![]() |
صفحتي الهادئة
صفحتي الهادئة ستكون بعون الله أرضا خصبة أزرع فيها بذورا طيبة لتثمر غلالا نافعة ، صفحتي الهادئة ستكون توطئة لأعمال أدبية ستكون المنابر نقطة انطلاقتها ، ركني الهادئ سوف لن يكون لخواطري ، فربما بوح المشاعر كاف لاستيعاب كل فيضانات الوجدان ، هذه الصفحة البعيدة عن الصخب والبعيدة عن التفاعل والبعيدة عن التدخلات تعطي ظرفا منطقيا لميلاد عمل خلاق عمل حكيم عمل راق يستوعب ويبلور تجارب الفرد في الحياة .
هذه مقدمتي وأتمنى أن أوفق في ترجمتها إلى حقيقة ، وأن أكون عند حسن ظن أهل المنابر وضيوفها . انتظروني هنا . |
أبدأ معكم بنص طويل وأتمنى أن تتحملوا مشقة قراءته ، سأقدمه عبر حلقات وفقرات قصيرة كتبته بين سنة 1998 و2000 ، كتبته لنفسي ، فأنا من الذين يؤمنون بالكتابة للنفس قبل الغير ، من الذين يؤمنون بأن الكتابة جزء من خصوصية كل إنسان ، إن أراد نشرها فهو له وإن استفرد بها فهي خاصته ، ونظرا لأن هذا المنبر الشريف أعجبني و أتاح لي فرصة الكتابة ، فلن أبخل عليه بما لدي ، إن كان حسنا فبفضلكم وإن كان قاصرا فمن نفسي .
لن أطيل كثيرا في المقدمة فعنوان نصي هو رياح الخريف |
كنت مددا على السرير ساعة دخولها الغرفة ، وجه صبوح مستدير بعينين سوداوين واسعتين بأهداب طويلة مصفوفة ، بياض ناصع يشع منه احمرار في خديها الممتلئين ، قامة طويلة تناسب عرضها المتوسط ، اندفاع صدرها ظاهر من خلال وزرتها البيضاء ، شعرها الأسود المسترسل تطل ناصيته من وراء حجاب أخضر ، أصابعها الطويلة يغطي أظافرها لون أحمر يتناغم و لون شفتيها الورديتين ، ابتسمت في وجهي وقالت :
ـ سأكون في خدمتك ، هل ترى مانعا ؟ ـ شكرا آنسة. ـ اسمي سناء . ـ جميل . ـ هذا دواؤك الجديد سيدي ، ملعقة من هذا السائل قبل كل وجبة ، وقرص بعد الأكل . ـ شكرا يا آنسة . ـ كيف تحس الآن ؟ ـ صداع يا آنسة ، يشق رأسي شطرين ، يبعثر هدوئي . ـ هذا المسكن سيساعدك على الاسترخاء . نظفت الغرفة و طلبت مني الهدوء وعدم التفكير العميق ، و أن أحاول الهروب من المرض و السفر عبر فضاءات واسعة في الخيال . انصرفت جارة الباب وراءها ، قد تكون ساعات عملها انصرمت ، فساعة الغرفة واقفة عند السادسة مساء ، أحاول عد الدقائق معها ، متبعا دورة عقربها الدقيق بعيني المتعبتين و إحساسي العليل ، وتركيزي المخدر لكن المسكن اشتدت فعلته فغبت عن الوجود . الظلام يعم المكان إلا من عقربي الساعة المضيئين المتوجهين نحو الأعلى ، أدركت أني نمت نوما عميقا ، حاولت القيام دون جدوى ، حاولت الحركة فتعذرت ، أحس الكون يقوم بدوته حولي ، خرير مزعج لا ينقطع أزيزه في أذني ، والألم يتضاعف في جبيني . الطبيب الليلي يقتحم الغرفة ، يضيء الأنوار ، يضع راحة يده على جبهتي المحمومة قائلا : " لابأس لقد نمت طويلا ، سأرسل لك الطعام ، بعدها عليك بمسكن آخر ." فتحت عيني ، النور يتدفق من خلال النافذة المفتوحة ، الساعة تميل إلى التاسعة صباحا سناء بجواري جالسة على كرسي خشبي تنبهت لاستفاقتي فتشكلت ابتسامتها الجذابة : ـ صباح الخير سيدي يبدو أنك على حال جيدة . ـ نعم آنسة سناء ، على الأقل النوم يساعدني على مفارقة ألمي . ـ طيب ، وكيف تشعر الآن ؟ قالت كلامها وهي تضع يدها اللينة على جبيني فأحسست انتعاشا يسري في أعصابي . ـ لا بأس الألم خف بعض الشيء ، لكن لا أستطيع الحركة . ـ ستتحسن حالتك قريبا . تتكلم وهي تطعمني و تقدم لي الدواء بيديها المزخرفتين بالحناء ، أحس أصابعها حين تتموضع على شفتي ، تبتسم عند كل لقاء لعيوننا ، أدركت أنها تحمل قلبا رؤوفا رحيما عطوفا ، مسحت فمي ببمنديلها الوردي المعطر ، فأحسست نشوة تغمر سكوني ، نظمت المكان ونظفته بعناية بالغة ، غيرت ملابسي واستبدلتها بملابس جديدة ، تذكرت الأم حين تلاعب صغيرها العاري ، ودعتني حاملة معها الملابس الرثة و صورتها لم تغب عن عيناي لحظة واحدة ، ابتسامتها الجذابة رغم صعوبة الموقف ، وتحمل مشقة الجيفة الآدمية النتنة وتطهيرها ، وجعلها في متناول الجمال ، قلب الأم وحده من يحمل هذه الصفة ، قلب يحب بعث الحياة من دنس الشقاء ، قلب يبدع الجواهر من اللاشيء . ابتسامة لا تفارق خيالي ، فهي ممزوجة بضحكة بياض أسنان كلآلئ عقد يزين عنقها . رجعت عند منتصف النهار لتعمل على تغذيتي وتطبيبي ، وجهها يحمل بشارتها ، تقوم بعملها بنفس النشاط ونفس الحيوية ، ونفس الروح الطيبة ، ما تزال بالغرفة حين تحركت سبابة يدي اليمنى فشاركتني دهشتي وفرحتي ، وهي تشجعني قائلة : " إنك ستتعافى تماما وفي أيام قليلة " سألتني عن عملي فأخبرتها أنني موظف في قطاع البريد وأني بدأت هذا العمل منذ سنتين بعد تخرجي من المعهد التقني للاتصالات ، لم يدم حوارنا طويلا فالمنوم اضطرني إلى السفر . |
مساء أنظر إلى ملابسي المطوية المتعطرة و الغرفة تستعد لتوديع آخر أطياف النور ، كنت أود رؤيتها قبل أن تغادر المصحة ، اصفرار الشفق ينعكس على جدران الغرفة ، ومخلفات الإرهاق لا تزال تثقل ذهني ، هذا المرض يقتلني ، أنا الذي كنت قويا ، كيف استطاع الضعف التسلل إلى جسدي ، وهل سأتعافى فعلا أم تلك مقدمات عاهة مستديمة ، هل سأتمكن من إقصائه قبل يستحلي السكن في عظامي ، ذهني الشارد يخوض في متاهات لا حدود لها عندما دخلت نجوى غرفتي ، تحمل مشروبا وحساء ، نفسي المنقبضة و شهيتي المنغلقة تزيدها برودة نجوى استفحالا ، تطعمني بفتور يوازي فتور شهيتي ، شتان بينك وبين سناء ، متباعدتان بعد المشرق عن المغرب ، أنتظر مجيء قطار النوم وبالي مسافر إلى حيث تسكن سناء ، ذلك القارب الذي أرى فيه منقذا من مخالب المرض ، لطافتها تنسيني مرارته ، عذوبة نبرتها توقظ في نفسي همتها ، رائحتها تنعش الأمل في قلبي ، أحسست برعشة تهدهد قلبي فنمت على مواويله الحالمة .
اليوم مختلف استيقظت باكرا والنور يتسلل إلى الغرفة ، ونسمات الصباح الباردة تنقر على صفحاتي وخزات منعشة ، يدي تحررت من قابضها ، تنصاع لأوامري ، ألعب بتوجيهها أينما رضيت ، كم هو جميل أن تكون مالك أعضائك ، وكم هو مؤلم أن تفقد السيطرة عليها ، فتخونك متى هممت باستعمالها ، أقبل ظهر يدي وراحتها ، أحمل بها يدي اليسرى لعلها تستجيب لتوأمها و تتخلص من كسلها ، لكنها تهوي كلما رفعتها إلى الأعلى مستحلية الخضوع .تتملكني شفقة عليها ، مسكينة مغلولة ، مقيدة معزولة عني تماما ، ، تدفقت أشعة الشمس على الغرفة و الباب يفصح عن سناء لتزيد بجمالها الغرفة إشراقا ونورا على نور ، قميصها الوردي يبتسم على استحياء من خلال وزرتها البيضاء الشفافة ، مددت إليها يدي مصافحا فذهلها ما رأت والتقت الكفان في عناق لم يدم طويلا . ـ بدأت تسترجع قوتك ، فقبضتك متينة ، تستطيع الآن الإعتماد على نفسك ، على الأقل في الطعام . خرجت لإحضار الطعام ، فلولا قساوة المرض لتمنيت أن تبقى يدي مشلولة لآكل من يديها ، جلست بجانبي ترشدني في تناول الدواء والطعام ، كلامها عذب رقيق ، ليست تشوبه ملامح عجرفة ولا اسبداد ولا قسوة ، ، فور انتهائي مسحت يدي بمنديلها ومدت إلى مجلة لأسرح بين أحضانها . عند الضحى أحضرت إزارا و ساعدتني على التخلص من ملابسي ولفتني في الإزار حين حضر ممرض ليساعدها على نقلي إلى الحمام على كرسي متحرك ، استويت داخل الحوض المائي الدافئ وعلى جسمي تمرر منديلا حتى لمعت صفحتى وضعت الصابون على وجهي و حلقت لحيتي التي بدأت تمتد واستأذنتني في حلق الشارب فوافقت ، انهت مهمتها بجد ورجعت إلى سريري مرح النفس معطر الجسد ، فواجهتني بسؤال لم يكن في حسباني : ـ أرى أن لا أحد يسأل عنك من عائلتك ؟ |
ـ مع الأسف يا سناء مات أبواي ، أما أعمامي فلا علم لهم بمرضي فالصلة بيننا انقطعت لمدة طويلة ، أختي الوحيدة التي أحبها كثيرا ، وهي من تموضعت مقام أمي ، فمنذ شهرين لم أتلق منها خبرا ، ، فظروف عيشها صعبة ، تعرفين الأمومة ومشاغلها ، و قسوة الحياة القروية ، أنا لا أحب حشرها في مرضي ، فلن يزيدها ذلك غير هم و غم ودمع و إحساس بالذنب من قصور اليد وقلة الحيلة ، علما أن زوجها تجرع من والده غلظة بها يسير بيته ، كان الله في عونها . ـ أنت مثلي تماما ، فأنا وحيدة أمي كفلني خالي و هو من سهر على تربيتي و تأمين مستقبلي ، ـ آسف على إيقاظ مواجعك ، لا بأس فالأم تغني عن الجميع . ـ صحيح ، فأنا ما أحسست يوما بالوحدة ، فهي تملؤني عطفا وحبا و فخرا ، علمتني كيف أواجه حياتي بسلاسة وليونة . ـ نعم المدرسة هي ، فأنت ناجحة في عملك ، بل أنت رائعة حقا . توغلنا في الحديث عن مرضي ، وكيف أصبت بذلك الإغماء الفجائي وأنا أنتاول كوبا مائيا في مكتبي بعد يوم متعب ، أخبرتني أني خضعت لعدة فحوصات و ستعرف أسباب تلك الحالة بعد صدور التقارير ونتائج الفحوصات بعد أسبوعين . نهر محمل بمياه عكرة ، حامل على ظهرة أشجارا مختلفة الأشكال والأجام تراها تتدحرج عائمة طافية ، هديره يدوي بقوة ، أمواجه الصاخبة تعادل التلال ، عائشة تطاردني حاملة مسدسا ، أين المفر ، فوهة النار ورائي والبحر أمامي بدأت أصيح مرتعبا ، أعوي صاغرا ، أسترحمها جاثيا عند أقدامها ، عيناها الغائراتان ، شعرها الأشعت ، كروح آتية من العالم السفلي ، كشرت عن أنيابها ، و يداها مطبقتان على القطعة الفتاكة ، التي انطلقت منها رصاصة فقفزت بقوة ، ساقطا من على السرير . هبت سناء لمساعدتي من كرسيها حيث كانت تتصفح مجلة نسائية ، أذهلها ما رأت ، في حركة متثاقلة ثنيت رجلاي ، مستعينا بسريري تمكنت من الوقوف ، هنأتني بعد ذهاب دهشتها على استرجاع حركتي ، ثم ذهبت لإخبار الطبيب . |
هل وجه الطبيب بشاشة وهو يتلقى خبر نجاح مجهوداته ، فجاءني على أصابع قدميه وقد ازداد طوله و انشرحت ملامحه و دبت حياة جديدة في حركته قائلا ، متعني بتلك الوقفة ، أعلن انتصارك على هذا الشلل ، يأمرني ليتأكد أن كل شيء ذهب أدراج الماضي : " ارفع يدك اليمنى ، اليسرى ، استدر ، اركع ، .." كلما أطعته ازدادت أوامره بماذا تحس الآن ؟ فأجبته " أظن أني بخير ، فبالي تمتلكه نشوة الفرح ، وجسمي يزداد نشاطا ، لكني رغم ذلك ، أحس بالتعب " فقال : " طبيعي ، التعب لا يهم ، ستكون أقوى مما كنت ."
غابا لفترة قصيرة ثم رجعا بأدوية جديدة ، يشرح لسناء ، "لاحظي المقادير مهمة جدا ملعقتان من هذا الشروب ، واحدة صباحا على الصوم وأخرى بعد اثنتي عشرة ساعة . أما هذه الحقنة فسأتكلف بها شخصيا ، وانتبهي إلى الأقراص نفس الكمية و دون انقطاع ." خرج الطبيب وهو ممتلئ حيوية ، وأنا أتمتم كلمات شكر لا تريد الخروج بمرونة من حلقي وهو يضحك قائلا : لا عليك أنا أقوم بواجبي . فتبسمت سناء وأسرعت إلى غلق باب الغرفة وراء الطبيب ، موعد مغدرتها يقترب شيئا فشيئا ، ومع اقترابه أحس بالاضطراب ، ، كيف سأمضي الليل كله منتظرا عودتها صباحا ، أحس أنني لا أستطيع مفارقتها ، بت متعلقا بها أكثر ، زاغ قلبي و بدأ الشرود يجذبني إليه ، قلبي يتمزق و تزداد ضرباته ، وأنا جالس على السرير ، أخذت نفسا عميقا ، لكن حالي تزداد سوءا ، لم أتمالك نفسي ، قمت إليها و يداي تلفان جسدها ، فأصابتها رهبة ، و انقباض وهي تحاول التخلص من قبضتي ، أرخيت لها السبيل فغادرت الغرفة و لم تتفوه بكلمة ، صحا ضميري فبات يؤنبني على فعلتي ، وصرت أخشى من فقدانها بصفة نهائية ، أنفاسي عند الحلقوم ، وعزتي عند أرنبة أنفي ، اشتعلت كل جوارحي غيظا ، تضايقني صورتها التي ترتسم أمام عيني ، وهي محمرة الوجه ، تقاوم بندية رجل كابحة صوت الأنثى ، صمتها الرهيب وهي تغادر الغرفة ، عدم استدارتها ، ربما عيونها كانت حاملة لدموع تنتظر الفرج .اهتز جسدي حين سمعت خطواتها تقتحم الغرفة : " سامحيني سناء ..فقط " أجابت مغتاظة : " فقط ماذا ..؟ فلم أجد جوابا إلا الحقيقة لينطلق لساني فجأة : " أحبك يا سناء ، و لا أريد أن تفكري في مغادرة حياتي و هجري ، لا تتسرعي في هذا القرار ." فردت بحزم " لا تعد لفعلتك مرة أخرى ، الأجدر بك أن تبقى مشلولا ، لم أكن أعلم أنك وقح إلى هذا الحد ، كنت أعتبرك إنسانا طيبا ، إنسانا رصينا ، إنسانا متحضرا ، لكن ما فعلته يظهر طيشا و تهورا واعتداء وانتهاكا لكل القيم والأعراف ، أنت ..." فسقطت دمعة من عينها ، أصابتني خيبة و كسرت فؤادي فقلت لها : " اغفري خطيئتي سناء ، لم أفكر بهذا الشكل ، إنه الحب أعمى بصيرتي ، لا أريد أن تكون هذه صورتي في بالك و لا أريد أن تظني بي سوءا ، فأنا إنسان محب ، امنحيني فرصة لأبين لك مدى إخلاصي ." فقالت: " غدا يوم عطلتي أتمنى أن أنسى فيها ما حدث " احسست أنها استرجعت هدوءها فابتسمت قائلا : " سأفتقدك كثيرا ، استريحي وامرحي ، ربما كان أسبوعك متعبا ، عطلة سعيدة " فقالت :" أتمنى أن تقضي أنت أيضا يوما ممتعا " فأجبتها " قد لا يكون كذلك في غيابك ، هل تسامحينني ؟" لم تجب على سؤالي بل اتجهت صوب الباب ثم رمقتني بنظرة تحمل ابتسامتها الغالية وأغلقت الباب في وجهي . |
قمت في الصباح الباكر ، أصبحت عاديا تماما ، بعد الاستحمام وحلاقة وجهي أمعنت النظر في المرآة ، ملامحي لم تتأثر كثيرا ، اصفرار خفيف على بشرتي ، زرقة شاحبة تحت جفوني ، إنها علامات التعب والخمول ، ارتديت ملابسي ، وتناولت فطوري ، توجهت عند الطبيب كي يسمح لي بفسحة خارج المستشفى ، فابتسم قائلا : " مزيدا من الصبر ، يمكنك أن تخرج من غرفتك إلى الحديقة ، لكن حذار من شرب السجائر والتعرض لأشعة الشمس ."
على العشب الأخضر ارتميت مستظلا بشجرة برتقال تحمل كريات لا تزال خضراء وإن كان بعضها يتمازج فيه اصفرار واخضرار وهي تستعد لمعانقة لونها البرتقالي الجذاب ، أزهار مختلفة الألوان على طول الرصيف مهذبة مصفوفة كجنة حاكم ، تداعبها نسمات خفيفة وهي تحتضن بشوق أشعة الشمس الذهبية ، مياه النافورة تتصاعد إلى السماء راسمة دوائر أخاذة تتسابق الطيور لالتقاط قطراتها الطائشة ، نفخ المنظر في روحي عذوبته ، فرق قلبي و رهف إحساسي ، فأحسست بشيء ما ينقصني ، مشاعري فاضت شعرية وجمالا هذا الجمال يذكي شغفي بالحياة ، هذا البهاء ما خلق إلا لرفقة ، هذه المناظر الخلابة تجعلك تبحث عن أنيس وجليس معه ترتشف لذتها ورونقها ، تذكرت عائشة ، فانتصب شعر رأسي وقمت في الحال إلى غرفتي وقد تعرق جبيني ، وتملكني خوف كبير ، والغضب ينفخ أوداجي ، أريد أن أنسى ، أريد أن أعيش ، ما السبيل إلى ذلك ؟ ما السبيل إلى مسح ذاكرتي ؟ كيف أبدأ حياة جديدة ، تذكرت سناء فخف حزني و قلقي ، إنها رحمة من السماء ، سفينة نجاة ، ليتها بجانبي الآن ، فأعرف رأيها ، ترى هل تقبل ؟ من يدري ؟ استسلمت لهمومي وأحزاني رغم وصايا الطبيب بعدم الاستغراق في التشعبات المملة والأوهام ، قضيت يوما طويلا في غرفتي ، واستسلمت للنوم بمجرد حلول الليل . |
استيقظت وزقزقة العصافير تحارب سكون وجمود الليل حين هزم فلق الصبح الغسق ، وانبلجت أطياف النور من ركام الظلام ، تمنيت لو استيقظت في منزلي ، المصحة قرينة المرض والخوف ، المستشفى تزدهر فيه الشفقة و الضعف و الخضوع ، أمقتها منذ صباي ، أقبل على التحدي والقوة ، وأرى في الإنسان جسمه القوي وعقله القادر على الفوز والتفوق ، المصحات تلغي هذه المعادلة ، فترى الفرد عائلا ضعيفا نحيلا مهانا ناقصا معاقا ، مسلوب الهمة مهان الكرامة ، تغشاه الشفقة وتعلوه ألوان الإذلال والخضوع ، فركت عيني فركا خفيفا ، أزحت عني الإزار ، نزلت من سريري ، وتقدمت إلى الحمام ، الفوطة على كثفي ، وآلة الحلاقة والصابون في كفي ، غصبت المرض وقهرته ، فأنا لن أهزم بسهولة ، أحسست نبضا جديدا يدفع دمائي للحركة والإقدام ، انتعشت في الروح أسباب التقدم ، فمرحبا بكم في عالم خالد . |
ـ صباحك مبارك حبيبي . ـ يومك فل ونرجس وياسمين روحي . ـ قضيت ليلة سعيدة بأحلام جميلة ، كم هي سعيدة الأيام بقربك و أنت يا فارسي ؟ ـ حالي حال الأمراء ، أحس بالعالم يغبطني ، يحسدني ، فرحتي لا توصف ، حياتي كلها طرب وأنغام . ليلي سمر ورقصات ، أنت من أحييت قلبي و إحساسي و سعادتي وحياتي . تناول خالد و زوجته سناء فطورهما ، وتوجها إلى عمليهما ، بعد قضاء أيام استراحة وفرح ومرح إثر زفافهما . فور دخوله إلى مكتب البريد ، استقبله رئيسه وهنأه بالعودة و بادله زملاؤه التهاني ونظرات السرور والبهجة تعلو ملامحهم ، و استلطفوا تلك السعادة البادية على وجهه المشرق ، وجسمه الحي و استعداده الهائل للحياة . سلوى لم تكن رشيقة كعادتها ، هنأته بفتور ابتسامة ذابلة ، كانت وضعته نصب عيونها ، إنها الغيرة تشل حيويتها ، تسلبها خفتها ، تأخذ منها مرحها واستعدادها الدائم للمساهمة في الأفراح والثرثرة ، بالها مشغول به ، كيف استغنى عنها مع ما كانت تقدمه من أجله ، كانت ستفاتحه في موضوع الزواج لولا ظهور ذلك المرض في حياته فجأة ، لقد أخطأت لأنها لم تزره في المستشفى ، إنها رقيقة المشاعر ، لا تتحمل رؤيته في تلك الحال ، لا تستطيع رؤية حبيبها طريح الفراش ، كانت تتقصى أخباره كل لحظة ، لم تكن تظن أنه سيتزوج بتلك السرعة . سأله صديقه سامي ، التحق مؤخرا بالوكالة ، منذ شهر ونصف تقريبا ، لكن صداقة غريبة نمت بينهما ، فهو من يعتني به طول مدة مرضه ، هو من أقنع سناء بفكرة الزواج ، هو من أحضر أخته من البادية ، هو من تسير الأمور على يديه بسلاسة وعلى يديه تفتح الأقفال ، تتيسر المصاعب : ـ كيف حالك يا زوج سناء ؟ ـ كل شيء على أحسن حال ، قضينا بضعة أيام في مدينة المحبين ، كانت رائعة للغاية ، أنت تعرف مدينة الآثار ، عذرا أقصد مدينة الأحلام ، فيها كل ما تشتهيه النفس و ما يريده البال ، بحر وماء وهدوء و .. ـ و سناء ؟ ـ تقرئك التحية إنها سعيدة غاية السعادة كم أنا محظوظ بها يا صديقي . قاطعت سلوى الحديث بجفاء : ـ أنا أنتظر أرقام الحوالات ياخالد ، إننا في ساعة عمل و ليس في فسحة بمدينة الأحلام والأوهام ـ معذرة سلوى ، لاتؤاخذيني ، الأرقام ستكون جاهزة بعد لحظات . أحس ما يروج في وجدان الفتاة ، لكن ماذا عساه يفعل ، القلب وما يهوى . |
مطعم يتوسط المدينة ، الهادئة ، تقدم فيه أطباق متنوعة ، يتسع لعدد كبير من الزبناء ، هذا المطعم كان ملجأ خالد وسلوى قبل زواجه ، هنا يتناول الحوت أكلته المفضلة ، جلس مع زوجته حول نفس المائدة التي تأويه مع صديقته . ـ ماذا تختارين حبيبتي . ـ أصبحت مولعة بالحوت حبيبي . ـ أحببت الحوت فتزوجت سمكة رشيقة ، أحب التفاح وأنت تفاحتي ، أحب الورود وأنت وردتي المتفتحة . ـ أصبحت شاعرا حبيبي ، هلا أسمعتني خاطرة ؟ احتفل الشعر بحبي لها فلست أحلم بغير سناء اجتمع الحسن والخلق فكل نعيم دونك شقاء وضع الحوت في أطباق فضية ، و بجانبه ألوان من السلاطة ، و مشروب التفاح ، يزدرد الزوجان الطعام بنهم الجائع اللهفان ، و قعقعة الكؤس تقاطع حشرجة المضغ . ـ الطبيب يطلبك حبيبي . ـ ماذا يريد ، ألم تخبريه أنني بخير . ـ يقول إن نتائج الفحصوات جاهزة . ـ أي فحص تقصدين ؟ ـ أنسيت أنه أجريت لك فحوصات عندما كنت طريح الفراش . ـ كل هذا لا يهم ، الآن أنا بخير . ـ يجب أن تهتم بصحتك حبيبي ، و تمتثل لإرشادات الطبيب . ـ هل أخبرك بشيء ؟ ـ أنت تعلم أن الفحوصات نتائجها سرية ، ومن خلالها سيصف لك الدواء و الارشادات . ـ سأمر على المستشفى مساء ، ستكونين هناك بانتظاري ، تعرفين أكره المستشفيات . |
ساق سيارته عند خروجه من الوكالة صوب المستشفى ، وجدها عند البوابة فقالت له : " الطبيب في انتظارك " ستجدني في السيارة عند خروجك ، ، نظر إليها نظرة استكشاف لعلها تخفي عنه شيئا ، بادرته بابتسامتها الشافية فقال : أنت رائعة سأعود حالا . في المكتب حنحن الطبيب عند سماعه طرقا خفيفا عند الباب طالبا منه الدخول ، سلم عليه المريض واقفا وهو في عجلة من أمره ، فقال له الطبيب " تفضل بالجلوس " ، جلس خالد و التوثر يبدو على صفحته وبدأ انقباض يتسلل إلى صفاء روحه و مرونة أيامه الأخيرة قائلا : " لا بأس هل من جديد سيدي " فرد عليه الطبيب : "هل أنت متوثر؟ " جال خالد ببصره في الغرفة و حك جبهته بأطراف أصابع يده اليسرى فأعلن " نعم ، بعض الشيء " فأجابه الطيب : " أعرف ، هذا التوثر ناجم عن مرضك " كان الطبيب في معرض كلامه يضع قرصا فوارا داخل كأس ماء ، وقدمه للمريض ، فتناوله خالد و أفرغه في جوفه بعصبية مغلقا عينيه ، أتبعها بطقطقة لسانه و زفير حاد ، فسأله الطبيب : ـ كيف حالك الآن ، هل تعاودك النوبات ؟ ـ ربما أنا بخير . ـ بكل أسف ليس الأمر كما تعتقد . على الأقل هذا ما تظهره نتائج التحاليل الطبية و الفحوصات . ـ ماذا تعني سيدي وضح كلامك . ـ هل في عائلتك من هو مصاب بالسرطان ؟ ـ لا ....لا ...لم أسمع بهذا . ـ تشير البيانات أمامي أن وادك و أمك ماتا . ـ طبعا سيدي ترحمهما السماء ، ماتت أمي بعد معاناة مع المرض ، هم بمسح دمعة وقدم له الطبيب منديلا فهوى الدمع من عينيه استرسالا . ـ آسف يا ولدي ، لكنك ستلتحق بهما بعد شهرين . ـ ماذا ؟ سأموت ؟ لا ..لا .. واخيبتاه !!!!! ـ هون عليك كلنا سنموت . ـ لا...لا ... ليس مثلي يموت .... ليس مثلي يموت هذا ظلم ....هذا ظلم !!!! قال هذا الكلام فخر صعقا مترامي الأطراف ، فحملوه إلى قاعة الإنعاش و العناية المركزة . |
استفاق خالد فوجد تفاحته بجانبه وعلامات السهر منحوتة على وجهها ، فبادرها قائلا : ـ أنت هناحبيبتي . ـ منذ مصرعك البارحة وأنا هنا أنتظر رجوعك ، بماذا أستطيع خدمتك ؟ ـ كل شيء طبيعي حبيبتي ، أنا جائع ، وربما أحس بالبرد ، لا تهتمي أنا بخير ، سنخرج حالا ، تعرفين لا أحب هذا المكان ، أتمنى أن تعملي في أي مكان إلا هذه المستشفيات بيوت العجز والمرض . ـ لا تقل هذا حبيبي ، فهذا البيت مقدس ، يقوي الأفراد ويشفيهم ، وفيه يتعافون ويعانقون الحياة . ـ بل يعانقون الموت ، الموت ، أتعلمين ما هو الموت ؟ ـ ماذا تقصد حبيبي ، تبدو متعبا منهكا ومتوثرا ؟ ـ معذرة ، إن رفعت صوتي في حضرتك ، فعلا لم أعد أتحكم في أعصابي ، أنا متعب حقا . ـ حبيبي ، أنت بحاجة إلى الراحة ، حياتي حياتك ، سعادتي سعادتك ، عذابي عذابك ، أنت أنا جسد واحد ، فلا تفكر هكذا . ـ أنت رائعة حبيبتي ، أنت زوجة مثالية لو تعلمين مقدر حبي لك . بعد مضي يومين سمح له الطبيب بمغادرة المصحة ، وسلمه رخصة مرضية طويلة تعفيه من العمل مدى الحياة ، و نصح زوجته بالاهتمام به والترفيه عنه وجعله يستفيد من من أيام حياته الأخيرة . دخل بيته ، فأخذ يتصفح المكان بدقة ، بعد شهرين سيهجر هذا البيت من غير رجوع ، إني أحببتك أيها البيت ، ذكريات جميلة تتماثل أمام عينيه التان فاضتا بالدموع ، و سناء تشاركه هذه المأذبة المرة ، وجهها الشاحب ، عيناها المحمرتان ، قال لها : هل أخبرك الطبيب ؟ وضعت وجهها في ملء يديها و صرخت صرخة مدوية ، و اتجهت صوب غرفة النوم مستلقية على بطنها دافنة وجهها في وسادة و هي تنتحب . هرع إليها وقد أذهله هذا الرد ، فانحنى عليها واضعا كفه على ظهرها وشفتيه تقتربان من أذنها ، وهمس لها : كفى حبيبتي ، يكفيني مصابي ، فلا تزيديني عذابا ضعفا ، ارحميني ، وارحمي نفسك ، إن كان يعز عليك فراقي ، فماذا أفعل ؟ لا أملك من أمري شيئا . تركها للحظة حتى تشفي غليلها دمعا و تنفس عن حمولتها وتوجه إلى المطبخ يهيء الشاي ، حزنت و أيقنت في نفسها أن الحزن لا يقدم ولا يؤخر ، فلا شيء يجدي غير القبول و الإعتراف بقلة الحيلة ، توجهت المطبخ فوجدته يرتشف كوب شاي فلمى رآها بدأ لسانه في الكلام : " لم أكن أعلم أن نهايتي ستكون في عز شبابي ، و في أوج سعادتي ، ليتني لم أتزوج كي لا أعذبك معي ، ليتني مت قبل أن تمتلئ حياتي أملا ، كل شيء في الدنيا يؤلمني ، ماذا فعلت في حياتي ، لتكون هكذا ؟ ألا أستحق الهناء ، ألا أستحق رأفة الأقدار ؟ فواصل منشدا: بئس الضيق بعد رحابة و بئس الإذلال بعد عز وعلا أشكو مصابي لذي قرح فهو بالابتلاء والشدة أدرى ليس السقيم من ينشد دنيا فالدنيا لذي قوة وكبرياء . |
نعم يا سناء الدنيا لقوي ، ما كانت يوما لعليل سقيم ، هو ورم زائد ، وصمة عار على وجهها المشرق ، ، أومن بالقوة يا سناء ولا شيء غير القوة ، أريدك أن تجسدي هذا الطموح ، أريدك صلبة ، لا تستسلمي ، لا تخذليني ، أرى فيك كل صفات المرأة العظيمة ، المرأة الحديدية ، أريد أن أرحل مطمئن البال راض عنك ، قولي كلمة لعلها تزيد من أجلي وإلا صمتك عجل برحيلي . ـ كيف تريدني أن أصبرعلى فراق الحبيب ، أنا أنثي يا رجل ، أنت من جمع شتاتي ، و نسم حياتي ومنحها طعما ولذة ، كنت أسير بلا هدف بلا معني ، كانت أيامي خالية من كل روح ، فلك أعيش ومنك أستمد عذوبة الحياة ، فلا أرى نفسي قادرة على مواصلتها بدونك . استسلم الزوجان لقدرهما و هما اللذان كانا إلى عهد قريب في سعادة مترامية الأحضان ، أمضيا يوما عصيبا زرع في نفسيهما أثقالا وأهوالا لن تمحيها السنين ، استنزف رصيدهما من المقاومة ، وأتي على أيام الفرح التي كانا ينعمان بها ، لم يستطع النوم مخادعة جفونهما إلا بعد تناول أقراص سافرت بهما إلى رحاب نوم صناعي مليء بالهواجس . استيقظ خالد منهك الإحساس مشرد العزيمة ، خائر القوى ، متعب الأفكار، فاقد التركيز ، نظر بجانبه فلم يرها في الوقت ذاته سمع رنين الأواني في المطبخ ، تقدم نحو الحمام وأطلق رشاشا باردا لعله يحيي بعض آماله و يبعثر جبال الخوف والقلق الجاثمة على صدره ، فكبلت حركيته و أحكمت القيض على روحه المرحة ، توجه صوب المطبخ فوجدها أعدت الفطور ، جلسا حول المائدة وهما يتبادلان نظرات مليئة حبا و رحمة وبعض شفقة ، و هما يرتشفان كؤوس القهوة ، أوقد سجارته التي فارقها منذ بداية مرضه ، الآن لا جدوى من كل تلك الاحتياطات ، لا مفر من الرحيل ، بدخان أو بغيره ، اعتنى بصحته أو تناساها ، لا شيء يغير من المعادلة الجديدة مفعولها ، لا يشيء يبدو مهما ، لا شيء يبدو على حقيقته أو ربما تجلت حقائق الأشياء بشكل جلي و واضح ، منطقه يكاد يتغير جذريا من كل شيء . ـ لا بد أن أفعل شيئا ، ساعديني من فضلك يا سناء . ـ ما تقصد ، أنا بجانبك ، ما حاجتك؟ ـ آه ، الحياة حبيبتي . صمتت ولم تجب عن هذا السؤال الذي يفوق قدرتها ، فما رأته في الكشوفات يحكم على حياته بالزوال ، فلا تملك غير دفعه بعيدا عن هذه الأفكار ، ومحاولة انتشاله من هذا الفراغ الذي يملأ حياته . ـ حبيبي ، أقترح عليك أن تسافر ، تمارس الرياضة ، تقرأ الروايات والقصص . ـ آه حبيبتي حياتي كلها قصص وحكايات ، حياتي ذكريات ، حياتي أصبحت منذ اليوم مجرد ذكريات ، مجرد صور عابرة ، مجرد خيال . ـ إن الذكريات جميلة حبيبي ، فلماذا لا تكتب مذكراتك ، على الأقل أنا سأحتفظ بها و تعيش معي ما حييت ، وتؤانسني في وحدتي . ـ ماذا ؟ تقصدين أن أدون حياتي ، لا ، قال هذا الكلام فاحمرت وجنتاه وأذناه و اشتد غضبه ثم تمالك نفسه مستطردا ، لا أستطيع ، أنا لست فنانا ولا سياسيا ولا شخصية مهمة ..ماذا سأكتب ؟ ...أنت لا تعلمين .. ـ اكتب أي شيء ، طفولتك أيام المدرسة ، حياة القرية .. ـ قلت لا هذه فكرة لا أرتاح لها ، ولن أقوم بها . ـ الرأي رأيك ، أريدك فقط أن تشغل بالك في شيء مفيد ، مثل تلك الذكريات الجميلة التي تطفو بين الفينة والفينة على قلوبنا ، فتجعلنا نحب استرجاع الماضي الجميل ، ولا اريدك أن تبقى هكذا مستسلما تنتظر الموت . ـ حسنا سأفكر في الأمر . |
الإخوة والأخوات متتبعي هذا النص ، لكم الشكر والتحية ، أظن أن الجزء الممل من النص تم تجاوزه ، من الآن فصاعدا سيدخل النص منعطفا جديدا ربما كان له وقع جميل على نفوسكم . نلتقي قريبا مودتي . |
أيام جميلة تلك التي قضيتها في القرية ، طفولة البؤس والحرمان تمحوها عواطف جياشة وأحاسيس رقيقة ، رغم محدودية أرزاق الأسر ترى النبل يتدفق من حركاتها وسكناتها ، الابتسامة والتزاور يغذيان تلك الرحمة و ذلك الحنان . يتقاسم أهل القرية الأفراح والأحزان فلا تجد نفسك وحيدا في صراعك مع الحياة . عندما تستقبل قريتي تتراءى لك بناية شامخة من الطين ، قصر كبير مزدان بأربع منارات في زواياه ، تلك من مخلفات الاستعمار والأسر الحاكمة قديما ، مسنو القرية يتحدثون مؤكدين أن تلك البنايات شيدت على قهر وتسلط ، فالأهالي الذين يعيشون تحت وصايتها يصلون الليل بالنهار دون أجر و بلا رحمة ، إذ يكاد عدد العسس يتساوى وعدد العمال ، فيكدح العامل بلا استراحة ، وإن بدا منه ما يسيء لحارسه فمصيره إلى الفناء أقرب منه إلى الحياة و النجاة ، يحكون عن دهاليز و أقبية و أنفاق حفرت تحت البناية بعضها لتخزين السلاح و المؤونة وبعضها لتعذيب و سجن كل من له رأي مخالف حتى يقضي أو يسلم كل ممتلكاته و ينفى عن الديار . الشيخ موسى يروي قائلا : " سبحان الذي أخلى هذه القصور بعد أن كانت أوكارا للترف و البذخ و الغناء و الاستعباد ، والآن أصبحت مرتعا للزواحف والجرذان ، وتآكلت هيبتها و تحطمت أسوارها " يرتاد السواح الآثار القديمة مستمتعين بفن العمارة و نقوشها المميزة وزخارفها فيتساءلون عن زمن البناء و صاحب المعلمة و ينبهرون بعظمة الأولين وقدرتهم على الإبداع و رقي أذواقهم وجمالية منجزاتهم ، يقفون مشدوهين أمام تلك المعالم الأثرية التي تنم عن حضارة و حضور في التاريخ ، لكن لا أحد يستحضر أرواحا زهقت و أطفالا يتموا و أعراضا هتكت ، وأسرا شردت ، ومحنا لا تعد ولا تحصى فقط لتخلد هذه البناية و يظهر ألقها و تبدي زينتها لمن يجهل تاريخها . قريتي راسية على ضفة نهر موسمي مزدحم بالقصب ، تأوي إليه الخنازير نهارا مستظلة بأشجار الصفصاف العالية و مستحمة في مياه بركه و عيونه ، وتتجه ليلا لإفساد حقول الذرة والخضروات ، يبني القرويون منصات مراقبة على أشجار اللوز والزيتون حارسين محاصيليلهم من هجماتها ، كل يوم يتناقل البدويون أخبار الحقول التي غزتها جحافل الخنازير و الأضرار التي تكبدها النائم الغافل الكسلان . تبتعد المدرسة عن قريتي بثلاثة أميال ، أذكر أول يوم قادني فيه أبي إلى اليها ، كان الجو ماطرا ، تخلص من سرواله الفضفاض و حزم جلبابه و وضعني على كتفيه لنعبر شعبة محملة بمياه عكرة قدمت به من أعلى الجبل المطل على المدرسة ، مقاعد خشبية ، سبورة سوداء ، حجرة طينية مزينة بصور ، معلمة تتحدث بلسان غريب ، كتاب ولوحة و ريشة و محبرة ... |
عالم مختلف عن المسجد الذي تعودت عليه ، حيث الفقيه يتوسط كوكبة من التلاميذ الذين يضج بهم المكان ، هذا بصوته الغليظ و ذاك بصوت طفولي والآخر بنغمة أنفية لا تميز تقاسيم كلماته ، وذلك سريع في تلاوته و الآخر لا يزال يفك شفرات الحروف ، فيخفت صوتهم شيئا فشيئا ويبدأ الصغار في الكلام والمزاح و الكبار في الغمز و الحركات البهلوانية لينخرط الصغار في قهقهات توقظ الفقيه من استراحته فينهر الجميع ليتعالى الصوت من جديد في صخب ممزوجا بصيحات و بكاء من وصلت إليه عصا الفقيه الطويلة التي لا يكاد يسلم منها الصغير الكبير رغم أن الكل يحتمي بلوحته الخشبية كما يحتمي الفارس من السيف بذرعه . الفقيه ذلك الشبح الذي يرتسم في ذهن كل أطفال القرية ، أبي كان يجبرني على أخذ السجاد لأستعمله اتقاء البرد لكن خوفي من الفقيه أعظم ، فكل التلاميذ لا يفترشون غير الأرض الجرداء ، يستقبل المسجد التلاميذ مع الخيوط الأولى للفجر فتسمع همس الأطفال وهم يرتدون جلابيبهم الصوفية و يتخلص من أحذيته قبل دخوله لرحبة الدرس ، فيعانق لوحه المعلق على مسمار في غرفة اسودت جدرانها وسقفها بدخان ينبعث من حفرة تتوسطها تستعمل كموقد يعلوه إناء من الماء الدافئ معلق بقضيب معدني مثبت في سقف الغرفة . هذه الغرفة هي مجمع ومجلس شباب القرية يستدفئون بموقدها و فيها تلقى نشرات أحداث الدوار والقرى المجاورة وكذا السوق الأسبوعي ، فهذا يتحدث عن ثمن الغلال و وذاك عن مرض فلان والآخر عن عرس مرتقب وهم ينتظرون صلاة العشاء أو موعد النوم . كل أسرة تتكفل بإيقاد الموقد يوم تطعم فيه الفقيه الذي يتنقل عبر البيوت حسب عدد الأسر في تتابع وتوال محكم ، الفقيه هبته كبيرة ، و موضعه أعظم ، فهو الحكم والقاضي و المشرع والفيصل في المنازعات وهو الطبيب المداوي لكل العلل ومن يحضر الغائب و قارئ الرسائل و العقود و كاتبها . قبل أن يعم الصباح يكون الأطفال قد استكملوا حلقتهم و راجعوا ألواحهم فيتقدمون واحدا تلو الآخر للاستظهار و كل تلعتم تسبقه صفعة الفقيه و ركلاته و كلما عجز المتقدم عن الاستظهار تأخر عن غسل لوحته و وضعها أمام أشعة الشمس الأولى لتنشفها استعدادا لكتابة الجزء الموالي من النص القرآني عن طريق الإملاء فترى الفقيه موسوعة قرآنية تملي الجمل حسب الطلب وعند استكمال الإملاء يأتي دور الفقيه لتصحيح أخطاء الكتابة ، فالويل كل الويل لمن فاتته قاعدة إملائية على هدى الرسم العثماني من ألف محذوفة أو مثبتة أو مد ، أو وقف وغيرها ، فكلما تقدمت في السن و الحفظ كلما كانت انتظارات الفقيه كبيرة ، كل من كتب لوحته وصححها يمكنه الذهاب إلى منزله لتناول طعام الإفطار ليعود ويحفظ ليستظهر جزءه قبل الظهيرة . المدرسة مختلفة ، المعلمة بصوتها الرقيق الذي يداعب مسامعنا برفق ، تكتب الحرف ثم تكرره مرات و مرات عديدة ، تأمرنا بالنظافة وارتداء الملابس الجديدة و النظيفة ، تعلمنا الجلوس و القراءة و توقظ فينا المنافسة ، تعلمنا الحساب والألوان والرسم ، تعلمنا الإنشاد والقرآن ، ما إن اعتدنا على المدرسة حتى بدأنا نفر من المسجد و بعد أعوام بدأنا نعصي أوامر الفقيه ونستشعر قصوره أمام القدوة الجديدة في حياتنا . قضينا سنتين مع المعلمة كانت أما رؤوما ، هي من غرست فينا حب المدرسة والتعلم ن كانت كتلك الشمعة الوهاجة تحترق لتضيء لغيرها ، تركت بصمات لا تمحى في ذاكرتنا ، أذكر كيف شخصت العذراء وهي تحمل المسيح إلى قومها ، و كيف شخصت دور المسيح ذلك الوليد الذي تكلم بصوت طفولي ينساب من حلق المعلمة كما لوكانت هي نفسها المسيح والعذراء ،. حضرنا مجلس الرسول عندما جاءه جبريل يعلمنا الإسلام والإيمان والإحسان والساعة ، رأيناه بجماله الملائكي ، كانت تشرح لنا الشيء فتجعلنا نراه رأي العين ، إنه كلام نابع من القلب فتتلقفه القلوب الصغيرة بحب وقبول . |
كنت وحيد أسرتي بعد زواج أختي في السنة الأولى من ولوجي إلى المدرسة ، أمي ذلك النهر الفياض من المشاعر النبيلة والرقيقة ، تلك الرحمة التي تتغشاني كل ليلة ، فقدت الدنيا بفقدانك ، فقدت حلاوة الحياة في غيابك ، كل جميل عبث بعد ذهابك ، كنت أتوسد فخدك وأنا في العاشرة ، لا يحلو لي نوم إلا على هذه الأريكة الربانية ، هذا المضجع الفطري الذي يحتضن كل قادم إلى الدنيا فيجده دافئا مرحبا يحميه من الضياع و الخوف والبرد . أبي يخرج باكرا إلى السوق وهو يسوق بغلته الحمراء ، هي بنية ميالة إلى حمرة داكنة ، حاملا على ظهرها أكياسا من الخضر ، جزر ، فول ، باذنجان ، فلفل ، لفت..... حسب ما يجود به كل موسم فلاحي ، يصلي صلاة الصبح ، يرتدي جلبابه ، فيقفز على ظهر الحمراء الساكن فتطوي الطريق طيا متجاوزة مواكب المتسوقين ، كانت الحمراء قوة البنية ، سريعة الخطوات ، هادئة المركب ، باردة الأعصاب ، أبي يعتني بها كثيرا ، هو من يسرجها و يعلفها وينظف مرقدها . أختي تزوجت مكرهة على غرار بنات القرية ، قليلات هن اللأئي أتيحت لهن فرصة الاختيار ، سلطة الأب وعلو شأنه وهمته تلغي كل أفراد الأسرة عند القرار ، الأم تكتفي بتزيين هذه الأوامر و تكسوها الحكمة بزخرف القول فتخفف من تعسفها و عدم رشدها ، أيام كنت أرتاد المسجد أنام بجوار أختي التي تصلب عودها و أينعت أنوثتها ، رسمت صورة دقيقة لفارسها موضحة : " أريده جميلا يسكن المدينة ، فارع الطول ، قوي البنية بدون سمنة ، حلو الكلام يلبي حاجاتي ، نتجول يدا في يد ، أختار الفساتين الزاهية والحلي البراقة من خالص الذهب والفضة ، سأكون جميلة بهية بحذاء بعقب طويل ، عندما تكبر ستعرف ما أقوله يا أخي ، نم الآن فأنت تحتاج إلى الراحة ." أطفأت القنديل الزيتي بعد أن غطتني بغطاء صوفي أحرش . |
تبخرت أحلام اليافعة يوم خطبها الشيخ عمر لابنه البكر الذي تخلص من زوجته الأولى بعد طول عشرة من غير بنين ، أبي تربطه علاقة احترام وربما ولاء لآراء الشيخ عمر ذو العزيمة القوية واليد الفرعونية ، مثال للقسوة والشهامة ، هو قائد بيته ، في يديه مفاتيح الخزائن ، أولاده الثلاثة يسيرون وفق خططه وأوامره ، أصغرهم له طفلين ، أختي تبكي حظها ، فهي تتزوج رجلا مطلقا بضعف عمرها ، لا سلطة له ولا قرار ، أمي كانت متحفظة ، أبي يقول :" أنا لست من يرجع عن كلمته ، الكلمة هي الرجولة ، لقد زوجتها له " أمي بحكمتها أيقنت أن لامجال للرفض، فبدأت تهيء أسباب القبول للبنت ، تذكرها بمحاسن الزواج و الولد ، تحذرها من البوار والسمعة المشينة ، كل هذا الكلام لم يكن ليغير من قناعات البنت شيئا ، كانت تبيت الليل باكية العين مكسورة الفؤاد لا تفارقها أمي ليلا ونهارا ، بينما يصطحبني والدي معه ، يشحذ همتي و يقوي صلابتي . " الرجل يا بني هو القوة ، الشموخ ، لا تضعف يوما ، إياك و الدموع فهي الذل بعينه ، كن شاخصا مثل أبيك مرفوع الرأس ، مهما تكن الظروف ، لا تظهر عجزك لأحد حتى أقرب الأقربين ." الشيخ موسى حكيم القرية ، يرعى أغنامه التي تجاوزت العشرين قرب منزله صباحا ، بعد الظهيرة يقودها عند قدم الجبل المطل على المدرسة ، كل مساء نساعده في استرداد نعجة طائشة أو حمل حمل لم يستطع الركض بعد ونحن عائدين من المدرسة ، كان يقول : " أنتم أبناء المدارس من سينتشل هذه البلاد من هذه الدناءة ، أنتم من سيحرر عقول الناس من الظلم والعار والجهل والقهر ، أنتم من سيدك العصبية ويمحقها ، كنت لا أفهم كثيرا من أقواله ، يا بني الاستعمار همش هذه البلاد وأسكن فيها الجهل و العداوة ، حتى بعد الاستقلال لم تتحسن الأحوال و لم يتغير الكثير ، فقط لا نشتغل في ضيعات العملاء ، و لاندفع لهم محاصيلنا ، لكن كل الأشياء التي كان يصرخ من أجلها الوطنيون في عز شبابي ، يومها كنت في المدينة شعارات تعد بالنعيم المقيم ، تنمية و تشغيل و تصنيع و معادن ، ملاحة وفلاحة ، أحلام كبيرة لم يتحقق منها إلا الشيء اليسير فقرانا ما تزال تائهة في بحار التخلف ، يوم جاءت هذه المدرسة سعدت غاية السعادة ،إنها مشكاة هذه الأرياف ، هي وحدها من يستطيع تغيير هذه الحياة النكدة إلى عيش رغيد . |
الفيلاج مدينة مصغرة يقصدها الناس لأغراض إدارية ، فضاء أوسع من من القرية ، شباب بالزي العصري ، قميص وسروال ، فتيات بفساتين فاتنة وعيون ساحرة و خطوات متزنة ، لغة مختلفة ، سرت وراء احداهن ، عطر يفوح حولها ، شعر ذهبي مسترسل على ظهرها تداعبه رياح الخريف ، فخد أبيض لامع يظهر كلما هبت نسمة مميطة عنه لثام تنورة لا تتجاوز الركبة ، محفظة كاكية من جلد مصقول بحزام رقيق معلقة بكتفها الأيمن ، وقع حذائها ذي العقب الطويل يوافق ميلان جسمها على إيقاع نغمته الموسيقية . دكاكين تعرض ملابس النساء والأطفال في الغالب ، مكتبة تباع فيها لوازم الدراسة وبعض الجرائد ، مسجد بمئذنته الفارعة ، طريق معبدة في حوانبها أشجار باسقة ، هدير السيارات يقاطع بين الفينة والفينة صوت شريط موسيقي ينبعث من دكان بائع الأشرطة و آخر لحلاق قبالته ، مرت دورية رجال الأمن أحسست بقشعريرة تجتاح جسدي ، كأني في فصل الشتاء ، حنين القرية يراودني كلما تأملت هذا العالم المختلف ، الإعدادية بلونها الأحمر تبدو بناياتها الإسمنتية الشامخة وملاعبها الرياضية الواسعة لكل زائر ، أفواج لا حصر لها من التلاميذ يكتظون على بابها كل صباح ، أمشي مع رفاق جدد جمعتني وإياهم ظروف متشابهة ، أغراب وفقراء يسكنون دار الأطفال . دارالأطفال مبنى يأوي ساكني القرى البعيدة الذين لم يحظوا بمنحة تشجيع التمدرس ، أغلب ساكني تلك القرى لا يلتحقون بالفيلاج لغلاء كلفة التمدرس وعدم الاطمئنان على أبنائهم الذكور ، أما الإناث فلاحظ لهن وفق أعراف القرى وتجاهل المسؤولين . قاعتان يفصل بينهما يفصل بينهما حائط غير ملتصق بالسقف ، تتموضع عليه غازية تستعمل للإنارة كلما أصيب محرك الكهرباء بعطب على عادته ، بقعة سوداء رسمتها نيران الغازية على السقف ، كل قاعة في حجم حظيرة عصرية للأبقار يسكنها أكثر ستين بريئا حكم عليهم الفقر أن يتنالوا حظهم من المعاناة في عز طفولتهم ، قراءة في أحلام سكان الدار تؤكد مدى تجرعهم لمرارة الحياة ، ما إن يرخي الظلام ستائره على الحجرتين حتى تسمع صراخا وعويلا وأنينا واستغاثات ونداءات وندبات ، فيظل الساهد يستمتع بألوان الألم والكوابيس حتى ينبجس نور الصباح فيحس بعينيه انتفختا جراء الروائح الآدمية الكريهة و الأحذية المتعفنة وروائح البول التي تفوح من بعض الأسرة ، ناهيك عن روائح التبغ . |
في الصباح يستقظ الكل وقعقعة الأسرة الحديدية المكونة من طابقين ، فيتوجهون نحو الصنبور المكشوف المحادي للمطعم ، فيغسلون أياديهم و وجوههم بماء مثلج تزيد من لسعاته الريح الشتوية ، فيصطف الجميع أمام شباك الفطور ، كل نزيل يتناول كأس حليب و نصف رغيف مطلي بمربى مختر أو زبدة جارية ، فتجد الأطفال يفضلون الخبز الحافي . نزلاء الدار ينالون الرتب السفلى في فصولهم ، يتسكع أغلبهم عبر مقاهي البلدة أو يلعبون الورق في أوقات فراغهم ، بعضهم يفارق الإعدادية لمدة قد تصل الشهر الكامل ، قليل من هؤلاء ينال شهادة الثانوي ، بينما يبلغ عدد المنحرفين نسبا متقدمة قد تصل إلى الربع ، و تحتفي بهم المراتب المتؤخرة في مسابقات الرياضة والثقافة التي تقام على صعيد البلدة . حقائق لا تجد لها عينا دامعة ولا قلبا خافقا ولا أذنا سامعة ، الكل متجاهل ، المسؤولون أميون يقودهم رئيس منحرف يصب غضبه وكبرياءه على النزلاء متى أطل على إدارته المهترئة . والأغرب لا محاسب ولا متابع ولا رقيب ، لم نسمع طوال إقامتنا بهذه الحاضنة عن مهتم شملنا بعطفه ولا مراقب شرفنا بقدومه ، كما لو أن هذا المنفى محمية لمخلوقات غريبة . ترك الأبرياء لكف الإهمال والمدمرين تقودهم إلى اللاشيء ، عند استثناء ثلة من أولئك الصامدين الذين قويت مناعتهم فتجدهم يصاحبون كتبهم صبحا ومساء ، عائمين في عزلتهم شاذين عن الجماعة لا تطيقهم ولا يطيقونها تجد الباقي منقاذا إلى الأهواء ، فتلك مجموعة من سارقي الفواكه في الحقول المطلة على الوادي ، وتلك زمرة مدخنين اجتمعوا حول سيجارة واحدة يتناوبون على شربها رشفة رشفة ، و يوم يحصلون على حبة مخدر ترى أعينهم تلمع إشراقا و ارتياحا ، فئة أخرى جرفها الغرام تسبح في بحر المواعد بين أشجار الوادي و ظلال القصب وآخرون مغرمون بالأشرطة السينمائية لا يكادون يفارقون نادي الفيديو . |
حرقة الغربة التي استشعرتها في الأسبوع الأول تعادل ما تعانيه الأرملة حين تترك وحيدة لمجابهة الحياة بلا رفيق و لا مؤنس ولا رؤوف تأوي إليه في ليلي الشتاء الطوال ، و لا مرفه ينعشها أيام القيض المحرقة ، ليس بالهين أن يفطم الرضيع بعد تعوده على ثدي أمه أكلة شهية وشرابا معسولا ولعبة لينة يصنع منها أشكالا تروقه ، نهاية الأسبوع أرتقبها بلهفة العطشان ، وشراهة الجائع وشهوة العازب ، عشرة أميال كل ما يفصلني عن مضجعي ، عشرة أميال أشقها مشيا على القدمين ، مرة أجري ، مرة أقفز عبر طريق محجرة معوجة حفرت فيها حوافر البغال أخاديد كتلك التي تتركها مياه الأمطار حين تجرف التراب في المنحدرات ، لا أبالي بالتعب ، ولا الملل ، تتراءى أمام مقلتي زوايا منزلنا ، أكاد أشاهد أمي راكعة فوق موقد ناري تسوي العجين على خزف مقوس يشتغل جوف الموقد ، أكاد أشم رائحة الخبز وقد احترقت جوانبه . كل يوم نطوف على أعداد من الأساتذة ، كل منهم ينتهج منهجا مخالفا للآخر ، فذلك مرح مشجع والآخر ناقم عصبي ، وفلان مسترخ لين لا يكاد يحس بالسرعة من حوله ، والآخر عنصري يتقطر حقدا على البدويين ، و قد تجد من بينهم إنسانا عمليا غير قابل للتصنيف ، كل منهم يفرغ حمولة زائدة على ذاكرة التلميذ المتعبة ، بدأ عودنا يتصلب ، و بدأت أصواتنا تأخذ نبرة رجولية ، نستحلي كل ما هو عاطفي ، كان أستاذ اللغة العربية العربية من يصب في نارنا زيتا ، فارع الطول مزغب اليدين ، ذو شنب كث أسود ، كثير التدخين ، أستاذ متفهم لا تسمع من فمه سبا وقدحا ، يؤدي رسالته الأدبية بامتياز ، متزن في علاقته مع التلميذ ، يتقمص دور الكاتب أو الشاعر حتى لا نكاد نفرق بينهما ، قصائد ونصوص بذرت في أعماقنا فنون الإحساس والذوق الجميل ، و بدأت أرواحنا تفنى في شخوص جهابدة هذا الميدان ، فترانا ندافع عن ذلك الجاهلي ضد أو مع قبيلته ، ونلتمس للمتغزل شفاعة عند أهل معشوقته ، و نوافق الصعلوك على تمرده الناجم عن حب الفضيلة ، ونسترجع أمجاد الأجداد ، وخيولهم المثيرة للنقع ، وبصماتهم الفنية على لوحات الأندلس ، و نحيي كبرياء حكامنا باستجابة شافية لندبة آتية من روما ، بدأنا نموقع ذاتنا بعيد عن الحيز الجغرافي الضيق بعيدا عن تلك القرية البسيطة والبلدة التي استوطناها لمدة تقارب الثلاث سنوات ، نستشف الصراع والوطن ، أخذ جوفنا يتعكر ، نتجرع بمرارة واقع وطننا القابع في ذيل الأوطان ، و يسير بتبعية عمياء لأوطان يقال عنها عظيمة ، متقدمة ، كبيرة . ندرس التاريخ فتلقاه ممتلئا بطولة ولا نجد تفسيرا لتدحرجنا إلى الحضيض ، وبدأ عزوفنا واضحا عما تقدمه شاشة التلفاز وأصوات المذياع ، حيث التغني كل يوم بتقدم مطرد و نمو متواصل في كل المجالات وفي كل ربوع الوطن ، فقدنا الثقة في كل ما كتب ويكتب ، و كل ما يقال . كنا نستهلك الأغنية الساقطة الهابطة والتجارية بلغتها الرديئة هي ما كان يبهجنا في الماضي القريب ، اكتشاف التناقض متزامن والسماع عن لون مغاير بإيقاع حزين مهيج و خطاب يرصد من الحياة وجها سلبيا قاتما ، يشاهد الدنيا بمنظار أسود فلا يكاد يفرق بين مرج أخضر وصحراء مقفرة . |
بدأ التمرد يسري في فكرنا و أفعالنا اجتياح السم لشاة لذغتها أفعى مسمومة ، رفض لكل ما هو جاهز مسطري ، كل شيء مزور ، القيم ، الثقافة ، الإنسان ... قصيدة الغزل لها القسط الوافر من تذوقنا للجمال الروحي والطبيعي ، تلك الكلمات التي يصوغها الهائم ، تعزف على أوتار القلوب فتعلوا نغماتها مصافحة أبراج المجد ، تطير في الفضاء الرحب مستنيرة ببريق النجوم ، تعابير تفوح عطرا كنسيم صباحي في حديقة مزهرة . بهتت الشمس بعد يوم حار ، نسيم عليل يلاطف خياشمي ، أسير جنب الوادي المحتفظ ببقية باقية من مياه راكدة ، نساء القرية يلجن الحقول واصفرار الشمس مسلحات بمناجل و قفاف مصنوعة من جريد النخل على ظهورهن ، يغادرن عند مقدم الظلام وقد جمعن أكواما من الأعشاب . استوى بصري على فستان مزركش كلوحة بهية رسمها فنان في ليلة عرسه ، لم يكن بصري ليغادر تلك الوردة المتفتحة ، تلك الزهرة الباسمة ، كانت فتاة تستقبل أنوثتها ببطء ، شدني صدرها الظاهر على احتشام كما لو خبأت خلف فستانها رمانتين في حجم برتقالتين ، ساقاها النحيلتان ما زالتا في سمك جذع زيتونة لم تثمر بعد عينان زرقاوان وشعر أشقر يتدلى على كتفيها ، وقفت بجانب ليلى بنت جدتي فاطمة ، في أواسط عقدها الرابع ، أصغر أن تكون جدة ، فقط هي حضرت مولدي وقطعت حبل سرتي لذلك أسميها جدتي . جارتي ، أختي صديقتي لا أعرف أي الألقاب تستحق ، هي في مثل سني كنا بمرتبة توأمين نلعب سوية ، كانت جدتي تحبني كثيرا ، أذكر يوما سرقت لعبة من ليلى فغرست أظافرها في وجهي ، عاقبتها أمها بشدة و قدمت لي اللعبة كتعويض ، أحس يوما بعد الآخر أن ليلى تحاول استمالتي نحوها لكن دون جدوى ، إنها أكثر من أختي ، وديعة ، نشيطة ، فطنة ، صبورة .. ـ كيف حالك خالد ؟ ـ كل شيء جميل جمال عينيك . ابتسمت ليلى مضيفة : " جمال عيني أم عيني رفيقتي ؟؟؟ ـ مؤكد أنتما جميلتان . ـ شكرا على الملاطفة ، هذه عائشة بنت خالي ، يعمل خارج أرض الوطن ، عائشة هذا خالد جارنا الذي حدثتك عنه . ـ تشرفت بمعرفتك ، قالتها بلغة ركيكة ، هي من أولئك الذين فقدوا لغة وطنهم ولكنتها . ـ أنا أيضا سعيد بلقائك و ... حاولت أن أكمل الجملة بشيء فجمد لساني وقد صغت الجملة الأولي بأسلوب ركيك كما جملتها ، العيب فينا نقلد كل شيء . ـ أنت تدرس في المدرسة . ـ نعم أنا سعيد بهذا وأنت ؟ ـ أنا أيضا أتابع دراستي بالإعدادي ، أحب اللغات أنا أدبية . ـ أنا أيضا في الإعدادي فقط أحب العلوم . ـ هل تدرسون العلوم هنا ؟ أحسست كأن خنجرا غرس في كبدي ، ترى هذه نظرة العالم إلينا ، لا نعلم شيئا ، لا نساوي شيئا يذكر . ـ لم تجب عن سؤالي ؟ ـ لا فقط لم أفهم قصدك بالضبط ، فنحن نقرأ كل العلوم طبيعية وفزيائية ورياضية .. ـ هائل أنتم كبلاد الغرب وهل تدرسون اللغات ؟ ـ بالطبع ندرس لغات الغرب . ـ لا أصدق أنت لست كالقرويين هنا . ـ لا أنا مثلهم تماما فقط لم يجدوا مدارس أيام طفولتهم . ـ أنت غيور جدا . ـ أحب ذلك و تعجبني فطنتك . شكرا لك ، أنا أجهل الكثير عن هذه البلاد . ـ ربما تجهلين أيضا أنها بلادك . قاطعت ليلى حديثنا قائلة : تماديتم كثيرا ، لا أعلم ما تقولنه ، لا أحب أن تتحدثوا بهذه اللغة ، إنها لغة الأجانب ، عليك يا عائشة تعلم لغتنا بدقة ، فنحن لا نجد مكانا نتعلم فيه لغتكم ، أما خالد فكما قلت لك ، يعرف كل شيء فهو ... ـ كفى ليلى من فضلك كلنا لا نعلم شيئا كلنا متعلمون فقط .. ـ أكيد تحب مقاطعتي . ـ كلا فأنا دائما أخوك الذي تعلمين . ـ تعرف لابد من ملء هذه القفة سنذهب الآن . ـ كما تحبين . |
ودعتها بنظرة مليئة فضولا لأشتكشف وجها خفيا تحمله هذه الزائرة جعلني أنعطف إليها كليا ، أحسست بشيء غريب يسري بدني ، رعشة برد في يوم حار ، لا أصدق أن عيني صارتا أسيرتين تتعقبان خيالها ، الذي يبتعد شيئا فشيئا حتى توارى خلف أغصان اللوز والزيتون المتعانقة عناقا حارا لا تفسده إلا رياح المساء ، نفسي مقبوضة بوعكة لا أعرف سرها ، تذكرت ماكان يعانيه الشاعر يوم حكمت عليه القبيلة بالرحيل ، تذكرت كلماته الرنانة المهزومة رغم كبريائه ، كان أستاذنا يشخص فنشعر الشعور نفسه تراه هو أيضا كان يوما شرب ن تلك اللذة الغريبة الممزوجة بحرقة مستعذبة ، واصلت مسيري بتثاقل بجانب الوادى الذي استسلم خريره للسكون والصمت أحس بكل شيء يضايقني ، زقزقة العصفور وصفير الصرار تمنيت لو أن كل شيء سكن و و هدأ مثل الوادي ليستمع لأنشودة قلبي على إيقاع شاعري يتعاظم كبرياء حينا و يخبو استسلاما أحيانا . قرب المدرسة المشتملة على حجرة واحدة استكملت خريفها الأول ، تتوسط بيادر القرية التي ما تزال تحتفظ ببقايا القش بعد جمع المحاصيل ، قديما كان شباب القرية ينامون ليلا على هذه الأكوام مستمتعين بانتعاشة الليل و رطوبته ، بل كل أهل القرية يفضلون النوم تحت سترة النجوم على سطوح بيوتهم ، الشمس تشرف على المغيب ، بعض الصغار يلعبون كرة لدائنية بجانب القاعة ، أشاهد ألوانا من التحف الناذرة في فنون الكرة ، طفل يقذف الكرة فيسيل أصبعه دما و الآخر يرتمي فتتلطخ ملابسه و هذا يجر صاحبه فتظهر عوراته ، أتابع مع المتفرجين المباراة الذين يتغامزون ويتضاحكون معلقين على كل لقطة وأنا في وجوم وسكون وصمت على غير عادتي . توارت الشمس خلف الجبل ، حشرجة سيارة جعلتني أستدير خلفي وأنا في طريقي إلى البيت ، سيارة فخمة ، تخالف ما ألفته عيوننا من أصناف بالية يسمع دويها من بعيد ، عكس هذه التي يفوق صوت عجلاتها وهي تعالج الطريق المحجرة دبيب محركها ، صاحبها بزيه التقليدي يدير المقود يمينا ويسارا بدقة متناهية وهو يسير ببطء السلحفاة ، كطفل لم يعتد المشي بعد ، تصفحت أرقامها بعد أن تجاوزتني كل شيء فيها يعبر عن عدم انتمائها لهذه البلاد ، إنها سيارة أجنبية . المؤذن يصيح بملء فيه مناديا للفلاح والنجاح والصلاح ، لم أعد مواظبا على ارتياد المسجد ، ربما لكسل دب في عزيمتي ، لا أصدق تغيرات كثيرة حدثت في حياتي ، من ذلك الطفل البسيط النجيب المتصف بالخصال الحميدة ، بالنبل بالحياء ، باليقظة ، بأشياء يستحليها شيوخ القرية إلى مراهق متمرد كسول ، علبة السجائر أخفيها بين الأحجار تارة أو في قدم زيتونة بلغ بها القدم مبلغه فأضحى جذعها منخورا تسكنه الحشرات والجرذان وعلب السجائر ، أطارد رائحة التبغ بوريقات البرتقال و النعناع و العطور ، كنت أعلم أن رد فعل والدي لن يكون بسيطا ، على سلوكاتي التي يستهجنها المجتمع و يسفهها ، السيارة راسية في الساحة الممتدة أمام بيتنا و قبالة منزل ليلى ، الظلام يحلق حول المكان ، و شبح شاخص أمام السيارة ، استجمعت حذري ، شممت أصابعي رائحة النعناع لاطفت أنفي ، أخذ الشبح يبتعد عن السيارة و يقترب مني رويدا رويدا ، إنها عائشة صوتها يقول في همس : " خالد هذا أنت ، انتظرتك منذ مغيب الشمس ، ـ هذه أنت ألا تخافين من الظلام . ـ هل أزعجتك أم توجست مني شرا . ـ الإزعاج لا والخوف ربما ، تعلمين حياتنا مليئة بكل أنواع الاساطير والأشرار . ـ هل يوجد مجرمون هنا ؟ ـ كلا المكان آمن جدا ، أقصد أشياء أخرى .. لا يهم كيف تمر عطلتك . ـ بشكل رائع كل شيء يروقني و خاصة رفقتك . ـ أنت تكذبين.. لم أكمل كلمتي حتى أحسست بدفء شفتيها و يداها تحيطان عنقي ، شلت حركتي و وجف حلقي و ارتعشت أوصالي ، واحسست بحرارة تغمر أذناي و استفقت عند سؤالها : " ما بك ؟" ـ لا شيء ...... فقط لم أتوقع .......ـ طيب صدقني حبيبي منذ رأيتك لا أعرف ماذا أفعل ، أعتذر إن كنت مخطئة . ـ لا بأس كلانا روح واحدة ، ربما ما أتيت لزيارة ليلى إلا لجمع شتات هذه الروح المشردة . |
على السرير أتشوى على عادتي ، لا أنام تحت النجوم ، كلما فعلت يشتد صداع رأسي نهارا و ينزف أنفي رعافا ، الليلة هجيرية الطبع ، أداعب إزارا كانا منعشا في البداية مع توالي الدقائق يكتسب حرارة جسمي إن لم تكن حرارة قلبي ، النوم لا يهتدي إلى جفوني ، صورتها تتراءى أمامي في الظلام ، كلمتها تلسعني " غدا سنرحل باكرا " كيف لي أن أتأقلم مع هذا المعطى الجديد ، كيف أتعايش مع قلبي الذي يسكن وراء البحار ، لماذا لا يفكر قلبي ، أيعرف ماذا يفعل ؟ تراه يتحالف مع الزمان ليهزمني ، لماذا اختار أن يذيقني مرارة الفراق مع العناق الأول لحرارة الحب ؟ آه يا قلبي يا مسكين لم تعرف كم جنيت علي ، وكم حملتني من التعاسة في حياتي . الثلث الأخير من الليل برزت أماراته نسمة صباحية تلطف جو الغرفة القائض ، تدخل بدون استأذان ، شباب يرسلون رسائل عبر الأثير ، يقدمون عناوينهم الخاصة على المذياع ، الكل يحس بالوحدة والوحشة ، اغتراب يستوطن القلوب ، يبحثون عن دفء مفقود ، عن إنسان لا يشبه الذين ياكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، لا يشبه كل هؤلاء الذين يرتادون المدارس والكليات ، إنسان آخر ، عالم آخر ، ربما كالذين تنقلهم الشاشات ، ربما ملاك يهبط مرفرفا بأجنحته البهية يزرع السعادة في القلوب المنهكة ، إنسان يتفهم ، يعتذر ، يتسامح ... المذيع يبلسم الجراح بالآمال والأنغام والكلام العذب ، وصفة قد تشفي وقد تؤذي . استيقظت والشمس توسطت السماء ، أبي يرتشف من الشاي حين دخلت الغرفة ، كنت منهكا ، مخنوقا ، تنقبض حركاتي ، أينك يا سيجاترتي ، يجب أن أعانق فيك المجهول ، يجب أن أدمر حزنا يفتك بي ، يجب أن لا أسمع ، يجب أن .. ويجب أن.. ـ هل أنت مريض يا خالد ؟ ـ كلا أنا بخير . ـ النوم إلى منتصف النهار من علامات العجز والكسل ، نم باكرا ، و استيقظ باكرا ، علاقة الأباء والأبناء تقليدية للغاية ، لا مصاحبة فيها ولا مؤانسة ، الأب يرأى في ابنه طفلا لا ينمو ، لا تتغير حياته ، يريده عجينة لينة بين أنامله ، طاعة عمياء ، سلبية مطلقة ، استعباد ، عندما يشتد عود الابن يبدأ الخلاف ، يسود الخلل العلاقات الأسرية ، لم أعقب على قول والدي ، بقيت صامتا مطأطأ الرأس ، سكوت وصمت رفض لا يعبر عن الرضى . ـ كنت أنتظرك لتساعدني على شق سواقي الري ، وجني حبات اللوز ، الذي لا يريد العمل في نسيم الصباح يعمل في هجير الزوال ، من يتكاسل في صغره يتهالك في كبره . في الحقل أصوب ضربات موجعة لأشجار اللوز انتقاما من شيء غير محدد ، الحب يتناثر والأوراق تتطاير ، و وجداني يغلي ، و تسود يومي أفكار ناقمة مماذا؟ لست أدري ، من المجتمع ، من المثل ، من الواقع من .... هدوء و سكون ليس يبعثره إلا نقيق الضفاضع المسترخية على المياه الراكدة ، ظلام خافت يسدل الوادي ، ركام الدخان يغادر فمي وأنفي كحمم بركان استعاد نشاطه بعد فتور لتتسلق أبراج السماء ثم تتلاشى و تتفتت كأن شيئا لم يقع ، تماما كأحلامي ، بالأمس فقط و في هذه اللحظة بالذات بنيت أحلاما لا تمحى ، وخططا تيقتنت من نجاحها ، لم أكن أعلم أن كل شيء يتحقق سريعا و يهرب سريعا ، لم يبق منها إلا رسالة تسلمتها من يد ليلى وهي تساعد أمي في جمع الحبات المتناثرة ، كلمات حفظتها وما كانت لتطفئ نارا مشتعلة في فؤادي ، بل زادتها توهجا و اتقادا . سمعت ليلى تقول لأمي ، خالي يفكر في بناء بيت هنا في القرية فقد أعجب بجوها ومناظرها وأهلها و هدوئها . فكرة أثلجت صدري و لو للحظة ، آن لنا أن نلتقي لأيام يا عائشة ، لكن متى بعد أن يجف ينبوع حبنا ، بعد انفجار فؤادي و تقوس ظهري ، لا أطيق الصبر ، لكن ما بيدي حيلة . تراك تحسين الغربة بين أهلك كما أنا ، تراك تحسين جمال العطلة أم ضاقت بك الأرض على شساعتها . |
الثانوي ، استشعار الفتوة ، تلمس القوة ، التحدي ، المغامرة ، كل شيء يبدو سهلا ، الثورة على الجاهز ، البحث عن الذات ، القفز على النقائص ، التشبت بالمثالية و الاستماتة من أجلها ، الأساتذة يتعمقون في التحليل و يسبرون أغوار النصوص ، ونستكشف المسكوت عنه و الخلفية التي يحملها الكاتب ، الفلسفة ذلك العالم الغامض الواضح ، ذلك المبرد الذي يصر على شحذ ذهن التلميذ ، فيجعله يعيد صياغة موضعه وذاته و يسائل كل الثوابت التي كانت إلى عهد قريب مسلمات لا يأتيها السؤال و لا يتجرأ عليها الخطاب ، كل شيء نسبي ، أفاق جديدة فتحت أمام العقل ، دقائق الكون ، نظامه الباهر ، الاكتشافات الجديدة في علم الحياة والأرض ، صراع الثيارات الفكرية ، الفكر المادي منعطف قلما ينجو من تأثيره أبناء الثانوي ، ناهيك عن التحليل النفسي و نظرية التطور . الأساتذة يشحنون أتباعهم بما يغذي فضولهم المعرفي و يعمق تعصبهم لمذهبهم الفكري ، ، فكل يسقط بعضا من قناعاته الذاتية على المادة الدراسية ، و يحيل أتباعه على كتب أخرى تجعلهم يتقيدون بفلسفة شيوخهم ، كما يطيع الجندي قائده ، و يسفهون ما دون ذلك و لو كان المنطق السليم يرجح بطلان ما يدعون . شهادة الثانوي هي كل ما يسعى إليه التلاميذ ، تغير نظام هذه الشهادة جعل مساحات البحث والتثقيف ضيقة جدا ، فكل مترشح تجده مضطرا للاهتمام بالمقررات لمدة ثلاث سنوات تتخللها امتحانات دورية تأثر على الشهادة النهائية ، الأستاذ أيضا مقيد بإنهاء برنامج كثير الكم ويقول البعض أنه عديم الكيف . الإدارة تلك الآمرة الناهية ، كل خطاباتها عمودية ، غريب أمر هؤلاء المدراء ، كيف يتخلصون من انسانيتهم بمجرد ارتداء لحاء الإدارة ، تجد السيد المحترم ، بلباسه التقليدي أو ببذلته الزرقاء يمشي بخيلاء ، يعالج تلميذا لم ينتبه لقدوم مهابته بصفعة أو ركلة ، أو شتيمة وذلك أضعف الإيمان ، السيد ينهر العمال و التلاميذ والمربين على السواء ، إنه يكاد يحسب نفسه المالك لهذه الضيعة البشرية ، إنه الباطرون المالك لحقوق الملكية ، كنت أتحاشى الصدام مع الإداريين دون جدوى ، فحلاوة التغيب لا تضاهى ، ففي كل مرة أضطر لتلفيق وابتكار عذر يسمح لي بمغادرة المؤسسة لبضع ساعات أو أيام ، تعتريني نشوة و أنا لا أحسب للرئيس حساب ، لكن أتجرع مرارة الذل كلما رضخت لشروطهم قبل منحي ورقة الدخول من جديد . كل من يتلقى الرسائل ترقبهم الإدارة بعين شريرة ، وصيت عائشة أن لا تضع اسمها على الظرف ، استغربت من ذلك ، لكن أفهمتها أن ذلك أنجع لبقاء التواصل بيننا . |
عند قدوم الصيف كانت الدنيا قد اكتست حلة البهجة ، فصل الأعراس و الحفلات ، فصل المحبة ، تخبو مظاهر الحزن والآلام ، تضمحل كل القروح ، تشتد حرارة الجو والعواطف ، حرارة العناق والتزاور ، قلبي يتلهف للحظة ملامسة يدي ليدها ، وقد فاضت عيناي بنور عينيها ، أحسست فصول السنة تعتري جسدي ، رعشة برد فعطر زهور فقيض صيف فكآبة خريف ، من في الدنيا لا يحس هذا الشعور ، من في الدنيا لا يملك قلبا نابضا ، يقولون هل من شجرة لا تستجيب لرقصة الأنسام ؟ استرسلت ليالي الصيف في تناغم و توافق يفوق الألف ليلة وليلة ، أحداث وأفراح تتكامل لتهيئ بسطيلة تمتد لها يد الشبعان قبل الجائع ، اليوم يتبارى شبابنا مع شباب قرية تبتعد عنا أميالا عديدة ، كرة القدم بدأت تنخر عقول الشيب والشباب على السواء ، لم أختر ضمن اللاعبين ، ربما لأنني لا أحسن مداعبة الكرة ، و ربما لصغرسني وفتوة بنيتي ، و ربما لتواجد الشباب المتمدن ، أغلبهم يعملون في ظروف مأساوية ، لا كرامة و لا أموال ، أغلبهم مدمنون ، مستواهم المعرفي مفلس ، ميزتهم قميص و سروال وخاتم و سلسلة مذهبة دقيقة تحيط العنق و سوار مسلسل يحيط الساعد الأيمن و يتدلى على ظهر الكف و ساعة تؤثت اليد اليسرى . لا يرضون التحدث بلغة القرية بل يفضلون لغة المدينة ، بل يصفون القرويين بأوصاف غريبة . الملعب محاط بالمتفرجين من كل جانب ، ساعة وصول الشاحنة المكشوفة التي تقلنا ، ترجلنا من السيارة وأخذنا ننفض الغبار عن ملابسنا و رؤوسنا ، سرب من الفتيات يحملن أطباق الزهور والورود و العطور واللوز تعبيرا عن فرحة الاستقبال ، جاب السرب الملعب في حركات لولبية ممتزجة بدقات الطبول والدفوف و رقصات وأهازيج وأشعار . أخذ اللاعبون في التعري بعد رحيل السرب عن الملعب ، في أقمصة متباينة يشغلون أماكنهم ، أغلبهم بنياتهم أبعد من رشاقة الرياضيين و صلابة عضلاتهم ، الحكم يعلن بداية المباراة ، ركض واندفاع وراء الكرة ، فنيات بدائية ، قذفات هنا و هناك ، كرة تمر بجانب كومة حجر تعبر عن قائم المرمى ، يتشاجر اللاعبون ، يرمي الحكم الصفارة و ينسحب من الملعب ، يعود بعد استجداء من اللجنة المنظمة ، يتواصل الجري ، يهتز الملعب و تعلو الصيحات والزغاريد ، لاعب يخلع قميصة ويجري صوب الجماهير ، ، يتبعه أفراد فريقه وهم يعرقلون نشوته و يهنئونه تقبيلا وتمجيدا ، بينما تبدو الخيبة على الفريق الآخر ، الحكم يعلن شرعية الهدف ، وتستأنف المقابلة ، يزداد التوتر ، وتكثر الأخطاء ، يعم سكون رهيب الملعب ، إلا من صيحة لاعب أسكن الكرة في المرمى . فور نهاية اللقاء تعانق اللاعبون والمتفرجون ، وعلت صيحات الترحيب ، الشمس قد اكتمل مغيبها ، سيق الضيوف إلى احدى بيوت القرية قدم لهم العشاء بفحاوة وتبجيل ، ، ليخرج الكل إلى ساحة الرقص و السمر إلى طلوع الفجر . |
ارتديت جديد ملابسي ،مشطت شعرى الغزير الطويل ، وقفت برهة أمام المرآة قائلا :" أنت أجمل تستحق كل شيء جميل " دخلت دار العريس ، موائد وضع بعضها على بعض مرصوصة في طبقات ، نساء القرية يغسلن الأواني و يرتبن المنزل استعدادا لاستقبال الضيوف ، الشمس قد مالت إلى المغيب ، حركة دائبة وأوامر صارمة تعطى لشباب القرية المشمرين عن سواعد الجد لإنجاح الحفل ، هذا يحمل غلاية ، و الآخر يوقد النار ، هذه تسأل عن ابنها الصغير ، وتلك عن زوجها . كلفني والد العريس بأحضار بعض الأفرشة من بيتنا ، اغتنمتها فرصة ، ، سلمت ما طلب مني لبعض المتحمسين لأداء الخدمة ، هبطت إلى الوادي كل شيء لبس حداد الليل ، سيجارتي كبرت شعلتها ، أدركت أني أدخن بعصبية ، " أينك يا مولاتي ، قد تكونين اللحظة في مرقص ، وربما في حديقة تتلألأ أنوارها ، أما أنا فهنا على ضفة هذا الوادي المظلم ، لو أنك معي لأشرقت الشمس غصبا عن قتامة الليل " سمعت رنينا قادما من الشرق قمت من مقامي ملبيا كما نفعل عن سماع جرس المدرسة ، تعالى ضجيج السيارات و تسارعت خطواتي صوب دار العريس . شيب وشباب ، ذكور وإناث ، تحلقوا حول الموكب الراسي أمام منزل تنبعث منه الأنوار و يشاهد من كل مداخل القرية ، الأطفال في تدافع وركض ينم عن قوة فضول و نزق مشاغب ، تعتريهم نشوة عارمة وهم يشاركون الكبار مراسيم الاستقبال ، على عتبة الباب تقف نسوة يرددن أشعار الترحيب بالزوار ، ألحان روحانية لا تسمع إلا في مثل هذه المناسبات ، نغمة لها ثقلها على القوب وتحض الشباب على الإقبال وعدم الإدبار تراهم وقد تصلبت ألسنتهم فالنغمة شدت قلوبهم و توغلت في أعماقهم لتتملكهم نوبة سكون و استرخاء . فتيات القرية في أزيائهن التقليدية يحملن أطباق مزدانة بالزهور والعطور و البخور وهن يسترقن البصر نحو السيارات الواقفات حول في ساحة المنزل ، هذه رأت شابا وتلك نساء يترجلن من السيارة وأغلبهن يحدقن في السيارة الأمامية حيث توجد فتاة ملثمة ، من باب المؤكد أنهن يموضعن أنفسهن مكانها و كلهن شغف لليوم الذي ستعلن الأفراح بزفافهن . تتقدم امرأتان صوب السيارة التي فتح بابها الخلفي لتنزل منه أخريان أسرعت إحداهما إلى فتح الباب الأمامي و همست في أذن الفتاة الملثمة وهي تحاول إنزالها من عرشها بلين ومرونة ، سلمت العروس للقادمتين بعد أن تناولت رشفة من زليفة حليب وقضمت من ثمرة لتملأ الزغاريد المكان و تتصاعد الهتافات و تتوالى المواويل .الورود تناثر على رؤس النساء الللائي يحطن الملثمة عند وصولها إلى عتبة الباب ، التفت الجميع إلى مصدر الزهور وحبات اللوز والجوز المتطايرة في الفضاء فإذا بشخص ماثل على سطح المنزل بجلبابه الأبيض و خنجره الفضى ونعليه البيضاوين بمعية وزيره يقذفان الورود ذات اليمين والشمال حتى ابتلع المنزل العروس و بقية النساء الضيفات والمضيفات . إلى البيت المجاور سيق الذكور و أصوات الترحاب تعلو في كل مكان ، كنت مستغرقا في التفكير وصورة عائشة ماثلة أمام عيني ، صوت أبي مسحها إذ قال : " هيا قدموا الشاي للضيوف ". |
أي مجد ! أي كبرياء تحسه الأم وهي تزوج ابنها البكر فهي ستطلق المطبخ ، و تأخذ مفاتيح الخزائن ، وتعطي الأوامر ، الأب أيضا يطمئن إلى مصير ابنه فهو ينام هانئ البال وهو عليم أن ابنه نائم إلى جواره ، لا يجوب الطرقات ليلا مع رفاقه العزب ، و أن ابنه سيفكر بجد و يتحمل مسؤولية الأسرة . الزواج شهادة الأهلية و الرجولة و الجدية ، العزوبة علامة الزيغ والطيش ، تلك نقوش لا تمحى ، نحتها الأجداد و شرعتها الأعراف وختم عليها الفقيه بإمضاء كالوشم لا تمحوه السنين و لا المبتدعات . قال الأساتذة نمونا الديمغرافي يعيق تقدمنا ، وآباء القرى يقودون قطعانا من الأبناء متقاربي السن ، لا ينعمون بتغطية صحية و لا إرشاد مدرسي ، و لا تغذية متوازنة ن ولا نظافة لا ئقة ، آفاقهم محدودة إمكنات آبائهم وقراهم معدومة ، حقائق تبدو جلية ظاهرة واضحة أمام أعيننا ، برامج التعليم تشن حربا ضروسا ضد التزايد الديموغرافي وتحذر من التمادي في تجاهل تلك المعطيات . رسالة تسلمها أبي يوم السوق ، أعطاني إياها بعد أن عجز الفقيه عن فك رموزها ، سرعان ما اكتشفت مصدرها ، أجل هذا الخط الواضح الفصيح ، هذه التموجات أعرف جيدا اليد التي زخرفتها ، وأعطت كل حرف حقه من الكبرياء ، ليشارك في بناء لوحة أخاذة و عبارات مسكرة مدوخة ، أحسست بيدي ترتبك و أنا أوهم أبي أني أقرأ الرسالة ن بيد أن عيناي قد اغرورقتا ماء مالحا كبحت فيهما سيلانه ، قلت لوالدي ورأسي منحن :" غنها رسالة من أحد أصدقائي " << حبيبي ، لم أخبرك أن أخي مريض منذ شهور ، و هو لا يزال يتابع الاستشفاء عند الأخصائيين ، تعرف حرارة الطقس عندكم ، الأطباء نصوه بدعدم السفر . آسفة لتأجل اللقاء لعام آخر ، إنه سبب أكبر من أن يقهر ، لطالما انتظرت مجيئ الصيف ، فها هو ذا في متناول اليد ، فاستحال اللقاء وتأجلت السعادة ، وتاججت نار قلبي و لهيب أشواقي ، أبيت الليالي بلا نوم ، بل في سهادي أتدور لا أستنعم حريرا ولا أستحلي حلوا ، أمي لاحظت تغير ملامحي و ذبول حيويتي ، وشرود ذهني فاوصتني بالعناية بصحتي ، فتذرعت لها بمرض أخي . صدق هو أم كذب ؟ أعلم أنك تنتظرني على نار ، أكاد أستشعر احاسيسك وأنت تقرأ هذه الكلمات ، لكن ما العمل ؟ ليس بيدنا غير الأمل في المستقبل ، والرضا عن الحضار و إلى الملتقى حبيبي >> في غرفتي دفنت وجهي في وسادة ، استلقيت على بطني ، أحسست بالحمى تجتاح كياني ، يدالمتشابكتان تغطيان رأسي ، أحسست غصة في حلقي وجدت نفسي ميالا إلى البكاء ، صوت أبي يرن في آذاني : " الرجال لا يبكون ، الكاء من شيم النساء " قاومت و قاومت و بكيت . هبت نسمات الخريف فضايقت صحو الصيف جو تلفه الكآبة من كل جانب ، لسعاتها تؤذي المتعودين على الزي الصيفي الخفيف . مساء ساعة الغروب ن جو الشعراء الصيفي ، يسكن صخب النهار ، تتوقف حركة الأشجار مادة آذانها لتسمع دبيب الحشرات المتطايرة من الوادي جوار المياه المسترخية . تلك اللحظة التي أستشعر فيها وحدتي وحاجتي إلى أنيس يشاركني نشوتي ، لحظة لا تقاس معزتها عندي بأفراح الكون ، حين أتمدد على الضفة متاملا جمال الكون ن ساخرا من تفاهات الزمان ، آملا في حياة هادئة تعطرها السعادة و يحليها الحب بأزيائه الربيعية . اليوم بالذات وجب نسيان هذه اللحظة و تلك الساعة و انتظارها بعد عام كما أنتظر الحبيب ، تحبّب جلدي و انقبض ثائرا من وخزات الخريف ، راثيا ذهاب الصيف ، ساعتها أيقنت أن ساعة الرحيل قد دقت ، فورة أغصان الأشجار ، تناثر أوراقها ، جو عصبي مزعج ، عراك الطبيعة مع ذاتها قصد تدمير نفسها بنفسها ، تماما كما تفعل الحروب الأهلية بأوطان كانت جميلة . أحزان بعضها على بعض ، انصرام العطلة الصيفية قدوم موسم دراسي متعب ، هذا كله يثقل كاهلي و يبعثر تركيزي و يعنف أحوالي ، إحساس يلازمني كل عام كلما قدم الخريف . وبدرجة أقل كل أسبوع عند نهايته . |
غوريلا آدمي يركض ركضا وراء الأطفال تتدلى من طرفيه قوائم خرفان بحوافرها الملتصقة بالجلد الذي يكسو سائر جسده ، يلوح بها ذات اليمين والشمال ، وهو يطلق صيحات مرعبة تخفق لها قلوب الأطفال فيعلو بكاؤهم وعويلهم ، يقبض على ضحيته فيهبط على ظهره بضربة أو ضربتين و قد تتوالى الضربات إذا قاومت الضحية أو همت بالهروب . يسوق أسيره إلى ساحة أسايس حيث يصطف الرهائن في سرب دائري حول الطبالة وذوي البنادير ، في إيقاع مستمر اكتاف الضحايا ملتصق بعضها ببعض ترتعد في رقصات و أفواههم تصدح بأشعار وأهازيج توازي حدتها ضربات الطبول والدفوف و حرارة القائد أبي الجلود . شباب القرية لا تقبل منهم الفدية بل يجبرون على الرقص أما الزوار وخاصة لا بسي الزي العصري الذي لا يساير لباس الراقصين فيغرم قطعة أو قطعتين حال وصوله إلى أسايس حيث يقام موسم هرما " بوجلود" في عيد من أكبر أعياد القرية ، حيث يجتمع كل الأهالي في ساحة الرقص مستمتعين برقصات الشباب و رقصات القائد صاحب قناع الخروف و بعدها برقصات الشابات . رقصة هرما تدوم ثلاثة أيام ابتداء من يوم النحر الذي تجمع فيه الجلود لتصنع منها بذلة هرما و أقنعة القائد . عيد الأضحى يوم التزاور والتسامح ، يوم يقترن بكل الفضائل ، يحلو للبعض أن يسميه عيد الأعراس ، أو يوم الخطوبة ، ففيه تقدم الطلبات عسى أن تجد آذانا صاغية وقلوبا راضية ، البعض يقدم فيه هديته لعروسه القادمة ، كبش و ملابس و حلي . أمي جالسة وهي تقرأ تسبيحاتها أثناء دخولي إلى البيت بعد انفضاض جمع هرما و رجوع الأهالي إلى منازلهم لتناول طعام العشاء ، مياه تغلي على موقد كؤوس مزخرفة رصت في صينية صفراء منقوشة حول براد منقوش تشع من خلاله أنوار الغازية ، على مقرية من الغلاية طاجين موضوع على مجمرة من خزف يشغل الجمر التوهج جوفها . تختلط فرقعة الطاجين و صفير الغلاية ، فالأولى حجرجة عجلات بين الحصى والثاني محرك ناقلة تقاوم مرتفعا لا يكاد يتنتهي ، بين الصوتين تمتمة أمي في أذكارها المتوالية ، طبعت قبلة على جبينها وجلست قرب المائدة تاركا مقام أبي الذي يعودنا على تقديم كأس لا ينازع ميزاجها ، كاس صاف لونها بعمامة بيضاء تكاد تحتل النصف العلوي للكوب . ـ تفضل بني ، اجلس مقام والدك و قدم لنا كأسا معسلة . ـ أين أبي ؟ ـ أرسل في طلبه الشيخ إبراهيم أنت تعلم أن ابنه سيتزوج . |
ـ هذه مفاجأة أمي ، إنه صغير السن و لم يحصل بعد على بطاقة التعريف . ـ سيحصل عليها في الشتاء القادم و سيأجل الحفل إلى حين استكمال نصاب الأوراق . تعلم بني أنت في مثل سنه أنت أيضا أصبحت رجلا أليس كذلك ؟ ربما يكبرك بشهر على ما أذكر . ـ أجل كنا ندرس في الفصل نفسه في الشهور الأولى التي التي قضاها بالمدرسة ، لكنه لم يكمل عامه هناك . ـ أنت أيضا سنزوجك ، تعرف بني ، أي شيء في الدنيا يماثل الزواج ، يكبر أبناؤك وأنت لم تشخ بعد ، يكثر حفذتك فتكون على رأس أسرة عظيمة الشأن وكثيرة العدد و العدة ، أي شرف يماثل هذا ؟ الزواج في الصغر يا بني يفيد الكبر ، مارأيك؟ حاولت تجاهل الإجابة ، كنت أنتظر هذا الطلب من أمي لكن ليس بهذه السرعة ، كنت أظن أن الدراسة ستشفع لي و تؤجل هذا السؤال إلى ما بعد التخرج . لتسترسل أمي : " الزواج نعمة ما بعدها نعمة ، الزواج سيريحك من المتاعب ، تغسل ملابسك و تطوى ، ستكون على الدوام نظيفا يقدم لك ما تشتهيه من من أنواع الطعام ، والأهم من كل هذا تنتشل من الزيغ والرذيلة ، و تمنح شرفا وموقعا في المجتمع ، قال الفقيه أن العازب ناقص دين و وأنت تعرف ذلك فأنت إنسان متعلم .. ـ لكن يا أمي أنا أدرس كيف سأتصرف ؟ ـ هل ستبقى في المدرسة طوال حياتك ؟ ستدرس إلى متى ؟ ، تدرس حتى تأخذك منا مدنية ، تدرس حتى نموت ، تعلم يا بني أنني مريضة ، أريد أن أراك رجلا قبل موتي ، أريدك خليفة لنا في أرضنا ، أبوك متحمس أيضا ، وقال لي اسأليه إن كان يقبل بليلى ، إنها طيبة و خلوقة ، تحبك كثيرا ، خدومة جدا ، تساعدني في كل شيء . ـ حسنا ماما سأفكر في الأمر . فكر بسرعة يا ولدي ، يسعدني ويسعد والدك أن تتزوج في الصيف القادم . أي جديد هذا الذي حملته أيها العيد السعيد أنا أتزوج ! طفل تلميذ يتزوج ... أينك يا أستاذي لتقول للعالم أن الزواج المبكر يعرقل التنمية ، أين رغبتي أنا ، أين برامجي ؟ ما موقعك عائشة في هذا الموضوع ؟ في مضجعي ألتوي ، انصرمت ساعات وأنا لا أزال فريسة أرق وأفكار أعيدها أكررها دون جدوى و دون أن أدرك أي طريق سأسلك ، ليتني أطلع على الغيب فأختار الطريق اليسير بدلا عن العسير ، أحاول أن أرتب أفكاري فأوازن بين رغبتي ورغبة أسرتي و حكاية عائشة ، لكن هناك تعارض بينها كلية ، لا قواسم مشتركة ، فأجد نفسي أخبط خبط العشواء ، أين لي بعكازة تقودني و تقوّم وقفتي كما شيخ ضرير . خرجت من البيت ، غاب القمر وانتشر ظلام دامس لا ينازعه غير وميض النجوم ، يزداد لمعانها كما لو أزيح عنها الستار لأول مرة ، يدي تتقدمني تزيح عني أطياف الظلام ، و الأغصان الطائشة من الأشجار المحادية للوادي ، وصلت إلى المكان المعلوم الذي طردتني منه رياح الخريف ، التي لا أزال أستشعر لسعاتها رغم مقدم فصل الصيف ، أوقدت سيجارة سرعان ما شربت محتواها لأتبعها ثانية فثالثة ، أحسست بالدوخة ، تمددت كلية على الأرض فاتحا عيناي متابعا حركة النجوم ، عائشة تريدني قربها هناك في بلاد الغرب ، أمي تريدني بجانبها في بلادي ، أما أنا فأعشق الحرية ؟ فأي السبل تلؤدي إلى النجاح ؟ " حبيبي ، فكر في تهييء جواز سفر ورخصة سياقة بمجرد أن تصل إلى الثامنة عشر ، سأفعل ما بوسعي لأجد لك وظيفة جيدة هنا ، فكر في مستقبلك ، لا تنسى أنني بحاجة إليك " هكذا تكتب عائشة طوال السنة المنصرمة ، أجبتها مرارا وتكرارا . " حبيبتي ، عندما أحصل على شهادة الثانوي سأفكر في استكمال دراستي في جامعة غربية ، كيف... لا أعرف ولكن هذا طموحي ...." أدركت بعد طول تفكير أننا نحلم كثيرا لكن نغفل استحضار جميع المعطيات التي تحيطنا ، هكذا تزدهر المعاناة . |
استيقظت كعادتي متأخرا ، عابس الوجه منتفخ العينين ، لا يطيب لي كلام ، الشمس ابتعدت عن الجبل مقدار نخلة سحوق ، ذهبت صوب المطبخ سكبت ماء ساخنا كان على الموقد الطيني الذي تحيط به جدران مكسوة سوادا ، القدر أيضا أصبح مصبوغا بالكامل بالسواد وكذا سقف المطبخ ، حملت الماء جهة الحمام و في يدي بقية مسحوق أسود علق بيدي عندما هممت بملء آنية بمياه القدر الساخنة . غسلت وجهي و وفمي وخللت شعري بالماء ، مسحت بفوطة متهرئة مكشوفة باهتة بدأت خيوط نسيجها تغادر مواقعها ، ألقيت نظرة على وجهي في مرآة متواضعة تحتل موقعا على الحائط الجانبي للحمام . سمعت صوت أمي وقد اقتحمت المطبخ ، يداها مخضرتان بفعل الأعشاب ، كانت في الحقل وحشت كومة أعشاب لبقرتها الحلوب و الأغنام السمينة الرابضة بالحظيرة خلف المنزل ، قبلت جبهتها و سمعتها تتمتم رضوان الله عيك يا صغيري . غسلت أمي يديها وقدمت لي الفطور ، و بدأت في إعداد الغذاء . فتحت باب المنزل و قدماي تسابقان الريح نحو الشجرة الحتاضنة للتبغ ، سيارة كبيرة بيضاء كتلك التي يمتلكما تجار الملابس المتجولون بالأسواق الأسبوعية ، سيارة ودكان ومنزل ، ، تمعنت في السيارة تبدو نظيفة جدا ، إلا من بعض غبار عالق بعجلاتها ، زجاج نوافذها يعكس الشمس المحرقة فتؤذي عينيّ ، أكملت طريقي وبين الفينة والفينة أستكشف لغز السيارة ، ، لعلها سيارة خال ليلى ، أبو عائشة ، نعم أرقام السيارة و الحروف المنقوشة كل شيء فيها يؤكد أنها تحمل الحبيبة ، أحسست ارتباك من طال انتظاره ، وقفت ، سرت ، أدخلت أصابعي في شعري ، سيجارة واحدة صباحية كافية لتهدئة روحي وأعصابي . غسلت وجهي عند الساقية و قمت راجعا إلى بيتي . عند دخولي سمعت صوت ليلى في المطبخ وهي تحدث أمي ، سمعت صوتا شجيا ، صوتا يخرج من حنجرة كما تتسلل الأنغام من أوتار العود ، هذا الصوت نقش وطبع في قلبي قبل أذناي ، لغة ركيكة و ضحكة مرحة أسمعها ، قاومت ارتباكي و دخلت فناء المنزل و كلي همة و إقدام ، في زي تقليدي محلي ، قفطان يغطي سائر جسدها ، عنقها مزدان بعقد متلألئ ، يداها وضعتا على ركبتيها ، حذاؤها ذو العقب الطويل ، شعرها الأشقر كشلال منسكب من الأعالي ، عيناعها الزرقاوان ، بشرتها الملائكية ، ازداد طولها بعض الشيء ، عرضها أيضا ، لكنها لا تزال تحافظ على رشاقة خيالية . |
سلمت على حبيبتي بيد تبتغي تأكيد صلابتها فتلين مرتعشة مستجيبة خافقة لملمسها العذب ، وهي جالسة على كرسي خشبي كان قبل لحظات يحتويني عند تناول الفطور .، كل ما فيها لا يلائم المكان الذي تجلس فيه ،سلمت على ليلى وتقدمت طابعا قبلة على رأس أمي ثم رجعت إلى عائشة ، فسألتها عن أبيها وأمها وأخيها و عطلتها وختمت كلامي بمقولة بلدتي للزوار : " مرحبا بك ، نزلت أهلا و سهلا ، والبيت بيتك و أهله أهلك . فردت : بمجاملة شخص لا يعرفك عن قرب : شكرا لكم . دخلت غرفتي ، تخيلت عائشة تشاركني حياتي البئيسة ، سألت لأول مرة نفسي بجدية ، هل أستحقها فعلا ؟ هل أنا في مستواها ، هل أستطيع أن ألبي شيئا من حاجاتها ، مخجل أن تحس نقصا أمام من تحب ، ما أصعب القلب حين يختار أن يسكن الأعالي ، لكن ما العمل ؟ لندع الزمان يتصرف ، ولو أن المفعولية لم تكن يوما من خياراتي . أعود متصفحا غرفتي المتواضعة ، حصير يستر وجهها الاسمنتي ، زربية هي سرير نومي ، مخدة وبطانية و إزار ، خزانة خشبية صغيرة تحتوي بعض روايات غرامية صافية ، روايات تحكي واقعا لا يرحم ، واقع يزيده أهله تعقيدا ، مذياع يبحر بعيدا عن الوطن يمتعني بما تجود به حضارة هؤلاء من موسيقى وبرامج تملأ الدنيا ألوانا زاهية ، أشرطة موسيقية مما تناثر من شذرات تقاوم أخطبوط الفنون الغربية و صناعته التي تحتل الوجدان مفرغة إياه من مخزونه الثقافي و هويته و موروثه . ألقيت نظرة على المرآة وجهي لا يزال يحتفظ بإشراقته ، خرجت جهة البئر عند الزريبة ، بالقرب من خزان مائي تضخ فيه مضخة مياها تجلبها من البئر على إيقاع محرك يدوي بعنف ، صعدت حائط الخزان معانقا أنبوب الماء البارد الصافي الآتي من أعماق الأرض ، أثلجت صدري و أخمدت لهيب حلقي و ترجلت من على الخزان و أنا أسير بين أشجار البرتقال المحادية له و هي تحمل كريات خضراء في حجم بيض الحمام .بعضها ساقط عند قدم الشجرة ، انحنيت لأخذ واحدة منها عندما سمعت نداء عائشة الركيك : أيها الهاارييييب ماذا تفعل ؟ استدرت لأجدها قرب الخزان و ليلى بجانبها . ـ لعلك تريدين شربة ماء ـ ماء نقي أريد كأسا منه . ـ اشربي من الأنبوب . ـ أخاف أن أسقطك في الصهريج ـ ألا تحسنين العوم ـ بل أحب السباحة كثيرا ـ اصعدي واشربي |
شمرت عائشة على قفطانها و تسلقت الخزان لتمد شفتيها إلى الأنبوب الذي يقذف مياها غزيرة نحو مركز الخزان كشلال هادر ، كريات ماء تعبر عنقها الطويل الشفاف ، قامت وهي تلهث كمن تخلص من عدو بعد عدو ، غسلت يديها ، تسمرت ليلى و لم تبح بكلمة واحدة ، إنها الغيرة ، الفتيات يكرهن الجميلات منهن ، رمتني عائشة بمد ماء بارد على وجهي وهي تقول : أظنك لا تزال نائما ، استيقظ أنا بجانبك ؟ سرت رعشة جسدي فقلت لها : لست هاربا ولا نائما بل خدر خفيف و سكر بسيط و أيضا دهشة ما تغمرني . ـ لهذا إذن تركتنا في المنزل . ـ خرجت لتخرجي إلى هذا الفضاء الفسيح لتستمتعي بأريج المروج المزهرة تحت ظلال هذه الأشجار السامقة ، و ترشي لهفتك بهذه المياه الدافقة . ـ كفى ، أنت تزيد بعض الشيء ، ـ لو قالها أحد غيرك لقلت له ، أنت لا تكاد تفقه في المشاعر شيئا . ـ أعرفك حبيبي جيدا فأنت رقيق ، صفي ، قلبك مشاعره عذراء . ـ أعلم أنك تفهمينني ، و أنا أيضا أعرفك يا عمري . حنحن أبي بشدة وصاح و هو يقترب منا بخطى ثابثة :" سدّ الخزان يا خالد " أدرت الصنبور فتوقف خروج الماء إلى الساقية التي توزعه على حقول الذرة و سمعت أبي يقول : " أهلا ليلى ، كيف حالك ومن تكون صاحبتك هذه ؟ ـ معذرة عمي ، إنها ابنة خالي المهاجر . ـ حسنا مرحبا بك با ابنتي في بلادك . ـ شكرا لك عمي هكذا ردت عائشة قالت ليلى موضحة : ـ جئت لأملأ هذا القدر بالماء الشروب يا عمي ـ هيا إذن ، فخالد سيوقف المحرك الآن توجه والدي الحازم لجلبابه عند بطنه منتعلا حذاء يصل إلى الركبة جهة المنزل حاملا معولا ثقيلا على كتفه ، لحيته يكتسحها البياض ، لكن نبرته لا تزال صلبة كهيكله الشامخ و رجولته الطافحة . سكن المحرك تاركا العصافير تغني أنشودة الحياة على إيقاع ينذر بيوم شديد الحرارة . ـ موعدنا بعد الغداء على ضفة الوادي . ـ إلى الملتقى حبيبتي . |
المكان ظليل ، سدلت عليه ستائر القصب الكثيفة الطويلة المخضرة أوراقه ، عائشة جالسة بجانبي على تربة رملية ، صعدت الدماء وجهها بفعل حرارة الشمس على طول الطريق إلى الوادي . ـ يا ليتنا كنا وحيدين في هذا الكون . ـ يموت الجميع لنحظى نحن بالحياة ، تأملي هذه الطبيعة ، تلك الحشرات هي أيضا تعانق الحياة بحبور . ـ كل شيء في الدنيا دون الحب لا يساوي شيئا بل هو هباء ، هباء ! ـ مليح هو إن تحقق ، و كتب له البقاء ، وتمتع بعمر مديد . ـ هل أنت راض عن حبنا ؟ ـ مرة أقول هو فعلا حب من قلب لقلب ، روح لروح ، إحساس مليء عذوبة ، شعور جميل يملأ قلبين ولدا ليتآلفا و يتواءما و يتعانقا . لكن أحيانا أخاف عليه من تقلبات الزمان ، و عواصف الحياة ، و تموجات الأعاصير . ـ لا تكثر من مخاوفي هذه اللحظة أكبر عندي من كل أحلام الدنيا ، يكفيني قربك مني ، تعلم افتقدتك كثيرا ، شهور هي بل أعوام ، لقد اشتد عودك و ازدادت ملاحتك و كبرت يا حبيبي . ـ أنت أيضا ازدادت فتنتك و سحرك ، بهاء ، صفاء ، حسن ، أي النعوت تليق بملاك في صورة أنثى . ـ في المدينة سأقضي معك أياما جميلة ، أياما لن تنساها ما حييت ، تعرف تلك المدينة الجميلة الشائطية الساحرة ، رمال مذهبة ، شمسها الربيعية ، ليلها ما أبهاه ، سهرات حفلات ، ، جنة هي حبيبي ما بعدها جنة . ـ سمعت عنها الكثير ، رأيت بعض صورها ، لكن ما أعلمه هو أنني عاجز عن تسديد مصاريف ليلة واحدة من لياليها ، إنها باهضة ، مدينة غالية و مكلفة . ـ لا عليك رتبت كل شيء ، كنت أظنك ستتحمس للفكرة أكثر مني . ـ نعم أنا متحمس ومستعد إلى الذهاب إلى أقاصي الأرض من أجلك و من أجل حبنا ، لكن لا أحب أن أعد بما لا أستطيع . ـ كان عليك تغيير هذه النظرة للحياة ، ليست الحياة دائما هكذا ، أحيانا علينا أن نبادر ، افتح عينا واسعة كلها أمل ، لماذا لاتكون تلك الرحلة فاتحة يمن عليك ، بداية لشق طريق جديدة ، لا أريدك أن تستسلم للظروف والأحوال ، تمتع و اترك تلك المخاوف بعيدا . ـ ليتني أستطيع أن أكون حرا طليقا سعيدا حقا . ـ هذه فرصة البداية ، لا تستسلم بدون محاولات ، هل تذهب معي ؟ أومأت بالإيجاب فتهلل وجهها بشاشة وإشراقا وأمسى كبدر ليلة اكتماله ، منير مشع يضيء حياتي حبا وأملا ... |
لمتتبعي رياح الخريف انتظروا حلقات الجزء الثاني قريبا . ولكم كل الشكر |
المدينة فضاء أرحب ، بنايات شاهقة باسقة ، شوارع عريضة ، ساحات ممتدة ، حدائق مخضرة تزينها زهور متفتحة ، أفواج متلاطمة من الناس من كل الألوان والطبقات ، سلع مكدسة في المتاجر ، ألبسة ، أجهزة ، مواد لمختلف الاستعمالات ، كل الحرف ، كل المهن ، منذ ترجلي من الحافلة و أنا أتجول في هذا العالم المختلف ، كل الأحياء متشابهة ، قد لا أستطيع العودة إلى المحطة ، لا يهم فقط أود التآلف و هذا الكون الفسيح ، فسيارة أجرة كفيلة بإرشادي إلى حيث مقصدي ، حيث يسكن رمضان ، شاب قد يكبروني بعامين ، وسيم ، متفهم صديق سهام أو حبيبها هكذا قالت عائشة . تذكرتها فتأملت المشهد أمامي ، عدد وافر من هؤلاء الشقراوات يشبهنها ، كل فتيات المدينة جميلات أنيقات فاتنات رشيقات ضاحكات ، أحسست التعب ينتابني فتتكاسل يقضتي ، الليل كله أشرب الدخان عند استسلام الركاب للنوم ، لم يغمض لي جفن ، كيف للنوم أن يتجرأ علي و أنا أسافر لأول مرة ، و سحر عائشة يجذبني إلى حيث تمضي عطلتها . استويت على كرسي خشبي طويل في مقهى شعبي ، مائدة طولة أمامي ، طلبت من النادل فنجان قهوة و قطعة حلوى أجهل اسمها ، من نظرته تيقنت أنه أحس بغربتي ، فمحفظتي الظهرية معي ، وملابسي تقادمت طبعتها ، عندما كنت في القرية كنت أكثرهم أناقة ، وعند رسوي بالمدينة رأيتني كقادم من أعماق التاريخ ، فأزياء المدينة براقة شفافة ملساء ، تكاد تختفي الفوارق بين ملبس الذكر والأنثى ، حتى بشرة المدنيين لينة رطبة مشعة ، و بشرتي برية جافة . ارتميت في جوف سيارة صغيرة ، سلمت العنوان للسائق ، الذي كثرت صولاته وجولاته ، سمعت سابقا بخبثهم ومكرهم ، اليوم جاء دوري لأكون الضحية ، كلما استكشفوا جهل الزبون بمتاهات المدينة ، طافوا به الأحياء سبعة أشواط . توقفت السيارة أخيرا أمام منزل بحديقة وباب حديدي ، سور المسكن يعلوه شباك حديدي ، دفعت ورقات قدر ما دفعت لتذكرة الحافلة ، تقدمت نحو الباب طرقته طرقا لطيفا ولا من مجيب ، تفطنت إلى زر الجرس ، فضغطت عليه ضغطات متوالية يزداد استرسالها مع كل ضغطة ، فتحت فتاة في مقبل العمر الباب متسائلة : " ماذا تريد أوجعت آذاننا " ، اعتذرت وحمرة الخجل تعتري ملامحي ، فتمتمت : " هل أخوك رضوان في المنزل ؟ " ردت بشيء من التعالي و ببرودة مصحوبة ببعض لامبلاة :" انتظر فهو لا يزال نائما . " كانت الساعة تقترب من منتصف النهار ، رمضان أيضا مثلي يستيقظ متؤخرا ، كل الشباب يملأ جوفهم الكسل ، حياتهم تمضي بين نوم وتجوال ، قليلون هم الذين يستقبلون يومهم بجد وترحاب ، جلهم يمعنون سهرا ليلا و يتوغلون نوما نهارا . |
الساعة الآن 08:08 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.