منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   ليلة ضاع فيها الرغيف (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=11756)

انمار رحمة الله 08-20-2013 06:53 PM

ليلة ضاع فيها الرغيف
 

الذاكرة مرفأ الخيالات، يعصف بحرُها ويستكين. يقلّبُ الماضي على راحتيها الأوجاعَ/الأماني/البكاء/الشعور التائه في عالم أثيري عميق. فصعبٌ هو مصارحةُ الذات، والأشدّ صعوبة الاسترسال في عدم نكران الواقع. وخصوصاً إن من تخصّهُ الحكاية رجلاً ستينـياً يـودّع زمنا ً غابرا ً، ويمارس الحياة في بساطة مألوفة لعمره الشائخ. الشتاءُ عانق المدينة، طابعاً على خدها الأسمر قبلاً باردة. كنت طفلاً أراه كالباقين قرب المدفأة،يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظاراً بعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة. كنتُ أراقبه عن كثب حين يبكي من دون سبب، خافياً بكاءَهُ عن الكبار، ومسترسلاً في دموعه أمامي غير آبه، بحكم أني صغير وغير مكترث لدموع رجل عجوز، وهو الآخر ينظر اليّ النظرة ذاتها دون اهتمام.
مازلتُ اتذكّرُ صوته البعيد، وارتعاشَ يدهِ الشائخة. سألني ليلتها عن حال المدرسة وهموم المذاكرة، وكفي تخطُّ على الورقة خطوطاً لا اعرفُ مغزاها، سوى أن الحركةَ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعتين "بخير" أجبته ببساطة.
صمتَ برهة فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي :-
- جدي ..جدي..لماذا تبكي .؟!
بانتْ ابتسامةٌ على وجههِ المتعب ،ثم ربّتَ على كتفي، اعتدلتُ في جلستي وبدأت أطالعُ قسماتِ وجههِ وهو يزفرُ تأوهاً حين ذكر "الماضي" وقصةً أشرقَت في كلامِهِ كشمس خجــولة .
توسّـلتُ إليه راجيا ً أن يقـصّها لي، فما هي إلا ثوانٍ وانفرجتْ الستارةُ في مسـرحِ الـذّاكرة معلنةً هي الأخرى تأوهات خفية في اللاشعور حيثُ استطردَ قائلا ً:
- حين كنتُ شابا ًوكان علي لزاما ًأن أكملَ خدمتي العسكرية ،تعلـّقتُ بصديقٍ حنون لي في تلك المحنة.
قاطعته ُ مستفسرا ًعن اسم صديقه فأجاب:
-لا يهمنا اسمه، فالأسماء لوحات رخام نخفي تحتها قبورَ الأرواح ) لم افهمه في تلك اللحظة وتركته يكمل حديثه مبحراً :
كان صباحنا يعلنُ بدايةَ يوم شتوي جديد، وكانتْ الطيور تحلـّقُ فوق كتيبتنا ، تطالعُ تدريباتنا الصباحية الرتيبة، نقفز ونتمرن ونهرول غير آبهين بالبرد، كنّا متحابين تجمعنا شفافية الوئام والحب والصفاء. كنتُ وإياهُ بمنأى عن الباقين، فقط ْأنا وهو؛ نأكلُ وننام ونحكي وقتَ الغروبِ حكايات عن مدننا وقرانا البعيدة، فتارةً يحكي لي عن حبٍ أرّقهُ، وتارةً أحكي له مشاعري وحكايات حب انتهتْ يوماً ولم تفلحْ. كانتْ حياتنا سعيدةً بالرغمِ من تعاسةِ المكان، وتكالبِ الهمومِ الوطنية التي جمعتنا في معتقلِ الرتابة والواجب.
اعتدلتُ في جلستي بعد أن رَعدتْ السماء، نظرت إلى وجه جدي الخافت مستفسراً في استغراب:
- ولكن يا جدي ماالذي يبكيك في هذه الحكاية .؟
وضع الرجل العجوز نظارته على الطاولة المجاورة، ثم فرك عينيه بهدوء مستذكراً :
- مرتْ علينا ذاتَ شهرٍ أيامُ جوعٍ وقحطٍ، بسببِ بعد موقعنا البائس، فتكالبُ الطـقسِ علينا قطع الإمدادات من معونةٍ وإعاشةٍ دورية، وتكفـّلَ الشتاءُ بالباقي، حين أذابَ ما أخفيناه من طعام وشحوم وعزيمة، وبعد أيام ظهرتْ بوادرُ الخير حين لاحتْ لأعيننا مركبةُ الإعاشة من بعيد، عادتْ كـ (سانتا كلوز) محملةً بالهدايا للجائعين. في يومها لم تسعنا الفرحة، لقد كنـّا على مشارف الموت نتيجة الجوع، قلت لصديقي "سوف نأكل حتى نموت من الشبع" ضحكَ صديقي وحمدَ اللهَ بوجودي معه في محنتنا تلك. وصلت المركبةُ المتهرئةُ إلى باب الكتيبة اليتيمة،ثم اغلق السائـقُ باب َ المركبة بقوة ،و سـلّمَ على الموجودين، قاصداً مقرّ الإعاشة، ومبلغا ً أن ما بحوزتهِ أرغـفة خـبز لا أكثر، صُعـِقَ الجميعُ بهذا الخبر القاتل، وتنازلَ بعضُهم عن نواميسه الكبرى كافراً بكلّ مقدّسٍ في الوجود، واستغفرَ بعضُهم ربَه صابراً على ما أصابه من ضـيم ٍ، وأنا وصديقي نتفرج على مهزلةِ الجوع الأليمة، لا نعرفُ أنبكي.؟ أم نضحكُ...؟
وُزِّعَتْ أرغفةُ الخبز حيثُ أخذ الآمرون حصتهم المألوفة، ومن ثم تمَّ توزيع الباقي على من لهُ يدٌ وذارع مفتولة ولسانٌ فاتك. همسَ صديقي في أُذني (سوفَ اجلبُ لنا رغيفين نخرس بهما جوعنا ) هرولَ إليهم مسرعا ً علَّه يخطفُ قرص رغيف بائس، أنا لم أفعلْ شيئاً سوى رجوعي إلى قاعة المنام منتظراً الموتَ أو وصولَ قافلة إمدادات أخرى. عادَ صديقي مبتسماً وبحوزته قرصُ رغيف واحد، جلسَ قربي وهو يحكي قصةَ مغامرتِهِ للحصولِ على الجائزة، ومصارعةِ الباقين وخطف لُقيمات تخرس صوت الألم في غابة الجوع المظلمة. وضعَ الرغيفَ أمامي طالباً مني الأكل، ولكني رفضتُ معلناً صبري على الحال، متعاطفاً معه ، فقرصُ رغيفٍ واحد لا يكفي لرجلين، توسّلَ بي أن أشاطره فرفضتُ مجدداً، وأخبرته أني سوف احصلُ أيضا على قرصِ رغيف آخر، ثم خرجتُ ولعلَّ في خروجي أملاً وجدوى. تركته وحيداً فـَرِحـاً بالنصر، فلمْ نحاربْ في تلكَ الكتيبة عدواً إلا الجوع، وقد هـُزِمْنا شرَّ هزيمة.
عدتُّ إليه صفر اليدين، سألني باستغراب(هل حصلت على شيء.؟ فأجبته نعم)، ولم أخبره أني مهزوم رجعت، سألني عن رغيفي فأجبته( أكلته في الطريق).
خيّمَ الليلُ وشيكا ً خافياً تحتَ لحافـِهِ أنـّات ٍ متفرقة لبعض الجائعين، مثلي طبعاً لم يفلحوا بالوصول إلى بغيتهم، صديقي أخفى رغيفه في حقيبته البسيطة، ثم توجَّه للصلاة شاكراً ربَه على ديمومة ِالحياة، كنتُ أراقبه عن كثب، فقد أوصاني ألاَّ أفارقَ الحقيبة، وخصوصاً أن فيها بعضَ ما يملكُ من أشياء، وأهمها رغيفُ الخبز الثمين.
أكملَ صلاته وشكرني على صبري، ثم توجهت أنا بدوري إلى خارجِ المكان لقضاء بعض الأشياء، وإذا بصوت صديقي يعلو من داخل القاعة، رجعت راكضاً إليه .. ماذا حصل ... ماذا حصل.؟)سألته في عجلٍ فأخبرني أن رغيفه سُرِقَ، سألتـُهُ هل رأيتَ الشخص الذي أخذه .؟قال ..لا لم أرَه ). بدأ صديقي يسأل الباقين، يستحلفُ هذا ويقسم على هذا، من أخذ قرصي الوحيد) يصيح بصوتٍ عالٍ، بدأ يفقدُ أعصابَه/يشتم/يبصق /يلعن سارقَ الرغيف، والكلُ في صمتٍ نائمون /مستسلمون للجوع والقدر. سألته هل وضعته في مكان آخر .؟ أجابني بـ( لا ..لا) .
رجعَ صديقي إلى فراشِه مستسلماً هو الآخر للجوع، وغطَّ في نومِه كعصفورٍ مكسور الجناح.في تلك الليلة الكلُ نام في هدوء، إلا إنا بقيتُ ساهرا ً حتى الصباح أستشعر أسرابا ً من الملائكة تهبطُ على قاعة المنام، حاملةً روحَ صديقي العزيز إلى عالمٍ أنقرضَ فيه الجوع والحسد والأنانية، لم اعرفْ ليلتها هل رحل بسبب الجوع .؟ الألم.؟ أم الضياع والحُرقة ؟ نعم سهرتُ ليلتها وأصبحتُ بلا صديق ... بلا رفيق، لقد رحل إلى عالم الخلاص.وتركني وحيداً أمضغ آلامي وأرى أيامي تتآكل حزناً وندماً. رحل ذاك الصديق ،ولم يشبعني رغيف العالم كله، ومصيري أن أظل جائعاً إلى صديق حنون.
توقف جدي عن الكلام سارحا ً في عالم ٍ بعيد، فانبريت له سائلا ًبفضولٍ شديد:
- ولكن .. يا جدي هل عرفت من سرقَ قطعةَ الرغيف..؟
نكّسَ رأسه بحزنٍ عميق، ونَبس في استحياءٍ كالأطفال مشيرا إلى صدره :
- أنا

ايوب صابر 08-21-2013 04:44 PM

سبق ان قرأت قصة الرغيف هذا ولكني لا اذكر اين ومتى..على كل حال هذه القصة مكتوبة باحتراف واتقان شديدين ولا شك ان العنصر الجمالي الاهم فيها تلك الحياة التي تنبض من بين الكلمات والسطور كنتيجة لما حشده الكاتب من صور وتشخيص وحوار واستثمار للنقائض.
قصة رائعة فيها وصف جميل للغاية وعبارات غاية في البلاغة والتأثير.
نحتاج للتعمق في هذه القصة لتبيان عناصر الروعة والجمال والتأثير واقترح على الاستاذة صفاء تثبيتها حتى نتيح المجال للغوص في اعماقها واستخراج ما فيها من عناصر جمالية فهي في مصاف القصص العالمية على ما اعتقد.

راما فهد 08-21-2013 06:51 PM

رائعة وأكثر
مؤلمة حد الشهقة

آه من عقدة ذنب لا تفارقنا

تستحق الوقوف والتصفيق الحار

ايوب صابر 08-22-2013 03:40 PM

قراء نقدية للقصة بقلم الاستاذ عمر مصلح


قراءة أولى في قصة (ألليلة التي ضاع فيها الرغيف) للقاص أنمار رحمة الله


عمر مصلح

12/07/2013
قراءات: 179
ألخاتمة فن قائم بحد ذاته.. وبإمكانها قتل النص تماماً فيما إذا اشتُغِلت بعشوائية أو أسلوب غير مدروس..
وهذا ما أدركه مبكراً أنمــار رحمـة الله بالإشتغال عليها كوحدة مستقلة.. لابمعنى الإستقلالية المتجردة، بل أنها تتضمن الثيمة والإبهار.. أي أنه لم يمهد لها، بل جعلها كما تحدثتْ عنها القاصة سولاف هلال.. ضربة قصمت ظهر الاسترخاء.
بعد أن اعتمد التلقائية في كل مفاصل النص، وترك التدفق التخيلي يستحوذ على حتى الزمان، بعيداً عن التصنع.
وهذا وعي فني كبير، بل ومذهل.. حيث انتعشت اللذة القرائية بها.
وصعوداً إلى جسد النص نجد أن رحمة الله اعتمد على الطبيعة البشرية والمسعى الإنساني من جهة، والصراع الغريزي من جهة أخرى، بخلق عدة مستويات بنائية.. فما أن يخلق هدنة بين الحدث، والقارئ، حتى يعود للطفل الذي يُعتبر هنا بمثابة المحفز على البوح.. وما اختزنه من صور حسية تترجمت إلى إسئلة، مسَتفَزة مُستفزِة للإنثيال، بعفوية بريئة.
ولم يلجأ إلى الراوي العليم إلا في التمهيد، وكان حضوره شبه معوّم.
والذي ومض بفكري، أكثر من مرة، عند القراءة.. ذلك التأكيد على الشتاء.. ( ألشتاء عانق المدينة )، ( كان صباحنا يعلن بداية يوم شتوي ).. وإذا تأملنا النص، لوجدنا أن المكان متغير ولكن الزمان واحد.. وهنا أقصد الفصلية.. أي أنه اشتغل على ثيمة الصقيع في الجبهة، وفي البيت.. ولكوني واثق من أن رحمة الله لا يدع للإعتباط والمصادفة فرصة للتلاعب بمخلوقاته - كونه حاسم لأمره منذ البداية - كان يريد أن يجعل القارئ يعيش حالة معينة.. وأجد أقرب المسوِّغات لذلك هي حالة التشنج، والإنكماش، وكذلك الجوع.. وكلنا يعرف أن الجوع حالة فسلجية تثار بالبرد كثيراً.
وهذا ماجعله يضع الرغيف عنواناً للنص، كونه دال واضح على أنه حاجة أساسية.. ومهم في جسد النص، فهو الدافع كتحصيل حاصل للجريمة.
من هنا بدأ القاص بتسريب بعض أسرار النص، ولكن بحنكة صياد يعي حاجة الطير للحَب، فيستدرجه رويداً رويداً بنثر بعضها في دربه.
ونجح تماماً باستدراجي، وأنا مستمتع جداً.. ليزيح هاجس الملل الذي قد يعتريني أثناء رحلتي مع نصه.
واستطاع بمهارة رسم شخصية الجد نفسياً، حيث يدرك بأن هناك نوعاً من الشعور بالذنب، يسمى الإيجابي الفعّال أو مشاعر الذنب السوية، ذلك الذي يجتهد مخلصاً بعدم العودة إلى فعلة مشينة، وهذه الشخصية ميّالة إلى التأمل، والشرود، والبكاء كلما عنّت عليه الذاكرة بالوجع، وعدم الإقبال على الطعام.. وكل هذا أشار له القاص من خلال تصوير سلوك الجد.
ثمة تركيبة ضمنية غير بائنة، عند القارئ غير المحترف، هي الشخصية المركبة التي يدفعها ظرف معين إلى سلوك يناقض سلوكيته الإنسانية الودودة الفطرية.. وبالعودة إلى متن النص، وتحديداً عند مشهد عودة الجد خائباً، حيث لم يحصل على رغيفه، وبنكران ذات كبير، كذب على صاحبه، ضاغطاً على حاجته الفسلجية.. وهنا تأكيد واضح على تفهم القاص لمايعتري الشخصية من تقلبات، وتمكنه من أدواته ببسالة فذة.
من جهة أخرى أود أن أشير إلى اللغة.. فلغة المبدع كما هو معروف، هي ليست تلك المفردات التي يتناولها الآخر حتى وإن كان مبدعاً علمياً، بمعنى أن الكلمات هنا تتجاوز المعنى التقليدي، باتخاذ وظيفة إشارية أو وظيفة رمزية.. التي يجب أن تقتصر عليها لغة التفكير العقلي أو الأستدلالي، فنلاحظ أن للغة وظائف أخرى يمكن جمعها تحت اسم ( الوظيفة الإنفعالية )، والفرق بين الإستعمال الرمزي والاستعمال الإنفعالي للغة هو - كما وصفه محمد مصطفى بدوي - ( الإستعمال الرمزي للكلام هو تقرير القضايا أي تسجيل الإشارات وتنظيمها وتوصيلها إلى الغير على حين إن الإستعمال الإنفعالي هو استعمال الكلمات بقصد التعبير عن الإحساسات أو المشاعر، والمواقف العاطفية أو بقصد إثارتها عند الغير.
فقولنا ان ارتفاع برج إيفيل مثلاً هو 900 قدم، هو تقرير لقضية، والرمز هنا أما صادقاً أو كاذباً بالمدلول الضيّق للصدق والكذب.. أما حين نقول أن الشعر روح، فنحن لانقرر أية قضية، ولكن بقصد إثارة مواقف عاطفية معينة ).. ومن هنا أقول جازماً أن لغة النص كانت باذخة التوصيل، ومما زادها رونقاً أنها كانت بعيدة عن التوعير.
وأخيراً أقول، كنت أود أن أعرج على البناء، وما إلى ذلك.. لكني ارتأيت أن أتيح الفرصة لأساتذتي الأفاضل، كي يتنفضلوا علينا بشهاداتهم النقدية.
وتحية إكبار للأستاذ أنمــار رحمـة الله.. مع محبتي

ايوب صابر 08-24-2013 12:45 PM

عباس باني المالكي
في قصة (ليلة ضاع فيها الرغيف) للقاص انمار رحمة الله ،نجد أن القصة تتمحور على عدد من محاور منها محور الغرائز البشرية "الجوع" ،ومحور العدالة ،و محور الثقافة ومدى أحياء الضمير الإنساني داخلنا، والجهل وما يسببه من عدم أدراك القيمة الإنسانية( الضمير )
والترابط الجوهري بين الناس،و مدى تقرب النص من ثيمة السرد وحبكتها السردية لأن القاص أستخدم هنا التداعي الذهني الصوري البنيوي والتي على وفقها خلق الجملة السردية من خلال هذه المحاور نستطيع أن نؤشر قيمة النص والمعنى المترتب والإشارة إليه.
المحور الأول _((مرتْ علينا ذاتَ شهرٍ أيامُ جوعٍ وقحطٍ، بسببِ بعد موقعنا البائس، فتكالبُ الطـقسِ علينا قطع الإمدادات من معونةٍ وإعاشةٍ دورية، وتكفـّلَ الشتاءُ بالباقي، حين أذابَ ما أخفيناه من طعام وشحوم وعزيمة، وبعد أيام ظهرتْ بوادرُ الخير حين لاحتْ لأعيننا مركبةُ الإعاشة من بعيد، عادتْ كـ (سانتا كلوز) محملةً بالهدايا للجائعين. في يومها لم تسعنا الفرحة، لقد كنـّا على مشارف الموت نتيجة الجوع، قلت لصديقي "سوف نأكل حتى نموت من الشبع" ضحكَ صديقي وحمدَ اللهَ بوجودي معه في محنتنا تلك. وصلت المركبةُ المتهرئةُ إلى باب الكتيبة اليتيمة،ثم اغلق السائـقُ باب َ المركبة بقوة ،و سـلّمَ على الموجودين، قاصداً مقرّ الإعاشة، ومبلغا ً أن ما بحوزتهِ أرغـفة خـبز لا أكثر،صُعـِقَ الجميعُ بهذا الخبر القاتل، وتنازلَ بعضُهم عن نواميسه الكبرى كافراً بكلّ مقدّسٍ في الوجود، واستغفرَ بعضُهم ربَه صابراً على ما أصابه من ضـيم ٍ، وأنا وصديقي نتفرج على مهزلةِ الجوع الأليمة، لا نعرفُ أنبكي.؟ أم نضحكُ...؟(( نلاحظ وصف تأثيري على حالة الجوع وما يسببه من تغير النواميس البشرية (وتنازلَ بعضُهم عن نواميسه الكبرى كافراً بكلّ مقدّسٍ في الوجود)وطبعا هذه أشارة خفيه لما سوف يأتي من أحداث أي جعل المتلقي ينتظر كيف يتم هذا التنازل عن قيم الإنسان أي أن القاص هيئ المتلقي لكي يتقبل ما سوف يقوم به الراوي في القصة من عمل يجعله في موقف الضعف اتجاه عزيزة البقاء بالابتعاد عن الجوع أي تتحول جميع الأفعال لدى الإنسان الى أفعال غير مدركة ضمن النواميس الحقيقة التي ينتمي لها الإنسان وهذه أشارة ذكيه تعبر عن رؤيا مسبقة لبناء النص السردي حيث أن القصة بنيت على هذا المحور لتتشعب المحاور الأخرى بشكل أدرامي تصاعدي وفق انعكاسات الشخصية ومداركها الإنسانية حين تبتعد عن فعل الغريزي وتصاعد الذات الى الوعي بقيمة الأفعال ضمن خط مفاهيمه التي تحدد سمات شخصيته التي ينتمي إليها , والقاص هنا قد أطال بسرد الحدث وقد تكون هذه الإطالة في صالح السرد لأن تزيد من أرباك المتلقي بزيادة ترقبه لأحتوى المعنى في حبكة السرد
المحور الثاني _((وُزِّعَتْ أرغفةُ الخبز حيثُ أخذ الآمرون حصتهم المألوفة، ومن ثم تمَّ توزيع الباقي على منلهُ يدٌ وذارع مفتولة ولسانٌ فاتك. همسَ صديقي في أُذني (سوفَ أجلبُ لنا رغيفين نخرس بهما جوعنا ) هرولَ إليهم مسرعا ً علَّه يخطفُ قرص رغيف بائس، أنا لم أفعلْ شيئاً سوى رجوعي إلى قاعة المنام منتظراً الموتَ أو وصولَ قافلة إمدادات أخرى. عادَ صديقي مبتسماً وبحوزته قرصُ رغيف واحد ))هنا أشارة موحية بقيمة العدالة وما تفعله في تحقيق الفعل الاجتماعي المستقر في تقبل الشروط الإنسانة كافه . وهنا أحياء ضمني بعدم وجود العدالة في مجتمع كامل وإلا كيف ترسل الى هؤلاء الجنود فقط أرغفة وهم في حالة حصار بسبب الظروف الطبيعية وعدم وصول الغذاء لهم منذ فترة وهذا يدل على ان الآخرين لا يمتلكون العدالة الكاملة اتجاه أفراد المجتمع كافة أي هنا تصبح القضية ليس محصورة عند هذا المكان بل تشمل مجتمع كامل بعدم توفر العدالة وما يسبب هذا من ابتعاد الناس عن قيمهم , والقاص أراد حصر ال وهنا أحياء أشاري بعدم وجود عدالة كاملة فكيف ترسل فقط الأرغفة وهم في حالة جوع كبير , والقاص هنا أراد أن يبين فعل عدم توفر العدالة في جانب محدد من المجتمع ليوضح الفعل الشامل بعد تحقيقِ العدالة وما يسببه هذا في المجتمع من ابتعاد الإنسان حتى عن أخلاقهِ الاجتماعية والقاص هنا حقق التوازن الرؤيوي في رسم أفكار السرد لكي يزيد من الترقب في موضوعية الحدث السردي.
المحور الثالث _((كنت طفلاً أراه كالباقين قرب المدفأة،يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظاراً بعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة. كنتُ أراقبه عن كثب حين يبكي من دون سبب، خافياً بكاءَهُ عن الكبار، ومسترسلاً في دموعه أمامي غير آبه، بحكم أني صغير وغير مكترث لدموع رجل عجوز، وهو الآخر ينظر إليّ النظرة ذاتها دون اهتمام.مازلتُ أتذكّرُ صوته البعيد، وارتعاشَ يدهِ الشائخة. سألني ليلتها عن حال المدرسة وهموم المذاكرة، وكفي تخطُّ على الورقة خطوطاً لا أعرفُ مغزاها، سوى أن الحركةَ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعتين "بخير" أجبته ببساطة.صمتَ برهة فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي )) نشعر هنا أن هذا الجد الذي هو محور الحدث السردي ما جعله يوصل الى لحظة التصادم مع الذات وكشف مكنونها الذي كان يعذبها هو زيادة الوعي المعرفي الثقافي , لأنه لا يمكن أن ندرك الزمن الذي يمر على الذات إلا وفق الوعي المكتسب والذي يؤدي الى زيادة التحسس الإنساني داخلنا وطبعا هذا يأتي من خلال زيادة الفعل الحضاري الإنساني في تفكيرنا وإدراكنا , ونجد القاص هنا أعطى للصورة السردية قيمة التركيب التصوري لمشاهدة هذا التنوير التصاعدي في مسيرة تكوين الشخصية المحورية ( كنت طفلاً أراه كالباقين قرب المدفأة،يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظاراً بعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة ) وهنا يتحقق الصراع ما بين الحقيقة الثابتة وما بين الثقافة السكونية النائمة وما بين الثقافة المتحركة التي تعطي الى الإنسان حرية التفكير في الحياة وتضيف له وعياً اختياريا بالنمو الفكري ( خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة ) وهذا ما يشير إليه القاص فالنافذة هي فعل التنوير في أحداث الفعل الثقافي فهو يتصفح الكتاب وفي نفس الوقت ينظر من خلال النافذة , وهذا أشارة عميقة تبين قدرة القاص على الاستفادة من كل أركان الحدث السردي بشكل موضوعة الحدث بكافة مساحاته التصورية داخل الحدث نفسه بالإشارات الخفية الموحية على تطوير الحدث بالوصف والأحياء الضمني لتطور الحدث السردي وإخراجه من الحدث الرتيب المتراكم الى حدث فعال في كسب التصوري الذهني الحدثي , كما أن الثقافة قد أعطت الى شخصية المحور بعد ثقافي مؤشر من خلال الرمز الموحي ( صمتَ برهة فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي ) وما النظارة هنا الا أحياء بزيادة الوعي أي أن القاص ركب الحدث السردي وفق تراكيب حدثي متشعب الى عمق التطور الذهني الفكري لهذه الشخصية فما بين النافذة والنظارة تتحقق الأحياء بقيمة الثقافة التي تزيد من الوعي الإنساني اتجاه الأحداث التي تمر عليها , فالقاص أستطاع بالقدرة على ألاستنهاض بالرموز الموحية ليخلق بؤرة مشعة بتصاعد السرد الى حد الدلالة الكاملة على أن هذه الشخصية اكتسبت الوعي من خلال المعرفة , والطفولة هنا هي أشارة الى الجانب البريء أو المخفي من الشخصية واستطاعت المعرفة من إبرازها الى السطح لتكون محور النقاش مع الذات وعن فعلها اللإنساني , فتحقق ترادف الوعي في أحداث الشخصية وتطورها من الداخل لكي تتغير نظرتها الى حركة الحياة الخارجية.المحور الرابع_(( سألني ليلتها عن حال المدرسة وهموم المذاكرة، وكفي تخطُّ على الورقة خطوطاً لا أعرفُ مغزاها، سوى أن الحركةَ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعتين "بخير" أجبته ببساطة.صمتَ برهة فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية )) نجد هنا فعلين في تحقيق الإشارة التي ترمز الى المدرسة والنظارة و زجاجها قديم , ويشعر المتلقي هنا بقدر الأحياء الى قيمة الثقافة ومجهولة الذات ( وكفي تخطُّ على الورقة خطوطاً لا أعرفُ مغزاها) فنرى هنا ما بين المدرسة والطفولة والإشارة الضمني على عدم الإدراك في تكوين الثقافة في منهجية الشخصية , فنجد أن الطفولة ما هي إلا أشارة بني عليها المحور السردي في تطور الشخصية الرئيسة في تحديد الوعي واللاوعي والقدرة على تفسير الأحداث ضمن الحدث الذاتي , والطفولة كما قلت سابقا ما هي إلا الجانب المخفي والصامت من الشخصية , لكن فعل الثقافة جعلها تظهر لتحدث لحظات التنوير داخل الذات وتبين ما حدث فيها من صراع كان الوعي غائباً فيه نتيجة المجهول وعدم معرفة الرموز التي ترتقي بالشخصية الى أدراك ذاتها الإنسانية بعيدا عن غرائزها التي تظهر حين يكون هناك سباق الى المحافظة على البقاء في الحياة وما تفعله هذه الغريزة من أفعال تبعدها عن إنسانيتها بمختلف الطرق من الكذب والمراوغة لكي تسكب البقاء في الحياة.المحور الخامس_ أن القصة استطاعت أن تعطي كل هذه المحاور المتشابكة وفق نظرية السرد بإشارات حققت الكثير من الاستعارة الضمنية الموحية ولكن في نفس بقى الحدث السردي مستمر بأفعاله الإشارة الموحية , والنص أستطاع أي يوحي بأكثر من معنى داخل الحدث السردي وأستطاع أن يركب الأحياء ما بين الوعي الإنساني وغرائزها التي تسعى الى البقاء بمختلف الطرق , لكن نلاحظ أن القاص أعطى الى المعرفة الفعل الأقوى في تنوير الحدث السردي وفق منهجية الثقافة كانتماء حقيقي للإنسان الفاعل في تكوين العلاقات الاجتماعية الحقيقية الواعية , أي القاص أستطاع أن يحقق كل الإشارات بأهمية الثقافة الاجتماعية الإنسانية في تحقيق التوازني النفسي التركيبي ضمن المجموع وكما أستطاع أن يوحي الى قيمة العدالة التي تعطي الى الإنسان عمق ارتباطه الإنساني ضمن المجموع الذي يضمن له هذه العدالة.المحور الأخير هو اللغة أستطاع القاص أن يجد المناخ السردي القصصي في تركيب الأحداث وإعادة صياغتها وفق فعل الشخصية الرئيسة داخل الحدث السردي , وكانت اللغة مقاربة الى الفعل النفسي داخل الحدث واستطاعت أن تعطي الى الحدث التسلسل الزمني في نمو الحدث , وكانت اختيارات القاص عميقة في هذه الاختيارات للمفردات التي عمقت التداعي السردي في القصة.

ايوب صابر 08-24-2013 12:45 PM

نشرت بواسطة uruk sawah
قراءة انطباعية في مجموعة انمار رحمة الله القصصية ( عودة الكومينداتور) .. سلام كاظم فرج

هل هو بصدد خلق عالم يكاد أن يكون غريبا عن الواقع؟.. أم هو بصدد إعادة قراءة الواقع من خلال التضاد في ذات الواقع المنقولة الى المستويات الدلالية من مستويات لغة نصوصه السردية؟؟.


أنا هنا أحاول ان أعيد قراءة نصوص مجموعة الاستاذ انمار رحمة الله ( عودة الكومينداتور) الصادرة عن دار تموز في عام 2012 في دمشق والتي انطلقت من محورين اساسيين.. محور القصة القصيرة, ومحور القصة القصيرة جدا, والتي نعتها ( بالقصص الخطيرة جدا..). ليحكم السيطرة من خلال اللعب على جناس اللفظة ليحرفها ويلتمس معنى مغايرا ليكشف عن نية مبيتة ومقصودة للإنتقال من طرف دلالي ملتبس الى طرف دلالي نقيض مما يوسع من مديات دلالات نصه.. ويمنحها تخوما غير مرئية لكنها لاتخفى حتما على القاريء النابه. والناقد المستكشف..
يدخلنا انمار رحمة الله في سلسلة من تداعي الافكار المنثالة بأضدادها عبر مفاهيم الثنائية والمفارقة.. التناقض الذي يوجب التضاد.. الانسجام الذي يعقبه اللاإنسجام او العبث الذي يصطدم بنا كقدر محتوم..
مثال....((رأيت في عينيه ضياعي. هو طالعني كقاريء الحظ التعيس.. ابتسم. ابتسمت..رمى سيجارته ,, رميت,,ونهضنا مسرعين))...((المقبرة القديمة هي آخر ما تبقى من الانجليز(القوات التي دخلت ــ لتحرير ــ احتلال مدينتنا ــ)) عن قصته.. حدث في المقبرة. صفحة 35..((
اقاويل روجها شقي المنطقة كي لايفسد احدهم خلوته فيها..ليقضي هو وعصابته ملذاتهم الممقوتة..)). عن قصة حدث في المقبرة..
هناك عالمان. عالم ما يتعارف عليه الناس, والعالم الذي يعرفه الراوي العليم.. تمنيت على القاص الاستاذ انمار ان لا يبدي رأيه في افعال شقي المنطقة..ونعتها بالممقوتة. تلك مهمة القاريء لا الكاتب.. عليه ان يتناول وصف بعض ملذات الشقي ( الفتوة) والقاريء هو الذي يقرر ويحكم.. ان الحكم المسبق من قبل الراوي العليم على ممارسة شخوص النص. اي نص.. يفسد العلاقة بين النص والمتلقي ويحول القاص الى مصلح اجتماعي وينقل النص من ضفة الإبداعي الى ضفة التقريري التعليمي..
ولكن هذا لايمنع من القول ان نص الاستاذ انمار( حدث في المقبرة) كان على غاية من الدقة والاتقان في السرد الدرامي والترميز عالي القيمة..بليغ الدلالة..
في نصه الخطير جدا (القصير جدا) دعوني أغرد.صفحة 96
نجد أن البلبل يتحول وبمرور الوقت الى شيء .. او الى ثمالة شيء محنط. بعد ان كان روحا تنتج الغناء. التغريد.
. الحديقة وقد تحولت الى محل لبيع اشرطة اغاني هابطة( لاحظ ثنائية التضاد والانسجام بين تغريد البلبل. والغناء المحنط في شريط جامد). بعد ان تحول المكان. كان لابد من زوال.. والزوال يتلخص بتحول البلبل الى جثة محنطة تباع ايضا وتشترى..
هل هو ترميز لانحطاط المثقف وتحوله الى بوق دعاية رديئة بسبب تغير احوال المكان والزمان؟؟ ام هو ترميز لحتمية التغيير؟.او حتمية الزوال؟؟
هذا اللعب على التضاد المادي (المكاني الزماني). مع المعنوي. الروحي. تغريد البلبل..يحيلنا الى سؤالنا الاول. هل هو بصدد قراءة واقع مرير. هل هو بصدد الاحتجاج على واقع مؤلم؟ هل هو يستبطن البحث عن عالم نظيف متاح؟؟ام هو رثاء الطبيعة امام تحولات الاشياء . وانخذال التلقائي امام الصناعي؟؟..
اما قصة العراة ( صفحة20) فتلعب على مفارقة الدعوة الى التعري الكامل والتي تجد صدى لدى الجموع. ورغم تطامن النص برؤيا حلمية . لكنه يؤشر الى قوة تلك الدعوة التي ارعبت الراوي وبعض الناس. فهو يفرك عينيه غير مصدق. ويتساءل هل ان ما يجري حقيقة ام حلم يقترب من الكابوس؟؟. الراوي يرى بعينيه بعض العراة ويصفهم..
الظاهرة هنا تستدعي الى الذهن قوة تأثير الدعوة الى تبني ظاهرة ما. لا الظاهرة نفسها.. فثيمة النص لا تكمن في التعري. بل الدعوة اليه من فوق.. من مؤسسة ما.. او من جماعة ضغط معينة.. ومديات الاستجابة.. وقوة النص تكمن في استدعاء نص غير مكتوب على القاريء ان يستكشفه.. اعني الدعوة الى اشياء أخرى. كالدعوة الى النقاب مثلا. او اطلاق اللحى.. او اي نوع من انواع التمرد او التقوقع على قيم معينة( واحدية) لا تأخذ بنظر الاعتبار تنوع المفاهيم. وسعة الافق في قبول او رفض اية ظاهرة بحرية بعيدا عن املاءات المؤسسة. ( اية مؤسسة..)
مع انمار رحمة الله عليك ان تبحث عن السطور غير المكتوبة او النص الكامن خلف النص المكتوب على الورق.. هو يرتكب احبولة جميلة.. احبولة النص والنص المضاد المختبيء والمصنوع بمهارة فائقة و إمكانية ثنائية القراءة لنص واحد..!!!
ليس من عادتي تقييم كل النصوص واعادة قرائتها نقديا. لكني اركز على الانطباع الذي تتركه تلكم النصوص..وماكتبته اعلاه رأيته في نصوص مجموعة الاستاذ انمار.. لتي تجاوزت الاربعة والثلاثين نصا.. تدخل كلها في(( وعي النص بتشكيل فني يمكن للقاص ان يغنيه لتأصيل تجربته)) كما ذكر الروائي وارد بدر السالم في معرض تقديمه لمجموعة القاص المثابر..
من هنا أجد ان القاص انمار رحمة الله قد أجاب على السؤال الأزلي (لماذا يشعر الانسان بحاجته الى الفن؟؟).. هذه الاجابة لخصها قبله البير كامو بقوله(( أن الفن يعبر عن حاجة ميتافيزيقية اساسية الا وهي الحاجة الى الوحدة , ولما كان الانسان لا يجد في عالمه هذه الوحدة التي هو في حاجة اليها دائما فإنه يجد نفسه مضطرا الى ابداع عالم آخر يجعله بديلا لهذا العالم)..
الفرق عند انمار ان هذا العالم متوار خلف النص بما يسمى بالأنساق السردية المحذوفة التي نتلمسها من السياق العام للسرد وتلك فضيلة القاص التي نغبطه عليها. وهي التي دعتنا للإحتفاء بمجموعته..
بقي علينا ان نعيد ما وضحه القاص عن معنى الكومينداتور.. وتشفيرات ماقصده في اسفل نصه الموسوم بنفس اسم مجموعته هذه(( الكومينداتور في اللاتينية تعني القائد وفي الفلكور الاسباني هو القائد الذي عاد من الجحيم ليعاقب( الدون جيوفاني) المعروف بغواية النساء..). وقد تترجم الى مفردة قومندار..ايضا

ايوب صابر 08-29-2013 09:47 PM

رغيف انطباعي ... الشاعر انمار رحمة الله

علي حسين الخباز

يستطيع الشاعر* المتمكن* ان يجسد اناه* الشعرية* بسحر الايحائية* عبر عوالم* كونية يمنحها* هويته* فتمنحه* نبضا ابداعيا* ـ وهذا لايتم* الا بوعي مدرك والمبدع ( انمار رحمة الله )* احد المبدعين* الذين ادركوا* ماهية التفرد .. فهو يتنوع في انتقالاته بين سرديةالقص شعريا وبين شعرية السرد قصصيا ، مشيدا لفضاوات* لغوية* ودلالية* تكوّن عناصر* النص* كالاداء* المكثف* والصدمة* الشعورية* يقدمها* لنا دائما* كمفاجئة* اسلوبية* ـ خاتمة القص* لتزيد من حلاوة الصدمة وعمقها الشعوري مثل قصة* ( ليلة ضاع فيها الرغيف )اذ يكشف عن وجه السارق الحقيقي في اخر كلمة من المحكي واذا به السارق هو الراوي الحقيقي للحدث محققا شعورية الصدمة* كمؤثر فني* يعزز مشهدية* القص* بواسطة تحريك كوامن التخمين* .. وفي قصة ( المتلصص* ) يكشف عن رؤيا* تستقطب موضوعة* الحرمان* لتكشف لنا* عن بؤر ة العجز النفسي فبطل القصة قادر على ممارسة الفعل الرجولي دون امرأة* ، لكن بحضورها تتعطل الارادة* وهذا اداء* اسلوبي تميز باظهار المعنى المتخفي* .. العجز هنا رؤيا* تحمل مجساتها في مجتمع عامل الرجولة بقسوة الحروب والتوحش والحرمان الذي اعتاد عليه الرجل العراقي حتى اصبح الحرمان* هو الصورة المتفردة لاستطاعته ..ويعني محاولة ابراز* العمق الشعوري* .. واحيانا* يقدم لنا فوضوية المشهد* ليضعنا امام* مجموعة نظائر* ، حرب كاملة تدار بين* المبتدا والخبر** واستخدمت فيه صواريخ الافعال* الناقصة وافعال ماضية* تتسلل الى موقع الاسماء* ـ ميلشيات* من الفاعل والحروف كل هذه المنظومة اللغوية المقاتلة* قدمت لنا نظيرا دلاليا* عن الحروب* الواقعية التي خاضها العراق* بلا معنى ، ويبحث المبدع انمار رحمة الله دائما عن الاثارة كجواذب للتلقي* ففي قصة ( اوراق* متناثرة ) استحضر الصدمة* الشعورية في* خاتمة القصة* ليباغت المعنى* .. مدير* مدرسة ابتدائية* التقى بسيدة* حضرت لتسجيل ابنها في المدرسة نظر اليها واذا هي حبيبة صباه وملهمة شعره اذ كان يهديها كل ما يكتب* لكن المبدع انمار لم يكتف بهذه المفاجئة فرسم مباغتة اخرى* عمقها بصدمة شعورية* قلبت كيان القصة* ، اكتشف** المدير ان ملهمته امية لاتجيد القراءة ،* وتكمن الدهشة في شعرية انمار وفي قصائده بما يشكل اختلافا واضحا** اذ يتم تحميل القصيدة سمات تأويلية لاتجسد* حدثا كما في القصة* لكنها تتوهج* بايحاءات رؤوية* باساليب تنفتح على* اسلوبية الومضة ،* ففي الومضة* تكثف اللغة* ليعزز التأويل* عبر* عدة مساعي* منها رسم ثنائييات* تضادية
الخبز × البارود
العباءة × الزنزانة
وتجتمع هذه التضادات لتشكل* ترادفات ( الرائحة )* وهذا الاشتغال يضمن له اندهاشية التلقي* والكثير* من التشبيهات المرادفة فهو يعد لحظة الكتابة الشعرية ،
1)*** فض بكارة قصيدة
2)*** *سب كاهن
3)*** * التبول في شارع مزدحم
4)*** زيارة قبر* شخص لايعر فه* في ليلة شتوية**
*وتساهم* في مضاعفة الدهشة* وتناميها
( كنت أصدق* من البلبل والربيع
العجين والنار
البحيرة والسماء )
ونجد ان شاعرية* المبدع انمار عبارة عن دهشة تصوغها غرائبية جمل متقنة التعابير*
( واستجمع* ما تكسر* من زجاج افكاري )
( لسان الشارع* لحس المارة )
مغطيا الطريق بلحاف الحذر )
مع استخدامات* الاستفهامية* والمناداة والحيز المكاني والزماني وشؤون كثيرة جعلتنا نشير الى* اندهاشية* انمار رحمة الله بدهشة حالمة لمستقبل يزهو بمبدع كبير

*

صفاء الأحمد 08-30-2013 01:10 AM

صباح الخيرات أستاذ أنمار ..

أقف الآن أمام قصة من الطراز الرفيع .. سجلت لنا عدة مواقف بطريقة احترافية ..

لن أكتفي بهذا القدر من الكلمات ..
لي عودة للرد ..

يثبت .. لو كان بوسعي لمنحت النص أكثر من خمس نجمات ..

مودتي .

ناريمان الشريف 08-30-2013 11:38 PM

لو كنت أنا من سرق الرغيف
لبكيت وبكيت .. ليس فقط لأصل إلى الستين من عمري
بل وحتى دخول القبر


أحسست بمشقة ثقيلة وأنا أقرأ
فلم تكن القصة عادية

رائعة فوق العادة
شكراً


تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 09-05-2013 03:49 PM

عناصر الجمال والتأثير في قصة " ليلة ضاع فيها الرغيف"

- طبعا العنوان يستثير في نفس المتلقي الكثير من الفضول...فما سر تلك الليلة؟ وكيف ضاع الرغيف؟ ومن وراء ضياع الرغيف؟ وماذا حدث بعد ان ضاع الرغيف او في تلك الليلة؟ والرغيف رمز للكدح والمعاناة..ولا بد ان اي قصة مرتبطة برغيف الخبز ستكون انسانية ..مثيرة للعاطفة والمشاعر . فاكثر الحكايات جذبا للاهتمام هي تلك التي تتحدث عن الايتام والمساكين ومن هم بحاجة الى رغيف الخبز فكيف اذا ضاع الرغيف والدنيا ليل وعتمة؟

"الذاكرة مرفأ الخيالات، يعصف بحرُها ويستكين. يقلّبُ الماضي على راحتيها.

- جملة البداية مرعبة في جمالها..من خلال هذه الصورة الذهنية المدوية التي ترسمها في ذهن المتلقي. فهنا القاص يشبه الدماغ بالبحر والذي يعصف ويستكين...وفي ذلك استثمار مبكر للنقائض التي لها اعظم تأثير على عقل المتلقي.. كما ان كلمة يعصف توحي بالحركة الصاخبة وهي عنصر جمالي آخر غاية في التأثير ...والقاص الخبير يحرص كل الحرص ان يضمن بدايات نصه ما يوحي بالحركة والحياة...وفي ذلك مؤشر بأن القاص خبير في عناصر التأثير وهو حريص على حشدها منذ اللحظة الاولى..وكأنه يفجر قنابل من الجمال تثير ادهاش المتلقي..وتأسر انتباهه... ولهذا البحر مرفأ وماذا يرسوا في هذا المرفأ؟ الخيالات أي الصور الخياليه وكأن مصدر الصور الخيالية خارجي او غير معروف وهي فقط ترسو في مرفأ الذاكرة..كانها السفن وفي الرسو حركة أيضاً .

والقاص لا يكتفي بتفجير قنابل النقائض والحركة الجمالية من الجملة الاولى....لكنه ايضا يشخصن من فوره (الذاكرة) فيجعل لها راحتين...وهذه قنبلة جمالية اخرى لها نفس اثر تسخير النقائض على دماغ المتلقي...ويشخصن البحر ايضا فيجعلة يقلب الماضي..وفي التقليب حركة وحياة ايضا... على راحتي الذاكرة. وذكر راحتي اليد يوقض في المتلقي حاسة اللمس...وتسخير الحواس من اهم عناصر التأثير على دماغ المتلقي.

ويا لها من صورة ذهنية يرسمها القاص ويا له من وصف جميل...يزلزل المتلقي ويدهشه ويأسره...فيندفع ليتابع القراءة.

يتبع،

ناريمان الشريف 09-06-2013 01:57 PM


"الذاكرة مرفأ الخيالات، يعصف بحرُها ويستكين. يقلّبُ الماضي على راحتيها.
فعلاً استهلال عاصف
أخ أيوب
أحسنت التحليل .. جميل جداً هذا التحليل
أتابع


تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 09-07-2013 03:59 PM

اشكرك استاذة ناريمان

صراحة انا كنت نويت ما اكمل قراءتي للنص على شاكلة جملة البداية، لانني وبعد ادراج الجزء الاول منها مباشرة لاحظت ان احدا قد قام بالغاء التثبيت عن القصة، وقد ترجمت ذلك نفسيا على انه لم يقدم اضافة ذات قيمة، لكن الان فقد احيت كلماتك، وانت الاستاذة، همتي للاستمرار .

اشكرك جدا،،،

ياسر علي 09-08-2013 10:49 PM



نص يعانق الإبداع و زادته أقلام ناقدة رصينة رونقا و جاذبية و معرفة .
كلنا ننتظر هذه القراءة المعمقة المفصلة المضيئة لدروب النص واختيارات الكاتب التي يتفضل بها أستاذنا أيوب صابر.
شكرا للجميع


ايوب صابر 09-09-2013 11:37 AM

شكرا استاذ ياسر.

ايوب صابر 09-09-2013 11:37 AM

الذاكرة مرفأ الخيالات، يعصف بحرُها ويستكين. يقلّبُ الماضي على راحتيهاالأوجاعَ/الأماني/البكاء/الشعور التائه في عالم أثيري عميق. فصعبٌ هو مصارحةُالذات، والأشدّ صعوبة الاسترسال في عدم نكران الواقع.


في الشق الثاني من الجملة الاولى يجيب القاص عن السؤال الضمني ماذا يقلب البحر العاصف على راحتي الذاكرة؟ فيخبرنا القاص ان ذلك البحر العاصف انما يلقب على راحتي الذاكرة مكنونات ومكبوتات النفس البشرية من اوجاع وبكاء وشعور من التيه مخزونة في عالم اثيري عميق وهو عالم اللاشعور او العقل الباطن الذي يقول فرويد انه المكان الذي نكبت فيه كل ما يتسبب لنا بالالم وفي ذلك ما يوحي بان القصة تتمحور حول مشاعر دفينة تعصف ببطل القصة، بل هي مشاعر اقرب الى الوجع والتيه والبكاء والاماني المكبوتة ايضا.

وفي مطلع الجملة الثانية يقرر القاص حقيقة علمية توصل اليها واتى بها علم النفس وهي ان الانسان يجد دائما صعوبة في التعبير عن مكبوتات عقله الباطن، وهو فعل المصارحة الذي جاء به القاص هنا أي الفضفضة كما في علم النفس، ثم يتبعها بحقيقة علمية اخرى من واقع الدراسات النفسية ايضا وهي ان ما هو اشد صعوبة من مصارحة الذات والفضفضة او التصريح بما في النفس من مكبوتات هو الاستمرار في نكران الواقع أي الاستمرار في كبت ما يؤدي الى تأنيب الضمير...وذلك حسب فرويد هو تحددا مصدر المرض النفسي.

فالقاص اذا يقول لنا في جملة البداية ان هناك صراع رهيب يدور في العقل الباطن للبطل وهو يجد صعوبة في الفضفضة والتصريح عنه، ولكنه يجد صعوبة ايضا وربما صعوبة اكبر في الاستمرار في كبت ما لديه من واقع مؤلم سبب له الم يكاد يدفعه للجنون كما سنرى في وصف حالة البطل لاحقا.

طبعا يحشد القاص في الشق الثاني من الجملة مزيدا من الاضاد مثل ( الاوجاع – الاماني )، وفي ذكره لكلمة البكاء يستثير فينا حاسة البصر. وفي استخدام كلمات ( مصارحة - نكران+ وصعوبة -استرسال، عالم اثيير- واقع ) مزيد من تسخير للنقائض والتضاد.

ولا شك ان القاص يحشد في جملة البداية هذه عدد كبير نسبيا من الكلمات التي تثير في المتلقي الكثير من المشاعر والاحاسيس ( الأوجاعَ- الأماني – البكاء- الشعور- التائه - صعبٌ - مصارحةُ).

فنحن اذا بصدد معركة تدور رحاها في دماغ بطل القصة كنتيجة لشعوره بالالم من واقع الم به ويصعب عليه التصريح به ولكن يصعب عليه الاستمرار في الحياة دون الكشف عنه ايضا ....كل ذلك يجعل المتلقي مستعدا للاستماع بلهفة الى حكاية ذلك البطل وهو متشوق لمعرفة سر ذلك الصراع الرهيب الذي يعصف بذهن البطل.

وقد تضعافت هذه اللهفة للاستماع لما يقوله القاص بسبب عناصر التأثير التي حشدها من ايقاظ حواس اللمس والبصر والسمع ومن تسخير للنقائض والتي لها وقع عظيم على الدماغ، ومن ثم من خلال استخدامه لعدد من الكلمات التي تستفز الجهاز العصبي في المتلقي وتجعله مستنفرا واكثر استعداد لتلقي الحكاية.

يتبع،،

ايوب صابر 09-15-2013 03:43 PM

وخصوصاً إن من تخصّهُ الحكاية رجلاً ستينـياً يـودّع زمنا ً غابرا ً، ويمارس الحياة في بساطة مألوفة لعمره الشائخ. الشتاءُ عانق المدينة، طابعاً على خدها الأسمر قبلاً باردة. كنت طفلاً أراه كالباقين قرب المدفأة، يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظارا ًبعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة.

في الفقرة التالية نجد القاص وقد بادر الى تسخير عنصر جديد من عناصر الجمال وهو تسخير لغة الارقام ذات التأثير العظيم على عقل المتلقي كونها لغة الكون..فها هو يقول وضمن وصفه لشخصية البطل بأنه ( ستينيا )، ويقول ان مصارحة النفس لدى هذا الرجل او الاحتفاظ بسر ما جرى لذلك الرجل كان اصعب من المعتاد لانه رجل يودع زمنا غابرا ولا شك ان القاص نجح في جعل الصراع الدائر في ذهن الرجل يبدو اكثر حدية كونه قد بلغ الستين من العمر.

ونجد القاص انه عاد لستخير الاضداد من جديد بقوله ان ذلك الرجل (يودع زمنا غابرا) لكنه ورغم ذلك (ما يزال يمارس الحياة) في بساطة مألوفة لعمره الشائخ. ونجد ان القاص قد جاء بلفظ (بساطة) وهي عكس (صعب) وفي ذلك تناقض يوقظ ذهن المتلقي ويستفزه.

ثم نجد ان القاص عاد من فوره ليشخصن الشتاء فيجعله مثل رجل.. ويشخصن المدينة فيجعلها مثل فتاة ويرسم صورة لذلك الشتاء وهو ينهمر على المدينة، وكأنه رجل يعانق فتاة ويطبع على خدها الاسمر وفي استخدام كلمة ( الاسمر ) تسخير للالوان وهي من المحسنات بالغة التأثير والتي تجمل النص ولها وقع يشابه تسخير لغة الارقام...

كما انه يستخدم كلمة ( باردة ) في وصف للقبل ولا بد ان ذلك جاء بهدف رسم المشهد الذي يدور فيه الحدث وهو يهدف الى استثارة مشاعر المتلقي ودفعه ليستشعر تلك الاجواء الشتوية الباردة التي تمثل جو النص كما اراده القاص.

ويعود القاص من فوره في الجملة التالية لتسخير النقائض من جديد، فمن ناحية يصف الرجل بأنه شيخ ستيني لكن المتحدث الراوي للحدث طفلا صغيرا.

وفي استخدام كلمة ( اراه كالباقيين ) تسخير لحاسة الرؤيا، و بذكر المدفئة تسخير للنقائض من جديد فالجو شتاء بارد لكن ذلك الرجل كان يجلس قرب المدفأة.

وفي وصف ما كان يقوم به الرجل من نشاط ( يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظاراً) هو توفير مزيد من المعلومات عن شخصية ذلك الرجل الستيني، وهذا ما يشير الى ان القاص حريصا على رسم شخصيات قصته بتفاصيلها الدقيقة لجعل المتلقي قادرا على تصور تلك الشخصية في مخيلتة، وهذه التفاصيل هي التي تمنح الحياة لشخصيات القصة فتبدو هذه الشخصيات وكأنها ناس حقيقيين يعيشون بين الناس وهو عنصر مهم من عناصر التأثير فالمتلقي يتفاعل مع الشخصة الحية وربما يتعاطف معها او يمقتها.

وفي كلمة ( يتصفح) حركة والحركة تجعل النص ينبض بالحياة. وفي ذكر كلمة ( يعتكف ) تسخير للنقائض ( الحركة والسكون) من جديد.

وفي استخدام كلمة ناسك مزيدا من الوصف لشخصية البطل وفي نفس الوقت تسخير لكلمة من التراث الديني او الشعبي حيث يوقظ استخدام هذه الكلمة ما يرتبط بها من صفات في عقل المتلقي..

وفي استخدام كلمات ( يرسل انظارا ) مزيدا من الحركة، من ناحية ومن ناحية اخرى ايقاظ لحاسة البصر من جديد لدى المتلقي.

وفي استخدام كلمات ( يرسل أنظاراً بعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة) رسم تصويري يستكمل القاص من خلاله رسم المشهد ليجعل المتلقي يستشعر جو النص.

وفي استخدام كلمات (البساتين النائمة ) شخصنة للبساتين التي يجعلها مثل فتاة نائمة.

وفي الاجمال نجد القاص قد نجح نجاحا باهرا في هذه الفقرة ايضا من خلال حشد كل هذه المحسنات الجمالية ( النقائض، والارقام والالوان والحواس والحركة والتشخيص والرسم التصويري) وهي كلها بمثابة قنابل جمالية ما يلبث ان يقوم القاص على تفجيرها واحدة تلو الاخرى بين يدي المتلقي فيكون لذلك كله ابلغ الاثر في ذهن المتلقي.

ومن خلال رسم صورة البطل الذي بدت ملامحة حية وكأنه واحد من الناس الاحياء الذين نعرفهم او يسكنون الى جورانا... فهو رجل ستيني، شائخ، وهو يجلس الى جوار المدفأة يتصفح كتابا او صحفية او يعتكف مثل ناسك ويرسل انظاره عبر النافذة...

هذا من حيث الصورة الظاهرة طبعا والتي اتقن القاص رسمها، لكن القاص يخبرنا ايضا ان في داخل ذلك الرجل صورة اخرى مغايرة، حيث يدور صراع عنيف ناتج عن بعض الذكريات التي احتفظ بها وكبتها هناك في الذاكرة لمدة طويلة وهو لم يكن قادرا على ان يفصح عنها لان الافصاح امر صعب لكنه لم يعد قادرا على الاستمرار في كبتها حيث اصبح عدم التصريح بها اصعب من الحديث عنها.

وفي مقابل وصفه لذلك الرجل بطل القصة نجده يروي لنا حكايته على لسان طفل صغير ولا شك ان ذلك لم يكن صدفة فباستخدام ضمير المتكلم ( كنت اراقبه ) وهو الراوي العليم اراد القاص ان يمنح قصته اعلى حد من المصداقية والواقعية...فعقل المتلقي يميل الى تصديق الحكاية اذا ما كان المتحدث بها رواي عليم...

وهو حتما ينجح في وضع المتلقي في جو النص الذي جلعه شتويا باردا ومشحونا بالمشاعر والاحاسيس والصراع..فيزداد شوق المتلقي لمعرفة بقية الحكاية..حكاية الرغيف الذي ضاع؟؟؟!!!

يتبع،،

ايوب صابر 09-17-2013 02:40 PM

كنتُ أراقبه عن كثب حين يبكي من دون سبب، خافياً بكاءَهُ عن الكبار، ومسترسلاً في دموعه أمامي غير آبه، بحكم أني صغير وغير مكترث لدموع رجل عجوز، وهو الآخر ينظر اليّ النظرة ذاتها دون اهتمام.



في هذه الجملة نجد القاص يذكرنا بأن الراوي عليم ليؤكد على مصداقية حكايته فيقول ( كنت اراقبه) . وفي استخدام كلمة (اراقبه) تسخير لحاسة البصر وايقاظها لدى المتلقي لكن بشكل صارخ هذه المرة فنجده يستخدم كلمات داله على حاسة البصر بكثافة ملفته في هذه الجملة المكونة من 31 كلمة 7 مرات (أراقبه، يبكي ، بكاءَهُ، دموعه ، لدموع، ينظر، النظرة ) ونجد ان لذلك وقع هائل على المتلقي، علما بأن الكلمات نفسها تستثير ايضا في المتلقي مشاعر ترتبط بالحزن والبكاء والدموع وربما الالم الدفين.

والحديث عن البكاء من دون سبب ظاهر مؤشر الى وجود ذلك الصراع الداخلي الذي يعصف ببطل القصة فيدفعه الى البكاء فيظن المراقب من بعيد او من قريب انه بكاء من دون سبب، لكنه في الواقع ناتج عن ذلك الصراع المحتدم في داخل ذاكرة البطل.

ونجد القاص يؤكد هنا على تلك الفكرة الفرويدية التي تطرق اليها في الجملة الاولى، وهي صعوبة الاستمرار في كبت ما يعذب النفس البشرية مما يجعل بطل القصة يعبر عن مكنونات نفسه ويعذب ضميره بالافصاح عنها من خلال البكاء امام طفل صغير...وهذا ما ييرز الصراع في القصة فيجعلها ذات اثر بالغ على المتلقي.

وفي كلمات ( خافيا بكاءه و مسترلافي دموعه ) تسخير للنقائض من جديد. كذلك نجده يسخر النقائض من خلال استخدام كلمات ( الكبار وعجوز من ناحية و صغيرمن ناحية اخرى).

ونجد ان الصفات التي يقدمها الراوي عن شخصية البطل تزيد في انسنته فهو ليس فقط بطل في قصة جامد لا حياة فيه، وانما هو حي يبكي ويسترسل في دموعه وهذا الوصف يساهم في جعل شخصية البطل شخصية حيوية نامية ومتطورة واقرب الى انسان يسكن الى جورانا فنتعاطف معه وننشد لهمه وما يثقل كاهله.

يتبع ،،

ايوب صابر 09-23-2013 12:16 PM

مازلتُ اتذكّرُ صوته البعيد، وارتعاشَ يدهِ الشائخة. سألني ليلتها عنحال المدرسة وهموم المذاكرة، وكفي تخطُّ على الورقة خطوطاً لا اعرفُ مغزاها، سوى أنالحركةَ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعتين "بخير" أجبته ببساطة.
في هذا الجملة ايضا يستمر القاص في تسخير الحواس فيبدأ بحاسة السمع ( صوته البعيد) ثم حاسة اللمس وذلك من خلال ذكر كلمة (يده الشائخة) وفي الارتعاش حركة، ثم حاسة اللمس مرة اخرى من خلال كلمة ( وكفي تخط ) وفي تخط حركة، وفي استخدام كلمة ( الحركة ) تأكيد على حركة اليد. ثم باستخدام كلمة ( عيني وعينيه اللامعتين ) تسخير لحاسة البصر من جديد. وفي استخدام كلمات ( سالني + واجبته ) تسسخير للتضاد.
كل هذه المحسنات تجعل النص ينبض بالحياة، ويوقظ في المتلقي حواسه فيظل متابعا للنص مهتما بتطور الحبكة محاولا فهم طبيعة ذلك السر الذي يمثله ذلك الصراع الداخلي الذي يعصف ببطل القصة.
ولا شك ان القاص ينجح ايما نجاح في شد المتلقي لنصه من خلال ذلك التصوير الجميل والمؤثر من خلال وصف المشهد بتفاصيل دقيقة وموحية من ناحية، ومن خلال وصف حالة البطل ( الرجل الشائخ ) ونقيضة (الطفل)، حيث يظهر البطل ( مرتعشا صوته بعيد ) بسبب السن من ناحية وبسبب ما يدور في ذاكرته من ناحية اخرى، وكذلك الطفل نجده مضطربا وما يؤشر لذلك الاضطراب حركة كفه التي ترسم خطوط لا يعرف مغزاها وكأنها تتحرك لوحدها، ثم تجنبه للنظر في عيني جده...
وفي ذلك ما يشير بأن القاص لديه معرفة بعلم السلوك البشري وهو يسخره ليجعله سحريا مؤثرا في المتلقي، فمعالجة الجوانب الخفية من النفس البشرية يظل مصدرا للادهاش والسحرية.

يتبع ،،

ناريمان الشريف 09-25-2013 09:52 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 155874)
اشكرك استاذة ناريمان

صراحة انا كنت نويت ما اكمل قراءتي للنص على شاكلة جملة البداية، لانني وبعد ادراج الجزء الاول منها مباشرة لاحظت ان احدا قد قام بالغاء التثبيت عن القصة، وقد ترجمت ذلك نفسيا على انه لم يقدم اضافة ذات قيمة، لكن الان فقد احيت كلماتك، وانت الاستاذة، همتي للاستمرار .

اشكرك جدا،،،

أشكرك جزيلاً
القصة رائعة جداً جداً جداً
سلم صاحبها وسلم قلمه وسلمت أيضاً
استمر .. وأنا أتابع بهمة



تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 09-29-2013 12:45 PM

اشكرك استاذة ناريمان.


صمتَ برهة فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي :-
- جدي ..جدي..لماذا تبكي .؟!


وفي هذه الجملة يستمر القاص في حشد عناصر الجمال المؤثرة، ففي كلمة (الصمت) ما يوحي الى حاسة السمع وهي نقيظ الكلام فهو حتما كان يتحدث ولذلك صمت فجأة وفي ذلك تسخير للاتضاد، وفي كلمة ( نظارته) ما يوحي بحاسة البصر، وفي كلمة ( دمعه ) ايضا. وفي استخدام كلمات ( المترقرق+ انزلها+ ماسحا) كلمات توحي بالحركة وهي التي اكثر ما يبعث الحياة في النص ويجعله حيويا. وفي استخدام كلمات ( فانزلها + ارجعها ) تسخير للاتضاد. وفي كلمة ( عاجلته ) ما يوحي بالحركة. وفي كلمة (تبكي) ما يؤشر الى حاسة البصر.

وفي كلمات (طفولي+ جدي) تسخير للاتضاد. وفي استخدام كلمات ( صمت + تلطخت+ مترقرق+ قديم+ شغف+ تبكي) ما يستثير المشاعر ويوحي بحدة الصراع الداخلي الذي يدور في ذاكرة ذلك الرجل الشائخ فيدفعه للبكاء فتتلطخ نظارته بدمعه المنهمر المترقرق. وباستخدام هذه الكلمات ايضا نجد القاص يستكمل رسم المشهد وكأنه يرسم لوحة فنية، كما يستكمل رسم شخصية ذلك الرجل العجوز.

انمار رحمة الله 10-31-2015 10:05 PM

ماذا يحدث هنا..؟
الألق كله هطل دفعة واحدة
وأنا تائه هناك كمذنب يجهل موعد الأرتطام...!
أعتذر جداً لكم أصدقائي لطول غيابي وتأخري في الرد....سوف أقبل قلوبكم فرداً فرداً

انمار رحمة الله 10-31-2015 10:08 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 154308)
سبق ان قرأت قصة الرغيف هذا ولكني لا اذكر اين ومتى..على كل حال هذه القصة مكتوبة باحتراف واتقان شديدين ولا شك ان العنصر الجمالي الاهم فيها تلك الحياة التي تنبض من بين الكلمات والسطور كنتيجة لما حشده الكاتب من صور وتشخيص وحوار واستثمار للنقائض.
قصة رائعة فيها وصف جميل للغاية وعبارات غاية في البلاغة والتأثير.
نحتاج للتعمق في هذه القصة لتبيان عناصر الروعة والجمال والتأثير واقترح على الاستاذة صفاء تثبيتها حتى نتيح المجال للغوص في اعماقها واستخراج ما فيها من عناصر جمالية فهي في مصاف القصص العالمية على ما اعتقد.



لا أملك خياراً سوى أن أجلس وأدخن وأتأمل.....سلمت لي

انمار رحمة الله 10-31-2015 10:10 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة راما فهد (المشاركة 154386)
رائعة وأكثر
مؤلمة حد الشهقة

آه من عقدة ذنب لا تفارقنا

تستحق الوقوف والتصفيق الحار



ممنون جداً...شكراً لكِ

انمار رحمة الله 10-31-2015 10:12 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صفاء الشويات (المشاركة 155120)
صباح الخيرات أستاذ أنمار ..

أقف الآن أمام قصة من الطراز الرفيع .. سجلت لنا عدة مواقف بطريقة احترافية ..

لن أكتفي بهذا القدر من الكلمات ..
لي عودة للرد ..

يثبت .. لو كان بوسعي لمنحت النص أكثر من خمس نجمات ..

مودتي .


ثبتها ياصديقي كما ثبت محبتك في قلبي...

انمار رحمة الله 10-31-2015 10:14 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناريمان الشريف (المشاركة 155281)
لو كنت أنا من سرق الرغيف
لبكيت وبكيت .. ليس فقط لأصل إلى الستين من عمري
بل وحتى دخول القبر


أحسست بمشقة ثقيلة وأنا أقرأ
فلم تكن القصة عادية

رائعة فوق العادة
شكراً


تحية ... ناريمان الشريف

ابعد الله عنك البكاء والدموع....سلمت لي وسلم قلبك اليانع وروحك الشفيفة

انمار رحمة الله 10-31-2015 10:16 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر علي (المشاركة 155919)


نص يعانق الإبداع و زادته أقلام ناقدة رصينة رونقا و جاذبية و معرفة .
كلنا ننتظر هذه القراءة المعمقة المفصلة المضيئة لدروب النص واختيارات الكاتب التي يتفضل بها أستاذنا أيوب صابر.
شكرا للجميع



تسلم لي وممنون لك....جددت فرحتي وابتهاجي بكلماتك المضيئة

انمار رحمة الله 10-31-2015 10:19 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 158089)
اشكرك استاذة ناريمان.


صمتَ برهة فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي :-
- جدي ..جدي..لماذا تبكي .؟!


وفي هذه الجملة يستمر القاص في حشد عناصر الجمال المؤثرة، ففي كلمة (الصمت) ما يوحي الى حاسة السمع وهي نقيظ الكلام فهو حتما كان يتحدث ولذلك صمت فجأة وفي ذلك تسخير للاتضاد، وفي كلمة ( نظارته) ما يوحي بحاسة البصر، وفي كلمة ( دمعه ) ايضا. وفي استخدام كلمات ( المترقرق+ انزلها+ ماسحا) كلمات توحي بالحركة وهي التي اكثر ما يبعث الحياة في النص ويجعله حيويا. وفي استخدام كلمات ( فانزلها + ارجعها ) تسخير للاتضاد. وفي كلمة ( عاجلته ) ما يوحي بالحركة. وفي كلمة (تبكي) ما يؤشر الى حاسة البصر.

وفي كلمات (طفولي+ جدي) تسخير للاتضاد. وفي استخدام كلمات ( صمت + تلطخت+ مترقرق+ قديم+ شغف+ تبكي) ما يستثير المشاعر ويوحي بحدة الصراع الداخلي الذي يدور في ذاكرة ذلك الرجل الشائخ فيدفعه للبكاء فتتلطخ نظارته بدمعه المنهمر المترقرق. وباستخدام هذه الكلمات ايضا نجد القاص يستكمل رسم المشهد وكأنه يرسم لوحة فنية، كما يستكمل رسم شخصية ذلك الرجل العجوز.


أستاذ أيوب...كأنك في قلبي حين كتبتها...!ما أروعك وأروع قلمك النقدي سيدي
شكراً لك من القلب ...

ناريمان الشريف 12-25-2015 08:04 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة انمار رحمة الله (المشاركة 199163)
ماذا يحدث هنا..؟
الألق كله هطل دفعة واحدة
وأنا تائه هناك كمذنب يجهل موعد الأرتطام...!
أعتذر جداً لكم أصدقائي لطول غيابي وتأخري في الرد....سوف أقبل قلوبكم فرداً فرداً

ردك حاضر .. من غير رد
فمن يكتب هذا الابداع حاضر في غيابه
تحية ... ناريمان الشريف


الساعة الآن 03:10 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team