذان عرفهما والدي قبل ازمة 1936 الاقتصادية الخانقة، انقلبا عسراً وضيقاً بعد تلك الأزمة، مما فاقم احساسي بالظلم واللاعدالة.


- كروائي،اعتبر نفسي مؤرخاً لأشواق الروح وأشواك المجتمع.
- لكن التأريخ الاجتماعي وغيرالاجتماعي يحضر في وصفه عنصراً داخلياً في السياق الروائي والمشهد الروائي. وأظن ان التأريخ الحقيقي او الفعلي متضمَّن في الأعمالالروائية.

ملاحظة : صحيح ان هناك عدة عناصر وعوامل جعلت روايات الخراط رائعة لكن ربما ان اهم عنصر من عناصر التأثير هو ابتعاده عن الواقعيةالسائدةوتركّز اهتمامه على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس، اضافة الى رصده لتفاعلات النفوس الانسانية وهي مهارة ربما لا يتقنها الا يتيم؟!


الساعة الآن 09:19 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team