![]() |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
تمهيد إن محاولة الفهم الحقيقي للواقع بالاستناد إلى التاريخ والثقافة الصحيحة والحياد المطلوب، أصبح أمرا بالغ الصعوبة في عالمنا المعاصر. والأسباب تتنوع في ذلك. فليس من السهل أبدا أن تحاول الوصول للحقيقة بشكل علمي في عالم كل ما يدور فيه ضد قواعد العلم والمنطق على طول الخط. وأخطر الأسباب وراء الجهل المنظم أن الجهل في الزمن القديم كان يعود في مجمله إلى التقصير وعدم الرغبة في بذل الجهد الكافي للمعرفة، وهذا السبب كان يمكن للعامة تلافيه نظرا لوجود رموز العلم والفكر المستقلين الذين كانوا يقودون سفينة الوعي في المجتمع ويحرصون على محاربة تيار الجهل مهما كانت قوة دعم هذا التيار. فالحرص على جهل العوام كان دوما هدفا استراتيجيا للاحتلال الغربي كما كان هدفا للحكومات المستبدة التي تقوم عروشها على نشـر وشيوع ثقافة الجهل وثقافة القطيع حتى يظل المجتمع مجرد جماهير تتحكم فيها سياسة القطيع على النحو الذي شرحه العديد من المفكرين مثل عبد (الرحمن الكواكبي) في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد)، وكما وصفها مفكرنا الساخر (محمود السعدني) بثقافة (الاستحمار) قياسا على سياسة (الاستعمار) وبنفس الصورة شرحها أيضا مفكر سياسي كبير هو أستاذ الاجتماع السياسي الدكتور (عبد الرازق عبد المعطي) صاحب كتاب (تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة) وكما قلنا كان هذا التيار يفشل أمام وجود الرموز المانعة التي تحمل رسالة الوعي، وهو ما حافظ على دور فاعل للشعوب في مواجهة حربها مع الاحتلال عَبْر التاريخ حيث كان قادة الوعي هم أنفسهم قادة المقاومة في كل عصر. وأيضا في عهد ما بعد الخلاص من عهد الاحتلال المباشر كانت مهمة الرموز مماثلة في مواجهة الاستبداد المحلي –بعد رحيل الاستعمار الخارجي ظاهريا- وكان السلاح الأقوى لهؤلاء الرموز هو حرصهم على بث ثقافة الاستقلال وكشف التجارة بالشعارات التي احترفتها الحكومات المتوالية لتبرير استبدادها أو لتبرير عملها ضد مصالح الشعوب. وذلك بعد أن خرج المحتل بسلاحه الظاهر وحرص على مساندة الحكومات الداخلية التي أصبحت وكيلا عنه في حفظ مصالحه. عدا بعض التجارب الوطنية الحقيقية التي عملت بإخلاص وبدعم شعوبها ولم تفشل تجاربها إلا بسبب الاستبداد والدكتاتورية على نحو ما جرى في تجربة (محمد علي) وتجربة (عبد الناصر) وكلاهما تبعته حكومات معادية تماما لخط الاستقلال، فقد سقطت تجربة (محمد علي) بمجيئ عصـر (إسماعيل) الذي ارتكب كل المحاذير التي حرص والده (إبراهيم باشا) وجده (محمد علي) على تلافيها وتسببت سياساته في سقوط مصـر وتجربتها الوطنية والحضارية تحت الاحتلال الإنجليزي أما تجربة (عبد الناصر) فقد انقلب عليها (السادات) بعد حرب أكتوبر وتوجه بسياسته الكاملة للعدو التاريخي وهو الولايات المتحدة لتقع مصـر منذ ذلك الحين رهنا للسياسة الغربية في المنطقة. وما كان للتجربتين (محمد علي) و(جمال عبد الناصر) أن يسارعا للسقوط لو أنهم اعتمدوا على الحكم التشاركي وترك سياسة الاستبداد العقيمة التي أنتجت سياسيين هُمْ في واقعهم مجموعة من منافقي السلطة يتحينون الفرص للانقلاب على أي تجربة ديمقراطية أو وطنية مستقلة تقوم على تأسيس نهضة حقيقية كتلك النهضة التي شهدتها عشـرات التجارب الناجحة مثل تجربة ماليزيا وسنغافورة والبرازيل والهند والصين وفيتنام وغيرهم وبلغت هذه الحكومات من التبجح ما جعلها تحاول دوما التجارة أمام شعوبها بقضية الاستقلال الوطني أو شعارات التقدم أو شعارات التدين والدفاع عن الدين ... الخ بينما هي في الأصل حكومات حصلت على شرعيتها من الدعم الغربي الذي استبدل سلاحه الحربي بسلاح فكري واقتصادي وسياسي يحقق الأهداف المرجوة دون أدنى تكلفة مباشرة إلا في القليل وهذا كان واقع العالم العربي حتى الماضي القريب. لكن الكارثة الحقيقية أنه منذ عصـر الخمسينيات وحتى السبعينيات انتشـر عهد المتاجرة بالشعارات ونشـر (الجهل) الذي تطور وأصبح نشـرًا (للتجهيل) بحيث تمكنت تلك الأنظمة من تنفيذ استراتيجية عنيفة تعتمد على خلق جهالة منظمة بالمجتمع تدفعه للصـراعات الطائفية أو السياسية بحيث يصب هذا كله في مصلحة الحكومات نفسها مع انشغال الشعب برموزه ومفكريه في محاربة بعضهم البعض وإهمال القضية الوطنية. وإذا تحقق هذا كان من السهولة بمكان أن تستقر السلطة المستبدة في الحكم دون قلق نظرا لوجود الدعم الغربي لها خارجيا ووجود الدعم الداخلي بانشغال الشعب عن المطالبة بحقوقه وغياب اهتمامه بأبجديات محاسبة تلك الحكومات. وهي نفس الاستراتيجية التي اخترعتها بريطانيا باسم (فَرّق ... تَسُد) وكانت سببا رئيسيا في أن تكون مستعمراتها هي المستعمرات الأكثر استقرارا بين المستعمرات الأوربية نظرا لأن بريطانيا كانت تدخل إلى أي دولة أو مجتمع فتقوم بإشعال الصـراعات الثنائية النائمة بين مختلف فئات الشعوب المستعمرة ثم تدعمهم جميعا في صراعاتهم ضد بعضهم البعض وبالتالي تصبح حكومة الاحتلال عندئذ هي قِبْلة كافة الخصوم وتعيش قوة الاحتلال مستقرة بلا مقاومة مرهقة أو صراع على الاستقلال. وهو ما فعلته في الهند لعقود طويلة عن طريق تحريك الفتن الطائفية في بلد يعج بثلاثة آلاف عقيدة مختلفة، ويعاني الفقر وانعدام التعليم. وكذلك فعلته في كافة دول شرق آسيا وافريقيا والأمريكتين ولم تتحرر تلك الشعوب إلا مع ظهور التيار الفكري المستقل الذي أعاد للشعب وعيه المفقود ليعلم أن الاحتلال هو العدو الحقيقي وأن الصـراعات الطائفية تدبير منظم منه وليس معنى هذا أن المعادلة دائما كانت في صف الاستراتيجية الغربية بل قامت عبر التاريخ محاولات رائدة لاستقلال حقيقي، منها ما اكتمل بالفعل مثل تجربة الهند وفيتنام والصين والبرازيل ومنها ما فشل وأصبحت نتيجته أن صارت تلك الدول –حتى لو تقدمت علميا- مرهونة بالقرار (الغربي –الأمريكي) على نحو ما صارت به السلطة في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية حيث تدخل الأمريكيون في مناهج التعليم والسياسة الداخلية لضمان عدم تكرار تجربة استقلال الدولتين والسماح لهم فقط بالتطور الاقتصادي مع مصادرة القرار العسكري والسياسي لأمريكا والدول الكبرى ومنها أيضا ما حدث في الشـرق الأوسط والذي نشأت به تجارب لم تكتمل إلا أن وجودها في حد ذاته واستمرار محاولاتها هو أمل متجدد لنجاحها ذات يوم. لكن الواقع الحالي لا يشـي بأمل قريب مع رؤية طبيعة وخفة تفاعل الناس والمثقفين مع ما يحدث، لكن ما يدعم وجود الأمل –في نفس الوقت- هو أننا قد بلغنا القاع بالفعل في عصـرنا الحالي، وبالتالي نأمل في محاولة العودة ولو ببطء بعد أن استدار التاريخ على نفسه دورة كاملة آن أوان تغيير اتجاه القوة في النظام العالمي. فلم يحدث في تاريخ المنطقة والعالم أن أصبح الوعي والعقل مأسورا لهذه الدرجة، ولم يحدث أن غاب صوت الرموز والعلماء والمفكرين وتم سحقه لصالح الجهل والتجهيل بمثل ما حدث ويحدث في عالمنا اليوم على مستوى العالم –لا على مستوى العرب وحسب- ولا حدث قبل اليوم أن الاستقطاب العنيف أصبح هو عقيدة الشعوب نفسها لا عقيدة التيارات المتناحرة كما كان مألوفا في الماضي ولم يحدث أن سادت الغوغائية والضياع-حتى على مستوى ممارسات الحكومات ومؤسسات التفكير- بمثل ما يحدث اليوم حتى أن معظم أساتذة الجامعات والمفكرين وأهل الرأي انزوى أكثرهم بعيدا عن هذا الجنون المتفشـي الذي نجح في أن يقلب صراعات الفكر والسياسة والعسكرية إلى صراعات مناطحة ثيران كتلك التي نشهدها من مشجعي كرة القدم حيث يحكم الصوت العالي والتنمر البغيض والانحياز معدوم الهدف! فالتعليقات ومحاولة تفسير الأحداث اليوم لم تعد تعتمد على مبادئ العلوم السياسية وعلم الاجتماع وعلى التفكير الاستراتيجي الذي يهدف للمصلحة العامة. بل صُودر التاريخ وصودرت السياسة لصالح الاستقطاب وتم هتك عرض علوم التاريخ ومبادئه وتفسيره بما يتماشى مع الأغراض السياسية الضيقة التي لا يهمها مصلحة شعوبها أو حتى أمنها القومي! بل أصبحت الأهداف هي الصعود بالطائفية الضيقة –ليست الدينية- بل الطائفية السياسية التي تخدم أغراض السياسيين بغض النظر عما يُقَال عن مصلحة الشعوب أو استقرار العالم! وهذا يذكرني بواقعة ذات دلالة حدثت في الحرب العالمية الثانية عندما قام (جوبلز) وزير الدعاية الشهير في الحزب النازي بابتكار فكرة شيطانية لنشـر شعبية الزعيم النازي (أدولف هتلر) في أوربا وتحطيم الروح المعنوية لجيوش الحلفاء. فقام بجمع النسخ المنشورة والمخطوطة لكتاب (القرون) الذي كتبه الراهب (ميشيل نوستراداموس) صاحب النبوءات الأشهر في العالم. وكان كتابه – رغم أنه كتاب دجل فارغ ككافة كتب هذا المجال- إلا أن تأثيره على العوام كان ساحقا منذ عهد صاحبه وحتى عصر الحرب العالمية بل وربما إلى اليوم. فالجهلة من الإعلام والمغرمين بنظريات المؤامرة يستندون إلى هذا الكتاب كما لو كان كتابًا سماويًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! هتلر ووزير إعلامه جوبلز المهم أن (جوبلز) -شيطان الإعلام النازي- جاءته الفكرة العبقرية في جمع النسخ الأصلية للكتاب في ألمانيا ومستعمراتها، وإعادة طبعه بآلاف النسخ بعد تزوير بعض محتواه عن طريق حذف النبوءات التي قد يتم تفسيرها بهزيمة (هتلر) واندحاره في الحرب العالمية، ثم وضع نبوءات أخرى مشابهة تمت كتابتها بواسطة خبراء بنفس أسلوب رباعيات (نوستراداموس) وبالطبع كان محتواها مليئا بنبوءات النصر لهتلر واندحار الحلفاء. ثم قامت المخابرات الألمانية بطبع ونشـر تلك النبوءات وتوزيعها بشكل فادح في دول الحلفاء مما خلق حالة هائلة حول هتلر ساعدتها انتصاراته المدوية في أوربا ونجاحه في إسقاط معظم دولها ثم خَتْم انتصاراته باحتلال فرنسا نفسها. والمثير في الأمر. أن المخابرات البريطانية عندما بلغتها أمر فكرة (جوبلز) سخروا منها سخرية شديدة إذ تعامل خبراء المخابرات البريطانية مع الفكرة على أنها فكرة شديدة التخلف لا يمكن لعاقل أن يتفاعل معها. ورغم أن تحليل المخابرات البريطانية كان صحيحا إلا أن الفكرة حققت نجاحا هائلا لم يتوقعه جوبلز نفسه، والسـر هو ثقافة القطيع مع سيطرة الخوف على جماهير الدول الأوربية من هتلر. ففكرة جوبلز لم تنجح لأن الجماهير الأوربية كانت متخلفة بل لأن النبوءات جاءت في وقت قاتل، حيث كان هتلر يكتسح أوربا بانتصارات مذهلة فضلا على سيطرة الرعب الذي فتك بقلوب الأوربيين ونظرا لأن الخوف يعطل التفكير فقد راجت نبوءات جوبلز المزورة ووجدت لها موقعا في قلوب الناس كما تقول الحكمة القديمة: (إذا ضعفت النفس استسلمت للخرافة) هنا لم تجد المخابرات البريطانية مفرا من أن ترد الفكرة بعكسها فقامت بجمع نسخ كتاب نوستراداموس المتوفرة في بلادها، وحذفت منه ما أرادت ووضعت عشـرات النبوءات التي تتنبأ باندحار هتلر والنازية كما اندحر من قبله (نابليون بونابرت) رغم اكتساحه أوربا سابقا ونجاحه في هزيمة كافة إمبراطوراتها، ورغم ذلك نجحت بريطانيا في آخر الأمر في هزيمته وانطوت صفحته. وهكذا أيها السادة. انمحت النسخ الأصلية تقريبا من كتاب (القرون)، ومع ظروف الحرب وقلة تكنولوجيا الطباعة في ذلك الوقت، أصبح من المستحيل عمليا إيجاد نسخة واحدة صحيحة من الكتاب وبقيت فقط النسخ المزورة التي لا زالت تُطْبع حتى اليوم بملايين النسخ ويعتمد عليها النصابون من كافة دول العالم وهم يتاجرون على الناس بطرح نبوءاتهم المستقبلية. وليس العيب فيمن يفعل لكن العيب –كل العيب- فيمن يتفاعل ويصدق تنبؤات تعتمد على كتاب مزور ورغم أن الكتاب نفسه تم تزويره إلا أن نسخته الأصلية أيضا كانت عبارة عن تخريف متنبئ لا يختلف عن أي نصاب من نصابي التنبؤات المنتشـرين عبر تاريخ الحضارات والبشر! فهي مجرد نبوءات شعرية بكلمات شديدة العمومية والاتساع يمكن حملها وتفسيرها وتكييفها على أي حدث عالمي كبير ووجه الاستدلال بتلك القصة عزيزي القارئ. أن الوضع الحالي في عالمنا العربي أصبح مستعدا فقط لسماع من ينتمي إلى الاستقطاب، فإذا خرجت على الناس –مثلا- فتكلمت في مناصرة جانب هتلر مستعينا بتنبؤات جوبلز فإنك ستجد الدعم والمناصرة من أنصار هذا الاتجاه، وإذا تكلمت في اتجاه مناصرة الحلفاء مستعينا بتنبؤات المخابرات البريطانية فستجد الدعم والمناصرة من أنصارهما. أما إن كنت عاقلا -في هذا الزمن المجنون- ووقفت فوق برج القاهرة عاريا تصـرخ في الناس بأن كلا الجانبين مجرد نصابين وأن هتلر والمخابرات البريطانية ونوستراداموس نفسه نصابون يستحقون الحرق ويتعين علينا رفضهم جميعا. فهنا لن تجد مُنَاصرا ولا مستمعا وفي الأعم الأغلب ستجد عربة اسعاف تنتظرك أسفل البرج لنقلك إلى أقرب مستشفى أمراض عقلية. وبالطبع حديثنا هنا عن هتلر والمخابرات البريطانية هو حديث لضـرب المثال، وكل ما عليك عزيزي القارئ أن تضع مكانهما أي نوعين من الأطراف المتصارعة اليوم حول أي قضية تشاء وعندها ستصلك الفكرة. والأسباب الرئيسية الواقفة خلف هذا الاستقطاب نلخصها فيما يلي: أولا: قراءة التاريخ والواقع تعتمد –كما في أي مجال علمي- على الحياد التام في المعالجة وإلا أصبحنا في مواجهة (دعاية) لا مواجهة (علم) فالباحث من المفترض أن يبدأ من نقطة الصفر بحثا عن تحليل نهائي ونتائج حقيقية لما يبحث فيه، وهذه النتائج –قبل البحث- لا تكون بالقطع واضحة أمامه، وإلا لما كان هناك معنى للبحث أصلا. وبالتالي فإن أي باحث يدخل إلى بحث قضية وهو معبأ بنتيجة مسبقة ويبدأ بحثه العلمي بهدف إثبات أو نفي مبدأ معين يسعى إليه فهو هنا ليس باحثا علميا ولكنه إنسان مؤدلج تمت مصادرة جهده وعقله لصالح أيديولوجية محددة يُهِمه إثباتها ونفي ما يعاكسها. وما يحدث في العالم العربي منذ عام 2011م يمكن الحكم عليه من خلال تلك النقطة، فالشاشات الإعلامية تبث لنا صراعات ثنائية بين حكومات تتاجر بالوطنية ومعارضة تتاجر بالدين وتيارات تتاجر بالعلمانية والديمقراطية. بينما الأصوات التي تعادي كافة هذه الصراعات لا تجد لها مكانا رغم أنها الأصوات الحقيقية الوحيدة في عالم الشاشات المفتوحة اليوم! إذ أن طموح الشعوب وأهدافها غائب تماما عن أهداف المتقاتلين على الحكم والسيطرة وكل منهم يضع يده في يد الشيطان لتحقيق سيطرته بغض النظر عن الشعوب التي يتم التعامل معها كقطعان وظيفتها أن تصـرخ وتهلل للمنتصـر وتلعن المهزوم ثم تذهب في اليوم التالي لتواصل جهدها في البحث خلف لقمة العيش وشربة الماء! ثانيا: رغم أن الغوغائية هي صفة يمكن قبولها في عوام الناس ممن يسهل استقطابهم، إلا أن مصيبة العصـر الحالي تكمن في تحول (الإعلام) بسياسة الوعي إلى (إعلان) بسياسة الغريزة. فالإعلام منذ نشأته المعاصرة في القرن العشـرين بدأت مصادرته لصالح القوى القادرة على التحكم فيه، حيث أصبح الإعلام مرهونا بمؤسسات جبارة وكيانات اقتصادية طاغية وسلطات هائلة تستطيع الوصول للأذهان والقلوب بشتى الوسائل. ورغم وجود هذه السيطرة في القرن العشـرين إلا أن المفكرين المستقلين أصحاب رسالة الحقيقة وجدوا آلاف الفرص للخروج بأفكارهم –رغم الحصار- وذلك يعود إلى أن آلة الإعلام العالمي والإقليمي ليست آلة واحدة بل هي آلات متعددة ومتصارعة بحرب لا هوادة فيها فكانت النقطة التي نفذ منها كبار المفكرين أنهم استغلوا هذه الصـراعات وخرجوا بفكرهم المستقل عندما استعانت بهم آلات الإعلام المختلفة لفضح خصومها وبيان حقيقتهم. ولولا تلك الصـراعات لما تمكنا من الحصول على آلاف المراجع والوثائق والشهادات المتلفزة عن حقيقة الحرب الباردة ووحشية الشيوعية والرأسمالية على حد سواء، ولما عرفنا زيف شعارات العدل والمساواة التي رفعتها التيارات الشيوعية وزيف شعارات الديموقراطية والإنسانية والحرية التي رفعتها الرأسمالية" " ولولا تلك الصـراعات لما عرفنا أن أنظمة الحكم التي تولت في العالم العربي عقب حركات التحرر انتهت إلى سياسة الدول الوظيفية التي تؤدي نفس سياسة الاستعمار ولكن بإنتاج محلي! ومنها عرفنا أن تلك التيارات وتلك الدول التي رفعت شعار (الإسلام) ما كان هدفها الإسلام في شيء بل هو مجرد غطاء لتنفيذ الأجندات السياسية الغربية. وعرفنا أيضا أن تلك الأوطان التي رفعت راية الوطنية والدفاع عن القومية ما كان هدفها القومية ولا الاستقلال وإنما هدفها تكريس الدكتاتورية وحكم الفرد ثالثا: العيب الوحيد في رسالة الوعي التي حملها المفكرون المستقلون أن بعضهم تورط في الدفاع الأعمى أو الهجوم الشامل، وهذا العيب يمكن تفاديه بمراجعة كافة المؤلفات والشهادات ومحاولة الوصول إلى الحقيقة المجردة وإهمال التحليلات سابقة التجهيز فإذا نجحت عزيزي القارئ في الخروج من شرنقة (الأدلجة) وخلايا (الاستقطاب) فهنا –وهنا فقط- تستطيع الحكم على الصورة الكاملة والكامنة لكل حدث أو قضية تود معرفة حقيقتها. وكمثال على صحة توجهك يمكن اختبار نفسك، فإذا وجدت نفسك تُقر بالحق الذي تراه بغض النظر عن مُتّبعيه، وَتُبطل الباطل الذي تراه بغض النظر عن مرتكبيه فأنت عندئذ على بداية الطريق. وتطمئن أكثر لصحة تحليلك لتاريخنا المعاصر وواقعنا الحالي إذا وصلت بالنتيجة أن كل من تراهم على الساحة الآن هم من تجار الحكم لا أكثر ولا أقل. فَهُم إما مرتزقة بالمعنى الحرفي أو مرتزقة بالزي الرسمي! لا فارق بين أمير أو وزير أو زعيم طائفة أو قائد ميلشيا. فالأعمى في عصـرنا الحالي يمكنه -إذا اتسم بالحيادية- أن يرى مدى تأثير وسيطرة الدول العظمى على أحداث المنطقة العربية، فالدول الكبرى التي يسميها المفكر الكويتي الكبير (عبد الله النفيسـي) بدول (المركز) هي التي تتولى القيادة للدول الوظيفية التي تشمل المنطقة العربية على مستويات توظيف مختلفة ويسميها النفيسي بدول (الأطراف). ولا يمكن فك هذه السيطرة إلا بقيام دور فاعل للشعوب، فهنا -وهنا فقط- تختل يد السيطرة الغربية وتصبح مجبرة على التعامل ندا بند مع سلطات تحكم باسم الشعوب حقيقة لا مجازا. رابعا: الفكر الإسلامي –كما هي العادة- حمل لنا توصيفا دقيقا لما يحدث اليوم من خلال أحاديث النبي عليه السلام فيما يخص أحداث آخر الزمان. تلك الأحاديث التي أهملها مفكرو السياسة في العصـر الحديث –تحت زعم محاربة الخرافة- في نفس الوقت الذي لا يستحي هؤلاء من الترويج لتنبؤات العرافين أمثال (نوستراداموس) واتخاذها مصدرا من مصادر المعرفة! القصد أن الفكر الإسلامي وتفسيرات مفكريه القدامى –بعيدا من متاجرة التيارات الدينية المعاصرة- أعطتنا صُوَرا مختصرة ومركزة على وضع العالم اليوم. فالذي يستغرب من قولنا إن كافة التيارات المتصارعة اليوم كلها على الباطل، عليه أن يعود لتلك النصيحة الذهبية التي أرساها النبي عليه السلام لزمن الفتن. فقد جاء في الحديث الصحيح: (تكونُ دعاةٌ على أبوابِ جهنمَ ، مَنْ أجابَهم إليها قذفوه فيها ، هم قومٌ مِنْ جِلْدَتِنا ، يَتَكَلَّمُونَ بألسنتِنا ، فالزمَ جماعَةَ المسلمينَ وإمامَهم ، فإِنْ لم تَكُنْ جماعَةٌ ولَا إمامٌ فاعتزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّها ، ولَو أنْ تَعَضَّ بأصلِ شجَرَةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ وأنتَ كذلِكَ) والخطأ الأكبر الذي يمكن أن نقع فيه أن نُسْقط الحديث على التيارات المتاجرة بالدين فقط، أو نسقطه حصرا على المعارف والفتاوى الدينية. فالحديث حديث شامل وهو يخص شئون السياسة والاجتماع بأكثر مما يخص مبادئ الشـريعة المتخصصة، فالفقه الإسلامي –ليس كما يروج البعض- من أنه المختص بفقه الفرائض بل هو فقه الواقع في كافة شئون وحياة الناس دينا ودنيا. وعليه فالحديث برهن لنا على العلامة الكبرى التي توضح لنا بداية عصـر الفتن، وهي وجود الفرق المتحاربة أو المتخاصمة كما يبين لنا سبيل النجاة المتمثل في لزوم جماعة المسلمين وإمامهم. وهنا سأل الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان: (فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة) فقال النبي عليه السلام: (إذا تعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة) ..... إلى آخر الحديث والنصيحة أو التوجيه النبوي هنا كاملا ومكتملا، فلا شك أننا في قلب بركان الفتن، ولا شك أن عِقْد شعوب العالم العربي والإسلامي قد انفرط نهائيا، وأصبح المسلمون في أسفل درك الحضارة وتحت سنابك التحكم. ولذلك جاء التوجيه النبوي للعامة باعتزال تلك الفرق المتصارعة جميعا، وعدم الدفاع عن فرق سياسية أو دينية أو حزبية ضيقة ونداء اعتزال الفرق ليس معناه اعتزال الحياة بل اعتزال الفرق نفسها بأيديولوجية كل فرقة، والاحتفاظ بقلب مستقل وعقل متأمل لا يخدعه رفع الشعارات مع انعدام التطبيق فالاندماج تحت أي نظام أو أي فكرة التورط في الدفاع عن تلك التيارات يورطك حتما في التحذير النبوي القاطع والمتمم للحديث السابق الذي ورد عن النبي عليه السلام بقوله: (مَن خرج من الطاعةِ ، وفارق الجماعةَ ، فمات ، مات مِيتةً جاهليةً ، ومن قاتل تحت رايةٍ عَمِيَّةٍ ، يغضبُ لعَصَبِيةٍ ، أو يَدْعُو إلى عَصَبِيَّةٍ ، أو ينصرُ عَصَبِيَّةً ، فقُتِلَ ، فقَتْلُه جاهليةٌ ، ومَن خرج على أمتي يَضْرِبُ بَرَّها وفاجرَها ، ولا يَتَحاشَا من مؤمنِها ، ولا يَفِي لِذِي عُهْدَةٍ عَهْدَه ، فليس مِنِّي ، ولستُ منه) ونص كلام النبي عليه السلام واضح في أن التحزب بالفرق وترك الجماعة العامة هو من قتال الفتن وكذلك الدفاع عنها هو دفاع الفتن. والنقطة الخطيرة هنا أن الحديث استثنى الجماعة، ولكن ما الحل عند غياب الجماعة أصلا، هنا تأتي القاعدة الداعية باعتزال كافة الجبهات المتصارعة والدفاع فقط عن المبادئ العامة للدين والوطنية بغض النظر عن كل متاجر بهما. |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
الفصل الأول ماذا يحدث في سوريا؟! على نفس الخط... ورغم البحث المرير عن عقلاء يتحدثون وفق ضوابط العلم والعقل والمنطق إلا أنك لن تجد هذا إلا نادرا. فالصـراع حول سوريا وما حدث فيها من مارس 2011م حتى ديسمبر من عام 2024م، لن تجد فيه –غالبا- إلا الاستقطاب العنيف. فالمناصرون للسفاح (بشار الأسد) يرون فيه الرئيس القومي الذي دافع عن بلاده بحرق بلاده على ما من فيها! والمناصرون لتحرير سوريا لن تجد فيهم إلا التفخيم والتعظيم للميليشيات التي دخلت حربا ضروسا طيلة عشـر سنوات ضد بعضها البعض وضد بشار الأسد وجيشه وكانت مجرد جماعات مرتزقة –كما سنرى- تعمل لتحقيق مصالح الممولين وما بينهما لن تجد الشعب السوري نفسه والذي انسحقت ثورته من منتصف عام 2012 تقريبا، وتمت مصادرتها لصالح تلك المعارك الوحشية بين الطرفين! وهذا البحث سيطرح أمامك عزيزي القارئ القضية بخلفيتها التاريخية الضـرورية للطرفين المتصارعين، لأنه بدون النظر للتاريخ فإن الواقع يصبح مجرد أفلام كرتونية كقصة مسلية أو دموية مثيرة للتعاطف والعجز بينما قراءة التاريخ الصحيح هي التي تؤدي لفهم الواقع الصحيح، لأن من يهمل قراءة التاريخ محكوم عليه –كما يقول أستاذنا الكبير هيكل- بتكرار نفس أخطائه إلى ما لا نهاية. والبحث لا يفرض تحليلا صحيحا كاملا لما وقع في سوريا بل يفرض الحقائق المجردة أولا ويدعوك –عزيزي القارئ- لإسقاط تلك الحقائق على واقع ما رأيته وتراه منذ بدايات ثورات الشعوب عام 2011م وفشلها –حتى اليوم- في تحقيق أهدافها. والبحث من شقين: الأول: وهو خاص بدراسة سريعة لتاريخ سوريا المعاصر منذ تحررها من الاستعمار الفرنسـي الإنجليزي، ومدى أهمية موقعها وثرواتها، تلك الأهمية التي جعلتها نقطة صراع رئيسية في صراع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وكيفية تطور هذا الصـراع حتى وصوله إلى تلك النقطة المحورية التي جاءت بحافظ الأسد رئيسا ديكتاتوريا مؤبدا في بلد لم يعرف استقرار الحكم من قَبْلِه قط الثاني: هو إلقاء الضوء بلمحة تاريخية سريعة على ما يُسَمى بالإسلام السياسي أو التيارات الدينية المختلفة التي نجحت بريطانيا والولايات المتحدة في توظيفها توظيفا كاملا إما بإنشاء دول كاملة وظيفية وتكون مرجعيتها الدينية هي أساس الحكم، وإما توظيفها كجماعات مرتزقة مسلحة تقوم وتظهر وتختفي وتكبر وتصغر حسب مشيئة أجهزة المخابرات الغربية وبالتالي: إذا فهمنا هذين الشقين أمكن لنا بسهولة قراءة المشهد السوري المعاصر ببساطة دون أن تكون مضطرا- عزيزي القارئ- للقبول بمصادرة عقلك لصالح هذا التيار أو ذاك. *سوريا في الحرب الباردة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية تَغَيّر النظام العالمي بأكمله تَغَيّرا شاملا لم يسبق أن حدث من قبل على مستوى التاريخ المقروء، لا من ناحية شدة التغيير ولا من ناحية الشمول. فقبل الحرب العالمية الثانية –ورغم تقدم التكنولوجيا الكاسح- إلا أن عولمة الأحداث الكبرى في العالم لم تكن قد وقعت بالشكل الذي جرت عليه الأمور بالحرب العالمية الثانية أما التغيير الذي حدث في الحرب العالمية الأولى فقد كان تغييرا كبيرا نعم لكنه لم يكتسب هذا الزخم الكبير الذي نتج عن الحرب الثانية والتي كان العهد بعدها هو العهد الذي جعل العالم أجمع قرية صغيرة وأصبحت الأحداث العالمية تؤثر في الشرق والغرب بشكل فادح مع عولمة السياسة والحروب والاقتصاد بحيث أصبحت محاولة الانعزال الإقليمي لأي دولة هو مجرد خيال. كما أن التغيير الأبرز الذي اكتسح العالم كان في ظهور وتنامي القوتين العظميين الجدد، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ورغم أن العالم منذ فجر التاريخ تتقاسمه قوتان عظميان في الأغلب، إلا أن التغيير الجوهري في مرحلة الأمريكيين والسوفيات يكمن في ظهورهما في عصـر العولمة وأصبحت الأسلحة والمواصلات قادرة على الوصول بتأثيرها إلى أقاصي الأرض فضلا على أن العالم قبلهما كان في الغالب يحفل بقوى أخرى متوسطة القوة تناطح أحيانا القوى العظمى. أما في عهد الأمريكيين والسوفيات فالعالم بكل دوله سواء الضعيفة أو المتوسطة القوة أصبح رَهْنا بعلاقة ما مع القوتين العظميين، ومنحازا –برغم أنفه- إلى إحداهما، وإن كانت درجة الانحياز تختلف بحسب قيمة كل دولة أو قُطر. فهناك الانحياز المشبع بحيث تصير الدولة مجرد محطة لصالح إحدى القوتين وتتبعها بشكل كامل، وهناك انحياز نوعي يتميز بعلاقة ما من التحالف الذي تحكمه المصالح. وقد كان التنافس بين القطبين في القرن العشـرين محكوما بحروب الوكالة بطبيعة الحال، لأن الحرب العالمية انتهت نهاية درامية بأقوى سلاح عرفه البشر وهو السلاح النووي. وبمجرد أن لحق السوفيات بالقوة النووية وتطورت لديهم صناعة الصواريخ الباليستية، أصبح في حكم المستحيل أن يخوض العالم حربا عالمية جديدة أو حربا ساخنة بين القطبين نظرا لطبيعة الصـراع النووي الذي لن يخرج منه منتصـر أو مهزوم بل سيخرج العالم كله مهزوما بعد أن أصبحت أسلحة الدمار الشامل جرس إنذار إجباري يحكم انفعالات وصراعات القوى العظمى لتظل صراعات محدودة بحروب الوكالة أو حروب مناطق النفوذ. وهكذا... وبمجرد أن نجح الاتحاد السوفياتي في أوائل الخمسينيات في الحصول على سر القنبلة الذرية وأصبح مساويا لقوة الولايات المتحدة استراتيجيا، هنا بدأت (الحرب الباردة) كما أطلق عليها المؤرخون. ونظرا لأن المواجهة بين السوفيات والأمريكيين لم تكن تنافسا امبراطوريا عسكريا فقط كما هو الحال في صراعات العالم القديم بل أصبح صراع أفكار وسياسات بالمقام الأول فكان صراعا استراتيجيا بالمعنى الحرفي لمصطلح (الاستراتيجية) حيث تكونت عقيدة السوفيات السياسية والاقتصادية على المنهج الشيوعي، وتكونت العقيدة الأمريكية على العقيدة الرأسمالية المضادة. وأصبحت حرب العقائد في الاقتصاد أشد سخونة وتوترا من حرب الأسلحة لأن القوتان تنافستا على مناطق النفوذ في العالم لمواجهة بعضهما البعض، ووجدت دول العالم نفسها مجبرة على اختيار أحد الطرفين، مع مراعاة أن هذا الاختيار يستلزم نوعا ما من اعتناق العقيدة الاقتصادية والسياسية حيث لم يَعُد متصورا أن يطبق حلفاء السوفيات عقيدة الرأسماليين أو يطبق حلفاء الأمريكيين عقيدة الشيوعية. لهذا بمجرد ظهور حركة سياسية شعبية في أي دولة في العالم يبدو منها ميلا لإحدى العقيدتين فهذا يعني بالتبعية أن تتدخل القوتان في تلك الدولة لدفعها إلى الاتجاه العقائدي الذي يخدم مصالح إحدى الطرفين. وتكون سخونة التدخل من إحدى القوتين مرهونة بأهمية الدولة التي يجري فيها الصـراع، فإن كانت الدولة تمثل أهمية استراتيجية لأحد الطرفين فهنا لا يتورع كلاهما عن المساندة القصوى ولو بالتدخل العسكري، كما حدث عندما تدخل السوفيات في المجر وأفغانستان، وعندما تدخل الأمريكيون في كوبا ونيكاراجوا وقد حبس العالم أنفاسه عدة مرات عندما بلغت حدة الصـراع درجة الغليان وكادت تنقلب إلى صراع نووي مباشر لولا تغير الأحداث في اللحظة الأخيرة، لعل أشهرها أزمة الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا في فترة الستينيات. كما أن كلا القوتين في تدخلها العسكري مُنِيت بهزيمة دراماتيكية في بعض المعارك، فقد لاقت الولايات المتحدة هزيمة مخزية في حرب (فيتنام) تسببت في هزة عسكرية واقتصادية مريعة تعرضت لها الولايات المتحدة، وكان السوفيات بالطبع يقومون بدور الحليف الاستراتيجي لقوات (الفيت كونج) التي نجحت في تحقيق تلك المعجزة. كذلك لاقى السوفيات هزيمة كاسرة في أفغانستان بالدعم الأمريكي وكان تأثير تلك الهزيمة مروعا حيث تآكلت قدرة الاقتصاد السوفياتي وكان التدخل العسكري في أفغانستان بداية انهياره الفعلي الذي تحقق في نهاية الثمانينيات. وبخلاف ذلك بقيت الحرب الباردة تدور بالوكالة في شرق العالم وغربه. وبالطبع كانت أشد مراحل الحرب تلك التي دارت في منطقة الشـرق الأوسط وبذلت فيها القوتان أقصى ما لديهما من الدعم والنفوذ طمعا في السيطرة على المنطقة. والمتأمل في بدايات الصـراع في الشـرق الأوسط سيجد أن السوفيات لم يكن لهم موطئ قدم في الدول والإمارات العربية نظرا لأن المنطقة بأكملها كانت تحت سيطرة الإنجليز بالدرجة الأولى وهم حلفاء الأمريكيين الذين تقدموا لوراثة العرش الإنجليزي في الجزيرة العربية والعراق والشام وشمال افريقيا. ورغم محاولات الانجليز التشبث بأوهام الإمبراطورية القديمة إلا أنهم استسلموا للأمر الواقع وسلموا للأمريكيين في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين. وكانت المنطقة العربية تحتوي على نوعين من الدول والأنظمة. الدول القديمة تاريخيا وهي العراق والشام ومصـر والمغرب العربي، والدويلات الحديثة والتي اشتملت على الكيانات التي قَسّمتها بريطانيا في الجزيرة العربية والشام وحرصت – وفق سياستها المعهودة- على تخطيط تلك التقسيمات بالشكل الذي يخدم مصالحها. وكان وجود إسرائيل كمشـروع ارتكاز في المنطقة يجعل من السياسة الغربية عموما محورا وحيدا في تشكيل القوى المؤثرة فيها. وجاء الرئيس الأمريكي (روزفلت) إلى المنطقة في رحلته الشهيرة على متن الطراد (كوينسـي) لمتابعة ترتيبات انتقال ولاية المنطقة من الإنجليز للأمريكيين وهي الرحلة التي التقى فيها الملك (فاروق) والملك (عبد العزيز آل سعود) والامبراطور الإثيوبي (هيلاسلاسي). وتشكلت أهمية منطقة الشـرق الأوسط حسب اختلاف نقاط الاستراتيجية فيها، فبرزت أهمية الجزيرة العربية كمصدر عالمي بالغ الأهمية للطاقة بعد اكتشاف البترول، وتضاعفت الأهمية بعد ذلك مع صعود استهلاك الطاقة لأرقام خرافية نظرا لانتشار التكنولوجيا واضطرار الولايات المتحدة للخروج من قارتها بحثا عن منافذ أخرى للاستيراد بعد أن كانت تكتفي بإنتاجها من البترول والغاز. وبالطبع كانت أهمية العراق والشام ومصـر راسخة منذ الحملات الصليبية القديمة وامتدادا بالحملات المعاصرة للاستعمار ونجاحهم في خطة إنشاء الكيان الصهيوني عند منطقة المفصل بين مصـر والشام وهي النقطة التي اكتشفها نابليون ونجح الانجليز في تنفيذها لتكون إسرائيل بمثابة العازل الأبدي بين القطرين الشقيقين، وبالتالي يطمئن الغرب لنجاح حملته الصليبية الأخيرة بعد أن فشل تاريخ الحملات الصليبية كله بسبب اتحاد مصـر والشام دوما واستطاعة هذا الاتحاد رد الحملات الصليبية بشكل مستمر ويضاف لذلك وجود خطوط المواصلات البحرية عَبْر البحر الأحمر والخليج العربي فضلا على وجود الثروات والمواد الخام إضافة إلى الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها الدول القديمة في تأمين الخليج والجزيرة نظرا لهذا كله كان من الصعوبة بمكان تَصَوّر استطاعة الاتحاد السوفياتي أن ينافس الولايات المتحدة وأوربا على منطقة الشرق الأوسط. فمن ناحية الأهمية الاستراتيجية فإن الولايات المتحدة والغرب فإن المنطقة بالفعل واقعة تحت سيطرتهم فضلا على كونها شريان حياة رئيسـي لبلادهم وتهديد نفوذهم فيها معناه ضرب الغرب في مقتل، وبالتالي فمنطقة الشـرق الأوسط تمثل أعلى قمة في سلسلة المحرمات وهو ما يعني أن الغرب لديه الاستعداد للضرب بمنتهى العنف إذا تم تهديد مصالحهم فيها. ومن ناحية أخرى فإن السوفيات لا يمثل الشـرق الأوسط لهم معيارا كافيا من الأهمية بحيث يتحملون مغبة الصـراع عليه نظرا لاكتفائهم من موارد الطاقة والمواد الخام فضلا على المنطقة لا تمثل لهم إغراء سياسيا أو خطوط مواصلات يستلزم الحفاظ عليها، فضلا على حاجتهم إلى توفير قوتهم للدفاع عن مناطق نفوذهم الأصلية في آسيا وأمريكا الجنوبية وأوربا الشرقية لكن مع نهاية الأربعينيات بدا واضحا أن التطورات السياسية غير المتوقعة بدأت في تجهيز المنطقة لتكون مسـرحا ساخنا من مسارح الحرب الباردة، وبدا واضحا أن الأحداث ستبدأ من منطقة هي أهم مناطق الشرق الأوسط في تلك الفترة وهي (سوريا). ولم تتصاعد أهمية سوريا لمكانها ومكانتها التاريخية والاستراتيجية فحسب بل كان بها نقطة أخرى ضاعفت تلك الأهمية وهي أن سوريا كانت تعج بمختلف نقاط النفوذ الخارجية والداخلية وَمَطْمعا للعديد من القوى المتصارعة عقب انتهاء حرب 1948م. والصـراع على سوريا كان يتسم بالعنف الشديد وَبِعُمق النفوذ الأجنبي فيها منذ صراع بريطانيا وفرنسا عليها عقب سقوط فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وما نجم عنه من سقوط اتفاقية (سايكس بيكو) حول سوريا والتي كانت من نصيب فرنسا، وعندما سقطت فرنسا في قبضة الألمان سعى الانجليز لاستعادة السيطرة على سوريا لتأمين مستعمراتها وخطوط مواصلاتها في مصر والجزيرة هذا فضلا على الصـراع السياسي الداخلي بين مختلف القوى المتشعبة والتي لم يكن فيها قوة واحدة متحدة تُعَبر عن الشعب كوحدة واحدة، وساعد على هذا تعدد الأعراق واختلاف الطوائف في داخل سوريا والتي أفضت بالغرب للتفكير في تقسيمها بين العرب السنة والأكراد والمسيحيين والشيعة العلوية(النصيرية) وبدأت الأحداث تتصاعد في عام 1949م عندما وقع الانقلاب العسكري الأول في سوريا بقيادة اللواء (حسني الزعيم) رئيس أركان حرب الجيش السوري وكان واضحا من البداية أن وراءه أياد خارجية تمثل قوة محددة" ". ولم ينقض وقت طويل حتى ظهرت القوة المحركة للانقلاب لأن (حسني الزعيم) عندما نفذ انقلابه قام باعتقال الرئيس الشـرعي (شكري القويتلي) وَنَصّب نفسه رئيسا لسوريا، لم يصبر طويلا حتى قام بتوقيع اتفاقية (التابلاين) مع إحدى الشـركات الأمريكية لنقل البترول والتابعة لعملاق النفط (أرامكو) الشـركة المسيطرة على بترول السعودية، والتي كانت تخطط وتطمح منذ مدة لمد خطوط أنابيب البترول عبر الأراضي السورية وهو الأمر الذي لن يتم بسهولة إلا إذا كان النظام الحاكم في سوريا داعما للمشروع الأمريكي. لكن هذه الاتفاقية بالطبع كانت ضربة من الأمريكيين لحلفائهم البريطانيين الذين يسيطرون على بترول العراق. ورغم التحالف القاطع بين الأمريكيين والبريطانيين إلا أنه كان تحالفا للمصالح يحدث فيه نقاط تنافس ساخنة في كثير من الأحيان. وكان الانقلاب السوري المدعوم من الأمريكيين لا يروق للبريطانيين، ونظرا لأن بريطانيا هي سيدة ألعاب المخابرات في العالم فقد قامت هي الأخرى بضـربتها وإذا بانقلاب مماثل يقوم على (حسني الزعيم) ويقوده هذه المرة (سامي الحناوي) مدعوما من بغداد ونظامها الذي يقوده الهاشميون حلفاء الانجليز ثم لم يلبث هذا الانقلاب أن تبعه انقلاب ثالث يقوده (أديب الشيشكلي) الذي حاول أن يجد لنفسه موقفا متوازنا بين القوى المتصارعة لكنه تعرض لهزات عنيفة أدت لسقوطه فيما بعد. فالحقيقة اللافتة للنظر بالفعل أن سوريا بالتحديد منذ انقلاب (حسني الزعيم) وحتى اليوم قد أصبحت مرتعا لصـراعات خارجية من كافة أطراف الصـراع العالمي، ولم يحدث أن تجمعت عواصف الصـراعات على بلد في العالم مثلما تجمعت على سوريا، للدرجة التي جعلت من أي حدث كبير يقع في سوريا مجرد تعبير عن قوى خارجية لها أهداف في داخلها وهذا ما عَبّر عنه المحلل السياسي (باتريك سيل) في كتابه البالغ الأهمية (الصـراع على سوريا) والذي خصصه لتفاصيل هذا الصراع منذ عام 1945 حتى عام 1958م |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
وكان الشعب نفسه بعيدا عن تلك الصـراعات وليس له سهم فيها حتى فوجئ البريطانيون والأمريكيون والفرنسيون معا بما لم يحسبوا له حسابا وهو أن صراعهم عَبْر حلفائهم من القيادات العسكرية وأنظمة الحكم في العراق وسوريا قد حَرّك ماردا –قلما يبادر بالحركة- وهو الشعوب وشباب الضباط والجنود الذين يرون أوطانهم نهبا لصـراعات الاستعمار التي يتم استخدامهم فيها كقطع الشطرنج. وهو ما فَجّر غضبا عارما بينهم دعمته أحداث المنطقة بشكل غير متوقع واتضح فيما يلي: أولا: كانت مشاعر الشعوب وعوام الجيوش العربية في المنطقة تعاني مرارة هزيمة النكبة وضياع فلسطين لا سيما وأنهم اكتشفوا عقب الحرب أنها كانت حربا تحت الرقابة الغربية وتم تصميمها لهزيمة ساحقة تسمح للكيان الإسرائيلي بالفوز عسكريا بشكل يُمَكّنه من الاستيلاء على أراض أبعد مساحة من قرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة في ذلك الوقت. ورغم أن الشعوب –غالبا- كانت خارج حسابات الاحتلال والأنظمة العميلة له إلا أن العامل الذي جعل لقوة الشعوب تأثيرا ضخما هي أن المقاومة الشعبية أخذت طابعا مسلحا منذ العشـرينيات في فلسطين وعموم الشام ومصـر فضلا على وجود الانتماء الوطني المستقل لدى صغار الضباط في جيوش المنطقة مما تسبب في تكوين خلايا المقاومة داخل المكون العسكري ثانيا: فوجئ الغرب أيضا بنجاح الانقلاب العسكري في مصـر بحركة الضباط في يوليو 1952م، واعتبره الأمريكيون مأزقا للبريطانيين يصب في مصلحة اقتلاع النفوذ البريطاني ووراثته لهذا لم يتدخلوا إلى جوار البريطانيين، وتركوهم لمواجهة وتيرة الأحداث التي أفضت فيما بعد لمفاوضات استقلال مصـر وجلاء الانجليز عنها جلاءً اضطراريا لأن بريطانيا لو أرادت التدخل بالقوة العسكرية لتغيير الوضع وإبقاء النظام الملكي فهذا معناه أن تقوم إنجلترا بإعادة احتلال مصر مجددا. ولم يكن هذا متاحا أمام حكومة (تشـرشل) التي لم تعد تملك القوة الكافية لمثل هذا التحرك لخوض حرب جديدة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعانيها، ولم تكن القوة البريطانية في مصـر تسمح بهذا من الأصل بعد أن قامت بريطانيا بسحب قواتها والاحتفاظ بقوة عسكرية واحدة في القناة طبقا للاتفاقيات التي أبرمتها حكومات ما قبل ثورة يوليو وآخرها معاهدة (1936)، لهذا تخلت بريطانيا عن دعم (فاروق) وركزت مفاوضاتها مع الحكومة الجديدة في محاولة تنفيذ الانسحاب بأقل الخسائر نظير تأمين مواصلات الانجليز في قناة السويس وهنا فتحت الولايات المتحدة خطا للاتصال مع السلطة الجديدة في مصـر وكانت الولايات المتحدة تحت قيادة (أيزنهاور) تتعامل في قضية مصـر والشام بشكل مستقل نوعا ما، ولم تكن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قد تشكلت استراتيجيا بعد. ولهذا كان الفريق الأكثر نفوذا وتأثيرا داخل إدارة أيزنهاور هو الفريق الذي كان يؤيد مد خطوط التواصل مع العرب بالتوازي مع إسرائيل باعتبار أن المصالح الأمريكية قد تشكلت بالفعل مع المنطقة العربية ثالثا: في عام 1956م، وقع الحدث الذي غَيّر وجه التحالفات في المنطقة لفترة طويلة، وهو وقوع (حرب السويس) أو العدوان الثلاثي والتي كانت حدثا مفصليا على مستوى المنطقة بأكملها. وكان الخطأ الأمريكي في تلك الحرب أنهم نظروا لمصالحهم الضيقة في طرد النفوذ البريطاني ولم يحسنوا دراسة ومعنى انتصار مصر في تلك المعركة. لهذا تدخلوا مع السوفيات كحلفاء لطرد الانجليز والفرنسيين وصدر إنذار (بولجانين) الشهير الذي هدد فيه السوفيات باستخدام السلاح النووي ضد بريطانيا وفرنسا إذا لم ينسحبوا من مصر. وكانت المعركة التي استمرت لعدة أشهر معركة تحالف فيها العرب مجددا ضد هيمنة الاستعمار القديم، حيث صمدت المقاومة الشعبية في مصـر أمام قوات الهجوم في نفس الوقت الذي تحركت فيه المشاعر الوطنية في سوريا فقام شباب الضباط في الجيش السوري بقيادة (عبد الحميد السـراج) بتفجير خطوط امداد البترول الواصلة بين العراق وسواحل سوريا مما شكل ضغطا هائلا على الحلفاء. فضلا على ما قامت به المقاومة الشعبية في الجزيرة العربية وغيرها ممن انضموا للمقاومة الشعبية في مصـر وفي بلادهم وتمكنوا من إلحاق الضـرر بالمؤسسات التجارية التابعة للبريطانيين والفرنسيين. وأصبح انتصار السويس علامة فارقة حقيقية نتج عنها قيام الحركة القومية الحديثة وتصاعدت فيها شعبية (جمال عبد الناصر) وهنا استعادت مصـر مكانتها القديمة في قيادة المنطقة، بالإضافة إلى انجاز يتحقق لأول مرة وهو الاتحاد الفعلي بين الأنظمة العربية القائمة في تلك الفترة واستجابتهم النادرة لجيشان عاطفة الشعوب وإهمالهم الضغوط الأجنبية وكانت التوحد يشمل مناطق الشام والجزيرة التي أرسلت السعودية فيها بعض قواتها ونسقت مع الجبهة المصرية لردع العدوان. وَنَجَم عن ذلك علاقة سياسية وثيقة بين (عبد الناصر) والملك (سعود) عززته اتفاقيات التعاون السياسي والعسكري في القضايا القومية المشتركة. وكان هذا جرس إنذار هائل لبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة نظرا لما يسببه هذا التوحد من تعطيل للمصالح الاستراتيجية للغرب إذا استمر وتصاعد بهذا الشكل رابعا: أخطأ الأمريكيون قراءة المشهد لأنهم ظنوا بأن دعمهم للمصـريين سينتج عنه قبول النظام في مصـر الانضمام للعباءة الأمريكية والقبول بصلح دائم مع إسرائيل والقبول أيضا بسياسة التحالفات العسكرية مع الغرب بحيث تكون المصالح الأمريكية مُؤَمّنة بالعرب وإسرائيل معا. ولكن عندما رفض عبد الناصر هذه الاتفاقيات، ورفض أيضا الخضوع للشـروط الأمريكية في التسليح هنا حاول (أيزنهاور) الضغط بكل السبل لإبعاد شبح التدخل السوفياتي في المنطقة وترويض النظام الجديد في مصر. وسارع أيزنهاور في عام 1957 بعقد اجتماع مع كبار المسئولين في إدارته فضلا على ثلاثين عضوا من أعضاء الكونجرس في جلسة طارئة لشـرح تداعيات الموقف في الشـرق الأوسط وطلب بشكل واضح –طبقا لمحاضر الاجتماع- بِمَنْحِه سلطات استثنائية لمواجهة الأحداث الطارئة في الشـرق الأوسط والتي أوجدت احتمالا قريبا بدخول السوفيات للمنطقة عَبْر سوريا ومصـر بكل ما يمثله هذا من خطورة على المصالح الأمريكية. وقال أيزنهاور: (أنه إذا حدث عدوان سوفياتي على المنطقة فليس أمام الولايات المتحدة بديلا عن مواجهته ولن تنتظر حتى تفقد المنطقة لصالح الروس، حيث أن أي سيطرة سوفياتية على الشـرق الأوسط معناه كارثة محققة للولايات المتحدة وأوربا، لهذا أطالبكم بمنحي صلاحية استثنائية تكفي للتدخل العسكري الطارئ دون انتظار مشاورات الكونجرس لأن الأحداث تتصاعد بالشكل الذي يجعل الحرب قد يلزم اتخاذ قرارها خلال ساعات، وإني أرجو من صميم قلبي ألا أضطر إلى استعمال ذلك التفويض الذي أطلبه منكم) وبعد أن وقعت الواقعة وقامت قيامة الأمريكيين عندما أقدم جمال عبد الناصر على ارتكاب أكبر المحرمات بالنسبة للعقيدة الأمريكية وهو فتح باب الاتصال مع السوفيات ونجاحه في عقد صفقة تسليح ضخمة مع تشيكوسلوفاكيا برعاية الاتحاد السوفياتي فضلا على اتفاقية اقتصادية واسعة شملت تأسيس المشروعات الصناعية في مصر وعلى رأسها السد العالي. هنا أعطى أيزنهاور الضوء الأخضـر للمخابرات الأمريكية بالتصـرف قبل أن تضيع المنطقة بأكملها إذا دخل النفوذ السوفياتي لمصر وسوريا. ووقعت أولى محاولات الاغتيال لعبد الناصر والتي فشلت ثم تكررت عدة مرات بالتعاون مع إسرائيل لكنها فشلت أيضا وأصبح الأمر واقعا عمليا أمام الأمريكيين وهو أن الحركة القومية العربية تشكلت بالفعل واتخذت لنفسها عدوا واضحا هو أوربا ثم أتبعته بالولايات المتحدة باعتبارها راعية أوربا ليدخل الاتحاد السوفياتي للمنطقة عبر بوابته الذهبية (مصر) خامسا: أصبح التأييد الشعبي هائلا لحركة القومية العربية واستغل الاتحاد السوفياتي بقيادة (خروشوف) هذه الفرصة وبنى تحالفا وثيقا مع مصـر رغم أن الاتحاد السوفياتي تشكلت سياسته بالأصل على دعم الدول الشيوعية وحدها. إلا أنه مع مصـر والدول العربية اكتفى بالتحالف السياسي وظلت مصـر تطارد الأحزاب الشيوعية كما تطارد غيرها دون اعتراض من السوفيات. وأصبح واقع الحال في المنطقة هو وجود دول تتبع المشـروع القومي الذي تأسس بالأصل على مقاومة إسرائيل والغرب، ودول أخرى ظلت دائرة في الفلك الأمريكي وتتابعت الثورات والانقلابات في العالم العربي حتى تحررت العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن واتضحت الصورة بشكل كامل وصريح بعيدا عن أي تمويه، وهو أن جبهة القومية العربية التي تقودها مصـر أصبحت عنوان التصدي للمشـروع الأمريكي الأوربي، ويناصرها الاتحاد السوفياتي فضلا على جبهة (دول عدم الانحياز) التي تكونت من مصـر والصين والهند ويوغسلافيا وإندونيسيا وعدد من الدول ذات التوجه الشرقي في مؤتمر (باندونج). وملخص علاقة هذه الدول بالاتحاد السوفياتي هو الدعوة للتحرر من النفوذ الغربي وتأميم الاقتصاد الوطني لصالح الشعوب فضلا على مواجهة المشـروع الإسرائيلي وتوسعاته، ودعم حركات التحرر الوطني في العالم وفي المقابل تشكلت جبهة حلفاء الغرب في الخليج والجزيرة العربية بقيادة السعودية والأنظمة الملكية فضلا على العراق-قبل انقلاب عبد الكريم قاسم-وإيران وباكستان وتركيا وهي الجبهة التي اتخذت الجانب الأمريكي سياسيا واقتصاديا وعسكريا بوجود قواعد عسكرية شاملة في أراضي تلك الدول. وعلى هذا الأساس تَشَكّل ما يُسمى بحلف (بغداد) وهو الحلف العسكري الذي أسْسَته الولايات المتحدة للدفاع عن منابع البترول والشـرق الأوسط ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي. ورغم حالة الاتحاد في المواقف والرؤى التي جمعت بين مصـر والسعودية إلا أن البريطانيين والأمريكيين لم يسلموا باحتمالية بقاء هذا التحالف خاصة بعد أن امتد النفوذ المصـري لشمال إفريقيا واكتسب قوة وشرعية في الشام فضلا على نفوذ واسع في آسيا وأمريكا الجنوبية. لهذا لم يمض وقت طويل حتى تفجرت الخلافات بين الملك سعود وعبد الناصر، وقد كشفت الوثائق الأمريكية والبريطانية عن تلك المرحلة مفاجأة كبرى. فالخلافات التي تفجرت بين الطرفين حَمَلَها المؤرخون على المنافسة الشخصية والرغبة في زعامة المنطقة فضلا على اعتراض السعودية على النظام الاشتراكي وسياسة العدالة الاجتماعية وملكية الشعب لثرواته واعتبار أنظمة الملكية أنظمة رجعية. لكن المفاجأة كانت في أن الخلافات التي بدأت من طرف الملك سعود كان وراءها البريطانيون والأمريكيون عندما سربوا –بشكل منتظم- معلومات استخبارية مصطنعة حول محاولات عديدة من نظام عبد الناصر لقلب نظام الحكم في السعودية وهو ما لم يكن صحيحا في وقتها. وقد فعلتها المخابرات البريطانية مرارا في أماكن مختلفة كان أشهرها خدعتهم للأمريكيين –حلفاءهم- عن طريق تسـريب معلومات مزيفة لليابانيين بِنِيّة الأسطول الأمريكي في (بيرل هاربر) مهاجمة اليابان. ولم يكن هذا صحيحا فوقع اليابانيون في الفخ ونسفوا بيرل هاربر وكانت هذه الخطوة هي الخطوة التي أجبرت الولايات المتحدة على الدخول فعليا بقواتها في الحرب العالمية لجوار الحلفاء بعد أن ظلت تمانع الدخول وتكتفي بالمساندة اللوجستية وهو ما دفع تشـرشل لتدبير مؤامرة بيرل هاربر حتى يوقن الأمريكيون أن الخطر ليس بعيدا عنهم ونظرا لأن آفة العرب الرياسة فقد تصاعدت الخلافات بين الطرفين إلى مستوى غير مسبوق لا سيما بعد تأييد مصـر لثورة اليمن على نظام حكم الإمامية ودعمها للثورة بالسلاح والقوات لتقوم السعودية بالتحالف مع بريطانيا والأردن لمواجهة القوات المصرية في اليمن. ومضى صراع الحرب الباردة في طريقه. *مصر وسوريا كان تطور الحوادث في مصـر يتبعه تطور مماثل في سوريا بطبيعة الحال نظرا لعلاقة التوأمة التاريخية بين البلدين. وكان العامل المهم والمحرك الرئيسـي في سوريا هو صعود التيار القومي (الناصري) لدى عدد كبير من ضباط الجيش السوري الشبان، فضلا على توجهات شعبية كاسحة لصالح هذا التيار الذي كان مركزه في مصر وإلى جوار التيار القومي كانت الجبهات المتصارعة في داخل سوريا قائمة. والمشكلة الكبرى في سوريا أن الجيش كان سياسيا وعقائديا منذ البداية، ومع تعدد الجبهات السياسية المتصارعة أصبح لكل تيار سياسي مجموعة من المؤيدين أو القيادات داخل فرق الجيش وبالتالي. كان تحرك الانقلابات العسكرية وعدم استقرار الحكم هو الداء العضال في داخل سوريا التي كانت منقسمة إلى شظايا مسلحة يحارب بعضها بعضا بغض النظر عن المصلحة الوطنية التي يؤيدها عموم الشعب وليس لها تمثيل داخل جبهات الصراع إلا جبهة القوميين. وفي مواجهتهم كان الحزب الشيوعي له نفوذ واضح وتكتل كبير بقيادة (خالد بكداش)، والتيار الاشتراكي له نفوذ مماثل بقيادة (ميشيل عفلق) بخلاف التيارات السياسية التابعة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا. وَتَفَجّر الصـراع السياسي داخل سوريا بعد حرب السويس بدخول المخابرات المركزية على الخط عن طريق عميلها (وليام إيفلاند) والذي توافق مع السياسي السوري (ميخائيل إليان) وَمَدّت المخابرات المركزية خيوط اتصالها مع سياسي آخر في نفس الوقت هو (عبد الكريم الدندشي) لتدبير انقلاب مدعوم من عدد من الشخصيات العامة بسوريا وأعضاء مجلس الشعب ومنهم (مأمون الكزبري) وكان هدف الانقلاب الرئيسـي هو الخلاص من كتلة الضباط الناصريين التي تشكلت بقيادة (عبد الحميد السراج) الذي كان رئيسا للشعبة الثانية (المخابرات الحربية) في الجيش. وفشلت محاولة الانقلاب فشلا ذريعا وتم القبض على جميع المتورطين بها ومحاكمتهم بشكل علني وانهالت منهم تفاصيل العملية باعترافات كاملة. ولم تيأس المخابرات الأمريكية من محاولة التغيير في سوريا من الداخل فقامت محاولة انقلابية ناعمة بقيادة المقدم (أديب النفوري) وكان هدفها هو التخلص من مجموعة الضباط القوميين عن طريق توزيعهم على عدة فرق هامشية وإبعادهم من تشكيلات الجيش ليتسنى للنفوري السيطرة على الجيش بعيدا عنهم. لكن المحاولة فشلت أيضا لوضوح مقصدها، وهنا لم تتورع الولايات المتحدة عن طرح أمر التدخل الناعم جانبا وبدأ التفكير العملي في غزو سوريا عسكريا عن طريق (حلف بغداد) وفرض الأمر الواقع قبل أن يتمكن القوميون من تكرار التجربة المصرية. وبدأت التهديدات العسكرية على الحدود السورية من كافة نواحيها تستغل حالة الفوضى والتشـرذم التي تعاني منها سوريا داخليا. وخارجيا بدأ التهديد العراقي المدعوم من البريطانيين عن طريق رئيس وزرائها (نوري السعيد) أحد عَرّابي (حلف بغداد)، ومن الحدود الإسرائيلية بذريعة حماية إسرائيل من تداعيات الانفلات السوري، ومن ناحية الحدود التركية التي حشدت قواتها بذريعة الدفاع عن أمنها ضد الأكراد في الشمال، وفي خلفية الأحداث كان الأسطول الأمريكي على السواحل البحرية يراقب ويتابع! ولعل القارئ يلحظ أن التهديدات على سوريا من سائر جوانبها في وقتنا الحالي هي صورة تاريخية مما كانت عليه سوريا في الماضي. فنفس هذه التهديدات هي ذاتها التي تعاني منها سوريا اليوم بعد حالة الفوضى التي أعقبت انهيار النظام البعثي. فالحدود العراقية تمثل تهديدا مدعوما بالقوة الإيرانية، والحدود التركية تقع تحت سيطرة الأتراك والتهديد الإسرائيلي قائم بنفس الكيفية فضلا على السيطرة الأمريكية على السواحل فالأطراف الطامعة في الداخل السوري لم تتغير مع الأسف. لكن ما صنع الفارق الضخم بين زماننا وذلك الزمان البعيد أن العالم في منتصف القرن العشـرين لم يكن على صورته الحالية قطعا. فوجود الاتحاد السوفياتي كعنصـر قوة مواز للقوة الأمريكية كان عاملا يُلْجم راعي البقر الأمريكي عن تبجحه الزائد. كذلك وجود الكتلة الوطنية المتمثلة في الحركة القومية كانت عاملا رادعا لكثير من الفوضى الجارية اليوم وكانت حاجزا كبيرا أمام كافة عملاء المنطقة من الحكومات المتحالفة مع الغرب، بخلاف الانهيار الحالي الممتد منذ نهاية السبعينيات وحتى اليوم والذي تصاعدت فيه السيطرة الأمريكية على المنطقة لتبلغ أقصى مدى لها بعد حرب الخليج الثانية. ولذلك اختلفت النتيجة اختلافا كبيرا في صراع الخمسينيات. ورغم وجود الفوضى في الساحة السياسية الداخلية إلا أن جماهير الشعب مع كتلة الضباط القوميين أدركوا أن استمرار تلك الفوضى معناه نجاح الاجتياح العسكري لسوريا وتقسيمها لأربع دويلات كما كان المخطط الاستعماري السابق في الأربعينيات. لذلك عادت إلى الواجهة مسألة الوحدة مع مصـر لتتصدر الساحة، ولم تكن فكرة الوحدة مع مصـر بعيدة عن التفكير المصـري والسوري بل جاءت بطلب رسمي من الرئيس (القويتلي) قبل اشتعال الأحداث وبدأت القيادة المصـرية تفكر بشكل عملي في كيفية التخطيط لها. وكانت فكرة عبد الناصر للوحدة مع سوريا أنها خطة ممكنة التنفيذ بشكل مرحلي على خمس سنوات لكي تكون الوحدة ناجحة وأساسا يمكن الارتكاز عليه لضم المزيد من الدول العربية. لكن إعصار الحوادث الذي بدأ مع عام 1957 والمخاطر المحدقة بسوريا جعلت كتلة الضباط الوطنيين في الجيش ترى أن الحل العملي والناجح لإنهاء فوضى الصـراع على الحكم هو إتمام الوحدة الفورية مع مصر مع وجود الرعاية السوفياتية الرادعة لأطراف العدوان. وعليه وصلت إلى مصـر فجأة طائرة عسكرية تحمل أربعة عشـر ضابطا من أعضاء المجلس العسكري السوري البالغ عددهم أربعة وعشرين عضوا. ولم يكن النظام في مصـر يعلم بالرحلة حيث كان عبد الناصر في أسوان في استقبال الرئيس الإندونيسي (أحمد سوكارنو) وعلم بالخبر هناك وعاد من فوره للقاء المجموعة. وشرحت مجموعة الضباط وجهة نظرها في المخاطر التي تتعرض لها سوريا وكيف أن الأطراف الفاعلة في سوريا من مدنيين وعسكريين يستحيل اجتماعهم على شخص أو فئة محددة للحكم تجتمع عليه البلاد بلا خلاف. ونظرا لوجود الانقسام بالجيش فإن الصـراع الداخلي ينذر بحرب أهلية بين الأطراف في نفس الوقت الذي تحتشد فيه قوات الغزو من الخارج ولهذا فإن الحل الأمثل لهم هو إتمام الوحدة مع مصـر في وقت قياسي، فالوحدة تحت قيادة مصـر لن تجد خلافا أو اعتراضا من أحد لا سيما بعد أن دخل الشعب السوري في المعادلة وأصبح نداء الوحدة كاسحا هذا فضلا على أن الوحدة ستوحد مختلف فرق الجيش تحت قيادة الدولة الجديدة مما يمثل رادعا كافيا لمؤامرة الغزو التي تعتمد اعتمادا كاملا على حالة الفوضى والاقتتال الداخلي وطبقا لمحاضر الاجتماع بين الضباط وعبد الناصر والتي أوردها هيكل في كتابه (سنوات الغليان) فإن عبد الناصر استقبل طلبات الضباط بإقرار المبدأ بالوحدة لكنه اعترض بالطبع على الطريقة التي تصورها الضباط لإتمامها لكونها طريقة تهمل كافة المعايير السياسية اللازمة. وكانت أبرز عناصر الاعتراض المنطقية تتخلص فيما يلي: أولا: أن الضباط لم يأتوا بتفويض من الرئيس أو الحكومة الشـرعية القائمة في البلاد بل إنهم لم يأتوا بتفويض كامل من المجلس العسكري للجيش، مع أنهم أغلبية أعضائه إلا أنه يتبقى العشـرة الباقون بمن ورائهم من فرق وقوات ثانيا: إتمام الوحدة الاندماجية ليست أمرا سهلا أو اعتباطيا بل هو أمر جلل نظرا للاختلافات السياسية والاقتصادية بين النظام المصـري والسوري والتي تتطلب مدة أقلها خمس سنوات لتوحيد التوجهات الاقتصادية والسياسية داخليا ثالثا: الجيش السوري نفسه عقبة كبرى أمام الوحدة لكونه جيشا سياسيا من قمة رأسه حتى أخمص قدميه فمعظم ضباطه وتشكيلاته لها قيادات حزبية وسياسية مستقلة والولاء لديهم لتلك الانتماءات لا للبلاد وطالت المناقشات أياما طويلة ولكنها أثمرت عن نتائج قوية حيث قام الضباط بالرد وتفنيد اعتراضات عبد الناصر كالتالي: أولا: مسألة التمهل في الوحدة وإتمام خطتها على مدار خمس سنوات هذا أمر كان من الممكن قبوله في الأحوال العادية، أما في الحالة القائمة فسوريا مهددة بحرب أهلية فضلا على مخاطر الغزو الخارجي التي احتشدت بالفعل ولا تنتظر إلا التغطية السياسية دوليا للهجوم. والحل الوحيد هو الوحدة الفورية التي سترفع عن كاهل البلاد انقسامها الداخلي بشكل كامل نظرا لأن الشعب السوري نفسه دخل على الخط بكامل قوته –ربما لأول مرة- واجتمع على رفض كافة التيارات السياسية المتناحرة والنداء بوحدة سوريا مع مصر تحت قيادة قومية واحدة يثق فيها الشعب. وهذا التوحد سيجعل من سوريا كتلة واحدة في مواجهة الخطر الخارجي. ثانيا: من ناحية تخوف عبد الناصر من الاختلافات الفادحة بين السياسة الداخلية لمصـر والخط الاشتراكي الذي تتبعه وسياسة منع الأحزاب، فإن وجود القوة الشعبية المؤيدة للوحدة سيكفل لعبد الناصر حل الأحزاب السورية وتطبيق الاشتراكية وهذه الشعبية نفسها هي التي ستجبر باقي قيادات الجيش على عدم الاعتراض على الوحدة وإلا سيضعون أنفسهم أمام الجماهير ثالثا: بالنسبة للتيارات السياسية داخل الجيش فمجموعة الضباط استجابت لطلب عبد الناصر بأن كافة القيادات السياسية داخل الجيش ستتقدم باستقالتها وتندمج في الحياة السياسية ليتفرغ الجيش لمهمته الوطنية بالدفاع عن البلاد تحت قيادته الموحدة رابعا: بالنسبة لطلب عبد الناصر أن يتخذ الأمر الخط الشـرعي بموافقة الرئيس القويتلي والحكومة وطلبهم رسميا الوحدة مع مصـر، فقد قام وفد من الضباط الحاضرين بالسفر لسوريا لمدة أربعة وعشـرين ساعة وجاءوا بالطلب رسميا ومعهم وزير الخارجية (صلاح البيطار) لتعزيز النداء السوري بضـرورة إتمام الوحدة. وبالفعل تم الإعلان رسميا عن الوحدة وجاءت نتيجة الاستفتاء الشعبي كاسحة وانفجرت سوريا من أقصاها إلى أقصاها دعما للتوجه القومي. والأهم.. أنها كانت لحظة فارقة في التاريخ السوري حيث اجتمع الشعب –رغم كل الاختلافات السياسية والمذهبية- على قلب رجل واحد لتنتهي الصراعات كفقاعة دخان. وسافر عبد الناصر لسوريا رئيسا لدولة الوحدة وكان الاستقبال الشعبي خرافيا حيث حملت الجماهير سيارته واحتشدوا أمام مبنى الضيافة ليخرج عليهم عبد الناصر بخطابات متقطعة استمرت طيلة اليوم. |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
وبمجرد إعلان الوحدة تفجرت صاعقة أخرى في الجبهة المضادة من تركيا والسعودية والعراق والولايات المتحدة وإسرائيل. فالوحدة بين مصـر وسوريا مَثّلت تجاوزا لخط أحمر بالغ الخطورة يتمثل في أن أي توحد بين الدولتين كان معناه إفشال أو تحجيم المشـروع الصهيوني الذي بذل فيه الغرب أقصـى قدراته للفصل بين مصر والشام. ولم يكن مُتَصورا أن يتم السماح أو القبول بمثل هذا مهما كانت الأسباب. لذلك تحركت الجبهة الأمريكية عن طريق (حلف بغداد) الممثل الرسمي للمصالح الأمريكية في الشـرق الأوسط، وعقد الحلف اجتماعا طارئا بكامل تشكيله في (أنقرة) بمشاركة البريطانيين والأمريكيين وطبقا لمحاضر الاجتماع فقد اتفق المجتمعون على أن خطوة التحالف المصـري السوري على مستوى الوحدة الاندماجية لا يعني فقط تعملق الجبهة القومية بل يعني ما هو أخطر وهو توثيق التحالف القومي السوفياتي لمجابهة المصالح الأمريكية في المنطقة. ونظرا للشعبية الجماهيرية الكاسحة للحركة القومية التي تعبر عن طموح الجماهير المقهورة فإن الخطر سيمتد حتما إلى العراق والسعودية كما أن الوحدة إذا نجحت فلن يتبقى وقت طويل حتى تبتلع الدولة المتحدة الأردن ولبنان. وأعلن (نوري السعيد) رئيس الوزراء العراقي الممثل للعرش الهاشمي في بغداد أن سند الوحدة الحقيقي يتمثل في الروس وجمال عبد الناصر ووافقه على ذلك مدير المخابرات الأمريكية (آلان دالاس) غير أن المحاولة الثانية بدأ التخطيط المباشر لها دون انتظار عن طريق اشتراك جميع أعضاء الحلف ورغم توافر الأسباب القوية لبقاء الوحدة إلا أن عوامل اهتزازها كانت أقوى وأفدح بكثير من النوايا الطيبة التي وقفت خلف الإسراع بتنفيذها. هذه العوامل كان منها العوامل الخارجية من الجبهة الأمريكية وحلفائها، وعوامل داخلية في قلب السلطة في مصـر وسوريا كانت هي السبب الرئيسـي لتمهيد الأرض أمام الجبهة الأمريكية للنجاح في ضرب الوحدة في مقتل عقب ثلاث سنوات فقط من اتمامها والأسباب الخارجية مفهومة لأنه من الطبيعي ألا تسكت جبهة الأمريكيين عما يحدث وتراه تهديدا مباشرا لمصالحها على نحو ما سبق شرحه أما الأسباب الداخلية المؤسفة فهي ذات الأسباب التي وقفت خلف تخريب أي إنجاز أو نصـر عربي تم تنفيذه في عصر الصراع القومي. فالذاتية الشديدة والصـراع على التصدر وتقديم المصالح الشخصية والأحقاد الموروثة كانت دوما هي الأرض الممهدة التي يسهل النفاذ منها لتحطيم كل محاولة تحرر جادة دارت في تلك المرحلة. وبدأت أول الأزمات بتعجل عبد الناصر غير المبرر بتطبيق القوانين الاشتراكية في سوريا رغم معرفته بطبيعة المجتمع السوري الداخلية التي تقوم على التجارة الحرة منذ قرون طويلة. فالسوريون تجار بطبيعتهم والاشتراكية تُضَاد الاستثمار الحر وتقيده وتجعل الدولة في مكانه حيث تقوم الدولة بممارسة دور المستثمر الرئيسـي لصالح الشعب بعد عهد طويل من الاستغلال الرأسمالي الأجنبي للبلاد بمشاركة الأنظمة الملكية. ورغم أن عبد الناصر كان يدرك تماما أن إتمام الوحدة الفورية بشكل متعجل اعتمادا على النوايا الحسنة لن يكفي أبدا لتطبيق السياسة الاشتراكية في سوريا وأن الأمر يحتاج تمهيدا طويلا على الأرض حتى يقتنع الشعب بأهمية ذلك. رغم هذا إلا أن إحساس عبد الناصر بأن الوحدة وقد تمت فعلا فهو ملزم بعدم التفرقة بين سياسة الإقليمين السوري والمصري. ولهذا بادر على الفور بالتطبيق، فانقشعت الأماني الطيبة وبدأت الاحتجاجات المكتومة على سياسة الاشتراكية في الظهور وقامت الأطراف الخارجية بتغذيتها بالطبع. والسبب الثاني الرئيسـي أن الحزب الشيوعي السوري الذي يقوده (خالد بكداش) وهو رجل السوفيات الأول في سوريا، لم يكن موافقا على الوحدة مطلقا وكان ينتمي ويسعى –قبل الوحدة- لترسيخ الحزب الشيوعي والوصول للحكم في سوريا اعتمادا على قوة الحزب فيها لكن طوفان الوحدة داهمه على غير انتظار وهنا رفض بكداش قرار الوحدة بحل الحزب وأعلن تجميد نشاطه ثم فر من سوريا إلى بلغاريا قبل إتمام الاستفتاء على الوحدة بيوم واحد. والواقع أن دور الحزب الشيوعي السوري وَرَجُلَه خالد بكداش كان كارثيا لأنه تمكن من إقناع القيادة السوفياتية بأن تأييدهم للوحدة مع مصـر يمنع عنهم الفرصة الأكبر لإيجاد موطئ قدم لحكم الشيوعيين في العالم العربي لا سيما وأن عبد الناصر يصـر إصرارا لا هوادة فيه على سياسة عدم الانحياز وعلى التعامل المستقل مع الاتحاد السوفياتي كتحالف يحترم استقلالية مصـر ولهذا يرفض تماما النداءات السوفياتية المتكررة بأن يخفف قبضته الأمنية عن الأحزاب اليسارية والشيوعية ويمنحها الفرصة للعمل وهو ما تحمله السوفيات على مضض نظرا لخطورة ومكانة عبد الناصر في الحركة القومية. فإذا تقبل السوفيات الوحدة المصـرية مع سوريا فهذا معناه الضياع المؤكد للأمل السوفياتي في تغيير سوريا للعقيدة الشيوعية الكاملة حيث أن الحزب الشيوعي السوري هو الحزب الشيوعي العربي الوحيد الذي اعترف به السوفيات كحزب قوي وله أرضية مناسبة أمام بقية الأحزاب الشيوعية في العالم العربي فقد كانت دوائر ديدانية كما وصفها بكداش بنفسه وتمكن بكداش من تغيير وجهة النظر السوفيات الذين اقتنعوا بأن مد سطوة الناصرية إلى سوريا ليس في صالح السوفيات وأن الأولى لهم أن يؤيدوا وصول الأحزاب الشيوعية للحكم في سوريا وبناء على ذلك نشطت الخلايا الشيوعية داخل الجيش السوري من جديد سواء من الحزب الشيوعي نفسه أو من حزب البعث العراقي الذي كان له أرضية فاعلة أيضا على الأرض السورية. وعلى نفس الخط نشطت الخلايا المدعومة خارجيا من الولايات المتحدة والسعودية والأردن وتعاونت معها فئات الضباط المتعاطفين مع (الإخوان المسلمين) وهؤلاء جميعا جمعتهم المصلحة الواحدة المتمثلة في ضرورة التصدي للتيار القومي مع العداء الشديد للناصريين وثالث الأسباب التي عجلت بانهيار الوحدة. هو سياسة (عبد الحكيم عامر) و(عبد الحميد السراج) في داخل سوريا. ورغم تناقض الرجلين حيث لم تكن العلاقات بينهما ودية، إلا أن كليهما تسببا بالفشل والإهمال والدكتاتورية وبالغفلة عن حقيقة ما يجري في الجيش السوري في أن تصبح الأرض خصبة لإتمام حركة الانفصال داخل الجيش وكانت المؤامرة تُدار من خلال مكتب (عبد الحكيم عامر) نفسه حيث كان مدير مكتبه في سوريا هو (عبد الكريم النحلاوي) والذي قاد حركة التخطيط للانقلاب بمعاونة أحد زملائه (حيدر الكزبري) و(حيدر الكزبري) هو أحد أقارب (مأمون الكزبري) الذي قاد أول محاولة انقلاب للخلاص من ضباط الحركة القومية بالتعاون مع المخابرات الأمريكية وهي المحاولة فشلت وحوكم بسببها كما سبق أن أوضحنا وحدث الانقلاب كما هو معروف وتم طرد عبد الحكيم عامر من سوريا وإلقاء القبض على (عبد الحميد السراج) الذي تمكنت مصر من تهريبه فيما بعد. وعندما وقع الانقلاب كان التصـرف المصـري التلقائي هو التدخل العسكري بقوات الصاعقة لإعادة الأمور على ما كانت عليه، خاصة وأن الانقلاب كان مكشوف الوجه إلى أقصـى مدى عندما سارعت السعودية والأردن بالاعتراف به وتلا ذلك اعتراف الاتحاد السوفياتي أيضا. وبعد تأييد السوفيات تراجع عبد الناصر عن فكرة فرض إعادة الوحدة بالقوة خاصة بعد أن ظهرت أصوات كثيرة داعمة لحركة الانفصاليين بعد أن خدعوا الناس بأنهم لم يقوموا ضد عبد الناصر أو الوحدة أو الاشتراكية وإنما حركتهم قامت لتصحيح الجوانب السلبية التي عانى منها السوريون جراء تصرفات بعض المسئولين المصريين والسوريين وقد بدا غريبا أن يبادر السوفيات للاعتراف بانقلاب النحلاوي وهو انقلاب أمريكي بالكامل، إلا أن الوثائق كشفت لنا كيف أن السوفيات تدخلوا مباشرة لدى عبد الناصر لمنعه من التحرك لإعادة الوحدة وإنهاء الانقلاب وطلبوا رسميا ترك سوريا وشأنها! وكانت وجهة النظر السوفياتية في ذلك تعتمد على أمرين بالغي الأهمية دفعهم لحماية الانقلاب المدعوم من أعدائهم عن طريق تطبيق سياسة (الاستفادة من الكوارث) الأمر الأول: قبل الانفصال بثلاثة أعوام وقع انقلاب العراق بقيادة (عبد الكريم قاسم) و(عبد السلام عارف) ولم يكن الانقلاب شيوعيا لكنه كالعادة كان قوميا يضاد النفوذ الغربي في المنطقة ونظرا لخطورة مركز العراق فقد خسـر الأمريكيون وحلفائهم في المنطقة خسارة فادحة بسقوط حكم الهاشميين بقيادة الملك (فيصل بن الحسين) في العراق والذي تم إعدامه هو وأسرته مما ضاعف من الأخطار المحيطة بالعرش الهاشمي في الأردن ورغم أن الانقلاب لم يكن شيوعيا إلا أن النفوذ الحزبي الشيوعي كان فاعلا فيه، وهنا تقدم (خالد بكداش) للسوفيات مرة أخرى كي يقوموا باستغلال الفرصة وتدعيمه للثأر من عبد الناصر وانتزاع سوريا منه قبل أن يبادر هو –بعد انقلاب العراق- بضم العراق للاتحاد مع مصر وبهذا تكون نهاية طموح الحركة الشيوعية تماما في الوصول للحكم وبالفعل سافر خالد بكداش للعراق وتواصل مع قيادات الشيوعية وحزب البعث وتقارب بالفعل مع قادة الانقلاب واستغل جنون وعته قائد الانقلاب (عبد الكريم قاسم) والذي كان عسكريا من طراز (القذافي) و(صدام حسين) من حيث جنون العظمة والبحث عن الزعامة، وهو ما جعله يفتح النار على مصر وعبد الناصر ويحاول بكل الطرق أن يحل محله في قيادة العالم العربي –كما يتوهم- للدرجة التي أطلق فيها على نفسه لقب (الزعيم الأوحد). ومن خلال نفوذ الشيوعيين على (عبد الكريم قاسم) تم التواصل مجددا بين خالد بكداش وخلايا الشيوعيين في الجيش والمؤسسات السورية. الأمر الثاني: عندما قام انقلاب النحلاوي وكان واضحا أمام الجميع أنه انقلاب نخبوي يمثل طبقة الرأسمالية السورية واتصالاته مع الجبهة الأمريكية كانت بالغة الوضوح من خلال اختيار رجاله وعلى رأسهم (مأمون الكزبري) لرياسة الحكومة فأدرك السوفيات أن مستقبل حركة النحلاوي محدودا جدا، وبالتالي فإن القوة المرشحة لاحتلال مكانه هي قوة الشيوعيين داخل الجيش مدعومة بفرع حزب البعث العراقي. وعليه فلم ير السوفيات ضررا من تأييد الانفصال السوري لثقتهم في أنهم سيكسبون سوريا المنفصلة لنفوذهم وهو ما وقع فعلا بعد ذلك خلال عامين فقط من وقوع الانفصال. والواقع أن قراءة السوفيات وتخطيط خالد بكداش كان بارعا ونجح في قراءة المشهد بدقة عالية فرغم التأييد الذي لاقاه الانقلاب من بعض فئات الشعب والجيش إلا أنه بعد فترة وجيزة أدرك ضباط الجيش ومعظم النخب السورية مدى فداحة الانقلاب وانهيار الوحدة والتهديد الماثل أمامهم بعودة أجواء الانقلابات العسكرية وفتح المجال أمام النفوذ الأجنبي مجددا. وهو الذي دعا بعد ذلك اللواء (عبد الكريم زهر الدين) قائد الجيش السوري للندم على قبوله بعرض النحلاوي لقيادة الجيش رغم أنه لم يكن من قيادات انقلابه. وكتب الرجل مذكراته –كما يقول هيكل- وشرح فيها المأزق الذي وقع فيه بعد أن اتضحت أبعاد انقلاب النحلاوي ودور الغرب في تنفيذه. ولم يلبث الأمر إلا قليلا حتى تنبه الضباط المستقلون والشعب بأكمله لما جرى، وعليه قاطع الشعب الانتخابات التي دعا لها النحلاوي مقاطعة شبه كاملة خاصة بعد أن تولى (مأمون الكزبري) رياسة الوزارة في سوريا. وهنا لجأ النحلاوي إلى استخدام القبضة الأمنية وقام بتنحية أكثر من 73 قيادة من الجيش السوري عن طريق اعفائهم من مناصبهم وقام بإجراء الانتخابات رغم المقاطعة الشعبية وهي الانتخابات التي جاءت بالسيد (ناظم القدسي) رئيسا للجمهورية وهو –كالعادة- من الحرس القديم ومن رجال رئيس الوزراء العراقي (نوري السعيد) وأحد رجال حلف بغداد. ولم تمض شهور قليلة على هذه الأحداث حتى جاء إلى مصـر ثلاثة من ضباط حركة الانفصال أنفسهم وهم العميد (زهير عقيل) والعقيد (محمد منصور) والرائد (فايز الرفاعي) ووافق عبد الناصر على مقابلتهم بعد أن توسط لهم اللواء (جمال عقيل) أحد قيادات الجيش السوري التي رفضت الانفصال وبقيت في القاهرة. وكانت رحلة الضباط الثلاث لعبد الناصر فيها اعتراف كامل بأن (عبد الكريم النحلاوي) قام باستغلالهم وتضليلهم ولم تكن الحركة كما شرحها لهم إلا حركة عصيان محدودة لرفض بعض التصـرفات من القيادة المصـرية في سوريا فضلا على رفضهم لتحكمات (عبد الحميد السراج) غير أنهم فوجئوا بعد ذلك بأن النحلاوي أخذ تأييد العديد من الفرق في الجيش ومن بعض النخب القديمة بعد وقوع الانقلاب وسارت الأمور سيرها الواقع الآن وأن الوضع السوري الآن ينذر بانتهاء حكم حركة الانفصال حتما. لكن عبد الناصر كان يدرك تماما أنه من الصعوبة بمكان إعادة العجلة إلى الوراء، وأن إعادة الوحدة بالقوة العسكرية وبتدخل مصري ستكون له عواقب وخيمة على سوريا نفسها. والوحدة بين مصـر وسوريا ليست مقصورة على الوحدة الاندماجية لأن البلدين بينما ارتباط كامل تاريخيا وسياسيا وعقائديا لهذا من الحكمة بمكان إعادة استغلال النفوذ المصـري في سوريا لضبط أمورها قدر الإمكان. ولم تمض ستة أشهر على واقعة الانقلاب حتى حدث فيها انقلاب داخلي من خلال حركة النحلاوي نفسه، وسارت الأمور سَيْرها المعروف حتى سقط حكم النحلاوي بانقلاب عسكري شامل ومنظم من الشيوعيين بعد أقل من ثلاثة أعوام عن طريق الفريق (أمين الحافظ) ووصل حزب البعث رسميا إلى السلطة في دمشق، ليصبح حزب البعث حاكما في سوريا والعراق. وهنا بدأ الفصل الأكثر سوداوية في سوريا، ليس فقط لعودة سياسة الانقلابات المتعددة والصـراع المسلح. بل بدأ هذا الفصل لأن تلك المرحلة كانت مؤذنة بظهور شخصية (حافظ الأسد) على مسـرح التاريخ السوري لتبدأ رحلته السياسية والعسكرية بمشاركة ضابط علوي آخر هو (صلاح جديد) وتمكن بعدها من التدرج في المناصب حتى الوصول لمنصب وزير الدفاع ثم لمنصب الرياسة. وهنا يأتي الوقت اللازم لنشـرح فيه ذلك اللغز المعضلة الذي يتمثل في بقاء حافظ الأسد على عرش سوريا ثم توريثه لابنه خلال خمسين عاما كاملة رغم أنهما ينتميان لأقل الطوائف السورية نفوذا، ورغم أن سوريا قبله كانت بلدا لا يهدأ فيه حكم أو يستقر إلا لسنوات معدودة!! يتبع إن شاء الله |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
الفصل الثاني شخصية (حافظ الأسد) وسنوات حكمه لم تكن الشام ولا الدول العربية مقسمة تقسيما سياسيا قبل اتفاقية (سايكس بيكو) والتي نجم عنها في بداية القرن العشـرين وضع الحدود السياسية للدول العربية الكبرى في الشام ومصـر والشمال الإفريقي، وإعادة خلق الجزيرة العربية بمشاريع قَبَلِية تؤسس لدويلات مختلفة تم توزيعها على المشيخات المختارة من فريق ضباط المخابرات البريطانية (ديكسون) و(جون فيلبي) و(لورانس) وغيرهم. وسقطت الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت بريطانيا وفرنسا في حاجة لحل الموضوعات المعلقة بينهما في الشام. فتم تقسيمها بالتقسيم المعروف واحتلت فرنسا سوريا عام 1922م، ومن بداية الاحتلال كانت فرنسا تهدف إلى تقليد السياسة البريطانية الشهيرة (فَرّق تَسُد) والتي برع فيها البريطانيون في مستعمراتهم. وكان تفكير فرنسا في ذلك يعود بالأساس لطبيعة المكون السوري المختلف باعتباره يحمل تقسيمات جغرافية وطائفية متعددة فالشعب السوري يتكون من مناطق نفوذ مختلفة واحدة للدمشقيين وأخرى للحلبيين وثالثة للدروز ورابعة للأكراد وخامسة للعلويين على ساحل اللاذقية وهي الطائفة التي تعتبر الطائفة الأقل عددا ونفوذا لكونهم ينتمون للعقيدة الشيعية النصيرية وهي طائفة من طوائف الشيعة المتطرفة والتي تخالف ثوابت القرآن والسنة بشكل كامل ولهذا اعتبرها العلماء خارجة عن الإسلام بالكلية كغيرها من الطوائف التكفيرية من الشيعة الإسماعيلية والباطنية وطائفة الحشاشين فهؤلاء جميعا خارج إطار الإسلام لإيمانهم بكفريات شنيعة كتأليه البشـر والقول بتحريف القرآن وإباحة الفواحش إلى غير ذلك وبالتالي فالعلماء لم يدرجوها ضمن طوائف الشيعة المبتدعة التي يراها العلماء مبتدعة نعم لكنهم يبقون ضمن إطار المسلمين وقد انتوت فرنسا تجهيز الأرض السورية للتقسيم على النحو السابق شرحه بحيث تتشـرذم سوريا لدويلات خمس مقسمة حسب الطائفية، وساعدها على هذا التفكير هو أن سوريا كانت تشتمل عنصـرين رئيسيين وهما العنصـر العربي والعشائر العدنانية التي تركزت في الأرياف بخلاف القبائل العربية المحتفظة بتكلاتها والعنصـر الثاني هو العنصـر الأجنبي –غير العربي- مثل (الأرمن) الذين هاجروا لسوريا في فترة صراعهم مع العثمانيين، و(الشـركس) الذين كان لهم وجود تاريخي في فترة الخلافة العثمانية أيضا وكذلك (الأكراد) في الشمال وهم الذين استوطنوا الشمال قادمين من تركيا ولم تكن التقسيمات طائفية فقط. بل كانت تقسيمات طائفية وجغرافية أيضا، فالعرب والقبائل العربية تركزت في أرياف البلاد والمحافظات مثل (درعا) و(السويداء) و(طرسوس) واللاذقية) و(دير الزور) و(الرقة) و(الحسكة) و(إدلب) و(حمص) و(حماة) أما المناطق الحضـرية في نفس المحافظات فقد سكنها العنصـر الأجنبي، وكان سبب تركز الأعراق غير العربية في المدن أن القبائل العربية لم تكن تعمل بالمهن الحرفية كالحدادة والنجارة والبناء وغيرها فكان أمام العنصـر الأجنبي فرصة استيطان المدن والعمل بتلك المهن التي يرفضها العرب ولم يقبلوا عليها نظرا لطبيعتهم في التجارة والرعي وما يتعلق بهما وهكذا كانت الفرصة موجودة أمام الفرنسيين لتقسيم البلاد على نفس خريطة النفوذ الموجودة وكانوا ينتوون تقسيمها كدويلات تماما كما فعلت إنجلترا في الجزيرة العربية مع فارق اختلاف أساس التقسيم فالأساس الذي اعتمد عليه التقسيم الإنجليزي في الجزيرة وهو التقسيم على أساس نفوذ المشيخات المسلحة في الخليج. هذا بالطبع مع الاحتفاظ بالدول القديمة في الجزيرة وهما (اليمن) و(عمان) ولو أن اليمن طالته يد التقسيم أيضا إلى جنوبي وشمالي قبل أن يتم توحيده فيما بعد غير أن حركة المقاومة ضد الفرنسيين ومشـروع تقسيم (سوريا) منعت فرنسا من إتمام مخططها، كالثورة الفراتية بقيادة (رمضان باشا شلاش)، وثورة القبائل العربية مثل ثورة (العقيلات) وقبائل (البوشعبان) و(شَمّر) فضلا على الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي قادها الأمير (سلطان باشا الأطرش) الذي توحدت خلفه القبائل العربية والثوار السوريون، وأيضا حركة (حماة) بقيادة (آل العظم) ونظرا لهذا فشل الفرنسيون في التقسيم بعد إجماع مكونات الشعب السوري على رفضه عدا طائفة واحدة فقط رحبت بالتقسيم وَقَبِلته وهي الطائفة (العلوية النصيرية) ونظرا لطبيعتها كطائفة عنصـرية معادية لعقيدة السنة المحيطة بها فقد استغلت الفرصة وتعاونت مع الفرنسيين في نظير تأسيس إمارة لهم باسم (إمارة العلويين) في منطقة الساحل باللاذقية وطرطوس يحكمها مجلس من كبار العائلات النصيرية. غير أن توالي الأحداث واضطرار الفرنسيين للانسحاب من سوريا وإعادتها دولة موحدة أفشل مشـروع الدولة العلوية فانتهت بعد سنوات قليلة وعادت كما كانت جزء من الدولة ككل. والمثير في أمر التقسيمات السورية أن النصيرية العلوية كانت دوما خارج حسابات القوى المؤثرة للحكم لضعفها وشذوذها عن الداخل السوري. ولهذا لجئوا للسياسة الشيعية المعروفة وهي سياسة (التقية) ومهادنة الجميع والقبول بخدمة كل من يمكنهم خدمته حتى تحين لحظة التمكين، ولم يكن مطروحا من الأصل أن يكون للعلويين أمل في أن يحكموا سوريا الموحدة ذات يوم نظرا لأن القوى المتصارعة على الحكم كانت هي الأقوى والأكثر عددا ونفوذا وتأثيرا لهذا اكتفى العلويون بدور المساند والمؤيد لكل طائفة تستطيع الوصول لكرسي الحكم. وفي وسط الطائفة العلوية نفسها كانت تتربع عدة عائلات تُمثل زعامة الطائفة ومنها عائلة (الأسد) والمفاجأة الكبرى أن (حافظ الأسد) وعائلته لم يكونوا من تلك الطائفة أصلا ولا ينتسبون إليها بل هم من نسب مجهول تمكن من اختراق عائلة الأسد العلوية في عهد (سليمان الوحش) كبير تلك العائلة. أما قبل ذلك فَمُسَمى عائلته كان مختلفا ومعروفا باسم عائلة (الوحش) وكل من ينتمي للطائفة العلوية أجمعوا أن تلك العائلة من العائلات الوافدة وليس لها تاريخ أو جذور منتمية لعائلة الأسد أو الطائفة النصيرية. ولم يقتصر الأمر على هذا. فقد ثبت أن عائلة (الوحش) هذه ليست عربية وليست مسلمة وقدمت إلى سوريا من العراق والتحقت بجبال العلويين، ومن الغريب أن الذي اعترف بهذا هو (جميل الأسد) شقيق حافظ الأسد في مقابلة شخصية له مع المؤرخ العراقي (عز الدين رسول) والذي سأل جميل الأسد إن كانوا من العراق أصلا فرد عليه جميل الأسد أنهم من طائفة (الكاكائية) وهي طائفة فارسية إيرانية تنتمي إلى الديانة (اليزدانية) القديمة التي كانت إحدى عقائد الفرس قبل الإسلام ضمن تفريعات العقيدة (الزرادشتية) التي تكونت منها الديانة الفارسية وقد وردت شهادة المؤرخ العراقي (عز الدين رسول) بصوته ضمن فقرات حلقات الشهادة الخطيرة التي أدلى بها العميد (نبيل الدندل) لبرنامج (السطر الأوسط)، والعميد (نبيل الدندل) هو قيادي أمني انشق عن نظام (بشار الأسد) بعد الثورة وكان قبلها قد تولى رياسة مكتب الأمن السياسي في اللاذقية وخدم فيها مدة طويلة وكان من مهمات وظائفه – لحسن الحظ - تجهيز كافة ملفات الجهاز التاريخية والمعاصرة وتلخيصها وإعدادها وتحويلها من ملفات ورقية إلى ملفات كمبيوترية وبالتالي اطلع على كافة الملفات بالتفصيل مما أتاح له مصادر غير محدودة للمعلومات خاصة وأن خدمته كانت باللاذقية التي هي مهد الوجود للطائفة العلوية كاملة وقد نشأ (حافظ الوحش) -وهو اسمه الأصلي- الذي أصبح فيما بعد (حافظ الأسد) نشأة فقيرة وقاسية في ظل أب مصاب بالسادية عانت منه العائلة أشد المعاناة، وتسبب الوالد في إصابة حافظ الأسد -وهو بعد طفلا غريرا- بصدمة نفسية عميقة قتلت فيه كافة أحاسيس الرحمة بعد أن انتحر أخوه الأكبر بشنق نفسه في حظيرة البهائم بسبب قيام والده بتعذيبه تعذيبا عنيفا لمجرد أنه أضاع مبلغا بسيطا من المال كان الأب قد أرسله بها لشـراء بعض أغراضه! وقد حكى (حافظ الأسد) نفسه بعد توليه الرياسة هذه الواقعة، وأردف بها في لحظة صراحة نادرة، أنه بعد أن رأى جسد أخيه الأكبر معلقا في حظيرة البهائم لم يبك بعدها أو ذرف دمعة واحدة في أي موقف مر به بعد ذلك مهما بلغت قسوته! وهذه النقطة وحدها هي التي تشـرح لنا طبيعة هذا الحاكم وهذه العائلة وتفسـر لنا السادية القاسية التي تميزوا بها والوحشية المطلقة التي لا داع لها في كثير من الأحيان. فإن القارئ لتاريخ حافظ الأسد وعائلته سيجد أنهم يستخدمون أبشع أنواع التعذيب والاغتيال والقتل الجماعي بل والغدر غير المبرر برجالهم وحلفائهم في أمور يمكن حلها دون حاجة إلى تلك المبالغة في سفك الدماء. وقد كان من مآسي العالم العربي حقيقة أن أكثر من ثمانين بالمائة من حكام المنطقة -بعد فترة الخمسينيات- مصابون بأكثر أنواع العقد النفسية خطورة كالسادية وازدواج الشخصية (الإسكيزوفرانيا) وعقدة الاضطهاد وعقدة العظمة وأحيانا الهلاوس السمعية والبصـرية التي تُوهم بعضهم بأنهم مُحًدّثون من السماء وَمُلْهَمون بالفطرة. وكلنا يذكر (القذافي) الذي صرّح مرارا وتكرارا أنه كالأنبياء ولا فارق بينهم إلا أن الأنبياء ينزل عليهم الوحي الصـريح أما هو فعبقرية مؤهلة لقيادة العالم الثالث وأنه جعل من ليبيا القوة العظمى الثالثة بعد السوفيات والأمريكيين! وبالمثل رأينا (عبد الكريم قاسم) و(صدام حسين) وغيرهم ويظن الناس أن ما يسمعونه منهم مجرد تجارة سياسية وشعارات ليس إلا. لكن المرعب حقيقة أن القذافي ومن شابهه يتكلمون ويصدقون أنفسهم بالفعل فيما يقولونه! القصد. كانت شخصية (حافظ الأسد) تحمل سمات الكتمان والسادية وَقُدْرة فطرية على التآمر والتخطيط وإخفاء النوايا فضلا على سمة الغدر الملتصقة به التصاقا شديدا نتيجة عقدته النفسية الراسخة التي لا تؤمن بوجود عاطفة الولاء أو الصداقة أو الاعتراف بالفضل بعد أن رأى بعينيه انهيار هذه القيم في علاقته بأبيه. وحافظ الأسد يتشابه بشدة مع الزعيم السوفياتي الرهيب (جوزيف فيسـرافيتش) المعروف باسم (ستالين) والذي كان أحد قيادات الثورة البلشفية الثلاث إلى جوار (فلاديمير لينين) و(ليون تروتسكي). فبعد أن تولى ستالين السلطة على أكتاف أصدقائه ورجاله قام بدون مبرر بالخلاص منهم بالقتل والاعتقال حتى أن تروتسكي قبل قتله أرسل لستالين رسالة من سطر واحد يقول فيها له: (ستالين ... هل تدرك معنى كلمة الوفاء) فرد عليه ستالين بسطر واحد أيضا قائلا له في سخرية: (نعم إنه مرض يعاني منه الكلاب!) ونظرا لمدى التأثير الرهيب لنشأة السياسيين وتجاربهم النفسية فإن المؤرخين اهتموا بتفسير الجانب النفسـي للشخصيات التاريخية اهتماما كبيرا بعد أن ثبت لديهم بشكل قاطع أن الطبيعة النفسية للسياسي تكمن وراء قرارات وسياسات كارثية لا تقتصـر عليه أو حتى على بلده بل قد تمتد لتشمل العالم أجمع. ويكفينا في هذا الباب أمثلة تاريخية شهيرة مثل (نابليون بونابرت) بعقدة النقص والفقر التي أفرزت فيه وحشية بالغة في القتال وصفها المؤرخ الأمريكي (آلان شوم) بأنها وحشية تفوقت على دموية (جنكيز خان) حيث كان من هواية نابليون في حروبه حرق القرى والمدن بأهلها إذا رفضوا الاستسلام وهو ما فعله في مصر في حملته الشهيرة على الشرق وأدولف هتلر بالسادية والتفرد المطلق الذي انتهى إلى إشعال أوار الحرب العالمية الثانية، والامبراطور الروماني (نيرون) بالجنون الذي دفعه لإحراق روما لمجرد أن يجد الذريعة للفتك بالمسيحيين عن طريق اتهامهم بحرقها، والخديو (إسماعيل) بعقدة العمران وبذخ الأباطرة الذي وضع مصـر تحت سنابك الاحتلال الإنجليزي فيما بعد، و(السادات) بعقدة الانهيار النفسـي تجاه الغرب وانبهاره بالممالك والإمارات والإعلام العالمي الذي بذل جهده طيلة فترة حكمه ليسترضيه ويظل نجما لامعا في آفاقه وهو ما أدى لكارثة انهيار الخط القومي لمصـر والعرب نهائيا وقد شرح كاتبنا الكبير (محمد حسنين هيكل) مجموعة العُقَد التي حكمت السادات بشكل واف وسمحت له السلطة المطلقة بإبرازها بعد أن كانت مختفية ومطمورة خلف طاعته وولائه الظاهر لعبد الناصر ومشروعه القومي. لكن عقدة (حافظ الأسد) ودمويته المتفردة جعلته يؤسس نظاما دكتاتوريا فاشيا تفوق في وحشيته على كافة النظم الدكتاتورية التي حكمت العرب من المحيط إلى الخليج. وقد بدأت أسطورته وظهوره بانتمائه إلى حزب البعث هو ورفيقه العلوي (صلاح جديد) وعندما قامت الوحدة بين مصـر وسوريا وتم حل الأحزاب –ومن ضمنها حزب البعث- كانت مجموعة الضابط البعثيين رافضين لهذا الحل لكنهم استسلموا للأمر الواقع مؤقتا، وقرروا النزول تحت الأرض للعمل السـري كما هي عادة الأحزاب الشيوعية في ظروف صدامها مع أي سلطة. وبالفعل قام البعثيون –ومنهم حافظ وصلاح جديد- بتكوين تنظيم سري في الجيش السوري تحت مسمى (اللجنة العسكرية لحزب البعث)، وهي اللجنة التي كانت تترقب الحوادث وتطوراتها منذ عام 1960م، وحتى انهيار الوحدة عام 1962م، وكان لهذه اللجنة دور مواز وخطير في العمل على إفشال الوحدة جنبا إلى جنب مع بقية الأطراف الفاعلة والتي التقت أهدافها على عداء الوحدة المصرية السورية وإن اختلفت مخططاتهم. ونجح حافظ وصلاح في استغلال حالة السيولة التي أصبحت عليها سوريا بعد فشل الوحدة مع مصـر وعودة عصر الانقلابات ليتمكنوا من الصعود السـريع في المناصب الحزبية والعسكرية. وعندما تمكن حزب البعث من الوصول إلى السلطة تَقَرّب (حافظ الأسد) و(صلاح جديد) ورفيقهم الثالث(محمد عمران) إلى قيادات حزب البعث وأظهروا لهم الولاء الكامل وتمكنوا من خداع القيادات البعثية الكبرى مثل (أكرم الحوراني) و(يوسف زعين) (ونور الدين الأتاسي) ونجحوا في إقناعهم بالاعتماد عليهم وتصعيدهم إلى مراكز القيادة الحزبية لحزب البعث وترفيعهم أيضا في قيادة الجيش تحت ذريعة أن ثلاثتهم من الطائفة العلوية ونظرا لأن تلك الطائفة مجرد قوة ترجيح تؤيد القوة الحاكمة وليس لها أمل في أن تطلب لنفسها السلطة فهم يصلحون هنا لأن يكونوا أخلص رجال الحكم داخل الحزب والجيش. واقتنعت القيادات البعثية بحجج حافظ الأسد وصديقيه، ونفذوا لهم أمنيتهم بالتصعيد السـريع داخل تنظيم البعث الحزبي وداخل مجموعة الضباط البعثيين داخل الجيش وبالفعل... وكعادة الانقلابات السورية لم يستقر حُكم (أمين الحافظ) طويلا وحدثت عليه من داخل حِزْبه عملية انقلاب نجم عنها رحيل للعراق، وكان المحرك الرئيسـي لحركة الانقلاب هو اللجنة العسكرية لحزب البعث بقيادة (صلاح جديد) نفسه مع (حافظ الأسد) و(محمد عمران) وكان الانقلاب إيذانا بسيطرة البعثيين على الحكم منذ عام 1963م، وسيطرت اللجنة العسكرية للبعثيين على الجيش وتولى (محمد عمران) وزارة الدفاع وهنا وصل حافظ لنقطة الانطلاق التي كان ينتظرها ويتشوق لها ليبدأ تخطيطا طويل المدى وفي سرية تامة للاستيلاء على الحكم في سوريا. وكانت خطوته الأولى محاولة التخلص من محمد عمران وأخذ مكانه، فتمكن من حث صلاح جديد على تنحية محمد عمران وتقويض نفوذه لكي يسيطروا هم وحدهم على اللجنة العسكرية. ونجحت أولى عمليات غدر حافظ الأسد وتولى وزارة الدفاع بديلا لمحمد عمران عام 1966م. وبدأ بعدها مباشرة في التجهيز لطموحه الأكبر في الخلاص من (صلاح جديد) نفسه وهو يومئذ أقوى رجال الحزب والسلطة باعتباره نائب الأمين العام لحزب البعث والرجل الذي سيطر على اللجنة العسكرية منذ انقلاب البعثيين |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
*دوامة حرب النكسة ودور الأسد بعد مرور كل هذه الفترة الطويلة على حرب النكسة، إلا أن تفاصيلها لا زالت تتزايد كلما خرجت الوثائق الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية بالتتابع. واللافت للنظر أن حرب النكسة ومن بعدها حرب أكتوبر، ظلت إلى اليوم تتكشف فيها حقائق ووقائع جديدة لم يتم نشـرها من قبل لأن هاتين المواجهتين بالذات ظلت تفاصيلهما مليئة بكنوز الأسرار رغم أطنان الوثائق التي تم الإفراج عنها. وسنركز هنا على النقطة المفصلية في البحث وهو دور حافظ الأسد –وزير الدفاع السوري وقتها- والذي انكشف دوره ومؤامرته في تسهيل احتلال الجولان بأكملها في حرب 1967 رغم أن الجولان لم تكن ضمن تخطيط الجيش الإسرائيلي من الأساس. ونستطيع من خلال كم المعلومات والمصادر التي تم الكشف عنها أن نقول بأن الخطة الإسرائيلية الأمريكية كانت تهدف من بدايتها لاقتحام سيناء وتحطيم قدرات الجيش المصـري فيها وتدمير أكبر كمية من أسلحته وعتاده بحيث يتم استغلال ذلك في تسوية قضية الشـرق الأوسط وفق الاستراتيجية الإسرائيلية الهادفة إلى إبعاد مصـر وتنحيتها عن محور القومية والقضية الفلسطينية إما بهزيمة تُرَكّعها وإما باتفاق سلام شامل يضمن انشغالها بنفسها بعيدا عن القضايا العربية. فالهدف الإسرائيلي من احتلال سيناء لم يكن التوسع الجغرافي والإقليمي بل كان الهدف يتركز على وجود ورقة ضغط هائلة تتمثل في احتلال سيناء وإنشاء عازل طويل وممتد بين مصـر وإسرائيل يظل قائما حتى استسلام مصر للمطلب الإسرائيلي بإقامة سلام منفرد معها. ولم تكن الاستراتيجية الإسرائيلية تضع في حسبانها البقاء في سيناء أو احتلال الجولان بل كان هدفها الأسمى السيطرة على الضفة الغربية والقدس وإنهاء الصـراع بعد ذلك عن طريق تطبيع إجباري ينسف أي حلول موازية. وبالتالي فمطالب إسرائيل في سيناء والجولان كانت ضمانات أمن، ومطالب أمن، بخلاف مطالبها في الأراضي المحتلة فهي مطالب توسع واستيطان. وقد شرحنا الاستراتيجية الإسرائيلية بشكل موسع من مصادر الإسرائيليين من قبل في كتابنا (كيف نفهم قضية فلسطين) وتم ترتيب خطوات الحرب بقصة الإشاعة التي فجرت الأزمة والتي كانت تتحدث عن نوايا إسرائيلية لمهاجمة الحدود السورية. وبدأ الإعلام العربي يتحدث عن ضرورة وجود دور لمصـر وعبد الناصر لحماية سوريا، وسارت الأمور سيرها المعروف ونجحت الدعاية الإسرائيلية في استفزاز عبد الناصر الذي أقدم على اتخاذ الخطوات التصعيدية التي هدفت منها إسرائيل إيجاد المبرر للهجوم دون أن تتحمل مسئولية تفجير الحرب. وذلك عندما اتخذ عبد الناصر قرار سحب قوات الطوارئ الدولية وإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية. وجاءت الضـربة الكبرى في 5 يونيو والتي تحولت من مجرد حرب إلى كارثة محققة يتحمل مسئوليتها نظام عبد الناصر بعد أن ترك القوات المسلحة رهن إهمال وَعَتَه (عبد الحكيم عامر) ومجموعته الحاكمة في الجيش، والتي أدت إلى تدمير الطيران المصـري بأكمله فضلا على تحطيم الحشود المصـرية في سيناء واحتلالها بالكامل. وهكذا تم الجزء الأول بنجاح. وكان موعد الجزء الثاني هو تنفيذ (موشي ديان) خطة اجتياح الضفة الغريبة والقدس التي كانت تحت حكم الأردن منذ حرب النكبة عام 1948م، ولم يكن الأمريكيون قد سمحوا للإسرائيليين بذلك في الخطة الأصلية بعد أن تعهدوا لحليفهم الملك (حسين) أن إسرائيل في ضربتها القادمة لن تمس الضفة الغربية وسيقتصر الهجوم على مصر وحدها. لكن الملك حسين كان يدرك تماما أن القيادة الإسرائيلية لن تفوت الفرصة، ولهذا ألح على الأمريكيين بضـرورة التيقن من ذلك، فبادر الأمريكيون بإرسال أهم قطعهم التكنولوجية وهي السفينة (ليبرتي) لكي تقوم بمراقبة الجبهة الإسرائيلية مع الأردن وضمان عدم اجتياحها. وكان (موشي ديان) يعلم بذلك فاتخذ قراره بضـرب السفينة (ليبرتي) لكي لا تكشف أن الجيش الإسرائيلي قد اجتاح الضفة الغربية دون أن يكون هناك أي هجوم من الجيش الأردني وتم هذا فعلا ثم أعلن (ديان) أن الجيش الأردني قد احتشد أمام الحدود وسيشارك في الحرب إلى جوار مصـر وتحت هذه الذريعة تم اجتياح الضفة الغربية بنجاح وابتلع الأمريكيون الفعلة الإسرائيلية كما ابتلعوا الاعتذار الإسرائيلي المتبجح عن ضرب السفينة ليبرتي والذي برره ديان بأنه كان خطأ غير مقصود! كل هذا تم في الفترة من 5 يونيو حتى مساء 8 يونيو وهو موعد قبول وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه جميع الأطراف. وحتى ذلك التاريخ من مساء 8 يونيو لم تكن الجبهة السورية قد دار فيها أي نواع من القتال، ونظرا للكارثة المحققة التي سببت مفاجأة كبرى للعرب جميعا فقد غفل الجميع عن نقطة إحجام الجيش السوري عن الهجوم حيث اقتصـرت المواجهة على مجرد بيانات عسكرية حماسية تعلن اندلاع القتال لكن كل هذا ثبت أنه مجرد شعارات لم يكن لها واقع على الأرض! وتحت تأثير ما حدث قال الرئيس السوري (نور الأتاسي) مُبَرّرا ما حدث أنهم كانوا يُعِدون لهجوم كبير على الجليل غير أن وقف إطلاق النار قد فاجأهم! ونظرا لأن الأمور كانت قد استقرت بالفعل، ولم يكن الأمر يحتمل اشتعالا جديدا يزيد من الخسارة والهزيمة فقد بادر عبد الناصر بمراسلة (نور الأتاسي) ودعوته إلى أن يقبل وقف إطلاق النار للحفاظ على الجيش السوري وقوته بعد هذه الهزيمة الثقيلة، وأن العقل يقتضـي التمسك بالجيش السوري متماسكا بعد الانهيار الذي نال الجيش المصـري، فضلا على ضرورة وقف نزيف احتلال الأرض العربية. وحتى هذه اللحظة لم يكن هناك أدنى مبرر لا أمام إسرائيل ولا أمام سوريا لإعادة تفجير القتال، بالذات إذا علمنا أن فكرة اجتياح الحدود السورية لم تكن موضوعة في خطة الحرب الإسرائيلية من الأصل. وهذا ما كشفته الوثائق الإسرائيلية وروايات القادة العسكريين في الجيش الإسرائيلي، فعندما تم إعداد الخطة وتنسيقها مع الأمريكيين كانت الخطة تقتضـي بعدم الهجوم على سوريا وتوسيع قاعدة العمليات لسبب منطقي وهو أن توسيع العمليات بالاستيلاء على مساحات شاسعة من الأرض قد يكون ممكنا عسكريا أما السيطرة على تلك الأرض فهذا هو الذي يفوق إمكانيات الجيش الإسرائيلي ويهدد استقراره. ولهذا عارض (موشي ديان) فكرة الجنرال (إسحاق رابين) بدخول الجولان –ولو جزئيا- وبناء على مذكرات رابين فقد ظلت الخطة قاصرة على الجبهة المصـرية والأردنية حتى تم التنفيذ فعلا. ومن خلال مذكرات (اسحاق رابين) نقرأ قصة الهجوم على الجولان بعد وقف إطلاق النار وانتهاء الحرب، حيث انتشت القيادة الإسرائيلية بتلك الحرب السريعة ونتائجها الغير متوقعة. فلم يتوقع الإسرائيليون حالة الانهيار التي كانت عليها القيادات العربية، والتي تسببت في تحقيق أعلى نسبة نجاح للخطة. وتحت تأثير هذا النجاح راودت رابين فكرة الهجوم على الجولان وضرب القوات السورية وعدم تركها كمصدر تهديد، لكن (موشيه ديان) رفض تماما وأصر على وجهة نظره التي كانت قبل الحرب لا سيما وأن إسرائيل لم تتوقع أن ينسحب الجيش المصـري من سيناء بالكامل وكان المتوقع وقوفه عند خط الممرات. فلما صدر القرار الكارثي لعبد الحكيم عامر بالانسحاب من سيناء كاملة، وتزامن هذا مع تدمير سلاح الجو والمطارات العسكرية اندفعت إسرائيل لاحتلال سيناء حتى قناة السويس، وهذا معناه تمديد المساحة التي يتعين على الجيش التمسك بها للضِعْف. واقتنع رابين بما سمعه وأكمل روايته بأنه بناء على هذا الأساس قررت القيادة قبول وقف إطلاق النار واستأذن رابين للحصول على قسط من النوم بعد انتهاء المعارك وفوجئ رابين برنين هاتفه في الساعة السابعة صباحا وكان المتحدث هو (عيزرا وايزمان) رئيس هيئة العمليات يبلغه بأن موشي ديان قرر دخول الجولان وأصدر أوامره بالفعل للجنرال (دافيد اليعازر) قائد الجبهة الشمالية بتنفيذ الاجتياح! وَذُهِل رابيين مما سمع وذهب من فوره لمكتب موشي ديان ليفهم ما الذي دفعه لتلك الخطوة المفاجأة. فأجابه ديان بإجابة لا محل لها من الإعراب وقال له: أنه عندما أعاد التفكير في ساعات الليل وجد أنه من المناسب ألا يترك الجيش السوري مصدر تهديد! وهو نفس المبرر الذي ذكره ديان نفسه في مذكراته، وبالطبع هو مبرر خارج عن المنطق لأن ديان نفسه رفض هذا المبرر من إسحاق رابين وساق أمامه الأسباب الاستراتيجية للرفض والتي لا شك أنها أسباب صحيحة تماما. ولم تقتصر المفاجأة على هذا. بل إن المفاجأة الكبرى تمثلت في أن الجيش الإسرائيلي بدأ بعملية اجتياح هضبة الجولان وكان القتال لا زال في بدايته وهناك معارك واشتباكات دائرة بالفعل. وقبل أن يحقق الجيش الإسرائيلي أي إنجاز في المعارك فوجئت القوات السورية بأمر انسحاب كامل من الجولان يصدر لها من مكتب وزير الدفاع (حافظ الأسد) ليس هذا فقط. بل إن حافظ الأسد خرج ببيان عسكري في الإذاعة يعلن فيه سقوط (القنيطرة) عاصمة الجولان بينما كانت القوات السورية في القنيطرة تستمع إلى هذا البيان وهي في مواقعها ولم تشتبك بعد مع الجيش الإسرائيلي من الأصل! وهكذا سقطت الجولان بعد انسحاب الجيش السوري دون قتال تقريبا، وكان بيان حافظ الأسد بسقوط القنيطرة وأوامره بالانسحاب أكبر صدمة تلقاها الجيش والشعب وقيادات حزب البعث التي عجزت عن فهم ما حدث. والواقع أن لغز سقوط الجولان لم يكن لغزا غامضا، لأن دور الأسد في سقوط الجولان كان من المستحيل قبوله على أنه من باب التقصير أو من باب الفشل العسكري. فالقرار الإسرائيلي المباغت باجتياح الجولان والمخالف للخطة الإسرائيلية المعتمدة، كان قرارا فريدا وغير مسبوق حيث اتخذه وزير الدفاع (موشي ديان) فجأة وبصفة منفردة بعيدا عن كافة القيادات العسكرية الإسرائيلية! وإقدام موشي ديان على اتخاذ القرار بهذه السـرعة كان يشـي بأن ديان كان يعلم تماما أن الاجتياح للجولان لن يتسبب في أية خسائر تُذكر للجيش الإسرائيلي، وبأن خطة الاجتياح ستكون نزهة عسكرية لن يترتب عليها أي مسئولية. كما أن اتخاذ القرار بهذه الصورة بعيدا عن معرفة رئيس الأركان إسحاق رابين وبشكل مفاجئ وفي مخالفة واضحة لرأي وقرار ديان السابق بعدم غزو الجولان يوحي بوضوح أن ديان اتخذ القرار بناء على تغييرات سرية وترتيبات لم يعلم بها قيادات الجيش الإسرائيلي ولم يصارحهم بها ديان. فما الذي عرفه ديان ودفعه لمثل هذا القرار؟! والأهم كيف نجحت إسرائيل في اجتياح الجولان دون مواجهة مكلفة مع الجيش السوري؟! وعندما نضع هذه الأسئلة مع التصـرفات التي قام بها الأسد في إدارة المعركة سيظهر لنا بوضوح أن هناك تنسيقا كاملا بين حافظ الأسد وإسرائيل على هذا الاجتياح. وهذا الأمر لم تنكشف فيه وثائق واضحة من حرب النكسة، ولكن تفاصيله كانت معروفة لعدد كبير من السياسيين والعسكريين داخل وخارج سوريا، وتسربت بعد ذلك بسنوات. ومن تلك المصادر ما قاله (أنور السادات) للصحفي المصـري الشهير (محمود عوض) من أن الجولان سقطت بفعل فاعل وباتفاق وتنسيق أمريكي بين إسرائيل وأطراف داخلية بالإضافة إلى شهادة الشاعر السوري الكبير (نزار قباني) حول هذا الأمر، ونزار قباني لم يكن شاعرا وأديبا وحسب بل كان مسئولا كبيرا في الخارجية السورية وعمل سفيرا لسوريا في عدة دول بخلاف المواقع التي شغلها داخل الحكومة. وقد كانت تلك الشهادة سرية أدلى بها نزار قباني لصديقه الكاتب الكبير (محمود السعدني) والذي قام بتسجيلها على عدة شرائط كاسيت واحتفظ بها سرا حتى وفاته بناء على طلب نزار قباني نفسه والتي أثبت له فيها أن سقوط الجولان تم بصفقة بين الأسد وإسرائيل ولأسباب وأهداف متعددة كان من ضمنها تخطيط الأسد للوصول للسلطة عن طريق استغلال حالة التخبط التي سادت العالم العربي بعد النكسة ولم تنكشف التفاصيل الكاملة لما أدلى به نزار قباني لمحمود السعدني ولا طبيعة الأدلة التي وَثّق بها روايته. لكن الصحفي الكبير (أكرم السعدني) نجل (محمود السعدني) هو الذي قام بكشف الواقعة وأعلن أنه لا زال محتفظا بتلك الشـرائط ورأى أن من واجبه الكشف عن محتواها العام بعد مُضـِي سنوات طويلة على وفاة الطرفين محمود السعدني ونزار قباني وقد كانت خيانة حافظ الأسد وتصـرفاته بالغة الوضوح أمام الجميع للدرجة التي دعت المؤتمر القُطري لحزب البعث لعقد تحقيق عاجل في أسباب سقوط الجولان وكان الذي اتخذ القرار هو (صلاح جديد) بنفسه. وعقد الحزب مؤتمرا خاصا لمعالجة الأمر وانهالت الاتهامات على وزير الدفاع (حافظ الأسد) الذي كانت أوامره وتصـرفاته في إدارة المعركة كارثية وأثارت سخط الجيش وقياداته والجنود الذين أعلنوا حقيقة ما حدث على جبهة الجولان وكيف أن قرار الانسحاب الكامل كان بلا مبررات عسكرية واضحة، وأن إعلان الأسد سقوط القنيطرة كان سابقا على سقوطها الفعلي. وفي نفس المؤتمر قال عضو مجلس القيادة القطرية لحزب البعث (عبد الكريم الجندي) بأنه يملك من الوثائق ما يشـي بتعمد حافظ الأسد إسقاط الجولان وفتح المجال أمام الجيش الإسرائيلي لاجتياحها وأن ما حدث لم يكن سببه التقصير والإهمال العسكري بل التآمر والعمالة بالاتفاق مع إسرائيل بوساطة أمريكية واتفق غالبية المجتمعين في المؤتمر الحزبي على إحالة حافظ الأسد لمحكمة حزبية تعقبها محاكمة عسكرية لكن حافظ الأسد والذي كانت له سيطرة واضحة على الجيش رفض قرارات المؤتمر وتمكن من إبطالها بفضل مساندة الضباط البعثيين والعلويين! ومن الغريب أنه نجح في الإفلات من المحاكمة والمحاسبة، ليبدأ بعدها من فوره الإعداد لانقلاب عسكري يستولي به على السلطة في سوريا، وهو المخطط الذي نفذه حافظ الأسد مع كتلة الضباط العلويين الذين اجتذبهم لنفسه، وبالتعاون مع (معمر القذافي) الذي دعم الانقلاب ماديا وتم تنفيذه بالتدريج خلال السنوات الثلاث اللاحقة على النكسة ليتمكن في عام 1970م من التنفيذ ويصعد إلى رياسة سوريا كأول علوي يصل لهذا المنصب، واعتقل الأسد (نور الأتاسي) و(صلاح جديد) في معتقل (المزة)، ورفض كافة الوساطات من القيادات البعثية في اليمن وغيرها للإفراج عنهما فمات صلاح جديد داخل المعتقل بعد سنوات طويلة ومات نور الأتاسي بمرض عضال بعد عشـرين عاما من الاعتقال حتى أفرج عنه الأسد ولكن مات متأثرا بمرضه بعدها بوقت قليل ولم ينس حافظ الأسد رفيقهم الثالث (محمد عمران) الذي تم نفيه إلى لبنان، ولم يكتف الأسد بهذا بل أرسل خلفه فريقا للاغتيالات دخلوا إلى لبنان بجوازات سفر لبنانية مزورة ونجحوا في اغتيال عمران داخل مقر إقامته بلبنان وكان تخطيط حافظ الأسد بدأ بنيته الخلاص من (صلاح جديد) واجتذاب الضباط العلويين لصفه وإنهاء شعبيته بينهم عن طريق الزعم بأنه يُضَيّع على العلويين فرصة الصعود لسدة الحكم وكان صلاح جديد بالفعل مؤمنا من أعماقه –كسائر العلويين- أن أقصـى طموح لجبهتهم هي العمل كطائفة مساندة تكتسب نفوذا تكتيكيا في البلاد دون التفكير مطلقا في الوصول لسدة الحكم في سوريا مهما كانت الأسباب. وذلك نظرا لأنهم طائفة مخالفة عقائديا لمعظم طوائف الشعب السوري صاحب الأغلبية السنية فضلا على أن العلويين لا يملكون أي قوة تؤهلهم للتفكير في الوصول للحكم. ولم يحدث في تاريخهم أن حاولوا ذلك لإيمانهم بأن طموحهم هذا سينتهي بهم إلى حرب طائفية مدمرة في يوم من الأيام ستكون نتيجتها اقتلاع الطائفة بأكملها. وأكبر دليل على هذا أن العلويين لم يفكروا في الحكم إلا عندما جاءتهم فرصة لحكم منطقتهم المحدودة فقط في الساحل السوري، وحتى في هذه التجربة كانوا يستندون فيها إلى قوة الدعم الفرنسـي والتي فشلت في نهاية الأمر. فكيف يمكن لهم التفكير في حكم سوريا بأكملها بعد ذلك؟! أما كيف خطط حافظ الأسد للوصول للحكم، فقد بدأ باستغلال منصبه كوزير للدفاع وقام بتجنيد الضباط العلويين لصالحه وخاطبهم بأن الفرصة المواتية أمامهم للحكم لن تتكرر وأن العائق الوحيد أمامها هو وجود (صلاح جديد) في منظومة الحكم! وشـرح لهم حافظ الأسد الفكرة وملخصها القيام بانقلاب للاستيلاء على السلطة بعد التجهيز له جيدا، وأيا كانت النتيجة فستكون في صالحهم فلو نجح الانقلاب ووصل العلويون للسلطة سيأخذون البلد لصالحهم عن طريق التحالفات واستغلال الخلافات بين أطراف الحزب، وبالسيطرة على الحزب من ناحية والجيش من ناحية أخرى سيتم الأمر. وإن فشل الانقلاب فعليهم عندئذ استغلال قوتهم المنظمة وإعادة مشـروع الدولة العلوية من جديد في طرطوس واللاذقية أما بالنسبة للتبريرات والمحاذير التي كان يخشاها العلويون ويرددها (صلاح جديد) فحافظ الأسد لم يكن مؤمنا بكل هذه التبريرات، وبعد وصوله لمقعد وزارة الدفاع وفي ظل الظروف الدولية في المنطقة كان يرى أن أمام العلويين فرصة سانحة لم تتكرر من قبل قط لكي يثبوا على الحكم وتتمثل الفرصة في أن الحكم السوري الآن لم يعد حكما تتنازعه الطوائف كما كان في الماضي بل صار حكما يعتمد على عنصريين رئيسيين وهما الجيش وحزب البعث. فالذي يسيطر على الحزب المدعوم دعما كاملا من السوفيات، وعلى الجيش وأجهزة الأمن الداخلية سيصبح الحاكم الفعلي بغض النظر عن انتمائه أو طائفته لأن الحزب والجيش متفقين في العقيدة القومية وأصبح معيار الانتماء في البلاد قائما على تلك العقيدة وتراجعت إلى حد كبير نعرات الطائفية أمام العقيدة القومية. والسبب الثاني الذي كان يشجع حافظ الأسد هو أنه كان عقلية بالغة الذكاء في إدراك أن الشعب السوري أغلبيته سُنية محضة، وهؤلاء قد يقبلون بحكم البعث الشيوعي تحت تأثير انتشار القومية العربية لكنهم لن يقبلوا قط بحكومة شيعية تعمل على نشـر عقيدتها أو تحاول تغيير عقيدة البلاد للتشيع كما حدث في إيران في عهد الصفويين. لذلك تخلى حافظ الأسد تماما عن أي معتقدات دينية تخص طائفته العلوية ولم يحرص على نشـر معتقداتها أو تشجيعها على الظهور، ولأنه بالأصل لم يكن منتميا أو مهتما بالعقائد الدينية سواء كانت شيعية أو سنية، فكان سهلا عليه أن يكون كعامة أعضاء حزب البعث شيوعيا يستبدل العقيدة الدينية بالقومية. لذلك عندما وصل للحكم قام بالإعلان على أن العقيدة الجامعة للبلاد سنية، لكن المنهج الذي سيجمع الشعب بكافة طوائفه هو منهج القومية العربية وإعلاء العنصـر العربي والنداء بالوحدة العربية بين كافة دول المنطقة. والذين يعلمون مبادئ العقيدة الشيعية سيدركون أن انتماء حافظ الأسد للشيعة النصيرية كان حبرا على ورق، لأنه ضرب أهم ثابت من ثوابت الشيعة وهو كراهية العنصـر العربي واللغة العربية والتمسك بالثقافة الفارسية إلى أقصـى مدى لدرجة تحريم السلطة الإيرانية للأسماء العربية وتحريم استخدام اللغة العربية في أي وثيقة رسمية فضلا على تحريمهم التسمي بأسماء عربية محددة سواء كانت من أسماء الصحابة أو التابعين أو الأبطال المعروفين في التاريخ الإسلامي. وليس هذا فقط. بل قام حافظ الأسد بدمج القومية العربية كمنهج للدفاع عن الدولة الأموية التي كان مقرها الشام وكانت أعظم دول الإسلام بعد الراشدين ولها شعبية كاسحة بين أهل الشام جميعا، وهي التي تولت قيادة الفتوحات التي وصلت لأقصـى اتساع لها في عهد (سليمان بن عبد الملك). ومعروف بالطبع أن الدولة الأموية هي أعدى أعداء الثقافة الشيعية في المطلق، ومعروف أن الدولة الأموية أيضا كانت تحرص حرصا شديدا على تولي العرب للمناصب الحساسة في الدولة وعدم السماح للجنس الفارسي بالتوغل في الدولة لثقتهم في أن الفرس لن يتوقفوا عن مؤامراتهم ضد الخلافة. وهو الأمر الذي لم ينجح العباسيون في تلافيه عندما اعتمدوا على العنصـر الفارسي فتسلل إلى بيت الخلافة في عهد الراشدين عن طريق البرامكة، الذين تسيدوا مناصب الدولة جميعها بما فيها قيادات الجيوش، ثم تمكنوا من معاونة الخليفة (المأمون) الذي ينتمي للبرامكة من طريق أمه الجارية (مراجل) وأيدوه حتى استطاع قتل أخيه (الأمين) وأعاد السلطة ليد الفرس مرة أخرى بعد أن تم القضاء على نفوذهم في عهد الرشيد. وفي ضوء تلك الحقائق. فإن حافظ الأسد كان شديد المكر في تخطيطه عندما فرض تعليم اللغة العربية والتاريخ الإسلامي على كافة مراحل التعليم، فضلا على تقديم الانتماء العربي على الانتماء القُطري بأن جعل المسمى الرسمي للدولة هو (الجمهورية العربية السورية) والمسمى العسكري للجيش هو (الجيش العربي السوري) إمعانا في إظهار الانتماء العربي. بل وشَجّع معاهد التمثيل على تبني الأعمال التاريخية الخالدة وإعلاء قيم العروبة، وهذا هو السـر الحقيقي وراء البراعة والاحتراف الشديد الذي تميزت به الدراما السورية في الأعمال التاريخية حيث تميز الممثلون من كافة طبقاتهم بإجادتهم للغة العربية الفصحى إجادة تامة تكاد تطابق مستوى القدماء في النطق والفصاحة فضلا على بلاغة السيناريو والحوار. |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
وبهذه الأسباب تمكن حافظ الأسد من تقديم نفسه بوجه عربي يماثل الخط الرسمي للقومية العربية الذي يتبناه الشعب السوري كله، وكان من الطبيعي أن يتناسى السوريون انتماء الأسد للطائفة العلوية حتى تمكن –فيما بعد – من وضع العلويين في كافة مفاصل الدولة. أما خطته في استخدام الجيش وضمان عدم نجاح أي محاولة انقلاب ضده، فقد كانت أقوى نقطة تفوق نجح في تنفيذها وأكبر دليل على هذا أن الجيش السوري الذي كان محترفا في الانقلابات باستمرار لم يستطع الانقلاب على نظام حافظ الأسد طيلة مدة حكمه. والسـر في ذلك أنه وضع الضباط العلويين بتوزيع شديد الدقة حيث تركز وجودهم في التشكيلات المقاتلة لا الوظائف الإدارية. ولم يجعل الوظائف القيادية في التشكيلات لصالح العلويين حصـرا، بل كان أكثر ذكاء من هذا فكان يضع في مقدمة الجيوش والفرق والكتائب قيادات من خارج الطائفة لكنه يضع تحتهم الضباط العلويين في قيادة الأركان، فلم يجتمع لأي فرقة أو كتيبة أو سلاح مجموعة قيادية موحدة وهو ما كان يعني استحالة نجاح أي محاولة انقلاب ثم أضاف حافظ استراتيجية متفردة للجيش السوري وهو إبقاء الجيش مشغولا دائما بمهمات دفاعية لا تفرغ. وكان الأمر سهلا وميسورا لأنه عندما تولى حافظ الحكم عام 1970م، حيث كانت الخطة العربية تجري لحرب التحرير وبدا واضحا مع التطورات أن مصـر ستخوض الحرب حتما بعد أن طالت الاستعدادات ولم يعد أمام القيادة المصرية بد من التنفيذ. ورغم وفاة عبد الناصر المفاجأة، والتي نجم عنها صراع السلطة عام 1971م، بين السادات ومجموعة مراكز القوى إلا أن المواجهة تم حسمها عندما رفضت قيادات الجيش بزعامة رئيس الأركان (محمد صادق) الزج بالجيش في هذا الصراع باعتباره متفرغا لمعركته. وهكذا لم يستطع الفريق (محمد فوزي) ورفاقه من رجال الحكومة أن يُتموا انقلابهم ضد السادات الذي خرج منه منتصـرا ليبدأ التفكير في الحلول الديبلوماسية أولا ومحاولة استمالة الأمريكيين إلا أن المحاولة فشلت فشلا ذريعا وَتَلَقى السادات صدمة من (هنري كيسنجر) المستشار السياسي لنيكسون أن الولايات المتحدة -وهو شخصيا- مشغولون بمشاكلهم في آسيا ومع الاتحاد السوفياتي وأن مشكلة الشرق الأوسط مستقرة وهو لا يفضل التدخل في مشكلة قبل اشتعالها" " وواقع الأمر أن السادات لم يكن أمامه حل آخر بغير الحرب فالاستعدادات في الجيش وتحفز الشعب المعبأ للمعركة بلغ حده الأقصـى وأصبح التأخر في اتخاذ القرار تهديدا للنظام بأكمله كما أن التململ والمظاهرات المشتعلة بدأت في التزايد فضلا على غضب الضباط والجنود من استمرار حالة (اللاحرب واللاسلم) المستمرة منذ عام 1970م، بعد أن قبلت مصـر مبادرة (روجرز) والتي أنهت فترة حرب الاستنزاف. وهكذا تم اتخاذ القرار الفعلي والتجهيز لمشاركة سوريا مع مصـر في الحرب، وهو الأمر الذي قَبِله حافظ الأسد وتم وضع الخطة على هذا الأساس. وجاء يوم المعركة بمفاجآت صارخة كان أكبرها على الإطلاق هو تعاظم نتائج الحرب عما كان متوقعا سواء من القيادة المصرية أو السورية. ولم يقتصـر الأمر فقط على الإنجاز العسكري الهائل بل كانت المفاجأة مع الانتفاضة الشعبية الرهيبة التي شملت بلاد العرب من المحيط إلى الخليج تفاعلا مع الحرب، وذلك بعد كبت طويل فشلت فيه الجيوش العربية في تحقيق أي انتصار لافت في مواجهة إسرائيل منذ حرب النكبة. وهذه المفاجآت وهذا التفاعل الكاسح من الجماهير العربية كان تهديدا وجوديا لكافة حكام المنطقة حيث أن الشعوب انتفضت للمطالبة بالاشتراك في الحرب ودعم المصـريين والسوريين إلى أقصى مدى. وبالفعل اجتمعت كلمة العرب لأول مرة على حرب واحدة، ثم جاء التأييد العالمي أيضا لمشـروعية الحرب وتعاطفت معظم دول العالم مع عدالة القضية العربية. وكان الأمر المخزي تاريخيا حقيقة هو الدور الذي لعبه كل من (حافظ الأسد) و(السادات) في تضييع الكثير من النتائج السياسية المتوقعة للحرب. فمن ناحية السادات، وفي مفاجأة كاملة لكافة الأطراف بدأ السادات اتصالاته مع الأمريكيين بعد وقف إطلاق النار، وهم حلفاء إسرائيل الذين أمدوها بطوفان من السلاح النوعي لوقف انهيار جيشها على الجبهة. واستقبل السادات مستشار الأمن القومي الأمريكي(هنري كيسنجر) نفسه الذي كان قد دعم إسرائيل بكل ما يملك من قوة، وفي نفس الوقت حرص السادات على تنحية السوفيات وهم الحلفاء السياسيون والعسكريون للعرب منذ حرب 56م، ثم استمرت سياسته في الانفصال التدريجي عن القضايا العربية والقبول بالصلح المنفرد مع إسرائيل وتحقيق أغلى أمانيها بإعادة سيناء لمصـر في مقابل تخليها عن الخط القومي وهو الأمر الذي طلبته إسرائيل من عبد الناصر دون حرب أصلا في مقابل إعادة سيناء، وكان رفض مصـر قاطعا في ذلك، فإذا بالسادات ينفذه بعد هذا الإنجاز الذي تحقق في حرب أكتوبر. وعلى الناحية الأخرى. اندفع الجيش السوري للقتال وظهر منه أبلغ آيات البطولة والشجاعة والاحتراف ونجح خلال أول يومين من القتال في تحطيم دفاعات الجيش الإسرائيلي بكفاءة مذهلة مماثلة للإنجاز المصـري أمام قناة السويس. وحتى اليوم الثالث من الحرب كان الجيش السوري قد وصل لنقطة الحدود وحرر الجولان كاملة، وأصبح يُشَكل تهديدا وجوديا على إسرائيل لأن هضبة الجولان تطل مباشرة على الداخل الإسرائيلي، لهذا ركز الإسرائيليون أكبر اهتمامهم على إيقاف الجبهة السورية وبالطبع أعدت إسرائيل للهجوم المضاد سواء على الجبهة السورية أو الجبهة المصـرية، وكانت الخطة الموضوعة للجبهتين كافية لإفشال الهجوم المضاد الأول وهو ما تم فعلا على الجبهة المصـرية عندما نجح حائط الصواريخ في شل الطيران الإسرائيلي بالكامل، وبالتالي بقيت قوات العبور تحت الحماية ومتمسكة بمناطقها وعجز تفوق إسرائيل المعروف في سلاح الجو أن يخترق تلك الدفاعات. ولم ينجح الإسرائيليون في كسب أي معركة إلا عندما حدث خطأ تطوير الهجوم الذي خرجت فيه بعض ألوية المدرعات المصرية عن حماية حائط الصواريخ فتمكن الطيران الإسرائيلي من تدميرها" " وكان من المنطقي أن يفشل الهجوم المضاد الإسرائيلي على الجولان –بنفس الاستراتيجية- أو على الأقل تتكافأ القوتان ويظل الجيش السوري ممثلا لخطر التهديد على إسرائيل من مواقعه الاستراتيجية فوق الهضبة. لكن هذا لم يحدث! ونجح الطيران الإسرائيلي في تأمين الهجوم المضاد الكاسح رغم أن الدفاع الجوي السوري أسقط العديد من تلك الهجمات، لكن الغرابة تمثلت في أن الطيران الإسرائيلي سيطر على الجبهة وبدأ التراجع السوري شيئا فشيئا من يوم 10 أكتوبر حتى استعاد الإسرائيليون مواقعهم القديمة قبل بداية الحرب. وبقي ما حدث على الجبهة السورية لغزا مستعصيا لأن الأداء العسكري للجيش السوري كان في قمة إتقانه، وظهرت فوارق رهيبة بين مستوى الكفاءة للجندي السوري أمام الجندي الإسرائيلي، تلك الكفاءة التي عطلتها آلة الحرب الجوية المتفوقة للعدو. وبقي السؤال اللغز عن كيفية عجز الدفاع الجوي السوري عن ضمان تأمين قواته رغم أن خطة الحرب كلها كانت قائمة على تفادي القوة الجوية الإسرائيلية بشل فعالياتها بالدفاع الجوي المتفوق. كما أن نجاح الجيش الإسرائيلي في احتلال مواقعه مرة أخرى في الجولان بهذا الشكل، ظل أمرا يصعب تفسيره ويثير التساؤلات عن طريقة إدارة المعارك في الجبهة السورية وقد كانت إدارة حافظ الأسد للحرب فيها ما فيها من الخطوات غير المفهومة وفقا لتصـريح المشير (عبد الحليم أبو غزالة) –أحد قيادات المدفعية المصـرية في الحرب ووزير الدفاع فيما بعد– عندما عالج لغز الجبهة السورية في حرب أكتوبر في ترجمته لكتاب (دروس الحرب الحديثة)" "، وقال بأن المراجع والتحقيقات عن حرب أكتوبر من الجانب السوري معدومة، ولم يخرج منها شيء أو مصدر يروي وقائع القتال بشكل كاف. وكل ما هو موجود على الساحة –حتى وقت كتابته لكتابه- من مصادر إسرائيلية وغربية. وبالفعل استمر الصمت من الجانب السوري –عدا استثناءات بسيطة- ولم تصدر أي شهادة أو رواية رسمية أو غير رسمية عن طريق مذكرات قادة الحرب أو المراقبين والمحللين، وتمت التعمية الكاملة على وثائق حرب أكتوبر من الجانب الرسمي السوري بشكل كامل. وهذا ما دعا المشير أبو غزالة في كتابه المشار إليه يقول: (من الواضح أن الجبهة السورية بدأت في الانهيار اعتبارا من يوم 10 أكتوبر، الاسباب لا نعلمها، حيث لم يصدر أي مرجع سوري واحد عن الحرب وكل ما ينشـر وجهات نظر اسرائيلية أو غربية منحازة لإسرائيل) وقد حاول أبو غزالة تخمين وتحليل الأسباب التي أدت لتلك النتائج وذكر منها تأخر وصول الدعم السوفياتي لميناء اللاذقية حتى يوم 11 أكتوبر بينما كان التراجع على الجبهة قد تم قبلها في 10 أكتوبر، وذكر أيضا من الأسباب أن تأخر وصول القوات العربية المساندة من الجيش العراقي فضلا على غياب التنسيق العسكري الذي أدى لأخطاء جسيمة نتج عنها إسقاط بعض مقاتلات الجيش العراقي بصواريخ سورية. والواقع أن كل الأسباب التي ساقها أبو غزالة قد تصلح لتفسير الموقف في الأحوال العادية، بحيث يكون التفسير راجعا للتقصير أو نقص الكفاءة وغياب التنسيق. غير أن التعتيم الكامل من جانب حكومة الأسد وعدم الإفراج عن خطط سير المعارك يؤكد أن اتهام التقصير وحده لا يكفي، لا سيما إن وضعنا بأذهاننا سابقة تعامل الأسد مع الجولان أثناء حرب يونيو عام 1967م. خاصة أن صدام حسين له شهادة غريبة في هذا الشأن والتي أدلى بها للتيلفزيون العراقي عام 1982م بعد أن تفجرت الخلافات العنيفة بين فرعي حزب البعث في سوريا والعراق فاتهم (صدام حسين) الرئيس السوري (حافظ الأسد) بالخيانة في إدارة حرب أكتوبر عندما تمكن الجيش العراقي من إيقاف تقدم الجيش الإسرائيلي على الجبهة، وبدأ بعدها في الإعداد لهجوم مضاد على الجولان، لكن القيادة السورية فاجأت الجيش العراقي بقبول وقف إطلاق النار ومطالبتهم بإيقاف الهجوم العراقي المضاد. والخلاصة في هذا الشأن أن الجيش السوري تم خداعه والتآمر على تضحياته عندما استطاع الإسرائيليون استعادة الجولان مجددا وبقي الأمر تقريبا على ما كان عليه قبل الحرب، عدا تحرير منطقة (القنيطرة) وبعض الأجزاء المحيطة بها، وبقي الجولان كله محتلا حتى اليوم! والواقع أن المناقشة في تلك القضية تطول وتستحق أن نفرد لها كتابا مستقلا. القصد. أن حافظ الأسد بعد حرب أكتوبر بدأ يُرَسخ لحكمه في سوريا كما شرحنا من قبل، واعتمد فيها على سياسة (حرق الأرض) تحت أقدام أي معارضة لحكمه، واستخدام القوة المفرطة مع الشعب ومع أي معارض وانتهج سياسة الاغتيالات كمنهج رئيسي مميز لفترة رياسته. ولم يكن هناك مجال للأخطار أمام حافظ الأسد إلا التخوف من الانقلابات العسكرية وتحركات الأحزاب القوية كالحزب الشيوعي، أو التمرد الذي قد تقوم به جماعة الإخوان المسلمين ضد حكمه. ولم يكن الأسد ينتظر حتى يصبح الخطر أمرا واقعا، بل كان يبادر بالهجوم والسحق لمجرد احتمال وجود خطر مستقبلي من هذا الطرف أو ذاك. وفي بداية تولي الأسد للسلطة لم يكن للحركات الإسلامية وجود ظاهر، إلا جماعة الإخوان كحزب سري يتزعمه (مصطفى السباعي) و(عبد الفتاح البيانوني) و(مروان حديد) بالإضافة إلى وجود رجال الدين المستقلين. وقد انقسم رجال الدين إلى قسمين أحدهما وهو التيار الصوفي الذي قام بتأييد حافظ الأسد، وقسم آخر من السلفيين عارضوا مبدأ وجود الأسد كرئيس شرعي لسوريا باعتباره من الطائفة العلوية، وهؤلاء لم يجدوا حلا أمامهم إلا مغادرة سوريا إلى السعودية التي استقبلتهم ومعهم بعض قيادات الإخوان أيضا وتبقت القيادات الأخرى في سوريا للعمل السـري، وكانت السعودية منذ الخمسينيات قد استقبلت جماعة الإخوان في أراضيها ودعمتهم ضد نظام عبد الناصر في فترة عدائه مع الملك سعود وشقيقه فيصل. كما استقبلت الفرع السوري منهم أيضا مع القيادات السلفية. وَوَجّه الأسد اهتمامه أولا لنشاط الإخوان، نظرا لأن الحزب الشيوعي وباقي الأحزاب لم يدخلوا في صدام ظاهر معه. لهذا تفرغ للإخوان أولا. وكانت أبشع جرائمه عندما سمح عامدا للإخوان المسلمين في محافظة (حماة) بالتسلح وتمكن من التلاعب بهم عن طريق عملاء الأجهزة الأمنية حتى وقع الإخوان في الفخ فقاموا بتمرد مسلح في حماة على خلفية صدور بعض القوانين التي عارضوها. وهذه هي طبيعة الإخوان في كل عصـر وقُطر، فجماعتهم منذ بدأت في مصـر على يد (حسن البنا) وهي تتبع النهج البراجماتي النفعي، لكنها تفشل دوما في تحقيق أي نجاح يذكر في أي صراع سياسي، ولهذا خسـروا أمام أنظمة الحكم باستمرار منذ تحالفهم الأول مع الانجليز والقصـر الملكي في عهد فاروق، ثم بعد ذلك بتحالفهم مع نظام ثورة يوليو وتحالفهم التالي مع السادات وهلم جرا.... ففي كل تلك المعارك كان الإخوان يستخدمون أسلوب الصفقات والمواءمات لكنهم يعجزون تماما عن التفكير الاستراتيجي وإدراك العواقب. ولهذا وقعت لهم النكبات تلو النكبات، واستخدمتهم كافة الأنظمة العربية والغربية في معاركها السياسية دون أن يجني الإخوان شيئا من مكاسب تلك المعارك وفي سوريا لم يكن حالهم أفضل من هذا. فعندما أعلنوا التمرد المسلح على النظام لم يحسبوا العواقب ولا طبيعة شخصية حافظ الأسد الدموية التي جعلته يحاصر حماة بقوات الجيش ويقصفها بالدبابات كما لو كان يواجه معركة عسكرية نظامية. ووفقا لشهادة العميد (نبيل الدندل) فإن حافظ الأسد عرف بمؤامرة وتمرد الإخوان عندما اكتشف جهاز الأمن السياسي أبعاد مخطط الإخوان المدعوم من النظام البعثي في العراق بعدما وقع في أيديهم عميل الاتصال بين الإخوان والنظام العراقي. لكن المفاجأة كانت في أن الأسد أصدر أوامره بعدم تحرك جهاز الأمن السياسي لإحباط التحرك وأحال الموضوع إلى أحد رجاله الثقات وهو (علي دوبا) رئيس شعبة المخابرات العسكرية وقال له بأن الأمن السياسي كشف له عن مؤامرة تمرد يُعِدها الإخوان تبدأ من حماة، وأنه أحال الموضوع إليه في جهاز الأمن القومي وطلب منه أن ينفي صحة معلومات جهاز الأمن السياسي بوجود مؤامرة! وكان هدف حافظ الأسد هنا منح الفرصة كاملة للإخوان كي يتحركوا علنا في حماة بتمرد مسلح يتيح له أن يرد أمام الشعب بالقوة الغاشمة دون أن يخشى اتهامات بالقمع، وهو ما تم بعد ذلك فعل وكان الهدف من الضـربة على هذا النحو إعطاء جرس إنذار لأي معارضة لحكمه سواء كانت معارضة مسلحة أو سلمية، وقد كرر حافظ الأسد الهجمات الوحشية على عدة مدن سورية في أكثر من مناسبة حتى لو لم يكن هناك داع فعلي لاستخدام القوة الغاشمة. وكان الذي قاد مجزرة حماة هو (رفعت الأسد) شقيق حافظ والذي كان يعتبر نفسه شريكا في السلطة. وفي بداية الثمانينات فكر في الانقلاب على أخيه لكن وزير الدفاع السوري (مصطفى طلاس) كشف المحاولة وأبلغ عنها حافظ الأسد الذي أعطاه أوامره بتصفية شقيقه دون تردد. لكن رفعت الأسد كان يتحوط لذلك بالقوات التابعة له، وفشلت مهمة اغتياله" "، غير أن الخلافات انتهت بين الأخوين بوساطات متعددة نجم عنها نفي رفعت الأسد من سوريا وانتهاء الأزمة عند هذا الحد.. وبعد مجزرة حماة أطلق حافظ الأسد يد أجهزة الأمن العسكري في أنحاء البلاد بعد أن كان نشاطه مقتصـرا على الشئون العسكرية وحدها، فتشارك الأمن العسكري مع جهاز الأمن السياسي لفرض حالة من السيطرة الأمنية الكاملة على مفاصل الدولة، وأصبحت أجهزة الأمن مختصة بمتابعة ومراقبة كافة فئات الشعب بلا استثناء. وبالطبع توسعت الاعتقالات بحجة الحفاظ على الأمن القومي حتى بلغت حدا مريعا مع انتشار عملاء الأمن في كافة التجمعات والمراكز الوظيفية، بحيث أصبحت أي كلمة عابرة يقولها أي مواطن سببا كافيا لتغييبه في المعتقل لباقي سنوات عمره. والغريب أن شر حافظ الأسد لم يتوجه إلى سوريا وحدها، بل كانت يخطط أيضا للسيطرة على لبنان وإلى اختراق النظام العراقي أيضا وكان حافظ الأسد يستخدم أقرب رجاله في الأمن والسياسة والوزارات لتنفيذ كافة مخططاته سواء داخل أو خارج سوريا، وكان منهم أسماء شهيرة انعقد ولاؤها لحافظ الأسد بشكل كامل، ولكن نهايتهم كانت دائما تأتي بالاغتيال أو الاختفاء عندما تنتهي الحاجة إليهم. وكان أهم ضحايا أسرة الأسد في هذا المجال هو (غازي كنعان) الضابط العلوي الذي يجمعه مع حافظ الأسد أنهما من طائفة واحدة، بل وكان هناك مصاهرة بين بيت كنعان وبيت الأسد، والتحق غازي كنعان بخدمة الأسد في جهاز المخابرات العامة، قبل أن يوكل إليه الأسد مهمة رياسة جهاز الأمن العسكري المرافق للقوات السورية التي دخلت إلى لبنان إبان الحرب الأهلية. وكان حافظ الأسد قد استثمر الحرب الأهلية اللبنانية لهدف بعيد المدى وهو السيطرة التامة على لبنان بوجود الجيش السوري فيها فضلا على إنشاء جهاز أمني رفيع المستوى يتدخل في الحياة السياسية اللبنانية ويتحكم في وصول رجال السلطة لمقاعد الحكم بحيث ينعقد ولاؤهم لحافظ الأسد ونجح حافظ الأسد في إيجاد التغطية السياسية الكاملة لوجود الجيش السوري في لبنان بعد تفاهمات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، إضافة إلى قرار الجامعة العربية بانتداب الجيش السوري لأداء مهمة قوات التدخل العربي لحفظ الأمن في لبنان. وعلى عكس ما كان ظاهرا أن مهمة الجيش السوري ستكون مؤقتة، أسند حافظ الأسد لكنعان مهمة تجهيز الأرض في لبنان لمد نفوذه بشكل دائم. ونجح (غازي كنعان) في اصطناع الأتباع والعملاء بين مكونات الشعب اللبناني حتى وصل النفوذ السوري حدا مريعا جعله يتحكم في انتخابات المجالس النيابية واختيار الحكومة والوزراء ورجال الدين في المناصب الرسمية. ونظرا لأن لبنان بطبيعته بلد سياسي حر متعدد الاتجاهات والقوى فقد خرجت أصوات كثيرة ضد هذه التدخلات من نظام الأسد، فكان الرد التقليدي من غازي كنعان هو الاغتيال أو الإرهاب. وبلغت جرأة الأسد حدا مريعا في فرض سيطرته عندما قام جهاز الأمن السياسي بقيادة كنعان بتفخيخ طائرة خاصة برئيس الوزراء (رشيد كرّامي) الذي كان معروفا عنه مناهضته ومعارضته للوجود السوري في لبنان، وَقُتل كرامي في الحادثة. وعندما تم انتخاب (رينيه معوض) رئيسا للجمهورية، وأعلن في صراحة ووضوح أن لبنان بلد مستقل وأن تدخلات حافظ الأسد غير مقبولة في لبنان. تم اغتياله بعدها بأيام في إحدى العروض العسكرية. ووصلت الرسالة واضحة لكافة الأطراف داخل سوريا ولبنان أن سياسة حافظ الأسد لا تحتمل خيارا ثالثا بين الولاء أو القتل! ومن أخطر السياسات التي اتبعها الأسد في لبنان هو تعامله مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت قد اتخذت لبنان مقرا لها بعد مغادرتها للأردن عقب أحداث (أيلول الأسود). فرغم أن حافظ الأسد كان من أشهر المتاجرين بالقضية الفلسطينية إلا أن حقيقة تعامله مع الفلسطينيين كانت تشي بالعداء المستحكم والسعي للسيطرة التامة على الفصائل. لهذا أمر الأسد رَجُله غازي كنعان بتفكيك الجبهة الفلسطينية الموحدة في لبنان عن طريق دعم بعض الأصوات المعارضة لمنظمة التحرير مثل (أحمد جبريل) الذي خاض صراعا مع (ياسر عرفات) ودعمه الأسد في ذلك، ومن يومها تعددت الانشقاقات في الجبهة الفلسطينية وظهرت على الساحة عشـرات الفصائل المسلحة التي يعادي بعضها بعضا بعد أن كان الفلسطينيون جبهة موحدة ممثلة في (منظمة التحرير الفلسطينية) التي أسسها (أحمد الشقيري) في الستينيات، وتولاها ياسر عرفات بعد استقالة الشقيري. ولجأ غازي كنعان أيضا لتفكيك القوى المعارضة للوجود السوري إما باكتساب ولائها أو بإعلان الحرب عليها، ونجح في جبهة المسيحيين برياسة (آل جميل) فتم اغتيال (بشير الجميل) بعد انتخابه بأيام لمنصب الرياسة. وعندما تمردت بعض القرى المسيحية على النفوذ السوري بعد اغتيال زعيمهم قامت قوات حافظ الأسد بإبادة تلك القرى بالكامل! يتبع إن شاء الله |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
ثم وقفت جبهة الدروز برياسة (كمال جنبلاط) كَعَظْمة في حلق غازي كنعان، خاصة وأن جنبلاط انحاز انحيازا كاملا لياسر عرفات ومنظمة التحرير ضد تخرصات حافظ الأسد التي تهدف إلى تحقيق الرغبة الإسرائيلية والأمريكية في إنهاء الوجود الفلسطيني في لبنان. وأعلن (كمال جنبلاط) في خطاب شهير له بأن القوى الوطنية اللبنانية تجد نفسها مضطرة للاصطفاف مع المقاومة الفلسطينية ضد كافة أعدائها. كما صَرّح في حديث إذاعي لإحدى القنوات الغربية في وضوح أن هناك مؤامرة مشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة ونظام الأسد ضد لبنان وضد منظمة التحرير الفلسطينية، وأن نظام حافظ الأسد دخل بقواته إلى لبنان لهذا الهدف وكان رد (غازي كنعان) المألوف هو اغتياله بسيارة مفخخة دون أن يلقي بالا لرد الفعل على اغتيال شخصية بحجم جنبلاط وتوالت حوادث الاغتيال والاختفاء بحق الشخصيات اللبنانية السياسية والإعلامية وكان الأسد يعتمد في تلك الجرائم على جهازه الأمني داخل لبنان ويحرص على استنكارها ظاهريا بالطبع. ووفقا لشهادة العميد (نبيل الدندل) أنه طالع بنفسه ملفات العمليات عندما واتته الفرصة للعمل في لبنان ضمن فريق الجهاز الأمني التابع لغازي كنعان. ورغم هذا استمرت المعارضة اللبنانية مشتعلة ضد الوجود السوري، وانطلقت المظاهرات الرافضة لحافظ الأسد وسياساته الدموية وكان هتافها الشهير في تلك الفترة. (أسد، أسد في لبنان ..... أرنب، أرنب في الجولان) في إشارة بليغة إلى ما فعله الأسد من تخليه عن الجولان والتفريط فيها وعدم ردها سواء بالحرب أو السلم، في نفس الوقت الذي وَجّه نشاط جيشه ومدرعاته إلى الشعب السوري في الداخل والشعب اللبناني في الخارج وهنا فكر حافظ الأسد في حل سياسي احتياطي لضمان بقاء نفوذه داخل لبنان، فقام بالتحالف مع إيران وحكومة (الخميني) لتأسيس ميلشيات شيعية ترفع شعار المقاومة ضد إسرائيل وتكون تحت ولاية وسيطرة النظام السوري من جهة، وتحت الرعاية والتمويل الإيراني من جهة أخرى. وفي ذلك الوقت كان في لبنان بالفعل حركة مسلحة شيعية هي حركة (أمل) التي تزعمها القيادي الشيعي (موسى الصدر) ولم تكن تلك الميلشيا تهدف للمقاومة أو نصـرة القضايا العربية بل كانت كغيرها من الحركات المسلحة التي تتصارع على السلطة والنفوذ داخل لبنان وترفض الوجود الفلسطيني داخل الأراضي اللبنانية، وقد تحالفت هذه الحركة مع الجيش الإسرائيلي عند دخوله إلى لبنان عام 1982م وَكَفَل لهم الإسرائيليون الفرصة لمهاجمة المخيمات الفلسطينية والفتك بمن فيها في المذبحة المعروفة باسم مذبحة (صابرا وشاتيلا) والتي نفذتها ميلشيات أمل الشيعية واقتصـر الدور الإسرائيلي على التأمين والدعم بعكس ما يظن الكثيرون وتوجهت أنظار حافظ الأسد لاستثمار حركة (أمل) واستخدامها كمركز قوة داخل لبنان في حال اضطراره لسحب قواته منها. غير أن زعيم الحركة (موسى الصدر) لم يكن من مؤيدي (الأسد) ولا من المؤمنين بمرجعية (الخميني) أو التبعية الكاملة لإيران، فالخميني نَصّب نفسه زعيما روحيا وإماما له الولاية الكاملة على كل شيعي داخل وخارج إيران وذلك بنظريته الفقهية (ولاية الفقيه) والتي وضع نفسه فيها كنائب عن الإمام المهدي الغائب تلك النظرية التي تعرضت لمعارضة شديدة من بعض مراجع الشيعة في إيران والعراق ولبنان، ولكن الخميني استخدم القمع المباشر في فرض تلك النظرية داخل إيران، واستخدم الاستمالة والاغتيال خارجها لكن الأصوات الشيعية المعارضة للنظرية في لبنان كانت قوية ومنها صوت (موسى الصدر)، ولهذا رفض الأخير الخضوع لحافظ الأسد وتنفيذ فكرته، وبعدها بقليل سافر (موسى الصدر) إلى ليبيا لمقابلة (القذافي) ليختفي هناك ولا يظهر له أثر. وبالطبع غنيٌ عن الذكر أن حافظ الأسد بتحالفه القديم مع القذافي كانا ينسقان مع بعضهما البعض أنشطة القتل والاغتيال والتمويل منذ تحالفهما عام 1970م. وبعد اغتيال الصدر تم تطويق حركة أمل واستنساخ تجربة أشد قوة وكفاءة منها، وهو تنظيم مختلف باسم (حزب الله) ووضعوا على رأسه زعيما شابا كان نائبا لحركة (أمل) هو (حسن نصر الله). وقد بدأ حزب الله بدعم هائل من إيران وحافظ الأسد حيث لم يقتصـر الأمر على التمويل والتسليح بل أرسل الخميني ميلشيات داعمة انضمت للحزب في لبنان واندرجت تحت قواته وقيادته، وبالطبع تمت التغطية السياسية لهؤلاء المرتزقة على أنهم مجاهدون منضمون لمشروع المقاومة لتحرير القدس! وفيما بعد تتابع المئات من الشيعة من إيران وسوريا وبعض دول الخليج إلى لبنان للانضمام إلى حزب الله وقواته، وبعضها كان يعود لبلاده الأصلية كأعضاء مستترين تحت رياسة الحزب مثل فروع حزب الله في الكويت والبحرين والسعودية ونفذوا بالفعل بعض العمليات الإرهابية داخل هذه البلاد، والبعض الآخر كان يبقى داخل تنظيمات الحزب في لبنان رغم جنسياتهم الأجنبية وفي خطاب علني لنصـر الله في بداياته أعلن أمام كافة أعضاء حزبه والجماهير اللبنانية تمسكهم بعقيدتهم الشيعية وولاية الإمام المهدي الغائب والذي ينوب عنه الولي الفقيه الإمام (الخميني). كما أعلن في وضوح أن مشـروع حزب الله ليس أن يكون لبنان جمهورية مستقلة بل أن يكون لبنان جزء من الدولة الشيعية الكبرى التي تنعقد ولايتها للولي الفقيه في إيران! أي أن حزب الله أعلنها في وضوح بعدم إيمانه باستقلال وطنه أو الولاء له بل الولاء لإيران وأن مشـروع الحزب يقوم على هذه الولاية وهكذا تحقق لحافظ الأسد مبتغاه وبدأت منذ ذلك الحين أسطورة حزب الله في لبنان تحت الولاية المزدوجة لحافظ الأسد والخميني. ومع مرور الوقت سيطر حزب الله على مجريات الأمور في لبنان سيطرة شبه تامة، وأصبح وكيلا للأسد وإيران في إدارة لبنان كمنطقة نفوذ مفتوحة ليس فيها من مفهوم الدولة إلا الاسم، فتعيين الحكومات والمسئولين أصبح بيد حزب الله، والحدود الخارجية -التي هي أهم موطن في سيادة أي دولة- أصبحت تحت سيطرة الحزب، والسياسة الخارجية مرتهنة برغبات الحزب أيضا وتم التوافق داخل لبنان في انتخابات الرياسة والحكومة أن يكون الرئيس من المسيحيين، ورياسة الوزراء من المسلمين السُنة، ولكن حزب الله وإيران والأسد كانوا حريصين تماما على الإتيان برئيس وزراء سُني خاضع تماما للجبهة الثلاثية الحاكمة، ولم يسمحوا لأي شخصية سنية قوية بتولي المنصب كما حاربوا بشدة ظهور أي مرجعية سنية لها شعبية أو استقلال داخل لبنان واستمر التحالف الوثيق بين الخميني وحافظ الأسد حتى بادر الأخير بتأييد إيران في حربها مع العراق رغم كل دعاوى القومية التي كان يرفعها الأسد وحزب البعث السوري تحت قيادته، ورغم أن الحزب الحاكم في العراق كان حزب البعث أيضا. ولم يقتصر الأمر على هذا. بل خالف حافظ الأسد كافة شعاراته القومية والتجارة بشعارات المقاومة ضد الغرب وتحالف مع الأمريكيين في ضرب العراق عام 1990م إثر التحالف الذي تشكل لحرب العراق عندئذ. مع أن هذا التحالف كان ضد أدبيات حزب البعث وشعاراته المعلنة على طول الخط. ومضت حقبة الثمانيات والتسعينيات وحافظ الأسد يدعم مراكز قوته داخل سوريا ولبنان، وبدأ في تجهيز ابنه الأكبر (باسل الأسد) لخلافته وفتح المجال أمامه للترقي داخل الجيش وإعداده لوراثة العرش السوري لكن القدر أعد مفاجأة صادمة لعائلة الأسد عندما تم اغتيال باسل بحادث سيارة مدبر في الأغلب وبدا أن هناك صراع أجنحة داخل أسرة الأسد نفسها. ونظرا لأن سيطرة النظام كانت شبه كاملة على الدولة السورية، فلم يكن هناك مجال أمام أسرة الأسد والطائفة العلوية إلا العمل على تصعيد أحد أبناء الأسد لسدة الحكم بعد موته، لأن النظام بأكمله ومصير الطائفة سيدخل إلى متاهات مظلمة لو صعد الحكم شخص آخر من خارج العائلة. وقد ربط حافظ الأسد وجوده بمراكز قوة شديدة النفوذ والتأثير –بالذات من طائفته- سيطرت على مفاصل السياسة والاقتصاد داخل الدولة وأنشأت امبراطورية لآل الأسد والطائفة ورجال النظام. بخلاف أن مراكز الدولة بأكملها كانت تعج بالموالين للنظام، ومع الرقابة اللصيقة التي كان يفرضها الأمن على كافة فئات الشعب، أصبح التعامل مع نظام الأسد يجري على أنه قدر مقدور لا يبدو في الأفق وسيلة للخلاص منه. والشعب السوري –رغم أنه شعب ثوري بطبيعته- إلا أنه استسلم للأمر الواقع كما استسلم مثله كافة الشعوب العربية لأنظمة الحكم التي سيطرت لسنوات طويلة على البلاد من المحيط إلى الخليج. وأصبح مسار التغيير السياسي في الوطن العربي مسدود الأفق بعد أن تحجرت المنطقة العربية وسيطرت عليها السياسة الأمريكية عقب انفرادها بالعالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وهكذا بدأ العمل على إعداد الابن التالي (بشار الأسد) الذي لم يكن مؤهلا نهائيا للعمل السياسي والعسكري وكان مقيما بلندن عند اغتيال شقيقه، فتم استدعاؤه وإلحاقه بالجيش والبدء بإعداده للرياسة. |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
* زمن بشار الأسد عندما مات حافظ الأسد عام 2000م وَخَلَفَهُ ابنه (بشار الأسد) بعد مسـرحية تغيير الدستور الكارثية التي وقعت فيها لأول مرة خطة توريث الجمهوريات في العالم العربي في سوريا، وفتحت المجال للتوريث في مصـر واليمن والعراق والجزائر لولا أن القدر وقف أمام تلك المحاولات وفشلت جميعا. كان الشعور العام السوري في وقتها شعورا مكتوما بالإهانة لشعب عريق وله صفات حضارية متفردة والأهم من هذا أنه شعب ثائر بطبيعته وقوته عندما يتحرك لا تضاهيها قوة. هذه الطبيعة الحرة للشعب السوري التي عَبّر عنها الرئيس السوري (شكري القويتلي) بعد أن تمت الوحدة مع مصـر وتخلى القويتلي عن الرياسة لعبد الناصر فأصبح رئيسا لمصـر وسوريا تحت اسم (الجمهورية العربية المتحدة)، فقال القويتلي لعبد الناصر عبارة لافتة: (أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس، لقد أخذت شعبا يعتقد كل من فيه أنه سياسي ويعتقد خمسون بالمائة منه أنهم زعماء، بينما يعتقد خمسة وعشـرون بالمائة منه أنهم أنبياء، فضلا على عشـرة بالمائة يعتقدون أنهم آلهة) والواقع أن كلمات القويتلي كانت شرحا مُبَسطا وساخرا لمكونات الشعب السوري، لكنها حملت حقيقة دامغة وهي أن غالبية الشعب هم بالفطرة سياسيون ومقاومون يهتمون بالشئون العامة في بلادهم، وليس سهلا أن يستسلموا للأمر للواقع وثوريتهم ممتدة لا تهدأ طالما الخطر كان ماثلا أمامهم. ثم كانت كلمات القويتلي تشـرح أهم صفة يتميز بها السوريون عن سائر العرب، وهو أنه لا يوجد لديهم مصطلح (الأغلبية الصامتة) وهي فئات الشعب التي نَصِفَها في مصـر بحزب (الكنبة) إشارة إلى فئة موجودة بكافة الشعوب وتتميز بانعدام رغبتها في المشاركة السياسية ولا تهتم بما يجري في بلادها ويتركز اهتماها على حياتها الشخصية ومحيطها الاجتماعي وحده، وليس لهم نشاط سياسي أو مشاركة عامة في أي فعاليات أو انتخابات أو حتى مظاهرات هذه الفئات التي تمارس هواية التجاهل للمجال السياسي العام، ليس لها وجود في فئات الشعب السوري فالشعب بكل طوائفه مُسَيس وله انتماءات وقناعات يتحرك على أساسها أو يلتزم الصمت، ولكن الصمت هنا إذا اختارته فئة من الشعب لا يكون صمتا سلبيا بل هو صمت إيجابي نابع عن موقف بالتأييد أو المعارضة وهذا ما رأيناه في الحراك الشعبي الذي بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط السلطة العثمانية على البلاد حيث تعددت الثورات الشعبية ضد الاحتلال الفرنسـي للدرجة التي دفعت فرنسا لتغيير موقفها من تقسيم سوريا والرحيل عنها، وهذا رغم قوة فرنسا ووحشيتها في مواجهة المقاومة في المستعمرات التي احتلتها. وهذه هي الخصوصية التي تميز بها أهل الشام دائما والتي استحقوا عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام: (بَينما أنا نائمٌ رأيتُ عمودَ الكتابِ احْتُمِلَ مِن تحتِ رأسي فعُمِدَ بهِ إلى الشَّامِ، ألا وإنَّ الإيمانَ حين تقعُ الفتنُ بالشَّامِ) وهذه الخصوصية أيضا هي التي جعلت الشام مهد أقوى دُوَل الخلافة، الخلافة الأموية التي حكمت نصف الكرة الأرضية من الصين شرقا حتى الأندلس غربا، وكان لها الفضل في فتح كافة بلاد الإسلام في عمق آسيا وشمال افريقيا والأندلس وكان أهل الشام بقيادة (عبد الرحمن الداخل) هم الذين جددوا فتح الأندلس بعد انهيار الخلافة الأموية في الشـرق على يد العباسيين فعادت دولة الأمويين لتكمل الفتوحات بقيادة (عبد الرحمن الداخل) ثم حفيده (عبد الرحمن الناصر) ثم جاء عهد (الحاجب المنصور) حتى وصل اتساع خلافة الأندلس إلى حدود فرنسا واستمرت حضارتهم ستمائة عام كاملة بمشاركة أبطال الساحل المغربي من دولة المرابطين والموحدين. وكان أهل الشام هم أصحاب المبادرة بعد انهيار وتمزق الدولة العباسية وبعد أن نجح الصليبيون في احتلال القدس ومواقع عدة على الساحل الشامي فظهرت في الشام إمارات صغيرة حملت على عاتقها راية الجهاد من جديد وكان أولها إمارة (عماد الدين زنكي)، ثم ولده المجاهد العملاق (نور الدين محمود)، والذي كان سببا في تمهيد الأرض أمام (صلاح الدين) والدولة الأيوبية لتحرير القدس. وكان أهل الشام هم الجناح الثاني مع مصـر الذي تصدى لخطر المغول وردوهم عن بلاد العرب بل وعن باقي العالم بعد أن كان الطوفان المغولي ينوي الاستمرار في الزحف إلى أوربا أيضا دون أن يردعه رادع. وكان نفس هذا الجناح العملاق (مصـر والشام) هو الذي خاض المعارك لعدة قرون مع الحملات الصليبية المتتابعة التي توحدت فيها ممالك أوربا جميعا ضد هذه الجبهة ومع ذلك فشلت كل تلك الحملات واندحرت –رغم قوتها- ورغم أن بلاد الإسلام وقتها كانت مفككة وليس فيها حكم موحد كما كانت في عهد الخلافة. ثم كانت مصـر والشام أيضا هي التي ردت الحملة الفرنسية البربرية بقيادة نابليون وعجز فيها هذا الأخير عن إتمام مشـروعه الامبراطوري رغم أن فرنسا تحت قيادته كانت أكبر قوة في العالم في وقتها ونجحت في تركيع أوربا بالكامل من روسيا البيضاء وحتى حدود إسبانيا. ورغم هذا تحطمت أسطورة نابليون هنا على يد مصر والشام أيضا، قبل أن يعود إلى فرنسا وينال الهزيمة على يد الانجليز ولم يهنأ الاحتلال الغربي المعاصر في الشام أيضا رغم نجاح المشـروع الصهيوني وظل هذا الجناح يهدأ حينا ويقوم حينا ولم يستسلم وأي نعم أن البطولة والفدائية كانت – ولا زالت- صفة عامة في شعوب المنطقة رغم ما تعانيه من حالة الانهيار الحالي، إلا أن الشام بالتحديد كانت دوما هي أسرعهم إلى الاستنفار وعودة الطاقة للقتال بعد اليأس فالشعوب في العادة وطبقا لعلم الاجتماع السياسي لا يمكن أن تعيش في حالة ثورية دائمة، بل تكون الثورات على هيئة موجات متباعدة ضد الاحتلال أو ضد الظلم، ومؤقتة بزمانها، وسواء فشلت أو نجحت فإن الموجة الثورية تسـري عليها قواعد الأمواج في أنها تتكون من قمم وقيعان ولا يمكن أن تظل الموجة على حال الصعود دون الهبوط مهما كانت قوتها وارتفاعها. لكن سوريا بَدَت في القرن العشـرين كما لو كانت تربة بركانية نشطة لا تهدأ فيها موجة هابطة إلا على أكتاف موجة صاعدة والانقلابات والتغييرات فيها لم تسكن قط إلا بعد تولي الأسد للرياسة. وقد شرحنا استراتيجية الأسد في تسكين موجات الثورة ضده بالاستراتيجية التي اتبعها عندما سيطر على الجيش والمؤسسات عندما ربط مصيرهم بمصيره فأصبحت تلك المؤسسات تدافع عن الأسد دفاعها عن وجودها، واقتنع الجيش والمؤسسات والطائفة العلوية بأن استمرار الأسد هو ضمانة البقاء لهم لثقتهم في أن الشعب لو وجد الفرصة فسيفتك بهم عن بكرة أبيهم بعد طول سنوات القمع. وهذا هو تبرير الوحشية الزاعقة التي استخدمها النظام عشرات المرات ضد الشعب. كما نجح في إجبار الشعب على قبول الأمر الواقع لسببين رئيسيين كان أولهما وأكثرهما خطرا هو عدم توحد الشعب على وجوب الخروج ضده، فقد استفاد الأسد من دروس التاريخ وكان يُغَذي الطائفية والعنصرية لكي تبقى البلاد منقسمة الأهواء والانتماءات. وليس معنى هذا أن فترة الأسد كانت مستقرة بلا اعتراض، بل مَرّت بموجات معارضة كثيرة لكن مَقْتل تلك المعارضة كان في كونها نقاط ثورية إقليمية أو طائفية لم تجمع الكتلة الحرجة للجماهير لكي تتوحد ضد الحكم الفاشي للعلويين. والسبب الثاني هو أن الأسد كان بارعا للغاية في تحالفاته وتوازناته، فقد احتفظ بعلاقاته الاستراتيجية مع الروس وإيران، ونجح –في نفس الوقت- في مَدّ سبل الاتصال مع الإسرائيليين والأمريكيين وقدم لهم خدمات متعددة بالشكل الذي جعلهم يهملون أمر سياسته في سوريا داخليا ويكتفون فقط بإدانة القمع. بل إنهم قبلوا بسيطرته على لبنان بعد أن ضمن مصالحهم فيها واستجاب لكل متطلباتهم، فوصل القبول الغربي لتصـرفاته أنهم تجاهلوا جرائم حرب فعلية قام بها الأسد في لبنان كان أشَدّها فجورا اغتياله لرئيسين منتخبين ورئيس وزراء فضلا على زعماء سياسيين لهم كتل وأحزاب مهمة داخل لبنان! ورغم ذلك تم غض الطرف عن هذا عالميا. وعندما استلم (بشار الأسد) السلطة كان سبب قبول الشعب وسكوته عن هذا هو انسداد الأفق وانعدام القيادات التي تثق بها الجماهير للتحرك بثورة ضد حكمه. فقبلوا بالأمر الواقع لا سيما أنه كان أمرا عاما –كما قلنا- على العرب جميعا فلم يكن حكم الأسد منفردا في جبروته أو طول مدته بل كانت كافة الأقطار العربية خاضعة لحكام قضوا في سدة الحكم من عشـرين إلى أربعين عاما تحميهم العصا الغليظة بالقمع الداخلي والمساندة الغربية من الخارج. وأصبح الوضع العالمي جامدا مع انفراد الولايات المتحدة بالعالم، وغياب القوة العظمى الموازية التي تستطيع دعم تحرك الشعوب ضد السياسة الغربية ورجالها. لهذا سكت السوريون كما سكت غيرهم في انتظار عاصفة التغيير التي قد تأتي كثورة بركان مفاجئ إذا تغيرت الأوضاع. ورغم أن حكم (بشار الأسد) كان امتدادا لحكم والده بلا أي تجديد، إلا أن التغير الوحيد الذي وقع أن بشار كان معدوم الخبرة والكفاءة والكاريزما، وغباؤه يبدو صارخا على وجهه وطريقة حديثه، فأصبح الحكم في هرم السلطة قائما على رجال الحكم نفسه لا على رغبة وسياسة الرئيس الحاكم. فكانت الحكومة المنتمية لسلطة آل الأسد هي من تدير الأمور وتحفظ الخط الذي ينبغي لسياسة بشار أن تمضي فيه حفاظا على مكتسبات عصابة الحكم. ولم يكن أمام الحكم أية مخاطر إلا تلك النقطة وحدها. ففريق الحكم تحت قيادة حافظ الأسد –وكعادة كل الدكتاتوريات- لم يكن فريقا متجانسا أو متحدا بل كانت بينهم تنافسات ووجهات نظر مختلفة، حتى لا يتفق هذا الفريق ويتجانس مع بعضه البعض فيمثلون خطرا على الديكتاتور نفسه وهذا الاختلاف لم يكن يمثل خطرا على حافظ الأسد لأنه كان المسيطر والصانع للسياسة والقرار الأخير بيده وهو ما اختلف في عهد بشار الذي وقع تحت تأثير خلاف فريق الحكم وكانت سياسته داخليا وخارجيا تتنازعها الدولة العميقة بمكوناتها المتضادة. كانت القوى الموجودة تتمثل في الجناح الأول وهو الجيش وأجهزة الأمن الذين تحولوا من جيش وطني للشعب إلى مجرد قوات مرتزقة تدين بالولاء الكامل لحكم الطائفة العلوية ولم تكن نُظُم الجيش منذ عهد حافظ الأسد تمارس أو تحترم التقاليد العسكرية النظامية أو تمارس أدنى دور لحفظ الأمن القومي للبلاد، وانتهت تماما العقيدة العسكرية الوطنية التي كان آخرها حرب أكتوبر فالوطنية والعقيدة العسكرية بعد حرب أكتوبر أصبحت خاضعة تماما لمؤسسة الحكم، والشعب السوري نفسه خارج إطار عقيدة الجيش ولهذا كان حافظ الأسد ومن بعده بشار يستخدمون الجيش لضـرب الشعب نفسه دون أن يكترث الضباط أو الجنود بالقاعدة الأساسية لأي جيش نظامي وهو الانتماء للبلاد لا الحكام، وأن الجيوش لا تصلح بأي حال لأن تكون أدوات قمع، نظرا للاختلاف الفادح بين أسلحة وقوة الجيوش وبين أسلحة وقوة أجهزة الأمن التقليدية وقوات الشرطة المدنية لكن الأسد منذ أحداث حماة جعل من الجيش هو الأداة الرئيسية لحفظ أمن النظام في الداخل وأصبحت القاعدة هي استخدام الكتائب والفِرَق والأسلحة العسكرية الثقيلة لمحو وإبادة أي قوة معارضة مسلحة أو سلمية! أما الجناح الثاني لقوة النظام فكان يتمثل في الحكومة والامبراطورية الاقتصادية لآل الأسد والتي يتحالف معها أصحاب المصالح داخل البلاد. وبالتالي أصبحت مؤسسة الحكم في عهد بشار عبارة عن مراكز قوى عميقة يقف على رأسها أعوان وأتباع ليس بالضرورة أن يتفقوا سياسيا على قرار واحد في كافة القضايا. وأضيف إلى ذلك ظهور مركز قوة هائل داخل بيت الرياسة يتمثل في (ماهر الأسد) شقيق بشار والذي كان يتعامل باعتباره وريثا وشريكا مع بشار، وكانت النقطة الخطيرة في هذا الأمر أن (ماهر الأسد) قام بتكوين قوة عسكرية وسياسية ومراكز مسئولية تدين له بالولاء بغض النظر عن الولاء لبشار. وهكذا بدأت الاضطرابات تغزو حكم بشار الأسد من خلال نظام حكمه نفسه، لا من خلال المعارضة أو الأخطار الخارجية. وبدأ هذا واضحا في أقوى وأول أزمة سياسية يتعرض لها نظامه والتي تمثلت في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني (رفيق الحريري) في بيروت عام 2005م. وبدأ الأمر عندما أصدر بشار الأسد قرارا بسحب رجل النظام القوي (غازي كنعان) من موقعه بلبنان إلى سوريا ليعمل كوزير للداخلية. وكان كنعان قد أصبح –مع طول المدة- هو الحاكم بأمره في لبنان، فضلا على أنه الرجل الذي أعطاه الأسد صلاحية التواصل مع الأمريكيين والإسرائيليين في إدارة الأمور داخل لبنان منذ الثمانينيات، فأصبح بهذه الصفة هو رجل أمريكا في المنطقة فضلا على كونه ركنا أساسيا في نظام حافظ الأسد. وعندما مات الأسد وتولى بشار، كان من الطبيعي أن يطمع فريق بشار الجديد في مكانة ومكان غازي كنعان، على عادة النظرية السياسية التقليدية التي يكون فيها لكل حكم رجاله، وقد شق عدد من السياسيين طريقهم لبشار بعد أن كانوا في عهد حافظ يقبعون في خلفية المشهد. وكانت هناك أسباب قوية لدى بشار لاستبعاد كنعان، أهمها أن كنعان من الحرس القديم الذي كان يرى في تولي بشار الحكم قرارا سلبيا على طائفة العلويين بأكملها. وأثناء مناقشة قرار خلافة حافظ الأسد كان كنعان من الفريق العاقل الذي يرى بأن قمة النجاح للعلويين هو قبول السوريين بحكم حافظ الأسد طيلة هذه المدة. وأما وضع بشار منعدم الخبرة والتجربة وصغير السن وتوريثه لحكم سوريا فهو مخاطرة بمستقبل العلويين وليست صيانة أو حماية لهم. ولهذا كان يرى أن العلويين يكفيهم وجودهم المتفشـي في أركان الدولة، وعليهم أن يكتفوا بنائب للرئيس من طائفتهم، على أن يكون الرئيس شخص من خارج العلويين وله خبرة وقبول في الشارع السوري ولا شك أن رؤية كنعان كانت ثاقبة وتدل على فهمه لتركيبة وطبيعة الشعب السوري النافرة التي ستتحرك –طال الزمن أو قصر- بسبب مهزلة توريث الحكم بهذه الصورة المبتذلة ومن الطبيعي أن يتفجر الحقد من بشار ومجموعته ضد كنعان ومن كان يرى رأيهم، لهذا بدأ بشار بتعيين كنعان وزيرا للداخلية وَسَحْبه من مركز قوته في لبنان ليضعه نصب عينيه تحت المراقبة في منصب لن يُغني عنه شيئا، وذلك لأن وزارة الداخلية رغم أنها وزارة سيادية وخطيرة إلا أن الوزارة نفسها كانت تُدَار مباشرة من ماهر الأسد ورجال النظام ولم يكن الوزير إلا صورة للسلطة فيها واستجاب كنعان للقرار وترك مكانه في لبنان والذي حل فيه (رستم غزال)، لكنه كان يدرك تماما معنى هذا التغيير ولم تكن شخصية بمثل شخصيته وخبراته التآمرية تترك مكان نفوذها لغيرها دون ضمان، وعليه وضع كنعان أجهزة تصنت في مكاتب رستم غزال وكبار رجاله في مقر الجهاز الأمني بلبنان، وقام بتجنيد بعض عناصر الجهاز لصالحه، فأصبح يراقب الوضع هناك كما كان قبلها. في تلك الفترة كان رئيس الحكومة في لبنان هو رجل الأعمال السُنّي (رفيق الحريري) صاحب الشعبية الكبيرة والقبول دوليا ومحليا، وكان الذي يتولى منصب الرياسة هو (ايميل لحود) الرئيس المسيحي المدعوم من حزب الله ونظام الأسد. ولم يكن رفيق الحريري شخصية سياسية مقاتلة أو مركز قوة يمثل خطرا على السوريين بل كان رجل أعمال له سياسة مهادنة ولم يعارض الوجود السوري أو يتحرك ضده كما فعلت قبله شخصيات لبنانية جاءت لمنصبه من قبل. أي أن الأمور كانت مستقرة داخل لبنان وعلاقة نظام الأسد برفيق الحريري علاقة متوازنة. حتى جاء موعد انتخابات الرياسة في لبنان، وكانت رغبة السوريين هي انتخاب (ايميل لحود) لولاية رياسية جديدة، وهو الأمر الذي كان يعارضه رفيق الحريري. ورغم أن مثل هذه الخلافات هي مجرد خلافات سياسية توافقية ومنطقية الحدوث، إلا أن عقلية الغباء النَشِط لدى نظام بشار الأسد وانعدام الحس السياسي لرجاله الجدد أوقعهم في أكبر أزمة لهم عندما قرروا اغتيال (رفيق الحريري) رَدّا منهم على اعتراضه بتزكية ترشيح (اميل لحود) واعتقد فريق بشار أن اغتيالهم للحريري هو استمرار تقليدي لنفس خط حافظ الأسد في فرض السيطرة الزاعقة على لبنان ولكي يثبتوا للجميع أن بشار يتبع نفس المنهج وعلى الكل الانصياع لهم دون معارضة! |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
وبالطبع كان تفكيرهم بالغ السذاجة والغباء والضحالة، نظرا لأنهم لم يحسبوا حسابا للتغييرات العالمية الفادحة في القرن الجديد خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر والتي جعلت من الولايات المتحدة وحشا كاسرا ترك السياسة الناعمة للحزب الديمقراطي، وانتهج سياسة العصا الغليظة مع كافة دول العالم وأصبح التطرف حاكما على سياسة الفريق الرياسي لبوش الابن بسياسة أن من معنا صراحة فهو حليف ومن لم يدعمنا فهو عدو. وهي السياسة التي لم تقبل معها أمريكا إلا العبودية الكاملة من حكومات المنطقة والعالم، فآثرت القوى الكبرى في العالم مثل الصين وروسيا وأوربا مهادنة نظام بوش المجنون مؤقتا! وبالتالي كان الظرف الدولي قد تغير بشكل فادح وَمِن قِصـَر النظر أن يتعامل بشار وحكومته على أن الأوضاع والتحالفات ستظل كما هي بينما كبريات الدول لجأت للحذر والترقب. بالإضافة إلى الخطأ الأكبر الذي تمثل في تنحية غازي كنعان عن منصبه في لبنان، ونقله لسوريا، وهي خسارة فادحة للنظام السوري طالما قرر البقاء على نفس خط حافظ الأسد. فغازي كنعان بخبرته وبكونه رجل أمريكا في الشام كان هو الشخصية المناسبة لكيفية اختيار السياسة السليمة للتعامل في لبنان وكان هو الوحيد القادر على علاج قضية الحريري وفقا للمستجدات. ولم يتصور بشار الأسد ونظامه هذه الحقيقة، وعليه أقدموا على تفجير موكب رفيق الحريري بعبوات ناسفة زنة ألف طن من مادة (تي ان تي) نسفت الموكب وقتلت الحريري وعشـرين شخصا معه، وحسبوا أنها ستمر كما مرت جرائم أكبر منها في السابق عندما اغتال الأسد (كمال جنبلاط) والرئيس المنتخب (رينيه معوض) وغيرهم من كبار المسئولين ولم يتحرك أحد. لكن الذي فوجئوا به أن العالم أجمع انقلب على هذه الجريمة وأصدرت الأمم المتحدة بيانا أعلنت فيه عن إجراء تحقيق دولي في اغتيال الحريري وتصاعدت الضغوط العالمية – لأول مرة- ضد وجود الجيش السوري في لبنان وأدرك بشار الأسد متأخرا أن اغتيال الحريري سيكون الفرصة لتصفية أعدائه لحساباتهم معه. في ذلك الوقت كان غازي كنعان على عِلْم مسبق بعملية الاغتيال نظرا لأنه كان يراقب كافة قيادات مكتب الأمن السوري والأخطر من هذا أنه حصل على التسجيلات الكاملة لرستم غزال ورجاله وهم يدبرون لاغتيال الحريري واحتفظ بها. وبشكل ما وصلت المعلومة لبشار الأسد أن كنعان يتابع أزمة النظام في اغتيال الحريري ولديه من الأوراق ما يهدد النظام بأكمله أمام العالم خاصة وأن الأمم المتحدة أسندت رياسة لجنة التحقيق للقاضي الألماني (ميليس ديتليف) الذي جاء وباشر عمله في التحقيق مع ضباط سوريين ومسئولين من أجهزة الأمن والجيش وبدأت الدراما تتصاعد عندما طلب (ميليس) التحقيق مع غازي كنعان، وبالفعل اجتمع معه في قاعة أمنية ملغمة بأجهزة التنصت التي وضعتها المخابرات السورية، ولهذا فاجأ كنعان المحقق الدولي عندما لـَمّح له بأن لديه الكثير ولكن المكان والزمان ليسا مناسبين للحديث! وكان كنعان يعلم بأنه بهذا التصـريح سيصبح هدفا مؤكدا لنظام الأسد، لهذا بادر بالحركة والاتفاق مع المحقق (ميليس) على تأمين خروجه من سوريا عن طريق السفارة الأمريكية في مقابل أن يدلي له بكل ما لديه من معلومات وأدلة. لكن كنعان ارتكب الخطأ الأكبر في حياته عندما تمهل في الهرب لحين ترتيب عملية اللجوء. وهنا ظهر بشار الأسد في مقابلة مع شبكة (سي إن إن) الأمريكية يحاول الخلاص عندما صرح علنا بأنه سيعتقل كل رجل أمن سوري يثبت تورطه بعملية الاغتيال، وأنه ينتظر نتائج لجنة التحقيق للاستجابة لذلك! ولكن الشـيء الذي فعله بشار بعد تلك المقابلة هي إصداره الأوامر باغتيال (غازي كنعان) على الفور بعدما تأكد من هذا الأخير قرر بيع النظام وتبرئة نفسه. وهكذا خرج البيان الرسمي السوري ينعي كنعان الذي انتحر داخل مكتبه برصاصة مباشرة في الفم! ثم بلغ بشار قمة الملهاة عندما قام بتصفية فريق الأمن الذي باشر عملية الاغتيال بأكمله، فضلا على تصفية كل ضابط كان لديه معلومة موثقة عن هذا الأمر! فتم اغتيال العميد (محمد سليمان) مدير مكتب بشار ومستشاره الأمني بثلاث رصاصات من مجهول، واللواء (مصطفى التاجر) الذي تم قتله داخل مزرعته في حلب، والقيادي الشهير في حزب الله (عماد مغنية) أحد المشـرفين على عملية اغتيال الحريري من الجانب اللبناني ورفيقه في الحزب (مصطفى بدر الدين) الذي اتهمته لجنة التحقيق بالضلوع في عملية الاغتيال وطلبت استدعائه، فتم قتله قبلها وبعد مرور فترة على الاغتيال قرر بشار الأسد التوسع في تصفية كافة القيادات السورية التي تورطت في الملف اللبناني كله -لا قضية الحريري وحدها -منذ عهد أبيه وحتى عهده هو وهكذا في عام 2012م، تم اغتيال (جامع جامع) نائب رئيس جهاز الأمن السوري الذي كان يقوده (رستم غزال) الذي تم اغتياله أيضا، ثم اغتالوا اللواء (آصف شوكت) نائب وزير الدفاع السوري والكارثة السوداء في هذا الأمر أن كل من شملتهم عملية التصفية لم يكونوا منشقين أو مصدر خطر مباشر مثل غازي كنعان، بل كانوا جميعا من أوثق رجال النظام سواء الذين تم تكليفهم بمهمة اغتيال الحريري، أو أولئك الذين خدموا داخل أجهزة الأمن السوري بلبنان، وبالتالي فَهُم والنظام على خط واحد. ولم يكن هناك واحد منهم يتوقع غدر الأسد لأنهم تصوروا أنه لن يجرؤ على اغتيال قياداته الأمنية في ظل وجود لجنة التحقيق الدولية وإلا سيكون الأمر إثباتا رسميا على صحة اتهام النظام. ورغم أن هذا التفكير كان تفكيرا منطقيا إلا أن جنون نظام الأسد لم يكن يقف عند حد، وكان شغوفا جدا بمسألة التخلص من أي شخص لديه من الأسرار ما يكفي لاستخدامها في ابتزاز النظام في يوم ما! ولا شك أن بشار الأسد بعدها بذل قصارى جهده لتفادي الآثار الكارثية الناجمة عن اغتيال الحريري وأبدى استعداده لأي صفقة تُخرجه من هذا الضغط وبالطبع كانت قضية الحريري فرصة للسياسة الأمريكية والغربية لابتزاز نظام الأسد كما جرت العادة دوما من الولايات المتحدة على ابتزاز الأنظمة العربية بمختلف أنواع الشعارات، بالذات في فترة التوجهات الجديدة للإدارة الأمريكية والتي قررت فيها إدارة بوش نسف كافة التنسيقات القديمة والبدء في محاولة تجديدها والاستعداد لتغيير حتمي سيأتي على الشرق الأوسط ينبغي أن يكون للأمريكيين فيه دور ومعرفة واستعداد وانتهت لجنة التحقيق في اغتيال الحريري إلى ثبوت التورط السوري واللبناني من حزب الله في الاغتيال، ودعت لجنة (ميليس) المجتمع الدولي لوضع قاعدة له في لبنان لضمان أمنه. وانتهت الضغوط بإنهاء وجود الجيش السوري تماما في لبنان بعد شهرين من عملية الاغتيال. وقد أثبت بشار الأسد منذ وقت مبكر أنه يتفوق على دموية والده نفسه وفي غرامه بعمليات الاغتيال حتى لو لم يكن هناك مبرر واقعي لها. وقد ساق العميد (نبيل الدندل) دليلا على هذا بواقعة حدثت في بدايات حكم بشار، عندما كان (محمود الزعبي) أحد رجال النظام الذين يتولون ملف تهريب الأموال السورية لأوربا. في ذلك الوقت كان الزعبي يقوم بعمليات التهريب بمختلف الوسائل التي لا يهتم بمعرفتها بشار الأسد ووالده، وكان من ضمن تلك الوسائل استخدام (محمود الزعبي) لابنه في تأسيس عدة شركات دولية في مصر تكون مَعْبرا للأموال من سوريا إلى مصر ثم إلى البنوك الأوربية. وبالطبع كان ابن الزعبي يتكسب من وراء ذلك. وعلمت المخابرات المصـرية بالأمر، ورفعت تقريرا للرئيس مبارك، فبادر مبارك باستدعاء بشار الأسد لمصـر وأخبره بأن رئيس وزرائه (محمود الزعبي) لديه ابن بمصـر يستغل الأعمال التجارية في تهريب الأموال الطائلة للخارج. وسأل مبارك بشار إن كان يعلم بهذا الأمر، فيتجاهل مبارك الموضوع، أم لا يعلمه فيقوم بإيقاف نشاط تلك الشركات. وشعر بشار الأسد بالإهانة من طريقة مبارك في الحديث عن الأمر وأبلغه بأن ما دار لم يكن بعلمه وأنه سيتصرف. واستدعى بشار الأسد رئيس حكومته وسأله عن مكاسب ولده من عمليات التهريب، فاندهش الزعبي وقال له بأن ولده يتكسب كما يتكسب غيره، وأن كل ما يدور إنما يدور لصالح النظام. ولأن بشار كان مجنونا بالفعل، فقد غاظه هذا الرد فأصدر أوامره باغتياله بعدها بأيام! لكن طبيعة النظام تغلبت على أزماته الداخلية التي تكاثرت عليه، فحاول ترتيب أموره للسيطرة عليها داخليا وخارجيا خاصة بعد أن نجح نظام الأسد في وضع موطئ قدم له بالعراق بعد الاحتلال الأمريكي عن طريق الاتفاق الذي عَقَده بشار الأسد مع منظمات الإرهاب وأكبرها (القاعدة) داخل العراق، وكان الاتفاق برعاية إيرانية بعد أن أصبحت إيران –حليف الأسد- هي الحاكم المحلي الفعلي للعراق، وأصبح تحالفها مع الأمريكيين تحالفا استراتيجيا للقضاء على المقاومة العراقية السنية والقضاء أيضا على نفوذ القبائل السنية الكبرى وتغيير ديمغرافية البلاد لتغليب العنصر الشيعي فيها. وهو ما نجحت فيه إيران بامتياز –كما يقول المفكر الكويتي الكبير عبد الله النفيسـي- بعد أن ضمنت التحالف الأمريكي الكامل سواء بالتسليح أو السيطرة السياسية، للدرجة التي جعلت أحد الصحفيين يسأل (بول بريمر) –أول حاكم عسكري للعراق بعد الاحتلال- عن سبب دعم الأمريكيين للتنظيمات الشيعية وإهمال شأن أهل السنة وإبعادهم عن أي دور في الحكم. فقال له (بول بريمر) عبارة لافتة معناها: (إن التعامل مع الشيعة في العراق لا يتطلب من الولايات المتحدة إلا أن تخاطب وتفاوض طرفا واحدا فقط هو المرجعية الشيعية التي تحكم الطائفة، فإذا تم التفاوض والاتفاق فإن الاتفاق يسـري دون منغصات، أما مع السنة فنحن لا نملك أن نفاوض طرفا محددا فهم بلا قيادة متحدة أو جماعات تملك أدوات التنفيذ) وبول بريمر هنا كان يشير للفارق الكبير بين طبيعة الشيعة الكهنوتية التي تجعل أتباعها مجرد أدوات في يد قيادة المرجعية، وبين أهل السنة الذين لا يتبعون مرجعيتهم إلا عن اقتناع وأدلة، وليست لديهم عقيدة الاستسلام لمرجعيتهم الدينية كما هو الحال مع الشيعة. وهذه هي السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة بناء على نصيحة (توماس فريدمان) الكاتب السياسي الأمريكي الذي قال ناصحا إدارة (بوش الابن): (ينبغي أن نسلح الشيعة في العراق ونترك السنة يقبضون على الهواء) وبلغ التعاون بين نظام بشار الأسد والقاعدة إلى الحد الذي سمح فيه بشار بتجنيد وتدريب مقاتلي (القاعدة) في سوريا تحت إشراف وقائد الأمن العسكري بمنطقة (تدمر) وقام بتوظيف الحدود لضمان تدفق المقاتلين داخل العراق في مقابل الحفاظ على المصالح السورية وعدم التعرض لها ولا يستغرب القارئ من تلك التحالفات المتناقضة التي تدفع إيران والأسد لتحالف مع (القاعدة) فكل ما يقال عن العداوات السياسية في العلن هو مجرد تمويهات وعداوات تتقلب كبندول الساعة وفقا للمصلحة الوقتية كما سنرى. ثم انتهت فترة بوش الثانية، وَخَفّت التهديدات التي كان يخشاها نظام الأسد من عجرفة الحزب الجمهوري وجاء الحزب الديمقراطي للحكم برياسة (باراك أوباما) وهو ما رَتّب أملا في تجديد التحالف مع الإدارة الأمريكية على نحو ما كان يجري أيام حافظ الأسد. وظلت الأمور مستقرة حتى أتى موعد الطوفان –الغير متوقع- على العالم العربي باشتعال المظاهرات الشعبية العارمة ضد نظام (ابن علي) في تونس أواخر عام 2010م. وقبل أن يتمالك المحللون أنفسهم لفهم أبعاد الانفجار، كان ابن علي يتخذ طريقه السعودية هاربا من البلاد ثم تلا ذلك نزول الشعب المصري لمظاهرات ثورة يناير وما تلاها من سقوط نظام مبارك ومشروع التوريث، وبنفس الحال وقعت الأحداث في ليبيا واليمن لتقترب العاصفة من النظام في دمشق. وإلى هذه النقطة نكون قد شرحنا بالتفصيل العدو الأول للشعب السوري الذي تمثل في نظام حكم (آل الأسد)، وحلفائه في إيران ولبنان وروسيا فيما بعد ويلزم لنا أن نتعرض للعدو الثاني أو الجبهة الثانية التي دخلت الحرب الأهلية ضد نظام الأسد وضد الشعب السوري أيضا وهي الجماعات المسلحة التابعة لدول لخليج وتركيا والولايات المتحدة، لنفهم كيف تم التآمر على ثورة الشعب السوري بداية من عام 2012م، وتحولت الساحة السورية لحرب عالمية بجبهات متعددة كلها تتصارع على موقع وثروات السوريين، وكلها –بلا استثناء- تصب النيران والحمم على الشعب السوري الأعزل في جولات صراعهم الدامي. يتبع بإذن الله |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
الفصل الثالث كيف تم اختراع الجماعات الجهادية سيظل العالم العربي رَهْنا لنفس السيناريو الذي يتكرر كمسلسل مكسيكي، ما لم توقن الشعوب على المستوى العام –لا مستوى المثقفين- حقيقة أن ما دار من صراعات بين تيارات الحكم ومنافسيها على أرض العرب منذ نهاية السبعينيات وحتى اليوم إنما هو صراع الوحوش على الفريسة. وأنه منذ ذلك التاريخ تحديدا انتهت فعليا كل دعوى مخلصة بالدين أو الوطنية، وبقيت فقط التجارة بالشعارات إلى ما لا نهاية، وتحولت قِبْلة الحكومات العربية كافة إلى فلك السياسة الأمريكية تدور بأمرها وضاعت تلك الصحوة القومية الكبرى التي بدأت في الخمسينيات وانتهت بعد حرب أكتوبر. وأضاع العرب على أنفسهم الفرصة الذهبية ليصبحوا قوة فاعلة –ولو نسبيا- بحيث يمتلكون الحد الأدنى من الاستقلال في مواجهة القوى العظمى مثل إيران وتركيا مثلا. وما حدث من نهاية السبعينيات أن استمر خط التنازلات يجري حثيثا حتى وصل لقاع المكان والزمان اليوم كما نرى ولولا بعض الكرامة التي حفظتها لنا المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصـى لشهدنا اتفاقية (سايكس –بيكو) جديدة تعيد ترتيب الدول العربية وتماثل سايكس بيكو القديمة وهي السياسة التي خطط لتنفيذها (دونالد ترامب) تحت مسمى (صفقة القرن) في فترته الأولى وانتوى إكمالها إن فاز بولاية جديدة. فالموقف الواجب رؤيته أن أنظمة الحكم العربية وصلت إلى آخر مدى للسقوط بسبب سياسة الهيمنة الأمريكية حتى وصلت الدرجة بالمفكرين الكبار لوصف أوضاع الحكومات بألفاظ قاسية مثلما قال الدكتور (عبد الله النفيسـي) بأن الحكومات العربية لو تعلقت بأستار الكعبة فلا تصدقوهم، لأنها حكومات تضاجع الشيطان الأمريكي منذ مائة عام ومثلما قال هيكل في بدايات حرب احتلال العراق عام 2003م، أن العالم العربي قبل هذه المهزلة كان أمامه فرصة بالغة الضآلة للحاق بآخر عربة في قطار القوى على خريطة العالم، والآن ضاعت الفرصة. وربما كان الموقف من الحكومات سهل الشـرح والاستيعاب، لكن المعضلة الحقيقية تكمن في أن ما يُسَمى بالتيارات المعارضة للحكم سواء تيارات تتخذ الشكل الديني كجماعات ما يُسَمى بالإسلام السياسي، أو تيارات الليبرالية والعلمانية، كل هذه التيارات عبارة خطوط احتياطية نشأت تحت رعاية الغرب أيضا في حال فوجئوا يوما بقيام الشعوب بثورة مفاجئة. فنحن – كشعوب- لا نملك تيارا واحدا من كافة التيارات السياسية، حكومية أو معارضة، تُعَبر عن طموحات الشعوب فعليا لا مظهريا، وكل ما ملكناه خلال الخمسين عاما الأخيرة هم فئة من المفكرين والعلماء المستقلين التي تمت محاربتهم من كافة الأطراف، لكنهم أدوا واجبهم وقالوا كلمتهم وشرحوا لنا عورات الأنظمة الحاكمة، وأيضا عورات تيارات ما يُسَمى المعارضة، عملا بالحكمة المأثورة: (قل كلمتك ...وامض) فالغرب دَرَج على مد أصابعه في النسيج الاجتماعي العربي ولديه لكل حادث حديث، لا سيما وأن القوى السياسية الظاهرة التي تنافس أنظمة الحكم وتحاول تقديم نفسها بديلا متوقعا، كلها بلا استثناء هي التي تتشوف وتبادر إلى الغرب حتى يعترف بها ككيانات سياسية لديها فرصة للظهور والوجود في أوطانها ولهذا عند تغير الظروف يتخلى الغرب في بساطة عن الحكومات التي رعاها لعدة عقود، ويبدأ التعامل مع المتغيرات بزعماء جدد كانوا في دور المعارضة للحكومات القائمة وتحت حماية الحكومات الغربية نفسها، وبالتالي يصبحون وجوها مقبولة في مراكز القيادة، وهذا يفسـر لك –عزيزي القارئ- لماذا يفسح الغرب في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا المجال لحماية رموز المعارضة لحكام المنطقة العربية ويسبغ عليهم حمايته، رغم أنهم أعداء الأنظمة الحليفة لهم. بل إن الغرب يُسْبغ حمايته حتى على رموز حركات الإرهاب المعادية للأنظمة بالرغم من أنها–وفقا للدعاية الغربية نفسها- ليست تيارا معارضا مدنيا بل حركات إرهاب مسلح! وما نقوله فعلته بريطانيا ومن بعدها الولايات المتحدة عدة مرات لكننا لا نتعلم. لا نتعلم رغم أن كبار مفكرينا أدوا واجبهم وشرحوا وأوضحوا عَبْر سنوات طويلة في كتاباتهم وأقوالهم، وكان شرحهم متكررا وموثقا حول تلك المعادلة الجهنمية التي يقبع فيها العالم العربي، وهي أنه عالم متخبط لا يبادر للعمل السياسي فيه تيار واحد يستهدف مصلحة وطنية، سواء كان داخل البلاد، أو خارجها هاربا من بطش الحكام. بالطبع مع استثناء تلك الفئة المستقلة التي هربت خارج بلادها فرارا بحياتها من الترصد والقتل، ولكنهم استقلوا بأنفسهم فلم يقعوا تحت رعاية الحكومات الغربية وتمويلاتهم ورعايتهم، كذلك لم يقعوا فريسة لتمويل وتحريض الحكومات العربية المعادية لحكومات بلادهم. فمن مساخر حكام بلادنا –من المحيط إلى الخليج-أنهم جميعا يلتمسون بركات البيت الأبيض ويعملون على التفاني في إرضائه لكن هذا الاتفاق في المنهج لا يصحبه اتفاق في الصداقة والتحالف، بل ينافسون بعضهم بعضا وبشكل فج، لأن كل واحد منهم يسعى لحصد شهرة أكبر وزعامة أشد، ودورا أكثر فاعلية في محيطه الإقليمي. لهذا وجدنا تيارات كثيرة معارضة هربت من بلادها لأوربا والولايات المتحدة وَجَنّدت نفسها لصالح بلد عربي آخر بهدف المكايدة. ولو عدنا للوراء قليلا ستكتشف هولا. فدول الخليج قامت بتمويل حركات معارضة داخلية ضد بعضها البعض، وليبيا دعمت بعض وجوه المعارضة السعودية في لندن بعد تفجر الصراع بين القذافي والملك عبد الله، والعراق دعم المعارضة الليبية ضد القذافي، والسعودية دعمت الإخوان المسلمين ضد عبد الناصر، وسوريا والعراق دعم كل منهما الجماعات المسلحة ضد بعضهم البعض.... وهلم جرا. لهذا كشف لنا المفكرون الكبار هذه المأساة، ومنهم كاتبنا الكبير (محمود السعدني) والذي كان له تجربة عميقة امتدت لعشـر سنوات قضاها في المنفى خارج مصـر هربا من نظام السادات، وفي رحلة هروبه لم ينس واجبه الوطني في معارضة السادات لكنه لم يترك مجالا لأي نظام عربي معاد للسادات أن يستغله ويطوعه بالتمويل في عمله الصحفي كما فعل غيره. ولهذا ذاق (محمود السعدني) الأمرين هو وبعض رفاقه في الخارج، وعانوا من أقسى ظروف المعيشة وأسسوا لأنفسهم تجارب صحفية عدة، أشهرها وأعلاها تجربة مجلة (23يوليو) التي تم منعها من دخول مصـر ومعظم الدول العربية التي كانت تدعي معارضة السادات في (كامب ديفيد)، لكن السعدني ورفاقه استمروا في رسالتهم وَوَجّهوا مدفعية أقلامهم دفاعا عن القضية الوطنية ضد كافة الأنظمة دون استثناء. ولهذا لم يتكسب أحد منهم في الخارج بل عانوا في هروبهم بأكثر مما عانوه داخل المعتقلات. وعندما عاد السعدني إلى مصـر عقب اغتيال السادات حرص على تسجيل تجربته في عدة كتب، ورغم أنه كتبها بأسلوبه الساخر إلا أن صفحاته كانت تُقَطر مرارة وهو يروي –كشاهد عيان- أن العالم العربي بأنظمة حكمه ومعارضته المعلنة مجرد تجار دين وقومية وأخلاق! وهذا الأمر الذي أدركه السعدني بالتجربة القاسية، أدركه عملاق الفكر العربي (محمد حسنين هيكل) بالخبرة وسعة الاطلاع والاتصالات الواسعة التي تميز بها. لهذا كانت له كلمة مأثورة يرددها دوما: (إنني لن يكون لي خارج مصر، مكتب أو منزل، أو قبر) وظل حتى آخر عمره الطويل لا يستقر بالخارج أكثر من شهر واحد ويعود. وعندما اختلف مع السادات، مارس معارضته القاسية ضده من داخل مصـر، رغم منعه من الكتابة فيها إلا أن هيكل كان فوق المنع قطعا فكانت مقالاته وكتبه تُنشـر خارج مصر وتزلزل أركان النظام، وحاول السادات معه بالتطويع والمناصب عدة مرات، فرفض وفي نهاية الأمر اعتقله في موجة اعتقالات سبتمبر الشهيرة. وكان هيكل يملك ألف فرصة لكي يتفادى الاعتقال بعد أن علم بِنِيَة السادات في اعتقال رموز المعارضة الوطنية في الداخل، وعرض عليه صديقه الرئيس الفرنسـي (فرانسوا ميتران) عام 1981م قبل اعتقاله بشهر واحد أن يبقى ضيفا لمدة وجيزة لديه في فرنسا لأن السادات قرر الهجوم على المعارضة فرفض هيكل وعاد وتم اعتقاله. مع أن هيكل عندما عزله السادات من منصبه الأثير كرئيس لمجلس إدارة الأهرام جاءه عرض خرافي من مجموعة (التايمز) البريطانية، وهي كبرى صحف العالم كي يتولى رياسة تحرير الجريدة الرئيسية فيها، وهو عرض قادر على إغراء رؤساء الدول بعد اعتزالهم، ورغم هذا رفضه هيكل لأن صوت معارضته وهو رئيس تحرير صحيفة أجنبية سيسمح للنظام بالطعن فيه. ومرة أخرى كانت لديه عشـرات الفرص لممارسة معارضته من الخارج باستقلال تام، حيث كان هيكل شخصية عالمية وصاحب ثروة كبيرة باعتباره من أكبر عشـر كتاب سياسيين على مستوى العالم، وبالتالي لن يحتاج لتمويل أو رعاية دولة أو نظام. لكنه رفض أيضا. بل بلغ حرص هيكل أنه كان يرفض عدة أشياء لا تمثل شبهة ورغم هذا كان يتشدد في الرفض مثل اعتذاره للجامعة الأمريكية عن قبول تكريمه بشهادة الدكتوراة الفخرية عن مجمل أعماله، رغم أن تلك الشهادة قبلتها شخصيات عامة كبرى داخل وخارج مصر. كذلك اعتذاره عن قبول دعوات رياسية من بعض رؤساء الدول العربية المعارضة للسادات، وكانت دعوتهم له دعوة شخصية قائمة على معرفتهم بمكانته ورغم هذا رفض حتى لا يقال إن هؤلاء الرؤساء يمولونه أو يدعمونه، وبالطبع كان يسافر بانتظام لرحلات خارجية يلتقي فيها هؤلاء الرؤساء وغيرهم لأداء عمله طالما أنها رحلات قام بها هو وبقراره كجزء من رحلة عمل، ولكنه كان يرفض الدعوات الشخصية وما يحيط من تكريمات أو أوسمة أو جوائز. وهذه العبقرية من هيكل في إصراره على البقاء بعيدا والحديث من أعلى نقطة في المدرج السياسي تكمن في خبرته الواسعة بطبيعة السياسة العربية – الغربية التي أنبأته أن النظم العربية يحلو لها دوما أن تتهم معارضيها بالتمويل والعمالة للغرب، برغم أنهم كأنظمة حكم خاضعون لرعاية الغرب من الأساس ونظرا لأن كان يرغب في ممارسة دوره في التوعية نابعا من ضميره وباستقلال تام، فكان لزاما عليه أن يتخذ الحيطة من كل شبهة. لأن المفكر أو الصحفي حتى لو نطق بالحق في مواجهة سياسة نظام حكم، فإن هذا الحق سينقلب باطلا إذا كان من نطق به إنما كان يفعل ذلك لأجل صفقة تلقى عليها أجرا لمهاجمة النظام، أي أن الأمر لا يعدو كونه توظيفا فجا مأجورا. ولهذا نرى كل يوم في إعلامنا العربي المصون وفي الشاشات الخارجية صراع ديكة بين إعلاميين كل منهم يعمل ضد الآخر وهم هنا لا يمثلون صراعا بين حق وباطل، بل هم وكلاء حرب بين تلك الأنظمة التي تمول تلك القنوات، ولهذا ينتابني الضحك بشدة وأنا أسمع اتهاماتهم لبعضهم البعض كل يوم بأنهم إعلام مأجور أو أنهم أصحاب تمويلات مشبوهة، لأن الطرفان كذلك في الواقع. لكن الميزة الوحيدة من صراعاتهم المضحكة أننا نستفيد للغاية من تلك الشاشات المتصارعة لأنهم يفضحون رُعَاتهم عندما يهاجمون بعضهم البعض، وبالتالي يكون أمامنا فرصة ذهبية للوصول إلى الحقائق التي يستميت كل منهما في الحصول عليها عن خصمه وليس معنى هذا أن كل صحفي أو مفكر هاجر خارج بلاده هو بالضرورة مأجور. كلا بالطبع.... فأي مفكر استطاع الهرب والنجاة بنفسه وممارسة دوره التوعوي باستقلال عن أي تيار، فهو هنا يقوم بواجبه الذي لم يستطع القيام به في وطنه، المهم ألا يندرج تحت تيارات خارجية تملك عمله وتوجيهه. وليس معنى ما شرحناه من تبعية التيارات السياسية حكومية أو معارضة للغرب، أن الحكومات الغربية تتحكم في ثورات الشعوب أو تدبرها كما يروج إعلام الأنظمة، فهذا لا علاقة له بالمنطق فضلا عن العلم. حيث لا توجد أية ثورة شعبية في العالم أجمع يمكن اعتبارها مؤامرة أو ترتيب من الخارج، وهنا أنا لا أتحدث عن الثورات الطائفية الخاصة بفئة معينة من فئات أي شعب، كما لا أتحدث عن الانقلابات التي يدبرها الغرب – عند الحاجة- للخلاص من نظم حكم قائمة. بل أتحدث عن مفهوم (الثورة الشعبية) والتي تعني اجتماع كلمة شعب معين بكافة فئاته في بلد معينة على الثورة ضد النظام القائم سواء كان نظام احتلال من الخارج أو نظام حكم من الداخل. هذه الثورات لا يمكن أن تكون قابلة للصنع أو التدبير كمؤامرة من الخارج بالشكل الذي تروجه أنظمة الحكم المستبدة للدفاع عن أنفسهم ضد أي حراك ثوري فالثورات منبعها داخلي وطالما توافرت أسبابها واجتمعت عليها كلمة الشعوب، دون طائفية أو اختزال، فهي ثورة شعبية حقيقية ووطنية لا شك في ذلك. وفي ضوء هذا الأمر، قد يثور سؤال منطقي. وهو كيف يمكننا تفسير ظاهرة أن بعض زعماء ورموز تلك الثورات يتخذون جانب الغرب أيضا رغم أن الثورة غالبا ما تقوم ضد نظام حليف للغرب. والجواب بالغ البساطة. فالتدخل الخارجي، نعم لا يستطيع التحكم في حركة الشعوب، لكنه يستطيع التركيز على رموز محددة أو تيارات حزبية معينة، يكون لها بعض الشعبية فتتم رعايتهم كعملاء مصالح لهم سواء وصلوا للحكم أو استخدمهم الغرب كأداة ضغط في مرحلة ما بعد الثورة. أي أن الغرب لا يترك الحوادث تسبقه، فإن داهمه تغيير مفاجئ فهناك دوما طرق احتياطية لبقاء النفوذ الغربي قائما للحفاظ على مصالحه وكلنا يذكر شاه إيران (رضا بهلوي) الذي قامت ضده ثورة شعبية كاسحة جمعت كافة طوائف الشعب الإيراني من شيعة وسنة وأكراد وبلوش وعرب وشيوعيين ومسيحيين عام 1979م، وكان لكل طائفة قيادات وطنية حقيقية كافحت نظام الشاه منذ سقوط ثورة الزعيم الإيراني الوطني الدكتور (محمد مصدق) في الخمسينيات على يد المخابرات الأمريكية التي نجحت في إعادة الشاه مرة أخرى" " وعندما أيقنت أوربا والولايات المتحدة أن الشاه قد استنفذ وقته بعد ثلاثين عاما من الحكم، والتغيير أصبح حتميا مع استمرار نزول الملايين للشوارع، أعطت الولايات المتحدة أوامرها لقيادات الجيش الإيراني بالتخلي عن الشاه وتركه في مواجهة الأمر الواقع" ". ثم قامت فرنسا باستضافة رجل الدين الإيراني الذي اختارته كنقطة نفوذ لسياستها وهو (آية الله الخميني)، واتخذ له مقرا في قرية (نوفل دي شاتو) وتم تلميعه في الإعلام الغربي وكأنه القائد الأوحد والزعيم الأكبر الذي وقف ضد الشاه! مع أن الثورة الشعبية لم يكن لها قيادة محددة لتعدد تياراتها السياسية، وكانت القيادات الثورية الحقيقية موجودة بقلب المظاهرات ودفع بعضهم حياته ثمنا لذلك والآخر بقي من بداية الثورة حتى خلع الشاه بين جماهير الشعب يقوم بدوره. إلا أن العالم –بفعل الميديا الغربية- لم ير إلا الخميني الذي قامت فرنسا بإعادته على طائرة خاصة إلى إيران بعد هروب الشاه واستقبلوه استقبال الأبطال، ليبدأ الخميني في تكريس نفوذه الداخلي باستخدام أنصاره ودعمهم بالسلاح عندما قام بتكوين ميلشيات (الحرس الثوري) واستخدمها لتصفية معارضيه، وأيضا تكريس نفوذه الخارجي برعاية فرنسية أمريكية فنجح في إعدام كافة قيادات الثورة، وغدر حتى بزملائه ورفاق الكفاح وأسس لدولة الفاشية الدينية الإيرانية منذ ذلك الوقت، وتناسى تماما شعارات الموت لأمريكا وإسرائيل والتي تحولت إلى الوجه الحقيقي له بالحرب على العراق ومحاولة تصدير الثورة للدول العربية وإنشاء حكومات شيعية تابعة له فيها. فالخميني قبل الثورة كان في نظر الناس مناضل ومقاتل ضد هيمنة السياسة الأمريكية التي ترعى الشاه، وبعدها فوجئ الإيرانيون بأن التعاون بين دولة الخميني والأمريكيين تعدى مراحل زمن الشاه نفسه، عندما مَوّلته الولايات المتحدة وإسرائيل بالسلاح والدعم اللوجيستي والمخابراتي في حربه مع العراق، وهو الأمر الذي تفجر مع فضيحة (إيران –كونترا) التي كشفتها الصحافة الأمريكية بعد أن سقطت طائرة شحن إسرائيلية محملة بالسلاح لإيران، وكان سقوطها قريبا من الحدود الإيرانية السوفياتية وتم كشف العملية بأكملها. ومن تلك التجارب أيضا تأييد الولايات المتحدة لإسقاط حسني مبارك في ثورة يناير، ثم دعم الإخوان المسلمين تحديدا للسيطرة على الحكم وكأنهم كانوا أصحاب الثورة، وانقلب الإخوان على كافة شعاراتهم القديمة التي عاشوا فيها يعدون جماهيرهم بتحرير القدس إذا وصلوا للحكم، وعندما جاءوا للحكم وجدنا الرعاية الأمريكية والبريطانية لهم على أعلى ما يكون وتعهد الإخوان لهم أنهم سيمضون على نفس خط مبارك في العلاقة مع الغرب وإسرائيل إذا استمر الدعم الأمريكي لهم. أما التيارات الليبرالية التي تنادي ليل نهار بالحريات في مواجهة الأنظمة المستبدة- كما يروجون- فَهُم لا يدافعون هنا عن مفهوم الحريات السياسية، بل مفهوم الحريات الجنسية والتحلل من الأديان وما يتعلق بها، لأنهم في أعماقهم أكثر استبدادا من تلك الأنظمة، ولا يكترثون حتى لإخفاء انتمائهم الغربي القح سواء في تبني كافة السياسات الغربية حتى ضد القضية الفلسطينية، أو في اعتبارهم الولايات المتحدة وأوربا هي قِبْلة العبادة ونموذج حرية الإنسان! وأما الحكومات المعاصرة فحدث ولا حرج. فالمعركة البطولية التي خاضتها المقاومة الفلسطينية منفردة في عملية طوفان الأقصـى وقلبت بها موازين المنطقة، هذه المعركة كانت فاضحة لدرجة لم يستوعبها أشد المتشائمين. فالحكومات العربية لم تكتف بالسكوت أو حتى بالتأييد المبطن لإسرائيل، بل زاد الأمر حده عندما خرج (بنيامين نتنياهو) علانية ليقول فيه: (على حكام المنطقة أن يصمتوا تماما إذا أرادوا الحفاظ على عروشهم وكراسيهم) ولم يجرؤ نظام عربي واحد على فتح فمه بكلمة تعليقا على هذا التصريح الفج! بل قام الإعلام والسياسة العربية بالعمل كقنوات خلفية لدعم إسرائيل وتشويه المقاومة واتهامها بالإرهاب، فضلا على اعتقال كل من تسول له نفسه رفع العلم الفلسطيني أو الخروج في مظاهرة تأييد عاجزة ضد الوحشية والإبادة الإسرائيلية. ونأتي الآن للملف السوري، وكيف تدخلت فيه الجماعات المسلحة مختلفة الأطراف والتمويل، بهدف رعاية مصالح الممولين فالثورة بدأت في أول أمرها شعبية تماما-كما سنشـرح لاحقا- ولكن مع عام 2012م بدأت جماعات مسلحة مختلفة ومتنوعة، تقتحم الحدود السورية من كافة الاتجاهات لتخوض معاركها ضد النظام. ثم تطور الأمر إلى قتالها بعضها بعضا مع استمرار قتالها مع نظام الأسد. ثم فجأة ظهر اختراع جديد لم نسمع به من قبل اسمه (داعش)، والتي دخلت من الحدود العراقية لتحارب الجماعات المسلحة التي تقاتل الأسد، فجاءت داعش لتستولي على بعض مناطقها دون أن يدري أحد من هي داعش وكيف ومتى تكونت وما هو مصدر تمويلها وتسليحها النوعي؟! وبدأت منذ ذلك الحين مأساة الشعب السوري الذي تعرض لأبشع آليات القتل والحرق والاختطاف وأصبح هو المادة الخام لضحايا تلك المعارك دون أن يجد من يقاتل أو يعبر عنه. فالجيش النظامي في البلاد بدلا من أن يحمي الشعب كان هو أول المهاجمين للشعب بشتى أنواع العتاد والسلاح، حتى الأسلحة المحرمة دوليا! والجماعات التي أعلنت أنها جماعات مقاومة مسلحة تحارب ضد بشار الأسد وجيشه، وتناضل لإنقاذ الشعب السوري، كانت ممارساتها ضد الشعب في المناطق التي سيطرت عليها لا تقل بشاعة عن ممارسات النظام نفسه واستمر الأمر يتطور حتى وقع الهجوم الشامل الأخير الذي انتزع بشار الأسد ونظامه من سدة الحكم السوري بعد خمسين عاما مريرة. وانفجرت فرحة الناس داخل وخارج سوريا، ولابد لهم أن يفرحوا لأنه –بغض النظر عن الوسيلة- فإن الخلاص من حكم بشار كان إنجازا غير مُتَصور بعد أن تمسك بالحكم وأفنى في ذلك قرابة مليون قتيل من الشعب السوري وخمسة ملايين مُهَجّر، ومثلهم من المصابين والمعتقلين، وتم نسف مدن سوريا وَقُرَاها كما لو كانت قد تعرضت لأهوال يوم القيامة! فلا شك أن الخلاص من النظام حدث تاريخي يجب أن تحتفل به الإنسانية كلها لا الشعب السوري وحده. لكن مع الوضع في الاعتبار ما سبق أن شرحناه، وهو ألا يقع الجمهور رهن التلاعب الخارجي مرة أخرى بسيناريوهات محفوظة وقعت في سوريا منذ الخمسينيات وشرحناها بالتفصيل في الفصول السابقة. لذلك سنطرح في هذا الفصل تاريخا موازيا لما يسمى بالحركات الجهادية أو الإسلامية التي انتصـرت على نظام بشار واقتلعته مثلما يقول الإعلام! لنرى هل الذي انتصر هنا هي المقاومة السورية أم جماعات المصالح؟ فالجواب على هذا السؤال بالغ الأهمية لأنه ببساطة يحمل مستقبل سوريا في أجواء عاصفة. فلو كان المنتصـر هو الشعب والمقاومة السورية حقا، فالفرحة بالإنجاز والاحتفال به أمر واجب، والإعداد لإعادة البناء والاصطفاف هو التصرف المطلوب حاليا. أما إن كان المنتصـر هم جماعات المصالح، فهنا تتغير الصورة تماما، وعلى الشعب السوري أن يدرك بأن الحرب والخطر لا زال قائما، وبالتالي فالوقت وقت استعداد وإعادة توحد يجب أن يجتمع عليه الشعب لكي يكون له كلمة في مصيره وسط كل هذه التدخلات الخارجية التي تتقاسم المكاسب |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
*تاريخ الاستخدام الغربي لملف (الإسلام السياسي) مصطلح الإسلام السياسي بدأ في الظهور عقب انهيار الخلافة العثمانية، حيث كان انهيارها-رغم ضعفها وخيانة حكامها الأواخر- له أثر شديد على نفسية العرب والمسلمين الذين ظلوا لثلاثة عشـر قرنا تحت حكم مُسمى الخلافة. ورغم تمزق دولة الخلافة العباسية قديما لإمارات عدة ممتدة من خراسان إلى الأندلس إلا أن مسمى الخلافة كان له سلطة اسمية طيلة هذه الفترة، وعندما انهارت الخلافة العباسية في بغداد بعد غزو المغول تمكن الظاهر (بيبرس) حاكم مصـر -بعد ردع المغول- من أن يعيد السلطة الاسمية لأحد أبناء الخلفاء العباسيين وظل له مكان ومكانة في القلعة طيلة حكم المماليك. وامتدت الخلافة العباسية حتى عهد السلطان (قنصوه الغوري) والذي انهار حكمه بهزيمته أمام السلطان (سليم الأول) سلطان العثمانيين في معركة (مرج دابق)، ثم هزيمة (طومان باي) في موقعة الريدانية)، ودخلت بعدها مصـر تحت حكم السلطنة العثمانية التي حلت محل الخلافة العباسية وأصبحت هي الجامعة لبلاد الإسلام. وبالتالي فانهيار الخلافة والغائها على يد العلمانيين الأتراك بالدعم الأوربي، كان له أثر عاطفي وسلبي شديد التأثير على عموم الناس في المنطقة العربية بالذات باعتبارها مهد الدين الإسلامي وعنوانه. وزاد من حساسية الجماهير أن تيار (التغريب والعلمانية) المدعوم من الاحتلال الإنجليزي والفرنسـي كان قد بدأ في التوحش في مصـر وأصرت السلطة البريطانية على دعمه وإحلال المعتقدات الغربية محله باعتبارها عنوان الحضارة. وبالطبع تصدى علماء الأزهر والعلماء المستقلون لموجات التغريب ودخلوا معها في معارك فكرية شهيرة وكبيرة نجم عنها ثراء فكري واسع في هذا المجال. وحتى ذلك التوقيت. لم يكن التاريخ الإسلامي كله قد عرف شيئا عما يُسَمى بالإسلام الحركي، أو التنظيمات الأيديولوجية المسلحة، إلا بصورة واحدة فقط. وهي صورة الفرق المنشقة على أهل السنة التي كَوّنت مجموعات عقائدية مبتدعة خارجة عن الفقه والسنة النبوية وتتخذ من السلاح والقتل وسيلة لمحاربة نظام الحكم والجمهور على حد سواء لأن عقائد تلك الفرق جميعا كانت تقوم على تكفير ما عداها من سائر المسلمين. وأشهر تلك الفرق كانت فِرَق الخوارج وفرق الشيعة وكان النموذج العصابي الأكمل لها هي طائفة (الحشاشين) التي ظهرت في أواخر القرن الحادي عشـر الميلادي، وبلغت في عهد زعيمها (حسن الصباح) أوج قوتها وصارت لعنة تعيث فسادا في أرض الخلافة والإمارة السلجوقية. وتعود خطورة تنظيم حسن الصباح أنه كان تنظيما سابقا لعصـره بكثير، فالرجل كان أشبه ما يكون برجل مخابرات محترف من طراز معاصر نجح في اختراق مؤسسات الحكم وتجنيد الناس ودفعهم للإيمان به. وبالتالي ظل المسلمون يستنكرون ويحاربون تلك الفرق بكافة أنواعها، ولم يحدث أن نجحت تلك الفرق في الحصول على شرعية بين عموم الناس لا سيما أن فساد عقائدهم كان ظاهرا. ولم يكن الناس في حاجة إلى فرق منشقة أو حركات معارضة لحماية الدين والعقيدة والوحدة المجتمعية وحماية الوطن وحدوده ضد الغزو من الخارج، لأن كل هذه العناصر محفوظة بوجود الحكم المعبر عن الناس والذي يقوم بهذه الدور. وعندما انهارت الخلافة في العصـر الحديث تبعها ظهور النداء بوجوب إعادتها مرة أخرى –ولو على مستوى الدول العربية- باعتبارها ضمانة الاستقرار والوحدة، وهنا كان الانجليز موجودون في الصورة وكان الذين يتطلعون لمقام الخلافة هم الملك (فؤاد) في مصـر، والشـريف (حسين) في الحجاز وخصمه الملك (عبد العزيز آل سعود) باعتبارهم أبرز حكام المنطقة. وكان هؤلاء جميعا من رجال الانجليز الذين سيطروا على المنطقة، فهم الذين جاءوا بالأمير فؤادا سلطانا على مصر وسط معارضة السياسيين ورجال الأسرة العلوية. وكانوا هم داعمي (الشـريف حسين) الذي وعدوه بأن ينصبوه خليفة إذا ساعدهم في إسقاط العثمانيين، فَصَدّقهم وقام بثورته المعروفة باسم (الثورة العربية) ولكنهم غدروا به لصالح (عبد العزيز آل سعود) وسمحوا لهذا الأخير بضم الحجاز إلى إمارته في نجد وتأسيس الدولة السعودية. في تلك المرحلة من عشـرينيات القرن العشـرين، انتبه الانجليز أن سقوط الخلافة نجم عنه ظهور تيار إسلامي قوي سيكتسب بين الناس حماسة طاغية نظرا لمكانة الدين في النفوس، ولأنهم خبراء في التحليل واستقراء الواقع، فكان لزاما عليهم الانتباه إلى أن سقوط الخلافة قد يظهر له آثار دافعة سواء بمصر-رغم انتشار الليبرالية- أو في الجزيرة العربية حيث انتشرت أحلام الخلافة. ولكنهم فوجئوا بظهور ردة الفعل في مصر بصورة تنظيمية من حيث نشوء إسلام حركي يحاول المشي على خطى التنظيمات المسلحة القديمة، أو التواجد الشعبي سعيا للوصول للحكم بمبادئ الشريعة تحت ذريعة رفض الحكم المدني وكعادتهم قاموا بالاهتمام بكل تيار ظهر على الساحة. فقاموا برعاية التيار الأصلي لهم وهو تيار التغريب والليبرالية في مصـر باعتبار أن له أرضية في الحكم وشعبية كبيرة باعتبار أن أكبر حزب البلاد هو حزب (الوفد) صاحب التوجه الليبرالي والذي حاول الانجليز مقاومته واختراقه لسنوات طوال، فنجحوا حينا وفشلوا أحيانا أخرى ونظروا أيضا باهتمام لجماعة دينية نشأت في الإسماعيلية تحت مسمى (جماعة الاخوان المسلمين) وانتشـرت شعبيتها سريعا وبدت في تكوينها أقرب لتنظيمات الشيعة القديمة منها إلى حزب سياسي وكان من العجيب أن يقوم مؤسسها (حسن البنا) باتخاذ حزب الوفد خصما له باعتباره حزبا ليبراليا لا يعبر عن التوجه الإسلامي لكنه مع ذلك قَبِل الدعم من الانجليز وحكومة الملك فاروق ومن شركة القناة الفرنسية ثم وضع نفسه وجماعته في خدمة أحزاب الأقلية والقصـر الملكي رغم عداء الشعب التاريخي لهما، وذلك سعيا للحصول على دعم السلطة الفعلية (الانجليز والقصـر) وَقَدّم نفسه لهما باعتباره بديلا يستطيع أن يحل بديلا للوفد في شعبيته اعتمادا على رفع الشعارات الدينية. وبالفعل استخدمه القصر الملكي وبعض أحزاب الأقلية حتى ظن بنفسه القوة والقدرة على مجابهة الحكومة وإجبارها على إفساح الطريق أمام الجماعة، فاستغل نظامه الخاص في عملياته المعروفة باغتيال النقراشي وأحمد ماهر وبعض عمليات التفجير التي مارستها الجماعة حتى قرر الملك فاروق إقصاءه بالاغتيال كما هو معروف. وكانت خبرة البريطانيين في استغلال التيارات الدينية في مستعمراتها خبرات قديمة لا يستهان بها، ونجحت في تطبيقها في الهند وما حولها، للدرجة التي جعلتها تدعم ظهور عقائد أخرى جديدة –مثل القاديانية والبهائية والبريلوية وغيرها- تضاف إلى آلاف المعتقدات والفرق الموجودة فعليا على الأرض لكي يزيد التناحر والتشابك بين هذه التيارات وينشغلوا عن مواجهة عدوهم الحقيقي وهو الاحتلال. ووقف الانجليز خلف كل فتنة طائفية في شرق آسيا، بالذات تلك الفتن التي قامت بين الهندوس والمسلمين وتسببت في الاقتتال الأهلي في شبه القارة الهندية وهو الذي أدى فيما بعد إلى تقسيم الهند لثلاث كيانات مختلفة وفعلوا نفس الشـيء في إيران عندما كثفوا دعم الشيعة لموازنة أعداد السنة والبلوش لتكثيف الصراع الطائفي والديني لهذا كان قيام جماعة الإخوان في مصـر بالنسبة للإنجليز ظاهرة مألوفة بل وقابلة للاستثمار إذا استطاعت الجماعة أن تجد لها موطئ قدم في الحياة السياسية وهو ما حدث فعلا. هذا في مصر. أما في الجزيرة العربية فقد لجأ الانجليز للعكس نظرا لاختلاف الطبيعة الهائل بين المنطقتين. فالجزيرة كانت تتكون من قبائل العرب الكبرى، والدين وزعامة المشيخة هي الحاكمة بين جماهيرها، وليس واردا أن يتحولوا إلى نظم الحكم الحديثة أو الحزبية. لهذا قاموا بدعم الملك (عبد العزيز آل سعود)، ليكون حكمه صورة مختصـرة لحكم الخلافة الإسلامية التي تتخذ من الدين مرجعية لها، ويمثل الدين فيها أساس شرعية الحاكم، ولهذا قامت السعودية على التحالف التاريخي بين أسرة الحكم (آل سعود) ومرجعية الدين في أسرة (آل الشيخ) التي تعود في النسب للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) الذي كان رفيق (محمد بن سعود) مؤسس الدولة السعودية الأولى التي أسقطها والي مصر (محمد علي باشا) وبهذا الشكل ضمنوا السيطرة على النموذجين ولو من بعيد، عن طريق قَصْـر التواصل مع الزعامات، ودعمهم في مواجهة جماهيرهم بشكل سري ليحتفظوا بشعبيتهم. ومضت الحوادث بسيرها حتى جاء الأمريكيون للمنطقة، وبالطبع ورث الأمريكيون كافة خبرات وسياسات البريطانيين ودراساتهم التي أعدوها عن مستقبل الحكم فيها. فاستفادت الولايات المتحدة من تلك الدراسات، وقررت الاستفادة من وجهة نظر البريطانيين في متابعة صورة الحكم الإسلامي كنظام حكم في السعودية، لكنهم لم يركزوا على الحركات الدينية التي كان يمثلها الإخوان في تلك المرحلة، وظلت الولايات المتحدة بعيدة عن التيارات والجماعات الدينية في مصر حتى أواخر السبعينيات عندما حدث أول تواصل. فالتركيز الأمريكي كان على الخليج كخطوة أولى، فجاء الرئيس الأمريكي (روزفلت) للمنطقة في طريق عودته من مؤتمر (يالطا) وكان دخول (روزفلت) للمنطقة زيارة تاريخية هامة ومؤثرة في مصير الشـرق الأوسط بأكمله، لأنه دخل لمقابلة حكام المنطقة بحثا عمن يمكن أن يكون الوكيل المعتمد للسياسة الأمريكية في الشـرق الأوسط، أي الوكيل الذي يمتلك القوة المناسبة لتلقي الدعم الأمريكي، ويكون المقابل هو رعاية المصالح الأمريكية المتمثلة في البترول وخطوط المواصلات. أي أنه جاء للمنطقة للبحث عن حليف محتمل للسياسة الأمريكية. وطبقا لتخطيط (روزفلت) فإنه أتى للمنطقة كي يقابل بنفسه مجموعة الحكام المؤثرين في الشـرق الأوسط لتكوين الانطباع الأول عنهم والعمل على توجيه السياسة الأمريكية إليه. فالسياسة الأمريكية في عهد (روزفلت) وَخَلَفِه (ترومان) كانت تتطلب أن يكون لها وكيل في المنطقة العربية إلى جوار الكيان الصهيوني المزمع ظهوره. وكانت بوادر البترول قد ظهرت أمام الأمريكيين ولهذا وجهوا اهتمامهم إلى الملك (عبد العزيز)، فقد كان هذا الأخير يتطلع إلى مقابلة (روزفلت) بمجرد أن علم بأن الولايات المتحدة ستدخل المنطقة بقوة وكانت حماسة الملك عبد العزيز راجعة إلى أن البريطانيين لجئوا لسياسات لم ترق له في الجزيرة بعد أن سمحوا له بضم الحجاز لمملكته لكنهم لم يسمحوا له بمد سيطرته على كامل الجزيرة وأصروا على إقامة مشيخات متفرقة وصغيرة الحجم أعطوها الحماية ليتم تشكيلها كدول مستقلة في الخليج ومن خلال استقراء وثائق البريطانيين نجد أن غضب الملك عبد العزيز من هذا الأمر كان واضحا في مراسلات مسئولي وزارة المستعمرات لكن الإنجليز بالطبع كانت سياستهم معروفة وهي تقسيم المناطق وتوزيع النفوذ فيها بين القبائل التي يدعمونها، وعدم قَصْر الدعم على طرف واحد. لذلك كان لقاء الملك عبد العزيز بالرئيس الأمريكي روزفلت لقاء فيه التقارب من الجانبين، وقد حرص الملك على أن ينقل غضبه من الانجليز إلى الرئيس روزفلت، حيث سأله بشكل مباشر هل تنتوي الولايات المتحدة فعلا أن تترك المنطقة للنفوذ البريطاني أم أن للرئيس روزفلت رأي آخر؟! وكان رد روزفلت دبلوماسيا – على حد تعبير هيكل – لكنه أيضا كان ردا قاطعا بأن الولايات المتحدة ستدخل المنطقة بشكل دائم. وهو ما دفع الملك للتعبير عن إعجابه بروزفلت ومن تلك اللحظة بدأت بوادر الاتفاق الاستراتيجي الدائم بين السعودية وبين الولايات المتحدة، وبعد قيام ثورات التحرر في الخمسينيات وما بعدها على نحو ما شرحناه، وأصبح السوفيات لهم يد في المنطقة، هنا ظهرت الفكرة الأمريكية الجبارة لاستخدام الغطاء الإسلامي في مواجهة الدول العربية التي اختارت الخط القومي والتعاون مع السوفيات. والفكرة بمنتهى البساطة أن تقوم السعودية وتركيا وباكستان وباقي أعضاء حلف بغداد بمهمة مهاجمة ومحاربة المد الشيوعي والاشتراكي والقومي نفسه، تحت زعم أنهم مدعومون بالاتحاد السوفياتي الذي ينشر الإلحاد في العالم! ونعم بالطبع فإن العقيدة الشيوعية للاتحاد السوفياتي عقيدة إلحادية، لكن إدماج المنهج الاشتراكي واتهامه بأنه منهج شيوعي يحارب الإسلام كان عجيبا وغريبا، لأن المنهج الاشتراكي الذي طبقته مصر كان يعتمد بصفة رئيسية على مفهوم (العدالة الاجتماعية) وعلى ثوابت ملكية الشعب لثروات البلاد، وهو من جوهر نظرية الإسلام في الحكم حيث يكون الحاكم فردا من الرعية مسئولا عن الحكم لكنه لا يملك البلاد وثرواتها فيعطي ويمنح ويمنع وفق ما يريد ومنذ تلك المرحلة تحددت المواجهة على الأرض واستمرت بين الطرفين حتى نهاية حرب أكتوبر بوقف إطلاق النار في بدايات عام 1974م، وبادر (السادات) بدعوة وزير الخارجية الأمريكي (هنري كيسنجر) للقاهرة، والذي استقبله السادات استقبال الأبطال رغم أن كيسنجر كان السبب الرئيسـي الذي منع انهيار الجيش الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر باستغلاله تفويض الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) له بالملف بسبب انشغال نيكسون بتداعيات فضحية (ووترجيت) وأثارت الحفاوة التي لاقاها كيسنجر في القاهرة استغرابه، لكن هذا الاستغراب البسيط تحول لدهشة كاملة عندما بدأ الاجتماع المنفرد بينه وبين السادات! وهنا حدث الانقلاب الغير المتوقع من أي طرف من الأطراف، والذي تسبب بعد ذلك بأكبر الأدوار في هزيمة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة وانهياره. وليس هذا فقط. بل تسبب هذا الانقلاب، بخلق مفهوم (الجماعات الجهادية) التي تمت نسبتها ظلما للدين الإسلامي، وكانت الأنظمة العربية إلى جوار الولايات المتحدة هي التي خلقت هذا البعبع الذي تنكروا له بعد ذلك وأعلنوا الحرب عليه! تفاصيل هذا الانقلاب تتخلص في أن السادات استقبل (هنري كيسنجر) في ذلك الوقت المبكر بعد حرب أكتوبر مباشرة وأفضـى له بتخطيطه الذي ينوي تطبيقه في مصـر بعد الحرب والذي تلخص فيما يلي: أولا: ستخرج مصـر من تحالفها مع الاتحاد السوفياتي نهائيا، وستتكفل بإخراجه من المنطقة أيضا وسينضم السادات إلى حلف الولايات المتحدة عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وسيعمل معها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي! ثانيا: ستكون حرب أكتوبر هي آخر الحروب لمصـر مع إسرائيل، وأن السادات يؤمن بأن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا وبالتالي فهو سيخر ج بمصـر من إطار الخط القومي المعادي للغرب للتحالف معه، وعلى هذا الأساس فمصـر تحت قيادته ستسعى لعقد سلام دائم مع إسرائيل سواء جاء باقي العرب معه أم لا ثالثا: يؤمن السادات بأن الرأسمالية هي المنهج القادم للعالم، وعليه سيتغير التوجه الاقتصادي لمصـر من الاشتراكية للرأسمالية الصريحة رابعا: لكي يتمكن السادات من تنفيذ هذا الانقلاب الشامل فهو يطلب من هنري كيسنجر بصفة شخصية أن تتولى الولايات المتحدة حماية أمنه الشخصي خوفا من عمليات اغتيال قد يتعرض لها سواء كانت داخلية أو خارجية! يتبع إن شاء الله |
رد: كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا؟!)
لمتابعة فصول الكتاب يرجى قراءة بقية الحلقات على هذا الرابط بداية من المشاركة رقم 18 وحتى نهاية النشر. بقية حلقات كتاب (كيف نفهم ما حدث في سوريا) |
الساعة الآن 06:30 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.