منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الحوارات الثقافية العامة (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=4)
-   -   حدائق الايمان فى حرب رمضان (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=1629)

محمد جاد الزغبي 09-30-2010 01:56 PM

حدائق الايمان فى حرب رمضان
 
حلقات مسلسلة عن حرب العرب الكبري

فى أكتوبر عام 1973 م
ومدى تألق الايمان وعزم الجهاد فى أيامها العشرين


كثيرة هى أنهار الحبر المسكوب فى وصف تلك الموقعه ..
كانت ولا زالت تتواصل بالرغم من مرور ثلاثة وثلاثين عاما على وقوعها ..
فى كل عام .. فى مثل هذا الوقت من العام ..
بالذات هذا العام الذى تتقارب فيه المناسبة بموعدها الأصلي .. فتصافح أيام رمضان أيام أكتوبر
فى كل عام ..
تنهال الكتب والدراسات فى ختلف الأكاديميات العسكرية والسياسية والصحفية فى محاولة لالقاء الضوء على أسرار تلك الحرب
كل ما كُـتب ولا زال يكتب عبارة عن سطور دهشة .. وحروف انبهار غير محدود ..

كلها يتساءل ..
وما من اجابة ..
كلها يصرخ ,..
كيف وقعت .. كيبف سارت .. وكيف صارت .. وكيف نبغت ..؟!!

يحاولون بما لديهم من المنطق .. تفسير معجزة تجاوزت حتى حدود المنطق ..
وندرة ..
ندرة من المحللين والكتاب هى تلك التى توصلت الى السر ..
وان كانوا جميعا لم يسلطوا الضوء عليه بما يكفي ..

فاتهم سحر العقيدة الاسلامية .. الذى سفر بوجهه فى صيحه " الله أكبر " انطلقت من حناجر أكثر من مائة ألف مقاتل مصري ومثلهم أو يزيد قليلا على الجبهة لسورية ..
" الله أكبر .. "

صيحه جبارة .. لم تصدر بها الأوامر
ولم تعرفها الاستراتيجية العسكرية العالمية .. ولم تدرك معناها أو تأثرها
فقط أدركها العدو يوم العاشر من رمضان .. السادس من أكتوبر عام 1973 م فى أشد أوقات الظهيرة حرا وقيظا ..
أدركها وهو قابع خلف تحصيناته الفولاذية ,,
فاذا به يترك مواقعه ويخف هاربا من هؤلاء القوم الذين أرهبوا النيران ولم يرهبوها ..

كان يوما من أيام الله ..
اجتمعت فيه وله .. كل أسباب الجهاد .. فتمخضت روح الاسلام عبر حدائق الايمان التى ملأ عبيرها أجواء العرب .. فأعادهم الى عهد مضي ..
وكُـتب لهذا الجيل أن يحقق بل يخلق تاريخا جديدا للعروب والعروبة ..

فإلى كل دمعه تأثر على كل خد عربي أو مسلم .. أهدى هذه الدراسة ...


خطة الدراسة ..

ما أحاول تقديمه هنا .. ليس بدراسة شاملة أو أكاديمية عن حرب أكتوبر ..
فما أكثر ما أُريق من أنهار الحبر وصفا وتأكيدا على حدوث المعجزة الحربية ..
وانما هو دراسة للجانب الايمانى فى المعركة .. مشبعا قدر الامكان بالأسرار والتفاصيل والتى ستجدون معظمها ان شاء الله .. أسرارا غير مطروقة أو على الأقل لم تـُطرق من قبل لأنها ما زالت حديثة الكشف بعد طول بيات فى الخزائن السرية حتى جاء موعد اعلانها من عام 2000 م وحتى اليوم ..
فى اعادة واجبة لأسرار التفوق العسكرى العربي فى ذلك اليوم الى الايمان العارم فى أعماق المقاتلين ..

لأن أيام الحرب العشرين ... ما كانت معجزة حربية غيرت المفهوم الاستراتيجى للحرب العسكرية .. بقدر ما كانت معجزة ايمانية .. لو يُـدرك المنصفون ...
وسأحاول الحديث تباعا عن النقاط التالية ..

أولا ..
نبذة ومقدمة عن نكسة يونيو عام 1967 م ..
ثانيا ..
حرب المخابرات كأحد نوابغ العمل الأمنى على مر العصور فى خطة التمويه الاستراتيجى
ثالثا ..
بطولات الأسلحه المختلفة بالأمثلة الكافية على الجبهتين ضد نظائرها من قوات العدو
رابعا ..
أثار حرب أكتوبر بالاجمال ثم بالتفصيل فى تغيير المسار العربي بالكامل
خامسا ..
البطولات الفردية لأناس غيروا مسارات الحرب بذواتهم

مصادر الدراسة .

كما سبق القول عن حرب رمضان .. فهى الحرب التى غيرت مجرى الاستراتيجية العسكرية فى العالم أجمع وتفوقت بآثارها فى جميع المجالات ما أتت به الحرب العالمية الثانية كما سنرى .
ومن الطبيعى أنها كانت موضوعا شديد الخصوبة للكتاب والمحللين فى شتى أنحاء العالم ..
ولغرض فى نفسي ..
جعلت معظم المصادر التى لجأتُ اليها .. مصادر أجنبية ..
والهدف الرئيسي لهذا كان تطبيق القول العربي المأثور
الحق .. ما شهدت به الأعداء ..

والسبب الثانى .. الاستفادة من كومة الوثائق السرية التى حان وقت الافراج عنها منذ عامين أوثلاثة طبقا لقانون الوثائق فى معظم دول العالم والذى يسمح بتداول تلك المعلومات بعد مضي ثلاثين عاما .. تطول أو تقصر طبقا لأهمية الوثيقة ..

لنلقي الضوء على ما قاله الغرب وشهدوا به على أنفسهم
اضافة الى بعض الكتابات العربية القديرة من المحللين العرب والذين شرحوا لنا بدقة مدى تلك الحرب وآثارها ..

وتلك المراجع باختصار هى ..

أولا ..
كتاب عشية التدمير " للمحلل العسكرى الأمريكى هوارد بلوم "
ثانيا ..
تحقيقات لجنة " أجرانات " والتى شكلت باسرائيل عقب الحرب لتقصي الحقائق وكانت عضويتها قاصرة على أعضاء الكنيست الاسرائيلي
ثالثا ..
مذكرات وزير الخارجية الأمريكى " هنرى كيسنجر " والمننشورة تحت عنوان " سنوات الفوران "
رابعا ..
كتاب " التقصير " أو " المحدال " باللغه العبرية وهو الكتاب الذى ألفه بعض العسكريين الاسرائيلين وتم تحليله بالعديد من المؤلفات العربية
خامسا ..
وثائق حرب أكتوبر الأمريكية والاسرائيلية المنشورة فى عدة مصادر
من عام 2000 م الى عام 2003 م ..
سادسا ..
كتاب " أكتوبر السلاح والسياسة " للمحلل السياسي العملاق محمد حسنين هيكل
سابعا ..
كتاب " حرب أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية " للمفكر المصري جمال حمدان
ثامنا ..
كتاب " حرب أكتوبر بشهادة اسرائيلية " للكاتب المصري وجيه أبوذكرى
تاسعا ..
مذكرات كافة قادة أكتوبر بلا استثناء
مذكرات المشير محمد عبد الغنى الجمسي قائد العمليات أثناء حرب أكتوبر وبطل محادثات فك الاشتباك المعروفة باسم " محادثات الكيلو 101 " ووزير الدفاع المصري فيما بعد

مذكرات وزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل , ومذكرات الفريق الشاذلى رئيس الأركان ومذكرات الفريق عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث ومذكرات المشير محمد على فهمى قائد الدفاع الجوى ومذكرات وكتابات المشير أبو غزالة الذى كان أحد قادة المدفعية برتبة عميد أثناء الحرب

عاشرا ..
كتاب " كل شيئ هادئ فى تل أبيب " للكاتب المصري حسنى أبو اليزيد

الحادى عشر /
مذكرات قادة إسرائيل وقت الحرب ..
مذكرات جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية ,
ومذكرات موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي
ومذكرات إيلي زاعيرا مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية

ثانى عشر /
مجموعة الوثائق والصور المفرج عنها من إدارة التاريخ العسكري والمجموعة بموقع ( المجموعة 73 مؤرخين ) بشبكة الإنترنت وتتضمن شهادات عدد كبير من أبطال الحرب


وأخيرا ..

المرجع التاريخى الهام عن تفاصيل عمليات الحرب على الجبهة المصرية وهو كتاب
( المعارك الحربية على الجبهة المصرية ) للواء جمال حماد


وأيضا مقالات الكاتب والروائي المصري د. نبيل فاروق عن خطة المخابرات المصرية فى التمويه على العدو وخداعه حتى تمت الحرب

فتعالوا بنا نتأمل قليلا ونتجول فى الأجواء الرمضانية بين حدائق الايمان التى أعادت للعرب جميعا ذكرى عهودا مضت كان فيه كل شيئ يحوطنا مردودا لأمر الله تعالى

محمد جاد الزغبي 09-30-2010 01:58 PM

الحلقة الأولى

حرب يونيو .. والصحوة العربية ..


التوقيت ..
الصباح الباكر من يوم الخامس من يونيو لعام 1967م ..
المكان ..
الأرض العربية فى كل من ..
شبه جزيرة سيناء المصرية ..
هضبة الجولان السورية ..
الضفة الغربية لنهر الأردن ..
القدس الفلسطينية ..

الحدث ..
الجولة الثالثة فى الصراع العربي الاسرائيلي المرير ..
النتيجة ..
دحر القوات العربية كاملة .. واحتلال القوات المعادية للأراضي السابق ذكرها دونما أى مقاومة مجدية فى أسوأ كارثة عسكرية فى تاريخ العسكرى الحديث على وجه الاطلاق

من الصعوبة بمكان ..
أن يتصور غير المعاصرين لتلك الأزمة مدى طعم الهزيمة المر فى الحلوق .. كيف كان وما هى آثاره
كانت صدمة مروعه ..
ليست عسكريا فحسب .. بل على جميع المستويات دون استثناء ..
دوامة كاملة من المرارة والحيرة ألقت بظلالها السوداء على بلاد العرب جميعا .. للتغير نظرة العالم اليهم ونظرتهم الى أنفسهم كذلك .


كانت صفعه مدوية ..
حسبها اليهود ضربة قاضية .. غير أن المقاتلين كان لهم رأى آخر ..
فما ان ذهبت الرجفة المريرة حتى امتدت الأيدى بكل اصرار ورغبة لتمسح الدموع عن العيون لتتأمل وتتدبر وتحاول استيعاب الضربة ..
تحاول أن تجعلها ضربة موجعه .. لكنها ليست قاضية .. بل محفزة .. داعية القلوب والبصائر التى عميت للانتفاض على نفسها ومحاولة القيام والانتصاب مرة أخرى ..

فهل نجحوا فى ذلك يا ترى ..





الصحوة


كانت البداية عند مصر ...
كما هو طبيعى فى العالم العربي أو كما يقال ..
ان مصر اذا انتفضت انتفض العرب .. واذا نامت نام العرب ..
كانت الانتفاضة هنا فارسها الفارس المصري والمواطن البسيط ..

التقت العيون الشاحبة يوم التاسع من يونيو .. يوم اكتشاف الأكاذيب وانهيار سياسة التضليل عقب خطاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذى أعلن فيه التنحى نتيجة للهزيمة الساحقة التى دمرت القوات المصرية وتعرضت بها لما يشبه الابادة للأفراد والمعدات ..

كانت الانتفاضة على مرحلتين ..
مرحلة عند الجبهه ..
عند رأس العش .. حيث رفضت مجموعه المقاتلين بهذا الموقع الاستجابة لأمر الانسحاب العشوائي الذى صدر قبل أن تكون هناك حربا من الأساس
وأجبروا العدو على التراجع أمام بسالتهم المطلقة ..
ومرحلة أخرى
فى أعماق الشعب المصري .. وبغض النظر عما ان كان خطاب التنحى من قبيل اللعبة السياسية من الرئيس المصري الا أن الشواهد القاطعه تشي أن الشعب المصري أجل الحسالب نهائيا الى ما بعد الافاقة ..
كان لسان الحال يقول ..
" الى أين تذهب الآن .. ابق وفيما بعد يحين الحساب "
وفى فترة قياسية مدهشة ..
تم اعادة البنية المتبقية من الجيش عقب التخلص من الفساد الضارب بأعماقه فى القوات المسلحه بمحاكمات مختلفة وتطهير صارم .. وتولى الفريق أول محمد فوزى رئيس الأركان المصري وزارة الدفاع ليبدأ التنظيم الجديد وفق الأساليب العسكرية الواضحه
وانهالت المساعدات العينية والمادية من سائر الدول العربية وكان أولها تبرع الجزائر بعدد من طائرات الميج السوفيتية لتدعيم سلاح الطيران لدى دول المواجهة ..
وفى فترة ومرحلة متقدمة .. وصلت القوات المصرية التى كانت تشارك فى معارك اليمن أو فلنقل مهزلة اليمن !!

لتسرع باتخاذ موافعها على جبهة القتال .. وتبدأ ملحمة كبري ومعركة لا تقل روعتها عن حرب التحرير التى تلتها وأعنى بها حرب الاستنزاف التى استمرت من عام 1967 م الى عام 1970 م عند قبول القيادة المصرية لوقف اطلاق النار سعيا لاستكمال حائط الصواريخ الدفاعى لحماية العمق المصري من الهجمات المتدنية التى انتهجها العدو قاصدا بها المدنيين ردا على ضربات المصريين فى حرب الاستنزاف ..
أى أن مصر دخلت أجواء حرب النكسة دون حائط صواريخ دفاعى يحمى العمق من هجمات عدو يعتمد بصفة أساسية على سلاح طيرانه البالغ التفوق !!

حرب الاستنزاف .. 1967 الى 1970 م


بدأت فى أكتوبر التالى للنكسة مباشرة .. وكان أبطالها من رجال الجيش المصري الذين استيقظت همتمهم فى سرعه قياسية بالرغم من الضربة القاصمة لهم والتى تحدث عنها المراقبون العسكريون قائلين بأن مصر تحتاج مائة عام لكى تفيق وتستعيد توازنها لحرب جديدة ..
وهناك معلومات مختلطة يجب ايضاحها هنا ..
ومنها أن استعداد العدو للحرب القادمة عن طريق اقامة تحصيناته المختلفة .. كان استعدادا جبارا وان كان لم يصمد أمام العزيمة المصرية ..
فأنشأ العدو خطوطا مختلفة التحصين بطول الجبهة وعمقها اضافة الى المانع المائي بالغ الصعوبة المتمثل فى قناة السويس

والخلط الواقع هنا والذى يجب ايضاحه كما يقول مفكرنا الكبير جمال حمدان ..
هو أن خط بارليف المنيع لم يكن خطا واحدا ..
بل خطين ..
تم تدمير الأول خلال حرب الاستنزاف تدميرا تاما ..
ليعود العدو الى تأسيس خط بارليف الثانى بأسس دفاعية صلبة تفوقت بألف مرة على الخطوط المماثلة كخط سيجفريد الألمانى وخط ماجينو الفرنسي فى تطبيق لنظرية الحرب الدفاعية والتى كانت سقطت منذ الحرب العالمية الثانية ..
وأمام خط بارليف كان الساتر الرملى الذى يرتفع بمقدار عشرة أمتار ويبتلع ضربات المدفعية مهما بلغت قوتها .. وخلف خط بارليف كانت توجد خطوط دفاعية أخرى على مراحل متباعدة من عمق الجبهة ..

ليتنشي العدو بدفاعاته وتحصيناته وتبدأ الحرب الاعلامية الرهيبة لتدمير الروح المعنوية للمقاتلين والجماهير
الا أن حرب الاستنزاف أعادت الروح وصمدت أمام الدعاية الاسرائيلية بعد عدد من العمليات فائقة الابهار وبطولات سطرتها الصفحات المشرقة على الجبهتين المصرية والسورية ..
وتعددت عمليات الابرار والاسقاط الجوى للقوات المصرية خلف خطوط العدو قاصدة مواقعه ومدمرة اياها مما أصاب القيادة الاسرائيلية بالجنون ...












واضطر موشي ديان لاحتمال التأنيب الرهيب الذى صبه على رأسه " جيمس أنجلتون " وكيل المخابرات المركزية الأمريكية المسئول عن العلاقات الاستراتيجية بين الحليفين

وان غضب القيادة الأمريكية مستعرا نظرا لبطولات حرب الاستنزاف ونتائجها المدوية والتى تراوحت بين تدمير المدمرة " ايلات " بقارب طوربيد لا يساوى ثمنه ثمن محرك واحد من محركات تلك المدمرة .. اضافة الى السلاح والذخائر التى تم تدميرها فى الضفة الشرقية للقناة بعمليات الصاعقه المصرية ..
وسجلت اسرائيل اسم الأبطال الذين هزوا سمعه جيشها هزا .. وكان على رأسهم
العقيد ابراهيم الرفاعى

الذى عبر بمجموعته الفدائية عشرات المرات محققا نتائج عسكرية وانسانية مذهلة .. واكتلمت بطولته باستشهاده فى أول أيام الحرب تاركا خلفه تاريخا مجيدا ..
وفى ذلك الوقت ..
كانت القيادتان المصرية والسورية تنسقان الجهود لبدء ملحمه التحرير ..
وكانت الأنظار ترقب وتنتظر القرار السياسي ببدء العمليات فى نهاية عام 1970 م .. وهو الموعد الذى كان يخطط له الرئيس عبد الناصر واضعا فى ذهنه اسم الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان فى ذلك الوقت كقائد ووزير حربية أثناء المعركة ..
ويتدخل القدر ..
ويـُستشهد الفريق عبد النعم رياض فى الجبهه فى نهاية عام 1968 م ..
ويصاب عبد الناصر بالاحباط المرير .. لوفاة القائد الفذ ... وأيضا لتفجر الخلافات بينه وبين القيادة السوفيتية حول صفقات السلاح التى تعطل بدء المعركة , ..
وثالثة الأسافي
كانت تفجر أحداث أيلول الأسود وما استتبع ذلك من ففرقة عربية فى وقت تحتاج فيه الأمة الى الصلابة أمام مقدرات القتال المفتوحه أمامها ..
حيث كانت أحداث سبتمبر " أيلول " فى الأردن عقب تفجر وتصاعد الخلاف بين الملك حسين ملك الأردن فى ذلك الوقت وبين منظمة التحرير الفلسطينية ليبلغ الخلاف منحنى دمويا بعد تدخل الجيش الأردنى لتصفية الوجود الفلسطينى بالأردن ..
وتنعقد القمة العربية فى سبتمبر 1970 م .. بعد قبول مبادرة روجرز والتى أنهت بها معارك الاستنزاف .. والتقي القادة العرب بالقاهرة .. وما ان انفضت القمة .. حتى جاءت وفاة الرئيس عبد الناصر تعطل قليلا الطموح العربي فى بدء القتال ..

ويتولى الرئيس السادات مقاليد الأمور فى عام 70 .. ولكن ونظرا للخلافات السياسية علبى التركة المصرية بين القيادات المصرية المختلفة .. لم يصبح التولى فعليا الا بعد ازاحه مجموعه مراكز القوى عن الحكم عام 1971 ..
وتولى حافظ الأسد رياسة الجمهورية السورية .. لتلتقي القيادتان المصرية والسورية على قلب رجل واحد سعيا وراء ازالة آثار العدوان ..

ولكن ما الذى كان يسعى اليه العرب من الحرب القادمة ..؟!!

أهداف معركة التحرير ..


لم يكن النصر هو الهدف المطلوب أمام الجماهير العربية المختنقة الأنفاس منذ يوم الخامس من يونيو
كما لم يكن هو الهدف الوحيد للمقاتل العربي البسيط ..
كان الهدف رد الاعتبار ..
وعكس نتائج حرب يونيو المخزية .. وتلك النتئج كانت تتمثل فيما يلي

أولا ..
إعادة الكرامة العربية المهدرة بعد أن هانت العروبة والعرب بين دول العالم وأصبح الانتساب الى العروبة داعيا للسخرية وتم تصويرهم على أنهم من مقاتلى الجمال والسيوف ولا يفقهون شيئا فى الحرب الحديثة ..
ثانيا ..
تم تدمير الجيش المصري ـ لا سيما سلاح الجو ـ على الأرض ودون أن يمنحه أحدُ فرصة القتال الحقيقية أمام الجندى الاسرائيلي فى ظل الضربة الخاطفة التى انتهجت فيها اسرائيل السياسة العسكرية الألمانية فى الحرب العالمية الثانية ..
فكان المطوب الرد بالمثل .
وذلك بالرغم من الفارق الضخم فى الحالتين ..
فلم تكن ضربة اسرائيل ضربة متفوقة بقدر ما كانت ضعفا من خصومها ..
أما فى حالة الرد .. فستكون المواجهة مع عدو متفوق وتكنولوجى فى كامل تألقه
ثالثا ..
أبطال المؤامرة الاسرائيلية فى يونيو .
بداية من ليفي أشكول رئيس الوزراء وحكومته ووزير دفاعه موشي ديان وقادة وجنود الجيش الاسرائيلي .. ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية المتواطئ " ليندون جينسون " وادارته ..
كان المطلوب كسر أنوف هؤلاء الذين حضروا التفوق الاسرائيلي واذاقتهم من نفس الكأس
رابعا ..
منح الفرصة الكاملة للجندى العربي المثابر والمصري بصفة خاصة .. منحه فرصة حرب مواجهة متكافئة ومباشرة لأول مرة فى تاريخ المواجهات
فلم يسبق أن واجه العرب اليهود فى معركة قوة مباشرة على جبهات القتال سواء فى حرب 1948 م أو حرب السويس 1956 م .. أو حرب يونيو 1967 م ..

فهل نجح العرب يا ترى فى تحقيق تلك الأهداف ..؟!

نعم ..
حققوها بل وزادوا عليها فى ملحمة بطولة .. ما زالت تقف شاهدة على شعب أحسن ترك الأمر لله .. وبذل جهده فأوفاه الله أجر المومئنين ..
وكيف لا ..
وقد أفاق المغيبون من فوتهم الطاحنه ومظاهر البطولة الزائفة ..
حققوا النصر المؤزر فى معركة بدر الصغري ..

فقط عندما استبدلوا كلمة .. " باسم الأمة " الى كلمة " بسم الله .. "

على نحو ما سنرى فى قادم الصفحات ان شاء الله

محمد جاد الزغبي 09-30-2010 02:01 PM

الحلقة الثانية ..

حرب المخابرات كأحد نوابغ العمل الأمنى فى خطة التمويه الاستراتيجى


السلاح الوحيد الذى انتصر بالنكسة ..


من غرائب وعجائب الأمور فى شأن جهاز المخابرات المصري .. أنه كان الجهاز الوحيد الذى انتصر فى حرب يونيو ولم تناله الهزيمة .. !!
وكان وللمفارقة السوداء ..
هو الجهاز والسلاح الأكثر شعورا بصدمة يونيو .. !!

وتفسير هذا التضارب .. يتضح فى أن جهاز المخابرات المصري أتى بالمعلومات الكاملة لحرب يونيو بشتى تفاصيلها ووضع تلك المعلومات رهنا لقيادته السياسية بعد أن اخترق جهاز المخابرات الاسرائيلي اختراقا شبه تام
وهو بهذا أدى رسالته والمطلوب منه بالرغم من الفساد الذى كان قد استشري كنتيجة طبيعية لتسلط رئيسه الأسبق اللواء صلاح نصر ..
وبهذا يكون جهاز المخابرات المصري هو السلاح الوحيد الذى انتصر فى كلا الحربين ..
يونيو 1967م.. وأكتوبر 1973م ..

وقصة جهاز المخابرات المصري تحديدا ..
قصة ملحمة بطولة غيرعادية .. تعرضت للأسف الشديد لتشويه متعمد وظلم فاحش نتيجة لأفعال تم ارتكابها من بعض ضباطه .. أضاعت الكثير والكثير من انجازات هذا الجهاز الذى نبت فى ظروف شديدة الصعوبة ..
ولنا أن نتخيل صعوبة المواجهة مع مخابرات العدو .. عندما نعرف الفارق الضخم على جمع المستويات بين جهاز المخابرات المصري " م ـ ع ـ م " وبين نظيره الاسرائيلي " الموساد " أو مؤسسة الاستخبارات ..
وتوجد مقولة تاريخية توضح الفارق الضخم ملخصها
" أن الدولة المصرية أنشأت المخابرات المصرية .. بينما أسست المخابرات الاسسرائيلية الدولة اليهودية .. "
وتلك مقولة صادقة تماما .. لأن الموساد سابقة فى التأسيس على الدولة اليهودية ذاتها فى سابقة تاريخية غير قابلة للتكرار ..

فكل ضباط المخابرات الاسرائيلية كانوا من المحترفين والمتدربين على علوم المخابرات وعملياتها نتيجة لخبرتهم الكاسحه فى أجواء الحرب العالمية الثانية
ومع ذلك .. ومنذ أن صدرت الأوامر من الرئيس عبد الناصر الى السيد زكريا محيي الدين بضرورة العمل على انشاء جهاز مخابرات مصري يعمل على حماية الأمن القومى المصري فى مواجهة العدو المتفوق والمتنوع فى أجهزته الأمنية " الموساد ـ الشين بيت ـ أمان "

وعلى يد عدد من ضباط القوات الجوية المتمرسين بدأت نواة الجهاز وحفرت تلك المجموعه فى الصخر سعيا وراء المراجع المؤهلة لتلك العلوم الفريدة فى عالم الأمن وبدأت مكتبة جهاز المخابرات المصري تكتظ شيئا فشيئا بالمراجع المتخصصة والتى عكف عليها أوائل الضباط وكان أبرزهم

عبد المحسن فائق ـ محمد نسيم ـ شعراوى جمعه ـ حسن صقر ـ صلاح نصر ـ وغيرهم ..

وتمضي السنوات ويتشكل جهاز المخابرات على أحدث الأسس المعروفة لهذا العلم .. ويحقق عمليات ناجحه ومبشرة بمقاييس تلك الأيام ومقارنه بالظروف المتعسرة التى صاحبت انشاءه ..
ثم تأتى قضية الانحراف التى تسبب فيها صلاح نصر والذى يعد أول رئيس فعلى لهذا الجهاز الأمنى بالغ الحساسية وينتهى الأمر الى محاكمته هو ومجموعته فى قضية انحراف المخابرات الشهيرة ..

وتأتى اللحظة الفارقة فى تاريخ الجهاز ...
عندما يتم اسناد عملية تطهير واعادة الانضباط للجهاز الى محمد نسيم
" قلب الأسد " وهو البطل المصري الاستثنائي فى هذا المجال وواحد من الندرة الذين حفروا اسما شهيرا فى العالم أجمع بعملياته الفذة خاصة قبيل وأثناء الاعداد لحرب رمضان
ويتولى أمين هويدى رياسة الجهاز ..
وتبدأ عملية الاعداد والتمويه على العدو فى اطار الخطة الموضوعه للتحرير ..
اضافة الى تكثيف الجهود فى اطار عملية الجاسوسية والجاسوسية المضادة
والجاسوسية
هى عملية الحصول على أسرار العدو .. بينما الجاسوسية المضادة هى منع العدو من فعل العكس ..
وتتهاوى عشرات الشبكات التجسسية التى وقعت فى يد المخابرات المصرية ..
وتنشط شبكة العملاء والضباط خارج مصر لاجابة متطلبات القيادة السياسية فى خطة الاعداد للحرب
وكان دور المخابرات المصرية فاعلا على مرحلتين ..

الأولى ..
الاعداد طيلة السنوات الست ..
الثانية ..
البدء الفعلى لخطة الخداع الاستراتيجى فى بداية عام 1973 م ... بعد أن حددت القيادة السياسية هدفها فى تلك السنة لادراك النصر ..

المرحلة الأولى

الاعداد ..

وفى تلك المرحلة .. أسندت الى محمد نسيم قيادة عدد من العمليات بالغه الحساسية كان لها أكبر الأثر فى النصر فيما بعد حيث تولى اعادة تدريب وتأهيل العميل المصري الأشهر رفعت الجمال على أسلوب التخابر وفق متطلبات العصر وتم تدريبة على استخدام أجهزة الاتصال اللاسلكية بدلا من الأحبار السرية لسرعه انجاز المعلومات وزيادة فى الأمن له

وتمكن رفعت الجمال بعد تدريبه من محمد نسيم ومراقبة عبد العزيز الطورى ضابط الحالة المختص بعملية رفعت الجمال من الوصول بهذا الأخيرؤ الى مستوى رجل المخابرات المحترف
وتصاعدت مكانته فى المجتمع الاسرائيلي لتغرق المخابرات المصرية فى فيض رهيب وبالغ الثراء من المعلومات فائقة السرية كان أبرزها على الاطلاق

• خطوط وتحصينات ورسومات خط بارليف كاملة ..
• مواقع أنابيب النابالم الحارق والتى تم انشاؤها بطول القناة وقد تمت العملية بمعاونة رفعت الجمال لفريق المخابرات المصري القائم بالعملية ..
• تحركات القوات الاسرائيلية ودرجات استعدادها كاملة
• صفقات التسليح بتفاصيلها بالغه السرية
• الايقاع بضابط المخابرات الاسرائيلي " ايلي كوهين " الذى تمكنت المخابرات الاسرائيلية من زرعه فى قلب القيادة السورية كنائب لوزير الدفاع تحت اسم " كامل أمين ثابت " حيث تمكن الجمال من اكتشافه ليبلغ المخابرات المصرية ويطير محمد نسيم ومعه ملف ايلي كوهين كاملا الى الرئيس السورى فى ذلك الوقت ليتم اعدام ايلي كوهين فى أكبر ميادين دمشق وكانت ضربة صاعقة أدرات رؤوس الاسرائيليين طويلا ..

وقام محمد نسيم أيضا بتنفيذ عملية الحج والتى دمر فيها رجال الضفادع البشرية الحفار الكندى
" كينتنج " فى ميناء أبيدحان بساحل العاج مع نهايات عام 1968م ..
وكانت اسرائيل قد جلبت الحفار سعيا لقتل الروح المعنوية المصرية .. وكان تدمير الحفار دفعه معنوية هائلة للشعب العربي بأكمله

وتتواصل الجهود

وتكتشف المخابرات المصرية عميلا سوفيتيا فى قلب اسرائيل وهو الدكتور " اسرائيل بيير "
والذى كان يشغل عددا من المناصب الهامة فى المؤسسة العسكرية الأسرائيلية ويعمل أيضا كمعلق عسكرى فى جريدة " هامشمار " اضافة الى عمله كأستاذ متفرغ بجامعه تل أبيب "
وكان اكتشافا مذهلا أحسنت المخابرات المصرية استغلاله ببراعه فائقة حين تمكنت من تجنيد عشيقته الأوربية " ريناتا "
والتى كانت تتبعه وتنقل ما يقع تحت يدها من عمله أولا بأول الى المخابرات المصرية أى أن الرجل كان يعمل لحساب مصر دون أن يدرى واستمر هذا المسلسل المثير حتى تم اكتشاف أمره ..

وتنجح المخابرات المصرية أيضا فى زرع النقيب " عمرو طلبة "
فى قلب جيش الدفاع وهو الذى كانت له بطولة مشهودة فى أول أيام الحرب حين رفض رفضا باتا التخلى عن موقعه فى الجيش الاسرائيلي على الجبهه قبيل قيام الحرب
حيث كانت المخارات المصرية قد أرسلت اليه بضرورة مغادرة موقعه الى نقطة محددة مسبقا لتلتقطه قوات الجيش الثانى الميدانى
فرفض تماما بعد أن شعر أن تلك الأوامر تعنى بدون شك أن القوات على وشك بدء الهجوم واستمر فى موقعه يغذى الطائرات المصرية وقيادته بمعلومات من قلب الجيش الاسرائيلي أثناء الساعات الأولى للمعركة .. ليستشهد هناك تحت وابل القنابل الذى صبه الطيران المصري بطول الجبهه

ويتمكن ضباط المخابرات المصرية بمساعدة بدو سيناء وأطفالهم فى كشف مواقع ونقاط القوة والضعف للعدو فى قلب سيناء وكان نجم تلك المهمه طفل لم يتعد التاسعه من عمره وكان لدوره عظيم الفضل فى معركة التحرير ليستقبله الرئيس السادات بنفسه تكريما له

وترسل المخابرات المصرية عميلا فذا آخر فى عملية عرفت باسم العراف ويتمكن ضابط المخابرات المصري من زرع نفسه فى المجتمع الاسرائيلي كأحد العرافين الموهوبين ليتسلل شيئا فشيئا الى مجتمع جنرالات جيش الدفاع حتى يحوز الثقة المطلوبة فيتمكن من اختراق الهدف المطلوب ويعود به سالما الى قيادته بالقاهرة ..

وتأتى أيضا واحدة من أبرز العمليات قاطبة ..
حين تمكنت المخابرات المصرية من زرع عميلة أوربية نجحت فى التعرض لأحد العاملين بالمصانع المنتجة لمادة النابالم الحارقة وكان الحصول على عينه منها ضروريا لمعركة العبور لأن الجيش الاسرائيلي لم يكن يستخدم النابالم الصافي بل كان يستخدم تركيبا معقدا كان من الأهمية بمكان معرفة آثاره بالتحديد لايجاد حل للتعامل معه حين يتم البدء فى العمليات
وهكذا تعددت البطولات بلا حصر كلها فى خلال تلك الفترة الحافلة من أكتوبر 1973 الى بدايات عام 1973 م .. كمرحلة تمهيدية فى خطة الحرب والتمويه


ويتبقي لنا من معركة المخابرات خطة الخداع الاستراتيجى والتى بدأت مع بداية عام 1973 م ..

،،


محمد جاد الزغبي 09-30-2010 02:03 PM

والآن مع المرحلة الثانية من حرب المخابرات فى اطار وقائع وأحداث معركة العرب الكبري


المرحلة الثانية ..


معركة المخابرات و خطة الخداع الاستراتيجى والتى بدأت مع بداية عام 1973 م ..


بعد مرحلة الاعداد العام وتجهيز الساحه لتوافر المعلومات اللازمة لاتمام معركة العبور ..
ومع بدايات عام 1973 م ..

بدأت مرحلة الاعداد للتمويه على موعد الحرب الذى بدأت خطواته الأولى فى التحديد مع تولى الرئيس حافظ الأسد للمسئولية فى سوريا وانطلاق مدى التعاون العربي لحده الأقصي بعد طول غياب فى المظهرية حيث لم يسبق للعرب اطلاقا أى نوع من التعاون الجدى قبل حرب رمضان !!
واجتمعت القيادات المصرية والسورية واتفقت على المبادئ العامة لتحديد خيوط المعركة العريضة والتى كانت تزداد تخصيصا كلما مر الوقت
وفى مقر قيادة القوات البحرية المصرية بالاسكندرية
اجتمع الوفد العسكرى السورى
برياسة اللواء مصطفي طلاس وزير الدفاع السورى
وعضوية كل من
اللواء يوسف شكور رئيس أركان الحرب ـ اللواء ناجى الجميل قائد القوات الجوية ـ اللواء حكمت الشهابي مدير المخابرات الحربية ـ اللواء عبد الرازق الدرديري رئيس هيئة العمليات ـ العميد فضل حسين قائد القوات البحرية

والوفد المناظر له بمصر
برياسة الفريق أول أحمد اسماعيل وزير الحربية
وعضوية كل من
الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس هيئة أركان الحرب ـ اللواء محمد عبد الغنى الجمسي رئيس هيئة العمليات ـ اللواء محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوى ـ اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية ـ اللواء محمد حسنى مبارك قائد القوات الجوية ـ اللواء فؤاد ذكرى قائد القوات البحرية

واتفق الوفدان على التكامل والتنسيق الكامل فيما بينهما للاعداد للمعركة وتم الاتفاق على تولى المشير أحمد اسماعيل قيادة جبهة المعركة للجيشين المصري والسورى
ومع مضي الوقت طلبت القيادة السياسية تحديد عدة مواعيد للحرب المنتظرة .. وقامت اللجنة المشتركة بين القيادتين بتحديد المواعيد وبرز فيها الفريق محمد عبد الغنى الجمسي رئيس هيئة العمليات بمصر حيث دوًن بخط اليد المواعيد التى تم الاتفاق عليها بين الوفدين وخطة كل موعد وسبب اختياره بما عـُرف فيما بعد " بكشكول الجمسي "
وكانت المواعيد الثلاثة كالتالى
مايو 1973ـ سبتمبر 1973 ـ أكتوبر 1973 م ..

وكان التقييم العسكرى يميل لأكتوبر تحديدا لموافقة الظروف ومناسبتها من جميع الجهات لبدء العمليات العسكرية هو ما انتهى اليه الأمر فعلا فيما بعد
وتجدر الاشارة الى أن الأقوال التى ظهرت فيما بعد حول أن سبب اختيار السادس من أكتوبر هو موافقته لعيد الغفران عند اليهود " عيد كيبور " كسبب منفرد هو أمرٌ غير صحيح لأنه سبب من الأسباب فقط

كما أوضح ذلك الفريق الجمسي فى مذكراته حيث كانت ظروف المد والجزر مناسبة اضافة لتوافر خاصية الليل الطويل بما يخدم العمليات وأيضا الليلة المقمرة ..

عند تحديد الموعد
بدأت أخطر عملية تمويه فى الحروب الحديثة بكل مقياس عسكرى ومنطقي
اشتركت فيها وقادتها المخابرات العامة المصرية والمخابرات الحربية المصرية بالاشتراك مع نظيرتها السورية ..

الخطوة الأولى
بدأ فريق العمل بجهاز المخابرات المصري وضع عوائق التنفيذ التى من الممكن أن تعترض سرية العمليات وكان مطالبا بجهد خرافي
لأنه وببساطة كان مُـكلفا بتوقع كل شيئ ومعالجة كل قصور مهما كان تافها أو بسيطا
مع الوضع فى الاعتبارأن أجهزة المخابرات العربية تواجه جهازين عملاقين ..
الاسرائيلي والأمريكى بكل ما يمتلكانه من خدمات التكنولوجيا الفائقة ووسائل الرصد الغير عادية .
وتم عرض العوائق واجمالها فيما يلي

أولا .. أقمار الرصد العسكرى الأمريكية والتى وضعت فى خدمة حليفتها لرقابة الجيشين المصري والسورى بما يجعل الاستعداد والحشود قبيل المعركة أمرُ محكوم بانتشاره
ثانيا .. معدات العبور القادمة من الخارج وكيفية ادخالها لمصر دون رصد من عيون العدو
ثالثا .. محطة الانذار المبكر التى أنشأها العدو بقلب سيناء وهى قادرة على التقاط قيام الطائرات والقاذفات من مطاراتها وقبل وصولها للجبهه مما يؤثر على مبدأ المفاجأة ويعرض القوات لضربة اجهاض
رابعا .. إخلاء المستشفيات المدنية قبيل المعركة .. وهو إجراء حتمى لإيجاد أماكن لجرحى الحرب ما كان هذا الاجراء بالاجراء الذى يخفي على الرصد
خامسا .. طرح أحد رجال الفريق مشكلة الاظلام التى تصاحب أيام الحرب عادة وكيف أن الأسواق المصرية تفتقد الى المصابيح اليدوية التى يستخدمها المواطنون فكيف سيتم استيراد تلك المصابيح دون أن تلفت نظر العدو
وهل البديل عدم استيرادها من الأساس
سادسا .. الاتصالات اللاسيلكية التى تتم بين الوحدات المقاتلة وبين قيادتها ومن الممكن فك شفرتها بسهولة .. وكانت العقبة هنا فى السلاح البحرى والذى تحتم العمليات ضرورة ابحار الغواصات قبل الحرب بيومين كاملين لتتخذ أماكنها فى مضيق باب المندب لضرب أى سفن امداد وتموين فى طريقها لميناء ايلات
سابعا .. درجة الاستعداد واستدعاء الاحتياطى وهو اجراء حتمى بطبيعه الحال ومن السهل رصده

وقامت المخابرات المصرية بحل العوائق واحدة تلو الأخرى كالتالى بالتنسيق مع المخابرات الحربية وهيئة عمليات القوات المسلحة ..

وبدأت الخطوط العريضة لعملية التمويه عن طريق البث الاعلامى ونشر التخاذل الحادث بين أفراد الشعب الذى اقتنع أن حكومته تساومه على الحرب دون نية حقيقية لها
وبالرغم من خطورة هذا الاحساس وتلك المشاعر الا أن المخابرات العامة فضلت هذا لأن الشعور الساخط العام من الشعب والمتروك من القيادة السياسية دون تشجيع هو خير دليل على انعدام النية للتحرك العسكرى
وتفجرت المظاهرات العارمة الساخطة من الشعب خاصة من شباب الجامعات الذى كان لا يجد أمامه الا الخروج من الجامعه ثم الالتحاق بالخدمة العسكرية دون نهاية لهذا الأمر
كما تقلقت الحشود بالقوات المسلحة التى أهلكت نفسها تدريبا واستعدادا .. وبدأ التساؤل ينتشر عن موعد التحرك لا سيما أن حالة اللاسلم واللاحرب طفح بسببها الكيل بعد قبول مبادرة روجرز عام 1970 م والتى أوقفت حرب الاستنزاف التى كانت تمثل نوعا ما تدافعا فى أماج الأحداث أفضل كثيرا من حالة السكون المقيت ..

وعندما استوى المسرح الشعبي بشعور السخط المدمر

بدأت المخابرات العامة فى وضع الحلول النهائية للعقبات السالف ذكرها كالتالى ..

أولا ..
بالنسبة لأقمار الرصد العسكرى الأمريكى تمكنت المخابرات العامة عن طريق عملائها الغير عاديين من الحصول على الخرائط الكاملة وتوقيت مرور الأقمار العسكرية الأمريكية على مصر
وبواسطة الخبراء تم تحديد مسار بالغ الدقة تتخذه الحشود والمعدات للجبهة أشرف عليه اللواء الجمسي وكانت الأوامر مشددة بالالتزام الحرفي بالتحرك والوقوف طبقا للخطة المعدة حتى تم الأمر ومرت الحشود من تحت أنف القط الأمريكى ..
وبالنسبلة لجحافل وأرتال الدبابات والمدرعات
تم طرح الحل ببساطة عن طريق تسريب معلومة للعدو توضح أن ورش اصلاح الدبابات والمدرعات تم نقلها للخطوط الأمامية وهو الأمر الذى أضحك الاسرائيليين كثيرا لما يمثله نقل ورش الاصلاح للخطوط الأمامية من حماقة
بيد أن من ضحكوا صعقوا عندما اصطدموا بالواقع المرير وتبينت الخدعه أن الدبابات التى ظنوها فى طريقها للاصلاح عبر الشهور الماضية على الحرب كانت فى الواقع فى طريقها للتمركز بأماكنها استعدادا لبدء العمليات

ثانيا
وبالنسبة لمعدات العبور . تم وعن طريق التعمد تسريب معلومات مضللة للعدو تشي بأن الخبراء المصريين قدروا لمعدات العبور كمية تفوق ثلاثة أضعاف الكمية المطلوبة وتم استيراد تلك الكمية المهولة بالفعل وعلى نحو علنى وتم القاؤها على أرصفة ميناء الاسكندرية بشكل يوحى بالاهمال الروتينى الحكومى وظلت بأماكنها تلك مخزنة على هيئة أشكال هرمية
وما لم يدركه العدو أن أسلوب وضع المعدات كان شديد البراعه الى حد يفوق التخيل حيث أعدت المخابرات العامة مصاطب على الميناء تم القاء الكميات الزائدة من معدات العبور عليها بحيث توحى بضعف حجمها ..
أما الكمية المطلوبة للعبور فعليا فقد أخذت طريقها للجبهه وتم اخفاؤها فى الهياكل الخشبية للدبابات والمدرعات والموضوعه عمدا أمام ناظر العدو .. ليبدو الأمر وكأن تلك الهياكل معده لخداع الاسرائيليين ليقوموا بضربها وبالطبع لم يقم الاسرائيليون بمهاجمتها وهم يسخرون من العقلية العسكرية المصرية ..
وعندما حانت لحظة العبور عض الاسرائيليون بنان الندم أنهم لم يضربوا تلك الهياكل التى كانت مجوفة من الداخل وتحمل فى بطنها معدات العبور كاملة ..

ثالثا
وبالنسبة لمحطات الانذار الموجوده بقلب سيناء تم اعداد الخطة بحيث تقوم كتيبة من أفراد الصاعقة المصريين يتم اسقاطها قبل المعركة بيوم كامل خلف خطوط العدو لتقوم تلك الكتيبة بمهمه تدمير وتعطيل تلك المحطات وهو ما تم بنجاح فائق ليفاجئ العدو مفاجأة كاملة وهو يري سلاح الطيران المصري فوق رأسه فجأة بعد ظهر يوم العاشر من رمضان

رابعا
وبالنسبة لاخلاء العدد المطلوب من المستشفيات للحرب .. تم الاخلاء بخدعه بارعه شاركت فيها جريدة الأهرام بالاتفاق مع الكاتب الصحفي القدير محمد حسنين هيكل رئيس مجلس ادارة الأهرام ورئيس تحريرها حيث نشرت الأهرام تحقيقات مطولة عن تلوث بعض المستشفيات التعليمية الكبري مثل مستشفيات الدمرداش بفيروس السل .. وسلطت الضوء على الطبيب البارع الذى اكتشف الأمر بالصدفة ..
ثم تساءلت الأهرام فى معرض تحقيقاتها سؤالا منطقيا
ماذا عن بقية المتستشفيات وما هو موقفها من التلوث ؟!
وبناء على هذا قام وزير الصحة باصدار أوامره بضرورة اخلاء المستشفيات المشكوك فى اصابتها بالفيروس والعمل على تطهيرها
وهو ما تم بالفعل وتم اعلانه رسميا ونشرت التحقيقات والصور التى توضح عمليات التطهير التى تجرى على قدم وساق
وما ان حان موعد الحرب حتى كان العدد المطلوب اخلاؤه رهن الطلب

خامسا ..
وبالنسبة للمصابيح وتوفيرها بالأسواق وكيفية استيرادها دون أن يلفت هذا نظر عيون العدو فقد تم الأمر بخدعه بالغه الطرافة ..
حيث تم تكليف أحد ضباط المخابرات المصرية بالنزول للأسواق متنكرا مع اشاعه قوية تقول أنه أحد كبار المهربين .. وتعاون بالفعل مع أحد تجار الجملة لتهريب كمية ضخمة من المواد الغذائية ونجحت عملية التهريب ليتشبث التاجر برجل المخابرات ويرجوه أن يعاونه فى عمليات أخرى ..
فطرح رجل المخابرات " المهرب " فكرة جديدة على التاجر وهى صفقة مصابيح ضخمة لتهريبها عبر الحدود بأمان فوافق التاجر بحماس وعند دخول الكمية أطبق رجال مباحث التموين عليها وتمت مصادرتها طبقا للقانون ...
والأهم أن قانون مصادرة المواد المهربة كان يحتوى على نص هو سبب لعبة المخابرات من الأساس وهو النص الذى يقضي بطرح المواد المهربة أيا كانت فى المجمعات الاستهلاكية بأسعار مخفضة ..
وهكذا تحقق لرجال المخابرات ما أرادوا دون لفت نظر المراقبين من العدو

سادسا ..
بالنسبة لوحدات السلاح البحري من المدمرات والغواصات التى كان مفترضا أن تتخذ طريقها عبر مضيق باب المندب قبل المعركة بأيام ثلاثة ..
صدرت الأوامر الى قادة الغواصات باتخاذ طريقها الى هناك مع الالتزام بصمت لاسلكى كامل يعزلها عن قيادتها منعا للمخاطرة .. وبالنسبة لأوامر القتال تم اعطاء كل قائد مظروفا مغلقا مع أمر مشدد بعدم فتح المظروف الا فى توقيت معين وهو ساعه الحرب
ومما لا شك فيه أنها كانت مخاطرة غير متصورة فتلك الغواصات أبحرت لمهمتها ومعها الأوامر
ولم يكن هناك سبيل لمنعها أو ايقاف المهمه بمجرد ابحارها حتى لو تم الغاء أمر القتال نتيجة لالتزام الصمت اللاسلكى

أما المدمرات والقطع البحرية الظاهرة فقد تم الاعلان الرسمى عن حاجة تلك المدمرات والقطع البحرية للاصلاح فى دول صديقة وتم بالفعل أخذ الاذن الرسمى من الدول التى ستمر بموانيها تلك القطع

سابعا ..
درجة الاستعداد قبيل المعركة واستدعاء الاحتياطى تم حل تلك العقبة بحل لم تشهده المعارك العسكرية من قبل ..

فقد تم استدعاء الاحتياطى ورفع درجة الاستعداد للقوات المصرية لحدها الأقصي مرتين فى خريف وصيف 1973 م قبل موعد المعركة مما دفع بالعدو لاعلان التعبئة العامة لقواته وتكلفت خزانه اليهود عدة ملايين من الدولارات نتيجة لذلك
مما حدا بهم لاهمال درجة الاستعداد المصري باعتباره مناورة مكشوفة تتم بين الحين والآخر بغرض ارهاق الخزانه الاسرائيلية ..

وعندما حان موعد المعركة ..
وبالتحديد فى الأيام الثلاث السابقة على الحرب كانت الخدعه الاستراتيجية للتمويه بلغت مداها الأقصي وصدرت الأوامر بتسريح نصف القوة تقريبا وهذا هو ما وصفته بالمخاطرة لأن التسريح تم اعتمادا على أن القوات رهن الاستدعاء عند الموعد المحدد لأن كل جندى وكل رجل يتبع القوات المسلحة كان يوقع فى قسم الشرطة التابع له عندما يكون فى أيام اجازته يوميا وهو ما أتاح للقيادة العسكرية استكمال استدعاء الاحتياطى بسهولة

الأكثر خطورة ..
أنه تم تسريح واعطاء اجازات لعدد كبير من الضباط قبيل بدء المعركة بساعات قليلة ونفذ الضباط الأمر وعندما هموا بمغادرة وحداتهم انفرد قائد كل كتيبة بضباطه على حدة وأعطى كل منهم مظروفا مغلقا وأخبره أن المظروف به مهمة سرية يتعين عليه القيام بها قبل اتمام الإجازة شريطة ألا يفتح المظروف الا بعد مغادرته للوحدة بمسافة معينه
وتصور كل ضابط أنه الوحيد الذى تم تكليفه من قيادته وعندما فتح كل ضابط المظروف الذى بحوزته عقب مغادرته للجبهه فوجئ بالمظروف لا يحتوى الا على سطر واحد فقط
" عد الى وحدتك فورا "

وتعلن الأهرام فى واحدة من أبرع الخدع فى خطة التمويه عن عمرة رمضان التى قررها الجيش وأعلنت عن شروطها وموعدها الذى يبدأ من يوم الثامن من أكتوبر

كما خدم القدر مصر .. عندما أعلن زير الدفاع الرومانى عن نيته السفر الى مصر فتم توجيه الدعوة الرسمية اليه وأعلنت الأهرام أن الفريق أول أحمد اسماعيل على سيكون فى شرف استقبال الوزير الرومانى فى يوم السادس من أكتوبر 173 م ..
وبالطبع لم تتم الرحلة العمليات العسكرية بدأت على الجبهة ..

وتخدمنا الظروف مرة أخرى عندما أعلنت الأميرة مارجريت احدى أفراد الأسرة المالكة البريطانية نيتها ورغبتها فى زيارة مصر ..
فتم ترتيب الرحلة واجتمع فريق من رجال المخابرات المصرية مع فريق مماثل من البحرية البريطانية لتأمين وصول الأميرة يوم السابع من أكتوبر ..
وهم يعلمون أكثر من غيرهم أن المطارات المدنية المصرية ستغلق نتيجة لبدء العمليات
وهكذا اكتملت الاستعدادات واقتربت ساعه الصفر وكان منتهى أمل المصريين أن تظل اسرائيل بعيدة عن الادراك حتى يوم الرابع من أكتوبر فقط ...
لأنها حتى لو علمت قبل بدء العمليات بيومين لم يكن بذلك ليؤثر فى نتيجة المفاجأة لعدم تمكنها حتما من استدعاء الاحتياط لمواجهة القتال الناشب ..
وكان من توفيق الله تعالى وثمرة الجهد الخرافي للعبقرية المصرية فى خطة الخداع أن أدركت اسرائيل فى فجر الخامس من أكتوبر نية القتال وان كانت لم تقتنع .. !!

فكيف علمت اسرائيل وكيف تسرب اليها الخبر ؟!!

وماذا كانت ردة الفعل المصري عندما عرفوا بادراك اسرائيل ؟!!
هذا ما سنعرفه قريبا ان شاء الله
،،

محمد جاد الزغبي 09-30-2010 02:05 PM

والآن مع محاولة الاجابة للسؤال الذى ظل سرا مغلقا لثلاثين عاما ..

هل علمت اسرائيل بموعد بدء العمليات العسكرية .. ؟!
ومتى .. وكيف .. وكيف تحققت المفاجأة الاستراتيجية بالرغم من ذلك ..؟

واقع الأمر وباستقراء الوثائق السرية التى تم الافراج عنها فى اسرائيل والولايات المتحدة طبقا لقانون الوثائق بعد مضي ثلاثين عاما .. انقشعت السحب عن عدد من المفاجأت التى ظلت سرا مغلقا لمدة ليست بالهينة ..
وليس خافيا أن هناك أسرارا عن حرب رمضان ما زالت رهن الأدراج وحبيسة الوثائق لخطورتها
بل ان النكسة ذاتها .. بالذات فيما يخص أوراق التعاون الاستراتيجى عليها بين الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل لا زالت الى اليوم محظورة على النشر .. !!

وفيما يخص أمر بلوغ خبر بدء العمليات وموعدها وتسربه لاسرائيل ..
فقد بلغها الأمربالفعل ولكن بعد فوات الأوان
فقد خرج علينا المحلل السياسي الأمريكى " هوراد بلوم " بكتابه اللافت " عشية التدمير" محللا أمر الوثائق المفرج عنها
عام 2000 م ..

وتضمنت تلك الحقائق الصاعقة

أولا ..
تم ابلاغ اسرائيل بموعد الحرب يوم الخامس من أكتوبر عن طريق احدى الشخصيات العربية المسئولة .. شخصية كبيرة للأسف الشديد ..
طارت الى تل أبيب فى رحلة بالغه السرية وتم استقبال طائرة تلك الشخصية باجراءات سرية بالغه التعقيد فى احد المطارات الحربية السرية الملاصقة لتل أبيب
ومن المطار الى مكان سري مأمون لتقابل " جولدا مائير " رئيسة الحكومة الاسرائيلية فى ذلك الوقت وتضع على مائدتها تفاصيل الموعد المقرر للحرب وهو غروب شمس يوم السادس من أكتوبر ..
وتستمع جولدا مائير لتلك التفاصيل المذهلة وعقلها يتراوح بين طعم الخداع وبين التصديق لمكانة الشخصية ومسئوليتها فى العالم العربي ..!!
وتقوم جولدا مائير باستدعاء قيادات الدولة اليهودية .. وأرسلت فى طلب " ايلي زاعيرا " مدير المخابرات الحربية وكذلك " مائير آميت " رئيس الموساد
وتتابعت اتصالاتها بالمخابرات المركزية الأمريكية لاستطلاع رأيها
وجاءت جميع الآراء والتوقعات والتقارير تشير الى كذب وزيف تلك المعلومات وأن المصريين والسوريين من المستحيل تماما أن يفكروا فى حرب شاملة تؤدى الى تحطيم جيوشهم مع قوة التحصينات الخرافية أمام الجبهتين المصرية والسورية
وبالذات الجبهة المصرية بعائق القناة والساتر الرملى المرتفع والذى يستوعب أطنان المتفجرات دون أن تشق منه جدارا واحدا
اضافة الى الخط العملاق " خط بارليف " بكل تحصيناته وفوق كل هذا خط النار والنابالم المجهز لاشعال مياه القناة فور بدء العبور مما يحيل سطح القناة لجحيم مستعر
وانتهت التقارير والاجتماعات الى استحالة صدق تلك المعلومات !!

ثانيا ..
فى فجر الخامس من أكتوبر وصلت الى رئيس الموساد الجنرال " مائير آميت " برقية بالغه السرية من أخطر عملاء اسرائيل فى مصر على الاطلاق
العميل فائق الغموض والذى كان تعامله المباشر مع رئيس الموساد دون وساطة لخطورة مكانته بالقيادة المصرية وهو العميل ذو الاسم الكودى " الصهر " أو " النسيب "
والذى كان يشغل منصبا بالغ الحساسية بالقيادة السياسية المصرية وبالتالى فقد تم حجب اسمه وكينونته عن جميع قيادات اسرائيل فيما عدا رئيس الموساد ورئيس الوزارة الاسرائيلية والوزراء أعضاء حكومة الطوارئ المصغرة ..
وقصة هذا العميل لها حكاية كبري وهى المعروفة بقصة أو لغز " أشرف مروان "



لغز أشرف مروان



أشرف مروان هو أحد أعضاء المكتب السياسي برياسة الجمهورية المصرية . . وهو فى نفس الوقت زوج الابنة الكبري للرئيس جمال عبد الناصر وقد شغل هذا المنصب أيام حكم عبد الناصر واستمر فى منصبه أيام حكم السادات خلال فترة أكتوبر
وكان أشرف مروان هو العميل البالغ لخطورة المعروف فى القيادة الاسرائيلية العليا
باسم " الصهر " !!

وقد طرح أمره علانية مؤخرا فى الصحف المصرية والتى طالبت أشرف مروان رجل الأعمال حاليا بكشف حقيقة الدور الذى لعبه خلال فترة حرب أكتوبر ..
وهل كان عميلا بالفعل أم أنه كان موفدا كعميل مزدوج لخداع اسرائيل خاصة أنه أبلغ مدير الموساد فى لقائه الذى سبق التنويه عنه بالعاصمة البريطانية " لندن " .. أبلغه بأن موعد الحرب هو غروب شمس آخر ضوء من يوم السادس من أكتوبر

وظل أشرف مروان صامتا حتى وفاته الغامضة فى لندن , وعند هذا تم كشف السر المغلق وهو أن الرجل أحد أبطال المخابرات المصرية الكبار وأن أنه أدى لوطنه خدمات جليلة لم يحن وقت الكشف عنها بعد وهو مجمل تصريح الرئيس حسنى مبارك بعد وفاة الرجل لينتهى الجدل ويحسمه تصريح الرئيس لا سيما وأن أشرف مروان تلقي قبل وفاته دعوة لحفل زفاف نجل الرئيس جمال مبارك وحضره بالفعل
وقد أوضح تصريح الرئيس المصري سر سكوت الرجل وأنه تم بأوامر رسمية لحساسية مهماته التى تولاها لا سيما مهمته فى حرب أكتوبر والتى كان تنفيذها ضروريا لإحباط عملية الإبلاغ التى وصلت لإسرائيل بالفعل ودفع قادة إسرائيل للتشكك وعدم حسم الجدل قبل موعد بدء العمليات المقرر لا سيما وأن أشرف مروان خدع إسرائيل فى موعد الحرب الحقيقي وأبلغهم أنه فى آخر ضوء أى بعد الموعد الأصلي بست ساعات تقريبا

وقام إيلي زاعيرا مدير المخابرات الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر بإعلان هذه الحقيقة فعلا وكان نص تعبيره أن أشرف مروان كان أكبر صفعة تلقتها إسرائيل فى تاريخها ,


وعودة الى موقف القيادة الاسرائيلية بشأن المعلومات التى وصلتها
عليه فقد اتضح لها من مصدرين مختلفين أن موعد المعركة هو آخر ضوء من يوم السادس من أكتوبر أى فى حوالى الساعه السادسة مساء ذلك اليوم ..
وتتابعت الجلسات والمناقشات ووقف موشي ديان وزير الدفاع الاسرائيلي وايلي زاعيرا رئيس المخابرات العسكرية وكذلك مائير آمنيت مدير الموساد ضد منطق المعلومات القائل بوجود حرب متوقعه .. بل وقللوا من أهمية كون المعلومات صحيحة .. لأنهم وبناء على التحصينات الخرافية السابق شرحها من المستحيل أن يقدم المصريون بالذات على حماقة تكلفهم ثلاثين ألف مقاتل لمجرد العبور فقط ..
" كان هذا هو المقياس الطبيعى لضحايا العبور "

وقامت جولدا مائير مع التردد والشك .. بالمطالبة بعقد جلسة للوزارة الاسرائيلية صباح يوم السادس من أكتوبر على أن نتنهى قبل الساعه الثانية عشرة لاتخاذ القرار بضربة اجهاض على الجبهتين المصرية والسورية أم لا ..
الغريب فى الأمر ..

أن حادثتين هامتين وقعتا قبل يومين من بدء العمليات كانتا كفيلتين بتنبيه الاسرائيليين تماما للمعركة ..
فقد قام الاتحاد السوفيتى وهو الحليف العسكرى للعرب بارتكاب حماقة رهيبة عندما أرسل الى كل من مصر وسوريا طائرات " أنتينوف " لنقل الرعايا الروس من مصر وسوريا بعد أن قامت القيادة المشتركة بابلاغ السوفيات باقتراب موعد الحرب دون تحديد موعد معين ..
مما حدا بالرئيس السادات الى شد شعر رأس غيظا من حماقات موسكو ..

وكانت الحماقة التالية ..
صادرة من رئيس شركة مصر للطيران ..
فبجوار مطار القاهرة الدولى يقع على الجانب الشرقي منه مطار عسكرى " مطار شرق القاهرة " وقد تسرب موعد بدء العمليات العسكرية الى رئيس الشركة فخشي أن تبدأ العمليات العسكرية وتتطرق الى العاصمة فتتعرض طائرات الشركة للضرب حال تواجدها بالمطار
فقام باصدار أوامره بإعادة الطائرات إلى حظائرها وغلق الممرات وإطفائها فى إشارة يفهمها أى أعمى أن البلد بصدد حرب وشيكة !!..
ولا داعى أن أخبركم أن المخابرات المصرية ورجال الاعداد للخطة عندما علموا بالأمر كادوا يفتكون بالرجل القصير النظر منعدم البصيرة ..

وبالرغم من ذلك ..
فقد كانت البرقيات والتقارير من قلب اسرائيل تشير الى عدم احساسهم بشيئ حتى الصباح الباكر من يوم العبور ..
ثم جاءت البرقية الأخيرة قبل المعركة مباشرة من البطل المصري رفعت الجمال تشير الى اعلان حالة التعبئة العامة فى حوالى الثانية عشر ظهرا
لكن بعد فوات الأوان ..
وحتى قرار إعلان التعبئة العامة كان قرارا احتياطيا ولم تتخذه القيادة الإسرائيلية فعليا بغرض يقينها من الهجوم أى أنها قامت به كإجراء احترازى

ومما تجدر الاشارة اليه ..
أن اسرائيل كانت تتصرف على أن أنباء المعركة لو صدقت فستظل أمامهم ست ساعات كاملة تمكنهم من ضربة اجهاض تنقذ الموقف قبل موعد بدء العمليات فى السادسة مساء كما نصت المصادر واتفقت ..
خاصة أن الحروب لا يمكن وفقا للاستراتيجيات العسكرية أن تبدأ الا فى موعدين
أول ضوء .. وهو الشروق ..
وآخر ضوء .. وهو الغروب ..
وتعد تلك القاعدة من القواعد العسكرية التى تم كسرها تماما بحرب أكتوبر .. ومما يثير الفخر بقلب أى عربي أن تلك الحرب أسست علوما جديدة وقواعد جديدة وأنهت دراسات ومسلمات عسكرية كبري كما عبر عنها المحللون العسكريون فى العالم ..

ونأتى لموعد المعركة ..
وباستقراء جميع المصادر الممكنه لم أتمكن من تحديد ما اذا كان موعد الحرب الفعلى تحدد قبل بدء العمليات بالساعه الثانية من ظهر يوم العاشر من رمضان
أم أن الموعد تغير فى آخرلحظة طبقا لتطورات الموقف وتم تقديم الهجوم ست ساعات ..
والحقيقة المؤكدة أن الموعد كان من البداية فى الثانية من ظهر يوم السادس من أكتوبر ولم يتم تغييره وقام أشرف مروان بخداع الموساد بإبلاغهم أن الموعد فى آخر ضوء أى فى السادسة مساء وساعدت النظريات العسكرية على تأكيد بلاغه حيث أن الهجوم لابد له من اختيار موعد بين أول ضوء أو آخر ضوء
لكن الهجوم المصري المنفرد فى الساعة الثانية كان أحد أوجه الإعجاز فى التخطيط وهو معقود ومخطط له من البداية ولم تقم مصر بتغييره كما زعم البعض لأن الضربة الجوية الأولى التى افتتحت بها المعركة كانت هى أول خطوة فى الهجوم ,
ولو كان الهجوم مخططا له آخر ضوء لما كان فى استطاعة القوات الجوية توجيه الضربة فالطيران لا يعمل ليلا


وبهذا .. تم عرض خطة الخداع الاستراتيجى والتمويه على العدو فى موعد المعركة بالشكل البالغ التفوق الذى ظهرت عليه المخابرات العامة المصرية وظهر للعيان شاهدا على قدرة الله وبراعه الرجال عندما تحققت المفاجأة بحذافيرها للجيش الاسرائيلي مما كان له أبلغ الأثر فى تحقيق الأرقام القياسية والمعجزات العسكرية التى حفلت بها أيام المعركة عامة ..

والست ساعات الأولى منها خاصة كما سنرى فى الحلقة القادمة

" العــبـــــــــــــــــــــور "

،،

عبدالسلام حمزة 09-30-2010 05:22 PM



ما شاء الله عليك استاذ محمد

متابع ...

جزاك الله خيرا ً .

محمد جاد الزغبي 10-05-2010 12:36 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالسلام حمزة (المشاركة 29268)


ما شاء الله عليك استاذ محمد

متابع ...

جزاك الله خيرا ً .

بارك الله فيك وعليك
شكرا جزيلا

محمد جاد الزغبي 10-07-2010 05:40 PM

العبــــــــــــــــــــــــور


أجمل ما في معجزة العبور على الإطلاق وسر عبقريتها الحقيقية أنها جاءت برد صاعق على كل هزيمة في كل معركة من معارك عام 1967 م وأثبت بها رجال القوات المسلحة المصرية أنهم تعرضوا لظلم فادح سببته قيادتهم السياسية والعسكرية ,
وسر إعجاز أكتوبر الحقيقي يكمن في أن القوات المسلحة استطاعت أن ترد الصاع صاعين رغم الفوارق الهائلة في الإمكانيات والتسليح بين الجيشين المصري والإسرائيلي ,
فالجيش الإسرائيلي كان عام النكسة في أوج تفوقه العسكري بينما كان الجيش المصري في أدنى درجاته تسليحا وإعدادا وتدريبا ونصف قوته الضاربة غارق في معركة اليمن ,

وعندما دار الزمن وحان الوقت للرد كان الجيش الإسرائيلي لا زال في عنفوانه وليس كما هو الحال مع الجيش المصري أيام النكسة
ورغم هذا ..
تمكن الجيش المصري من رد الصفعة بمثلها وسدد ديون عام 67 م كاملة على مستوى جميع الأسلحة ,
ففي البداية كان الجيش المصري التي تعرض لهزيمة 67 هو نفسه الجيش الذى رد اعتباره وشرفه العسكري وحقق معجزة على أى مقياس عسكري بشهادة أعدائه قبل أصدقائه ,
وتمكن الطيران المصري من تدمير طائرات العدو المتفوقة على الأرض على نحو ما حدث عام 67 رغم التفوق الجوى الساحق الذى يمتلكه جيش الدفاع الإسرائيلي ,
وتمكن الجندى المصري أن يسوق أمامه جنود العدو وهم في حالة رعب مقيم فضلا على أنه ساق دبابات العدو أيضا لتفر من أمام جنود المشاة المصريين في مشهد خلدته دوائر الإعلام بصورة مذهلة لدبابة تفر من حامل الآر بي جى !
وتمكن جنود المشاة المسلحين بالأسلحة الخفيفة من اقتحام مانع قناة السويس المستحيل وخلفه المانع الرملى ومن خلفهم خط بارليف الحصين الذى أفتى الخبراء السوفيات أنه يحتاج قنبلة ذرية لتدميره !
فتمكنت موجات الإقتحام الأولى من المشاة في إسقاطه وحدها قبل عبور الأسلحة الثقيلة للجيش المصري بعد ست ساعات كاملة قضاها المشاة على الضفة الغربية بلا أى تغطية من المدرعات !
وتمكنوا من اصطياد دبابات العدو وسجل بعضهم أرقاما قياسية مذهلة غير مسبوقة في اصطياد الدبابات بصواريخ مولوتكا وستريلا حتى أن الجندى عبد العاطى أسقط ثلاثين دبابة بجهده المنفرد !

والأهم من هذا وذاك ,
أن مخططى هزيمة يونيو في إسرائيل والولايات المتحدة والذين ذاقوا لحظة نصرهم بالخطة الشهيرة التي صاغتها إدارة الرئيس الأمريكى ليندون جونسون ,
كانوا هم نفس الفريق الذى ذاق وبال الهزيمة الساحقة في حرب أكتوبر ولم يغب عن المسرح في ذلك الوقت أحد إلا ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي الذى مات قبل حرب حرب أكتوبر وحلت محله جولدا مائير

ولكى نتمكن من معرفة حجم هذه المعجزة العسكرية يجدر بنا أن نتعرف على طبيعة الموانع والعوائق التي جاهر العدو الإسرائيلي بأنها ستظل عقبة دائمة أمام أى محاولة للعبور من الجانب المصري , وظل الإعلام الموجه للعدو يدندن حول تلك العوائق باطمئنان كامل حتى أن وزير دفاعه موشي ديان جزم بأن أى محاولة للعبور تعنى الإنتحار المؤكد !

محمد جاد الزغبي 10-07-2010 05:42 PM

عوائق العبور ..

لم يحدث في التاريخ العسكري المعاصر ـ حتى في معارك الحرب العالمية الثانية ـ أن واجه جيش مثل هذه العوائق التي جابهها الجيش المصري أمام قناة السويس في حرب أكتوبر مجتمعة ,


ليس فقط بفعل وجود مانع مائي صناعى يزيد طوله على 220 مترا وهو قناة السويس , بل يتمثل أيضا في أن إسرائيل أقامت أمام القناة وعند حافتها مباشرة ساترا ترابيا مهولا يرتفع إلى 25 مترا وينحدر بزاوية 45 درجة دفعة واحدة مما يجعله حصنا حصينا تعجز القوات عن اختراقه أو النفاذ منه حتى لو فعلت ذلك في ظروف السكون فضلا على ظروف القصف !
وفشلت جميع الوسائل التي تمت تجربتها لفتح ثغرات مناسبة في الساتر الترابي وتم تجريب المدفعية من جميع العيارات ولم تؤد إلى نتيجة لأن الإنفجارات كانت تطيح بالرمال لتعيد تراكمها مجددا بعد خفوت الإنفجار ,


ولم تكتف إسرائيل بذلك :
بل أنشأت خطا دفاعيا مستحيلا خلف الساتر الترابي يعتبر أقوى الخطوط الدفاعية في التاريخ وتم إنشاؤه مرتين ,
تمكن المصريون من تدمير بنيانه الأول أثناء حرب الإستنزاف فأعادت إسرائيل بناءه بعد وقف إطلاق النار بناء على مبادرة روجرز مما منحها الفرصة الكاملة لبناء تحصيناته التي تكلفت 238 مليون دولار ,
ويتكون خط بارليف من 22 موقعا حصينا يضم 31 نقطة محصنة يبلغ عمقها 500 كليومتر مربع وتحتوى على مربع كامل من التحصينات والدشم والسواتر المانعة فضلا على حقول الألغام التي تحيط بها من كل جانب بالإضافة إلى خمسة عشر نطاقا من الأسلاك الشائكة للنقطة الحصينة الواحدة
وتتكون كل نقطة حصينة من 26 دشمة محمية تتحمل القصف الثقيل دون أدنى تأثر بفضل ما وفره العدو من تحصينات تتمثل في شكاير رمل متعددة الطبقات ثم طبقات أخرى من قضبان السكك الحديدية بسمك ثلاثة أمتار للطبقة الواحدة وأخيرا طبقات ردم وفوقها سبعة صفوف من البلاط الخراسانى عالى الصلابة ومحيط كامل من الأسلاك الشائكلة يغطيه صناديق متعددة مملوءة بالدبش والحجارة للوقاية من الضرب المباشر[1]
ومن الداخل تم تجهيز ملاجئ مريحة للأفراد بحيث يحارب أفراد جيش الدفاع الإسرائيلي من خلف تلك التحصينات وهم في أمان تام ويستخدمون سائر أسلحتهم من خلال نوافذ وممرات تم إعدادها في قلب الحصون لصد أى هجوم





تحصينات خط بارليف الذي سقط في 6 ساعات وكان من اقوي الخطوط الدفاعيه في العالم اجمع



ويضاف إلى ذلك أن إسرائيل أقامت تحت مياه القناة وبامتدادها بؤر وفتحات سرية تتصل بخراطيم وبراميل تبث سائل النابالم الذى يشتعل بمجرد ملامسة الهواء الطلق ,
وفتح هذه الأنابيب كفيل بأن يحيل سطح القناة إلى جحيم مستعر تربو درجة حرارة سطحه إلى 500 درجة مئوية لأن النابالم أقل كثافة من الماء ومن ثم يسبح فوقه ويشتعل فور ملامسته الهواء مما يجعل القوات المبادرة للعبور في مواجهة الفناء المؤكد
ويزيد الأمر صعوبة إذا علمنا أن الجانب المصري اضطر أيضا لرفع ساتر رملى مماثل على الضفة الغربية للقناة فى مواجهة العدو للحماية من القصف المدفعى والرقابة ,
وأى محاولة لفتح ثغرات من الجانب المصري سيرصدها العدو على الفور بنية الهجوم المصري الوشيك
وهكذا أصبح أمام الجيش المصري ساترين ترابيين فضلا على عائق القناة وأنابيب النابالم ثم تحصينات خط بارليف !!



ومع كل تلك الصعوبات برزت أمام القيادة المصرية عدة عقبات أخرى ليست بالهينة , ومنها ..
* لو تم فرض وصول قوات العبور أو معظمها سليمة إلى الضفة الشرقية فكيف سيتمكن المشاة من مواجهة دبابات العدو وتحصيناته وهم بالأسلحة الخفيفة ومدرعات الجيش المصري لن تعبر قبل ست ساعات على الأقل بعد إنشاء الكباري
* وجود محطات إنذار مبكر متقدمة للغاية لدى العدو ومنها محطة متطورة تسلمتها إسرائيل من الولايات المتحدة وفى قدرة تلك المحطة التقاط قيام الطائرات المصرية من مطاراتها وهو ما يفقد الجيش المصري زمام المبادرة بالضربة الجوية الأولى
* بالنسبة لموجات العبور الأولى والتى سترتقي الساتر الترابي للعدو كيف سيمكنها حمل أسلحتها ومعداتها وارتقاء الساتر الترابي بارتفاعه الذى يزيد على عشرين مترا فى معظم مناطقه ,
* كيف سيتم التعامل مع نقاط خط بارليف الحصينة وهل ينتظر المشاة طوال فترة الساعات الست حتى عبور وحدات المدفعية الثقيلة أم يبادروا بالهجوم ؟!
* كيف سيتم التعامل مع حقول الألغام المحيطة بحصون بارليف والمعدة ضد الدبابات والأفراد فضلا على مصائد الدبابات المجهزة التى دفعها العدو خلف تحصينات خط بارليف
* فور بدء الهجوم سيكون أول إجراء للعدو هى الإعداد لهجوم مضاد سريع بدفع إحتياطى الجيش الإسرائيلي ومدرعاته لتعبر ممرات سيناء فى طريقها لخط المواجهة , وهذه القوات ستواجه مشاة الجيش المصري قبل موعد عبور المدرعات المصرية مما يجعل النتيجة محسومة بنجاح الهجوم المضاد
* كيف يمكن خداع الأقمار الصناعية العسكرية الأمريكية التى ترصد الجبهة بدقة وستتمكن من التقاط الحشود أثناء إعدادها لعملية العبور مما يجعل العدو يكتسب فرصة مناسبة للقيام بضربة إجهاض



هذا باختصار شديد مجمل العوائق المستحيلة التى جعلت إسرائيل تطمئن تماما إلى استحالة مبادرة مصر بالهجوم أو سحق هذا الهجوم لو جرؤ المصريون على فعله , وهى عوائق مستحيلة بالفعل كما وصفها العدو وكما عرضنا بعضها , ولكن استحالتها تطايرت كالشظايا بفضل الإيمان العميق الذى كان يعصف بكل جندى ومقاتل وقائد وفرد من أفراد الشعب المصري منذ سقوط سيناء ..
هذا الإيمان الذى جعل عزيمتهم على القتال لا يباريها عزيمة ولا تتراجع لها همة كما سنرى






الهوامش
[1]ـ حرب رمضان ـ اللواء حسن البدرى وفريق التأريخ العسكري الرسمى المصري ـ طبعة الهيئة المصرية للكتاب

محمد جاد الزغبي 10-07-2010 05:42 PM

الخطة والإعداد ..


كانت الخطوط الإستراتيجية التي قامت بها مصر من أعلى المستويات إلى أدناها على أكبر درجة من التعقيد والكفاءة بشكل مذهل استحق معه العرب منذ تلك اللحظة أن يعيد الغرب دراساته عليهم من جديد
ليس فقط من حيث مستوى التخطيط السري والتمويه الذى تفوقت به مصر وسوريا على الموساد الإسرائيلي وأجهزة المخابرات الأمريكية العملاقة بكل إمكانيتها التقنية المرعبة والتى لم تفد شيئا لحظة قيام الحرب ..
مما تسبب في المواقف المضحكة لكبار مسئولى الدولتين حيث كان رئيس الأركان الإسرائيلي قبيل قيام الحرب مباشرة يؤكد في مؤتمر صحفي عدم قدرة مصر على الهجوم وأن إسرائيل من ناحيتها لن تبادر بإشعال الموقف
وأثناء إلقائه هذه الكلمات كانت الطائرات المصرية تدك حصون العدو في سيناء والدبابات السورية تقتحم الجولان في شجاعة مذهلة .. ودخلت برقية الأنباء لرئيس الأركان ليصيبه الذهول وغادر القاعة على الفور
وفى الولايات المتحدة وقبل الحرب بأيام طلب هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى تقرير أجهزة المخابرات الأمريكية عن احتمال اشتعال المعارك وتلقي تأكيدا بالنفي على أعلى المستويات ,
وفى الساعة الثانية من بعد ظهر يوم السادس من أكتوبر وكانت توافق التاسعة صباحا بتوقيت الولايات المتحدة , دخلت سكرتارية كيسنجر لايقاظه بصفة عاجلة حاملة أنباء قيام الحرب في الشرق الأوسط !!

ليس على هذا المستوى وحده كان التفوق المصري والسورى , بل كان التفوق يتدرج على سائر المستويات وحتى أصغر جندى حتى أنه يمكننا القول بإطمئنان كامل أن كل جندى وكل عامل شارك في تلك المنظومة الهائلة قام بدوره بالفعل على أعلى مستويات الكمال والدقة دون أدنى خطأ !
ومن المستحيل أن يكون هذا الإعجاز الذى بذل حد الكمال مرهونا بالإرادة البشرية وحدها بقدر ما هو الإخلاص والإيمان الذى كانت تحركه العقيدة الإسلامية في نفوس المقاتلين ليظهروا على هذا النحو الذى أبهر قادة العدو أنفسهم وعبر عنه أعتى جنرالاتهم وهو آريل شارون الذى استضافه التليفزيون البريطانى وأخذت المذيعة تعدد أمامه أسباب التفوق المتوقعة للقوات العربية المقاتلة وتسأله ف حيرة عن السبب الحقيقي لتلك المفاجأة
فقال شارون :
( كل ما ذكرتيه وتناوله الإعلام في الأيام السابقة في حرب يوم كيبور [1] عبارة عن مظاهر لهذا التفوق من حيث التخطيط لكن السبب والمفاجأة الحقيقية لنا فى تلك الحرب حقيقة هى طبيعة الجندى المصري نفسه , لقد واجهنا هذا الجندى فى حرب 56 وحرب 67 ولم يكن أبدا بمثل هذه القدرة المذهلة من الكفاءة والإنتحارية .. هذا فى رأيي هو المفاجأة الحقيقية والعامل الحاسم الذى تفوق به المصريون )[2]

وكلمات شارون حقيقية رغم أنها تحتاج تعديلا بسيطا وهو أن الإسرائيليين لم يواجهوا الجندى المصري الحقيقي فى حرب يونيو أو حرب السويس , لم يواجهوا الجندى المدرب تدريبا عادلا حيث كانت حالة الجيش المصري فى تلك الفترة أبعد ما تكون عن التدريب والتأهيل الحديث الذى ينبغي أن يكون عليه المقاتل وتظهر فيه براعته
هذه البراعة الذى جعلته يتفوق بمراحل على الجندى الإسرائيلي عندما تعادلت الكفتان فى مستوى التدريب والسلاح ,

وفى مجال التخطيط الحربي فإن القوات المسلحة المصرية بتعاون قادتها جميعا على مراحل الخطة وسبل التعامل مع عوائق العبور ضربت أعلى مثل من الكفاءة العسكرية الخلاقة التى اخترقت العلم الحديث بالموهبة الجسورة الذى تجد لكل المشكلات المستعصية حلولا سحرية ليؤكد المقاتل المصري على أن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح ,
وقد سجل اللواء محمد عبد الغنى الجمسي رئيس هيئة العمليات بالجيش المصري تفاصيل الخطة والحلول المتفق عليها فى كراسة كانت معروفة فيما بعد باسم ( كشكول الجمسي ) لم تكن تفارق كف رئيس هيئة العمليات المهيب الذى أطلقت عليه إسرائيل اسم ( الجنرال النحيف المخيف )
وقد تضمنت الحلول عبقرية فذة تمثلت فيما يلي :
أولا : بالنسبة لتكنولوجيا المراقبة والرصد والتتبع التى كانت تمتلكها إسرائيل أو أقمار المراقبة الأمريكية التى تخدم الإسرائيليين لنفس الهدف كانت الحلول مبتكرة إلى أقصي حد ,
فالحشود المقررة على الجبهة المصرية تلقي قادتها أوامر مشددة للغاية باتباع جدول دقيق للتحرك والتوقف والسرعات من المناطق العسكرية المختلفة إلى الجبهة بحيث يكون تحركها فى غياب المجال الجوى للرقابة من الأقمار الأمريكية والذى حدده علماؤنا بدقة متناهية ,
وتغلب الجيش المصري على أساليب التصنت الإليكترونى بأسلوب غاية فى البراعة حيث تم فرض صمت لاسلكى كامل على جميع الوحدات البحرية ووحدات الصاعقة التى بدأ تحركها قبل ساعة الصفر ولم يُسمح لتلك الوحدات باستخدام اللاسكى أصلا وخرجت فى مهماتها المحفوظة مسبقا حيث قامت تلك الوحدات بمهماتها فعليا دون أن تدرى أو تملك التراجع فى حالة عدم قيام الحرب وهو ما نفذته وحدات البحرية التى خرجت قبل يومين من المعركة لغلق مضيق باب المندب أمام البحرية الإسرائيلية , وكذلك بالنسبة لوحدات الصاعقة التى إسقاطها قبل ساعات من العبور خلف خطوط العدو لتعطيل سيطرته على المضايق فى سيناء
وبهذا الحل البسيط نزع الجيش المصري كل التفوق التكنولوجى الذى تميز به العدو فى مراقبة الإتصالات
أما بالنسبة لمحطة الرصد المتقدمة فى سيناء والتى كان من الممكن أن تكشف إقلاع طائرات الضربة الجوية الأولى فقد تمكنت المخابرات المصرية من تعطيلها قبل ساعة واحدة من ساعة الصفر عن طريق أحد عملائها وبالتالى لم تعط المحظة الإنذار المناسب عند قيام الطائرات المصرية لأن المحطة كانت تعانى من فصل فى الطاقة الكهربية فى ذلك الوقت وهو الفصل الذى تعمده بالطبع عميل المخابرات المصرية الذى تم تجنيده
أما أساليب الرصد المباشر فتصرفت فيها القيادة عن طريق حل بسيط وهو نقل معدات وورش صيانة المعدات إلى الجبهة قبل فترة كافية من موعد العمليات بحيث أصبح معتادا أن تصاب الدبابات بأعطال مختلفة وتذهب فى حشود علنية إلى مراكز الإصلاح المتقدمة فى الجبهة وهو ما وفر لتلك الدبابات تمركزها أمام أعين العدو دون أن يدرك الهدف من هذا ,
أما معدات العبور فقد تم وضعها فى الجبهة فى هياكل خشبية معدة كأهداف مموهة أمام الطيران الإسرائيلي , وسربت القيادة المصرية لإسرائيل أن تلك المعدات الهيكلية معدة لخداع ضربات العدو كما هو معتاد فى الحروب
وبالطبع ضحك الإسرائيليون من سذاجة المصريين ولم يضربوا هذه الأهداف ولم يتبينوا حقيقة الخدعة إلا يوم العبور حيث خرجت معدات العبور كاملة من قلب تلك الهياكل الخداعية


الهوامش
[1]ـ حرب يوم كيبور أو يوم الغفران هو اسم حرب أكتوبر كما تسميها إسرائيل لأنها تمت فى عيد الغفران اليهودى
[2]ـ حراس الهيكل ـ فريد الفالوجى ـ دار أطلس للنشر والتوزيع

محمد جاد الزغبي 10-07-2010 05:43 PM

ثانيا : بالنسبة للساتر الترابي المصري المقابل للساتر الإسرائيلي على الضفة الغربية كان الحل إعداد ثغرات مخفية مغطاة بحجم أقل من الرمال والأتربة سهلة الإزاحة تمركزت خلفها قوات الموجة الأولى من العبور بحيث تمكنت القوات من إزاحتها بسهولة عندما بدأت العمليات ,
أما الساتر الترابي على الضفة الغربية فقد تكفل بحل المشكلة أحد عباقرة سلاح المهندسين وهو المقدم ( اللواء فيما بعد ) باقي زكى يونس والذى وجد بعبقريته حلا للمعضلة التى وقف أمامها الخبراء السوفيات أنفسهم عاجزين , حيث أعطى فكرة استخدام القناة نفسها فى إزاحة الساتر عن طريق طلمبات ضخ مياه شديدة تكون بمثابة مدافع مياه متفجرة تتسبب حتما فى إزاحة الكمية الهائلة من الرمال والأتربة وفى وقت قياسي لا يتعدى أربع ساعات ,

أما الطمى المترسب والذى أثبتت التجارب أنه سيكون بارتفاع متر كامل ويستحيل أن تعبر قطع المدفعية الثقيلة فوقه فقد كان الحل فى استخدام معدات البناء من الأوناش والرافعات لكسح طبقة الطمى إلى مياه القناة وفرش أرضية من الزلط والدبش تحتمل عبور المعدات الثقيلة وقطع المدفعية

ثالثا : أما مشكلة قوات العبور الأولى والتى ستظل بلا تغطية من المدرعات طوال ست ساعات طويلة من الممكن أن يستغلها العدو فى تصفية الفرق العابرة من المشاة والصاعقة فكان الحل الفريد البالغ البساطة إلى حد العبقرية أن يتم تزويد الموجات الأولى من العبور جميعا بمدافع الآر بي جى المضادة للدبابات ليستخدمها المشاة جميعا فى ردع مدرعات العدو ومقاومتها حتى انتهاء فترة إعداد رءوس الجسور والكباري والتى ستعبر عليها مدرعاتنا ,
وعبقرية الحل تكمن فى أن فكرته ليست جديدة بالنسبة للسلاح ذاته لأنه كان معروفا بالطبع ومستخدما إنما العبقرية تكمن فى كمية استخدامه التى تعدت كل نسب الإستخدام فى سائر جيوش العالم حيث لم يسبق أن تم تزويد قوات مشاة بحجم قواتنا العابرة بتلك المدافع حيث صار مع كل جندى من القوة العابرة الأولى مدفعا صاروخيا مضادا للدبابات وتم تدريب أفواج العبور جميعا على نظرية ( الرجل ضد الدبابة ) والتى كانت واحدة من عشرات النظريات التى تم تدريسها فى المعاهد العسكرية العالمية والتى أسقطت وأنهت عصر الدبابة عمليا فى العصور الحديثة بعد أن بلغت خسائر العدو حدا مذهلا من الدبابات بمعدل انهيار لم يسبق تسجيله من قبل
أما مشكلة ثقل المعدات التى حملها كل جندى معه وزادت عن ثمانين كيلوجراما مما يعيق حرية الحركة لا سيما فى تسلق الساتر الترابي فوجدت القوات الحل فى عربات خفيفة القيادة يسحبها الجندى خلفه حاملة معداته وتعيينه من الماء والغذاء بالإضافة لسلالم الحبال التى سهلت مهمة الموجهة الأولى التى تسلقت الساتر الترابي قبل فتح الثغرات فيه بمدافع المياه

رابعا : مشكلة الألغام المضادة للدبابات والأفراد والتى بثها العدو أمام مواقع خط بارليف الحصينة وكانت تمثل مصيدة كبري لقواتنا المهاجمة ,
تم التغلب عليها عن طريق المدفعية المصرية التى وجهت نيرانها بكثافة غير مسبوقة بقوة 2000 مدفع نحو تلك التحصينات لتطهير حقول الألغام ,
ولكى يكون الضرب دقيقا ومثمرا فقد عبر رجال توجيه المدفعية مع القوات العابرة فى أول لحظة للهجوم وهم الذين تولوا بانتحارية مذهلة تصحيح نسبة الخطأ أمام رجال المدفعية على الضفة الغربية للقناة لتنفجر كافة الألغام المحيطة بخط بارليف
ولا شك أن هذا الحل كان ينطوى على خطورة بالغة حيث أن المعدل الطبيعى لابتعاد الأفراد عن مدى قصف المدفعية كان يجب ألا يقل عن 300 متر بحد أدنى لكن القوات العابرة كسرت هذا الرقم بشجاعة فائقة واقتحمت خط بارليف على بعد من 100 إلى 150 متر من القذائف المتفجرة كما تم تدريبهم من قبل

خامسا : وجاء دور المشكلة المزمنة المتمثلة فى أنابيب النابالم الحارقة التى كان باستطاعتها إذابة جنود العبور , فقد تمكنت المخابرات المصرية من الحصول على كافة الخرائط والتصميمات التى تم وضعها لتلك الفتحات وفى فجر يوم السادس من أكتوبر تسللت وحدات من الصاعقة إلى مياه القناة تحت الساتر الترابي وقامت بكشف مواقع الفتحات وسدها بمادة جيلاتينية سريعة التصلب بالإضافة إلى قيامها بقطع الخراطيم المغذية لتلك الفتحات مما عطلها عن العمل دفعة واحدة ولم تعمل ماسورة واحدة من تلك الأنابيب عندما حاول العدو استخدامها ,
كما قامت وحدات الصاعقة بواحدة من أصعب المهام وهى تلك الوحدات التى تم إسقاطها بيوم كامل خلف خطوط العدو عند ممرات سيناء والتى كانت مهمتها العمل على إعاقة عبور إمدادات إحتياطى العدو من الدبابات والمدرعات إلى الخطوط الأمامية عند اشتعال القتال , ولمدة ست ساعات على الأقل حتى بدء عبور المدرعات المصرية
وقامت الوحدات بمهمتها الإنتحارية كاملة حيث لم تتمكن وحدة واحدة من وحدات مدرعات العدو من الوصول إلى خط المواجهة إلى مع أول ضوء من اليوم الثانى للقتال

يتبع ...

محمد جاد الزغبي 10-10-2010 09:55 AM

العـــبــور


أجد نفسي مرغما دائم الإستشهاد بشطرة من بيت شعر عربي حكيم تقول
( فالحق .. ما شهدت به الأعداء ) ..
لسنا نحن الذين سطرنا بقلم الإنبهار هذا الإنجاز العسكري الغير مسبوق في العصر الحديث , بل كان أول المنبهرين والمعترفين هم قادة العدو أنفسهم وحلفائه ثم كافة المعاهد العسكرية المحايدة التي تناولت معارك حرب أكتوبر بنظرياتها الجديدة التي أرساها شبابنا فوق الجسور في الفترة من يوم 6 إلى 25 أكتوبر 1973 م ,
وهذه الحقيقة الهامة هى التي يجب أن تظل بمخيلة أى شاب عربي وهو يتأمل أى محاولة لتقليل هذا الإنجاز أو تدمير روحه المعنوية في أعماقه بحجة أنه تاريخ غير قابل للتكرار !



فإنجاز يوم السادس من أكتوبر الذى وافق العاشر من شهر رمضان المبارك لم يتحقق في ذات اليوم بل تحقق منذ نكسة يونيو وفى اليوم التالى لها مباشرة عندما أعلنت العزيمة نيتها لكسر الهزيمة ,
وتفجرت معارك حرب الإستنزاف وقبلها البطولات الفردية التي لم تجعل العدو يهنأ بخدعة انتصاره ولو ليوم واحد ,
أى أن العزيمة أعلنت عن نفسها في ظروف كانت أشد مرارة من واقعنا الحالى بمراحل ومع ذلك تمكن هذا الإيمان الذى لا يلين من كسر ثقافة الهزيمة والإستسلام ودفع الحرارة إلى العروق لتجرى فيها دماء المعركة من جديد ,



وعندما نتأمل تصريحات العدو عن تحصيناته ـ والتى كانت بالفعل كما يُـقال معجزة عسكرية ـ ونتذكر كم أنهم في الغرب دائما يتميزون بالواقعية بعكس حالنا نحن ـ كما يتهمونا دائما ـ حالمون ورومانسيون ,
عندها ندرك حقيقة الفارق الشاسع الذى صنعه عنصر الإيمان بالله تعالى في أعماقنا عندما لانت الحصون وذابت الدروع في يوم من أيام الله بلا شك
قال الجنرال موشي ديان عن خط بارليف قبل تحطيمه في حرب رمضان [1]
( إن عمليات العبور ـ إن حدثت ـ فلن تؤثر في قبضة إسرائيل الفولاذية عليه وستفشل أى محاولة للهجوم على هذا الخط المستحيل تدميره والذي صرفنا في تحصيناته مبالغ طائلة .. إننا أقوياء بشكل يكفل لنا البقاء به هكذا إلى الأبد )
وقالت جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية ..
( إن خط بارليف هو رمز الذكاء والعبقرية الإسرائيلية , وأى محاولة للتفكير في اقتحامه هى إهانة لهذا الذكاء ! )
بينما قال الجنرال حاييم بارليف مبتكر الخط ..
( سيظل خط بارليف هو الحاجز المستحيل الذى يقف أمام أى حماقة مصرية لاختراقه )
وقال توماس تشيهام أحد كبار المراسلين الحربيين ..
( لقد جعل خط بارليف سيناء عمليا تابعة للجانب الإسرائيلي )



ولنا أن نتخيل ردة الفعل بعد انهيار خط بارليف وسقوطه في أيدى الجيش المصري بعد ست ساعات فحسب وأمام قوات مشاة وصاعقة خالية إلا من الأسلحة الخفيفة والمحمولة وبدون معاونة أى قطعة مدفعية !!
كان الذهول هو القاسم المشترك الأعظم بين الأعداء والأصدقاء على حد سواء ,
فالأصدقاء الذين تمثلوا في الجانب السوفياتى صاحب الخبرات العريقة في الحرب العالمية الثانية كانوا يرون نفس وجهة النظر القائلة باستحالة اقتحام خط بارليف بالمواجهة وحتمية اجتيازه دون مواجهته وإذا كان خيار المواجهة لازما فإن الخط كى يسقط يحتاج إلى قنبلتين ذريتين عياريتين دفعة واحدة ,
وأما الأعداء فقد صمت أغلبهم عن النطق وأما المتكلمون فقد جاءت تصريحاتهم معاكسة تماما لما كانت عليه قبل أيام قليلة من بدء عمليات الحرب
قال رئيس دولة إسرائيل إبراهام كاتزير [2]
( لقد كنا نعيش فى وهم حقيقي ما بين عام 67 و73 وفى نشوة ليس لها أى مبرر واقعى وهذه الحالة النفسية هى المسئولة عن الأخطاء التى فى حرب أكتوبر فى كل المجالات العسكرية والسياسية والإجتماعية وعلينا أن نتعلم بعد هذه الحرب الفظيعة أن نكون أكثر تواضعا وأقل نزوعا إلى المادية )
أما جولدا مائير التى فاخرت بالذكاء الإسرائيلي فقد أرسلت لهنرى كيسنجر وزير الخارجية تحفزه لشحن السلاح ..
( أسرع بالسلاح الآن قبل الساعة القادمة .. لقد وقعت إسرائيل )
أما حاييم بارليف الذى أسس الخط الدفاعى وفاخر به فلم يجد تعقيبا إلا أن قال :
( لقد هاجمونا ونحن فى غفلة تامة )
ولسنا ندرى أى غفلة تلك وأين هو خطه الدفاعى الذى كانت إسرائيل تنام خلفه مطمئنة ؟!
أما الجنرال الإسرائيلي ناركسيس فقد عبر عن مجمل شعورهم فى كلمات جامعة فقال :
( ليس هناك بد من الإعتراف أن المصريين خططوا لقتالهم بمنتهى البراعة , لقد كان التخطيط بارعا والتنفيذ أشد براعة ولقد حاولنا بكل قوة وجهد إعاقة عملية العبور فلم نفلح وتحطمت كل هجماتنا المضادة عليهم حتى فوجئنا صباح السابع من أكتوبر بسبع فرق كاملة على الضفة الغربية كما لو كانوا أشباحا انتقلوا فى غمضة عين ! )
وخرجت مجلة النيوز ويك الأمريكية بعنوان ضخم يقول :
( إن الفجوة التكنولوجية ـ التى كانت تفاخر بها إسرائيل ـ قد لحقتها مصر وسبقتها أيضا )
وظهرت الجيروساليم بوست تطرح أسئلة الشعب اليهودى الذى كان غارقا فى أحلام أمنه فقالت عناوينها :
( ما الذى حدث وأين يكمن الخطأ )
أما جورج ليزلى رئيس المنظمة اليهودية فى ستراسبورج فقال :
( لقد أسفرت الجولة العربية الإسرائيلية الرابعة عن كارثة كاملة بالنسبة لإسرائيل فنتائج المعارك والإنعكاسات التى ظهرت عنها فى إسرائيل تؤكد أهمية الإنتصارات التى حققتها القوات العربية , تلك الإنتصارات التى أنهت أسطورة الشعور بالتفوق لدى الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر )
ويقول توماس تشيهام المراسل الحربي الذى سبق وأشاد بالقوات الإسرائيلية واستحكاماتها :
( إن الطيران الإسرائيلي لم يتمكن من تحقيق النجاح الذى كان يتوقعه الشعب الإسرائيلي , لقد وضح من خلال سير المعارك أن تلك المزاعم حول قدرة الطيران الإسرائيلي مزاعم بلا أساس )
وعن خط بارليف المنيع يقول المحلل العسكري باولو بترونتى فى مجلة أنابيلا الإيطالية :
( إن خط بارليف الذى شيدته إسرائيل على غرار خط ماجينو الفرنسي سقط تماما كما سقط سابقه قبل 34 عاما لقد فر الجنود الإسرائيليون من هذا الخط أمام القوات المصرية المهاجمة تاركين دروعهم وتحصيناتهم أمام الجحيم الذى تفجر أمامهم فجأة ! )
وقال موشي ديان فى محاضرة ألقاها فى النادى الهندسي فى تل أبيب ونشرتها جريدة هامو دياع فى أول يناير 1974 :
( إننى كوزير للدفاع لم أقدّر كفاءة المقاتل العربي وفعاليته حق قدرها إذا أنها ظهرت بكفاءة عالية جدا أكبر مما قدرتها بيانات ومعلومات المخابرات الإسرائيلية ! )





الهوامش
[1]ـ أبطال الفرقة 19 مشاة ـ الفريق يوسف عفيفي ـ دار الصفوة للنشر والتوزيع
[2]ـ حرب رمضان ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-10-2010 09:56 AM

وعلى ذكر المخابرات الإسرائيلية التى تميزت بالإمكانيات الخرافية هى وشقيقتها الأمريكية قررت لجنة التحقيق فى أسباب التقصير التى شكلتها الحكومة الإسرائيلية ورأسها القاضي شيمون أجرانات وعُرفت باسمه :
( إن المخابرات الإسرائيلية العامة والحربية قصرت تقصيرا فادحا كانت من نتائجه تهديد وجود الدولة اليهودية )
وهذه اللجنة هى التى أوصت بتقاعد كافة القيادات العسكرية والأمنية وعلى رأسهم إيلي زاعيرا مدير المخابرات الحربية [1]
وعن حقيقة قبول إسرائيل لوقف إطلاق النار قالت النيوز ويك في عددها الصادر 29 أكتوبر عام 1973 م :
( إن الدافع الحقيقي لإسرائيل في وقف قبول إطلاق النار كانت خسائرها المروعة في المعدات والأفراد )
وعن الأرباح والخسائر في الجولة الرابعة من الصراع العربي الإسرائيلي أذاعت وكالة it يوم 11 نوفمبر نقلا عن المصادر العسكرية الأمريكية تصريحاتهم ..
( إن ميزان القوى الإستراتيجى في الشرق الأوسط قد تغير بعد حرب أكتوبر لصالح العرب ) [2]

أما أعظم الشهادات التى سطرتها أقلام العدو وتصريحاته فتكمن فى مصدرين لهما من الأهمية أقصاها ,
الشهادة الأولى : وهى تقرير لجنة التحقيق الإسرائيلية برياسة رئيس المحكمة العليا فى إسرائيل شيمون أجرانات والتى عُرفت باسم ( لجنة أجرانات ) والتى تولت التحقيق مع القيادات السياسية والعسكرية وأودعت توصياتها فى تقرير مطول تم نشره فى كتاب كامل بعنوان ( المحدال ) أى ( التقصير ) ونصوص الكتاب كلها تحمل أروع وأصدق شهادة بحجم المفاجأة المذهلة التى حققتها حرب أكتوبر على المستوى التكتيكى والتعبوى معا لأول مرة فى التاريخ , فضلا على احتواء التحقيق على عدد من الحقائق المذهلة التى كشفت انهيار أعصاب القادة العسكريين والجنود أمام فعاليات القتال وأداء الجيش المصري رغم التفوق التكنولوجى والإمدادات العسكرية الأمريكية التى لم تنقطع طوال أيام القتال
ومن فكاهيات هذا التقرير شهادات بعض القادة أنهم فوجئوا بانتحارية الجنود المصريين على خطوط القتال بشكل أكد لهم أنها انتحارية غير طبيعية وحتما خلفها معالجة غير طبيعية !!
الشهادة الثانية : وتكمن فى تقرير لجنة تقصي الحقائق فى الكونجرس الأمريكى والتى تعادل أهمية تقرير لجنة أجرانات واحتوت تقارير لجنة التحقيق على البنود التالية [3] :
* إن اقتحام وسقوط خط بارليف عمل عسكري لا يقل في أهميته عن سقوط خط ماجينو الفرنسي أمام الجيش الألمانى في الحرب العالمية الثانية
( وهنا لابد لنا من ملحوظة هامة حيث أن خط بارليف كان يتفوق في تحصيناته مائة مرة أكبر من خط ماجينو , وليس هذا فقط بل إن خط ماجينو لم يسقط في يد الألمان بالهجوم المباشر كما هو الحال مع خط بارليف بل سقط بالتفاف الألمان من حوله ومهاجمته من الخلف )
* أن التخطيط المصري للمعارك كان على كفاءة عالية وقد تمكن من تجاوز أسباب التفوق الإسرائيلية في الطيران باستخدام صواريخ سام 6 الدفاعية للارتفاعات العالية وستريلا للارتفاعات المنخفضة , كما تفوق على المدرعات بحل مبتكر وهو استخدام صواريخ مولوتكا المضادة للدبابات بكثافة , كما تفوقت في التعبئة العامة بتحقيق عنصر المفاجأة وبالتخطيط للحرب على جبهتين في توقيت واحد
* إن مصر لم تكن تمتلك أسلحة متقدمة سببت باستعمالها مفاجأة بل كانت المفاجأة في طريقة استخدام هذه الأسلحة فاستطاعت أن تجد وسيلة مبتكرة في استخدام الإمكانيات التي تحت يدها فاستخدمت عامل انتشار الأسلحة بصورة مذهلة ـ أى في الكميات التي وصفتها اللجنة بأنها غير مسبوقة ـ فأمام الطائرات كانت هناك آلاف مؤلفة من صواريخ ستريلا وأمام الدبابات كانت هناك آلاف من صواريخ مولوتكا
وقد لاحظ الكونجرس الأمريكى ملاحظة هامة وذكية وهى أن استخدام الأسلحة بهذه الكثافة والإنتشار لم يكن مكلفا فوق الطاقة بالنسبة لمصر , فالصاروخ السوفيتى المضاد للدبابات كان ثمنه ألف دولار بينما الصاروخ الأمريكى ـ الذى تستخدمه إسرائيل لتأدية نفس الوظيفة ـ كان يبلغ ثمنه عشرة آلاف دولار !
* ومع ذلك لم يكن التفوق كميا فحسب بل كان لدى المصريين تفوق في الكيف لا شك فيه ومن نماذجه أن صواريخ سام 6 المتطورة حصلت عليها مصر بينما لم تحصل عليها فيتنام , والدبابة المتقدمة ( ت 62 ) لم تكن قد حصلت عليها قوات حلف وارسو عندما دخلت الخدمة في القوات المصرية
* كان التنفيذ المصري للتخطيط المحكم أكثر إحكاما , حيث أشارت اللجنة إلى أن التفوق في السلاح استخداما ونوعا صاحبه تقدم مدهش في الأداء وكفاءة التدريب ,
وهذه الحقيقة كشفت عنها العمليات العسكرية التي أدهشت قادة الجيش المصري أنفسهم فقال المشير أحمد إسماعيل أن أداء الجنود والضباط كان فوق مستوى التخيل وبدا كما لو أنهم يقومون بتدريب عملى لا أنهم بصدد عمليات حقيقية ,
وهو ما تم فعلا فالخسائر التي كانت متوقعة في ضربة الطيران كانت تزيد على 20 % ولو اقتصرت نسبة الخسائر على هذا فالضربة الجوية تعتبر فائقة النجاح ,
لكن الخسائر الواقعية لم تتعد 2% من قوة الطائرات المهاجمة !
وكانت الخسائر المتوقعة المحتملة في قوات العبور تقدر بالآلاف فإذا بها تنجح بخسائر لم تتجاوز 158 فردا !!
والمفارقة العظيمة بالفعل أن هذه الخسائر كانت بالفعل أقل من معدلات الخسائر التي كانت تتحقق في أثناء التدريبات !


الهوامش :
[1]ـ حرب يوم الغفران ( مذكرات إيلي زاعيرا ) ـ ترجمة توحيد مجدى ـ المكتبة الثقافية ببيروت
[2]ـ حرب رمضان ـ مصدر سابق
[3]ـ حرب أكتوبر ( السلاح والسياسة ) ـ محمد حسنين هيكل ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر

محمد جاد الزغبي 10-10-2010 09:58 AM

بدء العمليات وسقوط الأسطورة

لو تأملنا الشهادات السابقة من قيادات العدو أو القيادات العالمية أو حتى شهادات القادة المصريين الذين انبهروا بطريقة الأداء في عمليات العبور والنجاح المذهل لبداية العمليات ,
لوجدنا هنا نقطة اتفق عليها الجميع وهى أن ما حدث يوم السادس من أكتوبر كان شيئا فوق العادة ,
كان ـ على حد تعبير الرئيس السادات ـ معجزة على أى مقياس عسكري ,
والمعجزة تختلف عن التفوق ,
لأن التفوق مهما بلغ من النجاح فلابد من مبررات وأسباب منطقية تقف خلفه ويمكن تفسيرها ببراعة العنصر البشري , بينما المعجزة هى شيئ خارق للعادة لا يتكرر في أغلب الأحوال ويتميز بمخالفته للتوقع مهما بلغت دقته
وهذا بالضبط ما حدث في حرب أكتوبر بشتى مراحلها ,
والتفسير هنا مرهون بالعامل الذى يمكن لنا نحن فهمه ويمثل أمام الغرب ثقافة غير مفهومة , وهو عامل الإيمان المتدفق وعشق الشهادة والبحث عن الموت في سبيل الله ,
هذا العامل الذى لم تتفهمه القيادات الإسرائيلية وهى تبحث عن خرافة حبوب الشجاعة التي تناولها المصريون قبل اقتحام خط بارليف في محاولة منهم لتبرير فرار جنودهم القابعين خلف مواقعهم الحصينة وتركهم لتلك المواقف والفرار في هلع مذعور من جنود المشاة الذين لم يكن في أيديهم إلا الأسلحة الخفيفة !
لكن السبب كما شرحه بعض العسكريين الإسرائيليين الفارين من جحيم الساعات الأولى للحرب
[1] وقال إنه لن يعود لهذا الجحيم وأنه على استعداد للوقوف أمام محكمة عسكرية لكنه ليس على استعداد للعودة إلى هناك ,

كان العامل بلا شك هو دفقة الإيمان التي فجرها لجنود بصيحة ( الله أكبر ) التي صدرت منهم فور رؤيتهم لطائرات الضربة الجوية الأولى تعبر فوق صفوفهم المتراصة قبيل الإقتحام , فرددوها كصيحة جبارة هادرة انتزعت قلوب الإسرائيليين ودفعتهم لهذا الفرار غير المبرر عسكريا والمبرر ـ بلا شك ـ إنسانيا
يقول تعالى :
[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ] {التوبة:14}
ويقول تعالى
[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] {الأنفال:12}
هذا هو التفسير إذا أمامنا مبسوط صراحة في آيات القرآن الكريم , بعكس النداءات الغريبة التي رددتها الأبواق العلمانية بعد ظهور العامل الإيمانى في الحرب , وقالوا بأن عزو النصر للقدرة الإلهية فيه إجحاف للإنجاز الإنسانى الذى أبرزته قوة الجيش المصري !!
دون أن يسأل هذا القائل نفسه وأين كان هذا الإنجاز في حرب النكسة مثلا ؟!
ودون أن يقدم القائل تفسيرا عسكريا علميا دقيقا لهذا الإنجاز المذهل الذى وقف أمامه الخبراء عاجزون عن تكييفه وهم يحصون العشرات من النظريات العسكرية الثابتة التي دمرتها القوات المصرية بالأداء الخرافي ؟!
ودون أن يجيبنا القائل عن مبرر صيحة الجنود ( الله أكبر ) مسلمين ومسيحيين على حد سواء وهم يقتحمون الحصون المنيعة بأجسادهم الحية ويلقون أنفسهم في أتون النيران بفدائية غير مسبوقة ؟!
وما هو المبرر الدنيوى الذى يمكن أن يقف خلف هذا الفعل العظيم , وأى مبرر يمكنه تفسير ذلك إلا الإيمان العميق الصادق الهادف للجنة والموت في سبيل الله والوطن ؟!
وما هو المبرر الذى جعل اللواء محمد عبد المنعم واصل يختار كلماته التي يوجه بها الجيش الثالث الميدانى لبدء العمليات فيضمنها أربع آيات من القرآن الكريم لم يجد أكثر منها تحفيزا كى يجهز جنوده للمعركة ,
وما هو المبرر الذى يمكن أن يفسر البطولات الفردية المذهلة التي دفعت بالعقيد أحمد زدد إلى اقتحام إحدى نقاط خط بارليف المستعصية بجسده وألقي نفسه على المدفع الدوار لتمزق الرصاصات أحشاءه فيمسكها بيده حتى اقتلع المدفع الذى يمنعهم من الإقتحام ثم حمل أحشاءه لعدة أمتار وهو يتبادل النيران مع قوات العدو حتى أتم تطهير النقطة وأسلم الروح بعد ذلك ,
وما هو المبرر الذى يمكن أن يقف خلف بطل مثل العميد إبراهيم الرفاعى ضابط الصاعقة الأسطورى قائد المجموعة ( 39 ) قتال إلى مواجهة رتل من دبابات العدو منفردا ومندفعا نحوه لا فارا منه حتى استشهد بعد أن أدى واجبه ؟!
وإذا كان للأمر مبرر منطقي أو إنسانى أو بشري
فلماذا لم نسمع عن تلك الصور المذهلة للبطولات الفردية إلا في الجيوش الإسلامية والتى أعاد الجيش العربي صورتها إلى الأذهان في معركة أكتوبر المسماة بالعملية ( بدر ) تيمنا ببدر الكبري التي شهدت بداية الأسطورة القتالية الإسلامية عندما تغلب ثلثمائة مقاتل على ألف فارس من صناديد قريش !
لم نجد إلا في التاريخ الإسلامى معجزات فدائية مثل البراء بن مالك الذى شارك في معركة الحديقة ضد جيش مسيلمة الكذاب وعندما تحصن العدو بها طلب من زملائه أن يلقوه عليهم وحده من فوق أسوار الحصن !
وفعلها واقتحم الحصن وتغلب على حرس الأبواب وفتح أحدها وفى جسده مائة طعنة سيف وضربة رمح !!
فشهدت حرب أكتوبر مثل تلك المعجزات الإيمانية منذ صدور قرار بدء العمليات وحتى وقف إطلاق النار




الهوامش :
[1] ـ حرب أكتوبر ( شهادة إسرائيلية ) ـ وجيه أبو ذكرى ـ دار أخبار اليوم

محمد جاد الزغبي 10-10-2010 09:58 AM

وعندما حلقت الطيور نحو الشرق ..
واندفعت 220 طائرة مصرية من شتى الأنواع نحو سيناء في توقيتات مختلفة من مختلف مطارات مصر لتلتقي في لحظة واحدة محددة فوق الضفة الشرقية للقناة وتمخر السماء نحو مواقع العدو في سيناء
كانت صفوف الجنود للموجة الأولى للعبور البالغة ثمانية آلاف جندى تهدر بصيحة الله أكبر , وعادت الطائرات سليمة من ضربتها التي حققت نجاحها بنسبة مائة في المائة رغم السمعة الأسطورية لطيران الإسرائيلي ولم تزد خسائر الطائرات المصرية عن 2% لتدمر ثلاث مطارات حربية بالطائرات الجاثمة فوقها وعشر مواقع لصواريخ (هوك) وثلاثة مراكز سيطرة للعدو وموقعى مدفعية بعيدة المدى في العمق وحصون خط بارليف في شرق بور فؤاد

وشهدت الضربة الجوية ـ كسائر الأسلحة فيما بعد ـ بطولات فردية كان لها الفضل الأكبر في تنفيذ الضربة الجوية بهذا النجاح الفائق ,
فأحد الطيارين ـ وأعمارهم جميعا كانت بين 18 و25 سنة فقط ـ أصيبت طائرته وكان في إمكانه القفز والنجاة منها ولكنه لم يفعل , وعندما أصيبت طائرته لمحت عيناه أرض المطار العسكري الإسرائيلي تقبع فوقه خمس طائرات متطورة , فوجه الدفة بزاوية إنتحارية لينفجر مع طائرته وسط طائرات العدو والممرات , وكانت النتيجة لهذه البطولة الخارقة أن خسر العدو هذا المطار تماما وظل لمدة أربعة أيام خارج الخدمة[1]
وفى قلب القوات الإسرائيلية التى فوجئت بالهجوم كان يقبع بطل مصري آخر هو الشهيد عمرو طلبة الذى تم زرعه كعميل للمخابرات المصرية فى قلب الجيش الإسرائيلي وكانت هناك خطة لاستعادته قبيل بدء المعارك مباشرة ,
وصدرت له الأوامر بسرعة التوجه إلى نقطة معينة متفق عليها على الجبهة لانتشاله , فى نفس الوقت الذى تم التنبيه فيه على مدفعية الجيش الثانى بتفادى تلك النقطة تماما ,
ولكن النقيب عمرو طلبة رفض لأول مرة تنفيذ الأوامر وظل فى وحدته العسكرية الإسرائيلية ليفتح جهاز اللاسكى مباشرة على القيادة المصرية وسط الفوضي التى عمت وحدات الجيش الإسرائيلي وينقل لهم عددا كبيرا من الأهداف المهمة التى ينبغي استهدافها كما نقل لهم حالة الذعر بين الإسرائيليين ,
ورفض مغادرة موقعه واستمر فى نقل البيانات لتستفيد منها الطلعات الأولى للطيران المصري فى تنفيذ ضربات مؤثرة فى مراكز القيادة واستشهد عمرو طلبة بعد أن فضل الموت فى سبيل أداء هذه الخدمة للقوات المصرية [2]

وطيار مقاتل آخر كان يعانى من آلام شديدة بالمعدة وكتم آلامه حتى لا تعيقه عن الإشتراك في الحرب مغامرا بحياته نظرا لوجوب أن يطير الطيار وهو في أعلى حالاته الصحية كفاءة , واستمر ينفذ العمليات والطلعات الجوية حتى اكتشفت قيادته الأمر وألزمته الفراش بالأمر المباشر !
وقد شهدت القوات الجوية إنجازات أخرى على الأرض كان بطلها المهندسون والفنيون العسكريون الذين تمكنوا من تحطيم الرقم القياسي المسجل عالميا لإعادة ملئ الطائرة بالوقود وتسليحها بالذخائر ,
فكان الرقم العالمى المسجل سبع دقائق فحطمه المصريون ليسجلوا رقما جديدا بخمس دقائق ونصف !
وبهذه البطولة تعددت كثافة الطيران المصري على ارتفاعات منخفضة لتخترق العمق الإسرائيلي وتدمر مواقع دفاعه الجوى ومدفعيته والشئون الإدارية في مناطق الحسنة وأم خشيب وجبل سحابة وأم مرجم والمغارة ورأس سدر وقلعة الجدى
كما شهدت المعارك الجوية أرقاما قياسية جديدة ومنها أن أطول معركة جوية في العالم كانت من نصيب القوات المصرية في مواجهة الطيران الإسرائيلي حيث أن أكبر مدة لأى معركة جوية تترواح بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة فقط ,
بينما شهدت معارك أكتوبر معركة شاركت فيها سبعون طائرة من الجانبين واستمرت خمسين دقيقة كاملة ! وهى المعركة التي تم تدمير طائرات الفانتوم الإسرائيلية التي حاولت الدخول للعمق المصري بالإلتفاف بعيدا عن حائط الصواريخ المصري والدخول من ناحية البحر لضرب سبع مطارات مصرية في وقت واحد
وخسر الطيران الإسرائيلي محاولته وتكبد خسائر جسيمة بلغت 25 طائرة فانتوم وسكاى هوك في مقابل خسارة الجانب المصري لست طائرات فحسب ,
ولم ينجح الطيران الإسرائيلي في إنجاز مهمة تدمير أى مطار بعد أن تمكنت وحدات المهندسين من إصلاح وترميم الممرات المصابة في المعركة في وقت قياسي
ولم ييأس العدو وقام بتنفيذ طلعات كثيفة بلغت 166 طلعة جوية على ستة مراحل بغرض تدمير مطارى القطامية والمنصورة ومع ذلك ظل كلاهما داخل نطاق الخدمة طيلة أيام القتال
وهنا يجدر بنا تذكر تلك الشهادة التي ألقي بها طيار إسرائيلي وقع في الأسر بعد أن سقطت طائرته في المعارك الجوية وطلب اللواء ـ آنذاك ـ حسنى مبارك رؤية هذا الطيار ليسأله عن سبب ضعفه القتالى الذى لاحظه قائد القوات الجوية وهو يتابع المعركة من الأرض ,
وسأله حسنى مبارك : ماذا أصابكم ولماذا تغير مستواكم إلى هذا الحد ؟!
فقال له الطيار : سيدى .. نحن لم نتغير .. أنتم الذين تغيرتم !!
وكان الرئيس السادات يروى هذه القصة مفتخرا [3]
وبلغت خسائر إسرائيل فى القوات الجوية حدا أضاع الروح المعنوية للطيارين والشعب على حد سواء لما تتمتع به القوات الجوية الإسرائيلية من سمعة الحماية بالتقدم التكنولوجى لطائرات الفانتوم وسكاى هوك والتقدم التدريبي ,
لكن سقط كل هذا فى مواجهة طائرات الميج السوفيتية بقادتها المصريين الشبان الذين لم يتجاوزوا عمر الزهور وتم تخريجهم فى سنوات دراسة أقل إلى الثلث من المعدل الطبيعى لتغذية القوات الجوية المصرية
فتمكنت مصر من إسقاط 25 طائرة فانتوم خلال ثانى أيام القتال وحده فضلا على العشرات التى سقطت بفعل الدفاع الجوى وقائده الفذ محمد على فهمى ,
وبلغ عدد ساعات الطيران فى الأسبوع الأول لحرب قرابة 3000 طلعة , كانت تتم فى أغلبها والطيارون فى طائراتهم لا يغادرونها أثناء إعادة الملئ والتسليح !
ولم تخل المعارك الجوية من أخطاء إسرائيلية ساذجة اتخذ منها الطيارون المصريون وسيلة للقفشات والنكات فيما بينهم ,
ففي أيام القتال الأولى حذر قائد السلاح الجوى الإسرائيلي الجنرال بنيامين بيلد طياريه من أن مصر حصلت على بعض طائرات الميراج الذى يستخدمها سلاح الجو الإسرائيلي وطلتها بنفس ألوان وعلامات الطيران الإسرائيلي لخداع الطائرات الإسرائيلية ومهاجمتها ,
وتلقي الطيارون الإسرائيليون هذا التحذير باهتمام لعدم الوقوع فى الخديعة ,
وفى إحدى الهجمات الإسرائيلية على القطاع الشمالى انقسمت الطائرات المهاجمة إلى قسمين من الفانتوم والميراج واندفعت طائرات الميراج فى الدفعة الأولى لتنفيذ الضربة الأولى على أن تتبعها الفانتوم
ففوجئت الميراج بصواريخ سام 6 التى كانت إحدى المفاجآت الكبري لإسرائيل نظرا لعدم علمها بحصول مصر عليها أصلا,
ففرت الميراج على الفور بعد سقوط بعضها للخلاص من فخ الدفاع الجوى المصري
وفوجئ طيارو الموجة الثانية بطائرات ميراج تخرج إلى السماء فى مواجهتهم وهى تحمل نفس علاماتهم ولكن قبل الموعد المحدد بكثير فظنوا أن هذه الطائرات هى الطائرات المصرية المتخفية واشتبكوا معها لتسقط أربع طائرات من الجانبين وتعلن إسرائيل فى بيانها العسكري سقوط طائرتين مصريتين بينما الطيران المصري نفسه غائب عن المعركة !
والخاسر الحقيقي كان الطيران الإسرائيلي الذى فوجئ بفقد أربع طائرات من التشكيل وكانت فضيحة !


الهوامش :
[1]ـ الحرب الرابعة على الجبهة المصرية ـ صلاح قبضايا ـ دار أخبار اليوم
[2]ـ العميل ألف وواحد ـ من ملفات المخابرات المصرية ـ د. نبيل فاروق ـ المؤسسة العربية الحديثة
[3]ـ أكتوبر 1973 ( السلاح والسياسة ) ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-10-2010 09:59 AM

ومن بطولات القوات الجوية إلى رجال المدفعية الذين كان دورهم التمهيد النيرانى ودك حصون خط بارليف ,
وفور تنفيذ الضربة الجوية انطلق ألفي مدفع من جميع العيارات فى أقوى تمهيد نيرانى فى تاريخ المعارك منذ الحرب العالمية

وعبرت قوات الموجة الأولى ومعها رجال توجيه المدفعية الذين خاطروا بحياتهم وقاموا بتصحيح ضرب المدفعية لتصيب سائر أهدافها فى إتقان مذهل استمر طيلة 54 دقيقة كاملة نجحت فى تغطية قوات العبور فضلا على نجاحها فى فتح وتنقية حقول الألغام وتدمير التحصينات والأسلاك الشائكة المحيطة بخط بارليف ,
وفى تمام الساعة السادسة من مساء أول أيام القتال
تلقي القائد العام للقوات المسلحة تمام المدفعية من اللواء محمد سعيد الماحى ـ الذى تولى المخابرات العامة فيما بعد ـ وكان هذا التمام يعنى أن سائر المدافع من جميع الأنواع من مدافع الميدان والهاون وكتائب الصواريخ التكتيكية ( أرض / أرض ) اتخذت مواقعها وتم توجيهها لأهدافها المختارة بعناية فى العمق وعلى خط المواجهة وأنها نفذت مهامها بنجاح تام ,

وبكثافة بلغت 175 دانة مدفع فى الثانية الواحدة بطول الجبهة على امتداد 180 كيلومتر
وكالعادة سجلت المدفعية سبقا وفتحا جديدا فى عالم الحروب عندما استخدمت المدفعية المصرية الصواريخ التكتيكية ( أرض / أرض ) استخداما جديدا أذهل الإسرائيليين عندما تم توجيهها لأهداف العمق فى قلب سيناء أصابت جميعا أهدافها ليفقد العدو سيطرته تماما على مواصلاته واتصالاته وانفصلت فعليا قوات العدو فى المواجهة عن الإحتياطى فى الخلف وعن قيادته التى عجزت عن مد يد العون إلى قوات خط بارليف لتتركهم لمصريهم المنتظر وسقوطهم فى أيدى المصريين !
وتفجرت فى الدقائق الأولى عشرة آلاف انفجار فى مواقع العدو تمت كلها فى مواقع حساسة فصلت خط المواجهة للعدو عن قيادته كما يروى العميد عبد الحليم أبو غزالة ــ قائد مدفعية الجيش الثانى والذى تولى وزارة الدفاع فيما بعد ـ أن المدفعية نجحت فى اختراق مواقع العدو على ثلاث نطاقات
الأول : الخط الأمامى فى مواجهة خط بارليف وقامت المدفعية بفتح جميع الثغرات المطلوبة فى الخط الحصين وتنقيته من الألغام لينفتح الطريق أمام قوات العبور لاقتحامه
الثانى : أما النطاق الثانى فقد توجهت المدفعية فيه إلى احتياطيات العدو ومدرعاته وبطاريات المدفعية وأسكتتها تماما
الثالث : وهو فى العمق حيث توجهت المدفعية إلى مراكز السيطرة بتوجيه مباشر من قائد سلاح المدفعية وقوات الإستطلاع والتوجيه التى تم إسقاطها قبل بدء القتال خلف خطوط العدو

وتحت هذا الحاجز الكثيف من النيران تمت تغطية قوات العبور التى تلاحمت قواربها مع شاطئ القناة بعد طول انتظار لست سنوات كى تتحقق هذه اللحظة ,
وارتسمت أروع المشاهد فى لوحة العبور بعد أن ارتقي ثمانية آلاف مقاتل قواربهم المطاطية لتشق سطح القناة فى صحبة الوحدات البرمائية ,
وهنا حققت قوات المشاة الملقبة بسادة المعارك أبدع لوحات الفداء عندما نفذ القادة المصريون قاعدة قيادة الجنود من موقع القتال تنفيذا للمبدأ العسكري لمفهوم القائد ,
فالقائد ليس هو الذى يقول لجنوده تقدموا , بل هو الذى يقول اتبعونى ,
فالقادة الأصاغر للوحدات المقاتلة عبروا جنبا إلى جنب مع جنودهم ومع تتابع موجات العبور التى وصلت فى مساء نفس اليوم إلى خمس فرق بقوة ثمانين ألف جندى عبرت كافة القيادات العسكرية حتى رتبة اللواء ,
وهذه المعادلة السحرية هى التى السبب فى تحقيق رقم قياسي جديد وهو نسبة خسائر الضباط إلى نسبة خسائر الجنود حيث بلغت أعلى نسبة مسجلة عسكريا لتؤكد على أسلوب القيادات المصرية المبتكر وهو تذويب الفوارق بين القواد والجنود فى المهام وفى المميزات مما كان له مفعول السحر على الروح المعنوية للجنود وهم يشاهدون قوادهم من مختلف الرتب العليا تتقدمهم على خطوط النار , تماما كما شاهدوهم معهم على طاولات الغذاء أثناء التدريبات يأكلون من طبق واحد !
وهذه السياسة الحكيمة الفدائية هى التى اتبعتها القيادة المصرية فى مرحلة الإعداد بعد حرب 67 م ,
وكان أول من بدأها رئيس الأركان الأسطورى الفريق عبد المنعم رياض الذى استشهد من مواقع الجبهة الأمامية فى حرب الإستنزاف وهو يشارك جنوده قتالهم بعد بدء ضربات المدفعية ورفض مغادرة موقعه واتخذ مكانه فى إحدى حفر الموقع المصري الذى لا يبعد أكثر من مائتى متر من مواقع العدو ,
ثم سقطت دانة مدفع فى الحفرة المتواجد بها لينال الشهادة بإذن الله ,

محمد جاد الزغبي 10-10-2010 09:59 AM

ففي الساعة الثانية والربع ولم تمض 15 دقيقة على بدء الإقتحام عبر جميع قادة كتائب المشاة مع جميع معاونيهم من مختلف الرتب من رتبة الملازم أول حتى المقدم ,
وبعد مرور ساعة عبر قادة الألوية وهم فى رتبة العميد , وهذه الرتبة بداية الرتب العليا فى القوات المسلحة ,

وبعد مرور ساعة ونصف ساعة من عمليات الإقتحام عبر قادة الفرق وهم جميعا فى الرتب القيادية من رتبة اللواء ثم عبر قادة الجيوش وهما اللواء سعد الدين مأمون قائد الجيش الثانى الميدانى واللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث الميدانى ,

وفى الساعة الثانية والنصف بعد أقل من نصف ساعة على بدء عمليات الإقتحام حمل المقاتلون علم مصر ليرفرف على الساتر الرملى فى مختلف قطاعات الإختراق إيذانا بتفجر معركة التحرير ,
وأسقط الدفاع الجوى المصري أول طائرة إسرائيلية مغيرة فى الساعة الثانية وخمسين دقيقة تماما ليبدأ فشل العدو فى استخدام قواته الجوية لإيقاف العبور بعد تصدى حائط الصواريخ المصري لكافة هجماته ,
ولم يكن حائط الصواريخ الأسطورى الذى بنته مصر بالعرق والدموع لصد هجمات العدو الجوية على العمق هو المفاجأة فى الحرب بل كانت المفاجأة التكتيكية متمثلة فى صواريخ ( سام ـ 6 ) والتى تكتمت مصر وسوريا حصولها عليها وهى الصواريخ السوفيتية الصنع التى تتفوق بمراحل على صواريخ ( سام 2 ) و( سام 3 ) وتتميز بقدرتها الفائقة على اصطياد الفانتوم من الارتفاعات المنخفضة والمتوسطة ,
وكانت مصر وسوريا قد أخفت هذه المفاجأة لدرجة أن القوات السورية فضلت أن تخسر 13 طائرة فى المعركة الجوية التى قامت بينها وبين العدو قبل الحرب بأيام حتى لا تكتشف إسرائيل وجود هذه الصواريخ قبل الحرب الكبري ,
وحققت المفاجأة نتيجتها كاملة إذ سقط للعدو فى الساعات الأولى 13 طائرة غامرت بالإقتراب من خط القناة مما دفع قائد القوات الجوية الإسرائيلية بنيامين بيليد إلى إصدار أوامره لطياريه بعدم الإقتراب من منطقة القناة لمسافة 15 كيلومتر

وفى الساعة الثالثة بلغت القوات العابرة للقناة 800 ضابطا و13500 جنديا , بعد أن تمكن الجيش الثانى من بدء العبور بسلام وتغلب الجيش الثالث على سرعة تيار القناة التى تعدت 80 مترا فى الدقيقة بمنطقته مما أعاق تقدم القوارب وعرضها للسقوط فاستخدمت القوات المعدات البرمائية لإتمام العبور
وفى الثالثة والنصف كانت وحدات المهندسين تعبر فى وحدات بحرية خاصة معدة بالخراطيم والمضخات الألمانية الصنع فائقة القوة لأداء مهمتها فى فتح الثغرات بالساتر الترابي ,
وفى الساعة الخامسة والنصف بعد ثلاث ساعات ونصف فقط من بدء العمليات بلغت القوات المصرية العابرة 2000 ضابط و30000 جندى
وفى السادسة والنصف أتمت وحدات المهندسين عملها فى وقت قياسي وتمكنت من فتح جميع الثغرات المطلوبة فى الساتر الترابي وبدأت على الفور عملية إعداد وتمهيد بناء رءوس الكباري ومد الجسور وانتهى تركيب أول كوبري فى سرعة مذهلة فى نطاق الجيش الثانى الميدانى لتتدفق عبره أرتال الدبابات والمدرعات المصرية ,
وفى نطاق الجيش الثالث الميدانى ونظرا لأن الساتر الترابي هناك كان معظمه من التراب المكون للطمى اللزج بعكس الساتر فى نطاق الجيش الثانى فقد تكونت طبقة طمى طولها متر كامل أعاقت تركيب الكباري فأصدر اللواء عبد المنعم واصل تعليماته بتنفيذ المتفق عليه من كسح طبقة الرمى بمعدات الحفر والبناء وتدشين التربة الطينية بالصخور والزلط وتمت العملية على أكمل وجه وفى تتابع ونسق دقيق ووصل عدد الثغرات حوالى 80 فى الساعة العاشرة مساء , [1]
وأزاحت وحدات المهندسين ما حجمه 90 ألف متر من الرمال والأتربة وأنشأت ثمانى كباري ثقيلة و31 معدية كانت تتحرك ذهابا وإيابا ناقلة للقوات فى سرعة تدفق محمومة ,

وكما سبق القول تعطلت قوة العدو الجوية عن القيام بأى دور فى إعاقة عملية العبور ومرت عملية فتح الثغرات وإنشاء الكباري طيلة الفترة من الثانية ظهرا حتى العاشرة مساء دون أى تدخل من قوات خط بارليف أو الإحتياطي المدرع للعدو القابع خلفه للتدخل حال حدوث العبور
وبالطبع لم يكن العدو نائما فى تلك الفترة حتى يمنح الفرصة للقوات المصرية بالتدفق بهذا الشكل ولكن كان ممنوعا بفعل فاعل تمثل فى موجة العبور الأولى من المشاة وقوات الصاعقة التى تسلقت الساتر الترابي بالحبال وعبرت إلى تحصينات خط بارليف فى ثغرات الأسلاك الشائكة التى فتحتها المدفعية بالتمهيد النيرانى ,
وطبقا للخطة التى تدرب عليها الجنود آلاف المرات تم حصار نقاط خط بارليف الحصينة واقتحام مداخلها بالقنابل اليدوية بينما توجهت القوة الأكبر من قوات العبور إلى ما خلف تلك النقاط تاركين مهمة حصار خط بارليف لزملائهم , واندفعت تلك الموجات البشرية تتسلق المرتفعات وتقبع بمدافع وقاذفات الآر بي جى وصواريخ ساجر المضادة للدبابات فى انتظار احتياطى العدو القريب من المدرعات ,
وبوصول أول دبابة من دبابات العدو انفتحت أمامهم أبواب الجحيم بمزرعة من الصواريخ المضادة للدبابات والألغام المعدة فى كمائن دقيقة ليتم تدمير قوات العدو المهاجمة فى النسق الأول تدميرا تاما وأسر عدد كبير من أفرادها ,
فى نفس الوقت الذى سقطت فيه أول النقاط الحصينة من خط بارليف القلعة رقم 1 فى منطقة القنطرة فى الساعة الثالثة تماما ثم استمر معدل سقوط النقاط الحصينة لخط بارليف بواقع نقطة أو نقطتين كل ربع ساعة ,
فسقطت القلعة رقم 2 ثم القلعة رقم 3 فى الكيلومتر 146 طريق الجباسات وفى وقت واحد سقطت معها القلعتان رقم 4 , 5 ثم القلعة رقم 6 ,
ثم استمر التتابع السريع لسقوط خط بارليف الحصين عبر نقاطه القوية إما بقتل أفرادها وإقتحامها أو استسلامهم وخروجهم من النقاط طواعية ولم يتبق من مجموع النقاط الحصينة إلا نقطتان فقط تم حصارهما حتى سقطا فى 13 أكتوبر ,
ومن نوادر المعركة أن إحدى النقاط الحصينة التى سقطت فى الدقائق الأولى وتم أسر أفرادها , اختبأ واحد منهم تحت سرير من أسرة المعسكر فى النقطة وكتم أنفاسه وحركته لثلاثة أيام كاملة دون شراب أو طعام أو نوم وظل يرتعد من الخوف طيلة الأيام الثلاثة حتى تم اكتشافه !

ويصف أحد قادة الكتائب الإسرائيلية مشهد الساعات الأولى من المعركة وهو الميجور روبين قائد الكتيبة الشمالية فيقول :
( إن أغلب أفراد خط بارليف نزلوا للحصون التحتية فور بدء القصف ظنا منهم أن القصف مجرد قصف عادى وليس تمهيدا للهجوم , وكان قائد كل حصن يحتاج لجدل خمس دقائق فى التلفون مع قيادته حتى تدرك القيادة الإسرائيلية أنهم فى مواجهة حرب شاملة )
ويكمل الميجور روبين تجربته فيصف كيف أنه أرسل فى فتح طريق الإحتياطى المدرع لحماية حصون بارليف والإستعداد لموجات الهجوم ليفاجئ بعدها بتقارير قادة السرايا المدرعة التى تم تدميرها بالكامل بفعل مصايد الدبابات التى أعدتها قوات الموجهة الأولى المصرية ليتم تدميرها تماما عدا دبابتين أسرعتا بالإنسحاب للخلف
ثم توالت البلاغات على الميجور روبين فى محيط أخبار كتيبته لتبلغه أن أغلب قادة حصون خط بارليف لقوا حتفهم واستسلم باقي الجنود وعندما تلقي استغاثة للإمداد والدعم من أحد هذه الحصون قبل سقوطها طالب الميجور روبين قائده الكولونيل بنحاس بسرعة إمداده بالمدرعات لنجدة أفراد الحصون ولكن الكولونيل اعتذر أنه لا يمتلك فى تلك اللحظة دبابة واحدة أو مدفعا واحدا صالحا للاستعمال بعد أن انهارت جميعها فى الإقتحام الأول ,
وأصدر تعليماته للميجور روبين بأن تقاوم الحصون حتى آخر رجل أو تستسلم للقوات المصرية وقفا لنزيف الخسائر !

وارتد روبين وتبعه قادة الكتائب جميعا للخلف حيث القيادة العليا المباشرة لهم وهناك طالب روبين ورفاقه قائدهم الجنرال كالمان ماجن بسرعة إرسال الإمدادات لنجدة خط بارليف ولكن كان جواب كالمان هو نفس جواب بنحاس الذى مضمونه أن جميع الإحتياطيات القريبة تم تدميرها ,
وفى الساعة الحادية عشرة مساء يوم السادس من أكتوبر وصلت تعليمات الجنرال إبراهام ماندلر قائد قوات المدرعات الإسرائيلية الأسطورى بأن تنسحب القوات جميعا إلى الشرق أو استسلامهم للقوات المصرية !
وفيما بعد نجحت المخابرات الحربية في اختراق موجات الإتصال الخاصة بالجنرال ماندلر وحددت موقعه ليقوم تشكيل مصري من القوات الجوية بقذف تلك المنطقة ليسقط الجنرال الأسطورى قتيلا وهو الذى كانت تفخر به إسرائيل أكثر من فخرها بخط بارليف حيث أن ماندلر صنع سمعته كقائد مدرعات في الحرب العالمية الثانية وكان أكفأ قواد الجيش الإسرائيلي بلا شك وصنع قتله موجة عارمة من اليأس بين القيادات السياسية والعسكرية حتى أن جولدا مائير منعت إذاعة نبأ مصرعه لكى لا تنخفض الروح المعنوية بأكثر مما هى متردية !!

ولهذا قلنا إن روعة حرب أكتوبر الحقيقية فى أنها سددت سائر ديون حرب يونيو وتفوقت أيضا , فسقوط ماندلر تم بخطة مصرية محكمة انتقاما للشهيد الفريق عبد المنعم رياض الذى طالته القذائف الإسرائيلية قبلها بثلاث سنوات ,
هذا رغم أن الوحدة ( 39 ) قتال بقيادة البطل الشهيد إبراهيم الرفاعى كانت قد انتقمت انتقاما مروعا لاستشهاد الفريق رياض عندما ردت الوحدة بعملية فدائية عبرت فيها القناة أثناء حرب الإستنزاف لتهاجم أحد المواقع الحصينة وتقتل أربعين جنديا وضابطا إسرائيليا وبالسلاح الأبيض فقط دون رصاصة واحدة , ثم فجروا الموقع بما فيه من ذخائر
تماما كانت أوامر العميد إبراهيم الرفاعى لإثارة الرعب فى قلوب الإسرائيليين جزاء استشهاد الفريق رياض



الهوامش :
[1]ـ مذكرات اللواء عبد المنعم واصل ـ دار الشروق

محمد جاد الزغبي 10-10-2010 10:00 AM

وفى الساعة الواحدة من صباح يوم السابع من أكتوبر كانت وحدات من الصاعقة قد أتمت إحدى أروع مهماتها بتفجير آبار البترول في أبي زنيمة ورأس سدر وفيران وقامت وحدات أخرى من الصاعقة بمهاجمة الساحل الشرقي لخليج السويس وأقامت به كمائن على الطرق وأنزلت به خسائر جسيمة
وقبل بزوغ الفجر كانت القوات العابرة بلغت قوة خمس فرق كاملة وعززت عمق الكباري المنشأة إلى عمق خمسة كيلومترات كاملة مع عبور أعداد هائلة من المدفعية والمدرعات والأسلحة الثقيلة ,
وقبل أن تبلغ الساعة الثامنة من صباح يوم السابع من أكتوبر كانت القوات الإسرائيلية في ممر متلا تبلغ قيادتها أنها وقعت فعليا تحت حصار الدبابات المصرية ,
ثم جاء إبتكار آخر من ابتكارات العسكرية المصرية يتمثل في سرايا صغيرة العدد من مفارز البرمائية من السرايا الميكانيكية لتبث الذعر في المواقع الصغيرة للعدو ,
ثم اندفعت سريتان منهما بجرأة مذهلة إلى قطاع ممر متلا الذى يعتبر واحد من أقوى حصون العدو فيما بعد خط بارليف فأسقطت قوات العدو به وتابعت السريتان تحركهما دون الدخول في معارك طويلة معتمدة على ما يشبه حرب العصابات لتتابع هجومها في اتجاه مضيق الجدى الذى لا يقل تحصينا عن ممر متلا لتباغت العدو هناك وتنزل به خسائر مماثلة ثم ختمت السريتان أعمالهما بالوصول إلى مطار تمادا ونجحت في تحييد المطار تماما لدرجة أثارت جنون القيادة الإسرائيلية وهم يواجهون قوة صغيرة العدد تضرب من حيث لا يعرفون وتوجهت أسراب من طائرات الفانتوم تحاول أن تحدد موضع هاتين السريتين اللتين بلغتا عمق ثمانين كيلومترا في سيناء وفى قلب تحصينات العدو دون أية مساندة وتمكنت من بث كل هذا الرعب دون أن تتمكن المدرعات والقوات الإسرائيلية من تحديد مواقعهما !!
ولم تنجح القوات الإسرائيلية من إدراك هذه القوة بل قامت السريتان بالعودة سالمتين إلى خطوط القتال الرئيسية بعد أن أتمت مهامها الإنتحارية بفعالية مدهشة وفى طريق عودتها لم تنس أن تترك تذكارا للعدو يرهق أعصابه أكثر حيث قامت بتدمير موقع للرادار وعبرت على أنقاضه !

وكانت النتائج المباشرة لهذه العمليات الفدائية أن وصلت قيادة العدو في سيناء إلى أعلى درجات الإنهيار وظنوا أن القوات المصرية تخطط لاستمرار الهجوم حتى تصل إلى خط حدود سيناء وتتابع إلى الحدود الإسرائيلية بعد ذلك ,
وهو ما لم يكن واردا في الخطة بدر تحت أى مقياس إذ أنه يتجاوز إمكانيات القوات المسلحة في ذلك الوقت من ناحية الكم والكيف , ولكن هذا الشعور ملأ أعماق الجنرال شموئيل جونين قائد جبهة سيناء وقام بمطالبة الجنرال ديان وزير الدفاع بالتصديق على خطة الإنسحاب إلى خط الممرات ومحاولة التمسك بها ,
واتجه ديان مباشرة إلى مكتب جولدا مائير لبحث خطة إنقاذ الدولة وأرسلت جولدا مائير في استدعاء القيادات العسكرية لاجتماع منفرد وعارض الجنرال إليعازر فكرة ديان بالإنسحاب وأصر على محاولة الرد بهجوم مضاد بالمدرعات هو الأكبر في نطاقه لمحاولة التماسك أمام القوات المصرية المتقدمة ,
وبسبب هذا الهجوم المضاد لعن جنود إسرائيل وقادتها الجنرال دافيد إليعازر الذى أصر على عدم الإنسحاب بعد أن قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم المضاد كما خططوا له في يوم الإثنين الثامن من أكتوبر ليفشل الهجوم فشلا ذريعا حتى أطلقوا عليه في إسرائيل اسم الإثنين الأسود ,
خسرت فيه إسرائيل أكثر من 250 دبابة دفعة واحدة وفى يوم واحد , !!
بخلاف عدد مماثل من الدبابات خسرته إسرائيل في اليومين السابقين بخلاف الخسائر البشرية الهائلة والتى تميزت بالنوعية العالية بعد أن تم أسر الكولونيل ( العميد ) عساف ياجورى قائد أحد أشهر الألوية المدرعة والذي تم تدمير لوائه بالكامل بما فيه دبابة القيادة التي قفز منها عساف ياجورى مستسلما أمام ضابط مدرعات مصري برتبة نقيب !
وعن هذا اليوم كتب عساف ياجورى بعد استبداله بالأسري في صحيفة معاريف الصادرة في 7 / 2 / 1974 م قائلا :
( أريد أن أعرف لماذا تركوا صدرونا عارية في هذا اليوم على جبهة الفردان .. إن خيبة الأمل التي شعرت بها في هذا اليوم الأسود لن ينساها أحد ممن عاشوا وسط مرارته الكئيبة , وأنا لا أعرف لليوم حقيقة خسائرنا في هذا اليوم وأثناء فترة وقوعى في الأسر كنت أعيش على أمل أن بعض زملائي وجدوا طريقهم للنجاة بعد أن دمر المصريون هجومنا المضاد , ولكننى عندما وقعت عينى على عدد الأسري أذهلنى حجم الخسائر التي وقعت في صفوفنا ,
وزاد من حيرتى ما سمعته منهم ورحت أكرر عليهم السؤال كيف حدث هذا لجيشنا الذى لا يقهر صاحب اليد العليا والتجربة العريضة ) [1]
ومن أوجه الإعتبار فى واقعة عساف ياجورى التى رواها بنفسه على شاشات التليفزيون أو التى رواها جنود المدرعات المصريين الذين أسروه أن عساف ياجورى عقب استسلامه بكى من القهر فنهره أحد الجنود المصريين وقال له :
( لا تبك أمام جنودك ) [2]
فلابد أنه تذكر الفارق بين معاملة المصريين لأسراهم لا سيما الضباط , وبين معاملة الإسرائيليين لأسرانا في حرب يونيو والتى بلغت من الوحشية حدا يفوق الإحتمال في مجرد روايتها بالقلم أو اللسان
وهكذا فشل الهجوم المضاد الذى قامت به الفرق المدرعة للعدو بقيادة أنبغ جنرالاته شموئيل جونين وآريل شارون وإدمون آدان واليعازر الذين فقدوا أعصابهم بعد أن بقيت من ألوية المدرعات الإسرائيلية التي اشتركت في الهجوم أربع دبابات فقط , وتبادل القادة الإتهامات ـ على حد قول عساف ياجورى في مقاله ـ ثم خلصوا إلى حتمية إخفاء كل هذا لدرجة أنهم هددوا عساف ياجورى بعد عودته من الكلام ‍!

ونشرت جريدة هوعولام هازيه الإسرائيلية أن موشي ديان انهارت أعصابه في اليوم الثالث للقتال وجعلت منه الحرب مجرد رجل محطم , وهذا تعبير شهادة الجريدة الإسرائيلية بحق قائدهم الأعلى الذى وصفوه بالأسطورة ,
أما الجنرال حاييم بارليف فقد دخل في يوم الإثنين الأسود على جولدا مائير فوجدها منكسة الرأس على مكتبها فقال لها :
( جولدا .. لقد أخطأت في كل شيئ .. إننى أنتظر كارثة وسوف نضطر إلى الإنسحاب من الجولان حتى الحافة ومن سيناء حتى خط المضايق حيث نحارب حتى آخر طلقة ) [3]

وهكذا وفى الأيام الثلاث الأولى من القتال كانت قوات الجيشين الثانى والثالث الميدانيين قد أتما عبورهما بنجاح وتعمقا لمسافة 15 كيلومتر داخل سيناء وتمكنوا من صد جميع الهجمات المضادة التى تكبد فيها العدو خسائر قياسية مذهلة وفر هاربا من مواقعه تاركا عددا كبيرا من معداته ودباباته وأجهزة القيادة سليمة حيث لم يتمكن من تدميرها خلفه ,
فى نفس الوقت الذى استغلت فيه قواتنا الوقت لتأمين رءوس الكباري وتعميقها ثم توحيدها معا لتقع الأرض التى سيطرت عليها قواتنا تحت حبكة تامة وقدرة كاملة على الدفاع الثابت من مواقعها ,

فضلا على خسارة العدو الجزء الأكبر من قواته الجوية التى سقطت بفعل حائط الصواريخ ثم بالوحدات المتحركة للدفاع الجوى وخلال المعارك الجوية التى خسرها العدو جميعا أمام طائراتنا ,


يتبع إن شاء الله




الهوامش :
[1]ـ حرب رمضان ـ مصدر سابق
[2]ـ حرب أكتوبر ( شهادات إسرائيلية ) ـ وجيه أبو ذكرى ـ مصدر سابق
[3]ـ حرب يوم الغفران ـ حاييم هرتزوج ـ وهى شهادة إسرائيلية من محلل إسرائيلي بارز

احمد ابوزيد 10-10-2010 08:52 PM

السّلام عليكم

تحيةً وتقديراً لرجالنا في تلك الحرب ومن خططوا وحضّروا لها بكل الصور
ولإخواننا العرب ومشاركتهم المباشرة بما صنعوه معنا

تحية لأبي رحمهُ الله بما شارك به في تلك الحرب
ولعمي رحمهُ الله الذي لم يمرّ على زواجه سوى أيام الذي توفى في تلك الحرب في يوم الثالث والعشرون من أكتوبر بعدما عُقد مع العدو في اليوم الحادي والعشرون من أكتوبر إتفاق بوقف إطلاق النار وقامت إسرائيل بغدرها كعادتها وقامت بالقصف في اليوم التالي ليتوفى سبعة جنود من أصل ثمانية كانوا داخل دُشمةٍ واحدةٍ في جبل عتاقه

ولم تعلم أسرة أبي إلا بعد الحرب بثلاثة أشهر عندما ذهب أبي إلى قائد الكتيبة وأخبرهُ أنّهم ضُبّاط مثل بعضهم وكنتُ معرضاً مثلك للإستشهاد فأخبرني ماحدث
فأخبرهُ الضابط أنه توفى مع زُملاءه وهم داخل تلك الدُشمة وهم الوحيدون الذين توفوا من جراء هذا القذف الغادر في كتيبتة
وكانت آخر مرة رآه أبي في زيارةِ لهُ في اليوم الأول من رمضان قبيل الحرب بخمسة أيام وهم صائمون بعدما طلب من قائده فأمر بإخراج سيارة لتوصله
رزقنا الله الشهادة

أستاذي الفاضل محمد جاد الزغبي
تحية وتقديراً بما قدمته من أحداث لم أقرأ عنها من قبل وبمجهود وافرٍٍ قرأته كاملاً حتى مشاركات ما سبق قبل اليوم
متابعاً لما قُمتَ بنشره اليوم وما يليه إن شاء الله

كنتُ قد شاهدت من قبل حلقات برنامج شاهد على العصر لأحمد منصور مع الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة في تلك الفترة والعقل المدبر لتلك الحرب وتحدث فيها عن ماحدث في الحرب ببعض من التفاصيل المختصرة
ومعارضته للسادات ببعض الأشياء تخطيطياً لتلك الحرب وماحدث من ثغرة وكان من الممكن أن تخرج الحرب بصورة أفضل من ذلك بكثير (هذا من وجهة نظرهُ)

آملاً أن تضع توضيحاً لتلك الفترة من تلك الضربة الغادرة (إن لم يكن تم ذكرها آنفاً بما تم إضافته اليوم) وما تلاها من ثغرة

وجزاكم الله خيراً وجعل ماتقدمهُ خالصاً لوجه الله تعالى
إحترامي وتقديري أستاذي الفاضل

محمد جاد الزغبي 10-11-2010 03:29 PM


أهلا بك أخى الكريم أحمد أبو زيد ,
وتحية لشهدائنا جميعا وكل مقاتلينا ممن شاركوا في هذه الحرب
وهنيئا لوالدك رحمه الله وعمك , أسأل الله أن يتقبلهما مع أبي وبقية أفراد عائلتنا المشاركين وكل من ساهم بها في زمرة الشهداء والصديقين ,
وقد تم اتخاذ قرار وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر لكن إسرائيل استمرت في انتهاكه طيلة ثلاثة أيام وهى الحادثة التي استشهد فيها بعض جنودنا وكان عمك من بينهم , وانتهى القتال فعليا في 25 أكتوبر ,

أما ما سألت عنه من قصة الثغرة والتى تحدث فيها الفريق الشاذلى ,
فبداية أريد أن أصحح لك عدة معلومات وأولها قولك أن الشاذلى هو الرأس المدبر للخطة وهذا غير صحيح فتخطيط الحرب قامت به مجموعة القيادات كاملة وساهم كل منهم بنصيب مساو لجميع الأطراف تقريبا ,
والذي يستحق فعليا لقب العقل المدبر هو اللواء محمد عبد الغنى الجمسي مدير هيئة العمليات وقت حرب أكتوبر حيث كانت هيئة العمليات هى جهة التخطيط النهائي والموكل لها تنفيذ بنود الخطة كاملة ,
وبلا شك كان للشاذلى مثل غيره دور بارز للغاية في القتال باعتبار أن الشاذلى كان رئيسا للأركان وهو المنصب الرئيسي في وزارة الدفاع ,
لكن الشاذلى أخطأ في موضوع معالجة الثغرة وهوالأمر الذى اختلف فيه مع وزير الدفاع أحمد إسماعيل ومع السادات فيما بعد حيث كان الشاذلى يري ضرورة سحب عدة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب بعد عبورها لمعالجة الثغرة ,
وهو الأمر الذى عارضه وزير الدفاع بشدة واتفق معه السادات حيث أن سحب أى قوة من القوات التي عبرت واستقرت في الشرق تحت أى سبب كان سيتسبب في قلق وانهيار للروح المعنوية للمقاتلين وهو آخر أمر يمكن أن تحتمله القوات الناجحة لا سيما وأن الثغرة لم تكن بهذا الخطر الذى يحتاج مثل هذا الإجراء

وبالنسبة لقصة الثغرة وما قيل حولها فكل ما انتشر عنها من أنها كانت خدعة وقعت فيها القوات المصرية فهو أمر غير صحيح بالمرة ,
والأهم من ذلك أن إسرائيل لم تنجح في الثغرة أصلا ولم تستطع تحقيق أى هدف من أهداف تلك المعركة وهو قطع طريق مصر ـ الإسماعيلية الصحراوى أو احتلال مدينة الإسماعيلية
وفشلت في كلا الهدفين ,
أى أن إسرائيل خسرت معركة الثغرة وفق ما تشهد به كل المصادر العسكرية المتاحة وأولها شهادات أركان حرب الجيش الإسرائيلي نفسه ,
وشهادتهم تغنى عن أى شرح حيث أجمعت مصادرهم على خسارتهم الجسيمة في الأفراد والمعدات أمام مواجهات الجيش المصري في الثغرة فضلا على فشلها في تحقيق الهدف من العملية أمام صمود الجانب المصري

والأمر الغريب حقا أن إشاعة إنتصار إسرائيل في الثغرة منتشرة للغاية وليس لها أى مصدر معتمد سواء من الجانب المصري أو الإسرائيلي نفسه ,
فضلا على أن واقع الأحداث بعد وقف إطلاق النار يؤكد فشل إسرائيل بالثغرة بعد أن تم فك الإشتباك والفصل بين القوات بعد أن نجحت القوات المصرية في تطويق فرقة شارون تماما من كل الجهات واستعدت لتصفيتها تماما بالشكل الذى كان سيسبب خسارة فادحة بقوة فرقة كاملة ,
وهو الأمر الذى تفادته إسرائيل بقبول وقف إطلاق النار في أماكن وقوف القوات ,
وعندما حدثت المفاوضات لم تستطع إسرائيل الإستفادة سياسيا من هذا الإختراق بعد أن تم حصار قواتها في غرب القناة وأصبحت القوات المهاجمة في حاجة للإنقاذ ,
ولو كانت إسرائيل نجحت في تحقيق أى نجاح بالثغرة لقامت باستثماره ومساومة مصر عليه وهو ما لم يحدث وانسحبت إسرائيل ـ لأول مرة في تاريخها ـ من كل سيناء دون أن تستطيع أن تحتفظ بشبر واحد ,
فلو كانت إسرائيل نجحت فأين موضع النجاح على الأرض
وعامة سأتعرض لقصة الثغرة بالتفصيل في فصل مستقل قادم بإذن الله مزودا بسائر مصادره من الجانبين
,

فالمشكلة الحقيقية هى قلة المطالعة والقراءة والبحث والذي يتسبب في تشويه هذه الوقائع
لا سيما وهناك العديد من المحاولات التي تم بذلها من أطراف متعددة لتقليص حجم هذا الإنجاز العربي الكبير الذى خرج بوحدة حقيقية بين الدول العربية لأول مرة , وآخر مرة منذ انتهائها مع الأسف
وقد ساعد شباب المثقفين هذه الجهات دون أن يدركوا عندما تضاءلت العزائم للمطالعة وبذل الجهد في القراءة والتحليل واستقراء الوثائق من مصادرها الأصلية رغم توافرها بكثرة كاثرة !
ولما عجز المغيبون عن تشويه صورة تجربة أكتوبر في ظل الإعترافات المدوية التي تنهال كل عام مع موعد ذكرى أكتوبر عبر سبعة وثلاثين عاما من الجهات الغربية والإسرائيلية حاملة معها أسرار هذا الإنتصار الباهر
لجئوا للأسلوب الأفضل وهو التجهيل ومحاولة دفع ذكرى أكتوبر إلى غياهب النسيان كما فعلوا مع سائر الإنجازات التي حققتها الحضارة الإسلامية ونجحوا في فصل أجيالنا المعاصرة عن تاريخها
وفى ظل هذا التجاهل العربي وقلة المشروعات البحثية التي كان متوقعا أن تنصب في تجربة أكتوبر وجدنا أن الغرب أشد منا تذكرا لهذه الحرب بعد أن تتابعت المؤلفات والبحوث والوثائق كل عام بالعشرات وأفردت المعاهد العسكرية الغربية صفحاتها لدراسة وقائع تلك الحرب المجيدة أضعاف أضعاف ما بذله العرب أصحاب الإنتصار ,
فكيف لم يستطع العدو والغرب بأكمله نسيان هذا الإنتصار العربي بينما نحن أصحابه عاملناه بمجرد التذكر العام دون دراسة للدروس المستفادة منه

وقبل أيام وأثناء الإحتفال بعيد أكتوبر لهذا العام وقف نتنياهو ليعيد تذكر هزيمة إسرائيل في أكتوبر وأفردت كبريات الصحف الإسرائيلية تحقيقات مطولة تدعو لاستمرار دراسة هذه الحرب رغم الكم الهائل الذى تم تقديمه طيلة سبعة وثلاثين عاما مضت عليه ,
وجاء جريدة يديعوت أحرنوت لتذكر الإسرائيليين أن دولتهم تهدد وجودها فعليا أثناء الحرب , وتدعوهم لعدم النسيان !
http://www.sheemapress.com/more.php?id=32701&sub=6

فأين نحن من هذا ,
وأين أقلام شباب المثقفين والباحثين والدارسين ؟!
ففي الوقت الذى يمكن فيه لأى إسرائيلي من عامة الإسرائيليين أن يشرح لأى سائل تفاصيل عمليات القتال خلال حرب أكتوبر ,
نجد بين مثقفينا من يعجز عن تذكر خمسة مصادر فقط من الكتب التي تناولت هذه الحرب
يعجزون عن تذكر أسمائها فحسب فضلا على المبادرة إلى قرائتها ,
وهذا والله عين الخذلان والتنكر لصنيع هؤلاء الأبطال الذين صاغوا هذه المنظومة العظيمة ,
فأين الشباب العربي المثقف صاحب الموهبة من إحياء هذه الذكرى واستلهام الماضي لمحاولة معالجة الواقع وطرح أفكار للمستقبل في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا ؟!
وأين مثقفو مصر وسوريا الذين ضحى آباؤهم وأجدادهم بدمائهم في سيناء والجولان وهزوا عروش الدولة الصهيونية والإمبراطورية الأمريكية بأقل الإمكانيات المتوافرة لديهم ؟!
أين وفاءكم لذكرى آبائكم وشهدائكم ؟!
بل أين وفاؤكم لدينكم الذين أنزله الله تعالى بمعيارين للحضارة لا ثالث لهما
العلم والجهاد ,
فكانت أول آيات القرآن الكريم ( إقرأ ... )
وكانت أول سور الفصل بين الكفر والإيمان هى سورة الجهاد .. سورة براءة ,
وقد أدى المجاهدون دورهم دون أن ينتظروا حمدا أو شكرا ,
فأين واجبنا في رد جميلهم بحسن التذكر والعبرة والتمنى والتحفيز لتكرار إنجازاتهم التي صنعوها بأيديهم العارية ؟!
أين واجبكم يا حملة الأقلام ورعاة تربية الرأى العام ؟!
أليس من العار أن يتذكر العدو المهزوم هزيمته بإستمرار طيلة سبعة وثلاثين عاما ويصرف الجهد لدراستها , بينما نكتفي نحن بالتطبيل والتهليل دون محاولة لدراسة عميقة تقوم بها الأجيال الجديدة في ضوء الحقائق التي تتكشف يوما بعد يوم ؟!

كل التقدير لمتابعتك أخى الكريم أحمد
وأتمنى من أعماقي أن أوفق فى إجابة تساؤلاتك بما يكفي
مع شكرى الجزيل لثقتك





احمد ابوزيد 10-11-2010 09:53 PM

أستاذي الفاضل محمد .... جزيل الشكر على ردك

وأتفق معك فيما ذكرت وبالفعل أعلم أننا نحن جيل الشباب مقصّرين في الكثير وقلة إطلاعنا وبالفعل أحاول تعويض مافات في صغر السن عندما علمت تلك الشبكة العنكبوتيه منذ عشرة سنوات تقريباً وما بها من كم هائل من المعلومات
لكن ضيق الوقت بسبب العمل يمنع ذلك أحياناً ولكن مازلت أحاول توفير الوقت لذلك
وأحزن كثيراُ عندما أشاهد برنامج مثل برنامج آخر كلام للدكتور يسري فوده وهو يأتي في برنامجه بإستطلاع رأي عن 6 أكتوبر العام الماضي قتُذهل بردود الشباب عن أنها مدينة جديدة أو كوبري في وسط القاهره وآخر يقول كان فيها حرب وفقط وغيرها من الردود المحزنة
ولهذا التغييب الموجود للعامة أسبابٌ كثيرة لا ينتهي فيها الحديث
وأحياناً تجد نفسك غريباًبين العامة وتتضاعف الهوية والتباعد بينهم وهذا أمر آخر يطول فيه الحديث لأسباب كثيرة
وبالفعل يوجد محاولات عديدة لأصحاب العلم في ذلك ولكن أصبحت الإتجاهات الفكرية للكثيرين تحتاج إلى إعادة تصويب
وأعلم أننا مقصرين مع إخواننا المسلمين في كل مكان من عدم جهادنا معهم وقلة مساعدتنا لهم وبالفعل أدعو الله أن يغفره لنا فهو يطول فيه الحديث فليس لنا حيلة فيه كما تعلم وأدعوه أن ينصرهم

بخصوص الثغرة قرأت عنها من قبل وعلمت ما ألم العدو من هزائم منيَ بها في كل محاولة يحاولها بالأرقام للخسائر الحربية وغيرها ولكن كان حديثي عن ماقاله الفريق الشاذلي أنه كان بسبب بعض الأخطاء كما ذكرت من وجهة نظرهُ كان من الممكن أن تخرج الحرب أفضل من ذلك
تلك نقطة صغيرة لا تُغني عن النصر المُحقق بالإيمان بالله
فكما قال وقتها الفريق عبد المنعم رياض إذا وفرنا المعدات القتالية المناسبة واتحنا لها الوقت الكافي للإعداد والتجهيز وهيأنا لها الظروف المناسبة فليست سمة شك في النصر الذي وعدنا الله إياه (كما قرأت في كتاب بين التاريخ والواقع للدكتور راغب السرجاني في الجزء الأول)
كما كان يفعل علماء الدين في تلك الفترة بتذكيرهم بتقوى الله وإتخاذهم بالأسباب مثل الإمام الغزالي رحمه الله حين كان يجاهد بلسانه وقلبه وسط الجنود كإمام وعالم ويأخذ بأيديهم إلى الله ويعلمهم أن الجهاد والإستشهاد في سبيله هي أسمى المراتب للمسلم المضحي بروحه في سبيل الله وبرزت الروح الإيمانية عالية بين الجنود والقاده والشعب أيضاً والوحدة بين المسلمين داخلياً وخارجياً كما فعل ملك السعودية بمنع البترول حينما قال نحن كنا ولازلنا نعيش بدواُ وحياتنا في الخيام وغذائنا التمر والماء وعلى إستعداد للعودة إليه وعند إنتهاء الحرب قما قرأت لك من قبل أرسل السادات برقية من سطر واحد قال فيها أنجز حر ماوعد
وغيرها من مساعدات عديدة بين بلاد المسلمين في الخليج وبلاد الشام والمغرب العربي على علم بها جميعا
وأسأل الله أن يُعيد هذا التعاون بيننا مرة أخرى
كل ذلك ساهم فيما حدث في حرب العاشر من رمضان 1393هـ

وثقتي بك كبيرة وللتذكير كان بيننا مراسلة على البريد الشخصي من قريب بخصوص إحدى المناظرات بينك وبينهم في إحدى المنتديات الثقافيه وكان من أسباب تسجيلي في هذا المنتدى هو الدخول على معرّفك الشخصي للبحث عن مشاركاتك متابعاً للتعلم فقط ومن أجل الكثيرين هنا أيضاً أصحاب رأي سديد أتعلم منهم
فمتابعتي لك قبل أن أقم بالتسجيل هنا ومتابعاً لكتاباتك على الصفحة الشخصية لك التي قرأت فيها الكثير

نسأل الله أن يُعيد هذه الأيام على الأمة الإسلامية بإنتصارات مجيدة تحرر سائر أراضي المسلمين

كل التقدير لك ومتمنيا لك دوام التوفيق والمثابرة على التعلم والفهم لتفيد غيرك دوماً متابعاً إن شاء الله لبقية هذا الموضوع وغيره

إحترامي

محمد جاد الزغبي 10-12-2010 08:15 PM

أهلا بك مجددا أخى الحبيب أحمد أبو زيد
أنا والله يا أخى الكريم لم أقصدك بصفة شخصية بكلماتى عن المقصرين ,
فأنت رجل كلفت نفسك عناء البحث والسؤال وفضول المعرفة
ويميزك أكثر أنك معتز بأفراد أسرتك التى قدمت من أبنائها شهداء وأبطالا

فحديثي بالدرجة الأولى كان موجها لهؤلاء المتجاهلين لهذا الأمر
وأيضا لأصحاب الأقلام الذين لا يستثمرون أقلامهم ومواهبهم فى خدمة قضايا الأمة كما هو الواجب المفترض ,

وأشكرك جزيل الشكر لتقديرك الكبير ,
وأسأل الله أن يكون ما نكتبه دائما ذو فائدة خالصا لوجهه سبحانه ,
وشرفت بمعرفتك

ناريمان الشريف 10-12-2010 09:01 PM

أخي محمد
سلام الله عليك
الله يعطيك ألف عافية .. ويبارك في قلمك
قرأت هنا في الحلقة الأولى ما يشبه القصة الممتعة

سأعاود المواصلة بإذن الله تعالى


تحية ... ناريمان

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:29 AM

الأخت الفاضلة ناريمان

هى قصة فخر

مجرد الحديث عنه وتذكره يعتبر إبداع

إبداع يستحق أن نرويه للعظة والعبرة والتأمل والتخطيط للمستقبل بروح العزيمة لا روح الهزيمة

شكرا جزيلا لهذا التقدير

،،

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:30 AM

وبعد انتهاء أثر المفاجأة لدى الجيش الإسرائيلي حاول استعادة توازنه بشن الهجوم المضاد الأول بالمدرعات والذي فشل فشلا ذريعا أمام صواريخ مولوتكا وقذائف الآر بي جى التي أطاحت بدباباته أمام أفراد الصاعقة والمشاة فضلا على ما تكبده العدو من مواجهة مدرعاتنا بعد إتمام عملية العبور ,
وجاءته الصدمة الثانية لتزلزل كيانه والتى تمثلت في عجز جيش الدفاع الإسرائيلي عن استخدام عقيدته العسكرية المعتادة والتى تتمثل في الهجوم السريع والحرب الخاطفة عن طريق المناورة بالمدفعية والمدرعات مع تغطية رئيسية وفعالة من الطيران ,
ولم تكن مفاجأة العدو متمثلة في قذائف الصواريخ المضادة للدبابات بنوعيها فحسب , ولا حتى في حائط الدفاع الجوى الذى حمل معه مفاجأة صواريخ سام 6 إلى جوار سام 2 وسام 3 ,
بل فوجئ كذلك بالصواريخ المضادة للطائرات المحمولة كتفا ( سام 7 ) والتى ساهم بها أفراد القوات المسلحة وأسقطوا بها العديد من طائرات العدو ليقف التفكير الإسرائيلي مشلولا وعاجزا وقد تم قص جناحيه وذراعيه بضربة واحدة ,

ولم يعدل الجيش الإسرائيلي عن عقيدته القتالية رغم خسائره الجسيمة في مدرعاته وهاجم مجددا لتواجهه المدرعات المصرية في أشهر معارك الدبابات في العالم أجمع ,
وكانت إسرائيل تمتلك أحدث نوعية من الدبابات وهى باتون بنوعيها إم 60 وإم 70 والتى تتميز بالخفة والسرعة في مقابل الدبابات السوفيتية من طراز تى ,
ولكن أسفرت المواجهات عن نجاح ساحق للمدرعات المصرية ليثبت المصريون مجددا أن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح , وأن التخطيط المتقن والتدريب المستمر يخلق المعجزات إذا اقترن بالإصرار
مع الوضع في الاعتبار الكفاءة التدريبية العالية والمتفوقة التي كان يتمتع بها فرد المدرعات الإسرائيلي , والتى تزاوجت مع تطور دباباته لتخلق هالة الرعب التي حاول تصويرها ,
ومع ذلك اندحرت المدرعات الإسرائيلية في مذبحة دبابات كلفت إسرائيل أكثر من 1080 دبابة في مسار الحرب كلها وعود هذا بصفة رئيسية إلى عدة عوامل [1]
الأول : رغم القدرات الفنية لفرد المدرعات الإسرائيلي إلا أن التطور التقنى الفائق للمعدات أدى إلى ما يشبه الإعتماد الكلى عليه فى مقابل تنمية المهارات التدريبية والحفاظ عليها
وهى نقطة بالغة الخطورة إذ أن الإعتماد على التقدم التكنولوجى يتناسب عكسيا مع المهارات التقليدية فى كل المجالات وهى النقطة التى انتبه لها القواد المصريون فكان حرصهم فائقا على زيادة الحمل التدريبي إلى أقصي درجة والحرص على إبراز المهارات الفردية والتصرف فى المواقف الطارئة مما جعل جندى المدرعات المصري موسوعة حقيقية فى مجال عمله ـ وهو ما تم أيضا فى كافة الأسلحة ـ
فلم يعد طاقم الدبابة المصري يعتمد على التخصص ـ كما هو الحال عند الطاقم الإسرائيلي ـ بل تدرب طاقم الدبابات على تبادل المهام فالسائق من الممكن أن يتولى التوجيه أو الضرب والعكس صحيح فضلا على نزعة تدريبية لإصلاح الأعطاب المفاجئة التى تعترض دبابته ,
بينما طاقم المدرعات الإسرائيلي كان به آفة التخصص فالسائق لا يعرف شيئا إلا مهمته فى القيادة فإذا أصيب فرد آخر توقفت الدبابة تلقائيا , وكذلك نفس الحال إذا أصيبت الدبابة فى أى موقف ـ ولو كان عطلا سهلا ـ تركها الطاقم بأكمله لمصيرها !

ثانيا : رغم تطور المعدات الإليكترونية فى الجانب الإسرائيلي لا سيما فى أجهزة التوجيه بوجود جهاز تقدير المسافة فى الدبابات الأمريكية ,
إلا أن الجانب المصري استعاض عن هذا التفوق بحسن التدريب الفنى للطاقم عن طريق التدريب المتكرر لعشرات المرات فى حسن التصويب اليدوى لأجهزة الدبابة ,
أثبتت التجربة العملية أن الطاقم المدرب أكثر كفاءة من السلاح المتقدم فى حسن استغلاله لسائر مميزات أجهزته والاستعانة بالخبرة القتالية لتعويض النقص التكنولوجى ,

ثالثا : تمكن طاقم المدرعات المصري من دراسة عيوب ومزايا مدرعات الجانب الإسرائيلي بشكل متمرس وهو ما جعل الطاقم المصري يدرك جيدا أين وكيف يستغل دبابات العدو لتحويل عيوبها الخفية إلى عيوب قاتلة ,
فاستغل الجانب المصري كبر حجم الدبابات الأمريكية وعدم كفاية تدريعها من ناحية زاوية الميل وسرعة تعطلها على الأرض الوعرة فضلا على سرعة اشتعالها بسبب وجود السائل الهيدروليكى الخاص بأجهزة النيران الموجود ببرج الدبابة

رابعا : كانت المفاجأة الحقيقية ونقطة التفوق الكاسحة للمدرعات المصرية أن الجيش المصري استخدم الأفراد من المشاة كدبابات فى مواجهة الدبابات الأمريكية بقواذف الآر بي جى ومولوتكا وكان الفضل فى ذلك للشجاعة الخرافية التى أبداها الجنود لتنفيذ المعادلة الرهيبة ( الرجل ضد الدبابة ) وهو ما حاول الجانب الإسرائيلي تنفيذه ففشل فشلا ذريعا ولم يستطع مماثلته أو حتى تقليده
بالإضافة إلى وجود عامل المهارة الفائقة لقواد المدرعات المصرية فى الميدان والذى كان حسن تخطيطهم فى معارك الدبابات سببا فى خسارة إسرائيل لسائر الإشتباكات المدرعة على طول الجبهة ,
والتى سنعرض منها نموذجا فريدا فى التخطيط الميدانى للمواجهة ,


الهوامش :
[1]ـ حرب رمضان ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:30 AM

ففى منطقة القنطرة شرق , وقبل معركة الدبابات الكبري نجحت اللواء حسن أبو سعدة فى الإيقاع بمدرعات العدو فى فخ قتالى من الطراز الأول كلف العدو 120 دبابة دفعة واحدة ,
ويروي القصة اللواء حسن أبو سعدة [1] وملخصها ..
أنه بعد نجاح قواتنا في اقتحام خط بارليف والإستيلاء على كل الدشم المحصنة وتدمير الإحتياطى القريب للعدو شرق القناة وتحققت بذلك المفاجأة الإستراتيجية ,
اختار العدو أكفأ وحدات المدرعات التي يمتلكها وتمثل في لواء دبابات بير سبع ويتكون من 120 دبابة ( باتون ـ إم 60 ) وقام بتحريكها نحو خط المواجهة لتعمل على إحباط القوات المصرية والبدء بهجوم مضاد على المدرعات المصرية ,
وتحرك اللواء في 7 أكتوبر طيلة الليل وفى ظهر اليوم التالى أظهرت وسائل الإستطلاع المصرية حركته وترقبته في كفاءة وحذر ,
وهنا اعتمد اللواء حسن أبو سعدة على خبرته مع المدرعات الإسرائيلية والتى ألهمته أن اللواء المدرع سيهاجم الأجناب بهجوم خداعى الغرض منه إغفال توجيه قوته الرئيسية إلى القلب مباشرة بغرض الإختراق المفاجئ السريع والوصول إلى القناة من أقرب طريق ,
وجاءت إخبارية الإستطلاع تؤكد صحة استنتاج اللواء أبي سعدة الذى أعطى أوامره لرجاله في سرعة لاحتلال مواقعهم في مواجهة الهجوم على شكل حرف(u) بحيث سمح القائد الفذ لدبابات العدو بإحتلال فراغ القلب وتمهل بصبر مدهش وجرأة مذهلة حتى أصبح لواء الدبابات الإسرائيلي بكامله في قلب الموقع ,
وفجأة أعطى اللواء أبو سعدة أوامره لقواته بالتحرك فخرجت الدبابات المصرية في المواجهة من أماكنها لتصب جحيمها على مقدمة اللواء الإسرائيلي ..
في نفس الوقت الذى خرج فيه أفراد الكتيبة من تحت الأرض في خلفية العدو وكانوا قبل دخول اللواء الإسرائيلي أخذوا أماكنهم فيها لتعبر دبابات العدو من فوقهم , وعند خروجهم إكتملت الدائرة على لواء الدبابات الإسرائيلي بمواجهة دباباتنا من الأمام وأفرادنا من الخلف بقواذف الآر بي جى ليتم تدمير اللواء الإسرائيلي بالكامل وفى وقت قياسي وبلا أى خسائر مصرية تقريبا وتختلط حطام 120 دبابة بصيحات الرجال ( الله أكبر )
وتم أسر باقي أفراد طاقم العدو ومنهم قائد اللواء بنفسه والذي طلب مقابلة القائد المصري الذى أطاح بمدرعاته , فوافق اللواء أبو سعدة على ذلك رغم مشاغله وكان القائد الإسرائيلي يتخوف من مصيره فطمأنه اللواء أبو سعدة أن الجيش المصري لن يعاملهم بنفس معاملتهم لأسرانا في حرب يونيو !
هذا بخلاف معركة الدبابات الكبري التي سيتم الحديث عنها عند حديثنا عن تطوير القتال يوم 16 أكتوبر



الهوامش
[1]ـ الحرب الرابعة على الجبهة المصرية ـ صلاح قبضايا ـ أخبار اليوم

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:31 AM

وبمثل هذا التفوق الضاري على مسارح القتال الجوى والبري كان القتال البحرى يشهد نفس التفوق لقواتنا ,
وهو التفوق المتوقع بعد أن تمكنت القوات البحرية خلال حرب الإستنزاف من تحطيم بعض مبادئ القتال البحرى عندما نفذت عملياتها الناجحة ضد أهداف العدو التي كان أشهرها تدمير المدمرة ( إيلات ) والتى كانت فخر سلاح البحرية الإسرائيلي عن طريق استخدام لنش صواريخ محدود الكفاءة !
وغرقت المدمرة بعد تدميرها وعاد القارب وقبطانه إلى قاعدته البحرية سالمين لتتعرض إسرائيل للوم وتقريع الولايات المتحدة بعد فقدانها لمثل هذه القطعة البحرية الهامة بفعل قارب صواريخ لا يعتبر شيئا أمام المدمرة وتسليحها الفوق طبيعى ,
وقبل العمليات تحددت أهداف القوة البحرية المصرية على أهداف العدو المتمثلة في ميناء أشدود وحيفا على البحر المتوسط , وفى إيلات وشرم الشيخ ومراسي خليج السويس على البحر الأحمر
فضلا على حماية شواطئنا ضد أى استهداف بحرى للعدو في نطاق عمليات كل قاعدة بحيث صار لكل قاعدة حرية التصرف المنفرد لضمان حسن المواجهة والتصرف
وقبيل أيام العمليات أبحرت القطع البحرية المصرية إلى مضيق باب المندب لتتمكن من غلق البحر الأحمر أمام الملاحة الإسرائيلية بعد أن ظنت إسرائيل باحتلالها لشرم الشيخ أنها امتلكت منفذا عليه , فإذا بقواتنا البحرية تغلقه عليها من المنبع عند حدود اليمن لحرمان العدو من الإستفادة من ميناء إيلات

وتفجرت ساحة المعركة البحرية بطول شواطئنا البالغة 1600 كيلومتر شاركت فيها المدمرات والغواصات والمدفعية الساحلية ولنشات الصواريخ ووحدات الصاعقة البحرية والضفادع البشرية ,
فقامت سرايا المدفعية الساحلية بقصف القلعة الحصينة شرق بورفؤاد والحصن المنيع عند الكيلومتر 10 جنوب بورفؤاد , كما قام سرب من لنشات الصواريخ بضرب تجمعات العدو في رمانة ومرسي العدو في البحر المتوسط
وفى البحر الأحمر عاونت القوات البحرية الجيش الثالث الميدانى بقصف مواقع العدو المواجهة لخليج السويس وفى سفاجة وفى شرم الشيخ في نفس الوقت الذى ضربت فيه الصواريخ المصرية رأس سدر لتحليل مواقع العدو إلى جحيم مستعر
واستمر القتال ليليا طوال أيام الحرب بنجاح تام ,
وكانت أولى المواجهات ليلة 8 أكتوبر حيث صادف تشكيل للصواريخ المصري تشكيلا مماثلا للعدو في محيط قاعدة بورسعيد فاشتبك معه لمدة ساعة في معركة بحرية انتهت بإغراق الوحدة الإسرائيلية وعودة التشكيل المصري سالما ,
أما في البحر الأحمر فكان الصيد وفيرا للغاية أمام غواصات البحرية المصرية حيث تمكنت الغواصات من إغراق سفينة إسرائيلية كانت داخل البحر قبل بدء العمليات ,
فضربتها الغواصات المصرية حتى جنحت السفينة وسدت الطريق حتى نهاية الحرب فلم تعبر للموانى الإسرائيلية سفينة واحدة ,

وفى ليلتى 8 , 15 أكتوبر دارت أعتى معارك لنشات الصواريخ بين لنشات الصواريخ المصرية ولنشات ( سعر ) الإسرائيلية المتقدمة حيث كانت أعنف المعارك البحرية طيلة الحرب هما معركتى هاتين الليلتين ,
ففى ليلة 8 أكتوبر
رصدت وحدات الإستطلاع تشكيل اللنشات الإسرائيلي وأعدت القوات البحرية المصرية كمينا بحريا في مكان منتخب بعناية فائقة بين دمياط والبرلس ,
واستمر السكون المصري تاركا الفرصة أمام التشكيل الإسرائيلي للدخول في الفخ المحكم , وبمجرد دخول وحدات العدو المكون من ثلاث مجموعات كل مجموعة على حدة , أصدر قائد التشكيل المصري أوامره بإطلاق النار ,
وهكذا دار أول اشتباك بحري بصواريخ ( بحر ـ بحر ) في تاريخ المعارك الحديثة , ونظرا لطول مدى الصواريخ المصرية ودقة أجهزة التوجيه بها فقد أصابت الصواريخ المصرية أهدافها جميعا دون خطأ واحد .
وخسر العدو في لحظة واحدة أربع قطع بحرية ليتلقي قائد البحرية برقية تهنئة خاصة من وزير الدفاع ,

أما المعركة الثانية
فتمت في 15 أكتوبر حيث خرج سرب من لنشات الصواريخ المصرية من الإسكندرية بسرعة بطيئة حتى لا يكتشفه العدو بحسب أوامر القيادة ليقبع هذا السرب في أبي قير مترصدا لأى أهداف معادية ,
ووقع أمام السرب أربع قطع بحرية للعدو بينهما أربعة أميال بحرية تعامل معهم سرب اللنشات المصري ليغرق لنشان للعدو على الفور ويصاب اللنش الثالث أمام رشيد ,
وفى فجر يوم 16 أكتوبر كانت القوات الجوية تهاجم اللنش المصاب وتأسره وتستولى على صاروخ ( جابرييل ) سليما من حطام اللنش ,
وبهذا أدت القوات البحرية عملها المطلوب بكل دقة , لا سيما الهدف الأول وهو إثبات فشل نظرية الأمن الإسرائيلي البحرية التي كانت ترددها إسرائيل بأنها طالما سيطرت على خليج العقبة فقد ضمنت الملاحة الحرة من وإلى البحر الأحمر
وهو ما أثبتت البحرية المصرية عكسه عندما سيطرت غواصاتنا على مضيق باب المندب ومارست حق التفتيش على السفن المارة ومنع السفن الإسرائيلية أو التي تحمل موادا لإسرائيل من المرور , وقد تمكنت البحرية المصرية من إغراق ثلاث سفن إسرائيلية تحدت الحظر فتم إغراقها ,
هذا فضلا على تحقيقها هدفا إستراتيجيا جديدا وهو ضرب منطقة بترول بلاعيم لمنع العدو من استخدامه وهو ما تم بالفعل مع استخدام سلاح الألغام البحرية التي تسبب في غرق ناقلة بترول ضخمة حملوتها 46 ألف طن فضلا على سفينة أخرى حمولتها ألفي طن ,
بالإضافة لما نجحت فيه قوات الصاعقة من تفجير آبار البترول التي يستخدمها العدو في سيناء ليكون الحصار كاملا ,
ومع كل هذه الأهداف ارتفعت راية البحرية المصرية عاليا في المواجهات المباشرة مع بحرية العدو , وكبدته خسائر فادحة ,

وهكذا وفى الأيام الأولى من القتال كانت قوات الجيشين الثانى والثالث الميدانيين قد أتما عبورهما بنجاح وتعمقا لمسافة 15 كيلومتر داخل سيناء واحتلوا شريطا بطول 185 كيلومترا
وتمكنوا من صد جميع الهجمات المضادة التى تكبد فيها العدو خسائر قياسية مذهلة وفر هاربا من مواقعه تاركا عددا كبيرا من معداته ودباباته وأجهزة القيادة سليمة حيث لم يتمكن من تدميرها خلفه ,
فى نفس الوقت الذى استغلت فيه قواتنا الوقت لتأمين رءوس الكباري وتعميقها ثم توحيدها معا لتقع الأرض التى سيطرت عليها قواتنا تحت حبكة تامة وقدرة كاملة على الدفاع الثابت من مواقعها ,
فضلا على خسارة العدو الجزء الأكبر من قواته الجوية التى سقطت بفعل حائط الصواريخ ثم بالوحدات المتحركة للدفاع الجوى وخلال المعارك الجوية التى خسرها العدو جميعا أمام طائراتنا ,

وبهذا حققت المرحلة الأولى من الحرب أهدافها بنجاح تام فاق المتوقع طبقا للتوجيه الإستراتيجى الذى وجهه الرئيس أنور السادات للقوات المسلحة وتمثل في تنفيذ الخطة ( بدر ) على ثلاث مراحل ,
كانت الهدف منها كسر نظرية الأمن الإسرائيلي وهو ما تم بنجاح تام وانكسرت أسطورة الجيش الذى لا يقهر بعد سقوط خط بارليف في ست ساعات أمام قوات المشاة ,
وتم تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات طبقا للبند الثانى في التوجيه الإستراتيجى ,
وكان البند الثالث
يتلخص في ضرورة العبور بقوة الجيشين الثانى والثالث الميدانى على رءوس كباري بعمق 15 كيلومتر ثم الدفاع عنها في مواجهة هجمات العدو المضادة والإستعداد لتطوير المعركة شرقا والوصول إلى خط المضايق في سيناء والتمسك بما تم تحريره من الأرض تمسكا تاما دون تراجع شبر واحد ,
وهو الهدف النهائي للحرب كما كان مخططا ,
حيث كانت الخطة بدر تقتضي تطوير الهجوم واحتلال المضايق والوقوف عند هذا الحد وفق الإمكانيات المتاحة للقوات المسلحة في ذلك الحين ووفق ما هو متوافر بالفعل من نوعية السلاح ,
والأهم من هذا وذاك ,
أن يكون تقدم القوات المصرية في مواقعها مصاحبا لمدى حماية المظلة الجوية التي يفرضها حائط الصواريخ المصري للدفاع الجوى ,
وهو الأمر الحيوى الذى كفل للقوات المصرية حسن دفاعها وحفاظها على نجاحها الفائق طوال أيام الحرب وعدم الإندفاع للشرق عند انهيار العدو مع الأداء العسكري المصري ,
لأن هذا الإندفاع كان كفيلا بوقوع القوات المندفعة في مدى سلاح العدو الجوى المتفوق عندما تخرج هذه القوات من مظلة الحماية المقدرة بخمسة عشر كيلومترا فقط
وعند تطوير الهجوم كانت الخطة المصاحبة للتطوير هى عبور كتائب صواريخ ( سام 7 ) التي تحقق الحماية الجوية لقواتنا بنفس الكفاءة التي يوفرها حائط الصواريخ ,
ومن خلال تحقيق هذه المعادلة المتزنة أمكن للقوات المصرية المحافظة على سائر مكاسبها من الحرب وتكبيد العدو خسائر فادحة في الأفراد والمعدات والإحتفاظ بكافة مواقعنا تحت يد قواتنا المسلحة حتى آخر أيام القتال في 25 أكتوبر
وبعد التشبث ورد جميع الهجمات المضادة للعدو يأتى دور العمل السياسي الذى توقعت الخطة له أن يبدأ بعد أسبوعين من القتال وهو ما تم بالفعل ,
وقد أنجزت القوات المسلحة ـ كما سبق الشرح ـ الأهداف الأولى للعبور وقامت بعده بتطوير الهجوم الناجح كما سنرى

يتبع ...

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:32 AM

المرحلة الثانية من الحرب :


بعد الفشل الذريع الذى منى به الهجوم المضاد الأول للقوات الإسرائيلية عبر موجاته التي نجم عنها الإثنين الأسود في إسرائيل وسقوط سلاح المدرعات الإسرائيلي وانقلاب القيادة السياسية على العسكرية
تفجرت الخلافات المدوية بين القادة العسكريين بخصوص ما يحدث على الجبهتين الجنوبية والشمالية ,
وتطايرت الإتهامات بين الجنرالات شموئيل جونين قائد الجبهة الجنوبية ودافيد إليعازر رئيس الأركان وإبراهام أدان وشارون قائدى المدرعات فضلا على بقية مجلس الحرب برياسة ديان وجولدا مائير
ورغم فشل الهجوم المضاد الأول الذى تم تنفيذه في الثامن من أكتوبر فلم يجد القادة اليائسون بدا من الإستمرار في نفس مسلسل الهجمات المضادة بالمدرعات مع محاولة كسر التفوق المصري وإيجاد وسيلة لمواجهة حاملى الصواريخ المضادة للدبابات والذين أوقعوا الخسائر الجسيمة بالمدرعات الإسرائيلية ,

وكنتيجة طبيعية للإختلافات صدر القرار بتنحية الجنرال شموئيل جونين بعد الإثنين الأسود وتم تعيين حاييم بارليف ممثلا شخصيا لرئيس الأركان في الجبهة الجنوبية على أن يعاونه جونين ولكن من بدون صفة قيادية ,
وظن المجلس العسكري أن تعيين حاييم بارليف باعتباره واحدا من أقدم القادة في إسرائيل أن الخلافات التي يسببها الجنرال آرئيل شارون بتمرده على الأوامر العسكرية واتخاذه القرارات دون الرجوع لقيادته ,
خاصة بعد أن فاقت تصرفات شارون الحمقاء كل تصور عندما خالف الأوامر الصادرة له في الهجوم المضاد الأول كما رفض نجدة زميله الجنرال إبراهام آدان الذى كانت مدرعاته تتعرض لمذبحة من القوات المدرعة المصرية على نحو دفعه لإرسال طلب نجدة تتمثل في إحدى كتائب المدرعات التابعة لفرقة شارون ,
فرفض شارون وتجاهل النداء وتورطت المدرعات في فرقته لنفس المصير فيما بعد , [1]

إلا أن تعيين حاييم بارليف ورغم كونه أقدم من شارون لم ينه هذه الخلافات والأخطاء وتفاقمت الخلافات من جديد بين بارليف وشارون في الوقت العصيب الذى كانت تمر به المدرعات الإسرائيلية في سيناء حيث لم يبق لها بعد فشل الهجوم المضاد الأول غير 400 دبابة مما حدا بوزير الدفاع ديان إلى توجيه التحذير من أية مغامرات غير محسوبة ,
وهكذا وبعد أن تولى بارليف يوم 10 أكتوبر مسئولية الجبهة الجنوبية وبعد نفاذ صبره من حماقات شارون طلب من الجنرال ديان إحالة شارون للتقاعد حتى لا يتفاقم الوضع أكثر ,
ورفض ديان طلب بارليف رغم إلحاحه وكان رفضه سياسيا خوفا من أن شارون سيصبح كادرا سياسيا معارضا في تجمع الليكود وسيستغل موقعه السابق للهجوم السياسي على الحكومة القائمة !
وهكذا وبضربة قدرية ..
وقعت إسرائيل فى نفس المأزق السياسي الذى وقعت فيه القيادة المصرية قبلها فى حرب يونيو نتيجة لتدهور النتائج على جبهة القتال ,
فبعد النجاح الذى حققته القوات المصرية تسببت الخلافات فى أن يبحث كل قائد عن مصيره المنتظر بغض النظر عن مصلحة الدولة أو الجيش وهو ذات ما وقعت فيه القيادة المصرية من قبل عندما غامر عبد الناصر بترك عبد الحكيم عامر فى موقعه رغم الفشل الذريع الذى أثبتته التجربة المرة لهذا الأخير من موقعه كقائد عام للقوات المسلحة أيام حرب السويس 1956م , وأيام أزمة الإنفصال من سوريا عام 1962م , وإصرار عبد الحكيم عامر على الإحتفاظ بنفس طاقم رجاله فى مراكز القيادة العليا رغم قرار عبد الناصر بإحالتهم جميعا للتقاعد ,
وسكت عبد الناصر ليزداد الوضع سوء فى حرب يونيو على النحو الذى ظهر على الساحة فى تلك الآونة ,

وهكذا وبنفس العقلية اتخذت القيادة الإسرائيلية قرار هجوم مضاد جديد على قطاع الفرقة 16 مشاة فى يوم 9 أكتوبر عن طريق الهجمات المضادة السريعة بقوة كتيبة مدرعة على اللواء الأيسر للفرقة 16 مشاة المصرية ,
وبقوة كتيبتين مدرعتين على لواء المنتصف لنفس الفرقة ( اللواء 3 مشاة ميكانيكى )[2] بغرض اكتشاف مدى قوة دفاعات الفرقة واقتحام أضعف نقاطها وإحداث خلخلة فى دفاعات القطاع الشمالى للجبهة ,
وتصدت الفرقة 16 مشاة بقيادة العميد عبد رب النبي حافظ للهجوم ورغم الخسائر الفادحة التى تعرضت لها قوة الهجوم الإسرائيلي فإنها أصرت على مواصلة التقدم بمزيد من الخسائر , مما دفع قيادة الفرقة لتأمين نقاطها تأمينا جيدا عن طريق تقوية أضعف نقاطها وهى نقطة الإتصال بين الفرقة 16 مشاة والفرقة 2 مشاة ,
وعليه بادر اللواء سعد مأمون قائد الجيش الميدانى بإصدار أوامره إلى بدفع كتيبة دبابات من النسق الثانى للفرقة لتعمل على سد الثغرة بين الفرقتين وتتصدى لأى محاولة إختراق متوقعة ,



الهوامش :
[1]ـ المعارك على الجبهة المصرية ـ اللواء جمال حماد ـ دار الشروق
[2]ـ المشاة الميكانيكى مصطلح عسكري يشير إلى قوات المشاة عندما تمتلك المركبات الميكانيكية فى الحركة والقتال

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:33 AM

وخسر العدو فى هجومه الأول خسارة فادحة بصلابة الدفاعات المصرية واستماتة القواد مع الجنود والتى أدت لاستشهاد العقيد عادل يسري عندما قام بنفسه بعملية إستطلاع واسعة لتحركات العدو أثناء الهجوم ,
وعقب فشل الموجة الأولى من الهجوم قام العدو فى الساعة الثانية والنصف ظهرا بهجومه الرئيسي على لواء المنتصف 3 ميكانيكى بقوات اللواء المدرع الإسرائيلي رقم 600 ,
وتمكن العدو تحت وطأة وثقل وكثافة الهجوم من اختراق دفاعات الكتيبة المصرية والإستيلاء على النقطة الحيوية رقم 57 وهى إحدى النقاط المصرية الحصينة القريبة من موقع قيادة الفرقة
واتخذت قيادة الفرقة إجراءات حاسمة وسريعة لمعالجة الموقف فقامت كتيبة المشاة الميكانيكية التابعة للنسق الثانى بصد
إختراق العدو ومنعه من الإستقرار فيه ولأن دبابات الكتيبة المصرية كانت جميع مركباتها المدرعة من طراز ( BMP ) الخارقة للدروع فقد ألحقت بالعدو خسائر فادحة منعته من تحقيق أهدافه بعد أن كان على وشك النجاح

ثم استثمر قائد الفرقة نجاح الكتيبة المصرية سريعا فأصدر أوامره إلى إحدى كتائب اللواء 14 المدرع وإلى كتيبة دبابات الفرقة بالإشتراك في المعركة في نفس الوقت الذى أمر فيه بفتح إحتياطى الفرقة المضاد للدبابات رقم 1 ليركز هجومه على الأجناب الخاصة بالقوة المدرعة الإسرائيلية ,
وفى نفس الوقت قامت مدفعية اللواء 3 ميكانيكى مع مجموعة مدفعية الفرقة 16 مشاة بفتح نيرانها بقصف شديد التركيز على الثغرة التي نفذت منها المدرعات الإسرائيلية ,
وهكذا وقعت المدرعات الإسرائيلية تحت جحيم مزدوج من المدفعية والمدرعات المصرية أسفر عن تدمير 38 دبابة من طراز باتون إم 60 وإم 48 و4 عربات مدرعة من طراز إم 113
وارتدت الدبابات الإسرائيلية المتبقية إلى إتجاه الطالية ولم تتمسك إلا بالنقطة الخاصة بالموقع الحيوى 57 ,

ورغم الخسائر والفشل التي منيت بها القوات الإسرائيلية إلا أنها عاودت هجومها من جديد في الساعة السادسة والنصف مساء نفس اليوم إنطلاقا من نفس النقطة بقوة دبابات تبلغ 60 دبابة هى ما تبقي من القوة المهاجمة مدعمة بكتيبة إمدادات ,
ودارت واحدة من أخطر المعارك بين قوات الفرقة 16 مشاة التي تعرضت لأخطر هجوم عليها من بداية الحرب في المنطقة المعروفة باسم ( المزرعة الصينية )
ولمواجهة خطر الهجوم المتجدد أمر قائد الفرقة بدفع القوة الضاربة لكتيبة النسق الثانى وكتيبة دبابات الفرقة التي نجحت في صد الإختراق الأول مع تدعيم كليهما بفتح جميع إحتياطيات الفرقة بلا استثناء ,
بالإضافة إلى طلبه معاونة مدفعية الجيش الثانى الميدانى رقم 1 , 2 لتستطيع الفرقة 16 مشاة من تجديد إنتصارها للمرة الثانية على التوالى وحولت منطقة إختراق العدو إلى جحيم مستعر
واندفعت القوات المصرية بعد ذلك لتطهير نقطة تمركز العدو في الموقع الحيوى رقم 57 والذي جدد منه هجومه الليلي ليفشل الهجوم بسائر موجاته ,

وبعد فشل الهجوم المضاد الثانى على التوالى وتكبد المدرعات الإسرائيلية لخسائر فاقت طاقتها وهددت مخازنها الإحتياطية اهتزت أعصاب موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي إلى أقصي مدى ,
وفوجئت جولدا مائير وبقية المجلس العسكري بجنرالهم الأسطورى وهو يبدو بشخصية شبحية مترددة لا يجرؤ على اتخاذ قرار واحد منفردا بل يطلب موافقة جولدا مائير علي أى قرار رغم أنه الأدرى بالشئون العسكرية ,
ورغم أنه صاحب أشهر القرارات الفردية في السابق عندما كان رئيسا لأركان حرب الجيش الإسرائيلي أو عندما كان وزيرا للدفاع أثناء حرب يونيو وقام باتخاذ قرارات مصيرية منفردا دون الرجوع إلى ليفي أشكول رئيس الوزراء وقتها ,
فقد اتخذ قراره منفردا بمهاجمة الجولان صباح 9 يونيو
ولا يعرف الكثيرون أن الجولان لم تكن في أهداف إسرائيل في حرب يونيو أصلا , واتخذ أيضا قراره بالوقوف عند قناة السويس بعد أن كان التخطيط هو الوقوف عند الممرات , وذلك بعد أغراه حال الجيش المصري بعد قرار الإنسحاب الغريب والرهيب الذى أصدره عبد الحكيم عامر وتسبب في مذبحة للقوات المصرية في سيناء بعد ذلك ,
وقبلها اتخذ قراره بضرب سفينة التجسس الأمريكية ليبرتى والتى كانت موجودة لمراقبة أعمال إسرائيل حتى لا تخالف اتفاقها مع الولايات المتحدة وتجتاح الضفة الغربية وهو ما لم تريده الولايات المتحدة , بل وتعهدت للملك حسين قبل نشوب حرب يونيو أن إسرائيل لن تمد يدها إلى الضفة الغربية
وعندما اكتشف ديان وجود السفينة أمر بضربها بأعصاب باردة وادعى أنها مجرد خطأ عسكري حتى لا تكشف ليبرتى أن القوات الإسرائيلية اجتاحت الضفة الغربية دون أن تكون هناك أى أعمال قتال موجهة ضد الجيش الإسرائيلي منها [1]

لهذا كانت صدمة القيادة الإسرائيلية عنيفة بتخلخل أعصاب ديان إلى هذا الحد والذي دفعه لعرض الإنسحاب من الجبهتين حماية لما تبقي من القوات الإسرائيلية على الجبهتين , لا سيما بعد أن نجحت القوات السورية في أول أيام القتال في اجتياح الجولان بكاملها ووقف الجيش السورى على مشارف المستوطنات الإسرائيلية في العمق مهددا إياها [2]
هذا فضلا على الخلافات العنيفة التى تفجرت بين القادة العسكريين فى الجبهتين كل على حدة ومع بعضهما البعض بعد تباين وجهات النظر فى الطريقة المثلي للتصدى لخطر المصريين والسوريين وأيهم أولى بتركيز القوات الإسرائيلية فى جبهته ,


الهوامش :
[1]ـ الإنفجار ( حرب 1967 م ) محمد حسنين هيكل ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
[2]ـ المعارك على الجبهة المصرية ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:34 AM

وفى ظل هذه الظروف النفسية السيئة التى مر بها موشي ديان عقد مؤتمرا صحفيا مصغرا مع رؤساء تحرير كبريات الصحف الذين هالهم ما وجدوه على ملامح قائدهم واستنتجوا سوء الأوضاع على الجبهات لكن لم يتوقع أحدهم أبدا مدى التردى فى أوضاع القوات الإسرائيلية بتفاصيله الحقيقية والتى شرحها لهم ديان بالتفصيل وقال[1] :
( إن قواتنا تنتشر فى سيناء انتشارا دفاعيا وتم إخلاء خط بارليف بنظام وبدون نظام أحيانا ولم يعد هناك خط أصلا ليلعب دورا فقد انقطعت اتصالاتنا به تماما وتخلينا عنه وتركناه لمصيره ,
وهذا يكشف للعالم بأسره عدة حقائق , أولها أننا لسنا بأقوى من المصريين والثانية أننا لم نستطع رد المصريين على أعقابهم وإن لم ننجح فى ذلك فسيواصلون حشد قواتهم ودباباتهم وتدعيم مواقعهم
والسؤال الهام الآن الذى ينبغي لنا أن نسأله هو وماذا بعد هذا ؟!
لو شن المصريون هجوما من مواقعهم فسيكون علينا أن تكون خطوطنا أقل مسافة وأكثر ملائمة وهذه الخطوط يجب أن تكون فى السلاسل الجبلية التى لا يستطيعون النفاذ منها
ونظرا لأن الطريق مفتوح أمام المصريين إلى الجنوب حيث أبو رديس وشرم الشيخ , وماذا لو حاولوا الإتجاه جنوبا ؟ هل سنستطيع أن نوقفهم ؟
إننا لا نستطيع أن نوقفهم اعتمادا على الطيران وحده وحتى إذا قمنا بإنشاء خطوط دفاعية جديدة فإننى أشك أنه باستطاعتنا التمسك بهذه الخطوط )

وأصيب الصحفيون بالذهول وهم لا يتخيلون ما أوضحه موشي ديان والذى ملأ الدنيا صراخا وضجيجا أن حرب يونيو أقعدت المصريين عن الحركة وأن خط بارليف هو المقبرة التى تنتظر قواتهم إذا حاولت العبور !
وتذكروا تصريحه قبيل الحرب بأيام من أن المصريين يحتاجون سلاح المهندسين فى القوات السوفيتية والأمريكية معا ليتمكنوا من عبور القناة وتحطيم خط بارليف !!
فكيف نجح المصريون بمشاتهم فى تدمير الخط واحتلاله فى ست ساعات فحسب ؟! وأين دفاعات الخط التى تكلفت الملايين وأين الدعم الدفاعى والحصون التى تكلفت نصف مليار دولار لحماية خط القناة ؟!
وزادت الصدمة عندما علموا أن وزير دفاعهم ينوى عرض هذا الكلام أمام الشعب فى التاسعة مساء بحديث تليفزيونى
وقال جرشوم شاكن رئيس تحرير جريدة ها آرتس لديان :
( هل تنوى عرض هذا الكلام , إنك إن قلت هذا الكلام على شاشة التليفزيون فهذا معناه حدوث زلزال فى إسرائيل ولليهود والعرب خارج إسرائيل )

وعقب لقاء ديان بالصحفيين تلقت جولدا مائير تقريرا عما حدث فى المؤتمر الصحفي مشفوعا بطلب من رؤساء التحرير بتفضيل سكوت وزير الدفاع وامتناعه عن الكلام فى التفاصيل
وعلى الفور منعت جولدا مائير وزير دفاعها من التوجه للتليفزيون واستدعت الجنرال أهارون ياريف الذى تم استدعاؤه من التقاعد وتكليفه بمهمة الإعلام العسكري وأمرته أن يوجه بيانا للشعب بصورة عامة دون تفصيل
فذهب أهارون ياريف ولم يزد على قوله :
( إن الجيش الإسرائيلي فى وضع صعب والحرب من شأنها أن تطول ــ وهذه نقطة المقتل لإسرائيل التى لا تحتمل التعبئة العامة لأكثر من أسبوعين ـ وقد اضطر الجيش الإسرائيلي إلى الإنسحاب للخطوط الخلفية ورغم ذلك فلا ينبغي أن نفكر بمفاهيم الخطر بالنسبة لبقاء شعب إسرائيل )

والمتأمل فى كلمات أهارون ياريف يصل لعدة حقائق تحتاج وقفة ,
فرغم اللهجة المخففة التى لم تتعرض للتفاصيل الحقيقية والتى تحمل مآسي مروعة للجيش الإسرائيلي بعد الهزائم المتتابعة وقعود يد الطيران عن أى إضافة للحرب , إلا أن كلمته كانت أشبه بالزلزال المدوى فى تل أبيب بعد أن خدعتهم القيادة العسكرية والسياسية طيلة الفترة من 6 إلى 8 أكتوبر وأوهمهم ديان والجنرال دافيد إليعازر بأنهم سيحولون منطقة سيناء والجولان لمقابر للجيشين المصري والسورى !
فلما انكشف الأمر فى يوم 10 أكتوبر وأدرك شعب إسرائيل الخدعة الإعلامية التى تم تخديره بها واكتشف لأول مرة أن الجيش الإسرائيلي انهار على نفسه من أول ست ساعات فى الحرب وأن خط بارليف لم يعد له وجود وأن الطيران الإسرائيلي تآكل بفعل حائط الصواريخ المصري وقوة المدرعات الإسرائيلية ذهبت أدراج الرياح ومعها قائدها الفذ الجنرال إبراهام ماندلر ,
هنا وقعت إسرائيل فى نفس الموقف الذى وقعت فيه مصر فى الفترة ما بين 5 , 9 يونيو ,
وهنا نستعيد ما تحدثنا عنه سابقا عن روعة حرب أكتوبر وأنها فيما يشبه المعجزة ردت سائر ديونها بلا استثناء وزادت عليها , رغم الفارق الضخم بين جيش مصر فى حرب يونيو وبين جيش إسرائيل فى حرب أكتوبر ,
وكما قضت الجماهير المصرية أربعة أيام وهى تتوهم النصر على إسرائيل بفعل خديعة الإعلام , قضت إسرائيل أربعة أيام وهى مغيبة عن الواقع , وعندما استعادت الوعى اكتشفت أن جنرالاتها يتحدثون عن معادلة بقاء الشعب الإسرائيلي نفسه من عدمه
وهى النقطة الفارقة فى حديث أهارون ياريف ,
فياريف يعترف بالهزيمة صراحة ولكنه يطمئن شعبه أن بقاءه ليس فيه ما يدعو للخطر !!
ولأول مرة فى تاريخها تواجه إسرائيل حقائق الواقع بعد أن أسكرتها مؤامرة يونيو 1967 م , وظنت بنفسها القدرة الأسطورية التى تمكنت فعلا من دحر قوات ثلاث دول عربية !
وهو ما عبرت عنه تلقائيا جولدا مائير في تعليقها :
( إن هذه الحرب هى الحرب الحقيقية الثانية بعد حرب 1948 م ) [2]
وهذا اعتراف خطير من جولدا مائير يعنى أن قادة إسرائيل فى تلك الفترة كانوا يعلمون تماما بحقيقة حرب يونيو وقد استغلوا جهل العامة ليروجوا لتلك الأساطير حول الجيش الذى لا يقهر
فإذا بحقيقة هذه الحرب تنكشف أمام عيونهم دون الحاجة إلى أية مستندات , فالجيش المصري لم يحارب فى حرب يونيو أصلا ووقع فى يد قيادة عسكرية جاهلة وقيادة سياسية غافلة ليصدر له الأمر بالإنسحاب دون طلقة واحدة ,
وعندما حانت لحظة المواجهة الحقيقية فى حرب عادلة انهار الرداء الأسطورى على الفور وظهرت حقيقة الجيش الإسرائيلي ,


الهوامش :
[1]ـ المصدر السابق
[2]ـ كشف هذه الحقائق ظهور ست وثائق إسرائيلية جديدة قامت بنشرها جريدة يديعوت أحرونوت فى ذكرى أكتوبر هذا العام 2010 م ونقلت وكالات الأنباء محتوى الوثائق وهى محاضر إجتماعات مجلس الوزراء الإسرائيلي السرية أثناء احرب

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:34 AM

وكشفت صحيفة ( يديعوت أحرونوت ) في جملة الوثائق التي تم كشفها في ذكرى أكتوبر لهذا العام 2010م , أن انهيار ديان لم يكن على المستوى القيادى والشخصي فقط , بل تجاوزه إلى المستوى الأخلاقي أيضا !

فقد أصدر أوامره بتجاهل الجرحى الإسرائيليين وتركهم لمصيرهم لخوفه من حالة التآكل التي صاحبت القوات الإسرائيلية منذ بدء الحرب ومنع قواته من أى محاولة للتدخل بغرض إخلاء الجرحى والإقتراب من خط بارليف المحطم والذي سقط في قبضة الجيش المصري ,
كما أن الإنهيار طال رئيسة الوزراء الإسرائيلية حتى أنها فكرت في مبدأ ( شمشون ) وهو استخدام السلاح النووى لا سيما ضد القوات السورية ,
وقال المعلق البارز في صحيفة يديعوت أحرونوت نحوم برنيع تعليقا على محاضر الجلسات التى تم كشفها قبل أيام :
( إن المحاضر تعكس عمق الهلع الذي ألم بإسرائيل وقتها، مشيرا إلى أنها ألمحت لتداول إسرائيل ردود فعل لم تبحث من قبل أبدا، ) [1]
وردود الأفعال التى أشار إليها ناحوم بريع هى مسألة التفكير فى استخدام القوة النووية ضد مصر وسوريا بعد أن سيطر على التفكير الإسرائيلي أنهما لن يتوقفا عن الحرب حتى حدود الدولة اليهودية !
ففي أحد هذه المحاضر أشار ديان صراحة إلى أن نوايا مصر وسوريا ستطول الأراضي الإسرائيلية ولن يتوقفا عند حدود 67 كما أشار ديان إلى الأردن أيضا سيدخل الحرب ونظرا لما يمتلكه الأردن من حدود طويلة للغاية مع إسرائيل فتدخله فى القتال بأى قوة عسكرية معناه فتح جبهة ثالثة قريبة من العمق الإسرائيلي فى الوقت الذى ينهار فيه الجيش أمام جبهتين

ولم تهدأ تلك المخاوف إلا بعد أن تلقت الحكومة الإسرائيلية تأكيدات هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية بأن الأردن لن يتورط فى القتال الدائر مهما كانت الضغوط على الملك حسين !!
ويشير كيسنجر فى مذكراته إلى أنه راسل الملك حسين وحذره من الإشتراك استجابة للضغوط العربية وأن الملك كان رجل دولة ـ على حد وصف كيسنجر ـ فلم يفتح الجبهة الثالثة فى الحرب ! [2]
كما حذر كيسنجر جولدا مائير من الخيار النووى
وأن المخاوف من إمتداد الحرب إلى مسألة بقاء إسرائيل ليست واقعية لعدم قدرة مصر التسليحية للوصول بقواتها إلى آخر حدودها فى سيناء ,[3]

والنقطة الأخيرة التى يمكننا استخلاصها من حديث أهارون ياريف ..
أن إسرائيل على مستوى القادة تدرك تماما أنها لا تتمتع بأى قوة حقيقية رغم ترسانة الأسلحة الرهيبة فى حوزتها ورغم القدرات العسكرية فى العدد والعتاد ,
ذلك أن الجندى الإسرائيلي لا يمتلك عقيدة حقيقية يدافع بها عن وطنه لأنه يدرك فى أعماقه أنه ليس وطنا له بل هو أرض مغتصبة فى مواجهة أصحاب الحق ذوى العقيدة الراسخة ,
يتضح ذلك من كمية التشاؤم التى كست أهارون ياريف وهو يطمئن الشعب المصدوم أن وجوده لا يستدعى القلق !!
ونسي ياريف أنه يتحدث إلى شعب لم يدر فى أبشع كوابيسه أن يتعرض الجيش الإسرائيلي لهزيمة من الأصل , وأن اعتراف ياريف بالهزيمة إلى هذا الحد من الإنهيار يمثل صدمة عملاقة لا يفوقها إلا حديث المتحدث العسكري عن مسألة بقاء إسرائيل والتى فاقت كل الحدود بالنسبة للشعب الإسرائيلي ..
وأدركوا أنهم أمام قادة يرون أن غاية الأمانى فى تلك الحرب الضروس هى أمل البقاء لإسرائيل !

وهذا أمر غريب للغاية إذا تأملناه وعرفنا أن الجيش المصري فى ذلك الوقت كان يقاتل داخل حدوده بسيناء ولم يجتز منها إلا خمسة عشر كيلومترا وأمامه 200 كيلومتر حتى خط الحدود الدولية ,
بل إن مضايق سيناء وهى الهدف النهائي للحرب ـ وفق الخطة بدر ـ لم تكن تمتد لأكثر من خمسين كيلومترا !
بالإضافة إلى أن مدى حائط الصواريخ المصري على القناة والذي يتكفل بحماية القوات المصرية من الطيران الإسرائيلي لم يكن مداه يجتاز 15 كيلومترا ,
في ظل تفوق نوعى وكمى هائل لسلاح الجو الإسرائيلي الذى لا يجاريه في قدرته الطيران المصري بإمكانياته أثناء الحرب ولا يستطيع الطيران المصري الدفاع عن القوات المصرية لو خرجت من نطاق حائط الصواريخ لأن هذا الأمر يتعدى إمكانياته بلا شك
فما هو الداعى لذعر القادة الإسرائيليين لدرجة إحساسهم بأن بقاء إسرائيل نفسه أصبح موضع شك ؟!
وما هو تفسير هذا الذعر الهائل الذى كان ملما برجال الجيش الإسرائيلي والمفروض أنهم رجال قوات مسلحة !


الهوامش :
[1]ـ المصدر السابق
[2]ـ مذكرات هنرى كيسنجر بعنوان ( سنوات الفوران )
[3]ـ أكتوبر 73 ( السلاح والسياسة ) ـ محمد حسنين هيكل ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:35 AM

ويضاف لهذا أن إسرائيل تدرك أكثر من غيرها أن الظروف السياسية فى العالم وتوازن القوى فى مرحلة السبعينات يميل لصالحها على طول الخط لعدة أسباب ,
منها أن الولايات المتحدة تضمن لإسرائيل حق البقاء وهو ما يقرها عليه الإتحاد السوفياتى ,
بمعنى أنه حتى لو تم تدمير الجيش الإسرائيلي عن بكرة أبيه فالقوات الأمريكية ستتدخل مباشرة بقواتها لحماية الوجود الإسرائيلي ,
بل إن الأسطول الأمريكى السادس في البحر المتوسط تدخل فعلا في حرب يونيو 67 لحماية العمق الإسرائيلي بعد أن غادرت
الطائرات الإسرائيلية جميعا قواعدها في طريقها لتنفيذ الضربة الجوية الأولى ضد المطارات المصرية ,
وخوفا من أن تنجو بعض المقاتلات المصرية وتتمكن من الوصول إلى المجال الجوى الإسرائيلي وتهديد العمق فيه في ظل غياب كامل للطيران الإسرائيلي ,
قام الأسطول السادس بمهمة التأمين لتدمير أى محاولة مصرية لضرب العمق
كما أن الولايات المتحدة لم تكتف بذلك وبالمدد الذى لا ينفذ للمعدات , بل شاركت بعض قواتها فعليا في حرب يونيو عندما توجهت بعض أسراب طائرات الرقابة لتأمين تنفيذ الضربة الجوية ,

وعندما تفاقم الوضع الإسرائيلي بسيناء في حرب أكتوبر أمدت الولايات المتحدة إسرائيل طائرات الفانتوم بطياريها !
وشاركوا فعلا في الحرب وسمحت لهم الولايات المتحدة بذلك بلعبة قانونية بسيطة حيث أن الولايات المتحدة أباحت لمواطنيها ـ حتى العسكريين منهم ـ الإحتفاظ بالجنسية الأمريكية إلى جانب الإسرائيلية وبهذه الصفة تستطيع إسرائيل استدعاء هؤلاء الطيارين للخدمة العسكرية عند الحاجة !

ومن أسباب ميل ميزان القوى الدولية لصالح إسرائيل في تلك الفترة ,
أن ميزان القوى الدولية كان فى صالح الولايات المتحدة بعد أن تولى برينجنيف قيادة الإتحاد السوفياتى قيادة خاملة تعتمد على التراجع المستمر أمام الضغوط والتهديد الأمريكى , ويطلقون على فترة برينجنيف في الإتحاد السوفياتى اسم ( الركود العظيم ) بعد أن ظل برينجنيف يموت ويعانى لمدة عشرين عاما !
هذا فضلا على أن الظروف فى الولايات المتحدة كانت فى أرقي حالاتها بالنسبة لإسرائيل لأن المتحكم فى السياسة الخارجية الأمريكية فى ذلك الوقت كان وزير الخارجية اليهودى هنرى كيسنجر أكبر الموالين لإسرائيل فى الولايات المتحدة على الإطلاق , وكان هنرى كيسنجر وقت حرب أكتوبر بالذات يمتلك خطوط الرياسة الأمريكية بعد أن بدأت بوادر فضيحة ( ووتر جيت ) تهز عرش رتشارد نيكسون مما دفع هذا الأخير لإعطاء هنرى كيسنجر كارتا أخضر بالتصرف فى أزمة الشرق الأوسط بما يضمن له دعم اليهود ومعاونتهم فى أزمته

وهذا هو السبب الحقيقي للجسر الجوى المذهل الذى أقامته الولايات المتحدة لإسرائيل أثناء الحرب ولم تكتف بتعويض خسائرها فحسب بل أضافت إلي مخازنها ما أعاد تسليحها بالكامل فضلا على أن مخازن السلاح الأمريكي تم فتحها بأوامر كيسنجر بكامل معداتها حتى تلك التى لم تدخل الخدمة بعد كأسلحة متقدمة ولم يستثن من الأسلحة التى من حق إسرائيل طلبها إلا أسلحة الليزر فقط !
فدعمت الولايات المتحدة إسرائيل بأسراب هائلة من المدرعات الحديثة والطيران الرادع والقنابل التليفزيونية والهيليوكوبتر حاملة الصواريخ المضادة للدبابات وكل هذا بكميات أثارت ثائرة وزارة الدفاع الأمريكية وقتها وحاولت الإعتراض إلا أن نفوذ هنرى كيسنجر أخرس الأصوات المناهضة حتى اهتز الإحتياطى الأمريكى من السلاح !
ولم يكتف كيسنجر بهذا ..
بل زود إسرائيل بالطائرات الأمريكية المتقدمة فانتوم إف 16 ومعها طياروها فى مبادرة ما كانت لتحدث أبدا لو أن الإتحاد السوفياتى كان فى عنفوانه حيث أنه تدخل أمريكى مباشر فى الحرب ,
وهذا مخالف للإتفاقيات المتبادلة بين القوتين العظميين بعدم التدخل المباشر في المعارك الإقليمية التي تناصرها القوى العظمى تفاديا لأى مواجهة نووية بينهما , ورغم ذلك سكت الإتحاد السوفياتى

فكيف بعد هذا كله ينتاب جنرالات إسرائيل وقادتها مثل هذا الشعور المدمر بقرب الإنهيار التام ؟!
وما الذى كان يمكن أن يحدث لو أن الولايات المتحدة اكتفت بإمداد إسرائيل بالسلاح فحسب وبنفس النوعية التى يمد بها الإتحاد السوفياتى لمصر , وهى نوعية ـ رغم تقدمها ـ إلا أنها تعتبر أسلحة متقدمة بالنسبة للدول الصغري وليس فى مواجهة أعتى الأسلحة الأمريكية التى استخدمت إسرائيل بعضها قبل قوات الجيش الأمريكى نفسه !
هذا فضلا على أن مصر خاضت الحرب دون طائرة ردع سوفيتية بعد أن رفض الإتحاد السوفياتى تزويد مصر بها لتمتلك قدرة الرد بضرب العمق الإسرائيلي على النحو الذى اتبعته إسرائيل معنا بطائرات الردع فائقة القوة فانتوم وسكاى هوك

بلا شك أن السبب الحقيقي فى الإنهيار يقبع خلف العامل السحرى الذى لم يأخذ حقه فى الإيضاح بحرب أكتوبر وهو عامل الإيمان التام الذى تمتع به الجندى العربي فى قتاله ودفعه للظهور بهذا الشكل الأسطورى الذى أفقد قادة العدو أعصابهم ودفعهم لتخيل ما هو فوق مخططات القوات المصرية وفوق إمكانياتها التسليحية بمراحل
فالأداء على طول مراحل القتال كان يحقق معادلة لا تختل أبدا ,
هجوم مصري يتمتع بجسارة مذهلة ولا يتراجع مهما كانت الظروف ويفضل الموت فى موقعه على التراجع , فى مواجهة قوات إسرائيلية أصابتها لوثة الخوف من الهتاف المدمر ( الله أكبر ) والأداء الخرافي للجنود المصريين ,
بخلاف التخطيط الشديد الحبكة والذى زاد أثره بالحنكة والبراعة التى أبداها القادة الميدانيون للجيش المصري لمواجهة المواقف الصعبة , وهى الحنكة التى ظهرت أشد ما ظهرت فى أصعب مراحل الحرب عند تطوير الهجوم ومواجهة الإمدادات التى تدفقت على القوات الإسرائيلية لتعود قوتها العسكرية إلى ما قبل الحرب وتتفوق عليه أيضا فى نوعية السلاح

وهذه المزاوجة بين عبقرية الأداء والجسارة المدهشة والتلفح بدروع نداء التكبير ليس غريبا على الجيوش الإسلامية ولا على عقيدتها المبنية على مبدأ أبي بكر الصديق رضي الله عنه ( احرص على الموت توهب لك الحياة )
ومبدأ خالد بن الوليد الذى خاطب به قائد الروم قائلا ( والله لأبعثن إليك أقواما يحبون الموت .. كما تحبون الحياة )
فهؤلاء لم يكن فى أيديهم إلا السيوف والرماح فى مواجهة مدرعات العصور القديمة المتمثلة فى الفيلة والأزياء العسكرية المصفحة والدروع المعدنية المرعبة فضلا على الأعداد المليونية التى لا تنتهى ,
ومع ذلك سقط الروم فى اليرموك ومصر وسقط الفرس فى القادسية ونهاوند وانهارت مئات الألوف أمام بضعة آلاف لم يكن لهم بضاعة إلا الإيمان والإصرار
وهى ذات البضاعة التى يمكنها تفسير ألغاز أكتوبر بعد أن حارت العقليات البشرية فى تصور إمكانية حدوثها , ومن المستحيل تفسيرها بالمقاييس البشرية لأنها شيئ فوق طبيعة البشر


محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:35 AM

الوقفة التعبوية ..


نأتى الآن لأول نقاط الخلاف التي تفجرت حول أكتوبر وهى خطوة الوقفة التعبوية التي اتخذها الجيش المصري بعد إتمام الهدف الإستراتيجى الأول للمعركة المتمثل في تحطيم خط بارليف وإنشاء رءوس كباري على القناة وتعميقها في إتجاه سيناء ثم اتخاذ السبل لتوسيعها وتوحيدها وهو ما تم بالفعل وفق الخطة إلى حد مدهش
وبدا كما لو كان الأمر يسري في القتال وفق ما نريده نحن على طول الخط ,

وكانت الخطة تقتضي أن يتم تعزيز القدرات المصرية بعد عبور الجيشين الثانى والثالث وتوحيد الكباري ثم التصدى للهجمات المضادة وإفشالها ,
ويأتى بعد ذلك ـ وفق الخطة بدر ـ تطوير الهجوم نحو المضايق بعد وقفة تعبوية تستكمل معها القوات المصرية تنظيمها والرد على سائر الهجمات المضادة للعدو من موضع قوة وتحت مظلة حائط الصواريخ المصري الشهير ,
واستكمال عبور وحدات الدفاع الجوى المتنقلة لتعمل على حماية قوات التطوير
ولأن المرحلة الثانية من الخطة كانت تقتضي الوصول للمضايق وبالتالى الخروج من نطاق حماية حائط الصواريخ بكل ما يعنيه هذا من تعرض مكثف لهجمات العدو الجوية المتطورة ,
فإن الوقفة التعبوية كانت لازمة لزوما قاطعا حتى تستكمل الفرق تجهيزاتها اللازمة للهجوم وأهم نقطة فيه والتى تتمثل في كتائب الصواريخ المضادة للطائرات المتحركة والمحمولة والتى ستحل بديلا عن حائط الصواريخ ,
بالإضافة إلى جهد القوات الجوية المصرية التي سيكون دورها معاونا لمضادات الطائرات على الأرض ,

وتتمثل نقطة الخلاف التي أشرنا إليها في وجهة النظر التي قالت بأن الوقفة التعبوية لم يكن لها داع من الأصل , كما أنها طالت عن المدة المرسومة ( من 10 إلى 13 أكتوبر ـ ثلاثة أيام )
وأن استثمار هذا النجاح المذهل للجيش المصري في سيناء كان يتمثل في الإسراع بتطوير الهجوم يوم 9 أكتوبر حتى لا نعطى فرصة المبادأة والتقاط الأنفاس للعدو ونستغل حالة الإرتباك القائمة بعد فشل جميع هجماته المضادة ,
وقد أثيرت هذه النقطة بعد الحرب وأحدثت جدلا واسعا بين مختلف الأوساط العسكرية والسياسية وفتحها لأول مرة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في مقالاته في الأهرام وتولى الرد الوافي عليها المشير أحمد إسماعيل في حديثه مع هيكل بجريدة الأهرام بعد الحرب

إلا أنه رغم الردود الوافية للمشير أحمد إسماعيل إلا أن هيكل أعاد التعرض لتلك النقطة في كتابه ( السلاح والسياسة ) وهو الجزء الرابع من مجموعة حرب الثلاثين سنة والذي خصصه لحرب أكتوبر ,
وقد اعتمد في كتابه على صاحب الرأى الرئيسي في خطأ طول الوقفة التعبوية وهو اللواء محمد عبد الغنى الجمسي الذى كان رئيسا لهيئة العمليات في حرب أكتوبر ثم تولى وزارة الدفاع فيما بعد
حيث قام المشير الجمسي ـ رحمه الله ـ بكتابة مذكراته بعنوان ( يوميات حرب أكتوبر ) وذكر فيها وجهة نظره المعارضة لطول الفترة التعبوية حيث أنه فاتح المشير أحمد إسماعيل ـ رحمه الله ـ أثناء العمليات وطلب منه استغلال النجاح لتطوير الهجوم وشرح مبرراته لذلك [1]
والتى ملخصها أن تطوير الهجوم ضرورى لعدم منح الفرصة للعدو تجهيز نفسه ,
وفى الرد على مبررات المشير أحمد إسماعيل بالخوف من تأثير الطيران الإسرائيلي على قواتنا لو تسرعنا بتطوير الهجوم والخروج من مظلة الصواريخ دون وقفة تعبوية توفر الإستعداد التام للتطوير قبل تنفيذه
رد الجمسي بأن فاعلية الطيران الإسرائيلي يمكن شلها إذا حدث الإشتباك المباشر بين قواتنا وقوات العدو حيث أن هذا الإشتباك فى أى معركة يجعل استخدام الطيران من أى طرف أمرا مستحيلا لأن الطرفان المتشابكان سيقعان تحت نفس التأثير

وأضاف هيكل إلى مبررات الجمسي مبررات أخرى من مصادره الشخصية وكانت تحفز تطوير الهجوم مباشرة دون توقف وهذه المبررات تمثلت فى وجهة نظر القيادة السوفياتية لمصر أثناء الحرب حيث أن السفير السوفيتى فى مصر فلاديمير فينوجرادوف التقي بمحمد حسنين هيكل فى السفارة السوفيتية وبرفقته أحد جنرالات السفارة من العاملين بها وأطلعه على خرائط وصور الأقمار الصناعية التى تشرح أوضاع الجبهة وتبين فى وضوح مدهش كل مواقع القوات المصرية والإسرائيلية ومن عرض الصور شرح الخبير السوفيتى أهمية أن يقوم المصريون بتطوير الهجوم لاستغلال حالة الإرتباك الإسرائيلي المستمرة منذ بدء الحرب ,
وعدم منحهم الفرصة ليمتصوا الصدمة ويستعدوا بإعادة التنظيم والتسليح لا سيما وأن الجسر الجوى والبحرى الأمريكى صدر به القرار فى 10 أكتوبر وبدأ التنفيذ الفعلى ,

هذه مجمل الإعتراضات التى أثيرت وهى كما نرى جاءت بصفة أساسية من محمد حسنين هيكل والمشير الجمسي ونقلها مؤيدا لها أيضا اللواء جمال حماد المؤرخ العسكري والذى تبنى وجهة نظر المشير الجمسي فى كتابه ( حرب أكتوبر ـ المعارك على الجبهة المصرية ) واكتفي بمبررات الجمسي دون إضافة ,

ورغم وجاهة هذه الإعتراضات إلا أنها جميعا مردود عليها ,
ونبدأ قبل الرد فى تعريف هوية الوقفة التعبوية ,
فالوقفة التعبوية ليس معناها وقف القتال وليس معناها فترة سكون ـ كما يوحى مسماها ـ بل الوقفة التعبوية تعنى الوقوف عند الخط الذى وصلته القوات المصرية ويبلغ أقصي حد لمدى حائط الصواريخ لتعمل القوات العابرة على تدعيم موقفها من الثبات وتوحيد الجسور وتأمينها ثم القيام بأخطر مهمة وهى صد الهجمات المضادة للعدو من موقف قوة ,
فليس إذا هناك أى وقف للقتال أو النشاط بل على العكس كانت أيام الوقفة التعبوية جميعا من أشرس أيام القتال فى الحرب وتم فيها الهجوم المضاد الثانى على القوات المصرية والذى فشل فشلا ذريعا كما سبق الشرح
بل وبلغت شراسة الهجوم من العدو فى تلك الفترة حدا كبيرا حيث قامت تشكيلات العدو بإعادة الهجوم ضد رءوس الكباري فى محاولة لبث الفوضي بين القوات العابرة , وفشل العدو فشلا ذريعا في ذلك
وتوالى ـ خلال أيام الوقفة ـ هجوم العدو الجوى فى طلعات غزيرة بقصف مستمر وقام بعدة محاولات لتدمير المطارات المصرية على مراحل بعد فشل طريقة الهجوم المركز فى ضربة واحدة على غرار حرب يونيو 67 ,
وبلغت إجمالى طلعات العدو فى الوقفة التعبوية حوالى 1050 طلعة جوية تمكنت قواتنا ـ بفضل الوقفة ـ من إسقاط 41 طائرة نظرا لوجود قواتنا تحت مظلة حائط الصواريخ
فهل يمكن بعد هذا القول بأن الوقفة التعبوية كانت تعنى توقفا سلبيا؟!



الهوامش :
[1]ـ يوميات حرب أكتوبر ـ المشير عبد الغنى الجمسي ـ الهيئة العامة للكتاب

محمد جاد الزغبي 10-14-2010 10:36 AM

وعليه فقد كانت مبررات الوقفة التعبوية طبقا لما أبداه اللواء حسن البدرى المؤرخ الرسمى للجيش المصري
مع فريق التأريخ العسكري المكون اللواء طه المجدوب والعميد ضياء الدين زهدى [1] .. هى كالتالى :
أولا :
لم يتوقف العدو لحظة واحدة عن محاولة تصفية رءوس الكباري المصرية وهذا استلزم ضرورة الوقفة التعبوية لإعادة تأمين رءوس الكباري وصد جميع الهجمات المضادة من موقع قوة وتحصين ,
لا سيما إن وضعنا بذهننا أن القوات المصرية تمكنت من ترسيخ مواقعها قبل الوقفة التعبوية التي تم استغلالها في تدعيم موقف القوات وإعادة تنظيمها مما جعلها ترد الهجمات بمنتهى البساطة رغم شراستها , وكبدت العدو خسائر جسيمة في الأفراد والمعدات

ثانيا :
نسي البعض في فورة الحماس لاستمرار الهجوم أن الجيش المصري عبر لتوه مانعا مائيا هو الأقوى في العالم وعبر بإزائه أقوى خط دفاعى تمثل في خط بارليف ثم قاتل في أرض سيناء الوعرة المليئة بالأخاديد والجبال والتى تحتاج مزيدا من جهد التحصين وتعديل مواقف القوات
أى أن الجيش المصري لم يكن بصدد قتال مندفع على أرض منبسطة حتى يمكنه أن يحتفظ بتنظيم قواته كما هو منذ بدء المعركة وحتى مرحلة الوقفة التعبوية , ولا يكون محتاجا للدفاع الثابت بل يندفع مباشرة لإكمال القتال
وبالتالى صار من المحتم تنفيذ الوقفة لإعادة التنظيم وبناء الدفاعات التي تسمح للجيش بالإستعداد لتطوير هجومه واستكمال الإمدادات الإدارية والتموينية
مع ملاحظة أن القوات المصرية كانت تجد الوقت بالكاد لإعادة التنظيم نظرا لشراسة الهجمات المضادة من العدو

ونأتى الآن للرد على مبررات القائلين بتطوير الهجوم من خلال النقاط التالية ,
أولا :
يتم الترجيح بين وجهات النظر العسكرية عن طريق الخبراء الممارسين وقواد الجيوش , وبالنظر إلى الأدلة العلمية التي يستند إليها كل طرف للحكم على وجهات النظر بالصحة والخطأ
وبادئ ذى بدء كانت وجهة النظر القائلة بتطوير الهجوم هى وجهة نظر اللواء الجمسي وحده بين قادة حرب أكتوبر , واللواء الجمسي لا شك أنه الخبير العتيد الذى صاغ مهمة التخطيط على أكمل وجه , لكن هذا لا يعنى العصمة
لا سيما وأن قرار الوقفة التعبوية ورفض تطوير الهجوم مباشرة كان هو الرأى القاطع لوزير الدفاع أحمد إسماعيل ورئيس الأركان الفريق الشاذلى [2] واللواء محمد عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث الميدانى واللواء سعد مأمون قائد الجيش الثانى , بالإضافة لفريق التأريخ العسكري بقيادة اللواء حسن البدرى
وهؤلاء جميعا ـ لا سيما قائدى الجيش الثانى والثالث ـ أدرى بحقيقة الأوضاع فى الجبهة
بل إن الفريق الشاذلى واللواء سعد مأمون واللواء عبد المنعم واصل ووزير الدفاع كانوا راغبين فى تطويل الوقفة التعبوية عما كان مقررا لها ,
وهو الأمر الذى اتضح عندما رفض اللواء عبد المنعم واصل واللواء سعد مأمون تنفيذ الأوامر بتطوير الهجوم والتى صدرت يوم 12 أكتوبر كى يتم التطوير يوم 13 نظرا لعدم جاهزية الجيوش للتطوير فى ذلك الوقت , [3]
وسافر كل منهما إلى المركز رقم 10 للقيادة لمناقشة الوضع واتضح أن قرار التطوير بذلك التوقيت كان قرارا سياسيا من السادات بهدف تخفيف الضغط على الجبهة السورية ويجب تنفيذه مهما كانت العواقب ولم يستطع قائدا الجيشين أن يوقفا القرار بل حصلوا فقط على تأجيله لمدة أربع وعشرين ساعة ليبدأ فى 14 أكتوبر
وعندما تم تطوير الهجوم قبل استعداد الطيران ووحدت الدفاع الجوى المتنقلة لاقت القوات المصرية خسائر فادحة فى الدبابات لأول مرة منذ قيام الحرب وكان السبب أن الوقفة التعبوية لم تمتد بالقدر الكافي الذى طلبه القادة ,

ثانيا :
استند اللواء الجمسي إلى نظرية تحييد الطيران المعادى عن طريق الإشتباك الفورى الذى سيمنع تمييز الطيران لأهدافه
وهى وجهة نظر تولى الرد عليها الفريق الشاذلى في مذكراته حيث أوضح أن هذا الكلام غير دقيق بالنسبة لأوضاع القوات الفعلية التي كانت تفصلها عن المضايق 20 كيلومترا عارية ستمثل فجوة مع بدء الهجوم الذى سيرصده العدو حتما
وليس متوقعا قطعا أن ينتظر العدو ساكنا حتى وصول المدرعات المصرية إلى مواقعه دون أن يقوم الطيران بواجبه قبل الإشتباك والنتيجة عندئذ ستكون محسومة لصالح الطيران الإسرائيلي حتما بعد خروج القوات المصرية من مظلة الصواريخ
فوجهة نظر اللواء الجمسي كانت ستكون صحيحة لولا فجوة الدفاع الجوى التي كانت ستترك قواتنا في العراء أمام الطيران الإسرائيلي لعشرين كيلومترا قبل أن يصل إلى المدى الكافي للإشتباك بحيث يتم تحييد الطيران

ثالثا :
من أغرب ما صادفته من الكتابات عن حرب أكتوبر في هذا الشأن هو تبنى اللواء جمال حماد والأستاذ هيكل لنظرية تطوير الهجوم مباشرة باعتبار أنه القرار السليم الذى كان يجب تنفيذه يوم 9 أكتوبر
وأن سبب فشل تطوير الهجوم أنه تم في الموعد الخطأ عندما تم تأجيله إلى يوم 14أكتوبر ,
إذ كيف يعترض قادة الجيوش الميدانية على تطوير الهجوم بعد الوقفة وأثناء الإستعداد والتنظيم ولا يعترضون على قرار التطوير إذا جاءهم قبلها بأربعة أيام حيث كان التنظيم منعدما وسط الهجمات المضادة للعدو !
فإذا كانت قواتنا في الشرق لم تتمكن من تدارك التنظيم الكافي للهجوم يوم 14 أكتوبر وكان هذا سبب اعتراض القادة فكيف يكون قرار التطوير صحيحا إذا صدر في 9 أكتوبر ؟!

رابعا :
بنت وجهة نظر القائلين بالتطوير المباشر مبرراتها على ضرورة عدم منح الفرصة للعدو لتنظيم نفسه ,
وهذا القول يمكن استيعابه لو كانت فترة الوقفة التعبوية انتظارا سلبيا ,
بينما كانت الوقفة التعبوية مرحلة اشتعال للمعارك على سائر الخطوط ولم تنقطع فيها الهجمات المضادة أصلا ,
فالقوات المصرية لم تكن ساكنة في تلك الفترة حتى يمكن الحديث عن وقوف سلبي يترك للعدو فترة إصلاح شأنه , فالعدو نفسه كان مكثفا لهجماته مستوعبا لما يواجهه من مقاومة هائلة ,
بالإضافة إلى أن الحديث عن استغلال عنصر المفاجأة حديثا ليس في محله في رابع أيام الحرب !
فالوقفة التعبوية جاءت بعد أن استوعب العدو المفاجأة وانتهى الأمر بل واستوعب خسارة هجماته المضادة وأمكن له ـ بل الوقفة ـ من دفع الإحتياطى اللازم لمواصلة القتال وتعويض خسائره من الإمدادات الأمريكية
كما أن الولايات المتحدة زودت المعدات بقوة بشرية متمثلة في طيارين وقواد مركبات
وكل تلك الظروف تنفي تماما إمكانية وجود فرصة عدم تنظيم لاستغلالها لا سيما وأن المقاومة المصرية كانت تواجه بالفعل قوة رهيبة من الإمدادات بدا معها المصريون كما لو أنهم يحرثون في بحر , وكلما حطموا للعدو دباباته تجددت هذه الأسلحة في نفس الوقت تقريبا !

خامسا :
اعتمد الأستاذ محمد حسنين هيكل في اعتراضه على ما شاهده من السفير السوفياتى وخبيره العسكري من أوضاع القوات يوم 9 أكتوبر
وهو أمر غريب لأن السوفيات كانوا هم أصحاب الحلول المستحيلة قبل الحرب عندما أفتوا بأن خط بارليف يحتاج لقنبلة ذرية تكتيكية لتدميره وأنه لا توجد قوة مناسبة لازاحة الساتر الرملى ,
وهو الأمر الذى أثبت عكسه الجيش المصري بقواده المصريين قلبا وقالبا , ولا شك أن من حطموا النظريات العسكرية السوفياتية أدرى بشئون جبهتهم من السوفيات , وهذا ما أثبته المصريون عمليا ,
أما صور الأقمار الصناعية فقد رد عليها الفريق الشاذلى في تعقيبه على كتاب ( السلاح والسياسة ) لهيكل عندما قال أن صور الأقمار الصناعية يوما بيوم كانت تصل لمركز القيادة الرئيسي ( المركز رقم 10 ) وأن قرارات القتال كان يتخذها القادة وهم يستعينون بأوضاع القوات المبينة في تلك الصور ,
ونفي الشاذلى أن تكون صور الأقمار الصناعية التي طالعها هيكل كانت لأوضاع القوات يوم 9 أكتوبر بل يجزم بأنها كانت صورا للأيام السابقة
وحتى لو كانت الصور التي بنى عليها الخبير السوفياتى وجهة نظره هى فعلا صورة أوضاع القوات يوم 9 أكتوبر ,
فهذا لا يغير من الأمر شيئا
لأن نفس هذه الصور كانت تذهب أولا بأول لقيادة المركز رقم 10 ومع ذلك لم تحفز طاقم القيادة على سرعة تطوير الهجوم
وبالتالى نحن أمام قرارين ,
قرار اتخذه السوفيات بتطوير الهجوم , وقرار آخر اتخذه القادة الميدانيون بالأغلبية الساحقة بعدم التطوير السريع ,
والمقارنة بينهما لا شك أنا لصالح القرار المصري لأنهم هم الذين حققوا ما عجز السوفيات عن حله , بالإضافة إلى أن وقائع الأحداث أثبتت صحة قرار الوقفة التعبوية بلا أدنى شك , وذلك عندما حدث التطوير مبكرا عن الموعد الذى طالب به القواد تسبب ذلك في خسائر الدبابات وفشل التطوير فى محاولته الأولى

سادسا :
أما أخطر ما يتم الرد به في هذا الشأن فهو ما حدث على الجبهة السورية حيث اندفع الجيش السورى بجسارة مذهلة بدبابته ومدرعاته مكتسحا دفاعات العدو أمامه ومحققا لنصر ساحق من أول أيام الحرب
لكن الحماس الزائد للإنطلاق مباشرة والوقوع في إغراء اكتساب الأرض دفعه لقطع الجبهة بطولها مباشرة دون أن يهتم بوجود مظلة الصواريخ
ولهذا فإن الجيش السورى تمكن من تحرير الجولان كلها قبل يوم 9 أكتوبر ,
لكنه دفع ثمن الإندفاع المباشر غاليا عندما استعاد الجيش الإسرائيلي توازنه واستغل أكبر نقطة قوة فيه وهى القوات الجوية وتمكن من رد الهجوم السورى بمثله مع تغطية كاملة من الطيران الرادع ضد القوات السورية التي اندفعت دون حماية الدفاع الجوى ,
فكانت النتيجة أن استعادت إسرائيل هضبة الجولان كاملة واخترقت الأراضي السورية أيضا وهددت العاصمة دمشق حتى تمكن السوريون من دفع الإحتياطى الأخير لديهم مع معاونة من القوات المدرعة العراقية التي انضمت للقتال ومعها لواء مدرعات أردنى بعث به الملك حسين كبديل لعدم فتحه جبهة جديدة من الأردن ,
فإذا تأملنا هذه الوقائع نجد أن القادة المصريين كانوا على حق في التريث الشديد والحذر من الإندفاع وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة من مواقع محصنة أدت فيما بعد إلى أن تنجح القوات المصرية في المحافظة على مكاسبها الرئيسية وعدم الإنسحاب منها رغم المحاولات المستميتة التي بذلها العدو لدفع المصريين للإنسحاب سواء بالهجوم المركز على الجبهة المصرية بعد تثبيت موقف الجبهة السورية أو بمحاولة الإختراق الفاشلة في ثغرة الدفرسوار والتى لم يقع بسببها الجيش المصري في مأزق سحب قواته أو بعضها من الشرق للغرب كما كانت تأمل إسرائيل
وللفصول بقية مع المرحلة الثالثة للحرب
الهوامش

[1]ـ حرب رمضان ـ حسن البدرى وآخرين ـ مصدر سابق

[2]ـ مذكرات الفريق الشاذلى ـ الطبعة العربية
[3] ـ مذكرات الفريق عبد المنعم واصل ـ دار الشروق ـ مصدر سابق

هند طاهر 10-15-2010 10:32 AM

لي عوده لمتابعة الموضوع لضيق وقتي

تحياتي لاستاذنا الكبير

محمد جاد الزغبي 10-15-2010 02:14 PM

بارك الله فيك أستاذة هند
يشرفنى حضورك

محمد جاد الزغبي 10-22-2010 01:17 AM

الجسر الجوى الأمريكى :

رغم أن مسألة الجسر الجوى الأمريكى لإسرائيل أثناء حرب رمضان حازت كثيرا من الشهرة ,
إلا أن تفاصيلها المذهلة لا زالت غائبة عن كثيرين حيث يعتبرون أن الجسر في أعظم تقديراته كان عبارة عن مدد بالسلاح لتعويض الخسائر وما إلى ذلك من المعونة العسكرية ,
ويراها البعض على أنها أمر مطابق لما كان يمده الإتحاد السوفياتى لمصر وإن كانت الولايات المتحدة تمد إسرائيل بأكثر من ذلك

وكل هذا غير صحيح إطلاقا , ولا يرقي للتعبير عن قوة ومدى فداحة الجسر الجوى والمعونة الأمريكية لإسرائيل ,
فبداية وقبل الحرب أمدت الولايات المتحدة إسرائيل بنوعيات متطورة من أقوى الأسلحة على مستوى الجيوش وبالذات من نوعية الطائرات الرادعة والقاذفة التي ظلت مصر ترجو الإتحاد السوفياتى أن يمده بنوعية متطورة منها من طراز ميج فرفض
فالمد الأمريكى التقليدى لإسرائيل كان أضعاف ما يمد به الإتحاد السوفياتى الأطراف العربية ويكفي أن السوفيات لم يمدوا مصر وسوريا بأسلحة هجومية بل كانت كلها أسلحة دفاعية ,
بينما الولايات المتحدة أمدت إسرائيل بكافة الأسلحة الهجومية التي يستخدمها الجيش الأمريكى نفسه , وعلى رأسها طائرات الفانتوم وسكاى هوك المتقدمة بعيدة المدى التي مكنت إسرائيل من ضرب العمق في ثلاث دول عربية !
وكانت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي التي نفذت ضربة 67 عددها فوق 400 طائرة قاذفة ومقاتلة بعيدة المدى استطاعت أن تقوم بتنفيذ الضربة الجوية بكثافة على عمق صعيد مصر والقاهرة
بينما السلاح الجوى المصري ـ ليس في عام 67 ـ بل في عام 73 عندما استكمل قوته الضاربة وأصبح أفضل من عام 67 بمراحل , كان لا يتعدى عدد طائراته 200 طائرة ليس من بينها مقاتلة ردع واحدة !
فالفارق الذى حققته الولايات المتحدة لإسرائيل كان رهيبا على مستوى الكم والكيف في ظل إصرار الولايات المتحدة على أن تكون القوة العسكرية لإسرائيل متفوقة بالضعف على سائر جيرانها
هذا هو المد التقليدى ,

وهو يختلف تماما عن الجسر الجوى الأمريكى أثناء حرب أكتوبر ,
فالجسر الجوى كان إضافة طارئة فوق ما كان يأتى من مدد تقليدى وكان الجسر نتيجة طبيعية لاستغاثة إسرائيل وضمان انتصارها أو على الأقل ضمان بقائها !
فاجتمعت لإسرائيل عوامل التفوق التقليدى مع عوامل تفوق طارئة غير تقليدية مثلها هذا الجسر الجوى وضاعف من قدرتها التسليحية عما كانت عليه قبل الحرب , أى أنه لم يكتف بتعويض الخسائر وحسب

وقصة الجسر الجوى تبدأ وتنتهى عند اسم واحد وهو هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى , اليهودى الديانة المتعصب لإسرائيل ورجلها الأول في الإدارة الأمريكية برياسة نيكسون
وكان من حظ إسرائيل الوافر أن ظروف نيكسون أثناء حرب أكتوبر كانت في أضعف حالاتها حيث كان يواجه شبح فضيحة ووتر جيت والتى دفعته لترك السياسة الخارجية للولايات المتحدة في يد كيسنجر الذى أصبح ـ على حد قول كيسنجر نفسه ـ رئيس الولايات المتحدة فيما يخص السياسة الخارجية , ولم تكن إسرائيل تتمنى أكثر من ذلك

وقد قام هنرى كيسنجر بدور مرعب كاد يورط الولايات المتحدة في مواجهة نووية مع الإتحاد السوفياتى في نهاية أيام الحرب حيث بلغت صفاقة التدخل الأمريكى حدا استفز السوفيات ـ على ضعفهم في ذلك الوقت ـ ومشي هنرى كيسنجر الطريق إلى آخره وأصر على الدعم المباشر بل وأعلن قبوله للتحدى السوفياتى بإعلانه رفع درجة الإستعداد النووى !
وعجز السوفيات بالفعل عن الإستمرار في التحدى بعد أن عجزوا في مجاراة المدد الأمريكى لإسرائيل بالأسلحة فوق التقليدية والتزموا بعدم مد العرب بأى سلاح زائد أو متفوق
ويمكننا القول بإطمئنان أن جولدا مائير أو موشي ديان لو كانا مكان هنرى كيسنجر ما قاما بربع ما قام به في دعم إسرائيل للدرجة التي لم تثر غيظ السوفيات فحسب بل أغاظت حتى بقية رجال الإدارة الأمريكية كوزير الدفاع ورجال البنتاجون الذين اعتبروا ممارسات كيسنجر في دعم إسرائيل جنونا حقيقيا أودى إلى اهتزاز محتوى الإحتياطى الإستراتيجى التسليحى للولايات المتحدة من كثافة وغزارة الممنوح للإسرائليين ,
هذا فضلا على أن كيسنجر لم يتوقف عند حد الكم بل تعداه للكيف بدرجة خطيرة حتى أنه فتح المخازن الرئيسية أمام الطلبات الرئيسية لتختار إسرائيل ما شاءت من أقوى الأسلحة ـ وحتى تلك التي لم تدخل الخدمة بعد ـ ولم يمنع كيسنجر شيئا إلا قنابل الليزر والمخزن النووى !!

ونبدأ القصة من أولها ومن خلال كلمات هنرى كيسنجر نفسه في مذكراته المنشورة تحت إسم ( سنوات الفوران ) حتى يمكننا أن نتخيل ما الذى فعلته الولايات المتحدة مع إسرائيل وكيف أنها بالفعل شاركت إسرائيل في الحرب على كافة مستويات القتال ,
فكيسنجر في مذكراته لم يخف شيئا ,
وهو ما يجعلنا مطمئنين ونحن نقول أن العرب كانوا يحاربون الولايات المتحدة لا إسرائيل في نهايات الحرب وهى الحقيقة التي اعتبرها البعض مبالغة حتى جاءت على لسان الداعم الأول لإسرائيل وبلا حياء !!
وأكدتها القيادات الإسرائيلية مثل ديان وجولدا مائير مما يغنينا عن أى شهادة أخرى في هذا الشأن


محمد جاد الزغبي 10-22-2010 01:18 AM

والقصة بدأت عندما كان كيسنجر مثل كافة رجال الإدارة الأمريكية والإسرائيلية يثقون في أن مصر لن تحارب وحتى إن غامرت بالحرب فالهزيمة الساحقة ستكون نصيبها بلا ريب !
لهذا فعندما أوقظه مساعدوه على خبر اقتحام المصريين لقناة السويس كان لا زال يعيش في سكرة أفكار ديان ودافيد إليعازر ولهذا اعتبر الهجوم المصري حماقة مؤكدة لن تلبث أن تردها إسرائيل برد يعيد للمصريين عقلهم مع صدمة جديدة أشد من صدمة عام 1967 م ,
لهذا تحدث إلى مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة محمد الزيات وطالبه بأن ينصح القاهرة بإيقاف القتال وعودة الجهات المتحاربة إلى خطوط 5 أكتوبر وأنه لا داعى لتلك الحماقات فإن إسرائيل ستقوم بضربة مضادة خلال ثمان وأربعين ساعة وستكون الضربة قاضية [1]
ولم يعلق السفير المصري واكتفي بالإبتسام وأبلغ كيسنجر أن القاهرة ترفض العرض

ولم تهتز أعصاب كيسنجر لحظة واحدة وظل على ثقته أنه بعد يومين فحسب سيتلقي خبر القضاء على الجيش المصري كله لا مجرد خبر هزيمته على رمال سيناء فى مواجهة الإسرائيليين , بعد أن تتمكن إسرائيل من تنفيذ ضربتها المضادة
ومن الغريب أنه ظل على اعتقاده هذا حتى التاسع من أكتوبر وهو موعد الهجوم المضاد الذى قامت به القوات الإسرائيلية وتوقع له كيسنجر أن يفنى الجيش المصري عن بكرة أبيه
ولم تصله أنباء القتال ولا أنباء الإثنين الإسود فى إسرائيل بعد أن تحطمت المدرعات الإسرائيلية كقشر البيض أمام مشاة القوات المصرية وخسرت إسرائيل من الرجال والعتاد ما لم تره فى أبشع كوابيسها لا سيما بعد مقتل ألبرت ماندلر قائد المدرعات
ولم يجرؤ الإسرائيليون على إيضاح الموقف أمام كيسنجر وأخذهم هول الصدمة حتى أفاقوا وأرسلت جولدا مائير بصفة عاجلة إلى سيمحا دونتز السفير الإسرائيلي فى واشنطن لكى يوقظ كيسنجر من النوم في منتصف الليل ويلح عليه بمتابعة طلبات تسليح فوق المعتاد تحتاجها إسرائيل بصفة عاجلة لخطورة الوضع

واندهش كيسنجر لأن آخر معلوماته من السفير الإسرائيلي أن هجوم المصريين فشل وأن المعركة تحولت لنصر إسرائيلي حاسم فما الذى غير الموقف لهذه الدرجة ؟!
وبدت طلبات السلاح لكيسنجر مستغربة للغاية نظرا لأن المخازن الإسرائيلية مليئة عن آخرها بإحتياطى لا ينفذ كما أن طلبات السلاح المبدئية التى تقدمت بها إسرائيل وتتمثل فى معدات إلكترونية وصواريخ من طراز ( سويندور ) كلها تمت إجابتها ووصلت إلى إسرائيل
أما طلباتهم من ( الفانتوم ـ 4 ) فهى فى الطريق إليهم فما هو وجه العجلة إذا ؟!!

كانت أوهام كيسنجر لا زالت تحكمه حتى أنه لم يستجب لمكالمة السفير الإسرائيلي على نحو جاد وطالبه بالمرور عليه صباحا لمناقشة ما يطلب ,
وبعد مرور ساعة أعاد السفير الإسرائيلي سيمحا دونتز إيقاظ كيسنجر بإلحاح حتى أن كيسنجر رد عليه بغضب بما معناه أن السفير يحاول أن يبدو أمام زوجته قويا ونافذا حتى أنه يستطيع إيقاظ وزير خارجية الولايات المتحدة مرتين !
لكن ومع الإتصال الثالث فى نفس الليلة ومع لهجة السفير التى اكتست بالإنهيار وهو يبلغ كيسنجر أن الأمر لن ينتظر للصباح وأن إسرائيل نفسها قد لا تكون على خريطتها عندما يأتى الصباح !
هنا استيقظ كيسنجر ليستمع للصدمة المهولة التى ألقاها السفير الإسرائيلي فى أذنيه عن خسارة أول أيام القتال وكيف أن إسرائيل فقدت 49 طائرة منها 14 طائرة تم تدميرها على الأرض , وأن خسائرها من الدبابات بلغت 400 دبابة على الجبهة المصرية وحدها وعلى الجبهة السورية بلغت 100 دبابة ,
ليس هذا فقط ..
بل إن معدل الخسائر فى ارتفاع مستمر حتى أن الإحتياطى المخزن من السلاح أوشك على النفاذ بينما العتاد المصري والسورى لم يبلغ معشار الخسارة الإسرائيلية ولا زالت قوتهم المدرعة شبه كاملة وهى تتم العبور إلى الضفة الشرقية !
وطلب السفير من كيسنجر إخفاء هذه المعلومات نظرا لأن الدول العربية التى لم تشارك بعد بالقتال لو علمت بحجم الخسائر ستشترك وتفتح جبهات أخرى فى ظل هذا الوضع المتردى !!

ويستمر كيسنجر فى مذكراته فيصف إجتماعه بالسفير الإسرائيلي دونتز وملحقه العسكري مردخاى جور بأنه كان اجتماعا قلب الموازين حيث أن سرعة حاجة إسرائيل للسلاح تسببت فى إرباكهم فكل إستراتيجية الولايات المتحدة كانت مبنية على أن إسرائيل تستطيع تحقيق نصر سريع أو فى جميع الأحوال تستطيع الصمود !
أما الآن ونظرا لأن الأسلحة الثقيلة تحتاج لأسابيع حتى يمكن أن تدخل فى جبهة القتال فإن هذه الحلول كلها أصبحت هباء منثورا ويجب إيجاد حل سريع وحاسم ينقل السلاح بالسرعة المطلوبة
ويسجل كيسنجر فى مذكراته أن إنتصار العرب بسلاح سوفياتى كان أمرا لا يمكن أن تقبله الولايات المتحدة ولهذا وفور بدء الجسر الجوى يجب أن تقوم إسرائيل بتحقيق الإنتصار ولو على إحدى الجبهتين قبل أن يتمكن الطرفان من تثبيت أقدامهما على حقائق الواقع
واتصلت جولدا مائير بكيسنجر عارضة الحضور إلى الولايات المتحدة لتحفيز نيكسون على الإستجابة السريعة , ورفض كيسنجر إذ أن ابتعادها فى ظل تلك الظروف أمر غير مطلوب وأنه ـ أى كيسنجر ـ سيتخذ اللازم
كما أن الزيارة مهما اتخذوا من التدابير لكتمانها فستتسرب أخبارها لزيد من تعقيد الموقف



الهوامش :
[1]ـ سنوات الفوران ـ مذكرات هنرى كيسنجر ـ الطبعة العربية

محمد جاد الزغبي 10-22-2010 01:23 AM

وكان كيسنجر قد غير وجهة نظره في صمود إسرائيل تغييرا نسبيا لكنه ظل على ثقة أنه لو نفذ الجسر الجوى كما يجب فستتمكن إسرائيل من إسترداد ما خسرته وتلقن العرب درسا قاسيا ,
وكان من الواضح أن عدم إحتكاكه المباشر حتى هذه اللحظة بالإسرائيليين منعه من تصور حقيقة الصدمة ومدى ما يتعرض له الإسرائيليون من قتال هذه المرة ,
وهو ما عبر عنه كيسنجر في مذكراته عندما زار إسرائيل بعد ذلك في يوم 22 أكتوبر حيث هاله ما رأى وسجل عدة انطباعات كان مفادها [1] :
( أولا : لقد أحس منذ لحظة وصوله أن صلابة إسرائيل تم اختبارها وأنها على وشك الإنكسار وأن الجميع بمن فيهم الجنود في مطار بن جوريون كانوا متلهفين لوقف إطلاق النار
( هذه النقطة وحدها تكفي للرد على كل المزاعم التي قالت بأن إسرائيل كانت ستحقق النصر لولا وقف إطلاق النار !)
ثانيا : لاحظ أن الجنود الذين تجمعوا في المطار راحوا يصفقون له وقد وصفهم بأنهم كانوا رجالا على حافة كارثة وقد أنهكتهم الحرب ولمعت الدموع في العيون وهم يتصورونه ـ أى كيسنجر ـ منقذا ومخلصا لهم , وأضاف كيسنجر
( إن هؤلاء المساكين كانوا في آخر حدود الإحتمال الإنسانى )
ثالثا : إنه عندما التقي بالقادة الإسرائيليين وبينهم جولدا مائير وكبار الوزراء والقواد العسكريين قد أحس أن التجربة العنيفة التي مروا بها أثرت على ملامحهم وتركيبهم البدنى فبدوا أكبر عمرا وأنهم حاولوا التظاهر أمامه بالثبات إلا أن الإهتزاز كان واضحا له هذه المرة مختلفا عن كل مراحل الثقة السابقة
رابعا : أنه شعر تحت السطح الإسرائيلي بانكسار يصعب إخفاؤه , فهالة الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر جرى تدميرها تماما في أول أيام الحرب ) .. انتهى كلام كيسنجر ,

ولا شك أن هذا الإنطباع أصابه بصدمة لا سيما وأنه كان في الأيام السابقة قد دخل معارك رهيبة لتنفيذ الجسر الجوى بالصورة التي ظهرت وتوقع لها كيسنجر أن تغير معالم الصراع , لكنه فوجئ بالنتيجة
فمنذ أن تلقي كيسنجر في التاسع من أكتوبر تقرير السفير الإسرائيلي عقد اجتماعا لمجموعة العمل الخاصة بالخارجية والبيت الأبيض وكان النقاش يدور حول إن كانت الإمدادات سيتم إرسالها ـ كما هو جار الآن ـ على طائرات شركة العال الإسرائيلية أم أن الأمر يقتضي سرعة وكثافة الإرسال ولو على طائرات أمريكية بجسر جوى مباشر إلى ميدان القتال مباشرة ,
وفى مساء التاسع من أكتوبر أصدر نيكسون قراره بإنشاء الجسر الجوى وكان يتضمن الآتى :
( قررت الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بجميع المعدات والأجهزة الإليكترونية وقطع الغيار المطلوبة ـ عدا قنابل الليزر ـ كما تقرر تزويد إسرائيل بدبابات متقدمة من طراز إم 60 بالإضافة إلى الطائرات من أحدث الطرازات الهجومية فضلا على التزام الولايات المتحدة لإسرائيل بتعويضها المتجدد لكل خسائرها فى القتال )

والمتأمل فى القرار ـ الذى تم تطبيقه وأكثر أيضا ـ يدرك أن إسرائيل فى تلك المرحلة كان لها أن تقامر كما تشاء بالأسلحة فى ظل الضمان الأمريكى لها بالتجديد التلقائي لأى خسارة تلحق فيها ,
ليس هذا فقط ..
بل أصبحت مخازن الجيش الأمريكى مفتوحة الأبواب أمام الأسلحة غير التقليدية التى لم تنزل مسرح القتال من قبل ولم يكن متصورا لها أن تنزل فى ظل توازن القوى العظمى التى يقتصر على تزويد الأطراف المتحاربة بطرازات محددة من الأسلحة لا ترقي إلى أسلحة الجيوش الأمريكية والسوفياتية
وهو الأمر الذى التزم به الإتحاد السوفياتى , بل وبالغ فى التزامه حتى أنه لم يزود العرب بأسلحة هجومية أو دفاعية متطورة يمتلكها بالفعل , بعكس الولايات المتحدة التى تفوقت كما وكيفا فى تحد سافر للإتحاد السوفياتى ضمانا للمعادلة التى أعلنها كيسنجر أن الولايات المتحدة تضمن التفوق الإسرائيلي كما ونوعا فى التسليح على العرب مجتمعين ,
فوق هذا كله ,
كان القرار يقتضي أيضا سرعة الإرسال بجسر جوى وبحرى مباشر يضمن وصول السلاح الأمريكى فى أقصي وقت
وعليه ,
تقرر تزويد إسرائيل بهذا الجسر من مخازن وزارة الدفاع الأمريكية ومن القواعد الأمريكية فى أوربا والبحر المتوسط أيضا لضمان سرعة الوصول , مع استخدام طائرات النقل المدنية الأمريكية والإسرائيلية فضلا على الأسطول البحرى
بالإضافة إلى أن طائرات النقل العسكرية الأمريكية كانت تنقل بعض المعدات المطلوبة إلى جزر الآزور ومنها تأخذها طائرات شركة العال إلى ميدان القتال تقصيرا للوقت ,
أى أن الجسر الجوى والبحرى لم يكتف بطريق واحد أو مجال واحد بل تعددت طرقه ومجالاته بكل جهد استطاعت الولايات المتحدة أن تحققه باستخدام الطائرات العسكرية الأمريكية وسفن النقل البحرى بالإضافة إلى معاونة طائرات العال وتقصير المسافة عليها ,
مع استخدام الإحتياطى الإستراتيجى فى القواعد الأمريكية فى أوربا لقربها من ميدان القتال !
وابتداء من العاشر من أكتوبر استمر الجسر الجوى والبحرى بشكل بلغ من الكثافة حدا أنه لم تمر ساعة واحدة من هذا اليوم وحتى نهاية لقتال إلا وهناك أطنان من الأسلحة تدفعها السفن أو الطائرات إلى العريش مباشرة لتنزل إلى ميدان القتال سريعا بعد وضع العلامات الإسرائيلية عليها وأحيانا نزلت بعض الدبابات دون الشعار الإسرائيلي أصلا !
ومن خلال الغنائم التى غنمتها القوات المصرية وقعت بعض دبابات العدو وهى جديدة لامعة وعداد الكيلومترات لم يسجل إلا المسافة من العريش إلى ميدان القتال فحسب !!

ومن خلال تقرير مراقب الحكومة الأمريكية فى لجنة الإحصائيات العسكرية بخصوص الجسر الجوى لإسرائيل أثناء حرب أكتوبر .. ننقل بعض فقرات هذا الجسر لنتعرف مداه [2] :
أولا : استخدم الجسر الجوى الأمريكى لإسرائيل خلال 33 يوما كاملة , حوالى 228 طائرة متفاوتة السعة من طرازات س 5 وس 141 فائقة الحمولة ,
ثانيا : نفذت هذه الطائرات 569 طلعة جوية نقلت 23 ألف طن من الإحتياجات العسكرية
ثالثا : قامت الطائرات الإسرائيلية المشاركة في الجسر الجوى بنقل 5500 طن أخرى من المعدات
رابعا : أما المعدات الثقيلة فقد تكفل بها الجسر البحرى الذى نقل 74 % من الإحتياجات , وبلغت ضخامة الجسر البحرى حدا أن أول سفينة وصلت لإسرائيل كانت حمولتها وحدها 34 ألف طن من المعدات !
خامسا : تكلف الجسر الجوى والبحرى لمصاريف النقل فقط حوالى 88.5 مليون دولار بخلاف ثمن المعدات
سادسا : كانت أبرز مراحل المجهود للجسر الجوى وأكثرها تركيزا في الفترة من 14 إلى 22 أكتوبر وهى المرحلة التي طور فيها المصريون هجومهم نحو المضايق ليفاجئهم السلاح الأمريكى الجديد والذي عطل كثيرا من تقدمهم

وكما سبق القول ,
لم تكن خطورة الجسر الجوى المستمر في ضخامته الهائلة بل أيضا في نوعياته التي اشتملت على أسراب كاملة من الطائرات الفانتوم وسكاى هوك والهليوكوبتر والدبابات المتطورة , فضلا على أعداد مماثلة من أسلحة لم يسبق لإسرائيل الحصول عليها مثل القنابل التليفزيونية المتطورة وقنابل ( جو / أرض ) ونظم كاملة للدفاع الجوى من طراز فولكان وشابرال ,
هذا فضلا على سلاح من أخطر أسلحة الحرب وهو صواريخ من طراز تاو المضاد للدبابات والمحمول على هيلوكوبتر والذي يعتبر أفتك سلاح حربي ضد الدبابات والمدرعات فضلا على أنواع جديدة من المدفعية بعيدة المدى وطائرات النقل والإبرار الجوى وأجهزة التشويش والتصنت ,
وختمت الولايات المتحدة جسرها الجوى بطائرات كانت تصل بطياريها جاهزة للقتال الفورى ,
فضلا على وضع الولايات المتحدة طائراتها المخصصة للتجسس ( طائرات بدون طيار وتسير بثلاثة أمثال سرعة الصوت وهى من طراز إس آر 71) لخدمة إسرائيل وقامت هذه الطائرات بمسح الجبهة شمالا وجنوبا بأمان تام وتصويرها بدقة شديدة تكفل لإسرائيل بناء خططها المضادة على حقائق الأمر الواقع دون حاجة لفرق إستطلاع أو مخاطرة أو فرصة خطأ ولو بنسبة 1 %
وقد حاولت وسائل الدفاع الجوى المصري التصدى لهذه الطائرات إلا أنها لم تنجح بالطبع لأن مدى ارتفاعها وسرعتها المهولة كانت فوق ضعف قدرة الصواريخ المصرية
وكانت خدمات طائرات التجسس والأقمار الصناعية هى السبب الرئيسي الذى تمكنت به إسرائيل من كشف نقطة الإختراق عند الدفرسوار فيما بعد
وبينما كانت القيادة المصرية في المركز رقم 10 تستعد لتطوير الهجوم نحو المضايق بلغتها أنباء طائرة التجسس التي مسحت الجبهة بأكملها , وتساءل القادة عن سر عدم إسقاطها فأجاب قائد الدفاع الجوى أن مدى صواريخنا لا يطولها بأى حال !
فصمت القادة والضيق يملأ نفوسهم لأن جميع خطط الحشد المصري واستعداده القتالى فضلا على توزيع قواتنا , كل هذا أصبح كتابا مفتوحا أمام إسرائيل[3]
هذا في ظل إمكانيات الجيش المصري العادية التي كانت ـ رغم تطور بعض أنواعها ـ قاصرة أصلا عن التسليح الإسرائيلي حجما ونوعية , فما بالنا بما أصبح عليه الميزان العسكري بعد هذا التفوق الإضافي في الجسر الجوى والذي نزلت به أسلحة متقدمة توفر القدرة البشرية لإسرائيل إلى أقصي مدى وتضمن لها تفوقا نوعيا في تركيز السلاح وضرباته ,
وبينما كانت المعدات الإسرائيلية يجرى تعويضها خلال ساعات من تدميرها كان الجيش المصري يقاتل باحتياطيه الإستراتيجى ولم تصل الإمدادات إلا في نهايات الحرب , وحتى هذه الإمدادات اقتصرت على بضع مئات من الدبابات في ظل نفس النوعية السابقة دون أن يورد الإتحاد السوفياتى تعويضا للخسائر المصرية كما هو الحال مع إسرائيل , فضلا على امتناعه التام عن مد مصر بأى سلاح إضافي يمكنها من مواجهة الأسلحة الجديدة من صواريخ تاو أو القنابل التليفزيونية أو غيرها

لكن ورغم كل هذا التفوق الكمى والنوعى والبشري الذى مال لإسرائيل فقد استمرت الإنتصارات المصرية تمنع إسرائيل من أى تقدم أو هدف ملموس ولم تنجح في زحزحة القوات المصرية شبرا واحدا للخلف , كما سنرى





الهوامش
[1] ـ مذكرات هنرى كيسنجر ـ الجزء الثانى
[2] ـ مذكرات اللواء الجمسي ـ مصدر سابق ـ نقلا عن التقرير الأمريكى
[3]ـ مذكرات اللواء الجمسي ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-22-2010 01:25 AM

المرحلة الثالثة من الحرب :


تعتبر هذه المرحلة من الحرب أيضا ضمن المراحل التي جرى فيها جدل كبير بين العسكريين والسياسيين , ليس على مستوى العالم الخارجى بقدر ما هو في إطار العالم العربي تحديدا ,
وهذا أمر طبيعى لأن العالم العربي في العادة تحكمه الميول والأهواء ـ إلا فيما ندر ـ بينما عالج المحللون الغربيون مراحل الحرب كلها بشيئ كبير من الحيادية
والنزاعات السياسية والإختلاف مع الأنظمة الحاكمة كانت السبب الأقوى في انتشار بعض وجهات النظر الخاطئة , وعدم الإنصاف في التقدير لا سيما في ظل اعتراف العدو نفسه بمدى التفوق الذى حققته القوات المصرية ,
فهذه النزاعات السياسية وقفت خلف كثير من الإنتقادات المصطنعة التي لم يكن لها أثر في كتابات العدو أو اعترافاته , ولو صحت لكانت انتصارات يجب أن يفخر العدو بها !
فليس معقولا أن يترك العدو أمرا يري فيه انتصارا له ويسقطه من حساباته لا سيما في ظل الصدمة التي تلقاها
ولهذا بدا غريبا جدا أن يتحدث البعض عن فرص ضائعة فى حرب أكتوبر وعن قرارات حملت بعض النجاح للإسرائيليين بينما الإسرائيليون أنفسهم رأوا فى نفس تلك النقاط هزائم مروعة لهم !
ولست أدرى ما الذى يمكن أن نطالب به القوات المصرية أكثر مما حققته فعلا , بعد أن انتصرت انتصارا ساحقا فى 51 معركة من مجموع معارك الحرب البالغ عددها 64 معركة ( والمعركة هى التى تشارك فيها قوات لواء أو أكثر من كل جانب ) وتمكنت القوات المصرية من السيطرة والإحتفاظ على رقعة أرض بطول 185 كيلومترا وبعمق 15 كيلومترا


وهناك أيضا سبب آخر غير سوء النية الكامن وراء الخلافات السياسية , سبب يكمن في حسن النوايا ,
ذلك أن بعض المحللين ممن انتقدوا مرحلة تطوير الهجوم المصري نحو الشرق والذي بدأ في 14 أكتوبر وبالغوا في عرضه وانتقاده كما بالغوا فى انتقاد الوقفة التعبوية وغيرها
وقعوا تحت تأثير مخالف للمنطق الواقعى ,
ذلك أنهم ـ من مكاتبهم ـ أصدروا الأحكام وأبرزوا الأخطاء متناسين أنهم يحكمون الآن على واقعة اتضح ـ بعد مرور السنوات ـ كل شيئ حولها وتوافرت المعلومات بشكل مكثف فضلا على أنهم يصدرون الحكم من موقع الأريحية لا من موقع القتال حيث يكون مطلوبا من القيادة العسكرية سرعة اتخاذ القرار في أقل مدى معلوماتى ممكن وأقصر وقت متاح ,
فكان يجب على المنتقدين أن يراعوا تلك النقطة الجوهرية فضلا على مراعاة نقطة أكثر جوهرية وهى أن الحكم على واقعة معينة بالخطأ أو الصواب إنما يكون في إطار نسبة الخطأ البشري التقليدى
فلو كانت الأخطاء من هذا النوع فهى ليست أخطاء لأنه ما من عمل إنسانى في الوجود يمكنه أن يحرز النجاح بنسبة مائة في المائة على طول الخط ,
وإنما يمكننا انتقاد الأخطاء إذا كانت من الفداحة بحيث أن تلافيها كان ممكنا وواقعا , ومدى فداحتها يفوق كثيرا ما يمكن احتماله كخطأ له تبريره المنطقي
فمثلا حشد القوات المصرية في حرب يونيو لمجرد صنع مظاهرة عسكرية إعلامية دون نية جدية في القتال هو خطأ أو خطيئة لا يمكن قبول التبرير فيها أيا كانت الدوافع ,
أما الخطأ الذى يقع من أى قيادة في شأن معركة من معارك الحرب الناجحة كحرب أكتوبر فهى أخطاء محتملة ومبررة
وبالطبع ليس معنى هذا عدم الإشارة إلى الأخطاء بشتى أنواعها , ولكن الإشارة إلى الأخطاء والقرارات الأصوب التي كان من الممكن اتخاذها شيئ , والمبالغة في تقدير حجم الأخطاء شيئ آخر
فذكر الأخطاء والسلبيات تذكرة واجبة , أما المبالغة فيها فيدخل في باب التجنى
ولكن حماسة النجاح المبهر الذى تحقق في الأيام الأولى للقتال خلال المرحلة الأولى والثانية دفعت البعض من المحللين إلى اعتبار مستوى النجاح فقط على هذا المستوى وعدم الاعتداد بأى نجاح جزئي بل اعتبار النجاح الجزئي فشلا ذريعا !


هذا بالضبط ما حكم نفسية المحللين الذى تعرضوا بالنقد القاس لمرحلة تطوير الهجوم نحو الشرق فقد أرادوها عملية مبهرة فائقة النجاح على نفس مستوى الأيام الأولى للقتال ولهذا اعتبروها عملية فاشلة رغم أن مقاييس الأرباح والخسائر ومدى تحقق الهدف الإستراتيجى من التطوير كان يميل لصالحنا على العدو ,
ولكن لأن الخسائر المصرية برزت في تلك الفترة ـ وإن كانت أقل من خسائر العدو قطعا ـ فقد اعتبرها المحللون المنتقدون خطوة غير ناجحة لأن نجاحها الجزئي لم يقنعهم , رغم أنه قوات العدو المدرعة كانت تتفوق علينا بمقدار الضعف
وهذا لا شك أنه ظلم فادح للقادة المشاركين والجنود المجاهدين إذ أنه ليس مطلوبا منهم أن يحققوا المستحيل عدة مرات على امتداد أيام الحرب !
فقد كانت انجازات أيام القتال الأولى تعدت حاجز المستحيل عندما تمت بخسائر لا تتعدى 2 % بينما المعدل الذى كان متوقعا يبلغ 40%
أى أن قواتنا لو حققت ما حققته في الأيام الأولى بمعدل خسائر 40 % في الأفراد والمعدات لتم اعتبار ذلك نجاحا تاما وتحقيقا للهدف الإستراتيجى الأول بعبور القناة وتحطيم خط بارليف
فما بالنا وقد تجاوزا القدرة البشرية فحققوه بمعدلات خسائر 2 % فقط
فكيف يمكن أن نلقي عليهم باللائمة في المراحل المتقدمة من القتال لو ارتفع معدل الخسائر إلى معدله الطبيعى المتوقع وفى ظل تحقيق الأهداف الإستراتيجية المطلوبة ! ؟!


ولم يكن معدل الخسائر الذى ارتفع على نحوه الطبيعى المتوقع ذنبا للمقاتلين , بل كانت الظروف في القتال قد تغيرت بعد نزول الأسلحة الأمريكية الجديدة التي تم استقدامها خصيصا لمواجهة عناصر القوة التي تميز بها المصريون في بداية القتال
وأهمها تفوقهم الرهيب في قتال المدرعات وحسن استخدامهم للمشاة حاملى صواريخ آر بي جى
فنزلت صواريخ تاو الأمريكية للساحة والتى تتفوق بمراحل على صواريخ آر بي جى ولا تحتاج التصويب والمعاملة اليدوية التي تحتاجها الصواريخ السوفيتية المحمولة ,
فكان من الطبيعى أن يرتفع معدل خسائر الدبابات المصرية ويقل مستوى أداء الأفراد بعد استخدام الإسرائيليين للدبابات الحديثة الطراز المزودة بأضواء الزينون المجهزة لإغشاء بصر المقاتلين المصريين ومنعهم من حسن التصويب
فنجح هذا الأسلوب في تخفيف قدرة المقاتلين على صيد الدبابات كما كان الحال أول أيام الحرب لأن صواريخ آر بي جى ومولوتكا تحتاج من المقاتل دقة تصويب عالية حتى يمكنه تعطيل دبابة العدو ولابد له أن يصيب الجنزير مباشرة أو يصيب برج الدبابة ولو أصاب أى جزء آخر فلن تتوقف الدبابة ,
بعكس صواريخ تاو الموجهة إليكترونيا التي كان بإمكانها حصد الدبابات حصدا ,
ورغم كل ما حدث فلم تزد خسائر الدبابات المصرية في مرحلة تطوير الهجوم عن 250 دبابة فقط خسر العدو أمامها ـ رغم التفوق التكنولوجى ــ ما يزيد عليها فضلا على أنه خسر 400 دبابة كاملة في يوم واحد أثناء توجيهه للهجوم المضاد الفاشل السابق الحديث عنه ,
فبلا شك أن معدل الخسائر هنا مقبولا بل ممتازا في ظل هذا التفوق النوعى الرادع وفى ظل استعداد العدو لأسلوب المقاتل المصري واتخاذه التدابير لمواجهته بعد أن أصبحت له خبرة بهذا الأسلوب خلال أيام الحرب الأولى ,

هذا من ناحية معدل الأرباح والخسائر ,
ومن ناحية تحقيق الهدف الإستراتيجى من عملية تطوير الهجوم فقد تحقق إلى حد كبير
لأن التطوير الذى تم تنفيذه لم يكن الهدف منه هو هدف الخطة باحتلال المضايق بل كان عملية سريعة لتخفيف الضغط على الجبهة السورية وهو ما تم بالفعل بعد أن قام العدو بتوجيه قوته الجوية الضاربة للجبهة المصرية ,
هذا مع تسليمنا الكامل أن قرار تطوير الهجوم بالطريقة المتعجلة التي تم بها لم يكن من الأصوب فعله ,
إلا أنه أيضا لا يمثل تراجعا أو تدنيا في المستوى والدليل على ذلك أن الهدف النهائي للحرب تم كاملا وحافظت مصر على مكاسبها من القتال حفاظا تاما واستردت سيناء عن طريق إلحاق العمل السياسي بالجهد العسكري الذى تحقق على الأرض , وكانت أرض سيناء هى الأرض الوحيدة التي دخلتها إسرائيل ثم انسحبت منها كاملة


الساعة الآن 11:01 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team