قصة النكسة
قصة النكسة لا يمكننا التصدى لقراءة حرب أكتوبر العظيمة , ببداية أحداثها باعتبارها نقطة البدء , لأن حرب أكتوبر كانت ـ ولا زالت ـ مجرد حلقة من حلقات الصراع الساخن بيننا وبين الغرب , وهذا الصراع الساخن مر بمراحل متفاوتة عبر التاريخ جنبا إلى جنب مع الصراع الثقافي والصراع الإجتماعى فيما يمكن أن نسميه بالصراع الإستراتيجى بين الإسلام والغرب , وقد بدأت المواجهات الساخنة المعاصرة بحرب 1948 م , وتكونت حلقات هذا الصراع فيما بعد لتفضي إلى حرب العدوان الثلاثي عام 1956 م وحرب يونيو1967 وحرب أكتوبر 1973 م وهى آخر الحلقات الكبري حتى اليوم , لهذا ففهم حرب أكتوبر يستلزم له إدراك جزئية هامة وهى أنها حلقة أو معركة فى حرب ساخنة طويلة المدى بدأت سخونة الصراع فيها قديما بالحملات الصليبية حتى تكونت الحلقات المعاصرة بحروب ما يسمى بالصراع العربي ـ الإسرائيلي والذى هو فى حقيقته صراع إسلامى ـ غربي وهى الحقيقة التي تمكن الغرب من تغييبها بواسطة بعض كُتابنا ومفكرينا ممن استنسخوا الثقافة الغربية وجلبوها بنصرة الإعلام الموجه لتقلب الصراع إلى حوار حضارات مزعوم ! فلم يدخل الغرب علينا بالحوار بل دخل بالسلاح والفتن وسياسة ( فرق تسد ) والذى يريد أن يقرأ أكتوبر ويقرأ فيها ويفهم معجزتها ويستخرج الفائدة الحقيقية منها .. لابد له أن يراجع أولا أساليب الصراع العسكري الحديث منذ عام 1948 م وحتى أكتوبر , ويستفيض فى التركيز على الحلقة الثالثة ـ المرتبطة ارتباطا مباشرا بأكتوبر ـ وهى معركة يونيو 1967 م , لأن المعركتان كانتا عبارة عن وجهين متناقضين لعملة واحدة , وفهم أحداث التاريخ ـ لكى لا تتكرر الأخطاء ـ يقتضي تدارس أسباب القصور ومسبباته فى حرب يونيو والإطلاع الواعى عليها فى سائر المجالات عسكريا واجتماعيا وسياسيا للوقوف على الدروس المستفادة التى أنجبت الحلقة الرابعة من حلقات الصراع وهى حرب أكتوبر المجيدة , وقبل هذا وبعده .. فالذى يريد فهم حقائق الصراع الساخن ومراحله الحديثة المتمثلة فى الحروب العربية ـ الإسرائيلية , لابد له أن يشمل بنظرته جوانب الصراع الإستراتيجى بيننا وبين الغرب , فالمواجهة بيننا وبين إسرائيل لم تكن أبدا مواجهة محدودة بإسرائيل وحدها , بل كانت إسرائيل ولا زالت مجرد أداة من أدوات الصراع وتمثل قوة الغرب فى حربه ضد الحضارة الإسلامية فى المنطقة العربية , كذلك فإن المواجهة بيننا وبين الغرب ولم تكن مواجهة مسلحة فى صراع ساخن فحسب , بل إن المواجهات الساخنة صاحبتها ومشت معها مواجهات حرب باردة أيضا شملت بجوانبها صراعات حضارية إجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية , ولتلخيص هذا كله .. نقول .. إنه من أسباب القصور الشديد فى التفكير أن نتدارس المواجهات العسكرية باعتبارها لب الصراع وجوهره الوحيد , بل يجب أن نشمل بالمعالجة والدراسة قصة المواجهة الشاملة بيننا وبين الغرب , والأهم من هذا وذاك : أن نتيقن أن إسرائيل ليست طرفا مواجها فى صراع , بل هى مخلب القط , والمخلب وراءه يد مليئة بالمخالب واليد ورائها جسم القط وعقله الذى يدير به الصراع , فإذا تم التركيز على المخلب الظاهر وحده ـ وهو إسرائيل ـ فمعنى هذا أننا سنظل إلى الأبد نحاول تدمير هذا المخلب بلا فائدة , لأن الصراع أكبر من هذه الأداة البسيطة , وحتى لو سلمنا جدلا بأنه يمكننا تدمير المخلب فلا يعتبر هذا نصرا من أى وجه من الوجوه , فالمخلب المدمر له بدائل متعددة متمثلة فى عشرات المخالب الأخرى , ووراء كل هذا جسم كامل يمتلك من أسباب الحياة ما يؤهله لإنتاج عشرات المخالب بعشرات الوجوه ليستمر النصر حليفا للغرب فى مواجهة الأمة الإسلامية التى تتعامل مع الصراع بمحدودية تفكير لا مزيد عليها , وفى هذا الشأن يقول مفكرنا الكبير الدكتور عبد الله النفيسي[1] : ( إن إسرائيل هى المرحلة الخامسة من مراحل الصراع بيننا وبين الغرب ـ فلا تصدقوا أن إسرائيل دولة مستقلة يساندها الغرب مجرد مساندة لكسب المصالح ـ بل هى الذراع الطويلة التى يستخدمها الغرب لمحاربتنا وهى مجرد أداة وهراوة تستجيب للأوامر فالغرب هو الذى أنشأ إسرائيل فى المفصل بين مصر والشام وهو الذى أمدها بأسباب الحياة , وإسرائيل لا تستطيع العيش بعيدا عن الغرب ولو رفع الغرب يده عنها لذبل هذا الكيان الصهيونى ) ويتحدث أيضا عن المراحل السابقة لحرب الغرب على الإسلام والتى تمثلت أولا فى الصراع العسكري المسلح بالحملات الصليبية التى فشلت عندما كانت دولة الإسلام تدرك أين حقيقة قوتها المبنية على وحدتها الإسلامية , وتلتها الحملات العسكرية فى الصراع الحديث التى قوضت الخلافة كهدف أول لها فى كسب الصراع , ونجحت فى ذلك , ثم قامت بتقسيم وترسيم الحدود بين أبناء المنطقة العربية التى ما شهدت عبر التاريخ ترسيما للحدود يقسمها إلى شظايا جغرافية تفصل بين أبناء الوطن الواحد والدين والحضارة الواحدة بعد أن كان العالم العربي الإسلامى من المحيط إلى الخليج أرضا واحدة لشعب متحد على التوحيد , ثم جاءت المرحلة التالية بغرس الفكر الغربي القومى العنصري فى أذهان بعض المتغربين وأنصار التوجه نحو المذاهب الإنسانية المختلقة , وهؤلاء هم الذين حظوا برعاية الغرب وبسط لهم قوة الإعلام وآلته الجبارة ليمسخ عقولهم ويمحو منها أى انتماء للإسلام والحضارة الإسلامية ويدمغها بطابع التخلف ليتسنى للغرب استخدام هؤلاء المفكرين فى تقويض المجتمع الإسلامى من داخله عن طريق ضرب العلاقة بين المسلمين والإسلام , وقد تمكن من السيطرة على مفكري المذاهب الإنسانية بأساليب بالغة التعقيد , فمنهم من استقطبه بعمالة صريحة وواضحة , مثل على سالم وفرج فودة ومحمد خلف الله وغيرهم في العصر الحديث وأغلبهم تم استقطابهم عن طريق الإيقاع النفسي المتمثل في المدح والتقدير المبالغ فيه والجوائز العريضة ذات المسميات الشهيرة التي يتم منحها لهؤلاء المفكرين وتصويرهم في الإعلام الغربي الجبار باعتبارهم أساطير تمشي على الأرض ! وبالطبع كلما كانت مساهمات هؤلاء المفكرين تحمل طعنا في ثوابت الإسلام الرئيسية كلما كان احتفاء الغرب أوفر وأقدر , وهؤلاء منذ مطلع القرن العشرين وهم يملئون الساحة في مصر وتقترن أسماؤهم بألفاظ وألقاب التفخيم والتعظيم بشكل مذهل , مثل طه حسين ـ قبل تراجعه عن أفكاره قبل وفاته ـ ومثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسي وغيرهم عشرات من مفكرى اليسار الماركسي والعلمانية والفلسفة الوجودية وهذا هو المخطط البريطانى الشهير الذى نجح الإستعمار فى تطبيقه مصداقا للحقيقة التى عبر عنها المندوب البريطانى فى العراق عندما قال : ( إننا لن نستطيع السيطرة عليهم فى وجود هذا القرآن ) وقد كان .. الهوامش [1] ـ محاضرة للدكتور النفيسي بعنوان ( حال العرب بعد غزة ) |
نجح الغرب فى تصدير أفكاره إلى رعاة الرأى العام من المفكرين ودفعهم إلى التوجه للمذاهب الإنسانية واعتبار القرآن والسنة والحضارة الإسلامية تاريخا غير مُلزم ولا يناسب التوجه العصرانى الحديث فظهر مبشرو العلمانية والشيوعية والوجودية والقومية , وهى كلها مذاهب تتفق ـ على اختلافها الظاهرى ـ فى مبدأ واحد وهو ضرب الإنتماء للثقافة الإسلامية وضرب الإيمان بأن دين الإسلام منهج سماوى كامل لسائر جوانب الحياة والإكتفاء بحصر الدين ومبادئ الدين فى دور العبادة فقط ! ثم جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل الصراع وهى غرس الكيان الصهيونى فى قلب الأمة العربية الإسلامية وتحديدا فى المفصل الشامى المصري لمنع أى اتحاد بين مصر والشام بعد أن ذاق الغرب الويلات من اتحادهما القديم , وهذه الفكرة الرهيبة ـ فكرة الفصل بجسم غريب بين مصر والشام ـ ابتكرها نابليون بونابرت وسعى لتنفيذها فعلا فى حملته على مصر والشام , وجاءت من بعده السلطات البريطانية فوضعت الفكرة موضع التنفيذ[1] ومع ابتداء حركات التحرر الوطنى بالإنقلابات العسكرية , والتى بدأت في مصر عام 1952 , بدأت عهود الحكم الديكتاتورى المطلق القائم على القوة العسكرية الجبرية والحكم الفردى والحكومات البوليسية , وانتهى العصر الدستورى القائم على المشاركة الشعبية والثورات الجماهيرية الحقيقية التي تمثلت في ثورة 1919 م مثلا ومع بداية هذا النوع من الحكم انتهى عمليا دور الجماهير والمفكرين والمثقفين ليخلو الجو لمفكرى ومثقفي السلطة وتدور الأوطان في فلك شخص واحد يمثل النظام , وبالتالى أصبحت السيطرة على شخص الحاكم بأى وسيلة تعنى مباشرة السيطرة على بلاده بأكملها لأن الصورة القديمة التي كانت تعتمد على جمهور واع يجبر حكامه على الإلتزام بالخط الوطنى برقابة شعبية فاعلة , هذه الصورة أصبحت في ذمة التاريخ عمليا وليس من الضرورى أن يتجه الغرب لتجنيد الحكام تجنيدا مباشرا للسيطرة , بل تعددت الأساليب التي يتمكن بها الغرب من بسط النفوذ المطلق على أوطاننا بالسيطرة على الحكام ـ حتى الوطنيين منهم ـ بإدارة سياسية للصراع تعتمد اعتمادا تاما على أن الحاكم في أى قطر عربي هو موطن تركيز القوة , وبالتالى فهزيمته أو خداعه أو توجيهه يصبح أمرا أيسر بكثير من ممارسة هذه السيطرة على الشعوب إذا كانت شعوبا حرة ديمقراطية تتحكم في حكامها وتراقبهم ولهذا مثلا سقط حكام وطنيون في شبكة الغرب دون أن يبذل الغرب جهدا لاستمالتهم بدافع الخيانة , بل على العكس استغل وطنيتهم التي اقترنت بصفات الأنا والإنفراد بالذات في تحقيق أهدافه كاملة , ولعل أبرز الأمثلة الحديثة صدام حسين الذى ركزت عليه الولايات المتحدة حربا نفسية ماهرة وأوحت له عبر مخطط مرسوم باجتياح الكويت وتلقي من الإدارة الأمريكية تنويها عابرا أن الولايات المتحدة لا تنوى التدخل في أى خلافات عربية ـ عربية وتم المراد واجتاح صدام الكويت تحت رقابة وتشجيع الولايات المتحدة التي كانت تراقب التحركات العراقية رقابة تامة إلى الحد الذى سمح لها أن تنقذ العائلة الحاكمة في الكويت بالوقت المناسب وتنقلهم للسعودية قبيل الغزو مباشرة ! [2] دون أن يتساءل صدام حسين أو يكتشف اللعبة ودون أن يكتشفها حتى بقية الحكام العرب , وأولهم أمراء الكويت الذين أنقذتهم الفرقة الأمريكية بشكل يشي بأنها كانت تعلم التفاصيل الكاملة للغزو فلماذا لم تتدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر ـ لو كانت النوايا مخلصة ـ لمنع صدام من الغزو ولماذا كان الصوت الأمريكى غائبا تماما عن ساحة الصراع على النفط بين العراق والكويت ولم تتدخل السياسة الأمريكية في الأمر ولو بتصريح واحد !! بينما عندما وقع الغزو فعلا , لم نجد الحضور الأمريكى يقتصر على الصوت أو التصريحات فقط , بل قامت العاصفة الأمريكية في المنطقة وبسرعة محمومة لتقلع القوات الأمريكية إلى المنطقة وتحتل أماكن شاسعة كقواعد عسكرية دائمة قرب مناطق النفط , وفق ما كانت تخطط له من البداية عن طريق استخدام صدام حسين لتحقيق الذريعة الكافية , ونفذها صدام حسين بشكل تام الدقة وبأفضل مما يفعله أى عميل مأجور يؤدى دورا مرسوما له رغم أنه كان مثالا في وطنيته ! فهذه اللعبة مع صدام حسين ما كانت لتنجح لولا أن النظام العراقي ـ والعربي بشكل عام ـ منذ مطلع الثورة المصرية لم يتحول إلى النظام الأتوقراطى ( نظام ما هو أقوى من الديكتاتورية حيث أن الأوتوقراطية معناها تعلق الحكم بشخص واحد يملك كافة شئون الحكم , ويكون شخص الحاكم هو نفسه النظام , بينما الديكتاتورية هى تسلط نظام حكم متعدد الأشخاص في الحكم الجبري على الشعوب ) وهكذا .. عندما بزغت بوادر الحكم العسكري في مصر وقامت مصر بتصدير هذا النمط لدول الجوار العربي وجد الغرب أن الفرصة جاءته على طبق من فضة دون أى مجهود , ذلك أن الثورة المصرية بعد أن صعد إلى سدتها جمال عبد الناصر وتمكن من إزاحة محمد نجيب , قام بتحقيق هذا الهدف ـ دون أن يدرى ـ عندما اعتمد التوجه القومى والقومية العربية كأساس للتوحد بين أبناء المنطقة العربية وتم استبعاد الإسلام كرابط مشترك من عوامل الصراع نهائيا وليت أن الأمر اقتصر على الإستبعاد , فقد جاءت القومية بحرب فكرية عنيفة ضد التوجه الإسلامى لمنع ظهوره لما يمثله من خطورة تقضي على دعاوى القومية باعتبار أن الإسلام نبذ التعصب للعرق والجنس نبذا تاما , والأهم .. أن الإسلام قائم على الشورى ورفض تسلط الفرد وعلى العدالة التامة بين الحكام والمحكومين مما يمثل خطورة بالغة على أى نظام حكم متسلط فخاضت السلطة في مصر حربا عنيفة ضد الثقافة الإسلامية والإنتماء للإسلام وتم إعادة اختراع التاريخ على أساس قومى يجمع العرب وحدهم في الصراع مع الغرب ثم ضاق الصراع أكثر ليخرج للوجود مصطلح بالغ الخطورة وهو مصطلح ( الصراع العربي ـ الإسرائيلي ) وهذا المصطلح تمكن من تحقيق أكبر أهداف الغرب دون أن يطلق طلقة واحدة !! فقد تم استبعاد الشعوب الإسلامية من رابطة الصراع ضد الصهيونية رغم أن أساس الصراع هو أساس دينى في المقام الأول لأن الدولة اليهودية قامت أصلا على هذا الأساس , بالإضافة إلى أن القدس ـ وهو الحرم الإسلامى الثالث ـ يربط القضية بالمسلمين ارتباطا عضويا لا مجرد ارتباط شكلى كما نجم عن تيار القومية وأصبحت العلاقة بين العرب القوميين وبين الدول الإسلامية عبارة عن علاقة ظاهرية بين أقطار لا يجمعها جامع إلا الدين ! وهو رابط ـ وفق التوجه القومى ـ لا يمنح الدول الإسلامية دورا في هذا الصراع من الأصل |
بخلاف أن التيار القومى جعل الصراع مع إسرائيل حصرا , ولم تصبح المواجهة مع الغرب إلا مواجهة الداعم لإسرائيل , مجرد داعم يمكن استقطابه أو تحييده لا طرفا أصيلا في المعركة أما الطرف الحقيقي في الصراع فأصبح الدولة اليهودية , وهذا الأمر كانت له أخطر الآثار إذ أن العلاقة العربية ـ الغربية لم تصبح علاقة صراع وعلى قدم المساواة في المواجهة مع إسرائيل بل أصبحت قضية صراع سياسي يقبل الحلول السياسية ولا يجد تناقضا بين أن تكون لنا أقوى العلاقات مع دول الغرب باعتبار أنهم طرف ثالث محايد أو شبه محايد ! وهكذا رتع الغرب ممثلا في أوربا والولايات المتحدة بين عناصر الثروة العربية واستبدل الغرب الإحتلال العسكري بالإحتلال الفكري والإقتصادى والسياسي والأثر التطبيقي المباشر لهذا الأمر , هو اعتبار الولايات المتحدة مجرد طرف يميل بمصالحه إلى إسرائيل , وعليه ظهرت بعض وجهات النظر الخيالية التي تقول بإمكانية تحييد الولايات المتحدة عن الصراع مع إسرائيل أو استقطابها لصالحنا دون أن يدرك القوميون المغيبون أن أصل المواجهة هى مواجهة مع الولايات المتحدة كممثلة للغرب وليست مواجهة مع إسرائيل !! وعليه .. بدأت علاقة عبد الناصر رائد القومية العربية بعلاقة حميمية وحسنة مع الطرف الأمريكى في بداية الأمر , وسعت مصر في قيادتها الجديدة إلى اكتساب الولايات المتحدة ! لا سيما بعد أن انحازت السياسة الأمريكية إلى مصر فقامت بحماية الثورة الوليدة من التدخل البريطانى , وكان التدخل البريطانى عن طريق قواته في القناة والبالغة 80 ألف جندى كفيلة بالقضاء على النظام الجديد في ساعات , لولا أن مد النظام الجديد علاقته مع الولايات المتحدة عن طريق علىّ صبري الذى قابل الملحق الجوى الأمريكى وشرح أهداف الثورة وأنها لا تهدف للمساس بمصالح الأجانب في مصر , ونظرا لأن الصراع الغربي بين الحيتان كان مشتعلا , وكانت الولايات المتحدة تتطلع في طمع إلى تركة البريطانيين , فقد تدخل الأمريكيون لحماية الثورة الوليدة وبالفعل لم يتدخل البريطانيون لتنفيذ الخطة ( روديو ) والذي حصلت على موافقة رئيس الوزراء البريطانى وينستون تشرشل وكان الغرض منها استغلال أزمة الخلافات والتدخل في مصر عسكريا وإعادة احتلال القاهرة والدلتا كما تدخلت الولايات المتحدة في صراع مجلس قيادة الثورة مع محمد نجيب إلى جوار عبد الناصر على نحو ما ورد في مذكرات أحد أبرز قادة ثورة يوليو وهو خالد محيي الدين ! ثم كانت الخاتمة بتدخل الولايات المتحدة لصالح مصر في حرب العدوان الثلاثي وتمكنت من رد الإعتداء ووقف احتلال بريطانيا وفرنسا لمصر في مقابل اتفاقية بين جمال عبد الناصر وأيزنهاور يضمن فيها أيزنهاور لإسرائيل حرية الملاحة في خليج العقبة وعدم تدخل مصر عسكريا بأى عمل ضد إسرائيل لمدة عشر سنوات تمهيدا لاتفاقية سلام نهائية ! [1] وتم تنفيذ الإتفاق كاملا .. وتجمد الصراع مع إسرائيل لعشر سنوات تمتعت فيها إسرائيل بالحماية في وجود قوات الطوارئ الدولية بينها وبين مصر , وتمتعت كذلك بحرية الملاحة في خليج العقبة ووجود قوات الطوارئ في قلب سيناء عند شرم الشيخ ! بالإضافة لنقاط الحدود الدولية وهذه الأمور ما كان لها أن تحدث لو كان الأساس الذى يحكم عبد الناصر هو الأساس التاريخى والحضاري المعتمد على معادلة الإسلام والصراع المستميت بينه وبين الغرب , ذلك لأن التوجه القومى قفز فوق التاريخ وطمس حقائق المواجهة واعتبرها من منتجات المتاحف وظن بنفسه القدرة على إنشاء علاقات وطيدة بالغرب ممثلا في أكبر طغاته الجدد .. الولايات المتحدة الأمريكية بينما كان التوجه الإسلامى المستند إلى حقائق التاريخ يمنح معتنقيه إيمانا كاملا بأن الصراع مع الغرب هو المعادلة التي لا تنتهى وأنها مستمرة إلى قيام الساعة ثم أعادت الولايات المتحدة النظر إلى العلاقة بعد أن استدعى عبد الناصر النفوذ السوفياتى للمنطقة مما استدعى معه إعادة النظر في نظام عبد الناصر القومى الذى أخذ الجانب السوفياتى كاملا في المجالات السياسية والإقتصادية والعسكرية , فأصبحت مصر شيوعية السياسة والإقتصاد , ولكن بعد تخفيف وقع الشيوعية بمسمى آخر لا يغير شيئا من المضمون وهو مسمى الإشتراكية ! واستخدم عبد الناصر الجهاز الإعلامى المنفرد لفرض التغيير على عقيدة الشعب إجتماعيا ودينيا وثقافيا , وكتم أى صوت مخالف ليتمكن من فرض هذا التغيير ! عن طريق فرض التأميم على الصحف وضرب معاقل الفكر الإسلامى والسيطرة على مؤسسة الأزهر سيطرة تامة بقانون إصلاح الأزهر ثم السيطرة العسكرية على البلاد بقبضة حديدية ليتغنى الشعب ببستان الإشتراكية ! وأصبح الحديث في الخطب الرنانة يتحدث ( باسم الأمة ) و ( باسم الشعب ) !! واختفت بسم الله من الخطاب الرسمى إلا على سبيل البركة ودفع الحرج ! وحل ( الميثاق) محل القرآن وأصبح الميثاق ( وهو كتاب يحتوى ما يسمى بالمبادئ الإشتراكية كتبه محمد حسنين هيكل رائد التنظير لعصر عبد الناصر ) أصبح هو المرجعية وهو الدليل وحلت كلمات مثل ( القومية ـ التقدمية ) محل التوجه والإنتماء الإسلامى ! وأصبح ( الإتحاد القومى ) الذى تغير إلى ( الإتحاد الإشتراكى ) هو القبلة الجديدة التي يجب أن يتبرك بها المواطنون من تحالف قوى الشعب العامل ضد الإمبرالية والإستعمار ! وأصبح الدين ـ كما عبر عنه محمد حسنين هيكل ـ عبارة عن شيئ في الضمير وليس من الضرورى أن يُتخذ أساسا لأى إدارة في أى شأن من شئون الوطن وعمت الصراعات المستحيلة في المنطقة العربية بين التوجه القومى الذى تمثله مصر وبين الدول الملكية القديمة التي رأت في الملكية عالم من الرجعية , واتخذ الصراع جانبا دمويا ولم يقتصر على الشتائم المتبادلة في الصحف أو الإذاعات , والتى كانت بحق ملهاة مضحكة في العالم كله على العلاقات العربية التي تدعى التضامن وتورطت مصر بجيشها في اليمن لمحاربة قوات الملكية التي تدعمها السعودية هناك , لتصبح المعركة الهجومية الوحيدة التي خاضها الجيش المصري في عصر عبد الناصر ضد السعودية ! وكانت بريطانيا هى الداعم الأكبر لهذا التوريط وهى التي تولت استقطاب عشرات الآلاف من المرتزقة ليحاربوا الجيش المصري في اليمن بحرب العصابات التي أفلست الإقتصاد المصري ودفعت بنصف الجيش المصري وقوته الضاربة إلى متاهات الجبال اليمنية ليحارب طواحين الهواء وسادت ـ بناء على نتائج التيار القومى ـ نظرية تقول أن الطريق إلى القدس يمر ببعض العواصم العربية ! في محاولة لفرض القناعة بأن الصراع الرئيسي ليس صراعا بيننا وبين الغرب أو بيننا وبين إسرائيل بل هو صراع بين التقدمية والرجعية في العالم العربي ويجب أن تسود الوحدة التقدمية بلاد العرب جميعا !! ثم نلفت بعد ذلك للصراع مع إسرائيل ! الهوامش : [1] ـ لمراجعة التفاصيل يرجى العودة إلى ( نحو حكم الفرد ـ دراسة فى مذكرات قادة يوليو ) ـ د. محمد الجوادى ـ دار الخيال |
حدث كل هذا .. والغرب يتأمل بسخرية وتأن وهدوء .. ولا مانع بالطبع من زيادة سخونة الصراع عن طريق استفزاز العرب إعلاميا ليزدادوا تورطا في الصراعات القومية ويصدق الزعماء أنفسهم ! وكانت الكارثة الـمُرة يوم أن صدق زعماء العرب في تلك المرحلة ما يروجونه من شعارات ! فانطلقت التصريحات الخيالية التي تثير الدهشة حقا , فقد روجت القيادة المصرية مثلا أن قواتنا هى أقوى قوة ضاربة في الشرق والأوسط , كما تضمنت تصريحات جمال عبد الناصر كثير من العبارات التي تلهب حماس الجماهير وتؤكد زعامته للعالم العربي ويصفق لها المغيبون فسمعت الجماهير من عبد الناصر عبارة ( أمريكا إن لم يعجبها البحر الأحمر تشرب من البحر الأبيض ! ) وغير ذلك من العبارات التي توهم الجماهير العربية بأن فناء إسرائيل وتدميرها هو أمر رهن الإرادة العربية , وأن جمال عبد الناصر سيلقن الغرب كله ـ وليس إسرائيل فقط ـ درسا قاسيا إذا فكرت في التعرض له , ولم تكن غيبة عبد الناصر عن واقع حاله بسبب أنه صدق انتصاره في حرب 1956 م وظن بالفعل أنه انتصر على إنجلترا وفرنسا فحسب بل كان السبب الرئيسي أن مغامرات عبد الناصر بالتدخل في اليمن والكونغو أغرته بالمزيد , وظن أنه بالفعل قادرا على تحدى القوى العظمى التي باتت تخشي سطوته ! دون أن يدرك للحظة واحدة أن مغامراته كلها تمت بتدبير غربي , على نحو ما فعلت بريطانيا معه في اليمن وكان يسعدها أن ترى القوات المصرية تتضاعف كل يوم في جبال اليمن , وعلى نحو ما فعلت معه الولايات المتحدة عندما سمحت له بتفريغ شحنات الإستفزاز عبر خطب رنانة تأكل قلوب الجماهير وتجعلها في قمة السعادة , وتركته حتى تمت طبخة يونيو .. ليصحو على الحقيقة المرة وهى أن الزعيم الذى أرسل جيشه ليحمى الثورة اليمينية ويتدخل في الصراع على السلطة في الكونغو لصالح ( لومومبا ) ويطلق التصريحات الرنانة عن حمايته لثورة العراق وحمايته لسوريا وأن أى اعتداء على أى منهما هو اعتداء على الجمهورية العربية المتحدة , وكل هذا في تهديدات صريحة هذا الزعيم بكل جلالته تلك اصطاد الإسرائيليون جنوده وسلاح جيشه الذى تكلف المليارات كما يصطادون العصافير ! وظهرت مجلات التايم والنيوزويك وهى تحمل صور مئات الجثث التي نهشتها الكلاب في سيناء , وصور للجنود المصريين بملابسهم الداخلية وهم يفرون من طائرات الهليوكوبتر الإسرائيلية التي كانت تستمتع بمطاردتهم حتى ينهكوا تعبا , ثم أعلنت إسرائيل أنها لن تأسر أى جندى مصري بعد أن اكتظت الوحدات الإسرائيلية بمئات وآلاف منهم ولم يعد لمزيد مكان ! ثم أعلن الجيش الإسرائيلي أنه سيحتفظ بالخمسة آلاف أسير المصري ليبادلوهم جميعا بالجندى الإسرائيلي الوحيد الذى أسره المصريون ! وظهرت الإذاعة العبرية بعد إتمام احتلال سيناء والسيطرة على خليج العقبة , بممارسات هدفها شن حرب إذلال حقيقي على الجماهير العربية , فكانت تضع صوت عبد الناصر وهو يعلن بقوة ( لن يمر العلم الإسرائيلي من خليج العقبة ) ثم تعقبه ضحكة ساخرة من المذيع الإسرائيلي وهو يقول ( بدون تعليق ! ) وكانت هذه المشاهد هى الرد العملى من الغرب على صراعات عبد الناصر معهم في الخطب الرنانة , فلم يردوا عليه في حينها ولم يكلفوا أنفسهم جهد بذل الصوت , بل تركوه يتوغل ويتمادى أكثر حتى هزم نفسه بنفسه قبل أن يهزمه القتال ! ولابد لنا أن ندرك حقيقة هامة وتاريخية : أن ضربة صهيون ( الاسم الرسمى لعمليات حرب يونيو ) لم تكن هى السبب في أحداث يونيو , فالتدبير الأمريكى ـ الإسرائيلي لم يكن له أن ينجح إلا في هزيمة قواتنا عسكريا في معركة متكافئة , لكن ما حدث في يونيو لم يكن هزيمة , لأنه لم تكن هناك حرب في الأصل ! وقد فقدت مصر جيشها هى والأردن وسوريا دون قتال يذكر ! وكانت الأسباب الرئيسية من جانبنا نحن , لأن الأنظمة العربية ـ كما سنرى في التفاصيل ـ هزمت بنفسها وتخلت بنفسها عن أسلحتها المعنوية والحضارية ووقعت في فخ الإستنساخ الغربي ودعاوى القومية التي هدمت جذور العقيدة الإسلامية التي حركت الجبال فيما مضي والتفت إلى الظواهر بدلا من العمق والعمل الجاد , وهذا أمر طبيعى لأن القومية تطلبت أن يسعى كل امرؤ للزعامة , وغاب الإخلاص بغياب الإسلام , وتقاصرت الأوطان وتم اختزالها , ودخلت الجماهير العربية دوامة من غيبة الوعى ! وحرص القوميون ـ بحب الذات ـ على تأكيد غياب الوعى فأصبحت الجماهير في الخمسينات والستينيات بالفعل أشبه بقطعان الغنم التي تقودها العصي إلى حيث تريد ! وهذا هو التفسير الوحيد الذى يوضح لنا حقيقة هذا التغييب الذى صدقته الأمة وانقلب إلى كابوس مرعب بوقوع نكسة يونيو 67 ولم تتعلم الجماهير أو تستعيد ذاكرتها الحضارية الإسلامية لتتعلم كيف تكون الوحدة الحقيقية ؟ والوحدة هى الركيزة الأساسية التي ينبغي أن ينبنى عليها الصراع , ولكن أية وحدة يا ترى هل هى وحدة العرب المبنية على أساس عرقي والتى أطاحت بكل مقدراتنا في القرن العشرين ؟! أم الوحدة الإسلامية المبنية على حقائق التاريخ البعيد والقريب ؟! |
إن إنتقادنا للقومية ليس انتقادا لمبدأ التكاتف وضرورة التوحد في الصراع مع الغرب , بل لا زلت أقول أن اتحاد الدول العربية والإسلامية في مواجهتها هو السبيل الوحيد ـ وأكرر الوحيد ـ لتنتهى المواجهة لصالحنا , فانتقادنا للقومية لم يكن في هذا السبيل بل كان في طريقة تطبيق القومية لمبدأ الوحدة , ما نقوله وقاله علماء المسلمين على اختلاف صنوفهم أن القومية تتخذ من الجنس أساسا للوحدة , فتنادى بالوحدة العربية في مواجهة الصراع مع إسرائيل بما مفهومه ( الصراع العربي ـ الإسرائيلي ) وبهذا أخرجت القضية من تصنيفها الأصلي باعتبارها قضية صراع إسلامى ـ صهيونى , أو إسلامى ـ غربي فالقدس ليست قضية تخص العرب وحدهم أو الفلسطينيين وحدهم كما تردد دعاوى القومية بل هى تخص مجمل الدول الإسلامية التي يعتبر القدس فيها حرما ثالثا , نقطة الإنتقاد الثانية , هى فشل النظرية القومية عند التطبيق ,. فهم أرادوا من الجنس أساسا للتوحد يعضده اللغة والتاريخ والتلاصق الجغرافي , بينما نجم عن التطبيق أن ظهرت دعاوى القومية الضيقة والنعرات الوطنية التي قسمت المنطقة العربية إلى شظايا جغرافية , وهذا أمر طبيعى لأن القومية في طبيعتها تعصب صرف للأرض والعرق ولابد له أن يؤدى في النهاية إلى الفرقة بدلا من أن يؤدى إلى الوحدة , ويكفي من مثالب القومية أن القوميون الذين يدعون الإنتصار للوحدة اعتمدوا حدود وخطوط اتفاقية سايكس بيكو التي صنعتها بريطانيا وفرنسا وجعلوها تقسيما معتمدا للحدود بين الدول العربية ! بينما المنطق يقول أن القوميين من المفترض فيهم ألا يعترفوا بوجود هذه الحدود أصلا , لا أن يعترفوا بها وينتصروا لها ويعتمدوا الجامعة العربية كجامعة بين دول مختلفة تسعى للتوحد ! وأخيرا : اعتماد القومية كأساس للوحدة في المنطقة العربية تسبب في ظهور الظواهر الصوتية والشعارات التي عانينا منها في حقب الخمسينيات والستينات مما أدت في النهاية إلى مزايدات رخيصة تسببت في كارثة 67 , وهذا أمر طبيعى لأن القومية مبنية على أساس عرقي ومصالح دنيوية , بينما الأساس الدينى للوحدة ينبذ التعصب ويعتبر الانتصار للجنس أو للأرض جاهلية جديدة , ولهذا عندما اتخذت المنطقة العربية قديما دين الإسلام أساسا للوحدة تمكنت من أن تكون قوة عظمى طيلة أربعة عشر قرنا , خلاصة القول أن الوحدة هى أساس الإنتصار الذى لا سبيل دونه , لكن المهم هو على أى أساس نبنى هذه الوحدة , وما تهدف إليه الدراسة هو إثبات أن اعتماد الإسلام كعامل مشترك للوحدة بين سائر المسلمين هو الطريق الصحيح لا اعتماد العروبة والقومية , ويكفي أن توفر لنا الوحدة الإسلامية ما يلي , أولا : قيام الوحدة الإسلامية على أساس إسلامى صحيح أمر ثابت ونظرية أثبتت نجاحها على مدى ثلاثة عشر قرنا بينما فشلت القومية فشلا ذريعا في التطبيق , ثانيا : تقوم الوحدة الإسلامية على أساس إخلاص العمل لله والجهاد في سبيله وهى بذلك تضمن الصدق في القول والعمل وبذل الجهد الأقصي في مقابل القدر الأدنى من الكلام , كما أنها ـ وهو الأهم ـ تعتمد على بذل النفس في سبيل الله دون انتظار عائد مادى أو معنوى ودون بحث عن الزعامة أو الأدوار السياسية , بينما تعتمد القومية على الإنتصار للأشخاص والمذاهب الإنسانية وبهذا يغيب منها الصدق وتقع في مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) لأن أساس القومية قائم على أساس العمل الدنيوى وباستبعاد الدين تم استبعاد الإخلاص تلقائيا ! لأن الإخلاص معناه العمل دون انتظار أجر في انتظار ثواب الآخرة , فإذا غاب ثواب الآخرة يصبح الثواب الدنيوى هو الهدف وإلا أصبح العمل غير ذى معنى ثالثا : نجحت الوحدة الإسلامية في احتواء الأقليات داخلها وتمكنت الخلافة الإسلامية من استيعاب الأقليات الدينية دون أن يكون لها تأثير سلبي على دولة الخلافة , لما يحمله الإسلام من صدر رحب بالأديان السماوية فعاش النصاري واليهود تحت ظل دول الخلافة المتوالية بلا أى اضطهاد عرقي وعلاقة المسلمين تحت مظلة الخلافة بغيرهم من أهل الملل الأخرى كاليهود والنصاري .. معلوم من الدين بالضرورة حيث تشهد صفحات التاريخ للمسلمين أنهم كانوا أشد الناس حرصا على أهل الذمة ولم يتمتع اليهود والنصاري تحت الحكم الرومانى بحرية دينية كتلك التي تمتعوا بها تحت حكم الإسلام بدليل أن النصاري من أهل مصر والشام كانوا صفا واحدا مع المسلمين في مواجهة الحملات الصليبية الغربية رغم كونها حملت شعار الصليب فالعلاقة بين المسلمين وبين الملل هى العلاقة المعروفة باسم أحكام أهل الذمة وهى متواترة الذكر في سائر كتب الفقه تحمل مدى سماحة الإسلام مع المخالفين في العقيدة طالما كانوا من غير أهل الحرب ويكفينا للتدليل على ذلك رفض عمر بن الخطاب للصلاة في الكنيسة عند افتتاحه لبيت المقدس حتى لا يتصور أحد من الحكام بعده أن الإعتداء على أرض وكنائس النصاري وإيذاء مشاعرهم جائزا في الإسلام وهو تطبيق عملى للنهى والوعيد الشديد الذى توعد به النبي عليه الصلاة والسلام من خالف وصيته في أهل الذمة .. بينما فشلت القومية في استيعاب غير العرب من الدول الإسلامية رغم أن القضية بالأصل هى قضية القدس وليست مجرد قضية أرض محتلة رابعا : نجحت الوحدة الإسلامية في الحفاظ على أراضي المسلمين لأن مبدأ الإسلام يقوم على أن أرض المسلمين كلها واحدة يقع عبء تحريرها على سائر المسلمين كواجب شرعي غير قابل للنقض بينما القومية جعلت لكل دولة عربية أرض مستقلة مسئولة عنها حكومتها وبقية الدول عليها المعاونة النسبية فقط دون أن يكون الصراع يخصها بشكل مباشر |
ماذا يعنى غياب البعد الدينى عن الطرف العربي لم نعان فى العالم العربي بصفته الرافد الأصلي للعالم الإسلامي قدر ما عانينا من أبواق الغرب الفكرية التى مسخت معظم التوجهات الدينية عبر تيارات مختلفة , وأحيانا مختلقة لمحو فكرة أن الغرب به ترصد للإسلام ! ورغم الشواهد التى كشفت عن نفسها فى إدارة الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية والتى أفسحت المجال لتقديم دليل قطعى على أن الغرب يستهدف الإسلام قبل الأرض ــ عبر تصريحه بالحرب الصليبية التى نفذها فعلا ــ إلا أن نفس الأبواق لا زالت تكرر أن المسلمين بهم عقدة اضطهاد ! ولست أدرى هل ينتظر أولئك المتعالمون بخفايا الأمور أدلة أكثر من التاريخ والحاضر والكتابات الفكرية والأعمال السياسية إضافة للعقل ـ كلها تقر بوجود هذا الترصد ــ حتى يعترفوا به ! فمن ناحية التاريخ فلا حاجة بنا للتذكير بالحملات الصليبية التى جعلت مسماها وفعلها مبنيا على محاربة الإسلام , ولا ننسي ـ بعد فشل الحملات الصليبية ـ ظهور الجانب الفكرى المتمثل فى قرون طويلة قضاها المستشرفون فى حركة فكرية معلنة الأهداف لضرب الإسلام عن طريق خلق تناقضات من داخله واستمرت هذه الحركة حتى منتصف القرن العشرين فاعلة وقائمة , بل إن الجهد الذى بذله المستشرقون ـ برأيي ـ يفوق جهد الأساطيل والحملات العسكرية بعد أن قاموا بدراسة الإسلام من مختلف جوانبه بعملية تمحيص مذهلة قاربت الجهد الذى بذله فقهاء وعلماء المسلمين فى حفظ السنة وإستخراج الأحكام ! بل إنهم قدّموا ـ دون أن يتعمدوا ـ خدمة خرافية للمحدثين فى الحفاظ على السنة النبوية عندما قاموا بتأليف وإعداد الفهارس للأحاديث النبوية بغية تسهيل عملية الفحص عليهم فوقعت نسخة من تلك الفهارس فى يد علماء العراق ونشروها , وكانت ضربة قاصمة لجهد المستشرقين عندما وفروا جهد أعوام طويلة على المحدثين ويسروا عليهم السعى فى تحقيق السنة وفى الحاضر فإن الغرب عمد إلى نشر العلمانية بالرواج الفكرى بعد فشل خيار الإحتلال العسكري وبذلت القوى الغربية جهدا جهيدا لهدم أى صلة بين المسلمين ودينهم وتراثهم حتى أصبحت النظم القائمة لا ترى فى إسرائيل خطرا يفوق خطر التيار الدينى وفى مجال الأعمال السياسية فأمامنا تاريخ عريق للولايات المتحدة الأمريكية لم تترك فيه جهدا إلا وأعلنت نيتها المستمرة بالأعمال السياسية وبالنشر العلنى للأفكار عن ترصدها للإسلام أينما حل , ووقف رونالد ريجان يقول كلمته الشهيرة عقب سقوط الإتحاد السوفياتى ـ فرغنا من الشيوعية ولم يبق إلا الإسلام ـ وعن طريق العقل , لنا أن نتأمل ببساطة كيف أن الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي لا يتناسون عهودهم بحقوق الإنسان وحرية الفكر إلا فى مواجهة كل ما هو إسلامى ويعمدون بإلحاح مستمر إلى عقد المؤتمرات التى تبشر بالعلمانية وبغيرها باذلين فى ذلك أقصي جهد مادى ومعنوى ! وكان آخر التصرفات ما قامت به ملكة بريطانيا العظمى من تكريم لسلمان رشدى بمنحه أرفع وسام بريطانى على الإطلاق وهو وسام الفارس { لقب سير } والذى لا يصل إليه من البريطانيين أنفسهم إلا من أدى خدمة جليلة عم أثرها سائر الإمبراطورية , ولا تمنح للأجانب إلا من زمرة المفكرين والعلماء الندرة الذين قدموا للعالم فنا أو أدبا أو علما عميم الأثر , ثم يخرج قائل فيقول أن بريطانيا لم تمنح لقب السير لسلمان رشدى عقب إسباغها الحماية عليه بهدف النيل من الإسلام وإنما جاء هذا الإجراء فى إطار رعاية بريطانيا للعلوم والفنون , وحق لنا أن نتعجب بالفعل ! فما هى القيمة الفكرية التى مثلها سلمان رشدى يا ترى وأين هى الإضافة التى عم أثرها سائر أصقاع الأرض أو استفادت منها بريطانيا , ولماذا لم يمنح هذا الوسام لمن هم أعلى قامة من سلمان رشدى بفارق يتسع لما بين السماء والأرض مثل محمد حسنين هيكل الذى تعتبر لندن إحدى محطات نشر كتبه الرئيسية والتى يحتفظ لها برحلة سنوية قبل شروعه فى كتابة أى مؤلف جديد وله من الأثر الفكرى والسياسي ما تمكن به من الجلوس على عرش المحللين السياسيين فى الشرق الأوسط منفردا , وأثر هيكل بلندن ممتد عبر أربعين عاما , وحين استفتى النقاد أولى الإختصاص فى أبرع عشر محللين سياسيين بالعالم كان هيكل هو الوحيد من منطقة الشرق الأوسط , بل إن دار النشر التى تنشر كتب سلمان رشدى هى ذاتها دار النشر التى تعامل معها هيكل قبل أربعين عاما وأكثر , فلماذا لم يتم منح هيكل الوسام لو أن الأمر بالأثر لكن كيف يتم منحه الوسام وقد كان الكاتب الوحيد الذى رفض التوقيع على وثيقة مناصرة سلمان رشدى من سائر الكتّاب المتعاملين مع هذه الدار ؟ الأمر ليس بحاجة إلى كثير توقف , |
ويمكننا القول بإطمئنان كامل , أن جحافل العسكرية الغربية ومعها جحافل المستشرقين الفكرية لم تزد الإسلام إلا عزا , فقد فشلت الحملات الصليبية فشلا ذريعا أمام أبواب الشام ومصر التى أسرت قائد آخر الحملات لويس التاسع بدار بن لقمان , وفى المجال الفكرى أهدى المستشرقون ـ كما سبق القول ـ هدية لا تقدر بثمن بتصنيفهم فهارس الحديث , بالإضافة إلى أثر أعظم عندما تصدى الفقهاء والمفكرون لشبهات المستشرقين فاستنبطوا ـ بسبب الشبهات ـ أروع آيات الإعجاز والبلاغة فى القرآن والسنة ولكن الجهة الوحيدة التى تمكنت من النيل من المسلمين ـ ولا أقول من الإسلام ـ كانت الجبهة الأخيرة التى أثبتت نجاحا فى مواجهة الإسلام وهى عينة عملاء القلم والفكر الذين بذلوا الجهود فى تقويض أى التفات للحضارة الإسلامية داعين المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها إلى ترك هذه المواريث طواعية وهى التى بذلنا فيها الدماء عبر أجيال لنحافظ عليها فأتى هؤلاء ليكون نصحهم أن نهديها للغرب بلا مقابل ! وكان نجاحهم النسبي ليس لأنهم برعوا فى التنفيذ بل لأنهم سلكوا طريق التسطيح والجهل وبرعوا فيه وساعدهم لجوء أغلب الحكومات العربية بالذات إلى النظم العلمانية وفتح الباب لمحاربة التيار الإسلامى المناهض فهؤلاء الزمرة لم تدخل لمعركة الفكر حجة بحجة ـ كما فعل المستشرقون ـ وإنما لجئوا إلى الآلة الإعلامية والإنفراد بها على ساحة الجماهير عبر عشرات المقالات والدراسات والتبشيرات بل والمسلسلات والأفلام التى تؤكد أن الحضارة معدنها أوربي , والتقدم فكرة أمريكية ! ناسين أو متناسين أن يقفوا قليلا أمام تصريحات الغرب وإعلانه لنواياه عبر ألف تصريح وتصريح ! ولعلنا نذكر ما فعله القائد البريطانى الذى دخل القدس ووقف أمام قبر صلاح الدين قائلا في شماتة : ( ها قد عدنا يا صلاح الدين ) ولعلنا نذكر زميله الآخر القائم بالأعمال في العراق في بداية القرن الماضي عندما قال في مذكرة رسمية : ( إننا لن نستطيع السيطرة ما دام هذا القرآن موجودا في أيديهم )[1] ولعلنا نقف أمام تصريح رونالد ريجان بعد سقوط الإتحاد السوفياتى : ( فرغنا من الشيوعية ولم يبق أمامنا إلا الإسلام ) ولعلنا نتذكر تصريح شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ورئيس إسرائيل الحالى عندما قال : ( إن أخطر ما يواجه إسرائيل اليوم هو المقاومة الإسلامية ! )[2] والسؤال الآن لأصحاب العقول .. كيف يمكن أن يفشل الغرب طيلة ثلاثة عشر قرنا فى نيل أهدافه بطمس الهوية والمرجعية الإسلامية عن الشعوب العربية سواء بالسلاح أو الحرب الفكرية , ثم يأتى تيار القومية ـ الذى يعتبر الصراع مع الغرب من أدبياته ـ ويُهدى للغرب أكبر أهدافه .. وبلا مقابل ! ؟! وكيف يتخلى تيار القومية فى بساطة مذهلة عن الأساس الوحيد الذى يرتكز عليه لإثبات حق العرب فى الأرض المحتلة , وهو الأساس الإسلامى الصرف القائم على فتح المسلمين للشام فى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟! ورغم أن قضية الصراع مع إسرائيل هى في الأصل قضية صراع دينى وحضاري بيننا وبين الغرب ورغم أن إسرائيل أقامها الغرب أصلا على مبدأ دينى وهوية دينية في المقام الأول , [3] ورغم أن إسرائيل أطلقت أخيرا مشروعها القائل بنص صريح بيهودية الدولة كأساس للمواطنة ورغم أننا هنا نعالج غياب البعد الدينى عند العرب وحدهم , لأنه بُعد موجود وفاعل بل ورئيسي فى الناحية الأخرى إلا أن اللعبة الغربية نجحت نجاحا تاما فى جعلها قضية وطن وساعد على ذلك ـ بجهل أو بقصد ـ تيار القومية العربية الذى ظن أنه بنسبة القضية لتيار القومية فإنه بذلك جعلها قضية العرب جميعا وقضية أمن قومى عربي , وتلك منتهى الخفة فى المعالجة ففضلا على فشل تيار القومية فشلا ذريعا منذ عام 1967 م , وانتهائه إلى الأبد عام 1990 بالعدوان العراقي على الكويت .. كان هناك أثر آخر أدى إلى قتل قضية الصراع العربي الإسرائيلي فى مهدها , السبب فى ذلك أن من فتح الباب للتفاوض والإعتراف بإسرائيل لم يكن يضع بذهنه مطلقا أهمية قضية القدس وإنما كان تركيزه على الفوز بدولة فلسطينية ترتكز أساسا على نتائج المفاوضات , حتى لو كانت ورقة القدس مجرد ورقة يمكنها أن تكسب ما على الطاولة إذا ما تم قبول تقسيم القدس بين العرب وإسرائيل بينما التوجه الإسلامى للقضية كان سيضع قضية القدس ـ كما هو واجب ـ فى إطارها الصحيح بعيدا عن أى نتائج تخص الأرض أو الضحايا , فلا فارق بين الضحايا التى وقعت فى فلسطين وبين الضحايا فى سائر الأقطار العربية التى بذلت أضعاف هذا العدد فى سبيل حريتها هذا بالإضافة إلى أن تيار القومية العربية الذى كان يتحدث عن فلسطين باعتبارها قضية أمن قومى عربي , أخذ فى التضاؤل حتى انتهى شعاعه تماما عام 1992 م وفى العام التالى وقف عرفات فى مفاوضات أوسلو ليعلن أن القضية الفلسطينية آن لها أن تعود إلى أصحابها الأصليين ! وهو نتيجة طبيعية لركام القومية الذى أعطى الأرض والجنس أساسا للحق , فامتلك عرفات حق التفاوض والتنازل كما يشاء باعتباره الممثل القانونى القومى لقضية فلسطين بعد أن أصبحت قضية قومية ! وهى نتيجة نالت منها إسرائيل من المكاسب ما لم يتحقق لها بالسلاح طيلة ثلاث حروب مع العرب ! فأول الكوارث أن إنتهاء تيار القومية .. دفع بالقضية إلى حيز التضييق حتى انقلبت من قضية عربية إلى قضية تخص فلسطين وأرضها وشعبها مع الوضع فى الإعتبار أن التيار القومى أصلا حصر القضية من قضية إسلامية تعالج ثالث أقدس مساجد المسلمين إلى قضية عربية فقط فضلا على أنه لم يكن بأجندته المبادئ الإسلامية التى تُعلى قيم الجهاد ولا تقبل الإخلال بالثوابت نتيجة الضعف أو قوة العدو , ولنا أن نتخيل الفارق الشاسع بين البعدين الدينى والقومى عندما نلقي نظرة واحدة على تجربة أفغانستان مع الإتحاد السوفياتى والولايات المتحدة الأمريكية بل وتجربة الشيشان التى قادها جوهر دوادييف وخلدت اسمه فى مواجهة القوة السوفيتية الغاشمة , وأيضا تجربة باكستان مع الهند , والتى وقفنا فيها إلى جوار الهند ـ كعرب ـ وتناسينا الإنتماء الإسلامى بسبب وجود التيار القومى الذى كان يعتبر الهند حليفا إستراتيجيا فى حركة عدم الإنحياز , ورغم ذلك نجحت باكستان نجاحا مبهرا بالبعد الدينى وحده |
بل إن حرب أكتوبر التى افتتحت بصيحة الله أكبر كان مسببها الأصلي والعامل الفاعل فيها هو البعد الدينى وحده, وهذا بشهادة كافة المشاركين فيها والذين ضربوا بإيمانهم أروع أمثلة البطولة , وذلك بعد أن تسببت النكسة وأحداثها في صحوة دينية طبيعية , ورغم أنها كانت صحوة مؤقتة أشعلت حرب أكتوبر وخبت بالفعل السياسي , إلا أن هذه الصحوة كانت إثباتا كافيا لأثر غياب البعد الدينى ولو أن مصر واجهت فى حرب أكتوبر عدوها بغير هذا العامل لما كان للمعركة الكبري هذا الدوى العظيم والمعجزات التى غيرت بعض المفاهيم العسكرية فى العالم وحتى اليوم ولو أن هذا العامل لم يكن هو الفاعل الأصلي لرأينا الصور المذهلة لبطولات أكتوبر تتكرر في مناطق أخرى , لكن ظلت هذه الصور بعيدة الأثر مرهونة بالعقيدة الإسلامية الصحيحة ولو لم يكن هناك أثر لغياب البعد الدينى مطلقا إلا أنه منح القيادة المصرية حق التفاوض المنفرد بعد الحرب ـ بسبب أن القضية أصبحت قضية قوميات ـ والإبتعاد , لكفانا كارثة ! ولولا تيار القومية ما استطاعت مصر تقديم قضية أرضها على قضية القدس , ولو كان تيار الإسلام هو الفاعل في المنطقة العربية بدلا من التيار القومى لما استطاع السادات أن يغير وجهته مستندا إلى الحجة الذهبية وهى أن عرب التيار القومى ظواهر صوتية تريد جر مصر إلى خراب مماثل لخراب يونيو 67 ورغم كل هذا البيان الواضح لمدى خطورة حصر القضية فى تيار القومية , إلا أنه وللأسف لم يقتصر الأمر على ذلك ! بل إستمر حاجز التضييق مع مفاوضات أوسلو التى هلل لها الإعلام العربي على نحو مضحك , رغم أن الشواهد كانت بادية الوضوح فى أن الجلوس إلى المفاوضات قبل الحصول على مكاسب واقعية على الأرض بقوة السلاح , لا تعتبر مفاوضات بل مهاترات , فالطرفان فى التفاوض ـ أى تفاوض ـ يتحدث كل منهما وهو يستند إلى ما يملكه فيفاوض به , فما الذى كان يملكه عرفات ـ غير الكلام الإنشائي طبعا ـ ليحتج به فى مفاوضات قوة لا مفاوضات مبادئ أى أنهم فشلوا حتى فى تطبيق جيد للتيار القومى ولم يستطيعوا الإتحاد على كلمة واحدة تستثمر نتائج حرب أكتوبر كنقطة قوة أمام نقاط القوة التى تتمتع بها إسرائيل فيحققوا مكاسب مرحلية منها فرفضوا الإنضمام للسادات ثم عادوا بعده منفردين كقوميين , تطبيقا لمبدأ ( كلٌ يغنى على ليلاه ! ) , وتفاوض كل منهم في طريق منفرد سعيا للمكاسب الشخصية في المقام الأول وضاقت القضية أكثر مع مسلسل التفاوض الرسمى لتصبح قضية غزة وأريحا بدلا من قضية فلسطين , وبالطبع إنتهت من الصورة نهائيا قضية القدس , ثم جاء عام 2000 م ليصبح التفاوض حول وقف المستوطنات لا إنشاء الدولة , ثم ضاق أكثر وأكثر حتى أتى شارون على البقية الباقية من قضية فلسطين بضربة واحدة عندما أعلن انتهاء الشرعية عن عرفات كممثل تفاوض وقام بالإنسحاب المنفرد من غزة تاركا عرفات يثير سخرية العالم أجمع وهو يحتج أمام الكاميرات على الإنسحاب المنفرد لإسرائيل من غزة !! وجاء مسلسل حماس فى الحكومة الإسرائيلية على نفس النسق لتنقلب دوامات الصراع من قضية مستوطنات ومفاوضات إلى قضية صراع فصائل عربي لا دخل لإسرائيل فيه , والتى وقفت تراقبه وتنتظر النتيجة الطبيعية له وهى خسارة الطرفين لصالح إسرائيل , بالضبط كما وقفت الولايات المتحدة قبل خمس عشرة سنة تنظر للحرب المستعرة بين العراق وإيران فتتركها دون تدخل بقرار وقف إطلاق نار معتاد من مجلس الأمن لمدة ثمان سنوات كاملة , طحن فيها الخصمان بعضهما البعض , ووقف وزير الخارجية الأمريكى وقتها يقول : { هذه هى المعركة الوحيدة التى نتمنى فيها ألا يخرج منها منتصر بل تنال الخسارة من الجانبين } وقد كان , والمثير للسخرية المريرة أن تصريح وزير الخارجية الأمريكى لم يطلقه بجلسة خاصة أو يسجله فى دفتر أوراقه السرية بل قابله علنا فى الصحف , ومع ذلك استمرت الحرب وتورطت إيران بفضيحة ( إيران ـ كونترا ) التى موّلت فيها إسرائيل الجيش الإيرانى بالسلاح ! وبتمويل عربي ! في مجاملة لإدارة بوش الأب التي أرادت تنفيذ العملية بتمويل خارجى بعيدا عن رقابة الكونجرس فتكفلت بمبلغ العملية دولة عربية كبيرة [1] ورغم التصريح استمرت الحرب , ولا غرابة فى ذلك , فالغرب مقتنع إلى الثمالة أننا شعوب بلا ذاكرة , وجماجم بلا عقول ! ويثق أن لنا عيون لا تقرأ , وإن قرأت لا تفهم , وإن فهمت لا تدرك , وإن أدركت لا تتصرف بناء على هذا الإدراك ! ثم جاءت كارثة غزة الأخيرة لتضيق القضية أكثر وأكثر فتصبح قضية حماس فى غزة ! ثم تم الإختزال أكثر لتصبح القضية قضية المعابر بين مصر وغزة , ثم تضيق أكثر فتصبح قضية معبر رفح ! وإذا نظرنا للساحة الآن بعد كل هذه الإختزالات الرهيبة التى سحقت قضية الصراع سحقا , نجد أن أفواه المحذرين من هذا الضياع كلت وملت من لفت النظر لضيق الأفق الذى يحكم الجماهير ـ كما يحكم المفكرين ـ ويدفعهم للمضي قدما فى السيناريو الإسرائيلي بالحرف فتقول : { حدثونا الآن عن غزة , عن القضية الحالية ! } وها هى الجهود تتوالى لحل معضلة غزة ! وغاية المراد من رب العباد , والتى يتمناها العرب الآن أن ينصلح الحال بين فتح وحماس وتعود حماس لممارسة مهامها على غزة وأريحا معا وأن يتم معالجة آثار الحرب الأخيرة ثم ضمان أن إسرائيل ستلتزم بعدم تكرار الإعتداء العسكري مع وعد صارم من حماس بمكافحة الإرهاب ! ( وهو مصطلح صكه الغرب وأجبر العرب على الإلتزام به لوصف أعمال المقاومة المسلحة ! ) وأصبحت من قبيل النكات السخيفة أن نتذكر أشياء وتعبيرات مثل , القدس , وقضية الحفر تحت أساس المسجد الأقصي , وقضية اللاجئين , وحدود 1967 م ومن قبلها حدود 1948 م ! الهوامش : [1] ـ حرب الخليج ـ محمد حسنين هيكل ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر |
وهذه هى النتيجة الطبيعية لإهمال البعد الدينى فى الصراع , والتخلى طواعية عن حضارة أربعة عشر قرنا تراكمت فيها جذور الحضارة الإسلامية , وذلك فى سبيل الوقوع تحت تأثير المذاهب الإنسانية وثقافة الإلحاد المستتر التى حكمت فترة ظهور تيار القومية فى منتصف الخمسينيات , ولا يفوتنا بالطبع أن نشير إلى دفاع القوميين عن أنفسهم عن طريق تشويه صورة الإسلام والحضارة الإسلامية , وتعمد حصر الإسلام في بوتقة الإرهاب أو التخلف الحضاري أو حصره في جماعات معينة , فيكون دفاعهم مبنيا على أن الدعوة للعودة للإسلام هى ترسيخ لثقافة الإرهاب ورفض الآخر ! ولسنا ندرى في الواقع عن أى إرهاب ورفض يتحدثون وقد كانت المعتقلات عبارة عن سلخانات بشرية للمعارضين في العهد القومى البائد ! وبلغ بهم رفض الآخر أن القوميين ـ حتى يومنا هذا ـ يعتبرون كل من يخالفهم عميل للمخابرات الأمريكية ! ولسنا في حاجة للرد على أمثال تلك الدعاوى فأول من يعرف تهافتها هم مطلقوها من القوميين أنفسهم , لأن معظمهم من كبار المثقفين العارفين بطبيعة الحال أى إسلام نقصد .. وإلى أى حضارة نشير ! وعملا بثقافة التغريب التي تروق لهم فلن ندلهم على مصادر التاريخ الإسلامى ليعرفوا أى حضارة هى تلك التي ندعو لترسم طريقها , بل يمكننا أن نعطى لهم مصادر التاريخ الغربي التي اعتبرت النبي عليه الصلاة والسلام أكثر شخصيات العالم تأثيرا عبر التاريخ , واعتبرت عمر بن الخطاب أنبغ حاكم في العالم .. واعتبرت خالد بن الوليد واحد من كبار العسكريين في تاريخ العالم بل من الممكن أن ندلهم على التاريخ القريب حيث كانت الخلافة العثمانية هى القوة العظمى المنفردة على العالم أجمع طيلة ثمانية قرون , وتمكن الخلفاء العثمانيون من اجتياح أوربا والسيطرة عليها كل هذه الفترة الزمنية , وكانت الكنائس في قلب أوربا تصمت أجراسها إذا جاء رسول من خليفة المسلمين إلى أحد حكامها ! فما الذى غنمناه يا ترى من تيار القومية ؟!! لا شك أن القارئ الكريم أدرى بالجواب , فالإسلام الذى ندعو للعودة لأصوله هو إسلام العوام , هذا الذى قال فيه السلف الصالح ( اللهم إنى أسألك إيمانا كإيمان العوام ) فلسنا ندعو للوحدة الإسلامية كأيديولوجية سياسية تخضع لجماعة معينة أو مذهب محدد أو تيار سياسي محكوم , فالإسلام السياسي الذى تورط فيه الإخوان المسلمون وسائر التنظيمات الإسلامية التي ادعت الإنتساب إليه , هذا إسلامهم هم وليس الإسلام الذى نعنيه , لأن الإسلام كان عند هذه التنظيمات ـ على اختلاف ألوانها ـ وسيلة .. مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة , بينما الإسلام عندنا غاية , غاية ليس بعدها بعد .. غاية لا ترتهن بتنظيم يتخذ له مسمى معين أو حزب محدد بل يشمل الجماهير البسيطة التي عرفت ربها فأطاعته بجوارحها تلقائيا , ورفضت فطرتها الطبيعية أى تغيير في عقيدتها , غاية ترتهن بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وثوابت الإسلام من غير تفريط ولا إفراط , غاية تتطلع إلى الثقافة العربية والآداب العربية والفكر الإسلامى العريض الذى حمل مشاعل النور في شتى المجالات إلى سائر أنحاء العالم قبل أن يلفظه محدثي السلطة ! فالإسلام الذى ندعو للعودة إليه هو المبادئ والقيم العامة التي حددها الله سبحانه وتعالى ـ لا تلك التي حددها ماركس ولينين وآدمز وسارتر ـ للبشر ودعاهم لمراعاتها في العموم والتصرف في الخصوصيات كما يشاءون , فالإسلام عندنا هو برواز عام يشمل المبادئ العريضة للعقيدة الإسلامية التي تخضع لها أى قوانين نضعها لتسيير شئون دنيانا , فليس معنى أننا ندعو للإسلام أننا ندعو لنظام حكم معين مثلا فليكن نظام الحكم وفق ما تشاء الجماهير , لكن المهم أن يكون ولى للأمر يلتزم في سن القوانين وفى سياسة الدولة بما تقره المبادئ العامة للدين الإسلامى , وفق القاعدة الفقهية العريضة التي تقول ( الأصل في الأشياء الإباحة ) وقاعدة ( أنتم أعلم بشئون دنياكم ) هذه المبادئ التي تخلينا عنها طواعية استجابة للقومية ومذاهب القومية والإشتراكية , ومن أغرب أوجه التناقض في هؤلاء القوميين أنهم يحتفون بشدة بالأمم التي تقدس تاريخها ومبادئ دعاتها في حين أنهم لا يطبقون هذا الأمر على أنفسهم , رغم الفارق الشاسع بين مبادئ الإسلام ومبادئ تلك الأمم , فنجد مثلا محمد حسنين هيكل في كتابه ( أحاديث في آسيا ) يشيد أيما إشادة بالطاغية الصينى ماو تسي تونج ويشير في إلحاح مستفز إلى أنه إله في الصين الآن !! ويعتبر مبادئ ماوتسي تونج وعباراته عبارة عن إلهام تسبب في تفوق الشعب الصينى عندما التف حول هذه الشعارات وطبقها بعمل ودأب وجهد وصبر ثم يزيد في الإشادة عندما يستشهد هو نفسه بأحد عبارات ماو تسي تونج ويأخذها كمدخل لأحد موضوعات كتابه , وكانت العبارة تقول , ( احملوا السلاح دفاعا عن حدودكم .. وتأملوا ما وراء هذه الحدود .. وافهموا ) ولم يسأل هيكل نفسه ـ وهو الحصيف الخبير ـ كيف أعجبك تمسك الصينيين بعقيدتهم الوثنية في نفس الوقت الذى تعتبر فيه العقيدة الإسلامية بشكلها العام عبارة عن قيود ضد الحضارة ! وكيف أعجبتك عبارات ماوتسي تونج ولم تعط لنفسك الفرصة لتأمل آيات كتاب الله ! وأحاديث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام ! وأقوال الصحابة والتابعين ! رغم أن تاريخ هؤلاء العميق منذ ظهور الإسلام تاريخا كان ـ ولا يزال ـ يعتبر أسطورة الأمم ! فما الذى يساويه ماوتسي تونج أمام هؤلاء ؟! ولماذا اعتبرت الإستشهاد بماوتسي تونج قيمة حضارية , بينما تعتبر الإستشهاد بدليل من القرآن والسنة واتخاذه أساسا في القضايا .. عبارة عن تخلف وتمسك بالأسمال البالية ! والعبارة التي أعجبتك من ماوتسي تونج , ومؤداها ألا ينطلق السلاح إلا دفاعا عن قضايا الوطن والحدود , وتقتصر المعالجة بعد ذلك على مجرد التأمل فلماذا لم تنقل هذه الحكمة إلى عبد الناصر قبل أن يتورط في مغامرات اليمن ! |
والأهم من ذلك : لماذا لم تعط نفسك الفرصة للبحث عن أصل هذه الحكم في الحضارة الإسلامية وهى موجودة بعشرات الصياغات في آيات القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح , فقد بوب الفقهاء بابا كاملا في الجهاد مؤداه ( إذا ديس شبر من أرض المسلمين فالجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة ) وإذا تأملنا نظام الشورى الإسلامى والديمقراطية التي تعتمد على القرآن والسنة لوجدنا أنه من أدبيات السلطة في الإسلام أن الحاكم خادم للجماهير يتقاضي راتبا تحدده له صفوة الأمة ويخضع للحساب العسير منها بل ومن أفراد الشعب والبسطاء أيضا ولعلنا نستدعى للذاكرة قول عمر بن الخطاب ـ وهو أعدل الخلفاء بعد أبي بكر ـ قوله ( ماذا تقولون إذا ملت برأسي هكذا { يعنى الإنحراف عن الطريق القويم } ) فقال له أحد الأعراب : ( إذا نقول بسيفنا هكذا ) فرد عمر : الحمد لله الذى جعل من بينكم من يقوّم اعوجاجى فهذه الأمثلة لم يصغها المؤرخون لكى تصبح حدوتة قبل النوم ! بل لكى تصبح مثلا ومثالا لما ينبغي أن تكون عليه دولة الإسلام , وهذه المبادئ هى الأولى بالإتباع بدلا من مبادئ كارل ماركس وأنجلز وأقوال ماو تسي تونج وأضرابه من ملحدى الشيوعية ! فهى مبادئ الوحى الذى هو تنزيل من عزيز مقتدر , والأخطر من ذلك : أن هناك مرحلة من حياة الأستاذ هيكل توقف فيها مليا أمام ثراء الحضارة الإسلامية , ومع ذلك لم يتراجع , فمع غرامه الشديد بالإشتراكية والقومية ذكر أنه طالع عبارة لأحد الصحابة ( أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ) وهذه العبارة التي أعجبته كانت في نظره حاملة للمبادئ الإشتراكية بصورتها المثلي , رغم أن عمر هذه العبارة أربعة عشر قرنا , هذه العبارة التي اعتبرها هيكل أصل الإشتراكية قبل مجيئ ماركس بأربعة عشر قرنا تقول ( ثلاث للناس جميعا .. النار والماء والكلأ ) وقال هيكل تعليقا عليها أنها توضح تأميم الدولة لوسائل الإنتاج الرئيسية ( الطعام والمياه ومصادر الطاقة ) قبل خروج النظرية الإشتراكية ب 14 قرن [1] ومن المؤسف والمؤلم أن أستاذا ومفكرا في حجم هيكل وعبقريته لم يلتفت لنقطتين بالغتى الأهمية : الأولى : أن العبارة ليست من أقوال الصحابي أبي ذر ! بل هى حديث للنبي عليه الصلاة والسلام وأبو ذر هو راوى هذا الحديث فحسب ! الثانية : أن الاشتراكية في الإسلام تختلف عن اشتراكية ماركس بفارق يستوعب المسافة من الأرض إلى السماء , لأن اشتراكية ماركس كانت تنكر حق الملكية الفردية بتاتا , وتجعل الدولة هى المسيطرة على السوق الإنتاجى سيطرة تامة , بينما اشتراكية الإسلام أوصت بنظام اقتصادى لا مثيل له وهو ضرورة تحكم الدولة في وسائل الإنتاج الرئيسية التي تتحكم في القوت الرئيسي لجماهير الناس وعدم منح الفرصة لجشع التجار أن يتحكم في المواد الضرورية للمجتمعات لكنها في نفس الوقت تشجع الإستثمار والتجارة الحرة في ظل ضوابط الإسلام , فيقول النبي عليه السلام ( تسعة أعشار الرزق في التجارة ) وكان معظم كبار الصحابة من التجار الكبار , كعبد الرحمن بن عوف وأبي بكر وعثمان بن عفان وهكذا تفادى النظام الإقتصادى الإسلامى عيوب الإشتراكية المتمثلة في قتل الطموح الفردى بتأميم جميع الممتلكات ذات الطبيعة الإنتاجية , مما أدى إلى الركود الإقتصادى الهائل الذى سقط بسببه الإتحاد السوفياتى , وفى نفس الوقت تفادى النظام الإسلامى عيوب الرأسمالية التي فتحت الباب على مصراعيه أمام الملكية الفردية وجعلت نظام السوق حرا إلى حد الفوضي فنجم عن ذلك تحكم فئة قليلة من أباطرة الإقتصاد في أقوات الناس ومعاشهم وأصبح أصحاب المليارات هم أصحاب الرأى في الدولة فعليا واختفت سلطة الدولة عليهم مما أدى للأزمة الإقتصادية التي يعانيها الغرب الآن بعد انهيار نظام البنوك الربوى في أسواقهم فلنا أن نتخيل لو أن هيكل ـ وهو في موقعه الفريد بقرب السلطة في عهد عبد الناصر ـ اعتمد الفكر الإسلامى لا الإشتراكى كأساس لتنظيم الدولة , ما الذى كان يمكن أن يحدث ؟! لا شك أن جمال عبد الناصر ساعتها كان سيملك من المكانة أضعاف ما امتلكه فعليا في تلك الفترة , ليس هذا فحسب , بل كانت المنطقة العربية ستتحول لقوة عظمى فاعلة في النظام العالمى لأن اعتماد الفكر والعقيدة الإسلامية أساسا لمنهج الحكم كان سيقف أمام أى محاولة مظهرية للزعامة , فالإسلام لا يعترف بالأقوال بل بالأفعال فحسب , وبالتالى .. كان يمكن لنظام جمال عبد الناصر أن يبنى فعلا وعلى أساس متين وحدة بين دول المنطقة العربية قائمة على العمل والجهد والكد والتطبيق الفعلى لمبادئ القوة لا التطبيق المظهرى بالشعارات والخطب الرنانة التي لا أصل لها في الواقع ! فكارثة نظام القومية جاءت بسبب أنه نظام اعتمد صاحبه على ضرورة خلق زعامة عامة له على المحيط العربي ولأن الزعامة يلزم لها أسباب من القوة لم تكن متوافرة لمصر في ذلك الحين فلم يتوقف حتى يبني تلك القوة تدريجيا , بل عمد إلى الحصول على الزعامة اعتمادا على التظاهر بالقوة , فلما اصطدمت الظواهر ـ ذات الأساس المعدوم ـ بحقائق الواقع , هوت كبيت من رمال ودفنت تحتها الواقع العربي الكسير ! الهوامش : [1] ـ مدافع آية الله .. محمد حسنين هيكل ـ دار الشروق |
وكانت النتيجة أن ترسخت منذ عهد عبد الناصر وحتى اليوم ظواهر في العالم العربي أطاحت به من معادلة القوة العالمية تماما وهذه الظواهر لم يكن العالم العربي يعرفها حتى في عهد الإحتلال الغربي نفسه ! وهذه الظواهر هى محصلة الأسباب الحقيقية لما جرى في نكسة عام 1967 , ومن التسطيح بمكان أن نظن بالنكسة أسبابا فرعية كحالة الجيش المصري وقتها أو التفوق النوعى الإسرائيلي أو الدعم الأمريكى , فهذه العناصر جميعا تمكن الجيش المصري في أكتوبر من دحرها كاملة ! رغم أن الجيش الإسرائيلي في أكتوبر كان أقوى بمراحل عن حالته في يونيو 67 ويكفي أن إسرائيل لم تحصل على طائرات الفانتوم الأمريكية إلا بعد نكسة 67 وليس قبلها , وإسرائيل لم تستخدم السلاح الأمريكى المتفوق في النكسة بل استخدمته فقط في أكتوبر , والظرف الدولى أيام أكتوبر كان لصالح إسرائيل بأفضل مما كان لها عام 67 , لتزايد النفوذ الأمريكى في العالم ومعاناة الإتحاد السوفياتى من حالته الإقتصادية التي أثرت سلبا على مكانته في معادلة الصراع العالمى ومع هذا تفوق الجيش المصري باكتساح ولم تعطله هذه العوامل ومن هنا نخلص إلى أن كل ما قيل عن تلك الأسباب الفرعية ليس في حقيقته أسبابا بل هو محض نتائج للأسباب الحقيقية التي أدت إلى كارثة يونيو 67 , فالتقصير العسكري الحاصل في يونيو على الجانب المصري لم يكن سببا في النكسة بقدر ما كان نتيجة طبيعية للأسباب التي وقفت خلف حالة المجتمع المصري والعربي في تلك الفترة .. وبداية ترسيخ ظواهر جديدة نسفت روح الإرادة والجدية في المجتمع العربي ومسخته وأبعدته عن خطى التطور .. وفى حديثنا عن هذه الظواهر لن نعتمد إلا على المصادر الناصرية نفسها , ولن نأت بأى واقعة إلا إذا كان الناصريون هم رواتها وموثقيها عبر كتابات مفكريهم ومذكرات قادتهم ومن هذه الظواهر : أولا : ظهور وتنامى ظاهرة الحكم العسكري وحكم الفرد عقب استقلال أغلب الأوطان العربية بحركات جيوش لا ثورة شعوب , وخطورة الانقلابات العسكرية تكمن في أنها تستبعد من ذهنها صورة الإرادة الشعبية تماما لأن العقلية العسكرية قائمة على إصدار الأوامر وطاعتها المطلقة , مما أدى لترسيخ هذه الظاهرة ـ حتى في الدول الملكية ـ وعاش العالم العربي منذ ذلك الحين وحتى اليوم رهنا لقبضة حكم حديدية فعلت بشعوبها أعتى مما فعلت به جيوش الإحتلال الأجنبي , مثل أفاعيل نظام عبد الناصر بمعارضيه ـ بالذات من الإخوان المسلمين ـ كذلك أفاعيل نظام حافظ الأسد بالإخوان المسلمين في سوريا لدرجة أنه قام بضرب معقل الإخوان في مدينة حماة بالدبابات في مجزرة لم ترتكبها حتى قوات الإحتلال البريطانى ! ثانيا : ظهرت إلى السطح طموحات الزعامة لدى كل حاكم عربي بمجرد ظهور زعامة عبد الناصر التي أثارت الغيرة مما أدى إلى اتباع معظم الحكام سياسة التظاهر بالنضال لمحاولة حصد الشعبية , مما جعل الفوارق هائلة بين الشعوب ومعاناتها والحكام وأحلامهم , ولم يعد الحكام في العالم العربي يلقون أهمية إلى شعور الجماهير مهما تسرب للإعلام بعض تصرفاتهم , بل استمرت بطانة كل حاكم تصور له أنه يسكن في قلوب الشعب بمقعد دائم شبيه بمقعد الولايات المتحدة في مجلس الأمن ! هذا فضلا على أن ظاهرة الغيرة والتنافس على الزعامة المظهرية أفرزت ظاهرة التبادل السوقي للشتائم بين الحكام العرب وبين بعضهم البعض لدرجة لا يمكن أن تجدها حتى في أحط المناطق الشعبية ! ومن يعود إلى أرشيف الصحف وإذاعة صوت العرب في تلك الفترة ويتابع الصراعات الإعلامية بين مصر والسعودية أو بين مصر والأردن أو بين مصر والعراق أو بين مصر وسوريا يجد شتائم بالأم والأب ومعايرات بالأصول العائلية على ألسنة حكام المنطقة في خطابات إذاعية معلنة !! ثم بعد هذا تعزف الإذاعات ألحان القومية العربية وأحلام الوحدة !! ثالثا : ظهرت إلى الوجود في العالم العربي ظاهرة الإعلام الموجه , بعد أن قام عبد الناصر بتسخير الإعلام له بأعتى مما فعله جوبلز وزير الدعاية النازية لهتلر , وبالتالى صار من المسلم به أن الإعلام الرسمى وظيفته الرئيسية هى تجميل صورة الحاكم وتصويره على أنبغ عصره .. بغض النظر عن حقيقة حكمه أو نظامه , وقد تم هذا بعد تأميم الصحف وانتزاع ملكيتها من أصحابها الأصليين وإحالة الملكية إلى الدولة ممثلة في الإتحاد الإشتراكى , وعليه أصبح الصحفيون ورجال الإعلام مجرد موظفين يخضعون لرقابة عسكرية معلنة يقوم بها مكتب الرقيب لا يسمح بشاردة أو واردة حتى لو كانت كلمة عادية عابرة أو نكتة !! وقد تم اعتقال عدد لا محدود من الكتاب والصحفيين وفُصل بعضهم الآخر وتشريدهم نتيجة لنكتة عابرة قالها أحدهم في جلسة خاصة ـ تم تسجيلها قطعا ـ أو بسبب مقال يَــشْـتم فيه الرقيب معارضة لظاهرة من ظواهر الفساد في الحكم , ويكفينا أن نمثل لحادثة واحدة تخص محمد حسنين هيكل وهو زعيم الناصرين المبرّز , فقد وجدناه يروى واقعة اعتقال الدكتور جمال العطيفي وهو أستاذ جامعى وقانونى بارز وعالم فذ , كان يعمل في الأهرام مع هيكل , وجمعته جلسة خاصة مع بعض رفاقه وتناولوا في هذه الجلسة الخاصة تحليلا لملابسات قرار عبد الناصر بتعيين هيكل وزيرا للإعلام , وثار النقاش حول ما إذا كان هذا القرار تمهيدا لنزعه من فوق عرش الأهرام الذى يشغل فيه منصب رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير , وبالطبع احتوت الجلسة على بعض الإنتقادات لعبد الناصر وللإتحاد الإشتراكى , وتم تسجيل الجلسة بأجهزة التصنت التي تبثها المباحث في كل مكان وتم رفعها لعبد الناصر ليصدر قراره باعتقال الثلاثة فورا !! وهنا ثار هيكل وقاطع عبد الناصر حتى تدخل السادات بينهما بالصلح وذهب هيكل لمقابلة عبد الناصر وتحدثا حديثا طويلا يصفه هيكل بكل معانى الإجلال والإكبار ثم يثنى على عبد الناصر في أنه أصدر قراره بالإفراج عن العطيفي ورفاقه ! والسؤال هنا : كيف فات على هيكل أنه لم يعترض على مبدأ الإعتقال ومبدأ التصنت على الحياة الخاصة التي كان النظام يتوسع فيها في ذلك العهد ويفرض الرقابة على الشعب بأكمله ! وكيف فاته أن يعترض على مبدأ كتم الحريات لهذه الدرجة المهينة التي تسمح باعتقال أستاذ جامعى في قامة العطيفي لمجرد أنه أبدى اعتراضا سياسيا عابرا على إحدى قرارات الرئيس ! والأهم من ذلك .. كيف يعتبر هيكل تدخله لإنقاذ العطيفي أمرا محمودا في نفس الوقت الذى عاش فيه صحفيو مصر ومفكروها حقبة إرهاب مستمرة ودخلوا المعتقلات دون أن يجد أيا منهم هيكل آخر يتدخل بنفوذه فينقذهم !! رابعا : صدّرت مصر للعالم العربي أسلوب السيطرة البوليسية على الجمهور وضغط المعارضين أو الخلاص منهم مما كثف من ثقافة الخوف الجماهيري , وأصبحت الجماهير المصرية ـ ومن بعدها الجماهير العربية ـ أسيرة لعقدة الخوف من القتل أو الإعتقال بعد أن كانت هذه الجماهير ـ تحت نير الإحتلال ـ تملك إرادتها وتملك فرضها عبر زعمائها الشعبيين , ولعلنا نذكر تجربة عرابي وتجربة مصطفي كامل وتجربة سعد زغلول وغيرها من التجارب التي أحيت يقظة الحركة الوطنية الشعبية على أساس حقيقي لا أساس موجه ومبرمج من الإعلام خامسا : كانت مصر في ظل نظام عبد الناصر هى صاحبة السبق في اختراع نسبة 99.99 % , مما جلب لنا سخرية العالم أجمع على هذه الشعوب التي يقبل حكامها هذا النفاق الفج من السلطة ويصورون أنفسهم آلهة تحظى بالإجماع المطلق من شعوبها ! بينما خلق الله البشر على الأرض وفى طبيعتهم سنة الإختلاف ولم يحدث أن أجمعت أمة من الأمم بمثل هذه النسبة على شيئ ! بل إنهم لم يجمعوا على توحيد الله سبحانه وتعالى وهو خالقهم , وظل هناك في كل أمة من يكفر به وكان هيكل ـ وهو على رأس تحرير الأهرام ـ هو الذى روج لهذه النسبة الخيالية في أول انتخابات خاضها جمال عبد الناصر على مقعد رئيس الجمهورية , واعتبرها إنجازا غير مسبوق في التاريخ !! ولم يستح النظام أن يعلنها رغم أن قطاعات عريضة من الشعب كان مؤكدا أنها ستقول لا , وأقلها جماهير ملاك الأراضي مثلا وجماهير الإخوان المسلمين وحزب الوفد صاحب الشعبية الكاسحة , الذى تم حله وتحديد إقامة زعيمه النحاس باشا فكيف ساغ لهيكل أن يمرر هذه النسبة وهو يعلم علم اليقين أن هذه القطاعات لابد لها من أصوات !! سادسا : كانت مصر عبد الناصر هى التي اخترعت أيضا ظاهرة المجالس النيابية الموقرة التي لا تكف عن تكرار الموافقة على أى إشارة تصدر من أصغر اصبع للحاكم , وظهرت للوجود معارضة فريدة في تلك المجالس وهى المعارضة المستأنسة , وشهدت البرلمانات العربية أعضاء في مجلس الشعب يبدو على سيماهم أنهم في الأصل من رجال المباحث ! وبالطبع كانت جلسات البرلمان المصري ( مجلس الأمة ) تشهد التسبيح بحمد النظام ولو كانوا بصدد مناقشة كارثة حقيقية , ولهذا كان طبيعيا أن يجتمع مجلس الأمة بقيادة أنور السادات لمناشدة الرئيس عبد الناصر بالعدول عن قرار التنحى عقب كارثة 67 م .. وعندما قبل الرئيس هذه المناشدة نقلت عدسات الإعلام صورة لأحد أعضاء المجلس الموقر وهو يرقص فرحا على تراجع الرئيس عن قرار التنحى !! |
سابعا : ظهرت فى العالم العربي لأول مرة ظاهرة الإنتخابات لمدد متكررة للمناصب الرئيسية في الدولة وعلى رأسها منصب رئيس الجمهورية , وانتهت إلى الأبد ظاهرة تبادل السلطة السلمى وأصبح العالم العربي يعرف رئيس الجمهورية الراحل لكنه لم يعرف أبدا رئيس الجمهورية السابق ( إلا إذا كان الرئيس السابق ترك منصبه بناء على انقلاب عسكري ) كما ظهرت تبعا لهذه الظاهرة ظاهرة أخرى أشد سخرية وهى ظاهرة الجمهوريات الملكية , فحكم سوريا بشار الأسد نجل حافظ الأسد بعد أن قاموا بتغيير الدستور خلال ساعات ليسمحوا لبشار الأسد بالترشيح لمنصب الرئيس ! وعلى إثر ذلك يسعى جمال مبارك في مصر والقذافي الإبن في ليبيا وبوتفليقه شقيق الرئيس الجزائري الحالى عبد العزيز بوتفليقة وهذه الظاهرة ـ كما قلت ـ أسس لها عبد الناصر , فهيكل يذكر في كتابه ( خريف الغضب ) ملابسات تعيين السادات نائبا في نهاية عصر عبد الناصر فيحكى عن طريقة تعيين عبد الناصر للسادات فيقول , إن عبد الناصر اختار السادات نائبا قبيل رحلته للمغرب بعد النكسة وكانت مبررات هذا القرار كما حكاها عبد الناصر لهيكل أنه آن الأوان لأنور السادات أن يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية لأنه الوحيد في مجلس قيادة الثورة الذى لم ينل نصيبه من هذا المنصب !! أى أن هيكل يروى ـ ببساطة مذهلة ـ كيف أن عبد الناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة اعتبروا مصر إقطاعية كبري لهم ـ وهم الذين أقاموا الدنيا على الإقطاع ـ وقسموها فيما بينهم وأصبحت السلطة على الدولة مرهونة بسياسة الدور ! لا بالكفاءة ولا بالقانون ! ما الذى يمكن أن يعلق به المرء على هذا الكلام ؟! الواقع أنه يحضرنى الآن واقعة حدثت في أثناء تولى النحاس باشا لرياسة الوزارة , وقام الملك بتعيين أحد كبار الموظفين ـ دون علم النحاس ـ ككبير لموظفي القصر الملكى نفسه أى أن هذا الموظف في الأصل يخص القصر الملكى وإن كان القانون يحتم تعيينه عن طريق الحكومة فأقام النحاس باشا الدنيا ولم يقعدها حتى تم له ما أراد والتزم الملك بالقانون ! ثامنا : ظهر على الساحة السياسية العربية لأول مرة ظاهرة ارتباط سياسة الدولة بمزاج الحاكم وتوجهاته ! ففرض عبد الناصر النظام الإشتراكى في مصر وتغنت الجماهير المأجورة والمغيبة ببستان الإشتراكية ومحاربة الإمبريالية والإستعمار .. إلى غير ذلك من تعبيرات المرحلة !! ولما جاء السادات , ولكونه صاحب توجه غربي آخر يختلف عن الإشتراكية واختار الرأسمالية , انقلبت الساحة في الحال للعزف على بستان الرأسمالية ومهاجمة السوفيات الملحدين !! ولنا أن نتحسر على النظام البرلمانى المصري في ظل الإحتلال الإنجليزى نفسه , والذي كان مقياسا لحرية الرأى والعمل رغم كل مساوئ العهد الملكى لكن الملك نفسه لم يكن يجرؤ على مخالفة الدستور ! .. صراحة على الأقل وكانت ظاهرة استقالة الوزارات من الظواهر المعروفة في مصر إذا مس أداء أى وزارة أى تقصير أو إهمال ! وعندما انقلب مكرم عبيد باشا على الوفد وصنف كتابه ( الكتاب الأسود ) وذكر فيه ما اعتبره عشرات من جرائم استغلال النفوذ ارتكبتها حكومة الوفد ! أثار الكتاب أزمة كبري عصفت بالحكومة رغم الشعبية الساحقة للنحاس ! ولو أننا فتحنا الكتاب الأسود اليوم وطالعنا ما اعتبره مكرم عبيد جرائم كبري , لوجدنا أن الكتاب الأسود ينقلب إلى كتاب ناصع شديد البياض إذا قارناه بأفعال أصغر موظف حكومى منذ عصر الثورة وحتى يوم الناس هذا !! وكان الشعب هو أساس الحياة السياسية , لم يكن الشعب مشاركا فحسب , بل كان يملك حكومته ولا تملكه , ويكفي للتدليل على ذلك أن الوفد ظل غصة في حلق الملك فاروق والإحتلال الإنجليزى بسبب أن يستند إلى شعبيته الحقيقية بين الجماهير فحسب ! فلم يكن الوفد يمتلك قوة عسكرية أو أى نوع من ألوان القهر لكنه كان يملك مشاعر الناس , فالجماهير في تلك الفترة كانت ترزخ تحت الإحتلال , لكن إرادتها الحرة أبدا لم تكن تحت سيف القهر والإذلال ! وكان الوزراء في الحكومات , وزراء بمعنى الكلمة , لا كما هم الآن منذ عصر القومية مجرد سكرتارية لرئيس الجمهورية مهمتها العمل بناء على توجيهات السيد الرئيس !! كان كل وزير شديد الإعتزاز بمكانه ومكانته لا يقبل تدخل أحد في محيط اختصاصه أيا كانت الظروف , وكانت المعارضة عبارة عن ميزان العدل الذى يضبط الأداء , فكان من المستحيل أن يتخذ أى سياسي قرارا يخص أمته لمجرد الرغبة أو لمجرد القرار ! ومضي الزمان وجاء القوميون لتخرج المظاهرات الموجهة في أحداث 15 مارس في مصر تنادى بسقوط الديمقراطية ! هل يمكن لأى عاقل أن يستوعب خروج مظاهرات شعبية تهتف بسقوط الديمقراطية والحياة النيابية ! وهى المظاهرات الموجهة ـ كما سبق القول ـ والتى أخرجها مجلس قيادة الثورة ردا على المظاهرات التي خرجت لتأييد محمد نجيب في نيته إعلان عودة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته ! تاسعا : أما أخطر الظواهر التي نجمت عن النظام القومى الإشتراكى بشكله القمعى الذى تم تطبيقه في مصر وصدرته إلى العالم العربي , فكان ظاهرة الحاكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !! والتى استتبعت اختصار الأوطان في شخص الحاكم , فمصر كانت صاحبة السبق أيضا في هذا , والذين يعيبون على منافقي عصر الرئيس مبارك الذين يهتفون الآن أن مصر ليس فيها من يصلح للرياسة إلا الرئيس مبارك ! عليهم أن يعودوا للتاريخ ليعرفوا أنها ظاهرة قومية في الأصل , فقد دشن الإعلام الناصري لظاهرة اعتبار عبد الناصر نصف إله , وبأن وجوده هو سبب الحياة لهذا الوطن , وأن غيابه يعنى أن الأمة كلها ستعانى الضلال بعده ! وقد عبر أحد عوام الجمهور السورى عن هذا الأمر بقوله :[1] ( عبد الناصر .. أبو خالد .. يا سلام .. هذا هو الذى أعبده بعد الله ! ) وسبحان الله .. أمة الإسلام التي لم تتوقف فيها الحياة لوفاة النبي عليه الصلاة والسلام نفسه ! جاءنا في آخر الزمان من يقول أن مصر بلا عبد الناصر لن تكون مصر باعتباره الزعيم الملهم ! وقد ظهر هذا جليا واضحا في عشرات الظواهر لعل أبرزها ما حدث عندما استشار عبد الناصر وزير خارجيته الشهير د. محمود فوزى عن الطريقة المناسبة التي تتبعها مصر إذا قامت القوات الأمريكية بالتدخل في لبنان , فرد الدكتور فوزى : إن هذا أمر فوق حدود الإختصاص وأنه يحتاج إلى رؤية قائد ملهم لا إلى رؤية وزير !! ومن العجيب أن هيكل بعد هذا عاب على السادات قوله أنه يفضل اللجوء للاستراحات البعيدة كى ينفرد بنفسه كلما أراد اتخاذ قرار هام أو مصيري للبلاد وعلق هيكل ساخرا على هذا القول بأن السادات كان ينتظر الوحى وكأن قرارات الدولة تأتى بالوحى لا باستشارة المسئولين ومناقشة الوزراء والمستشارين ! ونسي هيكل ـ وكثيرا ما ينسي ـ أن عبد الناصر نفسه هو مبتكر هذا الأسلوب الذى أخذه السادات منه , فكيف يعيب على التلميذ ما لم يعبه على الأستاذ المبتكر ! وهل نسي هيكل أنه حضر جلسة محادثات الوحدة بين مصر وسوريا والتى رواها في كتابه ( سنوات الغليان ) واجتمع فيها عبد الناصر منفردا مع الوفد السورى المطالب بالوحدة , وفى نفس الجلسة ودون أن يناقش عبد الناصر مستشارا أو غفيرا , أصدر قراره بقبول الوحدة وفرض شروطه على الوفد السورى الذى قبل الشروط وانعقدت الوحدة فعلا !! بالإضافة إلى كلمات عبد الناصر نفسه في خطاب التنحى الذى كتبه له محمد حسنين هيكل وفيه من الإيحاءات بهذا المعنى ما فيه ! وخرجت الجماهير التي خضعت لغسيل المخ الإعلامى طيلة الفترة من عام 1956 حتى 1967 م تهتف ببقاء عبد الناصر بينما دماء شهدائنا التي راحت هدرا في سيناء لم تجف بعد ! وقد كانت المظاهرات حقيقية لا كما ردد البعض أنها مظاهرات مصنوعة من الإتحاد الإشتراكى , أى نعم قام الإتحاد الإشتراكى بتنظيمها وصدر قرار وزير النقل بإتاحة السفر بالمجان للجماهير إلى القاهرة من مختلف المحافظات لكى يشاركوا في مناشدة الرئيس العدول عن قراره ! إلا أن أصل المظاهرات كان حقيقيا وجماهيريا , والذين ظنوا ـ من منتقدى الناصرية ـ أن القول بمظهرية وتدبير هذه المظاهرات يمكن أن يعيب النظام في ذلك الوقت , فهذا قصور في التفكير , لأن الإدانة الحقيقية للنظام تتمثل في قيام الشعب بهذه المظاهرات بإرادته فعلا , لأنها تحمل الدلالة القاطعة على ما صنعه الإعلام الناصري من تجريف لوعى الأمة عبر هذه السنوات , حتى استجابت الجماهير لغسيل المخ واقتنعت بالفعل أنها بدون عبد الناصر لا تساوى شيئا !! وقيام المظاهرات المليونية بهذا الشكل لكى تتمسك بقادة الهزيمة , وتهتف الهتافات الحارة لهم وتناشدهم عدم ترك مواقعهم ـ رغم الكارثة التي حلت بالبلاد ـ هى في رأيي أكبر إدانة للعصر الناصري كله ! إذ كيف يمكن أن يقبل عاقل هذه النتيجة من الجماهير المصرية التي كانت تحرك الحياة السياسية وتقتلع الحكومات وتنصبها وتشارك في الحياة السياسية مشاركة فاعلة عن وعى وإدراك رغم الأمية ! كيف يمكن أن نقبل من هذه الجماهير أن تعترف علانية بأنها أمة خاوية لم تستطع أن تنجب قيادة بديلة لقيادة مهزومة ! لكنه أمر طبيعى أن تخرج هذه الجماهير بهذا الشكل بعد تجريف الوعى السياسي وربطه بشخص الحاكم على هذا النحو , ولو كان الناصريون يعقلون حقا لتدخلوا لمنع هذه المظاهرات التي فضحت أمة العرب في وسائل الإعلام العالمى عندما كتبت الصحف العالمية ( الشعب يتمسك بقادة الهزيمة ويهتف للقائد المهزوم ! )[2] ولست أدرى ما الذى كان متوقعا أن تفعله هذه الجماهير لو أن عبد الناصر انتصر في يونيو 67 , ما داموا في ظل الهزيمة قد قاموا بكل هذا التأييد الجارف والهتاف بحياة من قذفوا بالأمة إلى مهاوى الضياع فصارت الجماهير المصرية على حد قول أمير الشعراء .. اسمع الشعب يغنى .. بحياتىْ قاتليه ! أثّر البهتان فيه .. وانطلى الزور عليه ياله من ببغاء .. عقله في أذنيه !! عاشرا : تسبب هذا العصر في ظاهرة عمت أرجاء العالم العربي , وهذه الظاهرة وحدها كفيلة بأنها تمحو أى أمة من على خريطة الوجود الحضاري ! ألا وهى ظاهرة تجريف مواهب الأمة ومفكريها وعلمائها وهى لازم طبيعى من لوازم الحكم الأتوقراطى , وعندما تسلم عبد الناصر حكم مصر , كانت مصر تعج بالعباقرة في شتى المجالات , لا سيما في عالم الفكر السياسي والإجتماعى والإسلامى , ولو أردنا أن نذكر أمثلة عنهم فقط لضاق بنا المقام ! ونظرا لأن وجود هذا الكم من المفكرين والعلماء من أساتذة الجامعات والكتاب والأدباء , يمثل خطورة تقليدية على النظم الشمولية , فقد طبق عبد الناصر مبدأ جوبلز ـ وزير الدعاية النازى ـ والذي صاغ الحل بقوله : ( كلما سمعت كلمة مثقف .. تحسست مسدسي ! ) فتم تجريف المفكرين والعلماء الأحرار لصالح الضباط الأحرار , واكتست مصر كلها , وفى كافة المؤسسات واللجان والوزارات باللون الكاكى ـ على حد قول محمد نجيب في مذكراته ـ إذ تولى الضباط كل شيئ حتى المجلس الأعلى للثقافة الذى كان من أعضائه العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم , ورأس مجلسهم ضابط شاب برتبة ملازم أو نقيب ! وتم تصنيف كبار المفكرين المصريين في ذلك الوقت إلى ثلاثة أقسام , قسم تولاه الله برحمته الواسعة ! ـ وقسم آخر تكفلت به المعتقلات ـ وقسم ثالث فر بجلده للهجرة الخارجية ولم يتبق إلا القسم الأخير الذى سمحت به الحكومة وهو قسم المفكرين الصامتين أو المستأنسين , فإما أن يكتبوا في تأييد النظام وإما أن يقنعوا من الغنيمة بالإياب فيعتزلوا الكتابة في الشأن العام ولعل أبرز مثال على القسم الأخير كان عباس محمود العقاد المفكر العريق الذى كان له حضور سياسي هائل في عهد الملكية , قام بالإعتكاف في بيته حتى وفاته وغير وجهة كتابته إلى قضايا التاريخ الإسلامى ولم يكتب حرفا في المجال السياسي العام رغم أن مؤلفاته في سابق العهد كان أغلبها مؤلفات في الفكر السياسي لدرجة أن الألمان ـ وهم على مشارف مصر في الحرب العالمية الثانية ـ أعلنوا أنهم سيعدمون العقاد في ميدان عام إذا انتصروا ودخلوا مصر فعلا , بسبب كتابات العقاد التي كانت تحفز الجماهير على عدم التعاطف مع الألمان واعتبارهم كالإنجليز دول محتلة وغاصبة ولسنا في حاجة إلى بيان مدى خطورة هذه الظاهرة التي صدرتها مصر أيضا إلى بقية الدول العربية , ولو أنها خفت في عالمنا المعاصر بمصر إلا أنها لا زالت على نفس الأسلوب القديم في أغلب الأوطان العربية , ويعود السبب الرئيسي إلى العداء المستحكم بين النظم الشمولية والمثقفين والعلماء إلى خطورة دور المثقفين كرعاة لتربية الرأى العام وهم قادة التغيير السياسي الحقيقي في كل العصور , فصحوة الحركة الوطنية المعاصرة قامت على أكتاف المثقفين في مصر وزعمائهم مثل الرافعى والمازنى والعقاد وسعد زغلول ومصطفي كامل وغيرهم , [3] والتصدى للإحتلال قام في الأصل على أكتاف العلماء البارزين , بالذات علماء الأزهر الشريف الذين كانوا دائما غصة في حلق مستعمر , ويكفيهم أنهم تصدوا لخدعة نابليون بونابرت عندما جاء إلى مصر وهو يردد أنه يهدف إلى تحرير مصر وتعمد التقرب والتزلف إلى جماعات الجماهير بأساليب مختلفة , وكان من الطبيعى جدا أن تنساق الجماهير خلفه نظرا لما يعانونه على يد المماليك , لكن هذا لم يحدث بعد أن قام علماء الأزهر بدورهم التاريخى في تنمية الوعى وكشف حقيقة نابليون , وقاد العلماء ثورة القاهرة الأولى والثانية وحفزوا الناس على الجهاد حتى خرج الفرنسيون بخفي حنين لكن مصر في فترة التجريف المتعمد لعلماء والمثقفين لم تجد من يعيد لها وعيها أو يعلى فيها قيم الفكر والعلم , فكان من الطبيعى أن تستسلم الأغلبية لغسيل المخ الإشتراكى وتصدق أن الأمة المصرية الولادة لم تعرف تاريخا حقيقيا إلا مع بداية ثورة يوليو , وأصبح من قبيل الثقافة المنتشرة أن يظن الجمهور بأن ثورة يوليو هى بداية التاريخ الحقيقي وما خلفها هو العهد البائد !! وتعبير ( العهد البائد ) هذا كان من أدبيات الثورة الشهيرة , حتى أن النظام كان يضع ستارة على أى لوحة تذكارية لأى إنجاز تم في العهود السابقة على الثورة باعتباره من العهد البائد ! وتم إهمال ثورة 1919 م , الثورة الوطنية الكبري التي قال عنها المهاتما غاندى وهو في طريقه للهند مارا بقناة السويس , أنه ـ وشعب الهند ـ تعلموا كيف تكون ثورة التحرر من جماهير ثورة 1919 م , في خطبة شهيرة بحضور النحاس باشا , وكل هذا لمحاولة تقليص شعبية حزب الوفد الجارفة , فضلا على أن التاريخ المدرسي الرسمى في تلك الفترة يمكن اعتباره كارثة قومية حقيقية لمدى ما فيه من إهمال وتشويه لعهد ما قبل ثورة يوليو , وهكذا نجح النظام في أن يجعل من مصر رهينة لهذه الثورة وهذه المرحلة , |
حادى عشر : كانت مصر في ذلك العهد أيضا هى صاحبة السبق في صك تعبير ( أهل الثقة وأهل الخبرة ) .. ولهذا صعد إلى سدة الحكم أشباه البشر من أمثال عبد الحكيم عامر وشمس بدران وسامى شرف وعلى شفيق وغيرهم من أذاقوا الشعب الويلات , ولأن النظام الإشتراكى بطبيعته ضد العقل الإنسانى على طول الخط , ولأنه نظام قائم على تحييد المبادئ الدينية , فقد صدرت من هؤلاء الثوار تصرفات أثناء توليهم المسئولية تجعل المرء في حيرة كيف تمكنت هذه العصابة من السيطرة على مقدرات مصر والشعب العربي ! ولأن مجموعة السلطة بطبيعتها مجموعة طفيلية منعدمة الفكر والتفكير , فقد كانوا ظلالا للنظام ممثلا في عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر , وأصبح لكل منهما مجموعته ونفوذه , وهما المجموعتان اللتان دخلتا في صراع مرير على السلطة والنفوذ عانى منه الجيش والشعب معا , وتم إبعاد أهل الخبرة في جميع المجالات لصالح أصحاب الوساطة والمحسوبية , على النحو الذى أدى إلى مهزلة يونيو 67 عندما دخلت مصر الحرب وعلى رأس قيادة الجيش فيها مجموعة أقل ما يقال عنها أنهم من خريجى مستشفي الأمراض النفسية ! واستغل عبد الناصر واقعة النكسة ليتمكن أخيرا من إزاحة عبد الحكيم عامر ومجموعته بعد أن استعصت عليه طويلا منذ عام 1962 م نظرا لقوتها واستنادها إلى الجيش وهكذا جنت مجموعة عبد الناصر المتمثلة في ( سامى شرف ـ شعراوى جمعة ـ محمد فائق ـ على صبري ـ محمد فوزى ) أكبر المكاسب بوقوع النكسة , إذ تضاعف نفوذهم وسيطروا على أجهزة الدولة سيطرة تامة , لا سيما بعد أن تكفل عبد الناصر بفضح عبد الحكيم عامر ومجموعته وسماهم ( دولة المخابرات ) وحملهم مسئولية النكسة ليخرج منها سالما , وكأنى بعبد الناصر كان يخاطب قطيعا من الغنم لن يسأل فيه أحد سؤال منطقي مؤداه , إذا كان هؤلاء هم رموز دولة المخابرات فأين كنت أنت يا زعيم الأمة ! وإذا كان هؤلاء جميعا ـ بحكم الوظيفة ـ تحت رياستك , فكيف ساغ لك تحمليهم المسئولية دونك ! ولأن النظام الإشتراكى ـ كما قلنا ـ نظام ضد العقل , فكان من الطبيعى أن تكون المجموعات قرينة السلطة منعدمة الموهبة والكفاءة في أى مجال , إلا أن مجموعة عبد الناصر التي كانت تحكم مصر فاقت جميع التوقعات في هذا الصدد ! وظهر هذا واضحا عندما اختلفوا , وعندما يختلف اللصوص يظهر المسروق على الفور , ولهذا ما كان لنا ولا لغيرنا أن يعرف شيئا من فضائح هذا العهد ـ بسبب التكتم الشديد والسيطرة المطلقة ـ لولا أن تكفل أصحاب هذا العهد نفسه بفضح بعضهم البعض في مراحل صراعاتهم على السلطة فقد تولى عبد الناصر كشف حكومة المخابرات التي حكم بها عبد الحكيم عامر البلاد وأشاع فيها الفساد في كل مكان , وتولت صراعات مراكز القوى في كشف بعضهم البعض فتسببت مجموعة شعراوى جمعة وسامى شرف ومحمد فوزى بكشف على صبري , ثم جاء السادات ففضح ممارسات مجموعة الثلاثي المرح ! ثم تكفل السادت نفسه بإتاحة الفرصة لكشف عصر عبد الناصر كله عبر كتابات الضحايا ثم جاء محمد حسنين هيكل فكشف فضائح عهد السادات بكتابه ( خريف الغضب ) .. وهكذا مضت الدائرة الجهنمية لتظهر الصورة الكاملة لنظام ثورة يوليو .. ورغم ظهورها إلا أن الناس لا تقرأ ولا تستوعب ! وعودة إلى مجموعة على صبري ورفاقه من أباطرة الحكم الناصري والذي قلنا أنها تفوقت على نفسها في حماقة الأداء وتسرعه فعندما دخلت المجموعة صراعا مع السادات على السلطة تآمرت عليه بهدف إزاحته , فإنها لم تستطع الإستفادة من عوامل القوة الرهيبة التي كانت تتيح لها الإطاحة بالسادات بغمضة عين , ومنحت الفرصة للسادات على طبق من ذهب لكى يطيح بهم دفعة واحدة إلى غياهب السجون جنبا إلى جنب مع ضحايا العهد الناصري فقد كانت المجموعة ـ للغرابة ـ تمتلك الجيش ممثلا في الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع , وتمتلك التنظيم السياسي الوحيد في البلاد ممثلا في على صبري أمين اللجنة المركزية , وتمتلك الشرطة ممثلة في وزير الداخلية شعراوى جمعة , وتمتلك الحرس الجمهورى وشئون معلومات الرياسة ممثلة في سامى شرف وزير الدولة لشئون الرياسة , وتمتلك وزارة الإعلام ممثلة في محمد فائق وزير الإعلام , وتمتلك جهاز المخابرات العامة ممثلا في اللواء أحمد كامل مدير المخابرات ! أى أن السادات ببساطة لم يكن يمتلك من السلطة أو يمارسها في الدولة إلى على زوجته ! ورغم هذا وعندما فكرت المجموعة في الإنقلاب على السادات , وبدلا من اعتقاله أو عزله ـ وكان هذا متاحا ـ دخلوا مع السادات في مواجهة شعبية وأرادوا أن يحرجوه بطريقة ساذجة عندما قدموا جميعا استقالاتهم في وقت واحد , وكانوا يهدفون من وراء ذلك إلى إحداث انقلاب دستورى في البلاد ينجم عنه ثورة للجماهير !!! وبالقطع كانت عقول هؤلاء الزمرة في إجازة دائمة ! فقد صدقوا أنفسهم وظنوا أنهم بالفعل في دولة دستورية يمكن أن تهتز باستقالة كبار المسئولين , لكن دافعهم إلى هذا التصرف كان بسبب محدودية التفكير المطلقة التي كانت تتحكم فيها , فجميعهم تعود أن يعيش في ظل عبد الناصر ولهذا لجئوا إلى تكرار ما ظنوه الطريقة المجربة , وقدموا استقالاتهم على أمل أن الشعب سيخرج للهتاف بعودتهم كما فعل مع عبد الناصر في خطاب التنحى ! وبالطبع انتهز السادات الفرصة ووقوف هيكل إلى جواره وقام باستمالة قائد الحرس الجمهورى الفريق الليثي ناصف والفريق محمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة وتمكن من اعتقالهم جميعا ثم أعلن في مجلس الشعب بطريقة سياسية ماكرة ما سماه بحكم مراكز القوى وقام بفضح ملفاتهم جميعا في خطاب علنى ليخرج السادات منتصرا في هذه الجولة , [1] فقد كان صاحب دهاء سياسي متمرس وتمكن من الحفاظ على عقله وطموحاته في عصر عبد الناصر عن طريق الصبر والصمت والطاعة العمياء حتى حانت اللحظة المناسبة ليكشف عن وجهه الحقيقي ! والسؤال أو الهدف من هذه القصة هو معرفة سبب الغباء اللامحدود الذى تصرفت به مجموعة مراكز القوى , والسبب يقع في المقام الأول أنهم كانوا تلاميذ مرحلة الإشتراكية ! والمرء يكفيه أن يكون اشتراكيا في الصباح لكى لا يأتى عليه المساء إلا ومصاب بالحماقة فكانوا مفرغين عقليا تماما من القدرة على التصرف المنفرد , ولهذا جاءت وفاة عبد الناصر ضربة قاضية كادت تطيح بعقولهم ووجهتهم بعد ذلك إلى تصرف لا يرتكبه إلا القرويون السذج , وقد كشفت تحقيقات النيابة العامة في قضية مجموعة 15 مايو أن سامى شرف ومحمد فوزى وشعراوى جمعة كانوا يحضرون بانتظام جلسات تحضير أرواح يقوم بها وسيط روحانى يقوم بتحضير روح عبد الناصر لكى يسألها المجموعة كيف يتصرفون وعلى أى وجه يتعاملون مع الأحدث !! ولك الله يا مصر ! فهؤلاء الذين يفعلون ذلك هم أعمدة وأركان الحكم في مصر بتلك الفترة , ومن يطالع محاضر التحقيقات التي احتوت على تفريغ لأشرطة التسجيل التي تمت لجلسات تحضير الأرواح يصاب بالذهول مما يسمع , لأن التسجيلات توضح بشكل قاطع أن هذه المجموعة كانت مبرمجة بوجود عبد الناصر وغير قادرة على استيعاب رحيله فعلى سبيل المثال كان الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع في تلك الفترة والقائد العام للقوات المسلحة والذي من المفروض أن يعد الجيش لقيادته في معركة التحرير يسأل الروح بعد أن حضرت فيقول : [2] ( هل خطة الحرب التي وضعتها بذهنى صالحة للمعركة وما هو التوقيت المناسب لها !! ) ولنا أن نتخيل أى مصير كان ينتظر الجيش المصري لو تولى قيادته في حرب أكتوبر الفريق محمد فوزى !!! ومن عجائب التصرفات حقيقة أن هيكل كان أحد المصادر التي فضحت حكاية تحضير الأرواح نظرا لأنه وقف مع السادات ضد مجموعة مراكز القوى وكان هذا في بداية تضامنه مع السادات في بداية حكمه قبل أن ينقلبا على بعضهما البعض في عام 1974 م , وداعى الدهشة هنا .. أن هيكل لم ينتبه أن يفضح عبد الناصر بفضح رموز عهده بهذا الكلام , ولم ينتبه لهيكل لذلك وهو يحاول أن يبرئ عبد الناصر بطريقة بالغة السذاجة عن طريق الطعن في رموز الحكم في عهده سواء مجموعة عبد الحكيم عامر أو مجموعة على صبري , إذ كيف كان عبد الناصر بريئا وهؤلاء جميعا من أركان حكمه , فإما أنه كان رئيسا بالإسم , ( وهذا صحيح بالنسبة لموقف مجموعة عبد الحكيم عامر إذ لم يملك عبد الناصر سلطانا فعليا للخلاص منهم ) وإما أنه كان متواطئا وعارفا وسامحا بهذه التجاوزات في نظير ولاء هذه المجوعة له وضمانه بعدم خيانتهم له , ( وهذا ما تحقق أيضا في حالة مجموعة على صبري التي كان يطمئن لها عبد الناصر واستمرت تحكم البلاد حتى وفاته ) وعليه .. فإن النظام الإشتراكى القومى العسكري في مصر , تمكن من إحداث تغييرات إجتماعية وسياسية وأخلاقية رهيبة في المجتمع , وتحول المجتمع بكل صنوفه إلى نوع من مضحكى السلاطين وشاع النفاق السياسي لدرجة مرعبة , وفرغت الساحة تماما من ذوى العقول وأهل الخبرة لصالح أركان النظام الحاكم ومع شيوع النفاق والقهر بالمقابل .. ضاعت الإرادة وضاعت معها الأخلاق , فالأخلاق لا تتجزأ , وعاشت مصر في ظل هذا العصر رهينة في يد أبنائها , حتى أفاقت على نكسة مروعة , نكسة لم تكن في صورتها الواضحة هزيمة عسكرية أو سياسية فحسب , بل كانت النتيجة الطبيعية للخيار الإنقلابي الذى فرضته ثورة يوليو وتوجهات القومية والإشتراكية , وهذه هى الأسباب الأصلية والرئيسية التي تنبنى عليها أحداث النكسة , لأنه من السطحية الشديدة أن نظن بأسباب النكسة مجرد أسباب عسكرية أو تفوق نوعى للعدو , وهذه الأسباب والإدراك الكامل لخبايا الصراع بيننا وبين الغرب , هى الأصول الواجب مراعاتها عند معالجة وقراءة أحداث النكسة , وأحداث حرب أكتوبر 1973 م فلولا أن النظام المصري في هذا العهد كان على هذه الشاكلة لما حدثت النكسة بهذا الشكل المروع , وهو ما أفصحت عنه أحداث وتفاصيل يوميات النكسة نفسها , فإسرائيل ـ في أصل خطتها ـ ما كانت تطمح أو تظن بنفسها القدرة على اجتياح سيناء كلها بلا مقاومة , بل كانت الخطة مقصورة على الوصول للمضايق والسيطرة على شرم الشيخ لكنها فوجئت بالإنهيار المزرى للجيش وانسحابه الفوضوى جريا إلى القناة فأتمت احتلال سيناء ! ولم يكن بظنها ولا ضمن خطتها أن تُتم تدمير الجيش المصري وتسليحه في مثل هذا الوقت القياسي ولهذا وجدت في نفسها القدرة والكفاءة لاجتياح الجولان السورية أيضا رغم أن الجولان لم تكن في الخطة أصلا وصدر قرار وقف إطلاق النار يوم 9 يونيو والجولان بعيدة عن الأحداث , حتى أصدر موشي ديان أمره باقتحام الجولان لتتم القوات الإسرائيلية احتلالها في 24 ساعة , وفى الجانب الأردنى استولت إسرائيل على الضفة الغربية بلا خسائر تقريبا وبنفس الطريقة !! في نفس الوقت الذى كانت الجرائد المصرية الكبري ـ بوق النظام ـ وإذاعة صوت العرب الشهيرة تبث طيلة الأيام من 5 إلى 9 يونيو بيانات خيالية عن المعارك الضارية التي تخوضها الجيوش العربية الموحدة تحت قيادتها القومية الرشيدة ! وظهرت عناوين الأخبار والأهرام والجمهورية تقول ( إنه يوم التضامن العربي والقومية العربية ) وأسقطت البيانات من الطائرات الإسرائيلية أسرابا وأسرابا !! حتى ظنت الجماهير أن القوات المصرية على أبواب تل أبيب كما كانت تبشرها دعاية نظام عبد الناصر والإتحاد الإشتراكى الذى ملأ الشوارع في القاهرة والمحافظات بلافتات كثيفة تبشر بالنصر المنتظر وتقول : ( عند العقبة .. قطع الرقبة ) و ( حنحارب .. حنحارب ) و ( إلى تل أبيب .. ) و ..... الخ ولهذا نقول أن الإنجاز الإسرائيلي لا يُحتسب لتفوقه بل يُحتسب في الأصل للحالة المزرية التي وصلت إليها المنطقة العربية تحت قيادة النعرات القومية , وكانت الصدمة بشعة .. بل بالغة البشاعة على المجتمع العربي الذى هانت فيه بوقوع النكسة .. كل القيم , فعندما اكتشفت الجماهير الكذبة الكبري التي عاشتها طيلة هذه الأعوام .. كان من الطبيعى أن تهون كل القيم وتسقط كل المبادئ وتصبح الشعارات الزائفة دليلا قاطعا على زيف الحياة بأكملها , وتحول المجتمع تحولا أخلاقيا بالغ الخطورة عندما انتشر بين الناس يقين دامغ أن كل من يدعى المبادئ والأخلاق والنضال والصمود والتصدى .. هو باهت كاذب مدعى , وهذه ردة فعل طبيعى تطبيقا للمثل المصري الشائع ( اللى اتلسع من النار .. ينفخ في الزبادى ) ومع غياب القيم الدينية التي كانت تُعلى قيم الصدق وعدم اتخاذ فساد المجتمع ذريعة لممارسة الفساد , عمت أزمة الأخلاق مصر والعالم العربي بعد نكسة يونيو التي لا زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا ! وللحديث بقية |
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
ولا ينبغي أن يستهين القارئ بتلك الأغنيات وهذا الأسلوب , فأثره العميق على الشعوب العربية تفوق على مجموع ما قام به الإعلام من صحافة وإذاعة وخطب و.. الخ , لأن جموع الشعب في تلك الفترة كانت قلوبها تتعلق بهؤلاء المطربين الذين كانوا بحق رواد تربية الرأى العام وأدوات توجيهه وأصبحت إذاعة صوت العرب منبع رئيسي يهز العروش والجيوش في المنطقة إذا ذُكر فيه اسم عبد الناصر !! ودخلت الجماهير في غيبوبة خدر هائلة استمتعت بها ورفضت أى تعكير لصفو الصورة الهلامية , ولإدراك مدى التأثير الفادح على الجمهور , يكفي أن نعلم أن عددا من أبرز الكتاب والصحفيين والمفكرين ظلوا رهنا لتجربة الناصرية مسبحين بحمدها حتى بعد النكسة , وحتى يومنا هذا , رغم أنهم جميعا من ضحايا معتقلاتها ! بخلاف هيكل طبعا الذى يمكن فهم سر دفاعه , لكن الإستغراب قائم على المفكرين الكبار من أمثال محمود السعدنى ومحمد عودة وأحمد فؤاد نجم وحمدى قنديل ومحمود عارف ويوسف القعيد وغيرهم عشرات ,, فهؤلاء جميعا ذاقوا ويلات المعتقلات في عهد عبد الناصر نفسه رغم إخلاصهم العنيف له , ولنظامه , ولتجربته , وكانت التهم التي أوصلتهم للمعتقلات من التفاهة بمكان ! وعاشوا في ذل القيد والإعتقال في الصحراء سنوات طوال , ولو أخذنا محمود السعدنى مثالا لوجدنا أنه عبر عن تجربة سجنه في سجن الواحات الرهيب في إحدى كتبه الشهيرة وهو ( الطريق إلى زمش ) وذكر فيه ما تعرض له هو ورفاقه من أساتذة الجامعات وكبار المفكرين والصحفيين والروائيين من صنوف وألوان التعذيب والإهانة والضرب المبرح بلا أدنى مبرر ! ويذكر السعدنى ببساطة تفاصيل عمليات التعذيب القمعى وكيف أن أكبر عقول البلاد تم إجبارهم من زبانية السجن الحربي على اتخاذ اسم امرأة تحقيرا وإذلالا , وعلى المشي عرايا في فناء السجن , بخلاف حفلات التعذيب الذى ذكرها والتى كانت تقيمها إدارة السجن إشباعا لنازية قائد المعتقل ! ومع ذلك فقد ظل السعدنى يقدم نفسه حتى آخر عمره باعتباره سفير الناصرية لدى طبقات الشعب , على اعتبار أن هيكل هو سفير الطبقات العليا , وظل يتمنى أن يموت وهو ناصري وأن يُبعث يوم القيامة ناصريا !! فإذا كان هذا حال المفكرين الكبار .. فللشعب علينا حق العذر حتما ! وبهذه الوسيلة ارتفعت حماسة الجماهير إلى درجة الإلتهاب والإلتحام ولما كانت الأغانى أكثر كثافة بكثير من المنجزات على أرض الواقع , فقد اضطر المطربون إلى أن يغنوا لكل شركة أو مشروع تم إنشاؤه ولو كان مشروعا تافها ! ثم أصبحوا يغنون لكل عربة نقل تحمل بعضا من معدات السد العالى ! ورحم الله محمد على باشا .. بنى مصر الحديثة كلها وجعلها أقوى قوة في الشرق الأوسط ومد فيها الترع والمصارف والقناطر الخيرية , وكل هذا بتمويل داخلى دون اقتراض مليم من الخارج وبكفاءة هندسية مصرية وبعمالة مصرية وزاحم الدول الأوربية بجيش وطنى رهيب في العتاد والعدة والإنتصارات .. ورغم ذلك لم يجد كلبا شاردا يهز له ذيله مستحسنا !! ولو أخذنا مثالا واحدا لمطرب مثل محمد قنديل وهو في هذا العصر من مطربي الصف الثانى أو الثالث , فقد أحصيت له خمسين أغنية على الأقل في موقع ( سماعى ) الموسيقي تتمحور حول قناة السويس والسد العالى وعبد الناصر والناصرية والضباط الأحرار والإشتراكية والحرية وحتى شركات الزيوت والصابون ! هذا العدد لمطرب واحد بخلاف نجوم الصف الأول الذين كان لكل منهم في العام الواحد عدد معروف من الأغنيات والقصائد التي يتم التغنى فيها بنفس المنجزات المحدودة في مناسبات ومواسم ذكراها في كل عام ! ولما فرغت سائر الإنجازات واحتاجت الحماسة إلى ما يغذيها لجأ المطربون والشعراء إلى اختراع ما يغنون له , فتوجهوا بكليتهم إلى شخص عبد الناصر ومزاياه وهيبته وصوته وخطبه وأولاده و .. الخ وقد وصل التغييب بهيكل حدا غير متصور دفعه في كتابه ( خريف الغضب ) وهو في معرض حديثه عن خالد الإسلامبولى ــ قاتل السادات ــ أن يشير بصريح العبارة إلى أن أحمد الإسلامبولى ـ والد خالد ـ قام بتسمية ابنه بخالد تيمنا باسم خالد جمال عبد الناصر لأنه وُلد في الفترة الفوارة بالوطنية والتى كان فيها عبد الناصر وأولاده ذروة الحلم !! ولست أدرى أين كان عقل هيكل وهو يكتب هذا الكلام !! فخالد الإسلامبولى وعائلته كلها ذات اتجاه دينى صرف ووالده كان أحد أئمة المساجد , وشقيق خالد الأكبر كان ناشطا في مجال الدعوة وتم اعتقاله في نهاية عصر السادات لهذا السبب , فكيف تصور هيكل أن يسمى الرجل ولده بخالد تيمنا باسم ابن عبد الناصر ويترك خالد بن الوليد سيف الله المسلول !! وإذا كان الرجل من دروايش الناصرية ألم يكن من الأجدى أن يسمى ولده بجمال نفسه بدلا من خالد ؟! لكن هيكل في كتابه هذا كان واقعا تحت تأثير نشوة اغتيال السادات والتى قابلها بشماتة ظاهرة في سطور كتابه ( خريف الغضب ) ولم تكن فرحة هيكل كاملة لسبب واحد , [1] أن من اغتال السادات هو تنظيم الجهاد وكان يتمنى من أعماقه أن يغتاله أحد الناصريين ولهذا سعى إلى التعسف غير المعقول في محاولة إثبات ولاء أسرة الإسلامبولى لعبد الناصر ويرجع ذلك إلى أن السادات في عرف الناصريين مرتد مهدور الدم ـ وأنا هنا لا أمزح ـ فالناصريون في كافة كتاباتهم عندما يتحدثون عن فترة السادات يسمونها فترة ( الردة الساداتية ) !! ولهذا كان يتمنى هيكل أن تكون نهاية السادات بيد واحد من مجاهدى الناصرية ! فلما جاءت على يد التيار الإسلامى الذى يكرهه هيكل كراهية التحريم , حاول أن يخترع إنتماء ناصريا لأسرة الإسلامبولى رغم أن أصغر طفل في الحقل السياسي يعرف موقف الجماعات الإسلامية من عبد الناصر بعدما فعله هذا الأخير بهم في السجون والمعتقلات , ومن الغريب أن هيكل نفسه وهو يتحدث عن جماعة الجهاد أورد بداياتها وكيف أنها نشأت في قلب المعتقلات الناصرية تحت وطأة التعذيب الرهيب مما دفع هؤلاء الشباب لاعتقاد كفر عبد الناصر ونظامه , لأن ما يفعلوه بهم أمر خارج حدود الإنسانية والحيوانية أيضا ! فبدأت عندئذ فكرة تكفير النظام الحاكم وتطورت فيما بعد إلى تكفير المجتمع كله بسبب ولائه لهذه الحكومات ! ولست أدرى ما الذى كان هيكل فاعله لو كان جمال عبد الناصر اسمه محمدا ! خلاصة القول أن هؤلاء الفنانين كانوا في معظمهم مؤمنين بالتجربة بالفعل , ويصدقون ما يقال لهم في الإعلام الرسمى عن أعظم قوة ضاربة في الشرق الأوسط وعن الأساطير التي تم نسجها خلف كل مشروع , وتم تصوير هذه المشاريع على أنها إنجازات تتقاصر دونها همم دول العالم ! لهذا فقد اندفعوا بعاطفة جياشة وتعبير صادق ليمتعوا الملايين بمئات الأناشيد والأغانى التي تحرك الأحجار , ويكفي أى قارئ اليوم أن يعود لأرشيف أغنيات عبد الحليم حافظ ( مطرب الثورة الأول وراعيها ) ويستمع إلى أغنيات مثل أغنية صورة ـ السد العالى ـ يا أهلا بالمعارك ـ أحلف بسماها وبترابها ـ حكاية شعب ـ وعشرات غيرها , سيدرك القارئ أى تأثير سحرى لهذه الألحان وهذه الكلمات التي عظّمت الحلم في جماهير الأمة العربية لدرجة أسطورية التفت كلها حول عبد الناصر من المحيط للخليج تنتظر إشارة منه في ثقة عمياء مطلقة , ولنا أن نتخيل ما أصاب الجماهير عندما أفاقوا من هذا الحلم على كابوس الواقع , فبعد أن صنع لهم عبد الناصر أسطورة تتضاءل أمام أساطير اليونان , انهارت فجأة كل تلك الأحلام , ولهذا انتهى عهد الأغنيات الوطنية الحافلة الغزيرة بقدوم عام 67 , بل إن الإذاعة نفسها لم تكن تعيد بثها لما تحتويه هذه الأغنيات من حديث ثائر عن تحرير القدس والوحدة العربية والتضامن العربي والقوة الهائلة التي يرتكن إليها الشعب , ومن المفارقات الطريفة أن القارئ سيلاحظ على موقع يوتيوب أن بعض هذه الأغنيات التي تم تأليفها فيما قبل عام 1967 م لم يجد الجيل الحالى أفضل منها للتعبير بها عن نصر أكتوبر ! رغم أن أغنية أهلا بالمعارك وأغنية صورة وأغنية أحلف بسماها كلها من منتجات ما قبل النكسة , لكن هذا يدلك على مدى الإحباط الذى أسكت ألسنة المطربين وأخرس يراع الشعراء ! وفى مقابل هذا الكم الهائل من الأغانى في عصور الهزائم والخديعة , لم نعثر من هذا الجيل على عدد يتجاوز الأغنيات الخمسة الشهيرة لحرب أكتوبر وفقط ! وهذا أمر طبيعى وردة فعل منطقية كما أوضحنا وتعتبر إحدى الآثار الساطعة لتجربة النكسة , ولعل تجربة شاعر وطنى قدير مثل الشاعر صلاح جاهين الذى كتب كلمات أعظم الأزجال الوطنية , كان هو نفسه مؤلف فيلم ( خلى بالك من زوزو ) بعد تجربة النكسة مباشرة عندما انهارت كل القيم واندثر الطموح ! والذي يتأمل هذا التغييب الإعلامى المتعمد عن واقع العالم العربي وأحواله , يجد العذر للمجتمع عندما كفر بكل تلك القيم عقب النكسة , وقد أورد الكاتب الصحفي وجيه أبو ذكرى في كتابه ( مذبحة الأبرياء في 5 يونيو ) رسالة طويلة من أحد الجنود الناجين من مذبحة سيناء , وملأ الرجل رسالته بدموعه وهو يسب ويشتم ويكفّر وجيه أبو ذكرى ورفاقه ويتهمهم بأنهم كانوا السبب الرئيسي للثقة الفارغة التي دفعته ورفاقه إلى جحيم يونيو 67 ! [2] ويأبي الناصريون اليوم أن يعترفوا بهذا التغييب أو يفيقوا قليلا ليتأملوا العالم من حولهم , ولا زالت مواقعهم على الإنترنت تبث حنينهم للماضي البائس كمان لو كان تاريخا مشرفا أو عملاقا بالفعل , ويبدو أن الإدمان الناصري تفوق على سائر أنواع الإدمان , وكان المرء يأمل لو أن هيكل ـ بعد هذا العمر المديد ـ وفى ظل رسالته التوعوية التي يمارسها في الشأن الجارى , كنا نأمل لو نزع عنه ثياب القومية واكتفي بما اقترفت يداه ـ وهو كثير ـ وحاول إصلاح ما أفسد , لكنه لا زال مصرا ! لم يكتف هيكل بأنه قام مع عبد الناصر بنفس دور هامان مع فرعون ( وهذا القياس والتشبيه لداعية شهير ) ففرعون قبل هامان لم تخطر بباله فكرة إدعاء الألوهية حتى جاء شيطانه هذا فأقنعه بها فعينه وزيرا لبلاطه ونشر هامان العقيدة الجديدة بين الناس وحاول إضلالهم بها كما أضل فرعون نفسه , لكن الناس لم تستجب لهامان بقدر ما استجابت لهيكل ! وهذا يعطينا فكرة عن القدرات الخيالية التي يتمتع بها هيكل في مجال السياسة والإعلام ! ولكن .. ياللأسف , لو كان هذا كله في سبيل الله ! الهوامش : |
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
الساعة الآن 05:16 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.