منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=19228)

ايوب صابر 01-02-2016 08:51 AM

ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه
 
القدس العربي» تنشر مقاطع من روايته الجديدة… سليم بركات في «أقاليم الجن»: مزيد من الخيال الجامح
january 1, 2016

ستوكهولم ـ «القدس العربي»: خيال بلا حدود يجعل من رواية سليم بركات الجديدة «أقاليم الجن» (تصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. في 500 صفحة) سجلاًّ لا يشبهه سجلٌ خيالي. جاء بركات إلى الرواية العربية بالفانتازيا في «فقهاء الظلام»، وبالمسارات الرمزية في معظم رواياته الأخرى، وبالمساق الأسطوري في «كهوف هايدراهوداهوس»، والرواية الواسعة الملحقة بها «حوافر مهشَّمة في هايدراهوداهوس»، إضافة إلى لعبته الغريبة بحكاية عن التماثيل ذات المهمات المدروسة «ثادريميس».
رواية « أقاليم الجن» بحث في عادات وتقاليد، وتناسل وأخلاق الجن، إلى درجة تحيِّر السؤال: من أين استقى المؤلف مصادره؟ لقد بنى عالماً لا شبيه له بقوانينه وأنظمته وعاداته وطبقات الجن فيه. ربما تتقاطع أحياناً مع أنظمة البشر لكنها لا تتطابق، ولن تتطابق لاختلاف طبيعة النوعين.
أبرز سمات الرواية ذلك الصراع المعلن والقاسي والعنيف بين ابن وأمه على وراثة أحد أقاليم الجن. فالزوجة قتلت زوجها السلطان غدراً لأسباب متعددة في سياق الرواية، وعندما يطالب الابن بميراث أبيه تماطل الأم في نقل التوريث إليه بكسب عقول سادة الفرق المحاربة إلى صفها. لكن الابن لا يلبث أن يتصدى لخططها بخطط مضادة، ودهاء قوي يقلب على أمه كل شيء، باتفاقه مع سادة المحاربين على التناوب في مشاركته حكم الإقليم، ثم ينتهي به الأمر إلى قتل أمه قبل انقلاب سادة المحاربين عليه بقتله هو.
هذا تفصيل من هيكل الرواية. فعميد المحاربين الأقوى بين سادة الفرق يجد نفسه مقصياً في هذا الصراع. لكنه يستولي بفرقته الكبرى على أرض «مانعات الرياح» ليبدأ من هناك التخطيط لحصار الفرق الأخرى. وتسمية «مانعات الرياح» مصطلح في الرواية يشمل تلك الابتكارات الهندسية في صناعة أبراج، وأسوار تتصل ببعضها يمكنها حجب الرياح الدائمة الهبوب في أرض الجن عن الأمكنة المطلوبة محاصرتها. والجن إذا حُجبت عنهم الرياح هدأت حركتهم وصاروا ثابتين جامدين.
عوالم غريبة جداً: هناك طيور عمياء مقدسة على الهضبة في إقليم جن هذه الرواية، يمنحها الجن لحوم موتاهم، فيما يرتدون هم جلود أقربائهم، ويأكلون عظامهم التي لا طعام لهم سواها، ويخافون البلل من الماء ولا يأكلون ثماراُ أو نباتاً. هناك فريق من النساء يسميهم المؤلف «التَّرِيْكات» وهنَّ من لم يساعدهن الحظ على التناسل من ذكور الجن، فهن منبوذات بلا نسل. هؤلاء النساء يعمدن إلى اغتيال الذباب الذي يتناسل به الجن (عملية التناسل غريبة جداً ومعقدة في الرواية، ليس فيها أي اتصال جنسي). ومع الاغتيالات تظهر الأقنعة لأول مرة في تاريخ الجن. أقنعة ترتديها الإناث «التريكات» في ارتكاب أفعالهن، وهي على صورة وجه أنثى آدمية تظهر بلا تمهيد في إقليم زينافيري (إقليم وقائع الرواية)، فتدور حولها وقائع كثيرة، وتظهر تأويلات في تفسير ظهورها بين جن نجد أشكالهم تشبه بأنصافها العلوية أشكال البشر قليلاً، لكن أرجلهم هي أرجل الجراد من أحواضهم نزولاً حتى أقدامهم.
الأنثى الآدمية هادئة المظهر والطبع، مستكينة وسارحة كأنما لا يعنيها ما يجري حولها. منجِّمو معبد الإقليم يأخذونها إلى معبدهم، ثم يضمها السلطان إلى حديقة حيواناته التي تحوي أنواعاً غريبة جداً من طيور «كارنا» الطويلة الأعناق كالأفاعي، والذئاب الصفر، ونمور بوابات الرمال، وبعض الجن الأقزام الصغار جداً، لهم أذيال وعلى جلودهم شيء من الريش.
لكن الإناث «التريكات» يخطفن الأنثى الآدمية من حديقة السلطان فيأخذنها إلى مساكنهن البعيدة جداً عن مدينة الإقليم وقراه ذات الأبنية من عظام الحيوانات، قبل أن تظهر مجموعة صغيرة من البشر فجأة فيتعرفون على الأنثى الآدمية كأنها كانت مفقودة، ثم لا يلبث أن تظهر جماعة ثانية من البشر تقتل الجماعة الأولى وتأخذ الأنثى أسيرة. في أثناء وجود المرأة الآدمية بين الإناث الجنيات «التريكات»، يتبادلن لعبة من النفخ في ثقوب الحجارة معها، تقليداً لما يفعله الذكور والإناث من الجن في عملية التناسل، ثم يضعن تلك الحجارة إلى جوار منازلهن التي هي حُفر في الرمل.
تفاصيل كثيرة تتداخل مع الوقائع الرئيسية في اتجاهات لا يمكن إيجازها: فهناك «مَجْمَع الذباب» الذي يشرف عليه شعراء يختارون للجن الطالبين للنسل ما يناسبهم. وهناك المعبد والمنجمون ذوو المهمات غير المعروفة كالتي نعرفها في مهنة المنجمين. وهناك الهضبة الحمراء الغامضة، وطيور «لاكيلا» العمياء، والأعمى «ماشفير» المتمرد على سلطة الإقليم، وقيَّاف البروق، وزوجة السلطان الثانية التي تغتالها زوجته الأولى بغرقها في بركة ماء، وهناك «الجن المطايا»، وهم من يختارونهم ضخاماً جداً وأقوياء يركبهم الجنُّ السادة كالخيول في تنقلاتهم. وهناك الحانة التي لا يشرب فيها الجن (هم لا يشربون الماء أبداً) شيئاً كما نعرف عن الحانات، بل يقف الواحد منهم في الحانة مقابل الآخر صامتاً، و»يتخاطران» حتى الفجر بلا أدنى همس. وهناك الأرض الخاصة بصناعة أبراج «مانعات الرياح» تحت إمرة مهندسين وصنَّاع وعمال ذوي اختصاصات في صناعتهم. وهناك واحة «كيما» لصيد الحيوانات من أجل عظامها، أما لحومها فتقدم طعاماً إلى الطيور العمياء، ثم هناك الثلج الذي يهطل لأول مرة في حياة الجن على أرضهم فكأنها النهاية الكبرى لانحلال ممالكهم.
لكن الرواية المتعددة المسارات تنتهي بضربة شديدة الإيجاز في تلميحها: سنسمع تشققاً لصخرة تحت طبقة الثلج من تلك الصخور التي تسلت الإناث «التريكات» مع الأنثى الآدمية بالنفخ في ثقوب فيها. فهل سينبثق نوع جديد من المخلوقات ممتزج الخصائص من الجن والبشر؟ بركات يتركنا في حيرة مثل حيرتنا من عالم الجن كله في هذا التأليف الشامل المبتكر المتعدد، الخرافي الأسطوري «الجامح الخيال» كما يقول محمود درويش عن صديقه الشاعر سليم بركات.
هنا مقاطع من الفصل الأول، خصّ بها المؤلف «القدس العربي»:
غاياتُ التفصيل.. ومَطالعُ التوثيق
تلقَّفتْ طيورُ لاكِيْلا، ذوات الجسومِ النسورِ، والرؤوس العظام بلا لحمٍ عليها أو جلد، نفيرَ البوق الحجرِ، جاثمةً على أعشاشها فوق قمة الهضبة الحمراء. منذ ثمانين عاماً لم ينفخ بوَّاقٌ في البوق الحجر معلَّقاً إلى غصن من شجرةٍ لا كالشجر، ابتناها النحاتون تصميماً من عظام شتَّى لحموها قِطعاً بالسيور الجلد، ونصبوها إلى الجهةِ الشرق من بوابة المَعْبد الكبير، في الساحة، وسط مساكن قبيلة زِيْنَافِيري المنيعة، المهيبة، في أقاليم الجن. أدارت الطيورُ رؤوسَها الفارغةَ المحاجرِ، لا عيون فيها، صوب مهبِّ النفير لم تبعثره الريحُ كاقتدار الريح على التقويض. داخَلَ النفيرُ الريحَ، ذلك الصباح، على الأرض الرمل ممتدَّةً كسماءٍ؛ عَلِقَ بزغبها الخفيِّ، فوزَّعته الريحُ قطرةً قطرةً من الصوت على الجهات، حيث حلَّتْ وارتحلتْ بالنقوش النافرة للصوت كارتحالها بالنقوش المتقوِّضةِ، الفوضى ـ نقوشِ الرمال.
سبع مرات نفخ البوَّاق في الأسطوانةِ النحتِ من حجرٍ ذي مسامَّ، ثم أعاده معلَّقاً إلى غصنٍ في الهيكل المصمَّم شجرةً من عظام. نهض الصخبُ واقفاً على أقدامه الذهبية مُذْ تزاحمت المعابرُ في مدينة جنِّ زيْنافيري بالملبِّيْنَ النداءَ النذيرَ. جموعٌ هبَّت قفزاً على سيقانها، ثم تراصَّت، بعد بعثرةٍ، في انتظام. جمهراتٌ جاورت جمهراتٍ على نحوٍ محسوب في علوم الخطط انجزها عقلُ المحاربيْنَ جيلاً عن جيل، فطنةً عن فطنةٍ، دُرْبةً عن دُربة، واختباراً عن اختبار. سريعاً كانت فِرَقُ المحاربين على أهبةٍ بأسلحتها العظام في أيديها، والخوذِ الحجرِ على الرؤوس، مستقبِلةً بوجوهها، صفوفاً أنصافَ حلقاتٍ، هيكلَ الإله الأكبر كُوْياسِي، الذي لم يتوقف مصمِّمو هيئته، منذ النشوء الأول لقبائل الجن، عن التبديل فيه. كُلُّ حكيمٍ، أو قائد، أو مُنجِّم، أو سيدٍ من أسياد السلالات، له الحقُّ في إِملاءِ إضافةٍ إلى الشكل استِزادةً، أو إملاءِ إنقاصٍ يتولى المصمِّمون تنفيذَه بلا اعتراض. هو هيكلٌ ضخمٌ من مجموع عظامِ المخلوقاتِ شتَّى، جنًّا، وحيواناتٍ، وطيوراً، جرى رصُّها قطعةً إلى قطعةٍ، في حسابٍ حاذقٍ لسقوط الظلال من بعضها على بعض، ولعبور شعاعات الشمس من خَلَلِ فراغاتها على الساحة المحيطة بالمعبد. وقد تراكم الهيكلُ الإلهُ علواًّ، واتساعاً، على نحوٍ يُرى، من كل جهة فيه، مخلوقاً متداخلاً من هيئاتٍ محيِّرة في انتسابها إلى كائنٍ بعينه. والجموعُ المحاربون، الذين لبُّوا نداءَ البوقِ النذيرَ، قادمينَ قفزاً على سيقانهم ـ سيقانِ الجراد، شخصوا تحديقاً إلى الهيكلِ الإلهِ يَرى كلٌّ فيه، بالخيال النحَّات في باطنَيْ عينيه الحجريتين، صورةَ الحقيقة التي تُلْهِمه الولاءَ عنيفاً للإرث في إقليم زينافيري.
بعد برهات من إِحكام الفِرَق صفوفَها منتظِمةً، متهيئةً، متأهبةً، شقَّ الغبارُ العاصفُ قميصَه عن قائد المحاربين مَاَيَاكي ممتطياً جنِّياً ضخماً يقود الريحَ خلفه بأرسان السرعة قفزاً على أربعٍ ـ ساقيه، ويديه معاً كدابَّةٍ. لجم الجنيُّ المطيَّةُ سرعتَه غوصاً بقدميه في الرمل. انتصب واقفا فنزل ماياكي عن ظهره.
للجنِّ السادة مطاياهم من الجنِّ الضِّخام تمشي على أربع إن اقتضى الانتقال، أو على الساقين إنِ اقتضى. الجنُّ السادة، والعاديون، والجنُّ المطايا، كلهم متشابهون في نشأة أعضائهم، إلاَّ بتمايزٍ في ضخامة المطايا عن غيرها، لذا تُتَّخذ كالدَّواب لنقل راكبيها. ماياكي وصل بمطيته الأسرع من شعاع على هضبة طيور لاكيلا المقدَّسة، حين اكتملت أُهبة الفِرَق المحاربين تلقاءً بلا مرشدٍ، يعرف الواحدُ، بخصِّيْصة الخطط عن خيال المحارب فيه، أين موضعه وموقعه.
تمشَّى قائد المحاربين مستعرضاً جمهراتِهِ في سلاحها وخُوَذها، فتمشَّى الجنيُّ المطية من خلفه كحرَسيٍّ. قلَّب عينيه الحجريتين الرماديتين في محجريهما تقليبَ الرضا. عيون الجن عيونٌ حجر في محاجرها، رمادية، كتيمة كأعين التماثيل لا بريقَ فيها، أو حدقاتٍ. لا أجفان لعيونها. محدِّقةٌ أبداً من الرؤوس الصِّغار، المستطيلة الوجوه. ذكورُهم جُرْدٌ لا ينبت شعر على جلودهم. وهم يتخذون من شعور رؤوسهم الرمادية على زرقةٍ جدائلَ طويلاتٍ، حرَّةً على جهات الوجوه. عِجافٌ هزيلون، ذكوراً وإناثاً، كهياكلَ عظامٍ عليها جلودٌ خشنة، رمادية، بنقوشٍ من خطوط ونقاطٍ بِيْضٍ وصُفر تولد معهم، هي ـ في زعمهم ـ تدوينٌ من أقدارهم في حياة سابقة على الحياة الراهنة. والجنُّ، جُملةً، ذوو أيدٍ ضخامٍ، مفرطة في ضخامة راحاتها وأصابعها، لا تتناسب مع جسومهم العجاف. هي أيدٍ كلما تضاءلت، وانكمشت، وتصاغرت، دلَّهم أمرُها على شيخوخة واحدهم. أنوفهم مطموسة، مَسحاءُ، مستوية مع صفحات الوجوه، لا دليل عليها إلا ثقبان في الوجه الواحد، فوق الفم، ينتفخ جلد الخدَّين حولهما شهيقاً وزفيراً.
أسنانهم ضِخامٌ في الأفواه. يولدون بأسنانٍ ضِخامٍ، في سياقٍ من الاستنسال قائمٍ بقوانينه ـ قوانين نشوء الجن. كلُّ زوجين يستحصلان، مطلعَ اختيار الواحد شريكَه، كُرةً حجراً تتسع ملء يدين من أيديهما. في الكُرة الحجر ثقبٌ عميق حتى مركزها، توضع فيه ذبابة مختارة من مَجْمَع استِنْسالِ الذباب، القائم سُلطةً بذاته في جناحٍ من قصر السلطان كَاشَاجُو ـ سلطان إقليم زينافيري. شعراءٌ يتولون، خَلَفاً عن سلف، إدارةَ المجمع، حيث يُحتفَظ بالذباب، على أنواعٍ بلا حصر، في قوارير من خزف مغلقة. هُم الشعراء يَهَبون كلَّ زوجين ذبابةً، بعد درسٍ عن سيرة سلالتيهما، وطباعيهما، ومقدار طاقتيهما على استحضار صورٍ مغالية في غرابتها ـ صورٍ رؤىً.
قبل وضع الذبابة المختارة في ثقب الكرة الحجر، تحتفظ الأنثى بها أربعين يوماً من أيام الجنِّ في راحة يدها اليسرى مطبقةً عليها، لا تفتحها قط، بل تنفخ عليها من وقت إلى وقت. ثم تُنقل الذبابة إلى راحة الذَّكر يُطْبقها عليها أربعين يوماً ينفخ عليها من وقت إلى وقت. بعد الثمانين يوماً تلك توضع الذبابة في ثقب الكرة الحجر، ويُسدُّ الثقب بسدادةٍ جلدٍ ثمانين يوماً هي دورةُ الريح بالرمالِ حلقةً من حول هضبة طيور لاكيلا، وإرساؤها النقوشَ متماوجةً بإتقانٍ على الرمال في العراء المحيط بالمعبد.
بعد الثمانين الأيامِ من أيام الجن تنشقُّ الكرة الحجر عن وليدٍ كخادرة الفراشة، لكنْ مكتمل الشكل على صِغرٍ في الهيئة، بأسنان كبيرة، وعينين حجريتين، ورِجلين كرِجلي الجرادة تماماً: فخذان صُلبتان من عظم عليه جلدٌ خشن مُعرَّق، وساقان قصَبتان، منشاريتان، تنتهيان برسغيْنِ عظمتين صغيرتين هما قَدَما الكائن الجن.
يقفز الوليدُ بعد تصدُّع الكرة الحجر كالجرادة، دائراً دورتين من حول والديه. يقفز الوالدان من حول وليدهما دورتين. يضربانه على صدغيه، كلٌّ بقبضة مضمومة، ضربة تصرعه برهةً مغمىً عليه. يفيق فينطلقان به إلى مسكنهما.
مشيُ الجنِّ مشيُ الجرادة مُذْ يولدون بأرجلٍ كأرجل الجراد من ذبابٍ حاضنتُه الكُرةُ الحجر. شعراؤهم المتوارثون مَجْمَعَ انتخاب الذباب للإستنسال لا يُعهد بالمهنة إلى سواهم. يقلُّون عدداً أحياناً، أو يزيدون، لكنهم لا يجاوزون الأربعة. منجِّمو إقليم زينافيري عهدوا بالتكليف إلى الشعراء منذ ما لا يحصره تحديدٌ من أزمنة الجن. ذلك كان زعمَهم في اقتسامٍ عادلٍ للسماء والأرض بينهم: هُمُ المنجمون يتتبَّعون نشأةَ الخطط، وقواعدَ الخطط، وأخاديعَ الخطط في المشوف من كُرة السماء وبريقِ زجاجها المعتم، ومطاوي البرازخ بين الكواكب وبناتها النجوم. أما الشعراء فيتتبَّعون المستورَ من كُرة الأرضِ ـ باطنَها العماءَ، وأسسَ العماء، وفروعَ الملتبسِ المُشْكل من فيض اللامحسوم: يتتبعون الكلماتِ حتى يرثوا منها ثقةَ الجنِّ بالأرض من حولهم، كثقة الذباب بطيرانه المحيِّر، وإخلاص الذباب للاستحالات في العناصر من نشآت أجسامٍ إلى روائح.
توكَّل الشعراء باختيار الذباب، ونوعه، وجنسه، لطالب النسْل من الجن تحفظ أنثاهم، وذَكَرهم، حظَّهما الحشرةَ في راحة اليدين، كلٌّ أربعين يوماً، فإن سَها أحدهما مرةً، وتراخت يدُه المضمومة عن ذبابته، قبل اكتمال الأربعين، لم ينجب بعد ذا قط. قد يحدث أن لا تُنْجَزَ النشأةُ، لا من خطأ يقترفانه، بل من عجز الكرة الحجر ذاتها عن الإيفاء بوعدِها ـ وعدِ الحاضنة. يحدث أن لا تتصدع الكرة الحجر عن وليدٍ مكتمل بعد ثمانين يوماً من احتباس الذبابة في جوفها، بل تخرج من ثقب صغير آخر فيها، ذبابتان صفراوان قَرَضتا الحجر حتى أحدثتا لنفسيهما مَخرجاً. تحومان حول رأس الذكر الجن قليلاً، ثم حول رأس أنثاه، ثم تختفيان: تلك علامة إخفاق الكرة الحجر في الحَبَل. لكنهما يستطيعان، في الحال هذه، إعادة الكَرَّةِ طلباً للنسل من اجتماع نفخِهما على خيال الذبابة، التي تعرف، دون سائر حشرات الأرض، أنها وعدُ الانتقال بجسدها البزرةِ، في الظلام، إلى انبثاق الشكلِ الجنِّ وليداً يبدأ سيرتَه بالقفز أوَّلَ خروجه من الكرة الحجر.
الجن يتحركون قفزاً على أرجلهم ـ أرجلِ الجراد. ما من تأويل لذلك الرَّتْقِ الغامض بين أنصاف أجسادهم العليا الآدمية وأنصافهم السفلى مستعارةً من هيئة الجراد. كان حريًّا بمنطق النشأة أن يستولد الجنَّ مزجاً من هيئة الآدميِّ والذباب الحاضن لبزرة العبور إلى تشكيل الجنين. في أقاليمهم جراد كثير، تعرف نساؤهم، اللواتي لا تتوقفن عن الغناءِ الهمهمةِ عاليةً أو خفيضةً، كيف يستخلصْن من عصارة حشوها ترياقاً يزيل انتفاخَ الرُّكَب دَهْناً، ويلحم الكسور في العظام طلياً على مواضع الكسور. منجِّمو إقليم زينافيري الأربعة، المتطبِّعون على ربط الإشارات الكونية بطباع العناصر، وترويض الطلسمات في إنشجار البروق برسمها هيئاتٍ، واستنزاف المُلغز شرحاً موثوقاً في الأعراض الظاهرة للمخلوقات الخُنَاثى، والهُجَناء، لم يكلفوا أنفسهم جهْدَ النظر إلى المزْج في هيئات الجن يولدون بأنصافٍ متراكبة من حشرة بعينها هي الجرادة، ومن الشكل الآدمي. لا يرون في الأمر إلاَّ نشأةً محضاً قائمة بذاتها، يتمايزون بها عن طيور لاكيلا، والذئاب الصُّفر، وقرود براري هِيْهْمو، التي يرتعدون من ذِكْرها. لكنهم يرون الجراد مراراً في تأمُّلهم سُحُبَ الغبار، فيتأوَّلون أن الجراد جنيٌّ متنكر في صورة الحشرة لا غير، هارباً من غزوات قرود هيهمو الزرق الأقدام، الحمر العيون، الذهبية الأنياب. هُمْ لا يهابون حيواناً، أو حشرة، أو زاحفاً، إلاَّ قرود هيهمو المتلذِّذة التهاماً للجن أحياء وموتى. قرودٌ تغزو أرض الجن إن بخلت أرضُها البراري جنوباً بوفرة في الطعام عليها نباتاً، وحشراتٍ، وثمراً، ودرناتٍ عسقوليَّة.
الجن لا يأكلون طعاماً إلاَّ العظام. يأكلون عظام موتاهم، وعظام الطير، وعظام الحيوان من كل نوع، مجفَّفةً، فيما يطرحون اللحوم على سفوح الهضبة الحمراء تقدمةً لطيور لاكيلا المقدسة، ذوات الرؤوس العظم بلا جلد عليها، والفارغة المحاجر لا عيونَ فيها. يثيرون الغبارَ بأقدامهم الأرساغ الحَشَريَّةِ، أو بأيديهم، فيحتسونَه استنشاقاً إن عطشوا. لا نسغَ، لا سائلَ، لا عصارةَ، لا دماء فيهم. جراحهم يسيل منها غبارٌ رمادي، وإذْ يلفظون أنفاسَهم موتاً ينفثون، في الزفير، غباراً برتقالياًّ. عيونهم حجر بلا أجفان تدور في محاجرها كعيون الحرباءات. لا ينامون. يتشاءمون من ذِكْر الأعمار. كلما كبروا تصاغرت أيديهم المفرطةُ ضخامةً: ذلك مَسُّ الزمن في دورته أعمارَهم. سلاحهم عظامٌ، أو نِزالٌ بالرَّكْل من سيقانهم القصبات المنشارية يتضاربون بها مستدبراً أحدُهم الآخرَ بظهره، وللزمن عندهم وحدةُ قياسٍ هي ترقوة الثور.
ما من ضرورة لفهم تلك الوحدة في قياس الزمن. قد تكون اقتباساً مُستغلِقاً في مطابقة الزمن بالأبعادِ المسافات والحجوم. أو ربما يرى الجنُّ الزمنَ استواءً محسوساً كالأرض تُقاس بالقفزات، والأذرع، والنظرِ الحاسبِ بالتخمين.
ما من مطر في أرضهم. يعرفون سُحُبَ الغبار، لا غيرها، مُذْ أرضُهم ريحٌ متصلة في شهور أعوامهم كلها. قد تهدأ أحياناً في زمجرة مكتومة تتهيَّأ بها للوثبةِ أكثرَ عصفاً. وهُمْ، في الآناء القِصار من هدأة الريح يخمدون فلا يتحركون كأنهم في صوم. لا جنَّ يغزو جنًّا، أو يسرق من مخازن العظام، أو يكمل نِزاله عراكاً، أو يكمل معركةً، أو يُبارح المكان الذي هم فيه إنْ خمدتِ الريح.
لا ينام الجن. فإن توسَّلوا حلماً مَّا، مقصوداً بالتحديد مثل وصفٍ بالكلام واضحاً، ألصقوا عيونَهم بساق الشجرة العظام، شرقَ المعبد، وتكلموا. كلامُ الجن، في حالهم تلك اختلاءً بأنفسهم، مكشوفين في الساحةِ الرمل، هو حلمهم. ما يتخيَّله الجنيُّ، سرداً لرغائبه على نفْسه كلاماً، هو حلمه. إنه يتدبر الحلمَ كاملاً، موصوفاً، منطوقاً بكلماتِ رغبته، ثم يختزنه ملصِقاً عينيه الحجريتين بساق الشجرةِ العظام، فيغدو الحلمُ المُحاك بعناية اليقظة حلماً رؤيا.
سُحبٌ غبارٌ في أرض الجن، وبروق مُسَطَّرةٌ بشهوةِ المصادفات الكثيرة للجفاف العميم، العظيم. بروقٌ صلبةٌ، لا من نارٍ، بل من حجرٍ نارٍ، وفلزٍّ معدنٍ، ترمي على الرمال، بعد اشتعالها الزئيرِ، بُرادةً سوداء يجمعها قيَّافُ البروق وِيْلابو الطويل، الذي لا يُبارى طولاً في إقليم زينافيري، ويقايض بها الآخرين على العظام. يمزج الشارونَ البرادةَ بعصارة جوف الجراد فيدْهنون، بالمزيج، أبوابَ مخازنهم الصِّغار لصقَ البيوت حِرْزاً من اللصوص، أو دعاءً صامتاً باستنزال البرقِ لعنةً على مغتصبِ ما يخزنون من عظام فيها، لا غير. كل ناحية من إقليم زينافيري تشهد مواكبَ بروق، وقُطُراً بروقاً متتابعةً تخصُّها بأشكالِ الشِّعَبِ النار، وتشجُّرِ اللهب بما لا يُحصى، أو يُحصى، من غصونٍ في البرق الواحد. بُرادة البروق على أهضام الهضبة الحمراء ـ هضبة طيور لاكيلا، هي الأوفى إغراءً يطلبها الطالبون من ويلابوذي القفزة الواحدة المديدة أوسع من أربع قفزات لجنيٍّ آخر. لذا هو الأوحد يصيد الذئاب الصُّفر ركضاً خلفها حتى إنهاكها، فيما يتصيد الآخرون بمقاذفَ عظامٍ.
جنوب غرب إقليم زينافيري تمتد واحة كيما شرخاً أخضرَ، مستطيلاً، في مرآة الرمال. أيْكٌ لفيفٌ من شجر ذي شوك، وثمر ذي شوك، يطوق الحدودَ الماءَ، وسط الواحة، منبجساً من نبعٍ مستورٍ هو بقايا الذاكرة الظاهرة لنهرٍ آثرَ النسيانَ فغارَ دفيناً في ملجأ الماءِ الأصل. الجنُّ لا يرِدونَ الواحةَ إلاَّ بحثاً عن قنائصَ حيواناتٍ أراويَ، وثيرانٍ، وطيور، وذئاب صُفر، يتموَّهون لقنصها اختباءً تحت الرمل، آناء مجيئها للشرب، أو قذْفاً بالعظام مبريَّةً كحراب. يأخذون اللحوم تقدمةً لطيور لاكيلا العُمْي، ويجفِّفون العظامَ فيخزنونها طعاماً إلى جوار عظام موتاهم. غير أنَّ الأكثر إغراءً من بين القنائص جنٌّ صِغارُ الحجوم، ضِئالٌ، قُزُمٌ، لا يزيد طول واحدهم عن شبر من يد الجنِّ العاديين، لهم أذيال، وعلى جسومهم المهازيلِ ريشٌ بني وأحمر، يقايضون به أسنان الموتى في سوق كاتْرَامِيْلْ ـ سوقِ الصمت، الواقع على بعد قليل جنوب الواحة، تختلف إليه القبائل للمقايضات.
صعبٌ قنصُ الجنِّ الضئال، ذوي الريش والأذيال. يلزم القناصَ وقتٌ يُحْتَسَب بالأيام الكُثر في كمينه، تحت الرمل، ليختطف واحداً من المخلوقات القُزُم، الساكنةِ جحوراً ضيقة، غائرة عميقاً أسفل جذور الشجر الشوكِ الأيكِ، الضخام الجذوع، في واحة كيما. مخلوقات حذرةٌ أُوْلالِكَ كالومضِ في برقٍ. إنْ بوغتت ألقت بأنفسها في الماء حيث لا جراءة للجن على النزول إليه. كُره الجن، في زينافيري، للماء، وتِهْيابُهم البللَ شبيهان بالكوابيس تأخذهم من الحناجر إنْ ذكروا قرودَ هيهمو. حيلة الجنِّ المريَّشيْنَ، الضئالِ، تُنجيهم كثيراً، لكنْ يحدُثُ أن لا يُنْجِد حظُّ الحيلة واحداً، أو أكثر، فيؤخذ قنيصةً نفيسة، يُقايض ريشُه بأسنان الموتى الأكثر فخامةً في المقايضات، أما العظام فتُستطاب مَضْغاً في ولائم الأعياد، بعد الشَّبع، أو يتبادلون القليلَ منها قِطَعاً هدايا أثيرةً.
سوق كاتراميل هي ملتقى القبائل للمقايضات: عظام طيور تُقايض بعظام ذئاب. عظامُ شيوخ موتى تُقايضُ بعظام أطفالٍ موتى، وريشُ الجن الأقزام بالأسنان. لكنهم لا يقايضون من منافع حاجاتهم جلوداً بجلود. كل جنيِّ ذَكَر يتخذ ثوبَه من جلد أنثى ميتة في عائلته. وكل أنثى تتخذ ثوبَها من جلد ذَكر ميت في عائلتها. يتوارث الجن جلودَ آبائهم، وأمهاتهم، وإخوتهم، والأقربيْنَ الأخوال، والخالات، والأعمام، ونسلهم الأولاد. منذ ما يُسْتَحْضَر، وما يُستحضَر من ذاكرة شيوخ الجن، كانت سوق كاتراميل في موضعها جنوب واحة كيما. سوق الصمت المقدَّس ـ هذا هو وصفُها المقدس بلا كلمات. يجتمع الجن، في السوق، للمقايضات صامتين، حذرين في الحركة لا يُحدِثون جلبةً، أو ضوضاء، أو صخباً. يُحاذِرون التلامسَ مهما كان اكتظاظ السوق الدائم بعروضه، وبالجماعات على مشارفه تقيم أياماً، ثم تحل محلها جماعاتٌ أُخَرُ أياماً بعد رحيل الأُوَل: كل شيء يُنْجَز بإشارات خرساء.
بلا أسلحة يحضر الجنُّ سوقَ الصمت المقدس. لا ينتقم منتقمٌ لنفْسه هناك إن صادف غريماً خصماً. لا يسرق اللصوصُ في زحامه أحداً. الإناث، والذكور المقبِلون منهم على رغائب الإنجاب، في الأعمار الناضجة، يتبادلون إشارات الرغبة من صميم المصادفات، في موضع منفصل من السوق. معهم عيدان من نبات الواحة يربط إليها الواحدُ منهم، ذكراً وأنثى، ذبابةً بشعرة من شعر رأسه الطويل. إن حطت الذبابة على كتف العابر به، أو بها، تلازما زوجين للإستنسال، بعونٍ من اختيار مَجْمع الذباب ذبابةً لائقة بهما، للبلوغ بالرغبة قَصْدَها في الحاضنةِ الكرةِ الحجر.
يفهم الجنُّ لغاتِ الجن كلهم. يتلقَّفون اللغاتِ مكتملةَ المعاني من هبوب الريح على أقاليمهم من الجهات كافةً بنبْرٍ في العزيف هو بلوغُ المقاصد في الكلماتِ الغمغمةِ، والهمهمة، تعبيرَها منْجَزاً مستوفىً تتحصَّلُه ذاكرةُ الجنيِّ فتختزنه. هم ناطقون بلغات ثعالب أرض كَارُوس، وثيران أرض هَادولا، وعصافير أرض كُوشْنُو، وبعوض بحيرة سِيْمِيْر، وحيتان أرخبيل محيط زِيْلُو السحيق على تخوم نهاية الممالك القديمة، وجراد أودية بَاكْنون، وعناكب كثبان أرض ماناو المتراصفة الرمال كالحراشف. قاطنو إقليم زينافيري الأكثرِ ذباباً مكينون، إضافةً إلى اللغات أُوْلالِكَ، في لغة ذبابهم على أنواعه: اللحوحة، والطائشة الرعناء، والجسورة لا تأبه لانتهارٍ، والهادئة طيراناً، والطَّنَّانة طيراناً، والمشِعَّة، والكامدة، والسريعة، والبطيئة، والواضحة أشغالاً، والغامضة أشغالاً تحطُّ على موضعٍ أياماً بتمامها، واقفة على رؤوسها في توازنٍ يحفظه الخفْقُ المتلاحق للأجنحة. والجنُّ يخصصون هذا النوع من الذباب بلقب «المُنجِّم».
مدن إقليم زينافيري، وقراها، أبنيةٌ ومساكن بلا تصاميم في الهندسة تُحْسَبُ رُقيًّا، أو براعاتٍ من اختصاصٍ في العمارة: عظامٌ تكوَّم فوق عظام بأناةٍ من حفظ الثقل متَّزناً على الأرض الرمل. تُقام الجدران أولاً، دائرية في أغلبها، غير عالية، ثم تُجعل عليها الجلودُ سقوفاً تُغطى بالعظام الصغار حتى تغدو قباباً. تُحاط المدينة بسور من العظام الكبار بلا ارتفاع، وفي السور معابر إلى القرى المحيطة بالمدينة عن قربٍ كبير، حتى تكاد تلامس مساكنُها السورَ من الجهات كلها. فإن باغتهم غزاةٌ لجأ أهل القرى سُراعاً إلى الداخل. غير أن إقليم زينافيري لا يُفاجأ بغزاة؛ لا يجرؤ غزاة على انتداب الخطط لغزو الإقليم المنيع، الكثير المحاربين لم تخُض قبيلة حرباً ضد أهلها منذ ثمانين عاماً من أعوام الجن البالغة مَبْلغَها طولاً.
غزو قبيلةٍ لأخرى، في تاريخ الجن، الذي يُدوَّن بإضافة العظام إلى الأسوار، يتحكَّمُه طلبُ العظام لا غير، إن فَرَغَتْ مخازن أمَّة منها، وصَعُب عليها التعويض بعظام موتاها فقط، وقلَّتِ الطرائدُ، والمواردُ من الحيوان والطير. لا عن استزادةٍ للسَّعةِ في ما تخزنه، أو تغليباً للرَّفاهِ في المخزون من العظام، تغزو أمة من الجن أمة أخرى، بل الاضطرار من مسِّ الجوع. قد تقتطع مللٌ ثرية لمِلل محتاجة بعضاً من وفرة مواردها، إذا توسَّلتها العونَ: ذلك قليل، بل نادر. أما غزو أمة لأمة، لأسباب أخرى غير طلب القوت، فلربما اقتضته، على حَصْرٍ كبير في الحدوث، رؤى منجِّميهم إن غلب على تأويل وحيها الذعرُ من نفاد المؤنة، أو الإنذار مبكراً بتربُّصٍ من أُمم أخرياتٍ بمخازنها نهباً. تلك هي الغزواتُ الإستبَاقية يسيرُ بها وحيُ العلاماتِ الموصوفة، وتراكُبِ الإشاراتِ الصورِ، وتقاطعاتِ المعارج بين الأفلاك، ومجاهراتِ الكسوف والخسوف، واحتجابِ النجوم في مياه الكواكب ومرايا الشُّهُب والرُّجوم.
حروب الوحي، استباقاً من الأقدار، لا تنتهي بتسوياتٍ إخضاعٍ، أو اتِّفاقٍ على الحدِّ من الخسارة يُرتضى به وصْفاً للاَّغالبيْنَ، بل بإفناءٍ نهائي من أمة لأمة حتى آخر محارب فيها، وآخر نسلٍ صغير أو كبير، ذُكراناً وإناثاً. المنتصرون يعرُّون عظامَ المغلوبيْنَ من اللحمِ الضئيل عليها فيؤخذ تقدمةً إلى طيور لاكيلا، ويقيمون الولائم وقتاً على قدْر انتهائهم من التهام آخر عظم من عظام من قَتَلوا. هي الحال الوحيدة في إرث الجن يأكلون عظاماً غير مجفَّفة بعد. لا يستسيغونها، لكنهم لا ينتظرون انتقالَ الغضب، الذي تلهبُه المعركةُ فيهم، من جهة في قلب الواحد إلى الجهة الأخرى. هُم عنيفون أبداً. غاضبون أبداً. أنصافُ قلوبهم الأيامِنُ مضطرمةٌ غضباً في أعمارهم، ونشوبُ المعارك يملأ الجهات اليُسْريات. لا ينتظرون انحسار الغضب عن جهات قلوبهم اليسريات: يأكلون عظامَ الأعداء القتلى غَيرَ مجفَّفة بعْد قبل انحسارهِ.
في أعيادهم ـ أعيادِ أرض زينافيري، يصحب الجنُّ إلى الساحات في المدينة، وفي القرى، أفضلَ ما ادَّخروه من مخازنهم: جمجمةَ أبٍ، أو جدٍّ، أو أم، أو أخت، أو أخ. يصحبون جماجمَ الأقربين إليهم في كبار الأعياد ـ عيد طيور لاكيلا، وعيد الجراد، وعيد العاصفة الزرقاء.
يصعدون الهضبة الحمراء، في عيد الطيور. القمةُ المستوية، الشاسعة الأرجاء، تتسع لسلطان زينافيري، والمنجِّميْنَ، والأسياد، فيما يقيم المحاربون، والعامَّةُ، شعائرَ العيد على أهضام الهضبة، وسفوحها، في خشوعٍ يتوسَّلون به ترويضَ المصائر إفراغاً للموت من هيبته كطيور لاكيلا أفرغتِ الظلامَ، في محاجر رؤوسها العظامِ الحية، من هيبة الظلام.
عيدُ الجراد شعائرُ احتفالٍ مفتوحة: يدور الجنُّ قفزاً من حول أنفسهم، متصنِّعيْنَ بأيديهم الضخام رفيفاً كرفيف أجنحة الحشرة، التي منحتْهم كمالاً في الأرجل على مُطابَقةٍ من شكلِ رِجْليها في مرآة خلائق الظاهر. وفي عيد الجراد هذا تستحضر إناث الجن السمَّ الناقع، الفَتْكَةَ، من دقيق عظمِ فِقَرِ الأطفال الموتى، إذْ خاصيَّةُ السم في عظام أطفال الجن موصوفةٌ معلومة، لكنها تتلاشى كلما كبروا. والذكور، الذين تستخلص نساؤهم هذا السمَّ دقيقاً مطحوناً، يحفظونَ الدقيقَ في رقاقاتٍ جلدٍ مطوية مغلقة بإحكام. فإن راموا انتقاماً، أو ثأراً، نثروه على وجوه الخصوم في غفلةٍ منهم: مَنْ يتنشَّقون شيئاً من طحين السم تتصلّب مفاصلهم كلها، تلتحم فلا يتحرك فيهم عضوٌ بعد ذلك: تموت الضحية متحجِّرةً.
الجن الخَلْق الذين لا ينامون، ويبتكرون أحلاماً متوافقةً مع رغباتهم المتوسِّلةِ أحلاماً معلومة بتفاصيلها، يعمدون، في عيد الجراد، إلى إلصاق عيونهم الجواحظِ الحجرِ بأيِّ موضع من جدران المعبد الدائريِّ، العظيم بناءً قبَّةً من العظام، منقسميْنَ على صنفيْنِ في الفكر يهَبُونهما أجسادَهم كأنما في أشغالٍ مرهِقة، وهم ثابتون لا يتحركون؛ مرهِقةٍ تبلغ مبلغَها من الكَدْحِ ضراوةً. فكرتان تشبهان الركض وراء طريدة، أو منازلةَ خصمٍ ركْلاً. فكرتان مجهِدتان: الأولى أنَّ الجنيَّ يتوهم حفْرَ سرداب حفراً شاقاً بيدَيْ خياله، للعبور إلى الجهة الأخرى من الأرض، ثم يَجد نَفْسَه، بعد إنجاز الحفر، في متاهة من ممراتٍ رملٍ ضيقة جداً، بين مياه مترامية تتماوج في قاعها وجوهٌ كوجوه قرود هيهمو المُحاطة بشعر أصفر طويل. ممراتٌ تتأرجح به كأنها طافية، وذعرُه من السقوط في الماء يقوِّضُ بُنيانَه، أو يكاد.
الفكرة الثانية التي يهَبُها الجنيُّ خيالَ جسدِه، هي انكبابه، في حاله المتفكِّرة، على تركيب أجنحة كاجنحة الذباب على جانبَيْ جذعه، حَفْراً بشظية مسنونة من العظم في جلده، ولحمه الأعجف الضامر، لتثبيت جذور الأجنحة في الجراح المستوهَمة، الأكثر إي ماً من جراح حاصلةٍ حقًّا. وإذْ يثبتها، ويهمُّ بالطيران، يسقط أرضاً متمرِّغاً في الرمل.
الجن الذين يلصقون عيونهم بجدران المعبد العظامِ من كل صنفٍ وخَلْقٍ، ينهارون حالما يستنفدون ما تفكروا فيه. يتراخون منهَكيْنَ، أو ينطرحون صرعى من الإعياء.
فكرتان يمتحنُ الجنُّ بهما، في عيد الجراد، احتمالَ أجسادهم، ذكوراً وإناثاً. ولمَّا ينجزونَ الإنهاكَ قويًّا كما توقَّعوه، يلبثون في غضبٍ يوماً بتمامه من أيام الجن، فيقوِّضون منازلهم سقوفاً، وجدراناً في النهار، ثم يعيدون بناءها في الليل على نحوٍ مختلف عما كانت عليه قبل الهدم. يدورون حول منازلهم الجديدة قفْزاً هياجاً يثيرون به الغبارَ زوابعَ يستنشقونها في نشوةٍ سُكْرٍ.

ايوب صابر 01-02-2016 02:17 PM

كان جون أر تولكين قد اخترع للجن لغة في روايته السحرية سيد الخواتم فهل فعل بركات الشي نفسه مع الجن في روايته ؟
والسؤال الأهم يظل من اين جاء بركات بهذا الخيال الجامح ؟ وهل لطفولته علاقة بهذه السحرية ؟ على الاغلب ان تولكين استمد خياله السحري من طفولتة المريرة فهل كانت طفولة بركات مريرة ؟


ايوب صابر 02-20-2016 12:57 PM

"أقاليم الجن": سليم بركات في لعبة العوالم المتوازية
عمّار أحمد الشقيري
13 فبراير 2016

منذ القديم، صنع الإنسانُ عوالم موازية لوجوده، آلهة ومخلوقاتٍ وهميّة تعدّدت أشكالها، وكان للعرب نصيب وافر من ذكر هذه الكائنات، وكان منها الجنّ الذي تعدّدت أسماؤه عند العرب.

دائماً ما يصوغ المخيال حكايات عن هذه المخلوقات؛ مرّةً بالتقريب بين عاداتها وعادات البشر، ومرّة بالتأويل؛ غير أن هذه الأخبار عن هذه العوالم، ظلّت رغم كل ذلك كغيرها عند باقي الشعوب "أقاصيصَ، ونتفاً مجزوءاتٍ لم تبلغ في أي معتقد مبلغ البناء".
في هذا الحيّز، يفرد الروائي سليم بركات فخاخ سرده، متصيّداً الأقاصيص، ومحاولاً جمعها، في رواية طويلة (500 صفحة)، صدرت حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" بعنوان "أقاليم الجن".

تبدأ الرواية الثانية والعشرون في مسيرة بركات ببوقٍ يعلن النفير تأهّباً في إقليم الجن زينافيري؛ حيث تبدأ تشكيلات فرق المحاربين بالتجمّع، ويبدأ شيئاً فشيئاً، تأثيث عالم الجنّ؛ عباداتهم وأحكام القضاء وتعاليمهم اليومية ومواثيق البيوع وطرق تناسلهم.
"
يواصل بركات الابتكار في عوالمه الروائية شكلاً ومحتوى
"
يواصل بركات الابتكار في عوالمه الروائية شكلاً ومحتوى، وإعادة صناعته بما يمليه عليه خياله وصنعة التلاعب بالأفكار؛ فمن صناعات الكائنات المختلسة الشكل بين الخيل والإنسان في عمليه "كهوف هايدراهوداهوس" و"حوافر مهشّمة في هايدراهوداهوس"، التي فصّل فيها بأفكارٍ لا تقل التباساً عن الأشكال، العلاقة بين السلطة ودسائسها، ها هو ذا يُعيد في هذا العمل صناعة أشكالٍ أخرى ملتبسة الشكل من سلالات جنٍ أنصافها العلوية آدمية والسفلى جراد، وحين يعتاد القارئ على المخلوقات الجديدة هذه، يدخل العنصر البشري في الأحداث عبر طفلة إنسية وجدها محاربو زينافيري على تخوم الإقليم والمدعوة هايكاهيكسين.

من هذه النقطة، تبدأ لعبة قلب المفاهيم والتصوّرات في العمل؛ بجعل العالم الأساسي، عالم الجن، وعالم البشر هو الدخيل عليه. هنا نلتقي بمجاميع جن يؤرقها سؤال محيّر عن أصل هذا الكائن الغريب، وهل يوجد منه في عوالم أخرى لم تجد المعرفة في إقليم زينافيري الطريق إليه.

بالتوازي مع ذلك، تقود الدسائس الأحداث في الإقليم عبر زوجة سلطان الجن، شيكتان؛ سمٌّ ونفي وإغراق، ودسائس أخرى عبر مجموعة إناث لم يحظين بشركاء ذكور للاستنسال، فعمدن إلى إجهاض الأجنّة التي تحتضنها أكفّ الجنيات، هنا تبرز وحدة الكائن الإنسي هايكاهيكسين في جموع ليست من نوعها.

لا تقف ألاعيب بركات في العمل عند الأشكال، إنما تتعدّاها إلى التلاعب بالقارئ بالإيحاء له عن زمان ما، ونقله إلى آخر، فما بدا خلال الرواية أنه بداية تشكّل الأرضِ مكاناً لأحداث الرواية أعاد هدمه في النهاية. حيلةٌ كرّرها بعدة أشكالٍ في أعماله السابقة، كان أبرزها في روايته الأخيرة "سجناء جبل أيايانو الشرقي" التي أقامها في حيّز زمني لا يتجاوز الدقيقة الواحدة.

كان لا بدَّ من ذكر الإله في هذا العمل، كتجاور فكرة الخيال وفكرة الآلهة وتغيّر النظرة إليها عبر التاريخ، أما إله إقليم الجن زينافيري، المدعو "كوياسي"، فهو تمثالٌ يقيم في معبدٍ ويخضع كل وقت للبتر والإضافة والامتداد والانحسار، واللاتناسق الذي يمليه أسياد الإقليم على النحّات "ألما".
"
التفاصيل تنبئ عن حفرٍ ومعرفة في طبيعة هذه الكائنات
"
على طول العمل، يبقى ذكر أمير الجنّ المتمرّدين، ماشفير الأعمى، والخارجين معه من إقليم زينافيري، يتردّد كرمز لعالمٍ محجوب؛ تابعون متمرّدون من الإقليم يخرجون، ليعيد الأعمى ترتيب ذاكرة كل واحد منهم بعد محوها، ويستخدمهم في جيشه، فإن قبض رجال سلطان الإقليم كاشاجو عليهم تبخّرت ذاكراتهم، فلا يعود دليل على مكانه.

يعرض بركات في عمله هذا دور المحتجب في تحريك المخيال، فأتباع ماشفير الأعمى، أرّقوا خيال جنّ إقليم زينافيري بالتأويل؛ أسئلة عن أنفاقهم خلف أرض مصدّات الرياح المنخفضة، وعن لغتهم المبهمة، وعن تخليص الأعمى أتباعه من عذابات الاعتراف، وبقائهم في الخفاء رغم محاولات منجّمي الإقليم، وقيّاف البروق ويلابو الحصول على أخبارٍ يقينية عنهم.

خلف إقليم زينافيري، عند واحة كيما، وبعيداً عن إله الجن كوياسي، وقبل الدمار الأكبر، يظهر نفرٌ من الإنس، ويعثرون على الإنسيّة هايكاهيكسين أخيراً، فيأخذونها معهم، في حين تظل الجن شاتار تتابع بسكون، وخلفها تابعاتها، لينتهي العمل بفكرةٍ مفادها، إن كان عالمٌ للجن يقيم محتجباً عن البشر، فعالمٌ آخر للبشر أيضاً يبقى محتجباً عن عالم الجن.

ليست "أقاليم الجن" كباقي أعمال بركات خارجةً من الخيال وحده، فالتفاصيل تنبئ عن حفرٍ ومعرفة في طبيعة هذه الكائنات؛ حيث "لا تخلو أساطير الأمم وخرافاتهم من الجن بترتيب الخيال للضرورات اللازمة في بناء النقائض، والمتعارضات، وتطبيقات الثنائيّة اللانهائيّة من أمثلة الظلام والنور، والخير والشر، والظاهر والباطن، كمخارج للأقدار من مغاليقها، والتنبيه إلى أبوابها المفتوحة والموصدة"، وفقاً لما جاء في كلمة الغلاف.
نقلا عن العربي الجديد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
عجائب صاحب السيرتين
عند الحديث عن شعر سليم بركات، يصفه أصدقاؤه بحنفية شعر مفتوحة؛ صبيب لا ينتهي من الصور والمجازات والأخيلة وتشظيات اللغة وغريبها ووحشيّها، وقد صار جملة معاصرة مسبوكة. وباستثناء عمله الروائي الأول "فقهاء الظلام" (1985) ربما، فإن معظم رواياته الأخرى تحمل صفات شعره في خضّها للمعجم والمخيلة العربية. ولعل كتابه "السيرتان" أحد أصفى أعماله وأيسرها للقراءة.


اقرأ أيضاً: عودة إلى عامودا وحريق سينما شهرزاد

ايوب صابر 02-22-2016 09:18 AM

لا خيال سحري دون طفولة ممزقة وهذا ينطبق على سليم بركات حتما فهذه السطور تظهر جاني من طفولته الممزقة ولو اننا لا تكشف لنا تفاصيل حياته المبكرة وانا استطيع ان اجزم انه اختبر اليتم وتجربة الفقد في وقت مبكر جداً فلا يمكن لعقل ان يعمل بهذه القدرة من الخيال السحري الا اذا ما كانت صاحبه قد اختبر الموت ومرت في تجربة كان فيها قريبا من الموت near death experience
ولو ان الواقع المرير يكون أحيانا أشدة قسوة من اليتم


الحديدي
سليم بركات

دار الطليعة
أدبي(سيرة ذاتية)

التعليق:
يتناول الكتاب عرض موجز ومختصر وعام لطفولة الكاتب في سنينه الأولى والتي قد لا تتجاوز الثانية عشر من العمر.
هناك بعض الكُتّاب لهم امتيازات فمثلاً تقرأ كتابهم بإهتمام بالغ خوفاً من أن تُسرق منك فكرة أو معلومة ومن ضمن هؤلاء الكتاب يأتي سليم بركات مع بعض الامتيازات الإضافية.
اليوم وأنا أقرأ سليم بركات شعرت بأني يجب أن أخشع أمام هذا الرجل في محرابه الأدبي، لا تستطيع أن تقرأ سليم بركات بلسانك فقط بل تبدأ باللسان وتتبعك جميع الجوارح.
عرض الكتاب لطفولة عامة قد تصلح لأي طفل شقي في مدينة القامشلي وقد أشار سليم إلى أن طفولته كانت عنيفة ورد هذا العنف إلى عنف المجتمع فعندما يكون المجتمع عنيفاً سيترجم ذلك على أبناءه وصغاره.
لعلي ارتكبت خطأ عندما قرأت أعمال حديثة لسليم ثم انتقلت إلى أعماله الأولى، لعلي أدركت ذلك من خلال الصور الأدبية فصوره الجديدة ناضجة تماماً فيها أدب مختلف يختص فيه سليم بركات ولم أجدها عند غيره بينما في الجندب الحديدي وجدت هذه الصور ولكنها في طور بزوغها وجدت براعم صور سليم الأدبية، وكم كانت جميلة..! وكم تمنيت ألا ينتهي هذا الكتاب..!

هوامش على الكتاب:

الجندب الحديدي السيرة الناقصة لطفل لم ير إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيها القطا.
--
من ذا الذي يعاتب طفلاً ضربته صواعق الأقحوان فتناثر برعماً برعماً بين نبات حديد وغيم حديد؟ آه كم قلنا: لا تقترب أيها الطفل، لا تقترب من الحطام، بيد أنك اقتربت تلتقط من الحطام بقايا خزف لتزين المراثي.
--
كنا صغاراً يا صاحبي، صغاراً جداً، مثل فراخ الإوز، واقفين على طرفي الشارع كسطور الكتابة. وكان ثمت هرج كبير، هرج مهول، وكان المعلمون الذين يقفزون بين الصفوف ملوحين بعصيهم، أشبه بقطط مذعورة يصرخون: "انتبهوا، لوحوا بأيديكم حين يمر الرئيس".. ومر الرئيس، مر وسطنا ملوحاً بيديه، ثم اختلطت الصفوف الهندسية وراء الموكب، وتحولت إلى كتل سوداء متدحرجة عنيفة في فوضاها.
سقطت على الأرض مرارا تصطدم بي الأجساد والأرجل، وأنا أجاهد للخروج من البحيرة الأدمية وحين وصلت إلى البيت كان وجهي أقرب إلى التراب منه إلى وجه طفل.
تلك كانت بداية العنف يا صاحبي.
---

ايوب صابر 02-22-2016 09:28 AM

سليم بركات الطفل الكردي الذي كسر جرة اللذة

FacebookTwitterGoogle
*حسام ملحم

لا شكّ أن كتاب “السّيرتان” للشاعر والروائي السّوري سليم بركات، يعتبر واحدا من تلك المصائد التي لا نشعر بفكّيها، إلا بعد أن تخترق نقيّ الرّوح، وهي جمع لكتابين: الأول حمل عنوان “الجندب الحديديّ”، والكتاب الثاني “هاته عاليا، هات النّفير على آخره”.
الطفولة، كمرحلة عمريّة، تعتبر خزينا هائلا -إن لم تكن الخزين الوحيد- لكثير من الكتّاب، سواء ظهرت صراحة في ما يكتبون، أو لمسناها واهية، في روحيّة ما يكتبون.

كيف لا، والطفولة، رغم قصر زمنها، تؤكد لنا حين نقرأها في كتب السّير، أن لازمن حقيقيّا نعيشه، إنما إسراف مملّ للجسد، وهرب مستمرّ من ذاك الحنين إليها، وهي التي تبدو لنا، فردوسا مفقودا وخالدا كالنّكهة، فكثيرة هي كتب السيرة التي مرّت مرور “اللّئام” على ساحاتنا المغلقة، لتقيم حواجز الشّغب والتّوق والجري الحافي فيها، لتنبش المسكوت، وتلعب ذاك اللّعب الماكر في ترتيب رفوف النّفس، وتحيل أرض واقعنا الصّلبة “كما كنّا نعتقدها” إلى رمال متحرّكة، نغرق فيها باستكانة حتّى آذاننا.
كأن “السيرتان” تشبه تأريخا عامّا للطّفولة الفائحة من جسد الجغرافيا الشرقيّة السّوريّة، تتخلّله خصوصيّة خجولة الشّكل، عميقة التّفاصيل، لطفولة “الكرديّ”، يوقعنا سليم بركات في كتابه “السّيرتان”، في فخّ النوستالجيا القاسية إلى طفولة تشبهنا، تشبه التماسنا للدّهشة بين حواف حياة محاطة بالأسلاك الشّائكة، أسلاك الكبار وألاعيبهم وعقائدهم، وحروبهم السّخيفة.

ترانا نحن الأطفال، نهرب معه إلى براريه البكر، التي يفرغ فيها احتقان البوح المحاط بذاك الخوف المبهم، الذي يتسرّب من صروح الكبار، نهرب معه لننتقم من الوجود عامّة، كحالة محسوسة وغير مدركة في مزيج الطفولة الفوضويّ، من الحياة والكائنات والبيت والأهل والمدرسة، وحتّى الهواء والماء.
يشرّح سليم بركات في “السيرتان”، بعين الطّفل الرّجل، ارتطامات “الكرديّ” بواقعه، الذي أدرك فيه باكرا ثنائيّة الاختلاف والرعب، وقرأ الشرخ الوجوديّ الذي يلوح في أفقه الحتميّ، في لعبة زمن سليط الوقع، فيحاول بكلّ عنفوانه وغضبه، تثبيت اللّحظة، المكان، الطّيش، في خانة الحسّ في ما قبل الإدراك المؤلم. لنرانا نهرب معه، ونسير في لعبته المبنيّة على رؤية طفل يشي بتمرّد عفويّ على منظومة بيئته وتفاصيلها، التي بدأ يتحسّسها بحذر فجّ الشّجاعة.

يغوص بركات، بحوارية زمنيّة بين الحسّ والإدراك، بين ما كان، وما هو كائن، بين الرائي (الحكيم) والمتورط في الحدث، يعيد تلاوة مخطوطات أزمنته، بحسّ رعويّ ناضج، تغلب عليه الشّعريّة القاسية للحياة واللغة، دون التّخلي عن مفردات وتشكيلات وتفاصيل البيئة، والصورة البدويّة البكر.

إذ تأخذنا “السّيرتان”، بتكتيك سحريّ، تتراءى فيه قسوة شاسعة الفضاءات، كهفا جميلا بسيطا، يوصلنا بحبل الحنين إلى سرّته، ليوجّهنا باقتدار خلّاب، يصفعنا بأيدينا، مخاطبا الطّفل المرتجف المستكين في أقصى زوايا لاوعينا وأشدّها تشويشا وظلمة.
لنشعر بسور العقل “البهيم”، الذي أحاطنا به ذاك الطّفل النشط المشاغب، والحرس الذين انتدبناهم من “كاركون” الحياة، ليصوبوا بنادق الذعر في وجه حاسّة الكشف المدهشة، لصالح الاقتناع.
في”السّيرتان”، نشعر مليا بذاك الانزياح الجغرافيّ في خارطة أزمنتنا وعمرنا وذاكرتنا، لننقاد سعداء فوق شوك العودة الوعرة، كانزلاق لا مفرّ منه، عند حافة الوصول الوهميّ، لنتدحرج ككرة ثلج، تصدم الجذوع عند النّزول تباعا، لتتقشّر وتصغر تدريجيا، نحو حبّة اللؤلؤ النائمة في محارة البدء، هناك تماما، نحسّ بأخوّة الشّمس الحقيقية، الشّمس المتاحة، الأرض المتاحة، الدّهشة المتاحة، في طبقات الطّفولة المطعونة بخناجر اللّعب.

لكن سليم بركات، متعمّدا أو مأخوذا أو وفيّا لقهر حقيقيّ بالضّرورة، يصرّح بكرديّة الطّفل محور الكتاب، يتخلخل على مطبّ الانتماء والتّصريح، يسلخ القصّة عن الجغرافيا، لصالح القومية، يكسر آنية اللذّة الّتي كانت متاحة لكافّة أبنائها (قرّائها)، ليشربوا منها حليب طفولتهم الصافي، من عرب وأكراد وآشور وسريان وغيرهم من أبناء المنطقة، أو من أبناء جغرافيات متشابهة من العالم، ليجيّرها كأسا خاصّة بالأكراد، لتصبح السّيرتان، طفولة قومية، سيحبّها بالضرورة أكراد عاشوا طفولتهم في مدن حداثوية، وجغرافيات متضادّة، بعد أن كانت طفولة جغرافيا وبيئة تجتذب أبناءها (بحنين تمتزج فيه السعادة مع الألم)، وأبناء البيئات المغايرة (بفضول تمتزج فيه الرغبة مع التردد).
_________
*العرب

ايوب صابر 02-22-2016 09:43 AM

"
سليم بركات".. الكردي الذي كشف عن سحر جديد في لغة العرب: السِّيرة الذَّاتية حين تُنْزَفُ شعراً وعنفاً
يستطيع "سليم بركات" أن يطعنك منذ اللحظة الأولى، أن يجرَّكَ مسْحولاً بين متاهاته وفخاخه التي ينصبها بمهارة صائد فرائس محنَّك، وكيف لا؟ وهو الذي رصد طفولته بسطوة لصٍّ قديرٍ في كتابه "السِّيرتان" فيقول لنفسه: "كِبارٌ نَحْنُ أيُّها الطِّفْلُ، كِبارٌ يَلْهونَ بِقَعْقَعَةِ الحَديدِ أمامَ بابِ الوَقْتِ، وَيَذْرُفونَ الفِلْزَ البَارِدَ. كِبارٌ نَحْنُ، لا نَبْسُطُ أقْدارَنا لِسُنونُوَةٍ عابِرَةٍ أوْ لمَرَحٍ، ولا نَلْبَسُ إلّا حِكْمَةَ البَطْشِ. فإذا هَمَمْتَ، ثانيةً، أن تَخْتَبِئَ من الأرْضِ وَرَاءَ فَرَاشَةٍ فلا تَنْتَظِرُنا، لأنَنا سَنَقِفُ هُنا، تَحْتَ هذا الصَّليلِ الصَّامتِ للأدْوارِ الصَّامتَةِ، رافعينَ قُرونَ الماعِزِ في مَهَبِّ المَلْهاة". ستشعر بأن ثمة شيء غامض يلفك، من أمام ومن خلف، عن يمينك، وعن يسارك، روح كاملة في غموضها الأعلى، وسحرها العفوي المجنون، ستملأ خلاياك وأنت تسوح في هذا الكتاب الغريب، فليس ثمة من شاطئ، وليس ثمة من يد تسحبك جثة من وسط المياه، كل ما في الأمر هذه المرَّة، أنَّك ترى الصِّور من زاوية الشِّعر، ومن زاوية الشِّعر وحده، فيما تتراكم الحكايات والذِّكريات والمشاهد والشَّخصيَّات التي لا تستطيع يد الإمساك بجوهرها الزئبقي داخلك، لتصبح، بعد صفحات تعد على الأصابع، مشحوناً بروح كاملة، تحتل جسداً اسمه "سليم بركات".

اكتشفت الآن فقط لماذا قرأت هذه السيرة أكثر من سبع مرات، منذ أن وقعت يدي لأول مرة عليها في العام 1999 أثناء إحدى دورات معرض القاهرة للكتاب، يومها ظللت أرجو البائع اللبناني أن يخفّض لي سعر الكتاب دون جدوى، ودفعت ستة وثلاثون جنيهاً – لم يكن معي سوى عشرون جنيهاً، واضطررت إلى اقتراض ستة جنيهات من صديق -، الآن أكتشف أن طفولتي الحقيقية وجدتها في هذا الكتاب، في شخص "سلو.. سليمو، باڤي غزو، ابن الملا بركات"، السطور التي قرأتها مرات بلا عدد لم تزل تتحرك أمام عينيّ: "سَيَقولونَ لَكُمْ كَمْ أحَبّوا، وكَمْ كَدَحوا، وكَمْ سَدّوا مَهَبَّ أقْدارِهِم بالجَساراتِ، سَيَمْتَحِنونَكُم بِما لم يَمْتَحنوا أنْفُسَهُم بِهِ، وسَيَرْفَعونَكُم قَليلاً قَليلاً كالقِطَطِ إلى صُدورِهِم، مُتَمْتِمينَ: "تُصْبِحونَ على خَيْر، أيُّها الطَّيِّعون".


"سليم بركات" حين يكتب عن طفولته وعن صباه، لا يشبه أحداً، هو لا يشبه سوى نفسه فقط، وحتَّى هذه، يكتنفها الغموض في أحايين عدَّة، حين كان طفلاً بلا طفولة، وصبياً بلا صبا غائر الروح، والأيام كعهدها، تمر أسفل عينيه المحدقتين سريعة ومتلاحقة، لها رنين إيقاعي "كجرس في عنق قط"، والعينان لا تدع الأيام تمر بلا استيقاف، تعقبها الأسئلة وعلامات التعجب، بل يشبه الأمر مخزناً هائلاً من الذكريات الأولية للعين، الذكريات التي طالها سن القلم، فبدأ النزيف المرّ.

هنا، في "الجندب الحديدي" أو "السِّيرة الناَّقصة لطفل لم يَرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيُّها القطا"، والذي صدرت طبعته الأولى في العام 1980 في بيروت، يثبِّت "بركات" شبح طفولته، جازماً بحسرة شيخ: "كل طفولة ميثاق ممزق.. كل طفولة محنة"، عبر خمسة فواصل متتالية متعاقبة، تشبه الحركات الموسيقية في سيمفونية مطموسة معالمها، تفتتح بمدخل عفوي، يوقفنا على بوابة المنفصلات الخمسة في السيرة الناقصة: "العنف الهندسي"، "في ارتطام الجهات"، "في الحريق وفي الصيد"، "في انهيار بريڤا"، و"في الثلج والخراب".

ومن ثم، نصبح قادرين على تلمس نموذج مثالي للسيرة الذاتية، عبر وشائجها القوية بالرواية، لا سيما في هندستها أو انطلاقها من حدث فاصل، ذو سمة روائية صريحة، ويبرع "سليم بركات" في جمع خطوط وخيوط الالتقاء والتنافر في نسيج سيرته، أو في تلك الكثافة اللغوية والمجازية اللتين تسمان عمله الروائي في مجمله، خصوصاً أن المادة التي يشتغل عليها "بركات" في سيرته، هي المادة نفسها التي تكوِّن محور أعماله الرِّوائية والشِّعرية؛ الأراضي الكردية المحصورة بين شمال سورية والعراق والحدود التركية.

أهي ملهاة أم مأساة، ما يربطنا ويشدنا بهذا / ولهذا الشعر السردي المنغم، الحاد والرَّهيف في الآن نفسه، الشعر القاطع الباتر، اللامع كحد موسي، حين يفرح بانعكاس نقط الدم الحمراء في بريقها على الجلد، أي علامة استفهام تقف قوية أمام أسئلة "سليم بركات" الألف، وأي قدرة تتحمل كل هذا القهر الذي تحمله: "إثْنا عَشَرَ أرْنباً حَصيلَةُ المَجْزَرَةِ، وَعِشْرونَ يَوْماً من التَّسَكُّعِ حّوْلَ البَيْتِ دونَما جُرْأةٍ على دُخولهِ، أنامُ بيْنَ شُجَيْراتِ القُطْنِ في حقْلٍ قريبٍ، وآكُلُ ممَّا يسرقُهُ لي إخْوَتي". ما الذي لا يجعل هذه السطور شعراً؟ دائماً ما شعرت بهذا السؤال يطوِّف حولي كلما أعدت قراءة كتاب "سليم بركات" هذا، "سليم بركات" الكردي الذي جاء ليكشف عن سحر جديد في اللغة العربية، وياللمفارقة، تلك اللغة التي فُرضت عليه وعلى أبناء عرقه الأكراد، الذين حرموا من التحدث بلغتهم باعتبارها ممنوعة ومحرمة، وأجبروا على تعلم العربية في المدارس السورية، في العديد من أجزاء سيرتيه يكتب سليم بركات شعراً لا شبهة فيه ولا ريب، كأنه حين جلس إلى "سليم بركات" الطفل لم يجد سوى الشعر يعبر عما عاشه واختبره بطفولته وصباه، يقول في أحد أجزاء الكتاب: "كُنّا أطْفالاً آنَئِذٍ، يَأْخُذُنا الدَّهَشُ مِنْ عَنود – الأُنْثى الَّتي تَرْتَدي حَطَّةً كالرِّجالِ، ودشداشةً كالرِّجالِ، وسترة كالرِّجالِ، وتتمنطق بمسدس كالرِّجالِ". فهل من إجابة لمن يريدون أن يكشفوا عن الجنس الأدبي لسيرتا "بركات"؟

ليس ثمة من إجابة، فالقهر والخراب المأسوي اللذين يهدف "بركات" إلى التعبير عنهما في سيرتيه، يتخلَّقان أساساً عبر نص أدبي، يتخذ تكأة روائية كدعامة، رئيسية لصيرورته ودوامه، ومن ثم يصير السؤال بحجم الخراب: "ما الذي يجعل هذا الكتاب بجزئيه سيرة ذاتية وليس عملاً روائياً مثلاً؟"، أهي الإشارة التي يخدعنا بها الكاتب على الغلاف فتقودنا بدورها إلى حيث يشاء، أم هذا التواطئ الفرح والمكتوم بيني كقارئ جائع إلى خرابات الرُّوح، وبين "بركات" الحكاء الذي ثقُلت على كفيه الجروح والانهيارات، فتهاوت لامعة كحبات النَّدى من بين أصابعه؟

أياً تكن الإجابة، فالأمر ليس مهماً إلى هذه الدرجة، الأهم هو الكتابة، تلك التي تبدأ من صرخة المدرسين في صفوف التلاميذ الصغار مثل فراخ الأوز، حين كانوا "واقِفينَ على طَرَفَي الشَّارع كَسُطور الكِتابَةِ": "انْتبِهوا، لوِّحوا بإيْديكُم حين يَمُرُّ الرَّئيس"، ويمر الرئيس، فتتهاوى الصفوف الهندسية "إلى كُتلٍ سوداءَ مُتَدَحْرِجةٍ" من لحم التلاميذ، وتصطدم الأجساد والأرجل النحيفة بطفولة "سليم بركات"، ليبدأ العنف الهندسي في مدينة صغيرة قرب جبال طوروس، العنف الذي يصفه كاتبنا بقوله: "كان عنْفُ الفرّح "الرَّسْميِّ" عُنفاً يفوقُ طاقَةَ طِفْلٍ لا رَسْمِيٍّ، ومع ذلك كان عليَّ أن أتحمَّله في خضوعٍ ساحقٍ، وأن أصيرَ عنيفاً بدوري، عنيفاً إلى درجةٍ تفوقُ طاقةَ طفلٍ".

هذا العنف الذي يتدحرج حتى يصل إلى ذروته، بعدما ضيق كل شيء حول طفولة "بركات" غير الموجودة أصلاً، ليصبح أكثر قسوة وعلواً وهديراً: "أنتَ كُرْدي، الأكراد خطرون، ممنوعٌ أن تتَّحدث الكُردية في المدرسة، ومن ثمَّ، يبدأ وعي جديد؛ الكراهية سلفاً لا لشيء إلّا لأنَّك كُرْدي"!

إنه التاريخ "حين ينفلق كمشمشة"، والغضب حين يقول كلمته بعنف، فاللغة لدى "سليم بركات" أو "سلو" .. "سليمو بافي غزو ابن الملا بركات" تظل هي السطح الذي يشف فيظهر ما تحت العمق، وهي المرايا التي تنعكس من فوقها الوجوه والحكايات، وما يتجلى في هذه المرايا من تقنيات، من سرد وشعر وحكي وقص، تلفها جميعاً سخرية حادة ومأسوية، يسبر "بركات" عبرها الطفولة المحنة، والصبا الملهاة، ليصبح التاريخ الشخصي ليس أكثر من تأريخ لوطن وعرق تشعبت به الأرض ونفته الثقافات.

وإذا كان "بركات" قد افتتح سيرته الأولى بنزيف أولي: "طُفولَتُك حُرَّةٌ منْكَ لأنَّها يقينُ نفْسِها، وأنْتَ جَهالةُ الوقْتِ المُنْحَدِرِ إليكَ بلا طُفولةٍ، فانتظِرْها، طُفُولَتَك، قدْرَ ما تَسْتَطيع، أجِّلْها قَدْرَ ما تَسْتَطيع، مَوِّهِ الطَّريقَ إلَيْكَ كَيْ لا تَصِلَ، أبْقِها في المتَاهَةِ لأنَّكَ لَنْ تُمْتَحَنَ بإرثِها بَعْدَ الآنَ، لقَدْ تَقوَّضَ الأبَدِيُّ"، فإنَّه يبدأ سيرته الثانية "هاتِهِ عالياً، هاتِ النّفيرَ على آخره.. " بإيذان مبدئي، ونفير هادر: "لَسْتُ أُغْويكُم. المَكانُ يُغْوي لِتَكونوا لائِقينَ بهِ، فأشْعلوا حُروبَكُم قبْلَ أن يُشْعلَ الآخَرونَ حُروبَهُم، واتْبعوني!".

إنَّ "سلو.. سليمو بافي غزو، ابن الملا بركات، استطاع أن يحرر فينا كل طفولتنا المغدورة، وكل صبانا المغتال، عبر هذا التداعي السردي الذي اتخذه وسيلة لحفر هذه المحنة، وهذه الملهاة، استطاع أن يبني وببراعة قالباً جديداً لا هو بالسيرة الذاتية، ولا هو بالرواية، لكنَّه شعر يقف على برزخ بين البرزخين، لغة أشبه ما تكون بمجمع إبداعي مكثف، لغة لا تختصر كينونتها في نوع بعينه، بل عبر أنواع وأنماط متفارقة ومتشابكة في الآن نفسه.


الكتاب: السيرتان
المؤلف: سليم بركات
الناشر: دار الجديد – بيروت 1998


*
عماد فؤاد
مجلة حجلنامه

*

*



مجلة حجلنامه
العدد المزدوج 10 ـ 11
والمخصص لـ "سليم بركات"
أبريل 2007

صحيفة "العرب الدولية"

لندن

26 - 6 - 2007

ايوب صابر 02-22-2016 09:48 AM

الكل"الحياة" الدوليةمجلة "الوسط""الحياة" السعودية

سليم بركات في حكايات الشمال*
تفاصيل النشر:
المصدر:
الكاتب: سمير اليوسف
تاريخ النشر(م): 27/4/1998
تاريخ النشر (هـ): 1/1/1419
منشأ:
رقم العدد: 12837
الباب/ الصفحة: 13
الكتاب: السيرتان
الكاتب: سليم بركات
الناشر: دار الجديد - بيروت، 1998
بين دفتي كتاب واحد يعيد سليم بركات إصدار نصي "الجندب الحديدي: سيرة طفل..." و"هاته عالياً، هات النفير على آخره: سيرة صبا"، وكلاهما يعود صدوره الى مطلع الثمانينات. وفرصة قراءة هذين النصين دفعة واحدة تكشف عن اتصال كامل بينهما حتى ليظن المرء أنه يقرأ نصاً واحداً. هذا على اي حال ليس ناتجاً عن قصور في رصد حال الانتقال من طور الى آخر، كان الكاتب أزمع على سرد كل منهما على حدة، وانما لأن ما يرويه ليس سيرتي طفل وصبي، وانما هو سيرة واحدة لمكان وقوم وحفنة أطفال وعصابة من الفتيان، أي ما يشكل عالماً متكاملاً يستعيده الكاتب كمعطى قائم.
إذ لا يرى الكاتب، بل ولا يبدو انه قادر على ان يرى، الطفل ومن ثم الصبي منفصلاً عن العالم الذي ينتمي اليه، ومن ثم فهو لا ينظر بعينيه الطفل الى ما يحيط به كعالم خارجي يتلقاه على نحو تدريجي. والسبب في ذلك انه لا يحاول تصفية حساب مع ماض يحاول الانعتاق من أسره، من ثم فهو يرى الى الطفل في حالة تصالح مع محيطه. ولعل ما يند عنه السرد من نوعة تباه ما يروى تؤكد ذلك. اذ حتى عندما ينعت الكاتب طفولته بكونها "لا طفولة" فإن ذلك لا يأتي كتحسر على نعمة حرم التمتع بها، وانما لكي يظهر بأن طفولته وطفولة أترابه لم تكن رمزاً للبراءة على ما يميل الاعتقاد الشائع الى التصوير.
والحق ان هذه الطفولة لا تقل براءة عن أي طفولة أخرى اذا كان مقياس البراءة هو الفارق بين سلوك الاطفال وسلوك الكبار. فما يُقدم عليه الاطفال في هذه السيرة من عبث وشقاوة لا يبلغ الحد الأدنى مما يقترفه الكبار الذين يهم يتشبهون وعلى خطاهم يتدرجون. فقتل الحيوانات الأليفة ودفن العصافير حية وغير ذلك من إلحاق أدى بمخلوقات مسالمة قد تبدو أفعالاً شريرة، ولكنها مقارنة مع القسوة والعنف الذي يمارسه الكبار وعلى نحو شبه روتيني، تجعلها لا تزيد على عبث اطفال.
لا يسرد سليم بركات سيرة تمرد. ففي عالم لا تحكمه اصلاً الكثير من الضوابط والقيود، ما يجعله الى "حالة الطبيعة" أقرب، ليس ما يبدر عن الطفل أو أترابه الا ما تبيحه هذه الحالة "لهو كلهو ساكني العراء الأول". ومن ثم فإنهم اذ لا يقيمون أدنى اعتبار للقوانين والضوابط، فهذا لأنه ليس هنالك قوانين وضوابط اصلاً تستدعي التمرد عليها.
ولعل وصف الكاتب للمدينة التي نشأ فيها بـپ"اللامدينة" دلالة على إدراكه غياب الضوابط والقوانين التي تفرضها وتمليها حالة التمدن. اذ يوحي ما يرويه الكاتب بأن "الشمال" ميدان طفولة الكاتب وصباه، سابق على التمدن على رغم توافر مراكز ومرافق ارتبط ظهورها بظهور المدن. فغياب القوانين تجعل المستشفى محكوماً بمزاج بغي والمدرسة بإهواء المدرس الذي ينتمي الى الحزب الحاكم.
ولعل ما يبين مبلغ تحكم العشوائية في حياة أهل هذه "المدينة" هي اللحظة التي تقتحم السياسة عالمهم. فدخول الاحزاب السياسية لا يؤدي الى دفع الحياة الاجتماعية باتجاه طور جديد ترسو فيه قيم وقوانين تحد من التلقائية والعشوائية، وانما في الحقيقة تزيد الأمر عشوائية. وهذا عائد من دون شك الى حقيقة ان السياسة بهذه الصورة لم تصدر عن هذا المجتمع وانما اقحمت عليه اقحاماً. ولعل أكثر اللقطات امتاعاً في هذا الكتاب هي تلك التي يروى فيها كيف كان يُساق طلاب المدرسة في تظاهرات تؤيد وتندد: "كنا صبية آنئذ، يخرج بنا المعلمون على هواهم في التظاهرات الوطنية، ولم يبق واحد منهم لم نهتف بشعار حزبه. وكانوا يختلفون فيما بينهم، فيقود بعضهم فريقاً من التلامذة عبر شارع أول، وفريقاً عبر شارع ثان، وثالث، ورابع... بيد اننا جمعنا شعارات الفرقاء جميعاً كما نجمع الطوابع، متسللين من شارع الى شارع، هاتفين في كل منهما كما يهتفون".
ولا يغيب عن انتباه قارئ "السيرتين" المسافة التي تفصل الكاتب عن الزمان والمكان اللذين يسرد ما دار فيهما من وقائع. فهو لا يقص قصة عالم ناء منقض فحسب، بل يبدو ايضاً كأنه يجد لكي يصوره عالماً خرافياً يصعب على المرء تصديق ما جرى فيه.
والحق فإن أي عالم مهما كان واقعياً ومألوفاً، يمكن ان يحول الى عالم خرافي اذا كان الغرض الرئيسي هو سرد قصص تُمتع وتضحك وتثير الدهشة والخوف، بل واحياناً الاشمئزاز. فلن يكون من المستغرب اذا غالب قارئ "السيرتين" الظن بأنه يقرأ فصولاً من كتاب نرفال او فلوبير عن الشرق. اذ ان بركات يبدو أقرب الى قصاص تقليدي، أو حكواتي، منه الى كاتب سيرة حديث، أي انه رجل يسعى الى نقل حصيلة خبرة أكثر من كونه كاتباً يسعى هو نفسه الى اكتشاف ماضيه والتوغل في خفاياه وبواطنه ومساءلة القيم التي سادت فيه. ولهذا فإن السرد لا يتجاوز تسجيل ما تحمله الذاكرة من حوادث وحكايات. ولأنه يقوم بدور قصاص محترف تراه بليغ التعبير، حريصاً كل الحرص على تعالي اللغة عما تصف وتخبر وكأنما خشية ان تتلوث بلغة من يروي حكاياتهم. ولعل الاستعراضات البلاغية التي تأتي خارج سياق السرد ما هي الا إعراب عن رغبة الكاتب في ان يؤكد بأنه ليس مجرد رجل يروي ذكرياته وانما كاتب صاحب صنعة واسلوب يجعله يتميز: "حرس ينتظرون مواثيق الروح المكتوبة، لكن لا ورق للروح، ولا محبرة. حرس انتظار، وهم مؤتمنون على انتظارهم. حلفاء المياه والغبار. حلفاء السنابل، ومنظرو الشعاعات. آآآه".
ما يسترعي الانتباه ايضاً ان ليس ثمة اشارة في ما يرويه الكاتب للأسباب التي حملته على الرحيل عن هذا المكان، كما انه لا يبدى أدنى حنين اليه. وهو ما لا يتفق ونزعة الاحتفاء أو التباهي بالانتماء الى هذا العالم، بل وما يجعل ذلك موضوع تساؤل. فهل الاخلاص للاهل ورفاق الطفولة مبرر اخفاء الكاتب لما يكنه تجاه هذا "الشمال"؟ الكاتب، على أي حال لا يقاوم، وفي أكثر من مناسبة، إغواء الإعراب عن مشاعره حيال هذا المكان وان على نحو موارب: "والشمال امتحان. جهة الضجر الكبيرة سيدة الجهات في امتحانها. تأخذ كل شيء لتعطيك البسالة والتهور. وفي أضعف حال تجعلك وكيلاً على ملك لا يرى، أو حارساً للهواء". ومن، بحق السماء، يريد ان ينفق حياته حارساً للهواء؟

ايوب صابر 02-22-2016 09:57 AM


"السيرتان" لسليم بركات : كتابان عن الطفولة الضائعة والطيش العنيف*

> "كل طفولة ميثاق ممزق، كل طفولة محنة". بهذا التعريف القاسي للطفولة يفتتح سليم بركات كتابه الجديد الصادر، حديثاً، عن دار الجديد في بيروت. هو ليس كتاباً جديداً في الواقع. انه، هو المعنون "السيرتان"، يضم بين دفتيه نصّين قديمين سبق ان نشرهما المؤلف في عامي 1980 و1982، أي في بدايات الرحلة الابداعية التي استهلها مع "كل داخل سيهتف لاجلي، وكل خارج ايضاً".
يتيح "السيرتان"، اذن، العودة الى البداية. بداية الكتابة، أو كتابة البداية. لكنه يتيح التعرّف اكثر الى التضاريس الاولى للارض التي انشقت منها التجربة الكتابية، الشعرية والروائية، لسليم بركات. وهي تجربة اكتسبت فرادة مميزة واغتنت بمعالم فارقة منذ ذلك الحين. ها هنا، في هذين النصين الأولين، نعثر على الجذور العميقة والنسغ المخفي للشجرة التي ما برحت تنمو وتزدهر مرتوية من الجداول التي يأخذها اليها سليم بركات. هي شجرة حبلى بالحدث، والصورة واللغة، معجونة معاً بخميرة الذهول واللامألوف.
وظيفة مزدوجة
يحقق "السيرتان" وظيفة مزدوجة لقارئ. من جهة هو يوفر الفرصة لاعادة قراءة النصين وتذوقهما من جديد واسترجاع الاجواء والعوالم المدهشة والساحرة التي ينطويان عليها، ومن جهة ثانية، يمنح القارئ الامكانية لمعاينة الكتابات اللاحقة لسليم بركات على ضوء نصّي البداية هذين.
والنصان كانا، في البدء، عبارة عن سردٍ يُفترض فيه البوح باجزاء من سيرة المؤلف في محطتين من محطات العمر: الطفولة والصبا، كما سمّاهما، وهو عمّد الأولى باسم "الجندب الحديدي" وأفصح عنه بعنوان فرعي طويل: "السيرة الناقصة لطفل لم يرَ الا ارضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي ايها القطا". في حين أطلق على الثانية اسماً هو كناية عن نداء: "هاته عالياً، هات النفير على آخره".
هي البداية إذن: أرض هاربة وفخاخ وقطا ونفير، هي سيرة ناقصة لطفل يأتي صاخباً، نزفاً، مطالباً النفير بالعنفوان. تفتح الطفولة عينها على عنفٍ طاغٍ يسم كل شيء بميسمه. يسم الجنين المازال في الرحم يستعجل الخروج الى العراء كي يشرع في التمرد ويباشر الصراع. يسم الطفل البادئ السؤال اللعين عن المصير والواضع، من فوره، خططاً لتحويل العالم الى جحيم. هو السفر الاول في كتاب العمر. سفر التكوين للدنيا التي يؤلفها، بصياحه، الطفل المشاغب، الجهنمي الذي ما ان يضع يده على شيء حتى يحوله حطاماً. يتواطأ المؤلف مع الطفل. أعني انه يتواطأ مع ذاته. هو يكتب سيرة الطفولة كي يعيشها ثانيةً. يعيشها بروحه هذه المرة، آخذاً موقف الانحياز الى الطيش والنزق والعبث. اكثر من هذا، يجدد العقد، الذي لم يكن مكتوباً، مع كل المشاغبين، أطفالاً ومسنين. بشراً وحيوانات. مع فصول السنة والرياح والمطر والثلج والقيظ والصقيع.
تنفتح الطفولة. تبدو مثل زهرة برية تفرد أوراقها لتتلقف الغبار وتبصر، أول ما تبصر، بقعة من الارض العنيدة، سُمّيت شمالاً،عصت على الجغرافيا ونظام الكواكب. شمال لم يدرك ما حواليه فرقد، دائخاً، عند أقدام طوروس، محدقاً في الناس الذين يمضغون الصمت بتلذذ كبير.
وكأن مجيء الطفل ضرورة في مكان وُجد بالصدفة واستقر عند النهايات الحادة لكل شيء: طقس حاد وتراب حاد وفقر حاد ومزاج حاد وضحك حاد وروح حادة وشرايين تقذف دماء حادة وحارة.
وحين يلبث الطفل، برهة، تأخذه الحدة وتنفث في روحه العنف. تبدأ رواية العنف بالمشهد الذي سوف يغدو لازمةً للزمان والمكان في كتاب الطفولة المهشمة: "كنا صغاراً يا صاحبي، مثل فراخ الإوز، واقفين على طرفي الشارع كسطور الكتابة. وكان ثمَّة هرجٌ كبير، هرجُ مهول. وكان المعلمون، الذين يقفزون بين الصفوف ملوحين بعصيهم، أشبه بقطط مذعورة، يصرخون: "انتبهوا، لوّحوا بأيديكم حين يمرّ الرئيس". هكذا يبدأ مهرجان العنف بعنف رسمي. يبدأ الزمن مسيرته بالعنف الحكومي المندلق على الارض مثل مياه حامضة. عندئذ ينعتق المكان من حدوده وينفلت من أصابع الوقت مثل رمل أخرق.
يبدأ الطفل الطفولة بميثاق من العنف يوزّعه، منشوراً على حبل روحه، بين قرى الشمال. من موسيانا الى هرم شيخو. ومن حلكو الى عامودا، يعقد حلفاً مع الزوابع والسحب والبيادر. وهو حلف يرفض أي مساومة ويقول: لا للجميع. لا للرئيس والمعلم والمدرسة والطباشير والبيت والشارع والقطط وابريق الشاي.
حين نقرأ السيرتين، الآن، نكتشف ان سليم بركات لم يتحدث عن نفسه الا لكي يتحدث عن الشمال. فصول الكتاب حبلى بمرويات أهل الشمال في تدافعهم وصراعهم وتقاذفهم، كأنما هم في عراك أبدي. تكتظ العيون بالمشاهد اللاهثة تمضي متلاحقة، متخمةً بالصخب.
الطفولة، طفولة الراوي، تشخّص أحوال الجميع في ذاتها. والجميع في عراك دائم: مع الجيران والدواب والطيور والتراب. ويستقل الطفل بعنفه. يشنّ غارته الاولى على الجرار الخزفية التي تتساقط وتتناثر على الارض. ثم يبدأ بقذف النوافذ بالحجارة وخلع الشجيرات والورود، وينتهي به الامر فاتكأ بالارانب مرتكباً مجزرة يروح بعدها يتسكع عشرين يوماً حول البيت دونما جرأة على دخوله.
في الخارج يعقد الاطفال اجتماعهم ويوزعون العنف والقسوة في ما بينهم بالقسطاس "اطفال بلا طفولة. لا يفكرون الا في سرقة أو خطف أو تحطيم". يكرهون المدرسة والدفاتر والبيت والمعلمين ورجال الشرطة. لكل طفل سكين في جيبه أو سلسلة حديد حول وسطه. واذ تضيق الاحياء في وجه توسعهم وتخذلهم في ارواء عطشهم للتمرد يمدون سلطتهم الى الحقول والبيادر، ثم تصل مملكتهم الحدود حيث الاسلاك الشائكة والألغام. لهوهم مضرج بالدم ولعبهم مزنر بالرعب. لا أحلام بل كوابيس. لا رغبات بل شهقات تشق الهواء كالطعنات.
ينبثق الطفل في هذه المعمعة حاملاً قلبه الصغير بين يديه غازياً السهول فاتحاً ذراعيه للبقول والثعالب لا يعترض سبيله معترض، والا فان عنفه لن يعرف حدوداً. سوف يكسّر قوائم بغل سمعان ويدحرج المرحلة الحجرية عن سطح البيت على كلب فلمز ويرش البهار في بركة أوزات سقمور ويوصل الكهرباء بباب فرن مرادو فما يمسكه احد الا صعق. والويل للقنفذ واليربوع والخلد. الويل، ايضاً، للخراف والدجاج والكلاب والاكباش. وتتعاون الجهات معاً وكذلك الهضاب والروابي لتمنح العنف شرعيته.
ويحتار المؤلف في سرد السيرة. فالحكايات تتدافع والاحداث والابطال بلا نهاية. فماذا بعد؟ يتساءل. ماذا يخرج من جرابه "الكردي"، الشمالي، ويرهقه امام أنظار الجندب الحديدي؟ عمّ يتحدث؟ أعن الكلبة توسي او عن العصفور ذي الساق الواحدة أو عن صدر الذي اجتاز الحدود ليأخذ عفدي من بيته سحلاً أو عن سطيفو العابر الطريق عارياً أو عن جسونو الذي اغتصبه العتالون؟ عن غوليسار قهرمانة العاهرات. عن الملا احمد الذي يختصر خطب الجمعة وصلواتها؟ عن المؤذن عبدالرحمن حامل المجلات الممتلئة صوراً ملونة في باطن سترته؟ عن الكلاب ذات الرؤوس الآدمية؟ عن بروق الشمال؟
يقول المؤلف للطفل فيه: لقد أيقظتنا لنسرد المهزلة. والمهزلة لا تنتهي. تتواصل في الفصل الثاني من العمر، ومن الكتاب ايضاً. يصير العنف اكثر تماسكاً وأكثر عنفواناً. ومن جديد تقوم المدرسة بوظيفتها في طعن الصبي بخنجر الرعب. يقوم المعلم الحزبي المخيف باستدراج الصبيان الى باحة الخوف ليشتمهم ويمعص طفولتهم بحذائه. فما ان يخرج التلاميذ من "مسلخ" المعلم حتى يبدأ العنف مهرجانه المؤجل على أيديهم. هم عنيفون لان الآخرين، الكبار، عنيفون بدورهم. فالآباء يوصدون الابواب بعنف ويضربون زوجاتهم. والملا احمد عنيف. والملا رشيد. وعفدكي كشومشو كذلك، وهو يقذف الشتائم في كل خطوة يخطوها. "يشتم المدينة وابقار الناس وأغنامهم. يشتم الغيوم والهواء ويضرب بعصاه الحيطان من الغيظ". ويشتبك الناس. تشتبك الاحياء وتتعارك الديكة ويتعارك أولاد قاسمو مع اولاد عفدكي وزوجتاهما. وتبدأ الحجارة والقباقيب بعبور الجدار الذي يفصل الجهتين.
ويمضي الصبية في قرع باب المراهقة والتعرف على "بهاء اللحم" الأنثوي. ويتنطح أولاد مرادو لاكتشاف "منابع الهزائم والعذوبة وتعيين سحر السراويل الصغيرة. ولكن أديبو هو الذي يوفّر المشهد الاكثر نضجاً في بستان الإثارة، ذلك ان خانمه تستدرجه وتبادله قشدة جسدها بعلب التبغ الفاخرة.
اما اولاد حارة قدور بك فانهم الرعب بعينه. يفتحون القبور ويغتصبون الموتى. يسرقون الجثث وينتزعون الخواتم واللعنات.
عالم غريب منتوف الريش، مصنوع من القسوة والتهور والشطط والسذاجة. القسوة والسذاجة. طرفا المعادلة السخيان. سذاجة عنيفة؟ أجل. والا كيف يمكن لإبن زرزي ان يبتلع عصفوراً حياً بكامل ريشه في تحدٍّ لأترابه الذي يضحكون ملء أشداقهم "رافعين سيقانهم في الهواء كما تفعل الزيزان المقلوبة على ظهرها".
الطرافة واللامعقول
ذلك هو الشمال الذي فقد بوصلة روحه. بقعة مضمخة بالطريف والشاذ واللامعقول. مسرح يعتلي خشبته كل من يحمل في داخله موهبة الجنون والغرابة. مثله في ذلك مثل بليرو الذي يحرس جسر المدينة. يوقف الشاحنات ويصرخ بالسائقين: حملكم ثقيل فيناولونه تفاحة أو عنقود عنب. يتنحى ويقول: "لقد خفّ حملكم. الله معكم". وأما سيفي فانها تحرس الجداول الوهمية. تمشي وسط الشارع، ثم فجأة تشمّر عن ساقيها وتقفز. وعباسي قزو يحمل على ظهره ابداً أكياساً وهمية من القمح، وداود كوت يسوق أمامه قطيعاً وهمياً من الغنم. وتقوم بين ابن حجي كفر وبين الدجاج خصومة دائمة. وشيخموس؟ هو صبي مثل غيره من صبيان الشمال. ولكنه زوج، هو الذي لم يتجاوز سن البلوغ، فماذا يفعل؟ ... أمه تحشر منديلاً في فم العروس، وتمسك بيديها، بينما يعريها والده في نصفها الاسفل". وابن بيري لا يكاد يخرج من سجن الاحداث حتى يعود اليه. امه ترسم له الخطط وتذود عنه اذا ما اتهمه احد. "بذيئة وقبقابها في يدها ابداً". ابن بيري يسرق كل شيء، يسرق أباريق الوضوء من المسجد، وأحذية المصلين، والدجاج، والدراجات، والحقول، وإسفلت الطرق، والتراب، والهواء.
هؤلاء هم صبية الشمال. جزء من لهاثه الابدي. هم ابطال العنف وضحيته معاً. رواد اللعنة وقرابينها. قدرهم قدر الشمال الارعن وحقد الحكومة الهوجاء. واللعنة تحلّ في عاصمة الطيش ومرتع الطين: عامودا. اندلع الحريق الذي حوّل مئات الاطفال الى رماد حزين. هكذا تحترق الطفولة. تحترق الطفولة في الروح ويحترق الاطفال في سينما عامودا.
وهكذا يأتي "سلو" الى الواجهة ليعلن ان الارض تنتظر أباطرة الملهاة. ولكن من هو سلو؟ هو سليم بركات نفسه الذي حيّرته إكياس القمح المرصوصة مثل ذخيرة الملائكة وأذهلت شرايينه.
كأن الكلمة الاخيرة في "السيرتان" هي الكلمة الاولى في ما يلي من المهزلة الكبرى الآتية من شمال المصادفة والتي سيدأب سليم بركات على سردها عبر اللاحق من نصوصه.
هل يشكل سيل الحكايات المدهشة معنياً على المتعة التي يحسها القارئ في "السيرتان"؟ أي هل يقوم الانشداد الى الاحداث الفانتازية والشخصيات الاكزوتيكية والنوازع الغريبة والمشاهد المذهلة.. وهي مواد السيرة وعناصرها؟
الارجح ان صانع التشويق والمتعة والاندهاش هو ذلك الاسلوب الجاذب والخيال الجامح والصنعة الكتابية والسرد المفتوح على المدى والصور المدهشة... وهذه أدوات سليم بركات وعدّته. وهي اشياء سوف تترسخ وتنفتح على آفاق أرحب وأدهش في اعماله اللاحقة. ان "السيرتان" هو، بمعنى ما، المعين الذي سينهل منه المؤلف في كتاباته التالية، وسوف تستمر تلك الشخصيات العجيبة في نسج حيواتها في "فقهاء الظلام" و"الريش"... الخ... الخ.

ايوب صابر 02-22-2016 12:37 PM

بورتريه للشاعر والروائي السوري الكردي ... سليم بركات «الهارب» كتب أصداء حياته المكسورة
دار الحياة -
دمشق - الحياة :

تقوم سيرة الصبا للشاعر سليم بركات على لملمة المبعثر وتدوين المحذوف، حيث البدايةُ خطوةٌ في فراغ شاسع، والمصيرُ حبل لا يفتأ يضيقُ كالرّسن. فالشاعر الذي ولد في قرية «موسيسانا» النائية في الشمال السوري، على الحدود التركية، عام 1951، لعائلة كردية متدينة، وجد نفسه مقذوفاً في عراء رهيب، لا سلطة فيه لقانون، ولا حقوق فيه لمخلوق، ولا ناظم فيه لحياة سوى ما يقرّره ناموس الطبيعة، وتأتي به دورة الفصول والأيام، فالقسوة على أشدّها، والفقر على أشدّه، والخوف راسبٌ في النفوس، مستقرّ في الأعماق، والهول مرتسمٌ على وجوه الكائنات والأشياء. في مفتتح كتابه النثري «الجندب الحديدي»، (1979)، وهو القسم الأول من سيرة الشاعر، التي يصفها، في شذرة فرعية، بالسيرة الناقصة «لطفلٍ لم ير إلاّ أرضاً هاربة»، يركّز بركات على هاجس البعثرة والتواري، وسقوط الكائن في قعر الهاوية، فريسة للضياع والمفاجأة والخوف.
فطفولة الشاعر، كما تصورها مذكّراته، هي طفولة منهوبة، تتعرّض للخلخلة في كلّ لحظة، اجتماعياً ونفسياً وعاطفياً. لاحقاً، وفي ديوانه الثاني «هكذا أبعثر موسيسانا» عام 1975، يكرّس بركات البعثرة كموضوع مركزي، فيكتب في القصيدة الافتتاحية قائلاً: «... ثم جمعنا الملكوتَ وبعثرناه، وأمعنّا في بعثرة العالقِ منه بأطرف غدائرِنا، ونفثنا في الأحجار هواجسَ ليس تُقال».
هذه الطفولة المشرعة على الهبوب، المبثوثة كغبار في أصقاع الشّمال المحذوف، ستظل ماثلة في ذاكرة الشاعر، الذي أدمن الأمكنة الهاربة، ما حدا بشاعر مثل محمود درويش، الذي عاش مع بركات أيام حصار بيروت في أوائل الثمانينات، ثم عاش معه تجربة الخروج إلى المنفى، والعمل في مجلة «الكرمل»، في قبرص عدداً من السنوات، أن يكتب قصيدة مهداة إلى الشاعر بعنوان «ليس للكردي إلا الرّيح» مؤكداً ثيمة البعثرة والتشظّي والانسلاخ، وكينونة الشّاعر في اللغة: «أنا لغتي، أنا المنفي في لغتي».
لكن طفولة بركات في تلك الجبال الزرق النائية، تأسّست على الرّعب، وعلى قسوة لا تعادلها قسوة، حتى أنه يوجز بالقول إنّ «كلّ طفولة ميثاقٌ ممزّق، وكلّ طفولة محنة». بل إن الرعب جعله يشكّك في وجود قريته، ليتخيّلها تارةً «طعنةً من طين»، وطوراً صليلاً للظلام الهابط، «حين رسا أوّل مرةٍ في الأرض فأنبتَ الوحشة».
والحقّ، إذا حدقنا في مرايا هذه الوحشة الوجودية العميقة، لعثرنا على فراشات محترقة، وأرانب تقفز مخنوقة، وقنافذ تُسلخ من إبرها، وديكة تعترك حتى الموت، وقطاً يهوي من عليائه، وأشباح تنزف مثقوبة بالإبر، وأم تهوي بحجرٍ على ابنها، ويد تنتفُ ريشاً، وكبشٍ ينقضّ على كبش، ودم ينفرُ عالياً من رقبة مطعونة، وأضلاع مجفّفة على حبل غسيل، ويرابيع مقتولة، تعود حيةً في الحلم، وقتيل يصرخ بعد موته، وجثث منفوخة كالطبول، وقطط يرُشّ عليها الكاز لتحترق راكضةً، وبيادر قمح تُضرم فيها النيران، وكلاب تموت غرقاً، وتثقبُ المذاري الحديديةُ أجسادَها، وعصافير تراجيدية، بأجنحة منتوفة، تقتلها الدجاجات تقراً حتى الموت، وقبورٍ لا معالم لها، تطرّز الهضاب البعيدة، فينهض موتاها ليلاً، ويرتادون بيوت الأحياء. نعثر على كلّ هذا وأكثر.
فالطفل سليم بركات، قبل مجيئه إلى العاصمة دمشق، في التاسعة عشرة، ترك وراءه طفولة «اللاطفولة»، كما يعبر، محتفظاً بذاكرة مذهلة عن أدق تفاصيل تلك البيئة العجيبة، السريالية، التي يختلط فيها اليومي بالفانتازي، والمرئي باللامرئي، والتي تركت أثراً عميقاً في حساسية بركات الشعرية والروائية، فابتكر عوالم خارقة، ســريالية، تقف نداً قوياً، لنصوص أشهر كتاب الواقعية الســحرية، كماركيز وبورخس وفوكنر.
في تلك البقعة البرية من الشّمال السوري، وخلال فترة الستينات، على وجه الخصوص، تفتّحت عينا الطفل بركات على الفرح المعلّب، والأعياد المعلبة، والشعارات الخشبية، والانقلابات، والهزائم المتتالية. هناك شهد الشاعر بداية الفرح الرسمي «العنيف»، كما يصف في مذكراته، حيث العَلَم المعلّق على الصدر، والفرح الغامض المرسوم على الوجه، «دونما التفاتٍ إلى أعماقنا».
والقسوة هنا لا تقتصر على المؤسسة الرسمية، كالمدرسة ومخفر الشرطة والهجّانة، بل تشمل البيت نفسه، بما يمثّل من حاضن لقيم وقوانين فولاذية، فوالد بركات شيخ دين ملتزم، ووالدته فلاحة حازمة وقاسية، تُنزل بابنها أشدّ العقاب، بسبب أو من دونه.
وكان لا بدّ من الهروب، وترك المنزل مراراً وتكراراً، والنوم في الحقول أو أودية الأنهار، واكتشاف العتمة الملهمة للعراء الفسيح، «فالظلام لا يخيف، بل يخيف النهارُ»، وكان لا بد أيضاً من الاحتماء بالطبيعة الأم، تعويضاً لفقدان حنان الأم الحقيقية، لتتحول القصيدة لاحقاً، صرخةَ طفل مقهور في وجه القسوة والحرمان والعنف. وفي هذا العراء الكثيف، المهمل والنائي، اكتشف الطفل بركات نماذج بشرية مسرفة في النقصان، تنام وتأكل وتموت كأشباح، هو الذي ترعرع مع أطفال قساة لا يتورعون عن إحراق كلّ أخضرٍ ويابس، إذ «لا طفل إلا وفي جيبه سكّين، أو على وسطه سلسلة حديد».
شخوصه هذه من آشوريين وكرد وسريان وأرمن وبدو وعرب، هي كائنات حلمية مشروخة، أصابها صدعٌ نفسي لا شفاء منه، أو غدَرَ بها قدرٌ غامضٌ، فاستقال وعيها، وأسلمت مصائرها للتمتمات والرّقى والجنون. في سيرة صباه الثانية «هاته عالياً، هات النفير عالياً»، (1980). يصف بركات بعضاً من هذه الشّخوص الحقيقية، ويطوّرها لاحقاً في أعماله الروائية.. هكذا، ومن حيوات هؤلاء البشر الضائعين، المنسيين، المنبوذين، الحقيقيين، في أقصى الشمال السوري، صاغ بركات أقدار شخصياته لاحقاً، في أعمال روائية متميزة بلغت أربع عشرة رواية، تزاوج بين تدفّق الشعر وتوثّبه، ورصانة السّرد ورفعته الفنية، كما في روايات «فقهاء الظلام» و «أرواح هندسية» و «معسكرات الأبد»، و «ثادريميس»، وسواها.
بركات، الهارب من طفولته أو «لا طفولته»، فاجأ الوسط الأدبي في بيروت التي انتقل إليها في أوائل السبعينات، بعد تجربة فاشلة في سورية استمرّت عاماً واحداً، سبق أن نشر خلالها أولى قصائده وهي «نقابة الأنساب» في جريدة «الطليعة» السورية، التي «سقطت بغتةً ككتلةٍ ثقيلةٍ على السّطح الراكد»، على تعبير الناقد صبحي حديدي، والتي قوبلت باستغراب ودهشة، وأخذت الجميع على حين غرة، باستعاراتها الصادمة، وصورها غير المألوفة، وتراكيبها الفصيحة، والتي أراد من خلالها هذا الشاب الحالم أن يقوّض يقين اللغة الشعرية المكرّسة، ويكنس معها الالتزام الإيديولوجي الذي وسم قصيدة جيل السبعينات في سورية. هذا الخط البلاغي استطاع أن يقف نداً قوياً لقصيدة الماغوط، الشفوية، الحارة، التي تعتمد التلقائية والبساطة التعبيرية.
وكانت قصيدة بركات «دينوكا بريفا تعالي إلى طعنة هادئة» المثال الأقوى، فهي تمثّل نمط القصيدة «الكتابية» التي تعي ذاتها كتدوين بلاغي، مقابل القصيدة «الشفوية»، التي تعتمد قوّة الصوت وعفويته، والتي كان يكتبها، إضافة إلى الماغوط، معظم شعراء جيل السبعينات في سورية كنزيه أبو عفش وبندر عبدالحميد وممدوح عدوان وعادل محمود ومنذر المصري وسواهم. هذه القصيدة كانت نشرتها مجلة «مواقف»، التي يرأس تحريرها أدونيس، الذي تحمّس لموهبة هذا الشاب الكردي، الذي يتقن العربية نحواً وصرفاً وبلاغةً على نحو مدهش، ليصدر عن الدار ذاتها ديوان بركات الأول «كلّ داخلٍ سيهتفُ لأجلي وكل خارج أيضاً» عام 1973.
ولم تكن افتتاحية الديوان إلاّ بمثابة لقطة سينمائية بديعة، تعتمد السطر الشعري المفتوح والمتدفّق، وتوظّف الصورة الحسّية، البعيدة من التجريد، مما لم تعتد عليه الذائقة الأدبية آنذاك، والتي كانت مفتونة بالقضايا الكبرى، والجمل التي تحمل دلالات مباشرة، أسطورية وسياسية وفلسفية. لكن افتتاحيته تلك أعادت الاعتبار الى جماليات المرئي، والى اللغة بصفتها فعلاً بلاغياً بالدرجة الأولى، في محاكاة فنية رائعة لكائنات الطبيعة: «عندما تنحدرُ قطعانُ الذئابِ من الشّمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج، وتعوي فتشتعلُ الحظائرُ المقفلةُ وحناجرُ الكلاب، أسمعُ حشرجةَ دينوكا».
من هذه الحشرجة، تتبلور رؤيا بركات لصورة الطفل الهارب من الجحيم، في دواوينه العشرة اللاحقة، وآخرها «المعجم»، عبر تعزيزه قيم البعثرة والتشتّت والتواري. كأنّ الكتابة لديه محاولة للملمة أصداء حياة مكسورة، ومبذولة في المنافي، تتطاير لحظاتها كالقش، ويحياها الشاعر نهباً للصّدفة واللامعقول: «ونعتقد... أننا ولدنا من القشّ، وأننا سنصيرُ إلى قشّ، وأنّ حدودَ الأرض هي حدودُ الرّياح التي ستحملنا معها».
هذه الرياح ستحملُ الشاعر إلى أبعد نقطة في الشمال الأوروبي البارد، حيث يعيش الآن مع زوجته وابنه في السويد، بانتظار قطار غامض، يقلّه، مع أنهاره وجباله وغيومه وذئابه ونباتاته وطيوره، إلى الشّمال من جديد، لينصبَ، ربمّا، فخّاً جديداً لرعبٍ قادم، أو ليكتب عن موسيسانا الحلم، مهد الطفولة الأول، التي لا تفتأ تلتمعُ في ذاكرة نصوصه، مغسولةً بومض البروق.

ايوب صابر 02-22-2016 02:36 PM

Aug 18,
2013

Lamia rated it really liked it
عن Goodreads

سليم بركات في جمال اللغة وغموض السرد لديه لا يشبه أحدًا في زماننا كـ "بيكاس" في روايته "فقهاء الظلام" يشدك للغته الرصينه المحملة بعبق اللغة العربية الثرية وأنت تحاول أن تجمع شتات ذاكرتك في تذكر معنى الكلمة التي كتب بها ويركز إلى أمر آخر يخالف المعنى الأصلي ويأتي السياق بعد ذلك محملا بالمعنى الذي تحاول التشبت به إلا إن الكلمة تتكرر مرة أخرى في سياق يخالف السابق.
ذاكرة بركات مليئة بصور الألم ومثل هذا الأدب الرائع بين يدينا لا يأتي إلا بصور متخمة بالألم الذي يولد نصوص وحكايا متقنة في الصنع منمقة

تقع الأحداث في الشمال الشرقي لسوريا على مقربة من الحدود التركية (القامشلي) موطن سليم بركات .
"بيكاس" الذي بلغ الشيخوخة في يوم مولده مساءا وكان في ريعان الشباب بعد مضي ما يقارب سبع ساعات هو ابن لأب شيخ/مُلا وقور يخفظ القرآن كاملا عن ظهر قلب وبعضا من الأحاديث النبوية إلا إن المحنة التي دارت رحها في أسوار البيت الذي تتوسطه شجرة زيتون لا يزيد طولها عن متر وتقاسمهم العيش والشعور والأحاسيس يثور ويخرج عن طوره "لا أريد أن أفهم شيئاً فيما بعد ولا أريده الآن.

لست معنياً بفهم هذه المحنة، فليفهمها ربّك" وما تمر ساعات شبابه حتى يطلب عروسا له ! ولا يجدون إلا ابنه عمه البلهاء "سنيم" التي يتكتم كلتا العائلة في كل شيء وما أن يمر اليوم الأول حتى تبزغ خيوط الشمس بوضوح إلا ويقولون بإن الوليد /العجوز "بيكاس" قد مات في حبكة يحاولون جاهدين في أن لا تتطاير إحدى خيوطها وتصل إلى خارج العائلة.

لتنحدثنا الرواية عن نوعان من المعلمين منهم المتعلم المثقف الذي أرسلته وزارة التربية لتعليم أبنائهم حتى يلقى مصير القتل بعد أربع سنوات قضاها في "القامشلي" اثنتان منها في تعليم الأطفال واثنتنان ليعمل محاسب ليحدث ما كان خارج الحسبان حيث تنبت أصابع في حقل داخل المنزل ويكلف "عفدي" الجد من أجل القضاء عليها إلا إن الأصابع لا تزال تنمو ! والمعلم الآخر الذي يعلمهم قراءة القرآن وبعض الحساب في طريقة بدائية لتعليم وقضى نحبه على يد أخ "سنيم"

ولا ينسى بركات التهريب بين مدينة "القامشلي" وما جاورها من المدن وبين الحدود التركية سواء المؤونة الأساسية أو تهريب المخدرات بشتى أنواعها وهناك من يقض نحبة بسبب الألغام المزروعة في الجانب التركي إلا إن هذا الأمر لم يمنع من تطور أساليب التهريب وكيفية تفادي حدوث الإنفجار أو كوارث يمكن أن تلقي بهم إيدي الحراس.

البيئة التي رسمها بركات في "فقهاء الظلام" كانت آسرة بما تحمله من عبق الماضي الذي تشربت الأرض من رائحته والقمح الذي كان ينتقل بين السنابل إلى الرحى والتجار والبائعين مرور بالنساء عند أفران التنور الساخنة إلى قوت النمل الذي يخزنه وكما ذكر بركات بإن النمل يخزن ما يزيد عن حاجته إلى أربعة أشخاص حيث ما أن يقترب الشتاء حتى يدب البحث عن أوكارها. الأساطير التي لا تخلو الرواية منها تضع لمسة براقة في جنبات الرواية .صبغ التكرار التي تضفي بعض الملل في الرواية لا تمنع من الاستمتاع بإنهاء قراءتها. وبعض المشاهد التي كان بالإمكان الإستغناء عنها.

"ليس لأحد سوى خرافه، وبيته، وقمحه الذي يخذله فيتركه عاريا"
"الأم وحدها، التي تركها الأب والابن في سباقهما، لا تعرف مسافة غير مسافة ذهولها"
"عمر الانسان، في الأصل يوم واحد، ومن يعيشون لسنين هم استثناء"
"لو قيض للقرى ان تخرج على صورة لم تلتقطها عدسة، لخرجت على شكل الأرقام التي دونها الملا"
"المياه، المياه. تلك الدعامة الشفيفة التي تسند هيكل الحياة المائل"
"المغيب يستكمل جمع الشارد من ألوانه كما يجمع الراعي غنم الشارد"
"يعرفون ثغرات النهر كراحات ايديهم"
"لفافته تحيط وجهه بهالات من دخان عصبي كقدمي طفل تخبطان في الهواء"
"أما الأبوان فبانا ممسوخين، لينين ككرات عجين يمكن دحوها قبل إلصاقها بباطن التنور"
"شبح خفيف كقطرات الماء التي تدلف من السقف لا اكثر"
"يملأ كفتي ميزان الحي الغربي المتذبذبين بحكمته الثقلية كصيف الشمال"

ايوب صابر 02-22-2016 02:46 PM

Aug 11, 2014

Hala rated it it was amazing
عن Goodreads

فعليًا لم أقرأ رواية عربية بهذا الكمال الصاخب من حيث البنية السردية والتراكيب اللغوية ، سليم .. هذا الكردي الذي طالما تسآءل امامه محمود درويش مندهشًا ه
:" !!
ماهي مصادر لغتك وماهي مصادر خيالك ?"

انها محن الطفولة المبكرة حتما والتي ينفتح بها الدماغ على عوالم اخرى عوالم سحرية تفوق تصور العقل العادي !!!!

ايوب صابر 02-22-2016 02:49 PM

Oct 20, 2015
Halima Rida rated it really liked it

لم أرَ كاتباً ينفذ إلى عمق الموجودات مثل سليم، هذا الكاتب الفذ الذي منح الرواية بعداً جديداً والذي يصنع عالماً خيالياً كاملاً غير منفصل البتة عن الواقعية المحضة قدم هنا نموذجاً لإطار المكان السكني الذي ترعرع فيه وربط الخرافة بالواقع بالهزل وغمس الجميع في عالم بيكاس الذي كان يكبر كل عدة ساعات سنوات عدة
سليم الذي يمنح الجمادات قيمة وينفخ الروح فيها

ايوب صابر 02-22-2016 02:52 PM

صدرت له "الأعمال الشعرية" في مجلد واحد:
سليم بركات: كل عمل أدبي تلزمه ألف عام ليشارف اكتماله
استوكهولم - الرياض، خاص:

قلائل هم الذين استطاعوا أن يطوعوا جزالة اللغة العربية بهذا القدر من الرشاقة والمهارة والعمق كما فعل الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات، فاللغة، واللغة وحدها، غدت هاجس هذا الكاتب الذي تمكن من اقتحام الأسوار العالية لها مقتنصا أسرارها، وجمالياتها، وألوانها، وظلالها، ومجازاتها، وموسيقاها، وسلاستها ما دفع بشاعر كبير مثل محمود درويش إلى وصفه بانه "أفضل من كتب باللغة العربية منذ عقدين من الزمان".

ولد سليم بركات العام 1951في مدينة القامشلي (أقصى شمال شرقي سوريا) المتاخمة للحدود التركية. بعد إقامته لفترة في دمشق لدراسة اللغة العربية سافر، منتصف السبعينات، إلى بيروت حيث عمل في الإعلام الفلسطيني، ومع مطلع الثمانينات سافر إلى قبرص حيث عمل سكرتيرا للتحرير في مجلة "الكرمل" التي كان يرأس تحريرها محمود درويش. هاجر في نهاية التسعينات إلى السويد، وهو يقيم حتى اللحظة في هذا البلد.

أصدر نحو ثلاثين كتابا. في السيرة الذاتية له: "الجندب الحديدي - سيرة الطفولة"، "هاتِه عالياً؛ هاتِ النفير على آخره - سيرة الصبا". في الشعر له: "كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا"، "هكذا أبعثر موسيسانا"، "الجمهرات"، "بالشِّباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح"، "طيش الياقوت" وسواها. في الرواية له: "فقهاء الظلام"، "أرواح هندسية"، "الريش"، ثلاثية الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس، "الأختام والسديم"، "موتى مبتدئون"، "السلالم الرملية" وغيرها...

أصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مؤخرا، "الأعمال الشعرية" لبركات في مجلد واحد يضم أحد عشر ديوانا، وبهذه المناسبة آثرت "الرياض" أن تحاور هذا الكاتب الذي لم ينل حظه من الاهتمام، رغم فرادة، وعذوبة النص الذي يصوغه. فيما يلي نص الحوار:

ايوب صابر 02-22-2016 02:53 PM

في نصوص سليم بركات تكاد تغيب الحدود بين الشعر والرواية. في تجربتك، هل تؤمن، حقا، بالفصل بين الفنين؟ أي حوار يقوم بين بركات الشاعر، وبين بركات الروائي حتى يقرر أحدهما أن ما يروم كتابته هو هذا وليس ذاك؟

- لا أحاول تعليل الأمر كثيراً. ربما شرحتُ التحصيل، من قبل، على نحوٍ لا أتذكَّره الآن، أو أنني، في كل مرة يعرض عليَّ هذا السؤالُ مرتبتَه "القلقة"، أهدِّئ من روعه: قطعاً، لا أعرف ما هو الشعر، تعريفاً، إلا بالحدس الغامض في كونه انتساباً إلى عودة اللغة أنساقاً ذهولاً، أو ماهيَّات يشترك في توصيفها اللاتعريف. لكنني أعرف ما هو النثري، بخصائص نحوله إلى خطابةٍ، أو سرد حكائي، أو أي جنسٍ آخر. لقد قيِّض لمثلي، حين جمعتُ سرداً من خيال الشعر ونثره، بنازع "الملحمية"، في "الجمهرات"، و"الكراكي"، أن يقود السرد إلى شعريته الأصل - خيالِ الكلمات. وها أنا أرى سرديات شعرية تتنامى، بعافية استراق السمع على الشعريِّ من أذن النثريِّ السارد، مع ملاحظة غير شقية، وهي أن الكثير من هذه "السرديات" تصل منتهى بنائها عارية من الشعريِّ، منقلبة إلى أقصوصة محضاً.

هناك، في البرزخ بين الحدس اللغوي متحرراً من مرجعية اللسان العلائقي، وبين اليقين "القانوني" من جمع اللغة نسقاً لتوثيق الفكر، والعبارة، بخصيصة المرجعية الجمعية، واشتراك اللسان في التعريف بالحدِّ؛ - هناك يقف من يستطيع لمَّ نفسه على اختصاص المرجع الناظم (السرد، وعلومه، ومنطقه)، أو لمَّ نفءسه على اختبار اللغة "يجهالةً" تتكشف عن المحيِّر القائم بشأن ابتكاره "العالِم": الشعر على جهة، والنثرُ الحكايةُ على جهة؛ بينهما النَّماءُ المعرِّش على صورة سرد شعري، أو شعر سردي، يتبادلان خصائص النُّقلة بالجسم الواحد نصّاً على "شكل" حديقة، أو هاوية. وأنا صرتُ مدرَّبا على أخذ الكلمات عن جهتيِّ البرزخ، لأنشئ بها نقاءً سرداً، أو نقاءً صوراً إيماءاتٍ، أو مزءجاً كنشاة تاريخ العقل بلا فصل في ممكنات تعبيره - شعرا يروي "الصورَ"، والوقائع، متجانسةً في النسق.

لماذا ينبغي أن أفرط، هنا، باقتدار النص المزجي على بناء تأويليَّة جامحة؟ جمعُ "النثريِّ" و"الشعري"، ردُّ اعتبار إلى الإنشاء المبتكِر. جمءعُ الخيال، واللغة، هدايةٌ إلى المتعدِّد، وتدويلٌ للبراعات.

2- من الملاحظ أن سليم بركات في رواياته الأخيرة "كهوف هايدراهوداهوس"، "ثادريميس"، "موتى مبتدئون"، و"السلالم الرملية"...بات يميل إلى تناول تواريخ وأساطير تبدو إغريقية أو اسكندنافية، بحيث تشكل قطيعة مع رواياته الأولى مثل "الريش"، "فقهاء الظلام"، "معسكرات الأبد"، "أرواح هندسية"، وحتى ثلاثية "الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس"، ناهيك عن سيرة الطفولة وسيرة الصبا. كيف تفسر هذا الانتقال؟ وما الذي أرغم سليم بركات إلى ارتياد تلك الأماكن الوعرة؟ هل مللت من الجغرافيا التي وثقتها، بعناية وعذوبة، في "معسكرات الأبد"، "الريش"، "فقهاء الظلام"...وسواها؟

- عليَّ تقديم تقرير عادي عن كوني مسكوناً بشخص آخر لا يُشبهني في طباعه، ولديَّ في ذلك قرائن لا تحصى. وهذا الآخر، الذي فيَّ، موكل بتقدير المسافات الأرضية تحديداً، قياساً بالأشبار، والأمتار، والأذرع، والأقدام، وسواها، التي إنء جاوزتُها بعقلة إصبع لم يعد في وسعي العودة إلى المكان. بعد كل خمس عشرة دقيقة ابتعاداً عن البيت عليَّ النظر إلى الوراء لأتأكد أن الجهات لم تتخالط بعد، ولم تُزِح الأمكنةُ الأمكنةَ عن مواضعها. منذ خُذِلت، كآدمي، في تدبير ساق مائية، أو رملية، على أرض تخصُّني (أرض ممتعة، أو مملة) عَمَّني نازعُ التعميم في الريبة من المكان: داخل البيت، وحده، هو حصانتي، كأنه ليس مكاناً، بل نصٌ. خارج البيت لا حصانة لي مع الجهات، حتى أخالني، بزعم ينبغي أن يؤخذ على محملٍ، لا إقامة لي في جسدي ذاته. وإن كانت لي إقامة فيه فهي موضع جدل.

تخطيط لا يوصف في التراجع إلى الحد الأدنى من المكان. إيمانٌ بالكهف كآخر كونٍ: ذلك ما شئته، بثقة المُحءتَمَل، وصفاً لجسارة "الانقلاب" على أمومة المسافة وأبوَّتها. غير أنني، أميناً للمجازفة كاستعراضٍ للاخوف من الخوف، تكفَّلتُ لنفسي مخرجاً يُرضي: كل مكانٍ ساحرٌ ما دمت لم أره بعد. لكن على الأمكنة "الساحرة" هذه أن تبادلني بعض امتنانها على الوصف: هكذا توالت جغرافيات كثيرة على أعماقي، على بُعءد شبر من أنفاس قلبي وبصره: أرض هايدراهوداهوس في "كهوف هايدراهوداهوس"؛ أرض ثاروس في "ثادريميس"؛ أرض السحلبية الزرقاء في "موتى مبتدئون"؛ إقليم كاروكشين في "السلالم الرملية".

أضفتُ إلى الأرض أقاليم لم تكن فيها. وسَّعتُ الأرضَ في تراجعي إلى الكهف. وهذه الروايات، المختلفة ظاهراً عن شقيقاتها، هي استحواذ نفسانيٌّ على الواقعي المُحءتَمَل، بانتخاب الخيال لمثاله الواقعي إرثاً من خصَّيصته الخيالية: لقد قلَّبت بين يدي رواية "كهوف هايدراهوداهوس" أربع عشرة سنة قبل كتابتها. ظننتُ أن لديَّ متسعاً من الوقت يكفي لترتيب حقولها، وكائناتها، ومراتب مجتمعها، في كتاب كبير. حالت هجرتي الأخيرة دون ذلك. عدتُ بالرواية إلى تأويلي للزمن كخاصيَّة لا تكفي بناء عمل واحد في ألف سنة. كل عمل أدبي تلزمه ألف عام ليشارف اكتماله. لكننا نعمد إلى اختزال أعمالنا استباقاً للغدر: الوقتُ مهينٌ، عادة، والالتفاف عليه، اختزالاً، يُهينه، تماما كما يهينُ المنتحرُ الموتَ.

"كهوف هايدراهوداهوس" افتراضٌ لممكن خلائقي بعد انقراض الإنسان. في كل متخيَّل خلائقي، أبعد من راهن الإنسان وجوداً، عود على بدء: الأنساق الاجتماعية. الطبائع. صروف القوة. هوميروس لم يبتعد شبراً عن تراتبية السلطة البشرية في ابتكاره لسماء الآلهة. سويفت في "رحلات غاليفر"؛ أورويل في "مزرعة الحيوان"؛ كارول في "أليس في بلاد العجائب"؛ غودنغ في "ملك الذباب" (الواقعيُّ بانعطافته على البدء نشوءاً اجتماعاً، ومثله "حي بن يقظان" مثلاً). أمثلة لن تنتهي، اقحمتُها هنا بلا تفصيل في دواعي الإسهاب تحليلاً، لكنها، جملةً، ابتكار لمفتَرَضٍ محتَمَل.

لو تخيلنا، مزاحاً، أن ديناصوراً صارح الآخر بهاجسه في انقراض جنسه، وظهور كائن يمشي على ساقين، بعد آلاف السنين من ذلك، ويقرأ صحيفة في قطار، لقهقة صاحبه. فليبثَّ أحدُنا الآخر، الآن، هاجسه بانقراض الآدمي، وظهور النسطور (النصف البشر والنصف الجواد) بعد آلاف السنين.

رواية "ثادريميس" شكوى مرحة في سوادها، عن اقتدار أطفال على إشعال حرب "الفناء". لقد "أنقذتُ" رهطاً من الفلاسفة والمتكلمين، في أيامنا، بحرب استباقية تتبعها القيامة، من جدوى "الحقائق في لعبة لغوية"، و"ادعاءات الحقيقة"، في السجال حول "الدلالة النووية"، التي ليست سوى نص. واقعنا راهن خرافي؛ حروبه خرافية بدورها. حروبٌ نصوصٌ حتى لو سقطت أشلاء جار في يدي جاره. لقد نقلتُ الراهن الخرافي إلى "حقيقة في اللغة". جئت بالتماثيل لتنحت جرماً للإنسان يلتقطه، بعد انقراض الإنسان، مخلوق السنتوروس، متأملاً شكله الآدميَّ المحيِّر. "كهوف هايدراهوداهوس"، و"ثادريميس"، روايتان تتصلان بحبل سُري عن نهاية بلا تفجُّع، عن انقراض بلا هلع من اختفاء "سجل الذاكرة الإنسانية". فلءنتهيِّأء للأمر: المسألة لعبة أطفال؛ مصادفةٌ أن أطفالاً أرادوا الحصول، بطريقتهم، على تمثال ناطق فتقوَّضت آخر المدنيات.

"موتى مبتدئون" نسجٌ آخر. شأن من شؤون أعماقي في خيبتها حتى العظم. كانت المرة الأولى، التي أسلك ب "المناجاة" مبلغها من الطول لوعةً: قاد جيلي سفناً، عبر البر (!!!)، بحثاً عن تماثيل هيلاكريتوثينيس. لم أشهد لمصائرَ؛ لم أشهد عليها. لم يعد أحد منا إلى إيثاكا.

جيل متقوَّض. بذخ في الخسارة. "غريب" لا يتذكر أنه غريب، مذ كان غريباً أبداً. والذين صعدوا إلى غابة سكوغوس بحثا عن غريب يسلُّونه ارتجالاً تساليَ لم تُستحضَر بعد، لم يروا غريبا من قبل. معنى "الغريب"، في "موتى مبتدئون"، غارق في الشرود؛ معنى مفرط في عبث اللاتحديد. المقيم، والعابر، والمهاجر، والوافد، أسماء في سجل "الغريب" المدوَّن بلا انتظام في سطوره، أو تجانس في الكلمات. "الغريب" مائيَّةٌ لن ينجزها أحد؛ لونٌ أسقطه الرسم من ضرورته. "الغريب" افتراض، أو مصطلح افتراضي.

رواياتي الأخيرة، هذه، استكمالُ الرحَّالة "صحوة" جغرافيا لا تعرض الملل، بل الموت. وهي روايات (أخص بإشارتي "كهوف هايدراهوداهوس"، و"ثادريميس") تمنيتُ أن أقرأها مكتوبةً عن يدي غيري. وإذ تأخَّر أن يكتبها "الغير" كتبتُها لكلينا.

3- ثمة من يشكو من صعوبة ما يكتبه سليم بركات، ومن غموض العوالم والمناخات التي يرسمها، وخصوصا في أعماله الأخيرة، شعرا أو رواية. هل من رد على هؤلاء؟

- لم أَشَأء؛ بخيال القارئ فيَّ، أن أتوسط للمعهود أحوالاً ومصائر، ومخاطبات، كي يتعهد لكتابة أريدها بالتخطيط بناءاً. لم تفتنِّي التبعية ل 99% من المسطَّر، قصداً، ل 99% من المستجمِّين في "منتزهات" الأدب شمساً مُطءربة، وهواءَ بحرٍ مغن، ومقهى دافئ المقاعد. منذ شبابي المبكر توجهت إلى "المُنتَخَب" الأدبي بحصالة القراءة المجرِّبة تاريخاً وتقادماً: أولئك الكبار، الذين تعرفونهم، جميعا، في الترجمات جميعها. لقد حرَّرني "المُحيِّر" من تبعات العادي، حرَّرني من كتابة "العادي" بجودة معقولة، أو أقل قليلاً (أترك الحكم للآخر، الحصيف في قراءته). لكنء ببقاء امتناني، غير مشروط، لمن أخرجوا العادي من بين أيديهم رسولا إلى أبوَّته الفاتنة، المُلهِمة.

قد يكون انطباع "الغرابة" في سجال النظر إلى نصي الروائي من مشارف ثلاثة (أزعم أنني أعرفها):

أ - المحاورات، التي بإهمال المرجع في "أسس" المحاورات "منطقا"، لا تتساوق مع "ضرورات" الحصر الواقعي لمواقف "حية". أشخاصي يتحدثون جملةً لا تتفق للحياة، في المحاورات المتكافئة بين لسانين. يتناهبون ما لا تقوله إلا "براعات" وجودهم في البرزخ، متحرريءنَ من أية ضرورة في "محاكاة" الواقعيين.

ب - المسالك اللغوية، وهي ممتنَّة لقواعد "كسر اللعبة" في "المنطقي" (ألسنا نخترع عوالم، ومجابهاتِ أفكارٍ، ونستنهض "المختارين" كشخوص للأدوار المختارة في نص شَرءعُهُ أننا "انتخبنا" لكتابة الحكاية قَدءراً من "الفريد الواقعي" يبرر كتابتها؟). أن نكتب "الواقعي" عُرءفاً، في محاكاة له، نمسخه ونهينه. أن نختزل "اللغوي" إلى صدى كسول في المقابسات عن منطقها المتصرِّف بسيطاً، فإنما نشهد لكسل اللسان بسلطته على العقل. ما قصديَ "ضراواتٍ" في استعراض "الفيهقة"، بل استدراج المحيِّر، الذي فينا. واللغة، وحدها، شَصُّ الصَّيد، وخراطينُه.

لم أسعَ، قط، إلى الاستعانة بمحاورة من مذاهب الشارع، والمقهى (الذي ما دخلته من ألف عام)، والبيت. ما حاجة القارئ إلى سماع نفءسه مطمئناً إلى اقتداره في الزعم أنه كتب هذه الرواية، أو تلك، بيد غيره؟ لا أقدم له مرآة في اللغة؛ أقدم جرحاً لم يفطن إلى وجوده تحت ثدييه. (حاشَ، هنا، أن أتطاول على كل الرواية العربية. فأنا منقطع عنها من أمد، وحُكمي مثلوم).

ج لا أبدأ رواية إلا من مأزق. أرتِّب المأزق أحوالاً في كل رواية. آخذ القارئ معي إلى المأزق.

هذا ما يخص الرواية، بزعمي. أما الشعر فلا أجد ما أدفع عنه "غموضه"، و"صعوبته"، مذ لم أجد الشعر إلا محيِّراً، وعراً، نهباً، يقلِّب الباطن أعلى أسفلَ على ظاهره.

4- العنوان هو "مؤشر تعريفي وتحديدي ينقذ النص من الغُفلة"، وعناوين سليم بركات صادمة، تخلق فضولا طاغيا، للتلصص على مغاليق المتن. كيف يختار بركات عناوين أعماله؟

- العناوين هي إلهام النص عندي، أتدبَّر بها قَدءرا موصوفا من خصائص قلِقة في التوصيف. لكن لا منجى. أتمنى، أحيانا، وضع إشاراتٍ رسومٍ، "آثارٍ" بلا حروف، على الأغلفة. لا أريد للعنوان أن يتحمل بنفسه شقاءً مختزلا إلى هذا الحد. العنوان ضحية، عادةً. النص، برمته، هو "عنوان" ذاته، لكننا مجبرون على "التضحية" بأحد اثنين: المؤلف، أو "النص". وقد شاء التاريخ أن نساوم على هذه الفداحة بأضحية ثالثة هي العنوان، الذي أَعِدُه أبدا باعتذاري إليه، فأورَّطه، وأنجو في الأغلب (أأنا أنجو، حقا؟).

5- هل أنت راض عن النقد الذي حاول قراءة أعمالك؟ وهل تشعر بان هؤلاء النقاد كشفوا، ولو جزءا يسيرا، مما تختزنه نصوصك من بلاغة وخيال وأسطورة ورمز...؟

-لا أعرف تقديراً "مُنصفاً" للموقف: إن "اتَّهمتُ" النقد أعفيتُ نفسي، وإن اتَّهمتُ نفسي أعفيتُ النقد. كلانا عنيد: هو يريدني أن أتقدم خطوات في اتجاه آلته مساوماً، وأريده أن يتقدم أشباراً في اتجاه لغتي أميناً لأخلاق النقد. لم أُنصف "النقد" بإعطائه دفائن الظاهر من خزائن النص "المُرفَّه" بالقبول، ولم يُنصفني بقبول ترِكة المقامِر في مجابهاته.

سأعثر على النقد يوماً؛ سيعثر عليَّ.

6- كيف قيِّض لسليم بركات، الكردي، أن يجوب فضاءات اللغة العربية حتى عثر على أسلوب لغوي فاتن، بارع وساحر، ومختلف...عجز شقيقه العربي عن العثور عليه؟

- لم يقيَّض لي شيء. ليس في الأمر امتياز. أجاهد أن أكون أميناً، قدر ما أستطيع، لآلة الكتابة بما تقتضيه من رعايةٍ تحفظها فتحفظني في مهنتي - وجوديَ كلماتٍ. ربما يحسُّ العربي (من غير تعميم كبير) باطمئنان إلى هويته في لغته، وانتصارها له، فلا يتحوَّط لانقسامها عليه كتابةً. لا يتهيَّبها مثلي - ربما - تهيُّبَ ميثاقٍ حسبُهُ إنء خنتُ اللغة خانتني؛ إن أهنتها أهانتني؛ إن خذلتها خذلتني؛ إنء دوَّلتُها أكثر بعقد اجتماعِ نُظُمها، وجسارات أحوالها، وتأليف ما نازعها اللسانُ النفعي فيه فشتَّتها، بانتقائيته الظرفية، على مقاصد الضحل السهل، أحكمتءني - هي - على المعنى.

آلاتنا، مذء أبرمتِ المصادفةُ خيالنا بقضاء المكتوب كَتَبَةً، هي الكلمات. لم تعد اللغة منفصلة عن سلوكنا حتى في اللحظات الأكثر خَرَساً بلا حبر. إنها طباعنا؛ سمعنا؛ لساننا؛ جبهاتنا الأخيرة؛ انتصارنا المُحتمل الأوحد في "الوجودِ الخسارة".

هكذا أرى إلى اللغةِ أعضائي الثانية "أصحَّح" بها خطأَ جسدي، الذي لم أرتكبه.

7- بأية هواجس يقترب سليم بركات من الورقة البيضاء كي يدوِّن؟ هل ثمة طقوس معينة تمارس الكتابة خلالها، أم أن الكتابة تفرض شروطها وطقوسها؟

- بهاجس الاقتراب من الهاوية أتقدَّم إلى الورقة البيضاء، كل يوم، ملقياً حجراً في سحيقها، وأتنصَّت - متهيباً - من سماع وصوله إلى القرارة فلا يصل. لا طقوس كادَّعاء المشعوذ. إصرارٌ يوميٌّ على الذهاب إلى ما أمتحن به الخفيَّ، الذي في الكلمات ذاتها، التي امتحنتُ خفيَّها ذاته، استنطاقاً بعد آخر يذهلني أنني أسمع فيه، كل مرة، محيِّراً يضاف إلى محيِّر.

البياض، الذي في الورقة، نقشُ الأبدية على الكلمات محنةً.

8- إلى أي مدى تتواصل مع ما يكتب في سوريا والعالم العربي؟ وكيف تقيِّم، باختصار، هذا النتاج الإبداعي؟ هل ثمة أسماء لفتت انتباهك في السنوات القليلة الأخيرة؟

- أتخبط في الإحراج إذء أُسأل عن تقويم الحاصل الأدبي. لطالما اعترفت أنني أصير بلا ذاكرة، إلا التفصيل اليومي المحيط بي. لم أحصل على صحيفة منذ اثنتي عشرة سنة. لم أحصل على كتب إلا بعض التراثيات، وترجمات فكرية، منذ ثماني سنين. لا أحد أعيره، وأستعير منه مؤلفات عربية، جديدة، كما كنا نفعل (في أحيان قليلة) بقبرص. آخر ما استعرضه على نفسي ثلاث روايات، لا غير، مطلع التسعينات، ثم لا شيء: ثلاث، أو أربع مجموعات شعرية، ورواية واحدة وصلتني من صديقة، في البريد، قبل ثلاث سنين. لم أعد أعرف إذا كنت أنتمي إلى أدب ما، أو حُكءمٍ أدبي. لقد درج الكثيرون، إن سُئلوا في الصحافة عن أدب غيرهم، على الهرب من جواب، تجنُّباً ل "مزالق" الإرضاء والإغضاب. أجد نفسي في هذا الموقف، معتذراً بقسوة. قطعاً، هناك شعراء جيدون، وروائيون كذلك، حُجِبءتُ قسراً عن قراءة جديدهم، من جيلي، أو من هم أكبر بقليل. فإن سألتني: "وَمَن بعد هؤلاء؟"، أو مَنء لفت نظري، في السنين الأخيرة، فهذه حالي تجيبك. لستُ مرجِعاً في الحكم على كِتاب.

9- بعيدا عن العوائق السياسية، إلا تفكر في العودة، يوما، إلى سوريا، والقامشلي، وموسيسانا...ألا تشتاق إلى مواطن الطفولة التي خلدتها بغنائية عذبة في أشعارك ورواياتك؟

- لم أغادر قامشلوكي. أستطيع أن أصفها سنتيمتراً بعد آخر بعينيها هي، في الأطلس، الذي لم تغادره من أعوامي العشرين. تستطيع، هي، أن تصفني نحيلا نَزقاً، عاقلاً كهواء طائش. ليس هنالك من قامشلوكي أخرى. عندها أخت، بالاسم ذاته، كبرتء - فيما بعد - بالذين يعرفون أن أختها الأولى تقيم معي حاضنةً أطفالها: بيروت، ونيقوسيا، وغابة سكوغوس - ابنة الأرخبيل العائم على غمامات ضواحي العاصمة الأسوجية.

لن يقيَّض لي، في المنظور راهناً أو ما يليه، أن أتبع طيوري الأولى، بالبندقية، من شمال العالم إلى الشمال السوري. أوصيتُ أن أُحرَق لأتناثر على كل شمال في الكلمات وهي تتقدمني، في غضب، إلى الوجود اللامنصِف. هكذا - ربما - أعود بقامشلوكي، وأولادها - المنافي الرحيمة، كي نلقي النظرة اللانهائية على أختها الصغرى: القامشلي، زائراً أصدقاء طفولتي؛ زائراً أصدقاء سيرتيَّ "الجندب الحديدي"، و"هاتِه عالياً، هاتِ النفيرَ على آخره"، الذين كبروا في القراءة مع قامشلوكي، التي معي - معهم.

في السويد، خارج النقد المكتوب، تلقيت ردودا طريفة من "جمعية الرفق بالحيوان"، عبر الهاتف، مستنكرة ذلك السياق "الوحشي" في علاقتي ببهائم الطبيعة. أظنني شرحت لإحدى سيدات جبهة الرفق، بانكليزية "ضارية" في الالتفاف على الترجمة اللاموثوقة، التي نقلتها من خيالي إلى لساني ويديَّ: لم نملك ثلاجات لحفظ الطعام. الهررة تسرق ما تخبئه العائلة من طعام تحت القُفَف، في الحوش. الهررة تصطاد الصيصان. الكلاب تغزو البَيءض. كلابكم وقططكم خارجة، تواً، من تربية في مدارس لم يحلم بها نشءٌ مثلي. والطيور؟ إنها، يا سيدتي، لغز. نتصيدها لندرب أعضاءنا على خيال الحرية في لحم الطير غذاءً.

سألتُها: أتأكلين النبات؟

ردت مستغربة: بالطبع. ما قصدك؟

قلت: أنتِ تأكلين أرواحاً.

أتعبتُ رُسُل الجمعية بشروح عن هدنة مع الطبيعة، الآن: نحن مُنءهَكون. الطبيعة مُنءهَكة. كوكب مُنءهَك، برمته، من خذلان الآدمي للتراب، وخذلان التراب للآدمي، والأرواح للأرواح... الخ.

10- هل تشعر بان لغتك العالية، الصعبة على الترجمة، قد حالت بينك وبين جائزة نوبل؟

- مَنء لم يساوم، مثلي، على لغته؛ على المحيِّر "مقدَّمةً" لكل اصلٍ، لا يأمَلَنء في حظوظٍ كبرى.

11- في المنفى السويدي البعيد، كيف يقضي سليم بركات أيامه؟ الآمال..الأمنيات..جهات الحنين..!!

- أقضي جلوساً إلى نافذة المطبخ. طبخٌ بعد العودة من التسوُّق الصباحي. قراءة على مساررات الأفاويهِ. بزور لإطعام العصافير خارجاً، واحتراس من القطط تحت مقعد الحديقة أن تتربص بالعصافير. أطفال لا يجاوزن مدخل الحديقة فيعرِّجون عليَّ زائرين، يطلبون سكاكر (مذء عرفوني دهقاناً في وَهءبها). جيران يسلِّمون، في عبورهم، حتى لو لم يرني البعض من انعكاس النور على الزجاج المزدوج، لكنهم يعرفون أنني هناك، في كمين الطهوِ الصَّياد. حياة تُحسب وقائعها بالأشبار في عصف الغابة بجن شرقي من ظلال شجر التنُّوب الغربي، والبتولا. شواء أسبوعي. سناجب بنِّية تتقافز قرب شباك غرفة النوم، من صنوبرة إلى أخرى. زريابٌ مليح الجانحين، أخضرُ رماديٌّ بنيٌّ بقودام قوس قزح، لم أرَ غيره في الأنحاء، يقاسم السناجب البنية، وطيور القرقف، والشحارير، وكسَّار الجوز، أشجار الحديقة الخلفية، في المشهد المغلق بسماءٍ من شجرٍ يسند السماء التي تليها. (لماذا صنَّفت العربُ الزريابَ - القيءقَ مؤذَّناً في حجيج من الغربان؟). قيامة اليوميِّ بعد نفير السكينة المدوِّخ، في كل حين. لا أمل في شيء حتى لا أتعثَّر. عودٌ إلى الدائرة في حدائق اللاموصوف، المفقودة في متاهات من بياض الورق.

لا أنسى، بالطبع، أن المشهد لا يكتمل توثيقاً إلا بملءءٍ يُشغله الأقرَبانِ إليَّ: زوجتي سِنءدِي، وابني رَان.

لقد سلَّمتُ الأبديةَ بقشءرٍ رقيق كقشر حبة الكستنة، ناضجةً شواءً في الجليد الإسكندنافي.
Tweet

عفواً هذه الخدمة متاحة للأعضاء فقط... يرجى تسجيل الدخول أو اضغط هنا للتسجيل احصل على رابط الخبر عبر رمز الإستجابة السريع QRcode تابع آخر الأخبار عبر تويتر
Follow @alRiyadh

ايوب صابر 02-22-2016 05:19 PM

ندوات: «قراءة في روايتي سيرة الصبا و الجندب الحديدي لسليم بركات» عنوان محاضرة للسيد عبدالمجيد محمد خلف

*
الجمعة 19 تشرين الاول 2012


نظم اتحاد الشباب الكرد يوم أمس الخميس 18/10/2012 محاضرة للسيد عبدالمجيد محمد خلف في مركز زلال بعنوان: «قراءة في روايتي سيرة الصبا و الجندب الحديدي لسليم بركات». بدأت المحاضرة*بسرد سيرة حياة*الكاتب سليم بركات, وأهم إبداعاته الفكرية*ومن ثم تطرق المحاضر إلى كيفية سرد الكاتب للأحداث التاريخية التي مرّ يها والتي عاشها وعاصرها كمدينة الملاهي في القامشلي والمشكلات الاجتماعية في طفولة سليم بركات و انتقالاً إلى نشوء الأحزاب الكردية, مروراً بتنصيب ملا قاسمو إماماً لجامع قاسمو الذي سميّ باسمه لاحقاً و ما تلاها من أحداث تاريخية مهمة كحريق سينما عامودا و وصفه لهذه الحادثة المريرة , التي أصبحت مفترقاً تاريخيا للشعب الكردي (قبل الحريق و بعد الحريق) مادحاً لشخصية الشهيد محمد دقوري الذي فدى بروحه و جسده فداءً لإنقاذ 11 طفلاً من الموت و الحرق حتى استشهد في هذه الحادثة ,


*مع ذكر الواقع الاقتصادي والاجتماعي السيئ الذي كان يعيشه الكرد في تلك الفترة وزيارة جمال عبد الناصر للقامشلي و المشكلات التي خلقتها هذه الزيارة*و بعد انتهاء المحاضرة , تمّ فتح باب المناقشة و الحوار بين المحاضر و الحضور الكريم استهلّها الأستاذ درست عزت بشكر للمحاضر وللمركز على الاستضافة الجميلة*منبهّاً إلى أهمية التكلم باللغة الكردية حفاظا على خصوصية شعبنا, و سرد عددا من الأحداث التي كانت معاصرة لحياة سليم بركات, وقد حثّ الشباب الكرد في حديثه على أهمية *توحيد جهودهم للوقوف في وجه المخططات الرامية إلى شقّ الصف الكردي ببثّ الفتن و الخلافات, و من ثم استمع الحضور إلى الأستاذ ريوي و إلى نقده البناء للمحاضرة بدأها بالعنوان العام للمحاضرة *منتقداً *أن العنوان أكبر من المضمون والأفضل أن يكون العنوان (قراءة في رواية لسليم بركات) و تحديد *رقم الصفحات *حين يقتبس المحاضر من كتابات سليم بركات,*و من ثم استمع الحضور إلى حديث الأستاذ أحمد*إسماعيل و نقده البنّاء حيث شكر اتحاد *الشباب الكورد yck "*" على التحضير لهذه المحاضرة*موضحاً أن كتاب سيرة الصبا ليست إلا سردا لسيرة سليم بركات و لم يكن سردا للتاريخ الكردي بشكل عام, بالإضافة إلى عدم ذكر المحاضر لشروط تناول التاريخ في كتابات سليم بركات منوّهاً إلى مشكلة نقص الكتابات التي تتناول التاريخ المعاصر للشعب الكردي في سوريا .
المصدر: المكتب الثقافي و الإعلامي لاتحاد الشباب الكورد **y.c.k
قامشلو 19/10/2012

ايوب صابر 02-22-2016 11:42 PM

مقالات سليم بركات …أبعد من الأعراق وأقرب من الهوية ـ مقال إبراهيم الجبين

Ibrahim Aljabin 16 مايو,2014مقالات
العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 11/05/2014، العدد: 9555، ص(9)]

*
“إبتدْع أيها اليأسُ في مهبِّكَ يأسي
وليكُنْ قِرانٌ يُعجِّلُ الخواتيمَ، والعرسُ نفسي

وليكنْ سَهَرُ الغبارِ من عَلِيِّينْ يرمي عليَّ الحِليّ حتى أبدَّدَ بعضي

في امتداحِ الغبار؛ أو أستدَقَّ كالسهمِ حتى

تمهِّد الريحُ بي غدرها وهي ترمي منازلَ الماءِ شتى.

ومن ختامٍ،

من غدٍ أو رنينٍ،

من مجاهلَ تعلو كهندباءٍ، ومن لهاثٍ كأرضِ

يجرِّدُ القلبُ سيفَهُ الرمادَ: هاكم شهوديَ ما بين إبرامِ شكْلٍ ونَقْضِ

يدجِّجونَ البعيد بي أو ببعضي”.

أبعد من الأعراق، وأشدّ حرارة من العروق النابضة بالهوية، كلّها هويات، وفي لغته التاريخ والخيال وسحر الكلمات، اختار لغة الشريك كي يذهب بها إلى الآخر، ماضياُ في فتنته، مستعرضاً قدراته التي بلا حدود، “لغة الدين ولغة الفقه والشريعة.. اللغة العربية هي بيتي وجمهوريتي، وهي ليست كلغة المحتل الفرنسي، ليست وافدة”، هكذا يقول سليم بركات، وهكذا يرى، وهكذا يكتب، شعراً ونثراً وعالماً لا آفاق تقدر على حصره وتقييده.

من بين القرى المتناثرة في الشمال السوري، ولد سليم بركات، ابن الملاّ، الذي ورث عن بيته وأسرته العلاقة مع التراث كما ورث الكرد علاقاتهم مع الطبيعة، مع الثلج والجبال، مع الرحيل والهجرة والتبغ والأغاني ذات الأصوات العميقة الجارحة كعواء الذئاب.

الجزيرة السورية قطعة السماء

كان للخمسينات التي رأى فيها سليم بركات النور، وهج خاص في القطعة الجغرافية الإنسانية المسماة “الجزيرة” في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، على تخوم تركيا والعراق، حيث تركيبة السكان الخاصة، واللغات العتيقة للشرق مجتمعة في مثلث خير وفير وأنهار وعوالم قلما عرفتها بقية المناطق السورية التي غالباً ما كانت منسجمة الأهلين، وبينما خضعت المدن لتقلبات السياسيين والعسكر، عاشت الجزيرة تلك التقلبات ببعدها الثقافي أكثر من عصفها المباشر، فكان إهمالها في ذلك الحين نعمة، شاء لها القدر أن تقلب في سنوات الاستبداد إلى نقمة كبيرة، أدّت إلى زوال امتياز الجزيرة، وجفاف أنهارها وهجرة أبنائها وتفرقهم في أنحاء العالم، فأخذت ثقافة العالم الكرد والسريان والعرب والآشوريين والأرمن، كتّاباً ورسامين وموسيقيين لتتبعثر حمولتهم في الخرائط كما تنبأ سليم بركات لبلدته في ديوانه القديم “هكذا أبعثر موسيسانا”.

ذهب إلى دمشق لدراسة اللغة العربية، أواخر الستينات، ولم يبق فيها سوى سنة واحدة غادر بعدها إلى بيروت، ليجد الحرية التي طالما بحث عنها، وسيتحدث عنها بعد ذلك كثيراً، حيث لا حد لحرية خياله ولا لحرية جسده، ثم نشر سليم بركات أول قصيدة له بعنوان “نقابة الأنساب” في مجلة “الطليعة” الأسبوعية السورية، في العام 1971، وانقطعت أخباره حيناً عن الشام ومناخها الأدبي، ثم ما لبثت أن عادت بقوة بعد سنوات قليلة حين وصل كتابه الأول ” كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً” بقطعه الصغير وتصميمه الغريب، ذلك الكتاب الذي بقي يباع سرّاً في مكتبات سوريا من أقصاها إلى أقصاها حتى هذه اللحظة، وكأن عدد نسخه لا نهائي، فكان شعراء سوريا يحصلون عليه متى شاؤوا بهمسات بينهم وبين باعة الكتب في دمشق وحلب والقامشلي، ولم تمض سنتان حتى صدرت مجموعته الشعرية الثانية “هكذا أبعثر موسيسانا” في العام 1975.

شاعر كردي في ثورة فلسطين

انخرط سليم بركات سريعاً مع الثورة الفلسطينية في بيروت، وأصبح أحد أعضاء المنظمة والعمل الثوري الفكري، لتندلع الحرب في لبنان، وتأخذها معها في مهبّها، ولكنه شاء ألا يشدّه المهبّ على هواه، بل كما يريد سليم بركات لسيرته أن تكتب ذات يوم، فكان سليم بركات شاهداً على الحرب مشاركاً فيها، كمقاتل سرد أيامه وقطع حباله نهائياً ودون تردّد مع سوريا الرسمية، التي دخلت بجيشها كقوة احتلال لأرض لبنان، وقوة ردع ليس لغير الفلسطينيين والمقاومة الوطنية اللبنانية، ليكتب سليم بركات كتابه الذي تسبب بمنع تداول اسمه في سوريا بعدها “كنيسة المحارب” في العام 1977 فوثّق فيه الحرب، ورسم جنونها بالكلمات في مغامرة نثرية أولى، وفي السنة ذاتها أصدر المجموعة الشعرية الثالثة “للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك”، وتابع في الحرب وكأنه أحد تفاصيلها، بارودها أو متاريسها، مبانيها المتهدمة، إنسانها، ولكنه كان لا يزال في عالمه الخاص، فكتب ” الجمهرات” في العام 1978 و” الكراكي” في 1981 عن ديلانا وديرام عاشقي سليم بركات الخالدين: “أيقِظْها يا ديرام، أيقظْ فراشةَ الغيبِ ويُعْسُوْبَهُ الذهبيَّ… أيقظْ ديلانا، وأيقظْ معها البيتَ حجراً حجراً، ثم أيقظِ الساحةَ المحيطةَ بالبيتِ، وأيْقظِ السياجَ. وإذ تنتهي من ذلك كُلِّهِ أيقظِ الصباحَ النائمَ قربَ السياجِ، وقُلْ تعالي ديلانا، تعالي لنشهدَ السطوعَ الحيرانَ للأرض وهي تَذْرُفُ الحديدَ والبهاءَ على درعنا الآدمي، ولنكْشِفْ، بعد ذلك، ثديَيْنا لنصلِ الحقولِ، مرتجفيْنِ من عذوبةِ النَّصلِ إذْ يغوصُ إلى حيث يجري السمسمُ والزعفرانُ، كأنَّما نحاولُ، معاً، أن نكونَ الجراحَ التي لا جراحَ بعدَها… هيا أيقظْها يا ديرام”، “أيقظيهِ ديلانا، أيقظي الفتى الذي يتململُ تحت الشُّعاعِ المنسابِ على صدرِهِ العاري.

أيقظيهِ وأيقظي النهارَ والأرغفةَ، ثم املئي دلوَكِ -الدلوَ الذي تسقيْنَ به حيواناتِ الصباحِ التي لا تُرى -املئيهِ شَرانِقَ قَزٍّ وتوتاً مما يتساقطُ من المدائحِ، لتخيطي بالحريرِ والتوتِ هذه العذوبةَ المُسْدلةَ حول ديرامَ. أيقظيهِ أيقظيهِ ديلانا”، في أكثر من مشهدية سينمائية سحرية فائقة بدأها سليم بركات هكذا: ” تيتل على الهضبة، وسكون يرفع قرنيه عاليا كالتيتل، فلا تقتربنّ أكثر أيها الدليل، ولا تبتعدنّ أكثر، مكانك هو المكان الذي ترى منه الجذور الجذور، والأرض ميراثها. تيتل على الهضبة، وسكون صلد يرفع قرنيه عاليا كالتيتل”.

سيرة الطفولة والصبا

لم يغادر القامشلي، رغم أنه غادرها، كتب محموماً بها في بيروت سيرتيه الشهيرتين، “الجندب الحديدي ـ سيرة الطفولة ” في العام1980 و”هاته عالياً، هات النفير على آخره – سيرة الصبا” في العام 1982، يقول عن القامشلي: ” أستطيع أن أصفها سنتيمتراً بعد آخر بعينيها هي، في الأطلس، الذي لم تغادره من أعوامي العشرين.

تستطيع، هي، أن تصفني نحيلا نَزقاً، عاقلاً كهواء طائش. ليس هنالك من قامشلوكي أخرى. عندها أخت، بالاسم ذاته، كبرت – فيما بعد – بالذين يعرفون أن أختها الأولى تقيم معي حاضنةً أطفالها”، في تلكم السيرتين، كتب سليم بركات ذاكرة من عاشوا، ومن سيعيشون فيما بعد أقصى فقْدِ ما رآه هو وجيله، بعد أن زالت ملامح المكان وتخالط الزمان بالاعتيادي والمألوف، فلم يتبق سوى غرابة سليم بركات الراوي والشاهد والحي، “السِّيرة الناَّقصة لطفل لم يَرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيُّها القطا” كتب سليم بركات فيها يوميات الطفل المسكون بالحياة: “إثْنا عَشَرَ أرْنباً حَصيلَةُ المَجْزَرَةِ، وَعِشْرونَ يَوْماً من التَّسَكُّعِ حوْلَ البَيْتِ دونَما جُرْأةٍ على دُخولهِ، أنامُ بيْنَ شُجَيْراتِ القُطْنِ في حقْلٍ قريبٍ، وآكُلُ ممَّا يسرقُهُ لي إخْوَتي”، سجّل مشاهد الجزيرة ووثائقها كما في صورة ساحرة لشيخة قبيلة طيء: ” كُنّا أطْفالاً آنَئِذٍ، يَأْخُذُنا الدَّهَشُ مِنْ عَنود – الأُنْثى الَّتي تَرْتَدي حَطَّةً كالرِّجالِ، ودشداشةً كالرِّجالِ، وسترة كالرِّجالِ، وتتمنطق بمسدس كالرِّجالِ”.

الخروج من المنافي الجديدة

كتب الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف: ” في العام 1979 ، كنّـا في بيروت ، بين أضلاع ما سُـمِّيَ الكيلومترَ الأخير، وقد تأكّدَ أنه أخيرٌ، بعد أن طردتنا دباباتُ آرييل شارون في صيف 1982 وخريفها، فلم نجدْ، بَعدها، أرضاً ثابتةً ثباتَ ذلك الكيلومتر المربع الأخير، كنتُ أعرفُ أن سليم بركات مقيمٌ مثلنا، في الفاكهاني، سألتُ عن مَـظانِّهِ، وعرفت عنوانه، دخلتُ المبنى، وتوجّهتُ إلى باب المسكن، ضغطتُ الزرَّ، مضت دقائقُ، حتى لقد خِلْـتُ أنني أخطأتُ المقصدَ… البابُ يوارَبُ بطيئاً، ومن الفتحة بين الباب والجدار تظهر فوّهةُ مسدسٍ، تتلوها ” سبطانةٌ ” كأنها لطولها وشناعتها سبطانةُ بندقيةٍ،

ـ من؟

ـ أنا سعدي يوسف ، يا سليم بركات… أرجوكَ اخفضْ فوّهةَ المسدس″، ليقول عنه سعدي بعد ذلك :” قلتُ لسليم بركات ، مرةً: إنكَ أعظمُ كرديٍّ بعد صلاح الدين، واليومَ، بعد رُبع قرنٍ من مَـرِّ الزمان، أعود إلى القولة ذاتها، وأنا أكثرُ اطمئناناً إلى صوابها، بعد أن شهدتُ ما شهدتُ، وعرفتُ من عرفتُ”.

ولكن سليم بركات المحارب، غادر كنيسته اللبنانية الفلسطينية، وخرج من بيروت مع من خرجوا، في تغريبة كردية سورية فلسطينية عربية متجددة، إلى تونس ثم روما ثم قبرص، حيث استقر هناك وصنع “الزاوية التي يطل منها على روحه وعلى العالم” في بيت جمع في حديقته مئات الشجيرات حافظاً أسماءها باللاتينية، متابعاً جنونه في اللغة والخيال، ليتابع مع الشاعر محمود درويش مشروع مجلة الكرمل، مطلاً هذه المرة على العالم العربي، والقارئ العربي وسوريا ولبنان اللتين باتتا خلف البحر، من نافذة واسعة، وراقية كلغة سليم بركات، وجدّية سليم بركات. “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح” مجموعته الشعرية البيضاء، ومعها أولى رواياته الكبيرة ” فقهاء الظلام” كانتا تأسيساً جديداً لما يريد سليم بركات لطريقه أن تمضي عليه، رصفٌ حجري رفيع، ليس فقط لأن اللغة رفيعة، ولكن لأن المقاصد تسطّر ذاتها في البعيد من العشرات وربما المئات من السنين، ليصبح عالم سليم بركات مفتوحاً على الماضي والحاضر والأمكنة والتفاصيل، يغرق قارئه تارة في تأريخه الخاص للكرد في وصف أسمائهم وثيابهم وعاداتهم وهواجسهم وأحلامهم كما لم ولن يفعل أحد مثلما فعل سليم بركات، وتارة يذهب إلى بيروت ونيقوسيا، والحروب الصليبية والطيور والكائنات والعاشقين والمفاهيم والأشخاص والفلزّات.

طفل بفرح لا يتوقف

وبحزن كبير أيضاً، وحكمة وطيش ودهشة، واصل سليم بركات نقل الفضاء الواسع الذي يسكن داخله، حتى حانت ساعة مغادرتها قبرص مرغماً، إلى منفاه الجديد في السويد، ليعيش منذ العام 1999 في شمالٍ قال إنه “ليس الشمال الذي كتب عنه طيلة حياته” عالم بعيد وجديد، قوانين، ومطر، وضجر، تفاصيل كثيرة ولكنها ليست كتلك التفاصيل التي تولّع بها ونقلها إلى العالم كله من عالم الشمال السوري البسيط، وعن روايته “الريش” التي كتبها في قبرص قال الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو: “نثر سليم بركات، مثل نثر ليزاما ليما، هو هدية ابتكارات دائمة، وصور مستوحاة، واستعارات أخاذة، وانعطافات غير متوقعة، وشرارات شعرية، وتحليقات مجنحة. إنه مزيج فريد من الواقع والحلم، الأسطورة والحدث المرير، لا يطيع قوانين الزمان، ولا قوانين المكان. النصّ يتجوّل طليقاً في طراز من الجغرافيا الرؤيوية، حيث المعالم خاطفة ومتبدّلة: كردستان، التي راودها الحلم ألف مرّة، تتقاطع مع قبرص الإقامة؛ الطفولة مع الرشد، والواقعي مع الغرائبي. من، الشخصية الرئيسية، يتحوّل على مدار الرواية، فهو تارة عصفور، وطوراً ابن آوى، يحادث البشر والحيوان. وإبداع بركات الأكثر حرّية يعبر كلّ حدود الممكن المعقول”.

وقال عنه الناقد والباحث السوري صبحي حديدي بأنه “الكردي- البازيار الذي شق معاني العربية من تلابيبها”.. وأيضاً “حين يتحدثون عن نوبل كردية.. فإن المرء يفكّر بأدوار الشاعر والروائي الكردي ـ السوري سليم بركات، ليس في إغناء الأدب العربي وحده، بل في الارتقاء باللغة العربية ذاتها، وصياغة بيان عربي رفيع بديع″.

الأمة الرعاعة

كتب سليم بركات قبل سنوات، مقاله الغاضب” إنها ليست الأندلس يا يسوع″ ضارباً ما سمّاها بالرعاعة الأمة، التي تنجب الإرهابيين والعبيد، وتغط في سبات وصمت القبور، فلم يدرك كثيرون جوهر الزفرة التي أطلقها صدر سليم بركات، وهو وارث تلك الأمّة ثقافياً وإنسانياً، فهوجم وانتقد وعدّه البعض متعصباً لكرديته عنصرياً ضد العرب والمسلمين، ولكن آخر من يتهم بالتعصّب العرقي والديني، صاحب الأعمال التي احتفت بالأمّة، وهابت حضارتها وانحنت لجلال صنعتها، والكردي ذاته الذي انتقد الأمة ونعتها بالرعاعة عاد ليعصف بوجه الكرد أنفسهم من جديد مع تصاعد انتفاضة السوريين، كتب سليم بركات: ” نحن الكرد السوريين لا نريد أصناماً على مداخل الشمال السوري ومخارجه، تماثيل العائلة الحاكمة الدموية تستجمع ظلالَ حجارتها هاربةً وهي تضع إزميلَ النحت في أيدي عشيرة أوجلان ـ فرع البعث الجديد بلقبٍ كردي ـ كي تنحت لأوجلان تمثالاً من خُدعة الأسد، لا نريد الخروج من عبودية أصنام البعث إلى عبادة أصنام الحزب الجاثمة بمخيلتها الركيكة في لقب (العمِّ) هوشي منه، وماو، وقبعة ستالين. حزبٌ آمن بإلغاء كل مُخالف لضحالة منطقه السياسي، أفراداً أو تجمعات، يستلم، الآن، سلاحَ الأسد، ـ كفعلِ الأسد وحلفه الإيراني، بالسلاح حكراً في لبنان على مستبِدٍّ بالدولة قراراً، ـ وخططَ الأسد، لنقل كرد سوريا من عبودية عانوها والشركاءَ إلى جحيم المجابهة مع شركاء الكرد أنفسهم، وجحيم التمزيق بمخاوف الجار التركي؛ بل أخذهم إلى نكبةٍ أينَ منها نكبةُ البرامكة”.

محمود درويش وسليم بركات

قدّم سليم بركات شعراً متطوراً من حيث البنية والتراكيب واللغة والصورة في وقت كانت لغة الخطابة ما تزال تطغى على الشعراء، والحداثيون منهم كانوا يحوّمون في التغريب واستنساخ تجارب شعراء أوروبا وأميركا. ولم تنتج الثقافة السورية، بعد سليم بركات مثله، وعاش الشعر والرواية السوريان سباقاً كبيراً مع سليم بركات على اللغة والمعاني والصور، فمن لم يتأثر بسليم بركات، الذي قال عنه صديق رحلته محمود درويش، في ندوة جمعتهما بإحدى مدن أسوج الاسكندنافية: “بذلتُ جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات”، ولكنّ كثيرين ممن ظهروا بعد سليم بركات في سوريا والعالم العربي وفي ثقافة المشرق بعمومها، لم يفلتوا من فخاخ بركات التي نصبها في كل مكان لطيور السحر والإبداع والترف الرفيع الذي حلم به الطفل الشقي، ابن الملاّ بركات، ذات يومٍ لأهله كلّهم في الشمال… الذي استهلّ كتابه الأول يوماً بهذه الصورة:

“عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا. في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا”.

الموسوعي مسبع الكارات ـ مقال إبراهيم الجبين
قبر مولانا

ايوب صابر 02-23-2016 12:27 AM

الحوار المتمدن - موبايل
حوار مع الروائي والشاعر السوري سليم بركات

عدنان حسين أحمد

11 - 2 - 2004
•*حاوره: عدنان حسين أحمد
•* الروائي والشاعر السوري سليم بركات لـ ( الزمان )
-*لستُ من المحيطين بخزائن اللغة قط، لكنني أتتّبع أخبار القيّافين المفقودين

في الشعر، كما في الرواية أو السيرة الذاتية، يظل النص الذي يكتبه سليم بركات عصياً، متمرداً، وإشكالوياً، لا يرخي الطبع، ولا يسلس القياد للقارئ والناقد في آن معاً. فكاتب من طراز سليم بركات لا يعّول كثيراً على البناء المعماري التقليدي الذي استنفده نجيب محفوظ ورعيل طويل من الدائرين في فلكه، لأن نصوصه شائكة ومشاكسة تستمد قوّتها من كنز الميثيولوجيا الكردية، ذلك المنجم الفريد الذي وقع عليه سليم بركات بعد عناء طويل، فلا غرابة أن تأتي أبنيته السردية متداخلة متنافذة مع بعضها البعض حد التماهي، وبالتالي فأن مدوّنته السردية تحتاج إلى قارئ من طراز رفيع مدجّج بمعرفة شمولية لا تبدد عزمه عند الصفحات الأولى من متاهة النص المحبوك بالملغز والمحيّر الذي لا تستوعبه الحواس الخمس دون الاستعانة بالحاسة السادسة، أو الركون إلى المخيلة إبّان تأججها وإنخطافها الصوفي. في هذا الحوار ركّزنا على سليم بركات روائياً، ومع ذلك لم نفِ هذا الرجل المبدع حقه، فعالمه الروائي أكبر من أن يستوعبه حوار، أو حفنة حوارات جادة رصينة، آملين أن نلج، عمّا قريب، غابته الشعرية المكتظة بالتساؤلات العسيرة الغامضة. وفيما يلي نص الحوار الشيّق مع الروائي والشاعر الكردي السوري سليم بركات.
•*رسن الخيال المشاكس
•*مَنْ دلّكَ على خزائن اللغة العربية، ومَنْ قادكَ إلى أدراج البلاغة المقفلة، وكيف تسنى لك الإلمام بها حد التألق والإدهاش. مَنْ مِن هؤلاء الأدلاء الذين أخذوا بيدك إلى منجم اللغة والأدب، وضيّعوك في براري الإبداع الشاسعة؟
-*محاكاة المجهول هي التي قادتني إلى أن أتتَّبع ما تبيحه اللغةُ لنفسها مِن تهتُّك، وما يُبيحه اللفظ من الانقلاب على معناه، وما يبتكره نظام المعنى، في انحلاله سديماً إلى سديم، من الخيانة الطاهرة. النِّكال بالحقائق التي ليست حقائق، والنِّكال بطبيعة النسق المدَلَّلة كدِيْن، والنِّكال بتاريخ العلائق بين الإشارة ومفهومها، هو بعض مما يلهمني أن الحرية في البلاغة ليست إلا قيادة البلاغة، برسن الخيال المشاكس، إلى عبودية اللامحدود. إنه أمر على قدْرٍ شيطاني من الإدعاء. لا بأس.لكنني، قطعاً، أبيح لنفسي إدعاء الانتساب إلى المعُضْل، ذلك الشريك الذي ينتظرنا في المنعطفات النبيلة، التي تحفظ للغة قَدَرَ وجودها الشهويِّ الهاذي، وقَدَرَ إيمانها بالفراغ الموَّلد لأنساق الثِّقل الكبرى: مغامرات العدم الذهبية التي يقرؤها أطفال الوجود الذهبي. النمطية الجمعية للسان المتناسخ صورة عن صورة حرّضتني على أن الممكن الساحر لا يمكن ذبحه فداءً لقدسية التاريخ المرتجل زمنياً، والهوية المرتجلة زمنياً، والكمال المرتجل تفصيلاً على مقاس الأمم ( الخالدة ). وأنا، إنصافاً لي، لست من المحيطين بخزائن اللغة قط، خزائن اللانهاية المسحورة، لكنني أتتَّبع أخبار القيَّافين المفقودين.
•*الخرائط الخفية
•*يحلم الفنان التشكيلي بالوصول إلى ذروة التجريد، كما يحلم الكاتب بالوصول إلى ذروة الاختزال والتكثيف، وقد وصل الروائي سليم بركات إلى برزخ الاختزال والكثافة المنشودة، لكنه ضحّى بالمبنى الحكائي الذي يقوم عليه معمار الرواية. ألا تعتقد أن حركة القص والروي لا يمكن لها أن تكتمل دونما نواة حكائية متنامية؟
-*كنا أتمنى أن أكون من هؤلاء الذين يسهون عن ( النوى ) الحكائية في أقاصيصهم كي أتشرد في ( نفْسي ) على أبواب السرد المنقلب إلى تيه. لكنني ( صارم ) في بناء البرج ( المتهدم ). أبنيه مهَّدماً كما هو في خيال ذاته,كما يحلم برج أن يبني نَفْسَه مهَّدماً. لا انقطاع في السيرورات عندي: بداية أولى، ونهاية أولى لما ليس بداية أو نهاية. ذلك أمر في صلب النقصان الساحر الذي سيغدو عادياً ميتاً إذا صار كمالاً. وتخمينك أنني أضحي بالمبنى الحكائي فيه قدر من المبالغة. فرواياتي تبني أحداثاً، وشخوصاً في سيرورة واضحة جداً، من مطلع شمس السرد حتى مغيبها. والأرجح أن ما أضحَّي به، حقاً،هو أن أقدّم للقارئ سياقاً مريحاً يؤكد به مقدرته على قراءة عادية كرتابة التدخين. يقيناً كلما وضعتُ ورقة بيضاء أمامي أجدِّد امتحاني المخيف أمام قارئ طالما ظننته شرهاً إلى المجهول، ذكياً حتى التخمة، فطِناً،قديراً في التقويم، عارفاً، لا تفوته السهولة أو الركاكة. يصيبني هلع من أن أكون نسخة أخرى من النص المتداوَل. أبدأ بالإشكال لأُقارب هذا الوجود المُشكل. أدفع الامتحان إلى النهاية أمام نقد العقل، ورقابة الخيال الموهوب: معمار الرواية، عندي ، هو اشتراك قارئي في صوغ الخرائط الخفية لمحنة الكتابة ذاتها.
•*غموض المصادفة الطاحنة
•*لقد صرّحت غير مرة بأنك لا تبدأ كتابة الرواية من غير إشكال،ورواية ( فقهاء الظلام )تعزِّز هذا الإشكال وتؤكده من خلال شخصية ( بيكاس )، أليس كذلك؟
-*أظنني تحدثتُ مراراً عن شخصية ( بيكاس ) الغريبة في ( فقهاء الظلام ). وها أنا أحاول، من جديد، أن أجد شرحاً يقنعني أولاً ، لأنني- نفسي – وجدتُ ( بيكاس ) يذهب في كل اتجاه، كأنه يمتحنني. لم أعرف، وأنا أُقلِّب في خيال علومي الصغيرة، كيف اختصر عبثَ القَدَر الكردي في نسق يحفظ لنفسه صموداً أمام مقدرة التحليل على استنفاده. ولأنني كنت بصدد كتابة رواية، للمرة الأولى، بعد حذر طويل خوف الوقوع في براثن المعطى الروائي العربي الموقوف على شهوة المُستعاد، بناءً ولغةَ بناءٍ، فقد آثرتُ دفع الأمور إلى أقصى ما تحتمله من سطوة الإشكال. لن أدعي، قط، ولم أدَّع قط، أن هذه الرواية على قدر كبير أو صغير من الأهمية. لكنها ،قطعاً، لا تشبه رواية أخرى في اختزال قَدَر إلى إِشكال على هذا النحو: يولد طفل غريب لعائلة. ينمو في يوم، ويختفي. إنها لعبة فانتازيا عادية. لكن تلك العائلة، التي يتوجب عليها تقديم أجوبة،في كل برهة من غموض المفاجأة المصادفة الطاحنة، هي صورة المشهد الكردي على درجة الحقائق المُمزقة كأجوبته المُمَّزقة في بحثه عن إِقناع نَفْسه أولاً، والآخر ثانياً، أن( بيكاس ) مخلوقٌ عارض، عقاب، امتحان من الله، عبث. ( ببكاس ) ليس شكلاً، والعائلة تريده شكلاً لتؤكد مقدرةَ لسانها على الوصف: ذلك هو الكردي. فيما الآخرون، من حوله، يصِفون الأشكالَ التي تخص تواريخهم، والتي ينسبونها إلى تواريخهم عنوةً.
•*ديمومة البراهين
•*لماذا اعتبرتَ رواية ( أرواح هندسية ) من أعقد رواياتك. ألأنها عالجت الحرب اللبنانية بوصفها نموذجاً للحرب الكونية القذرة. كيف تنظر إلى أسلوب السهل الممتنع الذي يعالج أفكاراً بسيطة بأساليب فنية عالية؟
-*لطالما أُعجبت ب ( الأمير الصغير ) لإكزوزبري، و ( أليس في بلاد العجائب )للويس كارول، و( رحلات غاليفر ) لجوناثان سويفت، وقصص الأخوين غريم. أمثلة صغيرة على البسيط الساحر، المُلْغِز في آن واحد، المُتراكب عُمقاً في التحليل. أُعجبت بقصص والتر سكوت، وفيكتور هيغو، وألكسندر دوماس، السلسلة في سردها. كثير آخر، لا يُحصى، أَلهبَ خيالي أمام باب ( السهل الممتنع ) كتعبير مصكوك ردئ في دلالته الجوفاء. أيُّ سهل في( غاليفر ) أو ( أليس ) أو ( بيضاء الثلج ) أو ( الأمير الصغير )، أو نوادر جحا؟ فلنصرف النظر عن( السهل ) إلى ( الممتنع ) ولنجعلْ إقامة خيالنا فيه، حيث الامتحان الحقيقي لمَلَكة الرؤيا. لا أفكار بسيطة في( أساليب فنية عالية )، بل أفكار عالية، لا غير. البسيط استدراجٌ كالمعّقد الغامض. البسيط شقيق المركَّب. قطبان لا يستقيم أحدهما إلاّ بالآخر. البسيط بسيط لأنه اختراع التعقيد. والتعقيد تعقيد لأنه اختراعُ الممكنات التي من صفات البسيط. هناك، فقط، ما هو فنيُّ راقٍ، أو تلفيق ركيك. بورخيس متاهةُ معنى دانتي سطوة المتعدد. هوميروس هذيانٌ. جويس ثرثرةُ المعنى حتى الإغماء. ثرفانتس شوق المعنى إلى القطيعة مع ذاته. ( ألف ليلة وليلة ) لعبة شطرنج بين يدي معنىً هاوٍٍ ومعنىً محترف. واللائحة لا يطولها تقدير. أنا في صفِّ ( المحنة ) التي لا تطهِّر الروح، بل تعيدها أكثر دَنَساً كالحقيقة. أَتلحقُ أنتَ ، بي؟. ( أرواح هندسية ) نزوع شرير إلى مقاربة القطيعة مع ( السرد الطاهر )و ( المعنى الطاهر )و ( التشخيص الطاهر ) للعلائق المعرفية. هي رواية حرب لا تلد من حرب، بل من ديمومة البراهين على أن الحرب إرثُ ذهنيُّ خالص كالمخيلة الإنسانية.
•*فخاخ التقنية
•*في رواية ( الريش ) يتداخل الواقع والحلم، بل يصل إلى ذروة التشويش السردي أحياناً حينما نشكِّك في مجيء ( مم زاد ) إلى قبرص للبحث عن الرجل الكبير. هل تتعّمد هذا النوع من الكتابة المتأرجحة التي تترك القارئ معلقاً ببندول الوهم الذي يتحرك بين مِدْماك الحقيقة وبرزخ السراب؟
-*من حقي كروائي، أن ( أتعمّد ) نصب فخاخ للقارئ. التقنية لعبة قصدية تتبادل فيها المهارات الصغيرة أدوارها على رقعة العقل. لكن تلك القصدية هي ما ينجزه التلقائي من المشافهة حكياً حين يغدو تدويناً. الوصل، والقطْع، والتدوير، والبدء من النهاية، والانتهاء بالبدء، وإعادة توزيع المشهد على نحوٍ ملتوٍ، والإيهام، كلها مراتب نقْضٍ وإبرامٍ هما من عِقْد التأليف وخواصه. هما احتيالٌ يبتدعه الزمن للإيقاع بالزمن. التقنية دورةُ تخريب نبيلة للتاريخ ( القدسي ) الذي يقدم به عقل النظام الاجتماعي، ولسانه التعليمي،( حقائق ) هويته ( الطبيعية ). في( أرواح هندسية ) تتبلبل الملائكة في سعيها إلى تأكيد ( النسق الواقعي ) لزمن الإنسان بالبحث عن أربعة أيام مفقودة من حياة طفل. في ( الريش ) حلمُ ( آزاد ) هو واقع ( مم ). وما يفعله ( مم ) داخل حلم أخيه هو واقع أبيهما. وما يفعله الأب في واقعه هو إشكال التاريخ السحري: كل واحد يخلق الآخر من ضرورة حاجته إلى نصٍّ أكتبه أنا. أعلى القارئ أن يتبلبل في هذا؟ منذ متى كان( القارئ ) واقعياً واثقاً حتى التخمة من تلفيق الفكر الكسول للواقعية المغمى عليها من ثرثرة ( رُسُل ) الواقعية المنكوبة؟ تعالوا إليَّ كي يلفِّق أحدنا الآخرَ على قَدْر ( هيامه ) بالحقائق.
•*العلوم الجسورة
•*في ثلاثيتك المهمة ( الفلكيون في ثلثاء الموت ) وفي أغلب أعمالك الروائية الأخرى ثمة نزوع لشحن النص الروائي بالمعارف المتنوعة حتى لتغدو الرواية حقلاً سيميائياً يستدعي الشرح والتأويل. ما أهمية هذا الشحن المعرفي في البنية الروائية؟
-*حين ينكبُّ القارئ العربي على جيمس جويس، وبلزاك، وكونراد، ودستويفسكي، على سبيل المثال، سيتباهى في عرض علومه الثقافية، أمام الأقران، عن تعدد لا نهائي لخطاب المعرفة في سطورهم، من اللغة حتى النفسانيات، ومن اعتقال برهات ( الانعطاف التاريخي) لظواهر الواقع حتى البحث الأعمق في خصيصة ( العالم الجديد )، الجشع، وعلاقته ب( العالم القديم ) المنهوب بعبودية علاقاته الداخلية قبل أن ينهبه أحد. وفي سياق ( المنازلات ) الكبيرة هذه سيتشعب التحليل، كالمؤسسة القائمة منذ قرن على قراءة ما لا يمكن استنفاده في ( يوليسيس ). القارئ العربي هذا، المتتبع للناقد العربي الباحث في ( أساطين ) الرواية الغربية، يَنْشَدِه ب ( العلوم الجسورة ) في البلورات عند هرمان هسه، إلى الانحلال العضوي للخلية عند هنري باربوس. ومن مراتب فلسفة الزمن عند بورخيس إلى ( منابع الحدس ) في القرون الوسطى عند إمبرتو إيكو: يا للشساعة!!! حقل المعرفة مباح للحصاد في الرواية الغربية. إيتالو كالفينو سيعتبر كل عمل أدبي لا يتمتع بصفة( حقل معرفي ) عملاً سطحياً. نحن نحب إيتالو كالفينو، أليس كذلك؟ لم تكن هناك حاجة للإقتداء بتصريح لإيتالو* حتى أعرف أن استدعاء أي عنصر طبيعي هو استدعاء من عمق خصائصه، ومن عمق اللغة التي تدل عليه في خيال العلم المحيط به. للأشياء أسماء، وصور، وتاريخ، وأفكار، ومخاطبات خفية، وحروب وصيرورات من الغيب حتى المُخْتَبر. لا أستطيع تفادي تقليب النشآت المجهولة والمعلومة لكل شاردة أو واردة في كتاب لي. سأهين الوجود وأهين العدم معاً، إذ سهوتُ عن ذلك. والكتابة سلطة لا ينبغي صرفها في إهانة ما تتغذى منه، وإلا صارت سوء استخدام للسلطة: كما يفعل موظفو أممنا.
•*نسيج البسالة المحيِّرة
•*في الحوار القيِّم الذي أجرته معك مجلة ( تافوكت ) قلت بأنك ( تريد أن تكتب عن شخوص لن تلتقيهم في حياتك قط، وأن تكتب عن وقائع لن تحدث قط ) هل صادفك مثل هؤلاء الشخوص، ومثل هذه الوقائع؟ ألا تثيرك الحياة اليومية، شديدة الواقعية؟ ألم تكتب قط عن أناس واقعيين، وهل نعِّد مجمل رواياتك من نتاج المخيلة؟
-*الواقع، غني، مذهل، نسيج البسالة المحيّرة في خصائص يغذِّيها حتى الإعجاز. أنه( حدث )لا تجاريه اللغة، ولا يقاربه الوصف. و ( الواقعية ) ليست مشهداً، أو علاقة. إنها حالة ما ورائية إلى ملموس لا يتفق ذوقان في تأكيد عناصر الطعم فيه. أيعني كلامي أن لا نقترب من الواقع، أو أن لا نمحض ( الواقعية ) ثقة التأليف والتدوين؟لا.لكننا، في بساطة، نسفِّه الأمرين بالإدعاء أن العالم هو ما يقتبسه لسان الكاتب ( الواقعي ) لدعم شهوة بامتلاك المعرفة الكلية عبر بصره، وبعض أفكاره التي تتلجلج من مرحلة إلى أخرى. سأترك الواقع،و (الواقعي ) يتدبرَّان لي، باقتدارهما العاصف، ما لا يحتاجان إلى تكراره حول صفاتهما. سأتركهما حرَّين ليحرَّراني من نير الدوران حول نفسي حتى الاحتراق في التبسيط، والتلفيق، باسميهما. سأذهب لما هو لي: الشخص الذي يحرِّضني بالمجهول فيه على صوغ المجهول فيَّ، والحدث الذي يحرِّضني، ب (لا – حدوثه )،على أن شغفي هو حدوثُه في خيال كتابتي.
•*الوجود الممزَّق
•*هل تعتقد أن كتابة الرواية هي كشف للذات ( العالم الأكبر ) أم أنها كشف للوجود برمته.وأما زلت تمتحن خيالك بعد كل هذه النتاجات الراسخة التي أثريت بها المشهد الروائي العربي؟
-*الرواية ليست كشفاً عن شئ. الشعر ليس كشفاً عن شئ. عالم الذات ( الأكبر ) وعالم الكون ( الأصغر ) صفات من خطاب النظر التأويلي، والنظر السببي المعلول. لا عالم كبيراً ،أو صغيراً، هنا أو هناك. البرهة الواحدة من برهات النَّفْس، في انشغالها بتدبير اللُّحمة لما هو ممزَّق من هذا الوجود الممزَّق، هي كل شئ، من الأزل إلى الأبد. لا أعرف معنى لسياقات الكشوف، من الخيال الصوفي حتى خيال الألسنية النبيلة.لا أبحث عن كشف، بل عن المُعْضل، المُشْكل، المتمرد على فظاظات المعنى، اللامتصالح، المتحايل، المارق، المسكون، المختبل، المنغلق، المستوحد في قطيعته الإلهية مع أي تقديم للمعرفة، من فوق، إلى القارئ. ليبقَ المُعضل معضلاً، والمُشكل مشكلاً. فليتقدم معي القارئ إلى التيه. أريدُهُ جَسوراً.
•*ملابسات الخيال الفكري
•*كثيرة هي الأنساق الدلالية والعلائق اللغوية المبتكرة في نصوصك الروائية. هل أفدت من المدارس والتيارات الأدبية الأوربية الحديثة في كتابة نصوصك الروائية التي لا تنتمي إلى الأفق السائد، بل تتقاطع معه، وتنبو عنه كثيراً؟
-*لم يحصل في حدود قراءاتي غير الكثيرة، أنني عثرت في النقد العربي للرواية سؤالاً يضع اللغة الروائية العربية على محك. كل الذي يتداوله، بسذاجة لا مثيل لها، هو سطر واحد: ( هل لغة الحوارات بسيطة واقعية، أم صعبة متكلِّفة؟ ). لا محاكمة لطبائع السرد، ومراتب الوصف، وملابسات الخيال الفكري، أفلسفة كان أم تأملاً وجدانياً؟، أم تحليلاً للعلائق وتأويلاً للظواهر في المشهد النفساني والطبيعي. أعترف،بأسى، أنني لستُ ممن يقرأون الأدب بلغات أخرى. أقرأُ الترجمات. وبالرغم من التفاوت الهائل في مراتب الترجمة نفسها أستطيع، بحدس ما، أن أعيد صوغ التقنية اللغوية للذين أجد لغتهم خيالاً من عواصف المعرفة، في الرواية، من هرمان ملفيل إلى بورخيس، ومن وليم فوكنر إلى توماس مان،ومن دانتي إلى رابليه، ومن شارلوت برونتي إلى فرجينيا وولف، ومن الإيطاليين كالفينو إلى ميشيما، ومن كازانتزاكيس إلى أوستورياس.هنالك كثيرون في السياق الذي يجعلهم كتَّاباً على صرامة* (أسلوبيتهم )، يدفعون السرد، باللغة عمودياً، حتى حُمَمَة البركان. ذلك ما لا يوجد في تاريخ الرواية العربية، المستأثرة بالقصِّ على عواهن الكلام المستوفي قصدَهُ الإخياري، أو بإضافة بعض الإنشاء المصكوك بالتلقين، كأنَّ اللغة، في ذاتها،واسطة إلى محاكاة الحركة في الحيِّز، أمام البصر، فيما تُعفى من مهمتها كمعرفة تبتكر، بالمحوِ المتكرر، تاريخاً إضافياً للمعنى.قطعاً، يوجد روائيون جدد جيدون في العربية، وهم من جيلي. لم أجد في السابقين ما أنتمي إليه خيالاً أو لغة، لم أجد همَّاً هناك، لم أجد امتحاناً أم نكبة، لم أجد امتلاءً أو فراغاً.
•*الإلغاء بالتجاهل
•*روايتك لا تمنح نفسها بسهولة في القراءة الأولى، لصعوبتها، وتلونها، واغترافها من حقول معرفية عديدة، فالثيمة الأساسية تتوامض بين السطور، ومن الصعب الإمساك ببؤرتها. هل تعتقد أن هذه الصعوبة هي السبب الأساس في خلق هذه القطيعة بينك وبين النقاد؟
-*تحدثتُ عن تشُّق النقاد العرب باستعارة السطور من لوكاتش، وباختين، وبارت ربما. والظاهر لي، ولغيري، في سنين انقراض النقد المتخصص هذه، أن الوافدين من أنقاض ( الواقعيات ) النظرية، ( يسندون ) مباحثهم بأسماء الأساطين الكبار، دستويفسكي، غوغول، جويس، كونراد، كافكا، هنري جيمس، توماس مان أسماء يستعرضونها في السطور كتلاميذ إتقنوا حفظ الدرس حرفياً. لكنهم ، في تطبيق، ( معارفهم ) البائسة على نص يخرج على سياق المُعطى المنكود، السهل الكسول، يتبلبلون، فيتجاهلون النص. ذلك أسلم السُّبل: الإلغاء بالتجاهل، والمحو بالإهمال، والإعدام بالاستنكار.
-**هل نستطيع أن نفتح كوّة صغيرة لنطل من خلالها على بالون خيالك السحري الذي يتنّقل بين مضارب الكرد التي امتدت من مهاباد شرقاً حتى سوريا غرباً، ومن أقصى العذاب الكردي شمالاَ، حتى أقصى الفجائع جنوباً؟ ما الذي لم يفصح عنه سليم بركات في هذا الشأن حتى الآن؟
-*أنا، نفسي، لا أعرف مدخلاً إلى خيالي. أنه امتحاني حتى الموت، لكنني ألمح ما يعرضه الوجودُ عليه من صورته كعدم، في الفاصل الذي مصيراً، وألمحُ الكرد يقودونه كقطيع ضأن إلى مراعي النكبات. صمت لا أخلاقي يحيط بمصائر الكرد. والصمت العربي هو الأكثر ضراوة. لا أشحذ خيالي على هذا المبرد. خيالٌ جُرْحٌ يستلهم البسيطَ ذا التاريخ المفرط في تعقيده.
•*توصيف الفاجع
•*في رواية ( أنقاض الأزل الثاني ) يموت الهاربون أو الغرباء الخمسة الذين يغادرون جمهورية مهاباد المفجوعة، لكن موتهم كان موتاً درامياً مروّعاً، هل أردت لموتهم أن يكون معادلاً موضوعياً لموت مهاباد الرمزي والمؤقت؟
-*ليس الفاجع مقتل خمسة أكراد، في سياق ( إعدام ) جمهورية بأكملها، بل تلك المطاردة، بإصرار، لكردي يحلم بكونه كردياً. من ( مهاباد ) إلى ( حلبجة ) نزيف واحد في المشهد، ومكافآت القتل تتوالى بسخاء على القاتل. لن أسترسل في توصيف الفاجع، المعادل لميتات رمزية أو واقعية. كل الدول المحيطة بكردستان، تتلمس في ذبحها الحلال، رقبة الكردي، وتاريخ الكردي، وأسماء آبائه وأحفاده، كأنه طفرة لم يكن حرياً بحقائق الطبيعة أن تُنشئه على مثال شعب ووجدان.
*الكاتب في سطور
•*من مواليد 1951 القامشلي/ سوريا.
•* في الشعر:
-*كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً.
-*هكذا أبعثر موسيسانا.
-*للغبار، لشمدين،لأدوار الفريسة وأدوار الممالك.
-* الجمرات.
-*الكراكي.
-* بالشِّباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح.
-**** الديوان ( الأعمال الشعرية الكاملة ).
-* البازيار.
-* طيش الياقوت.
-* المجابهات، المواثيق الأجران، التصاريف وغيرها.
•*في الرواية والسيرة الذاتية:
-*الجندب الحديدي.
-*فقهاء الظلام.
-* هاته عالياً، هاتِ النَّفر على آخره.
-* أرواح هندسية.
-* الريش.
-* معسكرات الأبد.
-* الفلكيون في ثلثاء الموت:عبور البشروش.
-* الفلكيون في ثلثاء الموت: الكون.
-* الفلكيون في ثلثاء الموت: كبد ميلاؤس.
-* أنقاض الأزل الثاني.

ايوب صابر 02-23-2016 03:15 PM

«سوريا» سليم بركات
يوسف بزي

على امتداد 147 صفحة بالتمام، تحتشد الصرخة العالية أو النشيد الهادر، العريض الصوت والعبارة والنبرة، لقصيدة سليم بركات «سوريا»، التي طبعتها دار «المدى» (2015)، وبالكاد كان الالتفات إليها قراءة وتداولاً حتى الآن.

منذ قراءتنا لـ»كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً» ومعها «هكذا أبعثر موسيسانا» و»للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك»، كذلك «الجمهرات» و»بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح»، بالإضافة طبعاً إلى السيرتين الساحرتين «الجندب الحديدي» (سيرة الطفولة) و»هاته عالياً، هات النفير على آخره» (سيرة الصبا)، وكلها جزء من إنتاج شعري وروائي غزير، ونحن نقرّ لسليم بركات بمكانة بارزة في حركة تطور القصيدة العربية الحديثة، خصوصاً في طورها الثاني، أي بعد ما سميّ بـ»رواد الحداثة». وأسهمت كتابات بركات على نحو جلي في تطوير لغة النثر نفسها، رواية وشعراً، موسعاً من القاموس المتداول أكثر بكثير من معظم الشعراء الذين ادعوا ذلك، متجاوزاً بقوة فائقة الإرث المتداول للشعر الحديث. حتى أن محمود درويش يعترف: «بذلت جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات»، فيما ذهب سعدي يوسف للقول:» إنه أعظم كردي ظهر بعد صلاح الدين الأيوبي».

ما من شاعر حديث (بالعربية) على هذا القدر من التمكن لغة واشتقاقاً ونحتاً وكسراً وبناء في العبارة ومعناها، وفي ابتداع خيال من اللفظ نفسه، من داخله، إذ يشحن كل كلمة بطاقة تخييلية، قادرة على رسم عوالم وعلاقات بين المعاني والصور، لم تنوجد قبل أن يجترحها هو.

منذ البداية كان نص بركات قائماً على الثأر. ثأر من النفس ومن التاريخ والجغرافيا واللغة والقهر السياسي والجهل الديني.. ثأر مشحون بالنقمة والغضب، سيحيل كل ما يكتبه إلى نصوص من حمم لاهبة، مضيئة بحرارتها واشتعالها وشظاياها الحارقة.

كل أرض الريف وحيواته وكائناته وأشيائه وبشره، كل كثافة المدن وهندساتها ومعالمها وسراديبها وحيواتها المحتشدة، كل الكتب والقواميس والحكايات والأساطير والموروث الشفهي والمدون، المنسي منه والمتداول، الغائر في الماضي والعائم الآن، كل الأصوات والصور التي تحوم في الأمكنة وتخترق النظر والنفس.. كل المشاهد والمشاعر والأفعال، الرفيعة والوضيعة، وكل الرواسب الخفية والآثار الظاهرة في الوجوه والأجساد والذاكرة، وما لا ننتبه له وما نهمله وما نعاينه عابراً أو ساكناً.. ما نذكره هنا أو سهونا عنه، هو مادة سليم بركات، إذ يمسك بها ويغزلها خيطاً مديداً نكاد نظنه لانهائياً. يقبض عليها ويبتلعها قبل أن «تنفجر» نشيداً ملحمياً عاصفاً ومدمراً، كثأر شامل من العالم واللغة، كبيان قيامة.

هنا، في قصيدة «سوريا»، يتدفق بركات سيلاً جارفاً من الغضب، يتجدد فيه هذا التوق لقول الفجيعة، لابتلاع المأساة والتماهي مع عذابات الضحايا، للثأر لهم ببلاغة الصرخة ومداها الشاسع. وسليم بركات يعود هنا بجرعة عاطفية عالية، يكتب بنسغ الألم، وبتفنن أقل مما كان عليه في كتبه الأخيرة. إنه الآن مباشرة في لجة الانفعال، متدفقاً بتلقائية، بحسبان أقل للشعرية وبانقياد أكثر إلى التصريح. لذا، ستكون «سوريا» واحدة من أشد قصائده تأثيراً، بوصفها «إنجازاً» في زمن الثورة السورية وعنها ونكبتها. هي المرشحة لتكون النص الشعري المرجع، في «قول» سوريا ما بعد العام 2011.

تنتصب القصيدة كلها على كلمة مفتاحية «أيها البلد». ومن هذه المخاطبة التي تمتزج فيها نبرتا الحب والمرارة، ينطلق هذا النشيد المرثية، كتدوين للمحرقة، كشهادة أخيرة على النهاية. لكنها أيضاً هي عودة مظفرة إلى القصيدة السياسية، التي كان هجرانها مبرراً في العقود الأخيرة، بعد وقوعها في التبشير والدعاية واليقين «الملتزم»، وها هي اليوم أشبه بالواجب الأخلاقي على الشعراء، بل هي التي تمنح مشروعية الكتابة ومعناها، في لحظة «خيانات المثقفين» الموصوفة، وانكشافهم كرديف خبيث لأيديولوجيا الإستبداد وخطابه.

تبدو قراءة «سوريا» مدوخة، ركضاً لاهثاً في أرض وعرة، افتتاناً لا يتوقف، هو عينه افتتان بركات ببراعته وبقدرته على الخطف والاستحواذ: «... خُذها الحرب الناعسة طولاً. خذ يد الشجاع المنكوب بظلم سلاحه، أيها البلد. خذ الشّيع الهمج، وانتصارات المحنة زلّات على ألسنة السبي فصيحاً. خذها مني: انحلال السماء. لا آلهة إلا آلهة الصرخة. لا سوى الغريب الجسارة في النحر، لا سوى الغريب وكيلاً في نقل المدن حطاماً إلى الآلهة الحطام. المآذن الدخيلة. القلوب الدخيلة. المستعمرات المراقد جوفاً، والفتاوى المستعمرات. السماء الدخيلة، أيها البلد. الذهب المنحور. الغيوم المنحورة، أيها البلد. محاكاة الطرق للمذابح، محاكاة القتلى للقتلى، والموتى للموت، والبساتين المهجورة للبساتين المهجورة. محاكاة الدوي المذهل للشكران يرفعه العدم مضطرباً في التوضيح، أيها البلد...».

في «سوريا» سليم بركات، الشعر يسترد لسانه.

ايوب صابر 02-23-2016 03:24 PM

سليم بركات والمشروع الروائي المديد: امتزاج الوثيقة بالعجيب، والواقع بالفانتازيا، والتاريخ بالحلم
صبحي حديدي* - باريس
s.hadidi@libertysurf.fr
صبحي حديدي (albawaba)

في العام 2001 صدرت "الأختام والسديم"، رواية سليم بركات الثامنة. و إذا احتسبنا في عداد النوع الروائي العملين المكرّسين للسيرة، أي "الجندب الحديدي" (الطبعة الأولى 1980 وهي سيرة الطفولة) و"هاته عالياً، هات النفير على آخره" (1982 وهي سيرة الصبا)، فإنّ الحصيلة تصبح عشرة أعمال نثرية – سردية، مقابل عشرة أعمال شعرية (أوّلها "كلّ داخل سيهتف لأجلي، وكلّ خارج أيضاً"، 1973، وآخرها "المثاقيل"، 2000).
وسليم بركات شاعر أساساً، أو هو شاعر أوّلاً في ظنّ كاتب هذه السطور، ولكنّ أعماله تتساوى – وكانت قبل صدور مجموعة "المثاقيل" تتفوّق على – أعماله الشعرية، بالمعنى الكمّي في الأقل ّ(1). أمّا بالمعنى النوعي، فقد لاح أنّ انكبابه على الخيار الروائي أخذ يتكامل في "مشروع" روائي مديد، يستأثر بالكثير من طاقات بركات الإبداعية، ويستحوذ على الكثير من ترسانة اللغة الرفيعة الفريدة التي تميّز بها الشاعر على الدوام، ولعله سوف يكون قميناً بإزاحة الخيار الشعري إلى الصفّ الثاني.
وإذا كان خيار كهذا من حقّ بركات، وأيّ مبدع متعدد الأجناس في الواقع، فإنّ ممارسة هذا الحقّ على النحو الراهن لا تحول دون بروز مقدار من "التنازع" في استقبال النصوص الشعرية والنصوص الروائية، لجهة القارىء هذه المرّة، أو لجهة ذلك القارىء الذي توسّل إبداع بركات في الشعر أوّلاً وعلى وجه التحديد.

ذاكرة "الجزيرة"

وبينما كان مشروع بركات الشعري يسير وفق أواليات تطوّر "هادئة" نسبياً، أي أنها لا تنهض على انعطافات أسلوبية كبرى أقرب إلى الهزّات التي تقطع أكثر مما تتابع، فإنّ مشروعه الروائي كان هو الحقل الإبداعي الذي شهد مثل تلك الهزّات. وقبل رواية "أرواح هندسية"، (1987)، دارت أعمال بركات الروائية حول بعث الحياة في ركام هائل من الشخوص والحوادث الخاصة بالذاكرة الشعبية لمنطقة "الجزيرة" السورية بصفة عامة، وذاكرة مواطنيها الأكراد بصفة خاصة.
ولعلّ بركات يظلّ المتأمل الأعمق لتلك المنطقة الخصبة، بأقوامها ولغاتها وتواريخها وحكاياتها وأساطيرها، والمسجّل الأصدق (والأبرع والأذكى حتى اليوم) للخيوط الفلسفية التي تختفي وراء بساطة عوالمها الطريفة وعمق أغوارها التراجيدية في آن معاً. ولأنّ سرد الأحدوثة Episode ، ثمّ طرح الشخصية على مساحة تلك الأحدوثة باستخدام نثر تصويري مشحون، كانا يكفيان لمراكمة الإنطباعات وخلق الإيحاء الأقرب إلى الصدمة والسحر والفانتازيا، فقد نَدَر أن يهتم بركات بفحص مصادر السلوك أو تخطيط الشخصية على نحو دائري (أي على نحو درامي – اجتماعي – سيكولوجي). يُضاف إلى ذلك أنّ تزاحُم الأحداث وتعاقب الشخوص واختلاط الحدود الفاصلة بينها، كان أدعى إلى إضعاف الجوانب الإجتماعية، وأقرب إلى ترسيخ الغموض حول مصادرها وديناميات تكوينها.

"الجندب الحديدي"
ففي "الجندب الحديدي" كان توصيف بركات لذاكرة الطفولة الفردية بمثابة مدخل لتكوين المشهد الجَمْعي ودمج العناصر الحكائية (المتباعدة في المظهر، والتي سرعان ما تتواشج في العمق)، لنماذج وأنماط وحالات طريفة وعجائبية وخارقة. إنّ تفاصيل السلوك العصابي للطفل الراوي (حفر طريق عربات التبن وتمويهها لكسر قوائم بغل "سمعان"، وإيصال سلك الكهرباء بباب فرن "مرادو" فما أمسكه أحد إلا وصُعق، ودحرجة المدحلة الحجرية عن سطح البيت لتهوي على كلب "فلمز" فتصيبه بشلل نصفي...) كانت، إلى جانب طرافتها العنيفة، تقوم بتأهيب ذلك الثقل النوعي الذي يتركه سرد أحدوثات "أوسمانو" الشاب المحبط الذي تتعلّق "المسوخ اللامرئية" بدرّاجته في مكان قفر بين القرى، وجَدّته التي أسرت أحد هذه الكائنات بإبرة الخياطة فصار الكائن اللامرئي وديعاً أليفاً يضع يده على جرار السمن فتفيض وتظلّ تفيض حتى تأمره الجدّة بالتوقف، فيتوقف.
تكامُل هاتين الوظيفتين في صياغة سردية توثيقية جعل الباب مشرعاً أمام تقديم الحياة الإجتماعية كما تتجلى في جملة من أشكال النشاط الجماعي (الحصاد، التهريب، إعادة توزيع الحيازات الزراعية، الإنتاج البضاعي العائلي...). بيد أنّ هذه الأشكال ظلت ضعيفة في درجة إفصاحها عن أواليات التطور الإجتماعي – التاريخي، إذ كانت قد تحددت مسبقاً في ذلك المحور السردي من جهة، وبنثر سليم بركات الخاصّ الطاغي الذي لا يكفّ عن الضغط عليها من جهة ثانية.

"هاته عالياً"
في "هاته عالياً، هات النفير على آخره" اتخذ توصيف المصائر الفردية شكل سيرورة تفكيك وأعادة تركيب لذاكرة الأفراد الذين تقاطعوا، بهذه الصفة أو تلك، مع شبكة التحولات الكبرى التي عصفت بالبيئة الجغرافية إياها، وأفرزت بنية سيكولوجية جَمْعية مستترة تارة، ومفتوحة طوراً. ولقد تفجرت هنا وهناك في صيغة نهايات اجتماعية فاجعة هي، في المحصلة الأخيرة، مصائر تلك الانماط الأساسية ذاتها، الأمر الذي يفسّر ابتداء العمل بالهياج الجماعي الذي أعقب سماع بيان انفصال 1961 وانهيار تجربة الوحدة السورية – المصرية. وفي حلقة أشمل تنقلب الظاهرة الطبيعية (انحباس المطر، على سبيل المثال) إلى معادل جبّار يدمج المصائر الفردية بالمصائر الجماعية، ويسفر عن سيرورة رهيبة من ولادة "مزاج" جَمْعي يتواتر جيئة وذهاباً بين الذاتي والموضوعي، الخاص والعام، الحقيقة والوهم.
في "فقهاء الظلام"، (1985)، العمل الأوّل الذي يندرج في مصطلح الرواية حسب تصنيف بركات لأعماله، يتحوّل الميدان الطبيعي والبشري لمنطقة "الجزيرة" إلى منبسط درامي حاشد، يجثم على عناصره ذلك الإحساس العميق بوطأة التاريخ: تاريخ البلاد، تاريخ الأسرة المتسلسلة التي حلّت محلّ العشيرة والقوم، تاريخ الخرافة الشعبية التي استباحت الماضي حتى انقلب أساسها الأسطوري إلى منفذ تخييلي لمغالبة ذلك الماضي. الملاّ "بيناف" ينخرط في موقف عبثي يضمّ الطرافة والعجب إلى المحنة والمأزق: وليده "بيكاس" يتخطى الحاجز الزمني للعمر البشري، فهو يبلغ الثلاثين بعد سبع ساعات من ولادته، ويبلغ الأربعين عصراً، والخمسين مساءً!
وهو ينطق فور ولادته، ويخاطب والديه هكذا: "إنها محنة ستنسيانها حين تنقضي، أما أنا فلن أجد الوقت لأنساها". ويخرج الملاّ عن طوره ويكاد يجدّف – هو الشخصية الوقورة الدينية والدنيوية – حين يصرخ: "لا أريد أن لأفهم شيئاً فيما بعد ولا أريده الآن. لست معنياً بفهم هذه المحنة، فليفهمها ربّك"! وتشهد ساحة الدار، مثل البيئة بأسرها، طغيان أسطورة "بيكاس" وامتدادها المتسارع إلى جغرافية وتاريخ هذه المجموعة البشرية، فتنصهر الخرافة بالطرفة، والوثيقة بالعجيب، والوقائع بالفانتازيا، والرؤى الشعبية بالحلم الصوفي، وعادات الحياة بالكابوس.

المشهد التسجيلي المتضاعف

"أرواح هندسية"، الرواية الثانية، بدَت أقرب إلى "فقهاء الظلام" من حيث تشييدها لعمارة فانتازية ومنطق خاص يسوّغ تأرجح الخيال بصورة حرّة (في المظهر فقط، لأنها مقيّدة بقوانين صارمة في الجوهر) بين المشهد التسجيلي والأجواء السحرية. لكنها تمتاز بخصيصة الخروج من عوالم منطقة "الجزيرة" وعوالم الأكراد إجمالاً، وفي الإضعاف المقصود لطغيان اللغة ذات الأداء الشعري والمجازي العالي، وفي اختيار هيكلية سردية محكمة ذات تركيب دائري حَلَقي.

سليم بركات
وبقدر ما يبدو مكان الرواية غير المصرّح به (بيروت) وزمانها غير المدوّن (الحرب اللبنانية ونهايات الإجتياح الإسرائيلي لعام 1982، وخروج الفصائل الفلسطينية) مسلّماً بهما، بفضيلة الدلالات العديدة الصريحة، فإن اقتفاء المطابقات بين شخوص الرواية وما يمكن أن تمثله في الواقع الفعلي (داخل الساحات السياسية والإجتماعية والجغرافية والتاريخية التي تمتدّ عليها الرواية) لن يخرج عن إطار التمرين الذهني الذي لا يجدي كثيراً، خصوصاً إذا ما قُورن بحجم مزالقه وأفخاخه. وهذا إنجاز أوّل للرواية.
وبين أن تكون المدينة الكونية، الجاثمة بكل ثقلها على مناخات الرواية، حلقة جهنمية تنتظم في سلسلة متتابعة من وقائع خراب شامل قابل للحدوث هنا أو هناك، بمعظم شرطه العبثي الجوهري أساساً؛ وبين أن تكون المدينة إياها مزجاً متأنياً لجملة معاني الموت في حاضرة معاصرة واضحة المعالم ومكسوّة بلحم الحياة اليومية وبساطة / رهبة الوقائع، ينجح سليم بركات في إغلاق الهوّة الفاصلة بين مشهد تسجيلي بات مألوفاً ويرخي ظلاله على وجدان القارىء (بيروت الحرب والخراب)، وبين :توليف" فنّي للمشهد التسجيلي ذاته وقد تضاعفت فيه صُوَر المدينة حتى بات من النافل إعادتها إلى مساحة الواقع التي انتُزعت منه.
وكان لا بدّ للرواية الثالثة، "الريش"، (1990)، أن تواصل خيارات الإشتغال على مشهدية تسجيلية متضاعفة، ولكن في العودة إلى الموضوعات الكردية التي لن يغادرها سليم بركات بعدئذ. النقلة إلى الموضوع الفلسطيني في "أرواح هندسية" كانت محطة طبيعية، حتى من باب التقاط الأنفاس، ومدوّنة تسجيلية في إطار السيرة الذاتية أيضاً، قبل الغوص مجدداً في التاريخ الكردي. ولا ننسى، بالطبع، أن بركات خرج من بيروت إسوة بفصائل المقاومة الفلسطينية، وكان قد عمل مع الفلسطينيين سنوات طويلة، سواء في الميادين الثقافية (فصلية "الكرمل" ودار "العودة" مثلاً)، أو في الميدان العسكري المباشر (وهو يسجّل في "كنيسة المحارب" مذكراته عن حرب الجبل وجولات الصراع العسكري بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من جهة، وأحزاب وميليشيات اليمين اللبنانية من جهة ثانية).
و"الريش" تعتمد، في البنية الهيكلية الأساسية، على سلسلة من عمليات التخييل السردي التي تتيح تحويل عدد من الشخصيات الفعلية الواقعية إلى شخصيات روائية من جانب أوّل، وتعتمد من جانب ثانٍ على زجّ هذه الشخصيات في سياقات واقعة مفصلية كبرى هي انتفاضة الكرد الأولى. الجانب الثالث، الذي يشكّل محور التنقّل الحرّ في الزمان والمكان، هو الراوي الذي يقيم في قبرص، ومنها يسرد ويستعيد ويعيد إنتاج وقائع الماضي (ولا ننسى، هنا أيضاً، أنّ بركات خرج من بيروت إلى قبرص، وأقام فيها طويلاً قبل أن يضطرّ إلى مغادرتها إلى السويد، حيث يقيم الآن).
ومنذ الصفحة الأولى يسعى بركات إلى تثبيت استراتيجيات التسجيل المتضاعف عن طريق "حيلة" عتيقة تُستخدم غالباً في الروايات ذات الطابع التاريخي (ولكنه يجددها على نحو بارع)، هي عرض لائحة الشخوص الصانعة للرواية: إلى جانب الراوي الشاب "مَمْ بن حمدي آزاد"، ثمة والده "حمدي آزاد" بائع القماش، و"الرجل الكبير" (الذي لا يظهر في الرواية!)، و"رجل ذو يدٍ كالجناح"، و"أحمد كليم" الصياد، و"دينو" توأم "مم"، وبنات حمدي آزاد (هيفين، لات، عيشانة، رحيمة، روهات، هيلين) و"كسبو" زوجته، و"شيرو بابان" صاحب الحصادات، و"جبّور مرقص" السرياني وجار العائلة، وسواهم.
هذا في مستوى الشخصيات الروائية، التي تتقاطع – دون أن تتلاقى بالضرورة – مع الشخصيات الفعلية الواقعية: "الملاّ سليم البدليسي" صاحب ثورة مغدورة، و"الشيخ محمد سعيد النقشبندي" قائد انتفاضة الكرد الأولى، و"حسين مقرياني" صاحب أوّل مطبعة كردية، و"أحمد خاني" الشاعر الكردي الكلاسيكي ومؤلف مأساة "مم وزين"، و"القاضي محمد" رئيس الجمهورية الكردية الأولى، و"اسماعيل سمكو" الآغا. وأمّا في مستوى المشهدية الجغرافية والعناصر الطبيعية، فإنّ لائحة بركات تتضمن التالي: كردستان، ثلاث شجيرات ورد، شجيرة فلفل ذابلة، طائران ذوا قنزعتين، قبر غير مكتمل، مهاباد (البلدة التي أُطلق اسمها على أوّل جمهورية كردية في العام 1946)، مذياع جديد، شجرتا كينا، أقمشة، أسرّة خشبية ضخمة، حصان أسود، حصادات آلية، بنات آوى، نهر، مستشفى، حقول، سماء، ريح، مصائر، مطر، وثرثرات...
هذه، بالطبع، ليست اللائحة الكاملة للشخوص والشخصيات والعناصر والمواقع، الفعلية الواقعية أو التخييلية المجازية، الصانعة للرواية. وليست اللائحة التي يقترحها بركات في مستهلّ الرواية سوى "تمرين" افتتاحي يقوم بتهيئة القارىء لعشرات الجولات القادمة التي يمتزج فيها العجائبي بالطبيعي، والتسجيلي بالإفتراضي، واللغة الإستعارية الرمزية باللغة الخطابية التقريرية. ففي الفصل الواحد ذاته نشهد حواراً فلسفياً ورمزياً وشاعرياً بين "حمدي آزاد" والنحل أو زوجته "كسبو" والحقل، ونشهد القاضي محمد يلقي خطبة سياسية، يقول عنها بركات ما يلي:

"كانت خطبة القاضي محمد، ببلاغتها الكردية، وسط حشد يعرف الروسية، والتركية الأذربيجانية، وفي حضور اللجنة المركزية لحزب كردستان الديمراطي، مشمولة برضا موسكو، لذلك شدّد الرجل على أواصر الأخوة الكردية – الأذربيجانية في تلك المنطقة، حيث النزاعات المختبئة تحت غطاء الوجود السوفييتي تكاد تطلّ برأسها. والواقع أن جمهورية أذربيجانية، ذات حكم ذاتي، كانت تنافس جمهورية "مهاباد" على الأرض، وتتداخل قرى الجانبين ومسالكهم بعضاً في بعض. أما الفارق الفكري فكان أساساً بين الجمهوريتين، ففي حين تسلّم الشيوعيون حكم أذربيجان إيران، بمساندة المهاجرين من أذربيجان السوفييتية، بطموحات اشتراكية كبرى، لم يكن أكراد جمهورية "مهاباد" غير قبليين دينيين، وقد ساءهم أن ينشر الأذربيجانيون الحمر – وهم بقايا حزب "تودة" الذي تحوّل إلى "حزب أذربيجان الديمقراطي" – المخبرين والشرطة السرية في كلّ مكان، ليضمنوا "عدم عرقلة الرجعيين للمدّ الجماهيري". وبالطبع لم تمض أيام على قيام الجمهورية الكردية، برغم تطمينات "القاضي محمد" أن الأمور على ما يرام، حتى خرج النزاع بين الشعبين إلى العلن... (ص 173).

- للبحث صلة


(*) ناقد من سورية يقيم في باريس


-----------------
(1) كنت قد عالجت هذه المسألة، وإن على نحو تطبيقي مختلف، في مقالة بعنوان "سليم بركات والحاجة إلى حصيلة قياس زمني وأسلوبي"، "القدس العربي"، 18/11/1998.

ايوب صابر 02-25-2016 11:16 AM


سليم بركات، العاشق والقطب الكبير
أحمد الحسيني
(سوريا)

في تاريخ الآداب العالمية، ثمت نجوم ساطعة على شعوبها أبدا، وثمة رموز استطاعت من خلال قدراتها على الخلق والابتكار ومن خلال وعيها الفردي العميق أن تشكل وجدان ونبض تاريخ شعوبها. تلك الرموز تحلم، تتأمل، وتعشق أيضاً. وتكتب كتابة لكل زمان ومكان. هؤلاء الى جانب انتمائهم الى هوية قومية وجغرافية وطنية يظلون في نهاية الأمر منتمين الى هوية أشمل وأعمق وأقصد بذلك هوية الإبداع.
هؤلاء المواطنون في مملكة الإبداع، يسعون بدأب الى اكتشاف جوهر الذات الإنسانية ويحفرون في جسد الكون بحثاً عن الحقيقة وحين يؤسسون لمبادئ في الفكر والمعرفة، يخففون عن كاهلنا وطأة الزمن ويمنحون حضورنا قي هذا العالم الكثير من الدفء والأمان. أنهم وباختصار لا يتركوننا وحيدين مع أسئلتنا.
و سليم بركات، العاشق أو القطب، الى جانب انتمائه الأصيل الى مملكة الإبداع، كان ولا زال وسيظل نجمة من الذهب على الكرد؟ هو أكثر من ذلك بكثير.
في الأدب العربي هناك القطب الأكبر، الشيخ الأكبر: محي الدين بن عربي وسليله ادونيس. الإنكليز عندهم شكسبير، السويديون عندهم سترنبرغ و غونار إيكلوف، الأسبان عندهم سرفانتس، والروس عندهم دستوفسكي، التشيك عندهم كونديرا، الطليان عندهم امبرتو إيكو، والكرد عندهم سليم بركات. الميدالية الأكثر لمعاناً وجدارة على صدر الكرد وثقافته الحديثة.
وأجمعهم، ملّكٌ للإنسانية كلها، أجمعهم كنوزها التي في البريق، مثل النجوم.
سليم بركات هو القطب الكردي الكبير، مع ملاي جزيري الذي سبقه بمئات السنين، في دمهما تجري روح العاشق.
لماذا العاشق أو القطب، لأنهما وحدهما يفعلان، ما يفعله سليم بركات.
منذ ثلاثين عاماً يكتب روح الكردي ونحاسه بلغة صارمة ونزقة لا تليق إلا بالملحمة المأساوية للشعب الكردي. لم يستخدم المشهد الكردي في إبداعه كمادة استهلاكية كما يفعل الكثير من كتاب الكردية كي يكسبوا العاطفة السطحية والتضامن المؤقت من القارئ. إنما الكرد في إبداعه، يتواجد دائماً في الموقع الأكثر دوياً للكلمة وفي المتراس الأكثر خطورة للتعبير.
يحفر بعيداً في دهاليز الذاكرة الكردية وبخياله الأسطوري الوقاد ينفذ الى جسد التاريخ الكردي القريب والبعيد، ليجعل لنا من كل أسطورة حقيقة ومن كل حكاية فرصة تأمل ممتعة، ومن كل حدث مشجباً نعلق عليه دهشتنا. كل ذلك بجسارة فانتازية مذهلة تؤمن بأنه على الإبداع الحقيقي أن ينميّ ذوق القارئ ويطور وعيه وملكاته وفهمه لأسرار الوجود.
وككردي، ودون أي تردد، أؤمن بأن التجربة الإبداعية للقطب سليم بركات هي المشروع الثقافي والحضاري والمعرفي الوحيد التي ستؤهل الكرد للدخول الى الألفية الثالثة، المشروع الذي سيوقظ العالم على روح الكردي، كي يعود مثل طائر الفينيق من رماده ويحصل، بعد كل هذا الموت بالخردل، على شرعية انتماءه الى حضارة هذه القرية الكونية.
لكن لماذا حياة الكبار دائما صعبة وملآى بالعذاب؟
هكذا رأيت في حياة سليم بركات.. المنفي من القامشلي الى دمشق، ومن دمشق الى بيروت، ومن بيروت الى نيقوسيا ومنها الى ستوكهولم التي لم تدرك حتى الآن بأنها تستضيف مؤسس مذهب جديد في الشعر والرواية باللغة العربية وأستاذ بدون منازع للرواية الكردية كما يقول الروائي الكردي بافي نازي، كما أنها أي ستوكهولم ستظل فترة طويلة كي تعرف بأنها تستضيف أكثر الحراس أماناً لثلجها ولإيقاع شتاءها الطويل.
ومع ذلك فعل ما يفعله العاشق أو القطب.
الأدب المؤسس، المكوِّن، هو المتفرد والمتسلط أيضاً، كل سطر فيه جديد، مبتكر، عاصف: لغة، مخيّلة، مكاناً، عذاباً، أشخاصاً وقصص حب، وقد دأب سليم بركات هكذا منذ أولى سطوره قبل ثلاثين عاماً الى اللحظة هذه وهو جالس بيننا.
كتب سليم بركات أكثر من عشرين كتاباً، ما بين قصص الأطفال والسيرة الذاتية والرواية والشعر، وفي كل كتاب كان يقوض، ويزيل، ثم يبني بناء لا يشبه بناء أحد سوى نفسه.
من أين كل هذه المخيلة؟
أهي صلصال إنساني شامل؟ أم روح الكرد في الإبداع؟ في الظن هما الاثنان مضافاً إليهما عبقرية سليم بركات المتقدة مثل الحياة نفسها.
في شعره أسس لغة صعبة، وعرة، فيها من الغناء والملحمة والحساسية والانفجار والعذاب ايضاً الشئ الكثير، وهو في كل نص شعري يذهل قارئه ويدفعه الى التساؤل، من أين تأتت له مقدرة الخلق المستمر!
في رواياته كذلك والتي يستحضر فيها مكانه الكردي مشفوعاً بمكان إنساني عميم، فيه من السحر والذكاء الخارق، يجعل القارئ في السؤال مرة ثانية، والحيرة: أمن المعقول كل هذا الفيض الإبداعي؟
في السيرتان هو كذلك.
في حوار مع الروائي والقاص الكردي بافي نازي الذي عاش لسنوات في استوكهولم والمقيم الآن في موسكو، يقول سليم بركات هو أستاذ الرواية الكردية بكل امتياز.
وأقول هو العاشق وهو القطب، فلولا وجود هاتين الصفتين فيه، لما استطاع أن يخلق ويؤسس. هو مثل طاغية يترك أثرا يدوم طويلاً
.

ايوب صابر 02-25-2016 01:18 PM

مقابلة اذاعية مع أديب حسن محمد عن سليم بركات الحوار المتمدن-العدد: 1498 - 2006 / 3 / 23 - 07:31
المحور: الادب والفن

سليم بركات شاعر وروائي سوري أصدر العديد من المجموعات الشعرية وهي:كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً،بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح،البازيار،طيش الياقوت،الجهات المواثيق المواثيق الأجران والتصاريف وغيرها وقد صدر له أواخر الثمانينات مجلد تحت عنوان"الديوان "ضم خمساً من مجموعاته الشعرية
روائياً صدر له:
فقهاء الظلام،أرواح هندسية،الريش،معسكرات الأبد،الفلكيون في ثلاثاء الموت ـ عبور البشروش،الكون،كبد ميلاؤس،أنقاض الأزل الثاني،الأختام والسديم
ولسليم بركات كتابان مصنفان في فن السيرة الذاتية هما:
الجندب الحديدي .. هاته عالياً هات النفير على آخره سيرة الصبا
ترجمت بعض رواياته إلى العديد من اللغات منها الألمانية والإنكليزية والفرنسية
لدى بركات خيال سينمائيّ،ونصوصه تشبه ما يرصده المصور معتمداً على عدسته أو كاميرته المتجولة،رواياته سرد متحرك...شيء من الكتابة،وشيء من الصور،وشعره نفسه عبارة عن سينما فلا شيء غير الانفعال ونوايا الأفعال ولا وجود لهواجس الداخل كأن ذاكرته كاميرا محمولة على الكتف وقوله اصطياد اللقطة في الهواء
روايات بركات يزحف المتخيل فيها ليكمل سرد الواقع..لا تعتمد الطابع الحواري إلا فيما ندر في الوقت الذي تتضّح فيه طاقة السرد الكبيرة من خلال بنية الحكاية وتبشر بعهد نهوض سيمياء الرواية العربية بوصفها الحقل المعجمي بامتياز

أيها الأحبة سنجري اتصالاً مع الدكتور الشاعر أديب حسن محمد لأنه من المهتمين جداً بأدب سليم بركات وقد نشر أكثر من دراسة نقدية عن أدبه ..بعد لحظات شهادة من أديب حسن محمد
...
س ـ د.أديب حسن محمد لماذا يعتبر سليم بركات من رواد اللغة العربية شعراً وروايةً؟؟
*بداية يمكننا التحدث في المحورين اللذين تفضلت بعرضهما
سليم بركات شاعراً
وسليم بركات روائياً
من قريته الكردية الصغيرة"موسيسانا" القريبة من مدينة عامودا في الجزيرة السورية وحتى استوكهولم عاصمة السويد رحلة إبداع امتدت لأكثر من ثلاثين سنة أصدر خلالها العديد من المجموعات الشعرية والروايات والمقالات التي لا تتخلى في روحها عن مؤثرات البيئة التي انبثق منها وبقي مخلصاً لها في كل ما كتب.
شاعراً..ومنذ مجموعته الأولى"كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً" لفت سليم بركات الأنظار إليه فقد اختار أن يكون منذ البداية مختلفاً عن مجايليه وكان له ذلك حيث ما لبث أن احتل مكاناً مميزاً بينهم وانفرد باسلوبه المميز الذي اعتمد فيه الشعر على استقطار اللغة وسبر أغوارها في سبيل الوصول إلى حالة من الصدم والدهشة لقارئ قصائده.
قصائد سليم بركات وقفت في المسافة الحساسة بين الغموض الفني والإبهام،هذا اللبس نتج بطبيعة الحال عن الطريقة الجديدة وغير المألوفة في التعامل مع اللغة،فأساس اختلاف تجربة سليم بركات كان تعامله مع اللغة..أو الزاوية التي كان الشاعر يقف فيها ناظراً إلى مفرداته الطالعة من بركان اللغة وهي تسيل على البياض،سليم بركات امتلك إذاً هذه اللغة البركانية التي فجرت أعماق لغته وجعلتها وجهاً لوجه أمام قارئ جديد غير معتاد على هذه الأنساق اللغوية الجديدة،في بداية تجربة سليم بركات حدث نوع من الغربة بينه وبين قارئه طبعاً كان الأمر في بدايته غربة أولية أو حاجز أوليّ وقف بين القارئ وبين قصائد سليم بركات لكن هذه الغربة ما لبثت قصائد سليم بركات على إزاحتها من خلال تمرين القارئ على ديناميتها ونشاطها الداخلي،واستطاعت إقناعه(القارئ)بالمكنونات الجمالية التي تختزنها البنية اللغوية للنصوص الشعرية،فغموض قصيدة بركات لم يكن غموضاً بلا جدوى أو غموض لأجل الغموض.
توسّع القاموس الشعري لسليم بركات شاملاً العديد من المفردات بحيث أن قارئ شعره سيجد العديد من المفردات الجديدة عليه والتي نفض عنها الشاعر غبار القواميس وأعاد لها ألقها المفقود عن طريق حسْن توظيفها في قوالب مدهشة جمعت بين حداثة المضمون وقاموسية المفردة المكونة لهذا المضمون.
هذا المزيج الساحر بين رصانة المفردات وجموح الخيال يؤهلان قصيدة سليم بركات للصمود والتجدد رغم تعاقب الزمن عليها،هناك أمران مهمان في التجربة الشعرية لبركات لابد من استعراضهما:
الأمر الأول هو حفظ مكونات بيئة الجزيرة السورية في شعره..الشجر..الحيوانات..النباتات ..الخ
أرشف لهم بمهارة باحث بيئيّ وبحصافة لغوي وببراعة شاعر في آن واحد،فصار شعره وثيقة مكانية لحقبة مهمة من نشوء منطقة الجزيرة وتحولها من الطابع الريفي إلى الطابع العمراني المدني.
الأمر الثاني هو تقنية التقطيع السينمائي التي تميز تجربة سليم بركات الشعرية وتجعل القصيدة أقرب إلى اللوحة أو إلى المشهد البصري،حيث يكتب الشاعر بعدسة مخرج سينمائي مطل على مشهده الشعري،ومحرّك لعناصره.
س ـ أستاذ أديب ..أتساءل إذا أردنا أن نستخلص مجموعة من السمات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً برواية سليم بركات..يعني ما هي المميزات أو السمات النقدية التي يمكن أن نتحدث عنها؟؟
ج ـ لا تختلف روايات سليم بركات في سياق تجربته الإبداعية عن شعره،وكما أسلفت سابقاً فإن إبداع سليم بركات يتركز في اللغة،واللغة في الرواية مركزية أكثر من الشعر كون توظيف الخيال في الرواية أكثر منه في الشاعر،ويكاد يكون متفرداً وفذاً بحق منذ بواكيره الأولى في السيرتين:سيرة الطفولة وسيرة الصبا وحتى الرواية الأخيرة:الأختام والسديم
لدى سليم بركات سداسية الأمكنة:عامودا،قامشلي،دمشق،بيروت،نيقوسيا،وأخيراً استوكهولم
هذه السداسية المكانية بصمت في رواياته بعمق،لم تنفصل هذه الروايات عن بيئة الجزيرة السورية رغم اشتغالات المكان
فأحد مميزات رواياته أنها غالباً ما تنطلق من الجزيرة السورية،قد تخرج إلى أمكنة أخرى ولكنها تعود إلى نقطة انبثاقها،رغم أن هذه الانتقالات المكانية ضرورية لحبكة بعض الروايات مثل الروايات التي كتبها في قبرص,
تعامل سليم بركات في رواياته مع البيئة بأسلوب ساحر مستثمراً الميثولوجيا الغنية للجزيرة،والتاريخ الحضاري العريق للشعوب المتعاقبة عليها،وقد استطاع تحويل هذه المعطيات إلى عناصر إشراق في سياق بنية النص الروائي،فالذي يقرأ روايات سليم بركات يدهشه نبش الكاتب لشخصيات مهمشة ولتفاصيل منسية في تاريخ المنطقة،وببراعة منقطعة النظير استطاع بناء نسق روائي قادر على التمدد خارج قاموس السرد المباشر.
أما الخيال فدوره مركزي في توهج الحدث الروائي،ورغم جموح خيال الكاتب فإنه يبقى خيالاً خادماً لبناء الرواية،فلا يشعر القارئ أنه أمام خيال نافر ومجاني بقدر ما يحس أنه خيال مرتبط في مستوياته المختلفة بخيط غامض إلى مركز الرواية وبؤرتها الجاذبة،هنا بالضبط تكمن عبقرية سليم بركات الروائية:إحالة الخرافة والخيال إلى عناصر محايثة للواقع الملموس من خلال عملية التبادل الديناميكية بينهما(الخيال والواقع) وببراعة يحسد عليها.
س ـ د.أديب ...أتساءل سؤالاً ولا أدري إن كان مشروعاً
أفهم من كلامك أن سليم بركات يشتغل على أعصاب اللغة واللغة هي الأداة الأولى في تصنيع العمل الروائي..هل هذه اللغة تستطيع أن تبني تقاطعات حادة مع المتلقي..بغض النظر عن سوية هذا المتلقي؟؟
ج ـ تحدثت قبل قليل عن موضوع التلقي،وكلامك عن اللغة دقيق جداً،فسر الإبداع الشعري والروائي لدى سليم بركات هي اللغة،ولا شك أن هذه اللغة تخلق في البداية نوع من الغربة مع القارئ،ولكن فيما بعد استطاع الكاتب بمهارته وإبداعه إقناع القارئ بمبررات اشتغاله على هذا النمط اللغوي الذي يمر بثلاثة مراحل:اللغة الغريبة في البداية،ثم المتمنّعة القابلة لأكثر من قراءة،ثم اللغة الماتعة التي تجعل من القارئ منفعلاً ومتذوقاً لرحيق اللغة..فقارئ الرواية من المرة الأولى يشعر أن تناول جرعة لغوية ثقيلة يصعب عليه هضمها،وعندما يقرأ القراءة الثانية يبدأ باكتشاف مكامن جمالية لم يستطع اكتشافها من القراءة الأولى...فالمراحل الثلاثة لقراءة روايات سليم بركات هي:
ـ القراءة التغريبية
ـ القراءة المتمنعة
ـ القراءة الإمتاعية الجمالية
وهذا ناجم عن التمدد الحاصل في الرواية نتيجة الثقل اللغوي فيها وهو ثقل إبداعي لا يدل على عبث بقدر ما يدل على مخيلة فذة تستطيع تطويع اللغة في أحلك مستويات التعبير

في برنامج "واحد من آخرين" إذاعة صوت الشعب دمشق 4/4/2004من إعداد المذيع سامر فهد رضوان

ايوب صابر 02-25-2016 08:18 PM

سليم بركات ....يقول عنه احدهم

لم أرى كاتباً ينفذ إلى عمق الموجودات مثل سليم ، فيتحدث بلسان الموجودات و اللاموجودات و يحس بنبض الأرواح في كل ذرة يصل إليها نظره أو يمتلئ بها إدراكه المتراكم . حتى تفهم سليم عليك أن تصادق الظلال و النور و الفراغ و الريح و ما ينتظر دوره في رحم الأرض ليخرج من المعدوم إلى الموجود و ليستمر بعدها في رحلته في الأطوار التي خلقها الله.

ايوب صابر 02-26-2016 03:38 PM

سليم بركات .. رحلة في الخيال
« في: 09:33 10/10/2009 »
سليم بركات ..
* * * * * * * * * * * * * *

رحلة في الخيال
افراح الكبيسي

[*]الإهداء:

نملة تتسلق جسد عملاق .. إنها لرحلة طويلة

[*]المقدمة:

سليم بركات, هذا الفذّ الذي أعطى الشعر نكهة جديدة, والرواية بعدا جديدا. هذا العملاق الذي تحالف مع دولة عظمى, دولة اللغة, لينهي هزائم الكتابة. هذا العبقري الذي أسس مدرسة للخيال, متحديا خيالنا لدخولها, فكيف بالنجاح فيها. هل تكفي السطور لمدح سليم بركات العاف عن المديح, "وغواياتي غواياتُ مديحٍ [1]", المتحدي للمداحين, "سيتقاسَمُكَ المُراهنون في اقتحامهم المديحَ باباً باباً، بالحظوظِ التي يباركها الخوف [2]". أم علينا أن نمدحه بمفردات من عالمه, عالم الخيال ألا منتهي, حيث الشخوص تحرض المجهول فيها "على صوغ المجهول [3]" فينا، "والحدث الذي [3]" يحرِّض، "ب (لا - حدوثه) [3]"، على شغف "حدوثُه في خيال [3]" كتابتنا. وترى هل ستنجح رحلة مديحنا هذه, الحكم لبركات, ولكم.
[*]الولادة:
يقال أن سليم بركات هو من مواليد القرن العشرين, وهذا تزوير في أوراق رسمية, ومجرد تهويمات لإخفاء ما يراد إخفاءه. فولادة بركات ابعد من ذلك بكثير. وهذه الولادة, الولادة الأصلية, لها أدلة توثقها, أدلة مختومة باسم بركات, لتحفظ "حق المجاهرة بالخوف من الفقد [4]". *أدلة لها شهود "مُتَّحِديْنَ في الصوت [5]" بعدم "نسيانِ الخَتْمِ [5]" ولا "نسيانِ المواثيقِ [5]". أدلة لها براهين, "تظلِّلها بالحبرِ من تهتُّكِ اليقين, وتُوْقِعُ بالكلماتِ [6]".
ولادة بركات كانت مع الإنسان الأول, إنسان الكهف المجبول بحب استكشاف كل ما حوله في محاولة للتعرف على العالم لأول مرة عبر توصيف كائناته وفهم طبائعها.
"
أن يتخذ سيّاف الغيبِ كمالاً ككمال الظلام ِ، وتركعُ الرياحُ الأسيرةُ، تغرورقُ
عيناكَ، يا هادئاً ترى الذي ترى، وتكفيكَ من الأبدِ قضمةٌ واحدةٌ، فلماذا تأسى
للوقتِ، ولماذا تضربُ بحافركَ على رخامِ بطشنا ؟
[7]".
عاش بركات مع هذا الإنسان, الأول, واستكشف معه كثيرا من الكائنات, وانتهى من فهمها إلى تسميتها لاختزال عملية الإشارة لها. وكانت استفادة بركات من هذه التسميات لا حدود لها.
"
للقرنفلِ شَكُّهُ. للتوتِ شَكُّهُ. للقُنَّبِ، للحَلْبُوبِ، للدِّفْران، للتَّنُّوب والجُرَيْس، لنا، لليَحْمُوْرِ النازفِ على حجارةِ النبعِ، للقيامةِ التي تتهيأ بأقنعتِها القِطانيَّةِ، للدّعاميصِ الطافيةِ على الماء، للبتولا، للطاووس الساهرِ على الكلمةِ، القويِّ الخجول، للبَوَّاقِ ذي النَّفْخِ المالحِ، للبَقْس، للتَّنُّوبِ، للجاوَرْسِ، للحندقوق الهاذي، للفجرِ الذي يتلوَّى كالصِّلِّ قرب النعمةِ، لِلْبلاذِرِ، للكتّانِ، لليقينِ الراكضِ بجلاجِلِ الفراغِ، للغد شُكُوكَهُ.
هكذا: شُكُوكٌ على مرمى القَهْقهةِ؛
شكوكٌ على مرمى الذَّهب.
[8]".
بعد ذلك ظهرت الكتابة, على حين غفلة, لتسمح للإنسان الأول باستخدام الصور كرموز لكتابة الكلمات وتكوين الجمل, ولتسمح لبركات باستخدام الصور "لاستنطاق الماهيات [9]" وتكوين "النص السحري [9]".
"
لا تَقُلْ إنَّ العذوبة سوْطُكَ الذي تقودُ به جيادَ النبات،
والنهارَ إوزّةٌ شردتْ من حقلِكَ الحديديّ، بل التمسْ ذاكرةَ التُّفاحِ بكلماتِ الغُصنِ، وأطلِقْ يديكَ كذهبٍ مطحونْ.
غزالتُكَ هناك؛ غزالتُكَ البلَلوريَّةُ تحت الشجرة البلّلوريَّة، وقلبُكَ هنا، يهزُّ قرْنيهِ ليرُدَّ الفجر ذا الفراء عن سريرك الذي يهوي عميقاً، الى حيثُ لا نعاسَ يرعى بقراته البيضاءْ.إنها المشيئةُ التي تضربُ الأرض بقناعها، وأنتَ رنينُ الضربةُ.
[10]".
"
فلْنَتَفاوضْ كسيِّدَيْن.
أجلس هنا، أمامي، فأنا جالسٌ ومعي ما تريد،
وحدّق فيَّ كما ينبغي لخصمٍ أن يُحدِّقَ، ثم ضَعْ على المنضدة ما تحتوي جيوبُكَ؛
الحديقة أوَّلاً. إنني أرى الجذورَ تخترقُ السُّترة، والترابَ يُعَفِّرُ قميصَكَ. هنا، على المنضدة.. الحديقة أوَّلاً.
ثُمَّ هاتِ السحابةَ تِلكَ، التي تبلِّلُ حوافَ القبعةِ، وتتدلَّى خِصَلٌ باردةٌ منها بينَ خصلات شعركَ. وهاتِ القوسَ قُزَح، ذاكَ، المائلَ على صدّارَتِكَ المذهَّبَةِ. هاتِهِ.. هنا، على المنضدةْ.
لا، لا تكنْ شاحباً، ولنتفاوَضْ كسيِّديْنِ، فمعي ما تريد.
[11]".

[*]النشأة:
بدأ الإنسان ينزع للعيش في تجمعات, وكان هدفه في البداية نبيلا: إبعاد شبح الوحدة, والتكاتف لتحصيل الخير ودرء الشر. لكن هذا الهدف النبيل لم يدم طويلا, فظهرت الحروب بمبررات تحتاج للتبرير. وظهر استعلاء الإنسان على أخيه الإنسان بلا وجه حق, وظهر الظلم بوجوه متعددة ابتداء بالاضطهاد ومرورا باستلاب الحريات وليس انتهاء بالقتل. وفي خضم هستريا الوجود, كان الكرد, وكان بركات.
"
المكنُ طَلْقَةُ الخيالِ التي تُرْدِيْكَ،
لتتعافى حُرَّاً، حيثُ المتاهُ رَجَاءُ،
والكونُ يغطي بأسماله نوارجَ اليقين؛
حيثُ الحروبُ، نقيَّةٌ كفراء السنجابِ، تتماوجُ في الهبوب الرَّحيم للجَدَلِ، ويتأهَّبُ العَدَمُ ـ هذا الجناحُ الأقوى.
الكُرْدُ هناكَ،
في دويِّ الطَّلْقَةِ التي تُرْدِيْكَ لتتعافى.
[12]".
حمل بركات الهم الكردي بين أضلاعه, وظل يركض في "ثورةِ [13]" قومه *"بإصرار، لكردي يحلم بكونه كردياً [14]".
"
أأسمّي لكم الأعلامَ التي هناك، فوق الشُّرفات العاليةِ المستندةِ على البنادق؟ أأسمّي لَكُم البنادقَ الكثيرةَ هناك، حيث البطولةُ التي تتقنَّعُ في الدخول على الكرديَّ من حيائها؟ أأسمي الكرديَّ ليتدفَّأ الليلُ بقميصهِ المُنْتَهَب؟
[15]".
"
سأرفعُ هذا الحديدَ، إذاً، على الخشبة القوية التي تهتزُّ تحت قدميَّ القويتينْ. سأشهدُ امتحان العَضَلِ وامتحانَ الهواء، حين تتَّخذ الشرايينُ النّافرةُ أُهْبَتَها وهي تمهَّدُ للدَّم عُذرَتَهُ وفجوره،
سأرفعُ هذا الحديدَ بحكمةِ الحديد.
سأُقسِم أن الحديدَ المرفوعَ على يديَّ هو الغدُ مغسولاً في رئةٍ كرديَّةٍ.
[16]".
ورغم أن الموت واليأس هما متلازمتا الحروب والظلم في كل زمان ومكان, يبقى الأمل هو الفيصل في نهاية الأمر.
"
( أيها الموتُ،
يا أسمالاً على كتفين قويتين؛
يا مِمحَاةً ترتجفُ، وياقوتةً غيرَ مثبَتَةٍ في الخاتم على نحوٍ مُحْكَمٍ؛
يا مُبدِّداً نَفْسَهُ بين الألقابِ،
كأنّما سُلوقيٌّ يجُرُّك لاهثاً،
وكأنّما ذاكرتُكَ تتراءى قِطَطاً مقذوفةً من الشُّرفات.
أيها الموتُ،
يا غريقاً تمتد إليه الأيدي كُلُّها،
خفِّفْ مُساءَِلاتِكَ قليلاً).
[17]".
"
بآلات الزَّهر، بك أيتها الحديقةُ الضائعةُ في جهات يدي، سأمسكُ الرَّسنَ الأقوى، ناظراً الى ما ينحدرُ من الصَّرخةِ العاليةِ، فلي موعدُ الجذورِ، واحتدامُ البعيد. وإنْ نسيتُ شيئاً من مباهجِ الوداعِ وهسهسات مهاميزه، فسيدركني الظلُّ الرسولُ، أو النبضُ الرطبُ لثمرةٍ سقطتْ في المياهِ؛ إنْ نسيتُ؛ إنْ نسيَ الوداعُ شيئاً من مجوني الذي قَسَّمَ الشجرةَ بين جهاتها.
هكذا كُلٌّ سيدركُ الذي لم يفتْهُ. كلٌّ سيُدْرِكُ المُدْرَكَ، وينسى بطشَ الذي فات.
بآلاتِ الزَّهرِ تتواطأ الأرضُ على نَفْسِها.
[18]".
[*]الهجرة:

بدا الناس بالهجرة من مكان الى آخر, كل يبحث عن مبتغاه. وهاجر بركات إلى العرب, باحثا عن اللغة العربية, عن "حفنةَ الريحِ التي ألْهمتِ الحيًّ بلاغاتٍ [19]", عن المفردة الصعبة, والكلمة المنقرضة, والقواعد الصلبة.
"
نانْيك يتها الأبديةُ، يتها المحفورةُ مثلي على خوذةٍ، سأصْلحُ من هَيْأتي قليلاً، سأصْلحُ من هيأةِ اليابسةِ، وأنسِّقُ المياهَ إناءً على مَسْطَبَةِ الروحِ قبلَ تدخلَ العدميَّاتُ بنبالهنَّ الآجريَّةِ يقنصْنَ الكواكبَ وتوابعها؛ قبل أن يخترقْنَ مطالعَ الأغاني بحروفٍ مَلُوْلَةٍ، أو يطعنَّ الغزالةَ الحائمةَ حولَ أبجديةٍ لا تُرى. وسأصْلحُ من هيأةِ الليلِ فيدخلُ الحُلَمَ طائشاً في عباءاته الطائشةِ، فأنا الدليلُ لن أدلَّ أرضاً، بعد هذا، إلاَّ على رُعبِها
[20]".
في هجرته هذه كان بركات يتموج "مُنْزَلقاَ من ورقةٍ إلى ورقةٍ، ومن لهاثٍ إلى لهاثٍ [21]", لأنه أدرك منذ البداية أن ليس "يُدْرَكُ شكلٌ بغير ذعرٍ، وليس تُغوي المعاني بغير هذا الشهيق [22]".
"

هذا هو أنتَ،
أيها المنتفضُ تحتَ بروقِ الحبرِ. هذا هو أنتَ،
وقربكَ طلٌّ سكرانُ،
ظلٌّ مما تلقيهِ الأرضُ، في غروبها، على رغيفِ الكائنْ.
هذا هو أنتَ،
صلبٌ كروحٍ صلبةٍ يرنُّ على حوافها قرعُ عكاكيزِ الظلامِ المائةِ،
وخلفكَ مائةٌ من النساء يطحنَّ، في جُرنٍ واحدٍ، يقظةَ البطولةْ.
هذا هو أنتَ،
دأبُكَ دأبُ المؤرِّخِ، لكن تؤرِّخُ المياهَ وحدَها.
بسيطاً تؤرِّخ المياهَ. بسيطاً تُغوي الحبرَ ليتهيأ الحبرُ لسباتِ الكلامِ،
لتبقى وحدَكَ يقظانَ في حلمِ الحروفِ؛ يقظانَ حتى
آخرِ انتحارٍ للأرضِ قربَ مرآتِها.
[23]".
ولحسن حظنا, ولحسن حظ اللغة العربية, وجد بركات مبتغاه, ليصبح وبكل جدارة عملاق البلاغة "اليقظى من ارتجاجِ العجلاتِ على الحبرِ [24]", وعملاق النثر "المسكونِ الذي لا يُؤاتي [24]", وعملاق الشعر والرواية.
"
كنبيلٍ سأدلقُ صِحافَ الفاكهة من الأعلى، هاتفاً بخليلاتي: دَوِّنَّ هذا؛ دَوِّنَّ ذهبي المَذْرُوْفَ على قرونِ الجليدِ، وارفعنَ خَمالاتِ الريشِ لألتَقي وهجَ الأجنحة، فأنا شبكةُ المديحِ التي يتخبَّطُ فيها عُقَابُ المديح.
[25]".
"
دَوِّنَّ هذا، دَوِّنَّ هذا يتها الخليلات:
عاصفاً يبدأ الشَّكلُ، عاصفاً ينتهي.
عاصفاً يبدأ المكانُ، عاصفاً ينتهي.
وأنا أحَرِّضُ التماثيلَ، على قممِ الأعمدة، أن تطلقَ قُمْريَّها الجريحَ من شِبَاكِ الحجر.
غير أني سأتلو الحجرَ جناحاً جناحاً، وسأتلو البحيرةَ خلف الرابية طعنةً طعنةً، موشكاً - وأمسكُ نَفْسي - أن أضرِّجَ الغدَ كله بهبوبٍ يشوبهُ الزَّعفرانُ. موشكاً أنْ أقتحم الهياكلَ بالهياكلِ، والأدراجَ بالأدراج، وحسبيَ الغوايةُ التي تُدَحرجُ قُفَفَ العُنَّاب برَكْلَةٍ من قَدَمها.
[26]".
[*]الخاتمة:
ما زال هناك الكثير الكثير ليقال عن سليم بركات الذي لا يمكن اختزاله ببضعة صفحات ولا تكثيفه ببضعة سطور. ولكن كما لكل مقال مقدمة لا بد له من خاتمة, وكما استعنا ببركات لتنشيط مخيلتنا عنه, واستعنا ببركات لمدحه لعدم تطاول اللغة على ذلك, سنستعين ببركات لنختم مقالنا عن عملاق اللغة والمتربع على عرش الأدب العربي سليم بركات.
"
لكن، بأيّ أحبولةٍ ستأسرون هذا المهرقَ كالقهقهة ؟ بأيٍّ ستأسرون الرخيم مثلَ
الإنشاد للمياه ؟ ليكنْ. خذوه، خذوا الطائش الجميلَ، فهو قرعُ الحكايةِ على
إيهِ،…إيهِ، أكانت لكم حكايةُ قبلَ أن يمسًّ بذيله الحكاية ؟
[27]".
[*]ملاحظات:


مقاطع القصائد التي استخدمت كأمثلة في هذا المقال لم تؤخذ بالضرورة من قصائد تشابه بمدلولها المدلول الذي استخدمت فيه هنا.
[*]جميع المصادر المذكورة أخذت من موقع جهة الشعر http://www0.jehat.com.

[*]الهوامش:
[1]. الحديد, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1984.
[2]. مهاباد, البازيار, 1991.
[3]. سليم بركات, أنه امتحاني حتى الموت, عدنان حسين أحمد, جريدة (الزمان) لندن.
[4]. الأختام والسديم, 2001.
[5]. المعجم, 2005.
[6]. استطراد في سياق مختزل, طيش الياقوت, 1996.
[7]. الحمار, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.
[8]. ليبق معي, خزائن منهوبة, 1986.
[9]. سليم بركات, عراب المتاهات وخيال الهاوية, ناصر مؤنس وصلاح عبد الغفور.
[10]. المشيئة, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[11]. لا تكن شاحبا, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[12]. استطراد في سياق مختزل, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[13]. المطالبة بجسد فراشة غريبة, كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا, 1973.
[14]. سليم بركات, أنه امتحاني حتى الموت, السابق.
[15]. مهاباد, السابق.
[16]. مهاباد, السابق.
[17]. مهاباد, السابق.
[18]. الحديقة, منزل يعبث بالممرات, 1984.
[19]. الحديد, السابق.
[20]. وميض مر, الكراكي, 1981.
[21]. المشيئة, السابق.
[22]. قلق في الذهب.
[23]. الحيوان الأخير, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.
[24]. القطيعة, أسرى يتقاسمون الكنوز, البازيار, 1991.
[25]. الفجيعة, منزل يعبث بالممرات, 1984.
[26]. الفجيعة, السابق.
[27]. الثعلب, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.

ايوب صابر 02-26-2016 04:03 PM

جريدة الحياة - العدد 17738: سليم بركات يبحث عن أسطورة الأنثى شعريّا - عابد اسماعيل
date:*
Fri, 10/28/2011
تتوقّدُ مخيلة الشاعر سليم بركات باستعارات الحبّ التي تُحدث اهتزازاً عميقاً في البنية النمطية لقصيدة الغزل، في ديوانه الجديد «السيل»، الصادر عن دار الساقي، 2011، الذي يستحضر أسطورة الأنثى بوصفها مرجعاً جمعياً خفياً يبتكر الكون في كلّ لحظة من دورانه، ويعيد لرموز الخصوبة والانبعاث مجدها كما تذكرها الأساطير القديمة، من دون أن يسمّيها بالضرورة. يذوّب بركات، بمهارة الفنان، مصادراً إحالاته الإسطورية، لتبدو كأنّها من صنيعه الخاص، حتى أنّ ما يطفو على السطح من إشارات غزلية لا يفتأ ينقلبُ على نفسه، في فورة الصور العشقية المتدفقة، بدءاً من عنوان الدّيوان، الذي يعلن تحالفه البلاغي مع السّيل كقوة خلق وابتكار، إذ «لا ميثاقَ كالسّيل، لا رهانَ كالسّيل»، وانتهاءً بالخاتمة التي يتعانق فيها السّيلُ مع المرأة العاشقة: «لقد بلغَ السّيلُ عمرَكنّ».
*
في هذا الدّيوان، المؤلّف من قصيدة طويلة واحدة، ذات النبرة الملحمية، تنضحُ لغة بركات بنداء الجسد الأنثوي، الحاضر دوماً كبهاءٍ بلاغي خالص، متماهياً مع مرايا الطبيعة، فالأنثى في الديوان ليست المرأة الفرد، بل النداء الجمعي الذي يشكّل، جوهرياً، «أنا» متعدّدة، كثيرة، تعكس ناموس الكون في تنوّعه وكثرته: «ستُقتَلْن إن اجتمعتنّ في عناقٍ واحدٍ/ أو قبلةٍ واحدة/ أو رعشةٍ واحدة». يستحضر بركات قاموسه العشقي الخاصّ به، الذي يتّسم بالأصالة والغرابة في آن واحد. فالغزلُ هنا ليس تقليدياً البتّةَ، ولا يمجّدُ أو يحتفل بالمثال الأنثوي بقدر ما يغوص عميقاً في معنى الأنوثة وتجلّياتها.
*
أسلوب خاص
ينحرف خطاب الشاعر عن تراث الغزل المتبلور في ذاكرة التقليد، رغم مروره، لمحاً، على بلاغة نشيد الإنشاد، وأوجاع الشاعرة سافو، وتحولات أوفيد العشقية، وقصائد المجنون، وعبق الموشّحات الأندلسية، الحاضرة روحاً في الديوان، لكنّها الغائبة تسميةً، لأنّ سليم بركات لا يتوانى عن اختراع أسلوبه الخاص الذي لا يشبهه أسلوبٌ آخر، متّكئاً، بشكل كبير، على ذاكرته الرعوية التي تستحضر طفولةً وثنيةً عجيبةً، تفتّحت فصول عشقها في أحضان تلك الطبيعة النائية والبربرية، التي يحملها بركات معه، في حلّه وترحاله، ويجسّدها في معظم نصوصه الشعرية والسردية. وكعادة بركات في دمج الحسّي بالمعنوي، تسافر استعاراته إلى عوالم خرافية، تتجاوز شرعة المكان، وتجدُ في كلّ جمادٍ روحاً هاجعةً ينبغي إيقاظها، وإطلاق سراحها. لا تقف الإشارة عند أثر بعينه، بل تطيرُ، عالياً، فاقدة العقل، باتجاه مجهول لغوي معتم، تتجلّى فيه الغبطة النصّية في أبهى صورها، والتي رأى فيها رولان بارث ذروة المتعة الجمالية، وبخاصة إذا كان شرطُ تحقّقها يكمنُ في الاختفاء وليس التجلّي: «أنتنّ. كيف لكنّ أن تسترحنَ وقد نقلتنّ المرايا من يدِ الشّكل إلى يد الخفاء»؟
يخاطب بركات الأنثى بصيغة الجمع وليس المفرد، ربّما للبرهنة على كونية المبدأ الأنثوي، وملامسة مركزه الأسطوري المتمثّل في نموذجه الأصلي «إنانا»، إلهة القمر، التي لا يسمّيها الشاعر، صراحةً، بل يكنّي عنها بفيضٍ من رموز الإنبعاث والخلق التي تصقل الصورة الجمعية للمرأة بصفتها أمّ النشأة الأولى: «لم تُبعَثْنَ من الخلية المشيئةِ ومضاً، بل من صريرِ البوابة تصطفقُ على النَشَأة ومضاً». يقابل الأنثى ذاك النداء الذكوري الحالم، الذي يجسّده المتكلم أو الرواي العاشق في الديوان-القصيدة، حيث يستحضرُ صورة تموز، إله الحقول والمحاصيل، ورمز الانبعاث وتجدّد الخليقة. ومن تلاقح وتفاعل هذين المبدأين تولد الحياة، وتتعاقب الفصول. يخاطب الشاعر الأنثى بصيغة الجمع وليس المفرد، لأنها جوهرياً، مرآة للطبيعة، ونوازعها هي نوازع النار في بهائها، والماء في صفائه، والطين في صمته، والهواء في هبوبه، والسماء في هبوطها على المكان. والنسوة في الديوان يبلغن عمر السيل في تدفّقه، ويبلغن عمرَ المغيبِ في حضوره البرتقالي على الأشياء: «بلغتنّ عمرَ المغيب، المتسوّل، الجوّال، على أبواب السّرمديات البرتقالية». في هذا الحضور، توقظ المرأة الحنين إلى الحبّ، المتجلّي في النصف المطحون من القلب، أو النصف المهجور من الروح، إذ «بألمٍ تحببن، بألمٍ أكثر تهجُرْن من تحبَبْنَ». والأنثى هي صلة الوصل بين الأرضي والسماوي، وحضورها لا يختلف عن حضور الحدائق في الكلمات، والنوافير في المعاني، حيث التناغم على أشدّه بين الجسد والروح، أو الجسد والنصّ: «تملأن قواريركنّ من معاصر النيازك زيتاً، يا اللّواتي تكفيكنّ حديقةٌ واحدة على حافّة الكلمات».
*
أسطورة الأنثى
من هذا الثراء اللفظي، والاشتقاقات الشعرية التي لا تنضب، تتبلور أسطورة الأنثى في القصيدة. تتدفق لغة بركات تدفّقَ السيلِ في عمرِ هؤلاء النسوة اللّواتي بلغن أخيراً، «عمر الحدائق»، أو، بشكل أدقّ، «عمر الأربعاء»، كما يشير العنوان الفرعي الغامض للديوان. نسوةٌ لا يخضعن للمشيئة، حيث «الأعالي طلاء أظافرهن»، ويلتمع الزّمنُ على شفاهنّ كابتسامة خاطفة. وعلى طريقة الهراطقة الصوفيين يقيم بركات ديالكتيكاً خرافياً بين الوثني والديني، أو بين الحسّي والمعنوي. فالروح تحضر جسداً، والجسدُ يحضرُ روحاً، لتكتمل القيامة الأنثوية في النص. لكنّ ميزة بركات تكمن في إدراكه العميق للعلاقة الإشكالية بين الجسد واللغة، بين الحبّ وتلك الاستعارات اللغوية التي تصفه أو تدلّ عليه. فبلاغته الشعرية، بصرامتها، وأناقتها، وغرابتها، تمثّل حقاً جسداً مكتنزاً بأسرار الخلق الفنّي، تدلّ أو تشير إليه صبوات المعاني الدفينة التي تتّسم حقاً بالابتكار والتجديد، تماماً كنسوته اللّواتي لا يقعن في التكرار البتة: «أنتنّ لا تسمّين شيئاً مرّتين بالإسم ذاته».
ولأنهنّ لا يسمّين الشّيءَ ذاتَه مرّتين، ولا يعبرن ماءَ النهر مرّتين، فإنهنّ يستوطنّ هواء اللّغة الخلاقة، ويتغلغلن في عروقها، ويحرفن البلاغة عن مسارها، ويقذفن بالمألوف إلى فلك الغرابة، لتكون مطاردةُ المعنى للمعنى على أشدّها حقّاً: «تلمَحْنَ، أنتنّ، الطرائدَ - قطيعَ المعاني مذعوراً في اغتصاب الكلمات للكلمات». لا يكشفن عن سرّ الأحجية بطرائق مألوفة، ولا يفضحن الضباب الذي يكتنف المعاني: «يا اللّواتي لا تفتحْن الأقفالَ بالمفاتيح، بل بالهمس». وهنّ يمتلكْن عبقريةَ النحت والتشكيل وتلوين الكلمات بإيقاعات القلب الراكض بين الحروف: «قلوبٌ راكضةٌ على السطور، التي وزّعتّن عليها حروفاً صريفاً من أسنان الكلمات.» حتى الحبّ يصير لغوياً، لا ينوجد خارج خطاب العشق، أو موسيقا الحروف وتصاريفها، لأنه الهمس الأكثر رقةً، وهسيس اللّغة، وفق رولان بارث، في حديث العشاق للعشاق، الذي يشبه ريش الطّيرِ في خفته وسلاسته: «أحاديثٌ ريشٌ، إذ الرّيشُ، وحده، عقلُ الطّير». لا وزن للكلام هنا، في مملكة الحبّ، ولا وزن للمفاهيم أو اليقين، فكلّ شيء منذور للجمال المطلق، الجمال الأنثوي الذي يحدّد للوقت مجراه، وليس العكس، ويلوّن الثّواني بأحمر الشفاه إذا لزم الأمر: «أغلقْنها الحقائبَ على وقتكنّ المصبوغ بصباغ الشفاه». هكذا، تصيرُ الأنثى صانعةً للحياة، بما تمثّله من طاقة خلق وابتكار وتحوّل، وخيالها خيالٌ كلّي، «خيالٌ/ يتدحرجُ/ كزرّ/ مقطوع».
*
في قصيدة بركات، يتدحرجُ الخيالُ الشّعري، ساطـعـاً بهياً، كوميـض البـرق، محـدثاً خلخــلةً أسلوبية في بنية القصيدة الغزلية وأفقها الرؤيوي. يخرج الشاعر عن توحّده الذّاتي بالأنثى، ليحلّل صورتها الجمعية من خلال فيض مــن استعـارات العشق التي تكرّس زمناً حداثيـاً، يقيـم دائماً على حافّة الأشياء: «يكفيكنّ أنكنّ/ كنتنّ/ أبداً/ على/ حافّة/ كل/ شيء». فالجمالُ، بمعناه الحسّي والرّوحي، كما يراه سليم بركات، لا بدّ أن يضمرُ القطيعةَ الجماليةَ مع كلّ تقليدٍ غزلي، مــن خــلال الإقامة في الحيرة القصوى، والارتحال الدائم باتجاه الكلمة الخلاقة، الكلمة الأنثوية الساحرة التي تضيء كلّ دلالة.

ايوب صابر 02-26-2016 04:12 PM

يوتوبيا سليم بركات الضالة
2006/09/29

أمجد ناصر
بصدور روايته موتي مبتدئون (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ 2006) يكون في حوزة سليم بركات ثلاث عشرة رواية، مقابل اثنتي عشرة مجموعة شعرية، واذا أخذنا في الاعتبار ان اعماله الاربعة الاولي كانت في الشعر، ترجح عنده، والحال، كفة الرواية علي كفة الشعر.
ولكن هذه ليست قسمة صحيحة.
ولا هذا التصنيف الاجناسي الخارجي يرسم حدودا قاطعة بين الشعر والسرد.
اذ ان كلمة (شعر) لا تعني غياب (النثر) او (السرد) اللذين هما (عمود) الكتابة الروائية، كما ان كلمة (رواية) لا تعني غياب الصور والمجاز والكثافة اللغوية، وهذه، تقليديا، من عدة الشعر.
تصنيفات كهذه لا تشفي غليلا في اقامة الفوارق بين (سرد) سليم بركات وشعره، فمن شأن هذه الكتابة، ككل كتابة، (وتحديدا كتابة سليم بركات) ان تخترق القواعد الاجناسية المتعارف عليها صانعة مجالا تعبيريا لا تلم به محددات اكاديمية جاهزة.
منذ البداية كان واضحا ان لسليم بركات عالما خاصا.
دليل ذلك موضوعاته، لغته، تدفقه، المجري العريض الذي تشقه الكتابة.
ومنذ ان اصدر كتابه (السيري) الاول الجندب الحديدي كان واضحا، ايضا، ميله الي سرد مكثف لا يخفي شغفه بالحكاية ولكنه لا يعول عليها تماما، فالحكاية، هنا، مضفورة باللغة المنحوتة الهادرة والمجازات المتصادمة التي تصدر عن مخيلة جامحة.
تساءلنا عندما اصدر سليم بركات (سيرة) طفولته في الشمال السوري عن السبب الذي يدفع شابا في مطلع الثلاثينات من عمره الي كتابة سيرة، وهو الجنس الادبي الذي يكون، عادة، نهاية مطاف الكتابة وليس مستهلها، ولم نكن نعرف ان من هذا الكتاب (وربما من كتاب ابكر بعنوان كنيسة المحارب لم يدرجه سليم بين اعماله) سيطلع الروائي الكامن فيه، وستتناسل منه سلسلة متشعبة من الروايات.
لم يكن عالم السيرة (الجندب الحديدي) مختلفا عن عالم اعماله الشعرية الصادرة حتي ذلك الوقت، إذ ان الاثنين يؤلفان اسطورتهما من نفس البقعة الجغرافية التي لم تغادرها، حسب زعمي، معظم اعماله اللاحقة.
وليس في هذا الحصر المكاني قدح ولا تقليل من ضخامة منجزه الابداعي، فأسطورة الشمال التي الفها سليم بركات لها مواصفات التراجيديا الكاملة من حيث توافرها علي ابطال مأسويين واقدار عنيدة ونهايات فاجعة: تلك هي القضية الكردية وجغرافيتها الممزقة.
وهذا يعني ان سليم بركات كاتب تراجيديا وليس كاتب قضية بالمعني السياسي اليومي الذي يختصر المحنة المقيمة بالشعارات والبرامج المتقلبة.
ليس لـ(الشمال)، في ادبنا العربي (او المكتوب بالعربية) هذا الوقع الذي يقدح عزلة ونفيا وبردا واشواقا لا تحقق كما هو عند سليم بركات، حتي صار (الشمال) عالما مخصوصا وليس جهة او صوبا.
المفارقة ان عددا كبيرا من الكتاب العرب هم من جنوب بلادهم (مثل المصريين واللبنانيين والعراقيين) غير ان الجنوب لم يتحول، عندهم، حسب علمي، الي عالم قائم بذاته كما هو (الشمال) عند سليم بركات، استثني من ذلك محمد خضير كاتب البصرة وصانع اسطورتها.
وفي سياق تحول الجهة الي عالم ومعني ودلالة يقفز الي اذهاننا مباشرة وليم فوكنر الذي جعل (الجنوب) الامريكي رمزا للعزلة والتحلل التدريجي، وذلك مثل رائد لسنا بصصده الآن.
هكذا، اذن، تتضخم مدونة سليم بركات الروائية، لتفوق منجزه الشعري وتلتهمه وتتمثله في هديرها اللغوي وصورها الرعوية وحوارياتها الناطقة بغريزة الماء والطين، تماما مثلما هم عليه شخوص رواياته من شهية كاسرة لالتهام كائنات اللحم المسكينة التي تدب امامهم او تطير، لسوء حظها، في فضاء قنصهم الذي لا يرحم.
وبتوطد منفي سليم بركات تزداد ضراوة اعماله ووعورتها، وإذ لا يحفل كاتب المنفي الكبير هذا بأي سياق او دُرجة ادبية، لا تأخذه، كذلك، شفقة بقرائه الذين لا يعلم في اي ارض يقيمون، اللهم سوي في خلاء العربية الواسع الذي استنبط منه بركات، صياد المعاني المتمنعة، مفازته الخاصة وجعلها ميدان رمايته، فأمعن في امتحان صبرهم علي مواصلة طريق موحشة يأنس فيها الانسان الي الوحش اكثر من استئناسه بمن هم علي صورته البشرية.
كنا، مع اولي رواياته، نعرف اين نضع خطانا، كانت اسماء العلم المعروفة تدلنا علي ارض شخوصه النافرين ومصائرهم المسنونة علي حجر صوان، ولكننا شيئا فشيئا رحنا نفقد طرف الخيط، وتنقطع بنا السبل علي نحو ملغز ومحير.
لم يعد العالم معروفا ولا الطرق اليه معلومة، فعندما تضع خطوة اولي علي طريق البحث عن الكنه والماهية والاصل تلج هذه المتاهة المتشعبة التي لا يخرج منها داخلها.
لم تعد الحكاية طريقا ولا (الثيمة الكردية) التي استأنسنا بها في خطوتنا الاولي معه صالحة لوصف اعماله المتراكبة طبقا فوق طبق، ولا بقي (الشمال) استعارتها السهلة، بل ان البشر ليسوا دائما اهلا للبطولة او الحكمة أو اجتراح التواصل الشقي، إذ يمكن لمملكة الحيوان والطبيعة ان تبزا الانسان في هذا الصنيع، من دون ان يشكل ذلك مجازا ركيكا او درسا او موعظة من اي نوع، كأن ذلك هدم لصروح وامثولات ملفقة صنعها التنطع البشري ورمي عليها اقنعة من (التحضر) أوهي من نسيج العنكبوت، كأن ذلك ضرب من (بدائية) تلتزم، علي نحو اخلاقي صارم، بالقوانين الاولي المؤسسة: القوة والضعف، الجوع والشبع، الشره والكفاية، الشوق والوصل، الممكن والمستحيل.
باختصار، كأن ذلك الصنيع عود بالاشياء الي اصلها: العزلة الحرون المقيمة حتي في ما يبدو موضع اجتماع واشتراك.
من يريد الوقوف علي الفرق والاختلاف، في المدونة الشعرية والروائية الشاسعة لسليم بركات، سيجدهما، سيري اللغة والاشكال وهي تتدرج من البسيط الي المعقد، والعالم من الواقعي المألوف (نسبيا) الي الغريب المجترح بمخيلة مسننة، ومن العضوية المفرطة الي التأمل في الكنه والماهية، ولكني ازعم، مع ذلك، ان التشابه (ان لم اقل الوحدة) هو الذي يطبع عالمه في جوهره المنطوي علي جمرة وجوده الحائر.
تنطلق كتابات سليم بركات من بؤرة واحدة ثم تروح تنداح كأمواج تتباعد عن المركز، لكن صلتها، في ظني، لا تنقطع عن اصلها المؤسس.
البداية، كما اسلفت، في تلك البقعة الصغيرة من الشمال السوري حيث يستبطن (الموضوع الكردي) فكرته عن نفسه وفكرته عن عالمه المحيط وتتصاعد اناته مع النفث المتواصل للدخان من صدور منخورة بالتبغ والاشواق، سنري، في هذا البدء، جغرافيا وحيوات مرصعة بأسماء علم معلومة او مجهولة من لدننا، لكنها اسماء علم واقعية لا غرابة فيها سوي جهلنا بها، كجهلنا في أمر محنتها نفسه، ثم تأخذ الاعمال اللاحقة في توسيع اطارها (لبنان، قبرص، وربما السويد) فتحل اسماء محل اسماء ومشاهد محل مشاهد ولكنها، حسب ظني، ليست سوي اقنعة للاسماء والمشاهد الاولي.
تحسب الكتابة انها غادرت تلك البؤرة ولكنها لم تفعل أكثر من تذرية عالمها وغربلته وتصفيته للوصول الي فكرته، أو المجرد فيه، رغم تسلحها بالعناصر الحسية ثقيلة الوطء.
اعود الي فكرة (المعني)، لأقول انها الأصل في كتابة سليم بركات حتي عندما لا يبدو الأمر كذلك، او حتي عندما تبدو الكتابة مجرد تمارين لهو شاقة، ما يجعلني اعتقد انها تتخذ من (الثيمة الكردية) استعارة لسؤال الانسان عن معني وجوده.. وفشله الذريع في اقامة مثاله علي الارض.

القدس العربي

ايوب صابر 02-26-2016 04:54 PM

سليم بركات في نهايات العقد الثالث من تجربته الشعرية
الكردي- البازيار الذي شق معاني العربية من تلابيبها*

صبحي حديدي - كاتب ومترجم من سوريا يقيم في باريس

-1-

القامشلي مدينة صغيرة تقع في أقصى الشمال الشرقي من سورية، تأسست في عثسرينيات هذا القرن لكي تكون محطة زراعية تخدم مواسم زراعة وحصاد القمح والشعير وبعض القطن. وسرعان ما أصبحت أبرز مدن وبلدات منطقة "الجزيرة"، التي سميت هكذا بسبب وقوع سهولها المنبسطة الخصبة بين نهري الفرات ودجلة، والموقع الجغرافي لهذه المنطقة يفسر تنوعها الانساني والثقافي واللغوي والاثني: من الشمال تحدها جبال طوروس، ومن الشرق كردستان والعراق، ومن الجنوب بادية الشاد وتدمر. وبالمعنى السوسيولوجي والاقتصادي كانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت منطقة "الجزيرة" وبالتالى مدينة القامشلي بوجه خاص تنفرد عن بقية المناطق السورية في أن معظم سكانها من الوافدين الذين قدموا من مناطق الداخل السوري (دمشق وحلب) بحثا عن العمل الموسمي ثم استقروا. أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هربا من الاضطهاد العرقي أو السياسي.

ذلك جعل القامشلي موطنا لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين والبدو الرحل والعشائر المستوطنة الاقطاعية، الأمر الذي استدعى تعددية أخرى على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراث والأساطير. وهذا الموقع الفريد لمنطقة "الجزيرة" يذكر على نحو مدهش بالأبيات التالية من الشاعر اليوناني كوستيس بالاماس.

ذلك المثمن القائم على هندسة مريعة، والذي قطنه

محاربون قدماء

كان يتحكم بالسهول، مثل ذروة مجللة بمشيب ثلجي

معمر

من بابل الى سورية، ومن جبال طوروس الى لبنان.

من قلاع طرسوس الى خلافات بغداد (1)

في القامشلي ولد سليم بركات سنة 1951. وفيها ترعرع ودرس وحصل على الشهادة الثانوية وانتسب الى جامعة دمشق - قسم اللغة العربية وآدأبها في العام 1970. ثم استقر نهائيا في العاصمة السورية بعد انتقال أفراد أسرته اليها. وفي عام 1971. وهنا اعتمد على الذاكرة الشخصية، نشر بركات أول قصائده في مجلة "الطليعة" الأسبوعية السورية التي كانت تضم قسما ثقافيا دسما وحداثيا. استقطب الأسماء الشابة بصفة خاصة. آنذاك.

كان المشهد الشعري السوري يضم أمثال علي الجندي وممدوح عدوان وعلي كنعان ومحمود السيد ومحمد عمران في صفوف الشعراء الأكبر سنا وتجربة ونتاجا. "المكرسين" لهذا السبب الجمالي أو ذاك السياسي، وكان يضم أمثال نزيه أبوعفش وعادل محمود وبندر عبدالحميد وابراهيم الجرادي ومحمد مصطفى درويش ومحمد منذر المصري في صفوف الشعراء الأصغر سنا وتجربة، والأقل اندماجا في المؤسسة.

في خلفية هذا المشهد الأجيالي. إذا صح القول. كانت أشكال كتابة الشعر تخضع لضغوطات جمالية (صامتة بمعنى ما) من المعلم الكبير محمد الماغوط، الذي أصدر مجموعته الشعرية الثالثة "الفرح ليس مهنتي" ثم انزوى في عمل وظيفي محض هو رئاسة تحرير مجلة مغمورة اسمها "الشرطة". وضغوط أخرى غير صامتة مارستها قصائد شعراء قصيدة النثر السورية، من أمثال: سليمان عواد، وسنية صالح، وحامد بدوخان، واسماعيل عامود. كان شكل التفعيلة هو السيد بصفة إجمالية، ولكن "التعايش السلمي" مع أشكال الكتابة الشعرية الأخرى (وقصيدة النثر بصفة خاصة) كان سيد اللعبة في الآن ذاته، بدليل الترحيب الواضح بنشر نصوص الشعراء الشباب في منابر رسمية مثل مجلة "الطليعة" وملحق "الثورة" الأدبي، وشهرية "الموقف الأدبي" الصادرة عن اتحاد الكتاب. آنذاك أيضا، اخترق سليم بركات هذا السطح الراكد، الرتيب، المتوافق على تعايش سلمي بين الأجيال والأشكال والموضوعات.

واذا لم تخني الذاكرة، هنا أيضا كانت قصيدة "نقابة الأنساب" هي الكتلة الثقيلة التي سقت بغتة على السطح الراكد وأحدثت ارتجاجا عنيفا كان من المحتم يصغي اليه الجميع:

"هذا وجهي العصري"

أنا آت

فليرقب كل مليك شحاذ في أرض الردة من أين تجيء

الطعنات.

عبر تخوم الغربة في أجفان صبايا وعبر الساقية

اختصر الزمن الخائف في عين النسوة. أزجي الزمن

القرشي اليها

لا الدمع ونزف الفقراء ينيخ الرحل، طوافي

خلفه قوافل زغب.. فليرقب

كل مليك شحاذ في أرض الردة من أين تجيء

الطعنات

"هذا وجهي العصري"

بلا نعل أرحل نحو بلاد الفرس وأمصار الروم وأرفع

وجهي للظلمات أسائلها

وأسائل رجلي الداميتين عن الأرض العمياء وهمس

خفافيش سماني

وبكل مثولي بين يد الغربة أصرخ

تصهل أفراس الحرب على أبواب الكعبة يا أهل الشام

ووحدي

أبسط للملتجئين الى ظل الأحجار السوداء ودائي

أتقطع حين ينوس الموت على وجه الحجاج

وبين الصدر المشرع للطعنة والرمح الظامي اتخثر.

أزحم ملكوت الرهبة صدعا يفصل عربات الزمن

اللاهث قدامي ووراثي

أتصاعد في أنفاس الكعبة جمرا تتنفسه الصحراء فتحبو

حاملة هزج قبائلها نحو قوافي الحرب، أزنر نسب

الراجل بالفارس.

والهارب بالثابت في الحومة حتى يرخي النخل النادب

جنح الدمع علي..

أبايع في حمحمة الأرماح لواني

أضرب شرقا، غربا، ضرب اليائس.. يسقط وجهي

الأول

أضرب. يسقط وجهي الثاني

أتراجع بالحجاج الى عرفات غبارا يتكسر تحت حوافر

ريح الوهن القاصم

ثم نموت لنحلم

ثم نقوم لنحلم

ثم نقصد أوردة كي نلمح في الدم مجيء الأشجار مع

اليوم التالى عاقدة

فرح الأنهار على الهامات عمائم (2)

كان الجديد واضحا وطاغيا وآسرا. وكان صارخا أيضا، في هذه الفصحى الحارة النزقة المصفاة، التي لا ترجع أصداء البيان العربي التقليدي ولا المجاز البلاغي المعتاد. وفي هذه البنية الايقاعية المتسارعة وفق تخطيطات متقطعة ومتصلة في آن، وفي هذه المرجعية التاريخية والتراثية الشفيقة بقدر امتزاجها الكثيف، وفي هذا التصاعد الدرامي لضمير المتكلم المفرد، الأشبه بـ "أنا" جمعية لا تكشف عن تعدديتها الا في الخاتمة المفاجئة، وفي هذا التقسيم البارع للسطور الشعرية، والتغييب الذكي للقافية. والهندسة السلسة للعلاقات التركيبية بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

كان سليم بركات في العشرين من عمره حين كتب هذه القصيدة وكان الحضور الانساني لهذا الفتى الكردي القادم من أقصى الشمال الشرقي (بجسده النحيل، وقسمات وجهه الطفولي، والدهشة الذاهلة التي لا تفارق محياه، والبراءة الطافحة التي لم تكن تطمس بريق الذكاء والتوقد)، قد بدأ يمارس فتنة غير مألوفة في الأوساط الأدبية السورية مطلع السبعينات، سرعان ما انقلبت الى افتنان بالقصائد اللاحقة التي سينشرها بركات في الدوريات السورية: "مبعوث الفراشات"، "قنصل الأطفال"، "المطالبة بجسد فراشة غريبة". ولن يطول الزمن حتى تضيق العاصمة السورية بقلق هذا الـ "رامبو" الكردي المتمرد الفاتن فيغادر الى بيروت باحثا عن الحرية الشخصية أولا، والهامش الحر الذي سيتيح له نشر قصائده ذات الموضوع الكردي الصريح: "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة"، "الكواكب المهرولة صوب الجبل"، "أنا الخليفة لا حاشية لي". وهي القصائد التي ستشكل العماد الأهم في مجموعته الشعرية الأولى ذات العنوان الطويل وغير المألوف: "كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا" (1973).

وكما أحدثت قصيدة "نقابة الأنساب" صدمة بهيجة في دمشق، كذلك أحدث نشر قصيدة "دينوكا بريفا..." صدمة مماثلة، أكثر تعقيدا ودلالة في الواقع، حين نشرت للمرة الأولى في مجلة "مواقف" سنة 1972. كانت القصيدة تطرح اسم سليم برك ت بقوة، وترشق الماء البارد في وجه أعراف الكتابة الشعرية العربية في قلب بيروت، عاصمة الحداثات العربية، وتكرس الشاعر ناطقا بليغا (بفصحي جبارة غير مألوفة) باسم الموضوع الكردي، في التاريخ والجغرافيا والحكاية والأسطورة. آنذاك لم يخف على أحد، وفي طليعتهم أدونيس رئيس تحرير "مواقف" الذي سارع الى احتضان القصيدة مثل مجموعة بركات الأولى، أن هذا الصوت ليس جديدا فحسب، بل هو مباغت وانشقاقي واختراقي.

وكانت القصيدة قد أحكمت شد الروابط بين الحكاية والفانتازيا، بين الوقائع المادية ومحفوراتها السرية في باطن الوعي بين التجسيدات البدئية لما يجري على سطح المحاكاة الطبيعية والتصوير البصري التشكيلي الآسر، بين المكان بوصفه أكثر من مجرد كيان جفرافي معرف أو قابل للتعريف، وبين المكان ذاته بوصفه موقع التنقيب عن الاستعارة المفتوحة، عن الهاوية التي تتقلب فيها حكايات البشر (الكرد والبداة والآشوريين والشركس)، وحكايات الحيوان (الذئاب والنعاج والكلاب السلوقية وبنات آوى). وحكايات الطير (الكركي، الزرزور، الحجل)، وحكايات النبات (السرخس، الخزامى، العناب)، هذه التي تأتلف مرارا لتشكل حكاية واحدة حاشدة لأسطورة تنفجر بعنف، في اللغة وخارجها، وفي الصورة وأعلى منها، وفي الايقاع المنتظم والايقاع المتفتت.

وهذه القصيدة تسجل، أيضا، أول أمثلة استخدام سليم بركات للنثر في قصيدة تواصل الاعتماد على التفعيلة، وإن كانت تلجأ أيضا الى "تذويب" السطر الشعري المستقل عن طريق إدخاله في مقاطع تدويرية طويلة. ولعل بين أفضل ما أنتجته الكتابة الشعرية العربية المعاصرة التي تعتمد النثر ذلك الاستهلال الأخاذ الذي يفتتح القصيدة:

عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجر

مؤخراتها فوق الثلج

وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب،

أسمع حشرجة دينوكا.

في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت

السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط

العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية

تسوق قطيعا من بنات آوى الى جهة أخرى خالية من

الشظايا.

-2-

في قصائد مجموعاته اللاحقة سوف يواصل سليم بركات بحثه المديد (الشاق والمدهش) عن توازن الانواع، في المساحة الواسعة من حقول التنويع التي توفرها ديناميات الشكل الأدبي. في قصيدة "قنصل الأطفال" (من المجموعة الأولى) جرب اجتراع نسق شعري تركيبي يعتمد ايقاعات الجاز والتتابع السيمفوني في آن معا. وفي "اقتلوا روناشتا" (من مجموعة "هكذا أبعثر موسيسانا"، 1975) اعتمد المشهدية المسرحية، والكورس، والمرونة النغمية للايحاء بالأجواء الاحتفالية والرثائية والطقسية، وفي "الفصيلة المعدنية" (المجموعة ذاتها) قارب النثر من جديد، وإن كان قد فصل المقطعين النثريين عن جسم القصيدة بوسيلة منحهما عنوانين مستقلين: "سيناريو للشعر"، و" سيناريو للثلج". وفي "البراري" و" فراشات للعواصم" (مجموعة "للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك" 1977) حاول تقديم الجملة الشعرية التي تكسر علامات الوقف والترتيب الطباعي للسطر الشعري، وترفد التشكيل الهندسي للصفحة بتفصيلات ملحمية وتغريب لفظي ومقاطع متجاورة محاطة بأشكال هندسية. كذلك تسجل هذه القصيدة غنائية طافحة طارئة على أسلوبية بركات، وميلا الى تشديد القافية، والى الايجاز المقطعي والتكثيف اللفظي:

للشهداء

أنثر قلبي كفراشات

وأقود الى أعشاش الماء

كبدي

وعصافير دمشق، وسمائي

وأهرول بين الأعشاش لأمسك موجا

أو عاصفة

وأهرول بين الأعشاش لأمحو

هذا الزبد العربي عن الأسماء.
كل شهيد يتقدمني الآن،

وللشهداء

أنثر قلبي كفراشات

وأقول: انكسري يا أعلام وغيبي

يا قصبات النصر المترع

بالأظلاف وبالطيب

ولينطلق الأمراء الى نصر أكثر مهزلة،

ولنطلق السفهاء.. سأعلو

نزقا كالغزو على واجهة الصحراء (3).

وفي مجموعته "الجمهرات في شؤون الدم المهرج والأعمدة وهبوب الصلصال" (1979) قدم سليم بركات القصيدة الواحدة الطويلة التي اعتمدت على شكل الكتابة النثرية، وتنويع المقاطع بين الفقرة الطويلة المدورة والسطر الشعري القصير، وتنويع الحرف بين أبيض وأسود، واستخدام الهوامش التي تحيل على ملاحق القصيدة (البغل الأعمى، الحدأة، بنات آوى، بقرات السماء، العرائس، الأدراج) كما اختتم القصيدة بتسعة أناشيد معتمدة على التفعيلة، متفاوتة الحجوم. مشتركة في شحنتها الغنائية العالية ونبرتها الرثائية وبنائها الايقاعي الرهيف. وفي هذه القصيدة الطويلة اتضحت أكثر فأكثر طاقات بركات اللغوية والتصويرية، وبدا أن لا حدود لعدته التخييلية في توليد وشائج بالغة التعقيد بين الصورة البصرية والصورة الذهنية وبين الدلالة القاموسية والدلالة المجازية، وبين مختلف طرائق حشد المعنى وتنظيم مستويات استقباله.

في "الكراكي" (1981)، وهي أيضا قصيدة واحدة طويلة من فصلين، جرب بركات كتابة نص شعري سردي الطابع، روى فيه حكاية ايلانا وديرام (النموذج الكردي من فولكلور حكاية العشق الثنائي، قيس وليلى في جميل وبثينة..). وفي الفصل الثاني القصير قدم بركات عددا من الـ "تعريفات" للكائن الآدمي (ايلانا وديرام لم وللحيوان (التيتل، الوشق، السلوقي) وللطير (الهدهد، البشروش، السنجاب). بعد سنتين سوف يصدر بركات مجموعته السادسة "بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح". وسوف يضمنها قصيدته البديعة "فهرست الكائن" التي ستواصل تراث "تعريف" الكائنات الحية، وسوف تمنحنا تلك الفرصة البهيجة في استعادة أدب الحيوان العريق، والاحساس بموضوعات الطبيعة كأشياء مشاهدة ومعاشة من الداخل وليس كمدركات ذهنية مفهومية. وفي العديد من الحوارات الصحفية اعتبر بركات أن الحيوان هو الحرية المتماهية على نحو مطلق مع الغريزة. وأنه هو "اللادنس" "الممتليء بعافية الدور الأعمى الأكثر جمالا".

وفي "فهرست الكائن" نقع على وصف للفراشة والفقمة، والحباحب، والحجل، والقطاة واللقلق والحنكليس، والخلد، والعنكبوت والحلزون والديك. والزيز، والطاووس، والفهد، والعصفور واليعسوب والخفاش، والثعلب، والحمار والغراب، والنسر، وفي وصف هذا الطائر الأخير يقول بركات:

أهو وصي الأقاصي يدون مديح الأقاصي، أم سهر

الريش على حجر المكان؟ لا يا سهر الريش، لا واسع

أو مديد إن تراءى من جناح: لا جناح لو لم يفق

الواسع المديد. وأنت، عليا, على أي حال، تعزل

الخيالات، وفي ظللت يتماوج الصلب. مره، وأخفق

كنبضة في الغد العالي، غد العاصفة وحدها أن تقرع

الفراغ القديم.

مر، لا:

فليمر الفضاء الحيران في ظلك المحير،

وليخلع المرئي مهاميز عصيانه. (4)

قصيدة "حديد"، في المجموعة نفسها، مؤرخة في "نيقوسيا، شباط -آذار 1983". وهي تدشن خروج سليم بركات من بيروت إثر الاجتياح الاسرائيلي لعام 1982 وترحيل الفلسطينيين من لبنان. وكان بركات قد ارتبط بمؤسسات المقاومة الفلسطينية في وقت مبكر من اقامته في لبنان، وكتب يوميات بعنوان "كنيسة المحارب" (1976 لم يصف فيها حرب الجبل، وتعاون على نحو وثيق مع محمود درويش في فصلية "الكرمل" ومع دار "العودة" للنشر، ودار "النورس" التي اختصت بأدب الأطفال. ولعل بين أجمل قصائد بركات تلك التي يرثي فيها صديقا طلال رحمة، الذي استشهد في حرب الجبل.

"حديد"، إذن، هي أولى قصائد سليم بركات بعد استقراره في نيقوسيا، سكرتيرا لتحرير فصلية "الكرمل" وهي ترتدي أهمية خاصة في تاريخه الأسلوبي، لأنها أولا تمثل نوعا من الارتداد الصريح و(العنيف ربما) الى شكل التفعيلة الذي كان بركات قد أقلع عنه بصفة شبه تامة: ولأنها، ثانيا: تمثل مزيجا ثلاثيا يتوازن فيه الموضوع الغنائي والرثائي - الملحمي والسيري - التاريخي، على نحو طاريء لم يسبق لبركات أن قاربه في هذا المستوى الرفيع من التكافؤ والتشابك والمتانة، ولأنها، ثالثا، كانت تنذر بما ستكون عليه موضوعات قصائده اللاحقة، خصوصا في التمثيل الميتافيزيقي لتفاصيل اقامته في المكان الجديد. كما في قصائد "منزل يعبث بالممرات" و"منعطفات. ظهيرة من ريش. دهاقنة يصفون الليل. غبار مسحور، وغد كالعداء يتهيأ لأزقة الغيب".

قصائد مجموعته السابعة "البازيار" (1991) سوف تعكس عودته الى نوع من السكينة الأسلوبية، والتأمل الأكثر هدوءا في التاريخ الشخص والذاكرة الجمعية والمحيط الجغرافي، سيكتب عن نفسه (في "أسرى يتقاسمون الكنوز" و "تدابير عائلية"). وعن قومه الأكراد (في "مهاباد")، وعن صديقا محمود درويش (في "محمود درويش: مجازفة تصويرية"). وفي هذه القصيدة الأخيرة رسم بركات تفصيلات المكان في بور تريه من علامات ووحدات رهيفة ومتنافية الدقة، تتناوب في التعيين والتجريد أثناء صياغتها لترتيب جديد من العلامات سرعان ما ينفك عن الانطباعات المألوفة التي تسندها اللغة الى العناصر فتتحول سيرورة الوصف الى ما يشبه الرسم التنقيطي الشفيق لصاحب المكان (محمود درويش). المحبرة حمى ذات مكاييل يندلق منها الصعتر، قربها تتعارك التواريخ كرعاة تداخلت قطعانهم، والغرف تتناظر، والرفوف الثقيلة تسهل خلسة عبور الكلمات من كتاب الى كتاب، الى أن تسير خاتمة القصيدة هكذا

ما المكان الأسير

حين تأخذ في يدك الريح صوب مفاتيحها ؟

ما الصدى؟ ما الحكاية، ما نزقها ؟

ما الأنين الذي يتهادى بسلطانه في هوى الحبر ؟ نهب

صغير

يخبيء للورد رائحة البن في سهر قاد هذي الحديقة

الى حيث يشكو الصباح

انه لم ينم في يديك اللتين اغتلى فيهما ذهب لم ينم

فأعدت الحديقة

الى وردها، وسرقت من العتبات الرقيقة

شعاعا له قسمات المكان، وأرخت للترف

بالذي أسرتك البراعم في ظنها أي ظن

سيلقيك في شبهات من السعف

كي يرى في أعاليه أنك أشفقت أن تنثر الريح أكبادها

في يديك

فآويتها والتجأت إليك ؟ برق

على زنبق أو عسل

يتلمس إنشاده ويغير عليك

بشقيقاته يتهتكن مثل القبل

فانتهب ما تشاء. المكائد من ألق، والحرير الأمين

يعيرك كتانه،

والهبوب الذي أنت فيه هبوب السنونو. (5)

-3-

في برهة شديدة الخصوصية من مساره الأدبي والشعري بصفة خاصة، كتب الشاعر والناقد الانجليزي صمويل تايلور كولريدج (1772-1834):

ما من أحد يستطيع القفر فوق ظله

ولكن الشعراء يقفزون فوق الموت.

كان ذلك عام 1802. قبيل وقت قصير من اعتراف كولريدج باحتباس الشعر في داخله. وما يعنيه ذلك من فقدانه لواحد من أمضى الأسلحة لمواجهة حالة حادة من تضخم الاحساس بالموت. ولقد قدم في عمله النثري الفاتن "دفتر هوامش" جملة تأملات ثمينة حول رغبة الشاعر في أن يموت مع موت الشعر، وأن "يذهب الى ما بعد الكلمات، حيث الظلمة نور والسكينة احتفال".

سليم بركات في قصيدته "تصانيف النهب"، والتي تفتتح مجموعته الشعرية الثامنة "طيش الياقوت"، يباشر طورا من تجربة الحياة مع الشعر، هو عكس التجربة التي وصفها كولريدج: إنه يدشن العقد الثالث هن تجربته الثرية بأكثر من محور قطع واحد مع أعراف العقدين السابقين، ثم يتأبط الموت بعد أن جاوره وجرده من أية رهبة ميتافيزيقية ويقفزان معا فوق ظل مراوغ لا يليق إلا بالشاعر في لحظة شديدة الخصوصية من مساره الشعري.

بمعنى آخر، في هذه القصيدة (ثم في القصيدتين التاليتين "الاقفال" و "استطراد في سياق مختزل"، خصوصا وأن موضوعة الموت تطفى على المجموعة بأسرها). يبدو سليم بركات وكأنه يدخل في جهاد مرير مزدوج مع النفس الشاعرة القديمة ومع الأعراف الشعرية السائدة، سواء لجهة تطوير التجربة الفردية من حيث انتهت في آخر مجموعة شعرية أو لجهة مخالفة الأساليب والخيارات التعبيرية المحيطة التي استقرت نسبيا وحظيت بقدر لحير من الاجماع على صعيد الكتابة والذائقة والتغطية النقدية. إنه أشبه بمن يجاهد لكي يكتب شعرا لا يذكر بسليم بركات بقدر ما يحرض على معارضته، ولا يستدعي القراءة الآمنة بقدر ما يدفع الى أخرى منفردة محفوفة بالمشاق والعسر ولا يستكمل مرحلة جديدة من النضج إلا إذا أمات (عن سابق عمد وتخطيط فنيين) قسطا هاما وغاليا من مراحل النضج السابقة.

وهذه في الواقع، حالة نادرة من حالات تطوير التجربة الفنية الشخصية، يعلمنا التاريخ الأدبي أنها تكاد تقتصر على الشعراء دون الروائيين والتشكيليين والموسيقيين. ويغير جواز المرور الجبار الذي ندعوه بـ "اللغة الشعرية"، ليس للفنان كبير حظ في تحدي أنظمة المعنى والدلالة والتعبير، ثم إعلان اليأس مما ترتبه وترسبه في القرار الجمعي العميق للقراءة، إذا لم يتحدث المرء عن إعلان التخوين والمقاطعة الشاملة، وكيف يحق لغير الشاعر أن يقول على سبيل المثال:

أتصفي الي ؟ أراك سهوت، أيها الموت، وأنت تحصي كتائب من أشباح تمهد الوقت دفترا دفترا لانتصار الحدائق -أشباح كلوعة تصعد المدرج الى الحقيقة، ثقيلة في حديدها، وخوذها لتسلم الباشق الى اليقين.

أتصفي الي أم الى حياة تسهر، أنت، على كنوزها، أيها الموت ؟ تعال ندخل أسواق الجزارين الذين يستميلون الحكمة الى فكاهاتهم، رافعين رؤوس الأغنام وأحشاءها الى الموازين، وقد يقشرون أظلاف الماعز، أو يهوون بالسواطير على اضلاع الثيران. تعال. إنهم يصنفون العضل، ويرققون الشحم كالمجازات، كأنما يعرفون أن المضغ الذي يقرقع إنما هو من فم الأرض تمضغ القيامة قبل نومها. (6)

اللغة هنا تدخل في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (أشباح كلوعة، تصعد المدرج الى الحقيقة، تسلم الباشق الى اليقين، يرققون الشحم كالمجازات)، وفي تناظرات صوتية حادة أقرب الى تنظيم النشاز من حول التآلف. وهي تقص القاريء عن خطوط استقباله الواعي (التقليدي) لدلالات الألفاظ، وتدفعه الى المستوى السحري الخام للمفردة حيث تدور عمليات الاستقبال في محاور استعارية - لاواعية (الأمر الذي سأتوقف عنده لاحقا). وهذه خصائص لصيقة بتجربة سليم بركات وأشبه ببصمة شخصية طبعت نتاجه، ربما منذ قصيدته "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة" والتي تفتتح مجموعته الشعرية الأولى، وانتهاء بقصيدته "تدابير عائلية" التي تختتم مجموعته السابعة. ولكن سليم بركات هنا غيره في المجموعات السابقة، والبصمة إياها تبدو وقد تجللت بغلاف يطمس الكثير من معالمها دون أن يفلح في حجبها تماما.

وهو غلاف غير رقيق في واقع الأمر، لأن سليم بركات يصنع عادته من عناصر متواشجة تضم الجملة الاستعارية والعمارة الايقاعية العليا، والتصميم الطباعي الذي يضرب صفحا عن تقطيع النص الى سطور شعرية لصالح توزيعه مقطعيا، ثم اعتماد جرعة جديدة مفاجئة من الغنائية الخفيضة ولكن الصلبة والانشادية والبوحية، كتقي مع جرعة أخرى من التوسيع الملحمي للموضوع المركزي والموضوعات التفصيلية.

تشيخ طويلا أيها الموت فتنسى أنك موت ينساه الموتى ومجازاتك من صوف أغبر أو من قطن مبلول، أيها الموت، مجراتك منكوبة. اسمك منكوب وحبرك الليلي الذي تدون به فراديس الأكيد يفتح الممرات - في السطور- لشموس الموتى

يا لسريرك الذي تمسد الحروب بأيديها القطا نية، ملاءته القصيرة، يا للحروب تطرق عليك الباب في خجل، أيها الموت، لتشغلك كأنثى بحديث الذكر، يا لهباتك التي لا تقدمها مرتين، يا لدوي السطر المحمول على يديك وهو يمزق الكتابة:

ونحن، في المثال أعلاه من القصيدة الأولى ذاتها، نفتقد بعض أسلوبية سليم بركات، أو نفتقد تلك الأسلوبية بمقدار يتناسب مع "التمويه" المتعمد الذي خطط له في غمرة انشغاله بتحدي السيرورة السائدة وممارسة اللعب الحر على سطح الجملة مثلما في باطنها. هو ليس سليم بركات تماما، ولكنه الشاعر ذاته الذي يعطينا أنحشر من برهان واحد قاطع يجعلنا لا نتردد طويلا في وضع توقيعه أسفل المقطع، بل واستذكاره على هوانا، واسترجاع ما نشاء من مقاطع سابقة رسخت في ذائقتنا وليس في وسعه أن يحسن تمويهها الى درجة التضييع أو الاماتة.

هذه القصيدة كتبت في عام 1992، وهي نموذج رفيع على المخاض الذي اعتمل في نفس سليم بركات وهو يقسم طاقته التخييلية بين نص روائي يوظف المادة الأسطورية والتاريخية الكردية، ونص شعري خاضع لضغوطات تلك العدة اللغوية الفصيحة التي هيمنت مرة والى الأبد، وكان امتداد معجمها الثر في الأعمال السر دية بعد تلك الشعرية مدعاة ألق وقلق تعبيريين، في آن معا. في القصيدتين التاليتين (والمجموعة تتألف من ثلاث قصائد فقط) يستريح المحارب بعض الشيء، وتهدأ فورة عبور الظل إذ يميل الشاعر الى التصالح مع ظله اللاهث خلفه، وتنتقل صيغة ضمير المتكلم /ضمير المخاطب، التي تهيمن على المجموعة بأسرها من معادلة الصوت الذي ينتهك ذاته أثناء مساءلة الآخر (الموت، العدم، الشعر، العزلة، التاريخ، المكان،..) الى معادلة الصوت الذي استرد ذاته من جديد عبر القصيدة، لأنه خالقها الذي انقلب الى مخلوق لها على حد تعبير هايدجر:

هب شققت المعاني بين تلابيبها، ودفعت الغد، خلسة

بيديك ليتهاوى على الأدراج المنحدرة الى كمائنها،

هب جمعت إليك المذعورين ليقتسموا رئتيك اللتين

من حريق، وطحنت الأزل في أجران المجرات،

مقتدرا باقتدار الحمى ذاتها، المنزلقة بدلافينها

الصلصالية الى الحبر – هب هذا:

لن تظنن رجاءك إلا نسخا من رقيم الفراغ الجابي.

فأعد، أيها المطوق، مجازات الشكل لينجو اللون،

وموه خندق النور من خلال القيافين.

ففي يأسك نجاة الأكيد، وفي انشغالك عن الأقدار

تشغل الأقدار بوسائسها

وبقدر ما تبدو بعض المفردات في معجم سليم بركات أثيرة لديه، فإنها تظل أثيرة لدينا نحن بدورنا ولسنا نفتقدها في الواقع صانعة لتراكيب لغوية فاتنة، ومشاركة في الانتظام الخفي الدقيق لعمارات بركات الايقاعية، ومفجرة في دخيلة القاريء تلك الفضاءات الغرائبية المتينة في فصاحتها والمرنة المنبسطة في انتهاكها لشيفرات القول التقليدية. وحين نقرأ: "يا المآت ذو الصحاف المثلمة كأن عضها الازل فأدمى الابدية. ويا الذي آلمك ميزان وعدمك نزيف الخوف يتحرى الطبائع بحصافة المهرج الذي من نبات، أيها الموت يا الحاذق كوحشة، أيها الارث النوراني للنسيان النوراني.." فأنى لسليم بركات أن يقصينا عن سليم بركات ! ألسنا ندرك أن قوله "كأن عضها الازل" أو "ويا الذي" لا يمكن أن يشبه البتة (احتمال) القول: "كأنما عضها الازل" أو "ويا أيها الذي؟" الا نقف عي خفايا نسيبى لغوي متين يصنع عمارة ايقاعية متينة ؟

وفي هذه المجموعة الثامنة جاهد سليم بركات للقفز فوق ظله، وجاهد لاستفزاز القراءة التي تقتفي الظل، فنجح مرارا وعلى نحو جدلي يسجل في رصيده، حتى حين كانت المشقة شرطا محتوما، قبيل وأثناء وفي اعقاب القراءة، والارجح أن القاريء، من جهته سيجاهد هنا وهناك دون أن يضل طريقه الى سليم بركات، وسيسجل ذلك في صالح دينامية متبادلة تبلغ أوجها في تلك البرهة الكثيفة من التصالح الانساني والجمال والتعبير بين الشاعر والظل صحبة الموت !*

-4-

الشكل المفتوح كان أحد أبرز الاستراتيجيات الأسلوبية التي استقر عليها سليم بركات، من أجل استفزاز القراءة والمجاهدة لتطوير شروطها في آن معا. ومنذ قصيدته الناضجة المبكرة "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة" أتيح لنا أن نقرأ ما يلي:

1-

دينوكا

ماذا أقول للصيادين الذين يضعون سروجا فوق ظهور الكلاب السلوقية في سفح سنجار وجبال عبدالعزيز؟ أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمين التراب ومزاود النعاج. كبيرة أنت، بليلة، مسكونة بالحصاد وبي.أسمع والدك يصيح: دينوكا.. اسمع والدتك تصيح: "دينوكا، احملي خبز الشعير هذا الى المهاجرين وقولي أن يستريحوا قليلا".

كان عددهم يزداد يوما بعد يوم.. من طشقند وخورستان وأرمينيا والجنوب الغربي لروسيا حملوا أشرعتهم وصرر السرخس الى الجزيرة بلا أحذية أو مناجل. وكنت صغيرة لم تدركي أنهم *يحتاجون الى الماء والى امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيدا في شقوق البراري لتنبت في سني الهجرات عدسا وجنادب. أنت تجهلين كيف يعتليء الاخدود بين "عامودا" و "موسيسانا" بجثث البغال والأعضاء المبتورة. تجهلين من أين يحصل البدو على بنادق فرنسية، ولماذا ينتفخون على تخوم القرى حين يهجمون عاصبين رؤوسهم بعباءاتهم. قيل: خرجت من جهة العراء، وخرجت "بريقا" من جهة العراء،، وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة السراي. وقيل إنك عدت بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخر كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول.

دينوكا.. دينوكا

أنا متعب، ولا أسمع صوتك حيث أرى هضاب

"معيريكا" وعربات الأكراد المحملة بالقش".

2-

أنا خلفك يا ابنة أيامي الزانية

أدعو ورق العناب الى حيرة شعب: "خف الى

ضاحيتي

يا ورق العناب بسوريا". عجل الله، أنا مشغول

بدخان يعصمني من حرية

أجيال تقتنص الأجيال، مداي سروج وعجاج

أقترح اسما آخر فيه لمائي

وأصاحب ثدييات العصر الى بهو سمندله

وخزاماه.

3-

أخرج من أعرافي ودياري جنديا من جند الوثنيين

وأخرج مرتزقا بالنحل الى أزهار الغرباء

فليكن الموت إذن ملء تراباتي

ولكن النهر رسول الاعدام، أواكبه حتى مسجد

آبائي بالأنباء

وأنا السابح في الياقوت المغلق والأيام المغلقة

أنهال على لغة الأحلام العامة بالطعنات، وأجعل

وجه الأطلنطي

شرفة موسمة تتهيأ للقافلة الشبحية

وأخلى جسدي السفلي يسوح بمزرعة تتشابك فيها

الدمعة والسوسنة

وأخلي لنداماي مسارب حول ضفاف الأبدية (7).

في النمط ( 1) تبدو الخصائص الموسيقية الكامنة على نحو موروث في اللغة الطبيعية وكأنها تنشل وتستفق على أفضل وجوهها إذا عملت جنبا الى جنب مع بعض أنواع المعني (ولاسيما المعنى الاسطوري) لتحقيق الاستقطاب الشعري. علاقة كهذه هي، في حقيقتها، خلخلة أو إعادة صناعة للشيفرة أو جملة الشيفرات التي تحملها المفردة المستقلة، والتي تزيغ أو تغتني أو تنفجر عند تواشجها مع مفردة ثانية. وتلاعنه هذه الاوالية في أمثلة من نوع: "يحتاجون الى الماء والى امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيدا في شقوق البراري لتنبت في سني الهجرات عدسا وجنادب"، أو: "أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة تشمين التراب ومزاود النعاج، كبيرة أنت، بليلة مسكونة بالحصاد وبي"، أو: "حملوا أشرعتهم وصرر السرخس".

من جهة ثانية يقوم تنظيم الفقرة في ثلاثة أنساق تكاملية (المشهد المكاني، المشهد الاستعاري، المشهد المكاني - الاستعاري) وشبه متساوية في تركيبها النحوي المضغوط، يقوم باستنباط عمارته الايقاعية الخاصة سواء في التلاوة أو في القراءة الصامتة. وشعر سليم بركات زاخر بهذه العلاقة بين التراكيب الشكلية في اللغة خصوصا وأن المفردات والعبارات تمتلك ميلا طبيعيا للاصطفاف في أنساق ايقاعية - دلالية ذات شخصية تكاملية، كما في نموذج الدور الايقاعي والدلالي الذي تلعبه مفردة "قيل" في المثال التالي: "قيل: خرجت من جهة العراء وخرجت "بريفا" من جهة العراء، ومن جهة العراء خرج"... " وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة اسراي. وقيل إنك عدت بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخر كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول.

النمط (2) يعتمد التفعيلة، لكنه يكسر نظام التقطيع الشعري، ويستكمل تفتيت حدود اللغة الشعرية /النثرية بالنهوض على الدرجة صغر من المجاز (حتى تكاد الاستعارة تختفي نهائيا)، فيبدو سليم بركات أشبه بمن يثأر لطغيان الايقاع على النثر الطبيعي بتغييب أوالية التواشج بينهما، كما تبدت في النمط ( 1). لعبته، هنا، محفوفة بالمخافر، إذ أن المجاز هو حقل لقاء شعرية اللغة الطبيعية بالمخيلة، الى درجة تجعل المجاز لا يأخذ شكل غطاء اللغة بل شكل تجسيدها وكشف مغاليقها. بعبارة أخرى، الاستعارة فكر الشاعر الفعلي وليست مجرد تقنية إبدال تدعم الاسلوب، وهي تمرينه الخلاق الذي يلزمه بالغوص عميقا في - وبعيدا عن - سطح الواقع الذي رسمت اللغة مفاصله وخرائطه عن طريق المصطلح والكليشيه.

ومنذ قصائده الأولى المبكرة برهن سليم بركات عي مراس رفيع في استخدام الاستعارة، وفي حجبها تماما حين يتقصد تحقيق أغراض فنية خاصة بينها تلك الدرجة صفر من الاعتماد على المجاز. ففي مثال النمط (2) يكون التعويض الاول عن درجة الصفر المجازية لـ "حيرة شعب" و " حرية أجيال" أو حتى "مداي سروج وعجاج" هو التخطيط الايقاعي المشدود، للمقطع بصفة عامة، والتخطيطات الثانوية المتلاحقة لأية عبارة تنتهي بعلامة وقف أو تشكيل إلزامي ناف للتسكين بصفة خاصة (الكسرة في "الزانية" و"السنبلة" بهدف التقفية والربط الموسيقي مع "ضاحيتي"). أما التعويض الثاني فهو العلائق التصويرية البصرية بين المدى والسروج والعجاج، وثدييات العصر في بهو وسمندل وخزامى الماء.

النمط (3) ينطلق من مسلمة الشعر الكبرى: الموسيقى التي تتيح للشاعر أن يقوم بما هو أكثر وأشد تعقيدا من نقل الرسالة، الأمر الذي قد يغريه بنسيان الرسالة ذاتها والانجرار خلف الايقاع اللفظي من أجل الايقاع اللفظي كفاية قصوى بذاتها. ومن اللافت أن سليم بركات برهن على سيطرة مدهشة على شدة وخفرت الايقاع في المقطع القصير عظما في ذاك الطويل، أو على امتداد القصيدة بأسرها. ولم تكن تلك السيطرة مبكرة بالقياس الى سنه آنذاك ( 21 عاما)، بل كانت متفوقة تماما بالقياس الى مجايليه من الشعراء وبالقياس أيضا الى عدد لا بأس به من أولئك الذين يكبرونه سنا وتجربة.

فيما بعد سوف يقدم بركات مئات التنويعات على هذا النمط الثالث تحديدا، وسوف يطور تقنيات بالغة التعقيد في مضمار التزويج الناجح للعلاقات الدلالية والعلاقات الموسيقية، أو تلك الكيمياء الصوتية الساحرة التي حاول أبو حيان التوحيدي استكشاف قوانينها الغامضة. وفي المثال التالي من قصيدة "قلق في الذهب". مجموعة "بالشباك ذاتها.."، يكشف بركات عن الكثير من مفاتيح واحدة من بصماته الأسلوبية الأثيرة:

أي قنص هوت وعول فبددت بعضي أسى على

وعدت

كي أراني، هنا في ظريف من الحطام، أو ثقل ليس

يروي وإن رواه الرماد،

كي أراني رفيقا من المراثي إذا يرف منها الجناح والبعد

بي ينقاد

أي قنص؟ سيذرف الليل قلبي الى الصباح. ويخفي

الأليف عني الجمشت

فرهين المشاع إني مطوق باللهاث الخفيف للماء، والحي

حولي حصاد

والفضاء أسر، فعد بي يا قلب، عد بي الى مشاغل

الريح حيث المكيدة حبر، وروحي نساء يداهمن من

حواري المغيب هذا العراء. (8)

الصوت هذا يتنقل بين القول والغناء، وتدخل الكلمات في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (ظريف من الحطام، رفيف من المراثي)، وفي تناظرات صوتية حادة تارة وطلية طورا، تناغم في التواتر الهندسي لحروف العين (في السطر الأول) والراء (في السطر الثاني) والحاء (في السطور الثلاثة الأخيرة). والحال إن ضمير المتكلم يلعب هنا دورا شديد الأهمية في استكمال ألعاب العلاقة بين الوقع الدلالي والوقع الموسيقي، لأن القاريء إنما يزج بنفسه في هذه الشبكات من "تشريد" المعنى، ويمارس نوعا ذاتيا من إقصاء خطوط الاستقبال الواعية - الاصطلاحية للألفاظ والمعاني والدلالات والايقاعات، القاريء، بالقدر ذاته، يدفع بنفسه الى ذلك المستوى السحري الخام للغة، حيث تصاغ العلاقة مع المعنى بعيدا تماما عن الكليشيه، وفي قلب تشكيلات استعارية غير مألوفة لضمير المتكلم وهو يلقى في قلب مواجهات غير مألوفة بين العناصر والأشياء والأزمنة رماد يروي، ليل يذرف القلب، جمشت يخفى الأليف، حبر مكيدة حي حصاد..


---------------------------------------------------------------------

******* ******* E-mail: info@amude.de

ايوب صابر 02-26-2016 04:56 PM

في مناسبة سابقة (9)، اتيح لي أن أناقش مسألة التمييز بين الفضاء الطبيعي والفضاء التشكيلي في اللغة الشعرية معتبرا أنها واحدة من أبرز الاستراتيجيات الأسلوبية التي تكفل لقصيدة النثر العربية المعاصرة إمكانية واسعة لاكتساب أرض جديدة في العلاقة مع القاريء، وفي سياق محدد هو منافسة القصيدة الموزونة، سواء استخدمت عمود الخليل أم التفعيلة. وقد كان شعر سليم بركات أحد أمثلتي التطبيقية.

وقد أوضحت أنني أعني بالفضاء الطبيعي ذلك الحيز الذي يدرك بدءا من الجسد الانساني والى الخارج المقابل. سواء أعانت عناصر ذلك الحيز مشهدا متعدد الأجزاء (كما في الاطلاقة على منظر طبيعي) أو مشهدا وحيد الجزء (كما في النظر الى شجرة عزلاء)، أو مشهدا مركبا قائما على الفراغ المادي والامتلاء الرمزي (كما في الوقوف أمام بيداء صحراوية أو بطحاه مغمورة بالثلج). والشاعر في مواجهته لهذا الفضاء الطبيعي يقيم توازنا من نوع ما بين مخيلة ترشقه خارج نفسه، وذاكرة بصرية تشده الى داخل نفسه، ومكان يغلف المخيلة والذاكرة فيبقى الشاعر خارج نفسه وداخلها في آن معا.

الفضاء التشكيلي في المقابل، هو الفضاء الطبيعي وقد انقلب الى رؤيا إبصارية خارقة لوسائل الإدراك المعتادة، وانهارت فيه علاقات التراتب الوظيفي الثلاثي بين المخيلة والذاكرة البصرية والمكان. وتكونت عناصره من مزيج تركيبي لا يسمح بتبادل أو إعادة توزيع أو قلب الأدوار بين عناصر التقاط بصري تشكيلي على الصفحة المطبوعة ذاتها: اختيار شكل هندسي لتوزيع النص، تدوير أو قطع السطور الشعرية وفق عمارة غير مألوفة، إفساد القواعد المعتادة لعلامات الوقف، استخدام قياسات أو ألوان مختلفة للحرف الطباعي، وما الى ذلك.

وعلى سبيل المثال، يقول سليم بركات في القسم الأول من قصيدته "ديلانا وديرام" مجموعة "الكراكي".

هذا عالم يتلى. هذا حبر يتلى وديرام ممسك بريشة الجذور يخط رسائل للضباب الوالي، هادئا لا يفكر في نبيذ ما، أو في نهب، بل في النهر المعلق فوق المدينة، النهر الأعزل الجسور، الذي يهييء أعشاشا للهاث الأسلحة ويستطلع الحجر، وديرام يحصي من شرفته ملوكا يمرون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة على عصي البازلت ناقرا بأنامله على غشاء المشهد، كأنما يستوقف الغبار العابر ليحمله زهرة ما، أو طبلا، الى الاعياد التي تتهرأ نعالها من الرقص على المياه. ويرفع بصره، ثانية الى الأعلى الى النهر الجسور ذاته، المعلق بكلاليب الآلهة، صارخا:

"لماذا تتبعني أيها النهر ؟

لماذا تنفخ في بوقك النجيلي فيصعد المنشدون إليك،

حالمين أعضائي في

برعم، ويقظتي في أباريق الصلصال؟

لماذا تريني القرى بين عفرتي إبطيك،

وتحزم المدينة في جريانك بحبل من السيفير وزيزفون

ومن الواضح هنا أن الفضاء الطبيعي يتألف من أجزاء متعددة ولكنها أجزاء لا تصنع أي "مشهد طبيعي" متجانس في وسع الذاكرة البصرية أن تستعيده على الفور من مخزونها البصري وفي هذا المستوى الأول تكون القراءة ملزمة بالانخراط في "تشكيل" مشهدية مركبة من نوع غير مألوف (إذ ليس في وسعها أن تشكل مشهدا أحاديا من نوع مألوف مسبقا)، وتكون قواعد التشكيل مرنة ومفتوحة وحرة وخاصة بكل قاريء على حدة، ولكنها في الآن ذاته تظل محكومة بقواسم مشتركة عليا هي أجزاء المشهد الطبيعي كما اندر فبت في القصيدة. في المستوى الثاني تكون القراءة ملزمة باستحضار موقع الشاعر الانسان في هذه المشهدية التشكيلية (وهو، أيضا استحضار القاريء لنفسه في المشهد). الأمر الذي يفضي الى التماس زمنية الفضاء الطبيعي، وهي زمنية تشكيلية بدورها لأنها تقوم على أفعال متغايرة الأزمنة، وعلى صيغتي التصريح والسؤال فضلا عن العلاقة التبادلية بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.

في المستوى الثالث تكون القراءة ملزمة بتكوين استجابة دلالية إزاء الصياغات التشكيلية لعلاقات المخيلة والذاكرة البصرية والمكان، كما في "دعني في مداي المغلق بثلاثين كبشا وسرير واحد، تتخاطف النساء عليه مملكة لم تكتمل: أهذه استجابة مجازية بلاغية صرفة ؟ أهي استجابة بصرية ؟ أهي استجابة ذهنية رؤيوية ؟ أم هي مزيج من هذه أو تلك ؟ وفي مستوى رابع لابد للقراءة من أن تتخذ موقفا من هندسة توزيع السطور والفقرات والمقطع بأسر». أي انطباعات تخلفها هذه الهندسة ؟ هل تساهم في صناعة ايقاع متباطيء أم متسارع ؟ هل تقوم بضبط الاستقبال. أم تفلت زمامه: هل تتكامل أم تتنافر مع الفضاء التشكيلي الأعلى الذي يغلف القصيدة الطويلة الأم ؟ وما الفارق؟

غير أن القراءة ملزمة بتطوير مستوى خامس شاق بقدر ما هو محرض على توليد جماليات تشكيلية عالية، مستوحاة من ذهول الكائن أمام عبقرية المكان. أو بالأحرى أمام أعجوبة انكشاف خصائص بعينها من عبقرية المكان، لم تكن وليست مرئية خارج برهة انقلاب الفضاء الطبيعي الى فضاء تشكيلي. والمرء يتذكر قول شارل بودلير:

آه، كم العالم كبير في وضوح المصابيح

وكم العالم صغير في أعين الذاكرة.

واستدعاء الذاكرة، أو الذاكرة البصرية على وجه التحديد، هو معضلة المستوى الخامس من قرا؟ة تجهد لكي تصالح بين مخزون الصور الطبيعية وبين الطاريء التشكيلي الذي يعيد استقلاب تلك الصور دون أن يطمسها، أو يغلفها بأغشية استعارية دون أن يحجب قوامها العضوي أو مكافئاتها المعيارية. ودير ام في قصيدة سليم بركات الشاعر الواقف في قلب العالم ساعة انكشاف المكان أمام نهر يتبعه حاملا قنديل إيضاح الواضح (لماذا تتبعني أيها النهر: لماذا تحمل قنديلك والأرض واضحة كما ترى؟). وديرام هو الجسد الانساني وقد انقلب الى مركز لاسباغ الزمن على الفضاء الخارجي (دير ام يحصي من شرفته ملوكا يمرون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة على عصي البازلت). ولكنه المركز الذي تتصارع فيه ذاكرة بصرية طبيعية وأخرى منبثقة من إبصار المشهد على نحو رؤيوي.

وفي النص السابق يمكن العثور على خمسة أنماط من هذا التصارع:

1- بين الصور المتماثلة في كيفية الفعل والمتغايرة في مادة الفعل "هذا عالم يتلى. هذا حبر يتلى".

2- بين الصور المتعارضة في كيفية الفعل والمتماثلة في مادة الفعل: "لماذا تكشفني لنخيل البحر المتشح بهزائم الساهرين ساهرا يؤجج الحقول".

3- بين العنصر الملموس موصوفا في صورة مجردة (النهر المعلق فوق المدينة)، وبين الفعل المجرد والمادة المجردة (النهر "الذي يهييء أعشاشا للهاث الأسلحة، والنهر الذي يستطلع الحجر").

4- بين الكائن الانساني (ديرام) والعنصر الطبيعي (النمر، العاصفة) والموضوع المادي (الجرن، العدس) والفعل الطبيعي (الطحن) المرفوع الى مستوى استعاري: "كلانا جرن تطحن العاصفة فيه عدسها".

5- بين الصورة الثابتة (سهم الشمال، نورج المحارب، رهيف المدينة)، وبين الصورة المتحركة (نافرا بأنامله على غشاء المشهد، تنفخ في بوقك النجيلي، تحزم المدينة في جريانك).

وفي جميع الأمثلة السابقة لا تملك ذاكرة القاريء البصرية أي مخزون صوري طبيعي يسمح بالتفكير في "عالم يتلى"، أو "نخيل متشح بهزائم الساهرين"، أو نهر يهييء الأعشاش للهاث الأسلحة، أو "جرن تطحن فيه العاصفة العدس ".. أكثر من ذلك، يبدو النص السابق - وربما شعر سليم بركات بأسره - وكأنه لا يستمد بنيته الاجمالية إلا من هذا الاحتشاد الزاخر لأمثلة التصارع بين مادة العالم الطبيعي وصور التقاط المادة ذاتها على نحو رؤيوي تشكيلي. ورؤية بركات تقوم تارة باسباغ المحتوى السحري - الطفولي على المشهد المألوف، أو تقوم طورا بترقية عناصر الطبيعة الخام الواضحة الى عناصر تشكيلية متسامية في مشهد رؤيوي خارق للمألوف، الى جانب أنها - في الحالتين - تنتهك أعراف الذاكرة البصرية وتحفز على الرؤية التشكيلية خارج تلك الأعراف.

غير أن قواعد القراءة الأول لأي نص أدبي تظل شبيهة بقواعد عزف مقطوعة موسيقية للمرة الأولى: لا مناص من الالتزام بما تقوله العلامات المدونة على السلالم الموسيقية، وفي الني الأدبي تبدأ هذه العلامات من القراءة "المنتظمة"، أي تلك التي تبدأ من اليمين الى اليسار، وتمر على الكلمات كما رتبها المبدع في السطور. وهي تاليا ملزمة باستقبال بنية السطر النحوية والدلالية والمجازية كما شاء المبدع تقديمها. وملزمة بالسير في السياق الرؤيوي الذي حاول الشاعر صياغته. بمعنى آخر، ليس من حق القاريء أن يبدأ نص سليم بركات من منتصفه فإلى الأعلى، أو من ختامه فإلى المنتصف، وليس من حقه أن يبدل عبارة "نخيل متشح بهزائم الساهرين" بعبارة أخرى تقول "هزائم متشحة بنخيل الساهرين". وليس من حقه (إذ ليس ذلك في وسعا عمليا) أن يستنبط سياقا مضادا مستوحى من قلب عبارة سليم بركات ذاتها، الى أخرى تقول "لبلاب متجرد من يقظة النائمين" على سبيل المثال.

هذه بالضبط هي كبرى نقاط الارتكاز الدلالي لنص ينتهك الذاكرة البصرية المختزنة. فالقاريء ملزم هنا بتخيل ما يريده الشاعر أن يتخيله، وفق القواعد التي يرسمها الشاعر وليس استنادا الى أية قواعد "قياسية" أو "معيارية" متفق عليها. وما دامت كل الكلمات، ما عدا أسماء العلم ربما، قادرة على صناعة المعنى بالضرورة، فإن ملكات توليد المعنى هي وحدها التي تنشط وتتنبه حين تقف وجها لوجه أمام معضلة انقلاب الفضاء الطبيعي الى فضاء تشكيلي طاريء لم تتخيله الذاكرة البصرية من قبل، وهو غير مدون في طبقاتها وتواريخها. وأما إذا احتوت النصوص على مقدار عال من المواد المساعدة على إحياء الذاكرة البصرية، فإن حظوظها في توليد المعنى سوف تكون محدودة لأنها ستتناسب عكسا مع مقدار تقاعس الملكات من الانخراط في التخيل الطاريء غير المدون في الذاكرة البصرية.

يعلمنا تاريخ الانجازات الابداعية الفردية درسا كبيرا مفاده أن أعمال الأدب الاستثنائية قامت بواحد من انجازين: إما أنها أسست أسلوبية جديدة، أو تسببت في محاق أسلوبية قديمة، الأمر الذي يعني أنها - في النتيجتين - حالات خاصة للغاية وأدب سليم بركات نموذج رفيع على تلك الحالات الخاصة: شعره ضخ حياة جديدة في المشهد الشعري العربي المعاصر، وروايته أحيت عالما سرديا يكون فيه العجائبي مادة كبرى جبارة الالتماس واعادة انشاء العالم الفعلي. الأهم من ذلك.وهذه ليست مفارقة البتة، أن سليم بركات الكردي كتب بلغة عربية فصحى - حية، دافقة بليغة، إعجازية، فاتنة، طليقة، بالغة الثراء والجسارة والجزالة - ولعب دورا كبيرا كبيرا في تحديث قوامها التركيبي واستخداماتها البلاغية ووظائفها الخطابية، الأمر الذي يغني عن القول إنه بات بؤرة استقطاب ومعيار قياس ونموذج تأثير.

الأمر الذي يفني أيضا عن الجزم بأنه وراء تأسيس أسلوبية جديدة في الشعر كما في الرواية، وأن من الطبيعي أن ننتظر منه المزيد..

*

الهوامش:

1- Kostis Palamas, “The Twelve Lays of the Gipsy, “Trans. George Thomson. London 1969. p. 107

2- سليم بركات: "الديوان"، دار التنوير، بيروت 1992، ص 35- 36.

3- المصدر السابق ص 7.

4- المصدر السابق ص 218.

5- المصدر السابق ص 312.

6- سليم بركات..: "طيش الياقوت". دار النهار للنشر، بيروت 1996. ص 20.

7- سليم بركات: "الديوان". ص 7- 12.

8- المصدر السابق ص 255.

9- في "مؤتمر الشعر العربي الاول" الذي نظمته جمعية "فاس سايس" في مدينة فاس المغربية، أيام 27- 30 نيسان (ابريل) 1999.

ايوب صابر 02-26-2016 11:19 PM

الأختام والسديم
سليم بركات

المؤسسة العربية للدراسات والنشر

أدبي (رواية)

التعليق:
يواصل الروائي والشاعر سليم بركات خوض ذلك العالم الواقعي والمتخيل في آن، عالم الأكراد بطقوسه الغربية وتقاليده الساحرة، مازجاً بين الطرافة والمأساة.
يكتب سليم بركات ما يشبه الملحمة الكرديّة، ولكن عبر اعتماد اللغة العربيّة المترسخة في لا وعيه الشخصي، تلك اللغة التي استطاع أن يفجّر أسرارها، ويكشف خفاياها، ويرتقي بها إلى مصاف الدهشة والإبداع.
في هذه الرواية، يسترجع سليم بركات بعض ذكريات الأرض الأولى بأحداثها الطريفة وأجوائها الأليفة والقاسية، ويعيد تأيفها عبر كيمياء مخيلته السحرية، فإذا هي رواية الغربة والإقامة، رواية الماضي والحاضر، رواية الأسى والغربية.
التعليق لعبده وزان.

ايوب صابر 02-26-2016 11:25 PM

عن سليم بركات والكرمل وعوالم أخرى!

سليم بركات ومحمود درويش اسمان يتجاوران بالعودة إلى تجربة مجلة الكرمل التي شكلت لفترة ليست قصيرة نقلة في الوعي الإبداعي والشعري والنقدي، وقد استرخى على ظلالها الكثيرون وهم ينتظرونها بفارق الصبر، وكانت تصلنا في السودان قاطعة البحار قاطبة، كان الزمن منفتحا برحابة، وكان زمن الشعر قويا وجارفا.

لقد شكل سليم بركات وهذه مناسبة للوقوف معه، مدرسة خاصة في الإبداع العربي وفي السرد الجديد القائم على استنطاق التراث والوعي به وتوظيفه، فهو ملم مميز بفنون البلاغة والقول بمنهج ملتزم تماما. وفي الوقت نفسه هو حديث جدا لا يكاد يفترق عن الحداثة في أبدع تجلياتها، بحيث يصعب عليك أن تصنف موقعه بالضبط. هل هو ينتمي لزمنه الخاص أم لتقاطعات القديم والجديد والرغبة في صناعة نص متفرد له ذاتيته وعنفوانه وجنونه.
وفي التجارب السردية التي جاءت مستمدة روح النص الشعري والقصيدة الجديدة، كان سليم بركات ينسج عوالمه الخاصة، حيث الرواية عنده اكتناز قوي من المخيلات المتداخلة والغريبة التي يصعب فكها لوحدات متناثرة، فالصور الذهنية التي يصنعها في السرد هي وليدة مخيلة عجائبية وصعبة التفكيك. ولا يمكن الدخول فيها إلا عبر مزيد من تغييب الوعي، كأنما هو احتياج إلى ما يعرف بالقراءة البرزخية التي يكون على القارئ أن يتقمص المسافة الفاصلة بين الوعي واللاوعي، بين صمت القراءة الواعية وكلام القراءة التي تشير ولا تسمي الأشياء أبدا.
في البداية يبدو الدخول إلى عوالمه، كأنه رحلة البحث عن كنز مستعص أو مغارة يدخلها المرء لأول مرة فيتوه بداخلها ثم يخرج بسهولة ليكتشف أن رأسه قد احتشد بصور متداخلة وأضغاث أحلام تتراكب مع مشاهد من حياة الإنسان، ليجد نفسه ربما يسأل السؤال الآتي.. هل أنا الذي أحلم أم أنه سليم بركات؟
تتنقل في النص ما بين مدن الأكراد وعالم النرد المتقلب الى مدن متباعدة في الذهن، ترى نساء يجلسن في سمر، تلك هوايتهن الوحدة، وهن قد تجمعن في شكل أطياف متناثرة، كأنهن جدات او نساء من عالم لم يولد بعد.
إن التمرين على قراءة روايات سليم بركات يتطلب نوعا من التمرين المستمر على القراءة يبدأ بوعي الطريقة التي يكتب بها، وكما ذهب ابراهيم نصر الله فإن الشاعر الذي يكتب الرواية يُعطي رواية ذات عالم خاص، لا يشابه عالم الروائي الذي يكتب رواية، وما يكتبه بركات بهذا المنظور هو رواية القصيدة وان كان هناك بعد آخر يستمد منه سليم عالمه وهو عالم الابداع التراثي العربي الذي جعل له نكهة خاصة، بحيث حوّل فجائع اليوم داخل تراث اللغة إلى ما يجافي القمع ويخلق الحرية التي تستشرف الأفق رغم كل الضيق والأزمات المتواترة.
في البداية، مرة أخرى ستتهجأ سليم بركات روائيا، ثم تمضي مع أضغاث الأحلام، ثم تتفاعل معه حتى تصبح عوالمه جزءا من متخيلاتك، وهنا تكمن قوة العمل الابداعي، النافذ من اللاوعي الى اللاوعي.
بتقديري أن سليم بركات استطاع القبض على آلية هامة في بناء الرواية العربية، وهي الخروج عن مخاطبة الوعي، الى مخاطبة اللاوعي في أذهاننا، ولم يكن ذلك لوعي لدى الكاتب وإنما لحالة تراكم معرفي، كان نتاجه انتقال درجة التراكم الى حالة صفرية، تجعل من الفوضى نظاما دقيقا، عندما يكون اللامرئي والمجرد جماليا ومنتظما.
أكيد أن لدى كل منا عالمه الخاص القائم على الأرقام والألوان وتقاطعات الحياة المختلفة وهوس البقاء، في مقابل ذلك صورة مبكرة لفكرة العنف والقهر في الذات. وباختلاط جملة هذه المشاهد في اللاوعي كما في الأحلام، تولد رؤى جديدة تحاول استكشاف مناطق أخرى غير مألوفة في الوجود، ليكون بمقدرة كل كائن بناء كونه الخاص، بمخلوقاته الفضائية التي يبدعها «هو» بنفسه ولنفسه.
هذا التقديم الشارد نحو شرح المعنى، لا يشرح شيئا لكنه يضيء بؤرة مؤقتة في الذهن تقود لمسار متعرج، بإمكانه ان يكون متزنا عندما يتلاقى مع خط الكاتب الابداعي.
وبعيدا عن مقولات التجريب وما أدمنه العقل العربي من هستيريا المألوف فإن الذهن في حاجة ملحة في مثل هذه الأزمنة، لنوع من الخلخلات التي تحرره من اللحظي والمؤقت والسائد، ليكون الاقتراب من التماهي لأغوار الأشياء بما يشبه معادلة الفوضى التي هي قائمة في العالم الخارجي.
وأنا أقرأ بركات، ظل هناك سؤال واحد يهجس بي، عن مصدر الإلهام في مثل هذا النوع من الروايات،هل يكتب الكاتب بارادة ووعي ذاتي بالعالم أثناء الكتابة؟ أم ان الأمر يشبه مزج اللون بالسطح في اللوحة؟
كلا التفسيرين وللأسف مقعران، يعكسان صورة مصغرة للحقائق، اما التفسير الثالث فهو يشابه عالم جورج أوريل عندما تهتز اليد وتتحرك بفعل ما، لا يمكن تحديد موقعه، لتنهمر الكلمات من منابع مجهولة، بموازنة تامة لفكرة العربي عن وادي عبقر، وارتباط الشعر بالشعوذة والجنون وعوالم مغيبة لا يمكن الوصول إليها.
ويمكن تلخيص فكرة الكتابة عند سليم بركات.. إلى أنه اعادة تركيب للذهن ليتخلص من قيد الحكاية والأسطورة في شكلها التقليدي، نعم، ليس ممكنا ان نعيش بلا أساطير، لكن الاسطورة الجديدة هي التي يقبلها عالم اللامفكر فيه، ليرفضها عالم التفكير، وهذا ربما كان مخرجا لإدماننا على حالة الوعي المزور، وتصالحنا مع الأشياء وفق ما نراه، لا ما نريد ان نراه.
إذا كان ولا بد ان نسير على ذات الانماط، فالأمر سهل ويسير، وستكون البلاغة العربية بكل ما تحمله من نمطية وإيقاعية، هي التي تشكل الوعي. رغم أن كثيرا من المشهدية السردية لم تتحرر من صور البلاغة والاستعارات الكلاسيكية حتى لو كتبت في زمن جديد. وليس المقصود الالتزام بالقواعد الحرفية للبلاغة القديمة ولكن الاستناد على نفس قوالبها التخييلة وهذا قائم إلى اليوم لم يتم منه فكاك كبير، وهذا مشهد لا ينفصل عن تداعيات الارتباط بالنص الديني وما يغلف الحياة العربية والمشرقية بشكل عام من الارتباط اللصيق بالماضي ما يتجلى إلى الآن في صور التوحش الذي نشاهده يوميا في الفضائيات.
إن الذهاب إلى فضاء الجديد ليس بالأمر الهين، ما دامت تلافيف اللاوعي لم تتحرر. حتى لو تحرر الوعي شكليا. لهذا فإن سؤال الرواية وسؤال سليم بركات هو جزءا من هذا التفكير الذي يتطلب مزيدا من الاستنهاض الذهني والتأمل. أن نبدأ بالبحث مجددا دون أن نفكر منذ البدء أين ستنتهي بنا الرحلة.
emadblake@gmail.com
عماد بليك

ايوب صابر 02-26-2016 11:55 PM

بورغي رووس
( سويسرا)

(عن موقع تيريز)

* كيف جاء اهتمامك بالثقافة الكردية؛ البدايات؟

ـ تعرفت على الأكراد في الشام في أعوام 1990 ـ 1991. آنذاك لم أكن قد زرتُ سوى دمشق، وقد تعرفت على الواقع السياسي الكردي أولاً، من خلال هؤلاء الأكراد المتواجدين في دمشق، الذين تحدثوا لي عن التاريخ والسياسة والألم الكردي: حلبجه، واطلعتُ أيضاً عن كثب، على الوضع الحياتي الكردي في سوريا. وعندما كنت في الغرب، كنت أعرف الكرد من خلال مأساة حلبجه عبر التلفزيون، ولم تكن عندي دراية كافية بالوضع الكردي السياسي والتاريخي والثقافي. ومن خلال هذه المعرفة الأولية في البدايات، بدأتُ أهتم بثقافة هذا الشعب، لأنني أحب الأدب. وفي الشام حيث كنت أتابع دراستي في اللغة العربية، سمعتُ لأول مرة باسم سليم بركات، الذي لم أكن قد قرأت له شيئاً بعد. فقط كنت أعرف أنه كردي يكتب بالعربية؛ وزادت معارفي به شيئاً فشيئاً من خلال ما كنت أسمعه من أكراد الشام.

* لماذا وقع اختيارك على أدب سليم بركات النثري، لتقديم أطروحة الدكتوراه؟ وما هي المصاعب التي رافقت الإعداد للأطروحة؟

ـ في دمشق، كان كل من قابلتهم من الكرد، يلهج باسمه، وقال بعضهم عنه أنه قريب من نبي، كردي من سوريا، وبعيد عن بلده، كان سليم عندهم شيئاً كبيراً، وبالطبع كنت مترددة في تقبل هذه الآراء؛ ثم قالوا لي إقرأي فصلاً ما من أحد أعماله الروائية. فبدأت بقراءة فقهاء الظلام، ثم وقعت في فخه،أذكر أن سليم بركات قد استخدم كلمة "فخ"، كان كتاب فقهاء الظلام، هو الثاني الذي أقرأه بالعربية في حياتي آنذاك؛ كان ثمت شيء عاطفي عنده جذبني إليه، في البداية لم أفهمه كثيراً، أو لم أفهم كل شيء عنده، لكن خطفني بأسلوبه، أحببتُ صوره، والمفاجأة في الشخصيات، وانجذبت عاطفياً نحو شخوص رواياته، ثم تابعت قراءة أعماله في البداية مع طه خليل، الذي ساعدني في فهم المشكل من هذه الأعمال؛ وتالياً استفدت من هذه القراءات؛ سليم بركات، ليس فقط لغة وتاريخ وفكر، هو أدب كبير.
بالنسبة لموضوعة رسالة الدكتوراه، عندما يختار أي شخص موضوعاً لأطروحة الدكتوراه، يجب عليه ألا يملّ من هذا الموضوع، لأن الأمر يحتاج إلى سنوات من الدراسة والمتابعة، ويالتالي يجب أن يتحلى هذا الموضوع بعنصر التشويق، وشخصياً كنتُ أعرف بأنني سأكون أكاديمية وعلمية، ولكن، وفي الآن ذاته، لا يمكنني أن أكتب دون عواطف؛ وكانت رغبتي في الكتابة عن أدب سليم بركات نابعة من الدم، من القلب. ولم أشعر أبداً بأي ملل أثناء الإعداد للأطروحة. وكنت متأكدة بأنني سأستفيد منه شخصياً على الصعيد الأكاديمي. ولم أكن أعرف هل تم الأمر كله مصادفة، فلم أكن أعرفه حتى ذلك الحين شخصياً؛ ثم جاءت المرافقة: العالم الذي وجدت عنده، بقي معي. ولم أمل أبداً ـ ترك بعض أصدقائي أطروحاتهم ما إن فرغوا منها ـ، لكن بالنسبة لي، بقي هناك شيء ما، صار في دمي.
بالطبع، كان ثمت مصاعب عديدة، أثناء العمل، وتأتي لغة سليم الصعبة بالدرجة الأولى، وكذلك الأفكار والأجواء التي كانت بعيدة عني، وكانت الخطوات طويلة وصعبة من أجل الدخول إلى العالم الكردي بالمرور تحت عتبة أدب سليم بركات، وبالتالي، الدخول إلى عالم الثقافة الكردية من خلال هذه اللغة, لكن، كان الأمر ممتعاً لي أن أكون تلك القارئة الخالقة لأدب سليم بركات الصعب؛ خاصة بعد أن رأيت شخوصه وأمكنته: القامشلي، سري كانيي، عين ديوار..الخ.
في بدايات دراساتي، فكرتُ بأنه يجب علي أن أكون كردية حتى أفهمه (كأنني من الداخل)، أفكر مثل أية كردية قارئة لأعماله، لأتماهى معه، ولأتمكن من قراءته من الداخل. وعندما درستُ بشكل عام، شعرتُ بأنه ليس بالضرورة ذلك، بل بالعكس، لأن الخلْق والإبداع يأتيان من الحوار، والحوار يحدث بين الداخل والخارج، كنت أريد حواراً بين قطبين: الداخل ـ الخارج، بيني كدارسة أوربية، وبين سليم بركات الكردي المبدع؛ وقد أخذتُ هذه الفكرة الخطوة من معلمي ميخائيل باختين. والفكرة جميلة بالأساس.
شعرتُ آنذاك بأنني بدأت أقترب من معالمه، وأفهمها. صرت تلك القارئة الخالقة، واقتربت من عالم سليم بركات.. دخلتُ في حوار معه. وكان الشعور، بأنني قد دخلت هذا العالم الإبداعي، وأقترب منه من الخارج كأوربية.
سمعتُ باسم باختين وأنا في سوريا، لم أكن قد قرأت لسليم بركات بعد. قرأت سليم، فوجدت فكرة باختين، لهذا أقول كانت قراءتي خالقة من خلال تجربتي الشخصية، من خلال الحوار بين إبداع سليم بركات وبيني، فصارت رغبتي في الكتابة عنه لا تُقاوم، ومن هنا، كانت هذه المتعة القوية.

* ألا تفكرين بترجمة الكتاب / الأطروحة، إلى اللغة الكردية أو العربية؟ ليتسنى للقارئ بهاتين اللغتين الاطلاع عليه؟

ـ لن أترجم الكتاب إلا إلى اللغة الألمانية، لأن الترجمة مثل الخلق، لأنها دون الروح الخالقة يموت العمل، وكتابي باللغة الفرنسية، ولغتي الأم هي الألمانية.

* قمتِ أيضاً بترجمة الجندب الحديدي، كيف كانت ترجمتك؟

ـ أحببت كتاب الجندب الحديدي؛ الآن وأنا أقرأ هذه الترجمة، أقول لو كان بإمكاني لأعدتُ النظر فيها، ومع ذلك فهي ممتعة.

بورغي رووس:
مواليد 1965، لوذرن، سويسرا.
ـ درستْ اللغة العربية في جامعة جنيف، وفي المعهد الفرنسي للدراسات العربية، في دمشق.
ـ قدمت أطروحة الليسانس، حول الجاحظ.
ـ حصلت على شهادة الدكتوراه، حول "خطر قراءة سليم بركات، من السيرة الذاتية، إلى الرواية".
ـ ترجمت الجندب الحديدي، وهاته عالياً إلى الألمانية, وكذلك كتابين للأطفال، الأول لـ طه خليل، والثاني لـ محي الدين اللباد.
ـ مقيمة في برن، وتعمل في وزارة الخارجية السويسرية.
* تم الحوار هاتفياً، وباللغة العربية.

تيريز. كوم 31/10/2003

*******

ايوب صابر 02-26-2016 11:58 PM

فنون وعلوم / ثقافة
«سوريا» سليم بركات: نشيد النهايات الهوميري


ع* ع*
بطرس الحلاق
am 02:16 2015-10-02
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-10-02 على الصفحة رقم 11 – السفير الثقافي
بوركت سليم، بركاتٍ على بركات. بوركت أيها الكردي الوطن، الشاعر ناطقا بلسانٍ نسيه القتلة. نشيدك المأساة سيبقى، إذا ما قدّر للوطن أن يزول، صورةً عن حلم وشاهدا على بهيميّة لم يبدّل من جوهرها علم ولا دين.
ينيخ الموت، يتناسل طوفانا يمحق في كل حيٍّ نسغه، يزلزل المكان فيزيل منه الروح والذاكرة، يجمّد الزمان فينتصب حادا كشفرة الموسى. هي «الأعالي مُخبّلة مزّقت صُدرتها، والأسافل مخبّلة كالأنحاء الخبَل لا تُرتجى بعد الآن». من هنا مرّ «الغزااااة، الكفر، البراميل ...». لا حياة إلا للموت، موت يحرسه «البلد»: «أنتَ حولَ الموت، لا حولَك الموت». ومن الفناء المسبطِرّ ينقدح وعي شاعر، فيتدفّق نشيدا، ملحمة ـ مأساة، تستعيد هوميروس وملاحم آرام ومراثي الأنبياء، لتستنطقها عن عدم حاضر توالد من زيف «الأسلاف» والتاريخ.
أنّى لك أن تنفذ إلى هذا العالم المتطاير حمما ملتهبة؟ ينغلق عليك مسار الدلالات العقلاني، وتتيه في تدفق مفردات طالعة من سحيق التراث، قد تفوت حتى على صاحب «لسان العرب»، وفي تسلسل تراكيب نحوية تناساها أبو الأسود الدؤلي؛ فلا تُقارب معانيها إلا حدسا؛ ذلك الضباب من الحمم الدلالية والانفعالية يلفك آخذا بمجامعك، فلا تنفذ إليه إلا بالانصياع لهديره الغاضب الملتاع، الذي يحيل بِشَواش طبقاته ونغماته إلى سديم بداياتٍ أو نهايات رؤيوية. وإن لاح لك معنى في ذلك الطلسم فبالاستهداء بعبارات وصور تتردد في المتن بمثابة معالم مساحة أو لازمة في نشيد متهدّج، تُرشدك إلى إيقاع تعتمده مفاصل لتلمّس المعنى. ذاك النشيد الحمم صورة عن حالة راهنة أشبهُ بيوم حشر لمن لا يؤمن بآخرة، يعصف بتراث أُضفيت عليه سمة القداسة فضلا عن العقلانية، ويفضح حاضرا مسخا بُني على منجز تليد تمّ إخصاؤه. غير أن في الومضات التي تبلغ ناظريك نورا يدلك على قسمات ذلك المبدع الفذّ، إنسانا ومواطنا وشاعرا عاشقا مهيما.
انهيار الكون ـ الجسد: «خارت رُكبتاي».
العالم ينحلّ، فينحلّ معه الإنسان، جسده قبل روحه وثقافته. كل ذرة تنحلّ في «البلد»، ينحلّ ما يقابلها في الشاعر. فبركات هو الشاعر بالمعنى الأول: مندمغ بالكون فكأن الكون جسده. يحس بالمكان وما فيه لأنه يستبطنه من الأعماق. النبات والحيوان، ما يمشي منه وما يدب وما يطير، وكذلك عناصر الطبيعة وتضاريسها؛ ذلك كله ينبض في وعيه وفي إحساسه بحيث لا وجود ولا وعي إلا به. ليس الكون عنده إطارا أو حاضنة أو معاشا. إنه به وفيه فلا عافية بدونه: حين «لا/ باب/ لا/ نافذة/ لا بيت... لا سهل هناك/ لا جبل هنا/ بلاد تطبق الكتاب على سطوره الطويلة...»، عندها «لا عافية تعيدني إلى ما كنته/ لا إخلاص الجبل/ لا الجبليّ/ لا جدّي الجبل/ لا جدتي الغابة/ لا إخوتي الطرق الضيقة/ لا شقيقاتي الصخور الصقيلة في مجاري الأنهار/ لا فجر يعيدني إلى ما كنته». فلم لا يأسى على الأشياء: «هوّن عليك أيها الزبيب/ هوّني عليك أيتها المشمشة المجففة». «هرب/ الأرض/ من/ نفسها» يجعله خارج نفسه، كما أن «انهيار الأمكنة على أسمائها» يُفقده اسمه. الجسد المنهار، تحيل إليه عبارة تتردد كاللازمة من افتتاح النص حتى نهايته: «ركبتاي خارتا». الجسد جغرافيا الروح، كما المكان جغرافيا الوجود. هل يكتمل إبداع حين ينقطع المبدع عن الإحساس والوعي بالمكان ـ الكون؟ سؤال يُطرح على الإبداع العربي المعاصر، رواية وشعرا.
الصرخة
الأسلاف ـ التراث «الخدعة».
وإذ ينحلّ المكان، تتكشّف ذاكرته، ثقافته، وينفضح الزغل. فالأمجاد مجرّد تشدّق بلغوٍ لا يشير إلى معنى: «لم تكن بلدا إلا في النشيد المختنق... شدخ طويل في قلبك من أبهَر السهول إلى وَتين الساحل». والأسماء لا مُسمّى لها: «براعات كخلع الأضراس. الحروب الأقسى. نِكال الكلمات بالكلمات؛ نكال المعاني بالكلمات». القيم يلتبس فيها الحق بالباطل وكل نقيض بنقيضه. فالقدسيّ وثنية والإيمان كفر والبطولات خيانات. ولا يبقى من جوهر الأشياء إلا زينتها، على أن تؤخذ «الزينة» بمعناها القرآني المرتبط بوسوسة شيطان رجيم، الزينة الخدعة. نعم، «مُزيّنٌ كلُ شيء: الأقدار الزينة/ النهايات الزينة/ الجبهات الزينة/ المقاتل الزينة... القدسي الزينة/ الأولياء الزينة/ القلوب الزينة/ الشعب الزينة...». أما «الأسلاف» فليسوا بسلف؛ لذا يكتفي الشاعر بالمفردة الأولى دون الثانية التي تشير عادة إلى حكمة تتراكم: «ذي طباع الأسلاف معذورين أنهم لم يكونوا أسلافا قطّ. تصاريف كمُحّ البَيض». «الرُجعى إلى الأسلاف أنصفتهم أواصر/ الدمِ/ وأواصر/ القتل من سيئ الموت إلى أسوئه. غزااااااةٌ. كلّهم غزاةٌ». هم أسلاف لم يكونوا إلا حلقة وصل بين غزاة: «شركاؤك عجايا استوهبوك الغزااااااة أُكارعَ وكلىً، أطعموك الغزاة سهولا تتصل بخلجان الشرق. هياط ومياط». وفي هذا التراث الخدعة لم يصدق إلا «المُشكل»، إلا «الخدعة»: «الخدعة مذ/ كنت ما كنته، أيها البلد». ومع «صدق المشكل» يستقر «صدق الخوف/ الهتك/ الذبح...»، فإذا «بالخوف عريقا/ بالخوف خالقا/ وارثا . وريثا، بالخوووووف مائلا كقلب». فهل يبقى بعد ذلك إلا «الصرخة» بمعناها الأقوى: الاستصراخ لثأر، للنجدة من حتف محدق: «لا/ بقاء/ إلا/ الصرخة. أعطنيها/ الصرخة/ معشبةً». وإن لم تجد من تستصرخه، تلجأ إلى «القير» تطلي به روحك كي لا ينفذ إليها إحساس: «لا نفاذ للماء من شقوق الأرواح مذ طليت قيرا. شكرا/ للقير./ شكرا للغراء./ شكرا للصمغ/ فوق الغراء.»

الوارثون
الحاضر: «وارثون وغزااااااة».
عن ذلك الإرث ـ الخدعة لا ينجم إلا حاضر غدا نهبا لكل مستفحل غاشم. لا، ليست مؤامرة، بل توزيع غنائم، من أرض وأهل مستعبدين، بين نخب محليين أصبحوا «وارثين» وبين «غزاة» طامعين. والنخب المحلية على أنواع، شرعيتها الوحيدة هي قدرتها على التسلط، تستمدها من آلة دمار توفرت لها، أو من سلطة رمزية آلت إليها بفعل التقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية، أو بفضل موقع اجتماعي وفّرته ثقافة أو حداثة مُزيفتان. فإذا البلد نهبا لمن يملك «البراميل المُلك إقطاعا في أرجاء الوقت، وأقبية الوقت. البراميل الأنخاب، الدَمِجانات. البراميل الشرح/ والتوضيح/ والتصحيح». فتتراكم «كِدسٌ من المدن في المصفاة»؛ وها «الجيش العودة من معاركه اللهوِ في الأناشيد إلى لهوٍ بالأشلاء... جيش الخسائر منتصرةً، والنهبِ منتصرا، جيش الأخوّات الفظة/ والأنساب الفظة». بلد يتقاسمه الحكام الفرحون «بنجاة/ أسمائهم/ في انهيار الدول»، مع النخب القادرة على «المناشدات بين السحر والشعر، المآتم إجماعا، والدعارة شتّى. التفاسير مغرية، والشُرّاح نوتيون». هؤلاء، باسم الكفاح ضد صاحب البراميل، يبرّرون لأنفسهم كل مسلك وتحالف وانزلاق، بما يملكونه من ثقافة مطّاطة تحلّل وتحرّم وفق المصالح والأهواء. هؤلاء جميعا هم «الوارثون مدنَ الآباء سُرقت بالشعوب فيها/ والكلمات فيها/ والذبائح فيها مُلوّنةً كأعلام القاهر وثياب عاهراته، أيها البلد».
وما عساهم يفعلون بالغنيمة، هؤلاء الوارثون، إذا ما أصابهم وهن أو خصام؟ يورّثونه الغزاةَ: «أيها البلد... لم نعرفك إلا مغنما وُرّثتَ فأورثوك الغزااااا/اااا/اااةَ... كنتَ للغزاة فينا، وللغزاة ليسوا فينا استدانوك دَينا لن يُسدّد إلى أحد». والغزاة وفدوا من كل حدب وصوب، من شرق ومن غرب: «الفرنجة في غابرٍ، والغزاة اليوم. لم نحتسب للفرنجة الغزاة ثانيةً. مُلهمون الفرنجة يحشدون من شرقك الآن... مُلهمون غزاة الآن من فرنجة الغابر. منتقمون مذ لم يأخذوا معهم قبلا رفاتَ القتلى من مراقد الأرض إلى نصرهم المنتظر».
مكان هباء، وإرث هباء، ووارثون وغزاة. إنها النهايات والفجيعة إذ تطبق بلا رجاء. لإرميا ويوحنا ربٌّ سينتصر للحق. الأول يهدد أهله بدمار شامل إذا ما استمر في غيّه: شموس تنخسف وأقمار تنكسف وجبال تتدحرج وبشر نهب للشر والخوف... إلى أن يتوب الشعب إلى ربه فيتوب عنه ربه. ويتكشف ليوحنا في رؤياه عالم ينهار وبشر يمسخون ويفنون، ولكن «الحمَل» سينهض شمسا لعالم جديد، هو الملكوت. أما سليم بركات فلا يرى إلا الرحى تطحن الموجودات فلا وجود بعدها، لا قيامة، لا فداء. هو يأبى أن يكون من سلالة الأنبياء يرون الخلاص الآتي على يد «رب القوات»؛ وإن كان نبيا فنبيّ لا رجاء له. إنها الفجيعة مضاعفة: « طَويتُ ما لا يُطوى ـ نفسي طويتها عليّ/ كي لا أُبعث من شكي نبيا إليّ، أيها البلد». فيعلن على الملأ: «لا شيء يعيدني إلى ما كنته». ويستخلص العبرة: «جرائم الأمهات أن يلدن بعد الآن/ والآباء أن يستولدوا. هي ذي تقوى المدية فوق النحر».
البلد
الحب إرهاص ببدايات: «بلدي أنت».
يغمرك ذلك الدفق اللامتناهي من العويل والمراثي، بحيث لا ترى سوى الفناء منفذا... لولا تلك العبارة المزروعة في أرجاء النص لغما ملغزا، تتواتر على نحو ملحّ مريب، تتكرر مرات في الصفحة الواحدة ودائما بصيغة المنادى المعرّف المقصود الذي يفيد علاقة شخصية مباشرة مع المُخاطَب: «أيها البلد». ترد في سياق الرثاء والأسى والتفجّع والعتاب والأسف والاستغاثة، كما في سياق الاستنكار والاستهجان والتخوين والإدانة حتى الكراهية. لغم مُكثّف من الانفعالات المتناقضة مشحونة بتاريخ كامل من الإحساس والفكر والحدس والخيال على المستوى الفردي والجماعي معا. لغم يساور الشاعر بلا هوادة وكأنه نفَسه، نفَسه الأخير. وإذا بالشاعر يفاجئك في الجملة الأخيرة من نشيده بموقف لا تتوقّعه، حيث يجهر بانتسابه لهذا البلد بعد أن صبّ عليه جام غضبه: «بلدي/ أنت/ أيها البلد.» بومضة، يسترجع القارئ النص بجملته ولكن من منظور آخر: على ضوء ضمير المتكلم المتصل «ي»، يستهدي في ذلك الدفق العكر من الغضب والحزن وحتى من التحقير إلى نبع فوّار من الحياة والعاطفة يحيي ذلك العالم الموات فإذا بقصيدته نشيد حبّ وهيام. وإذا بالشاعر مجنونَ «البلد» يضارع «مجنون ليلى»، لا في جنونه بل في حبه، الذي به قد يتسنى له أن يبعث «البلد» الحبيب وهو رميم. فكأنه الإلهة إينانا أو أوزيس تهبط إلى الجحيم لتفتدي، بقوة حبّها لا غير، حبيبها الإلهي. ويلوح لك أن الشاعر في نشيده هذا أقرب إلى هوميروس منه إلى إرميا ويوحنا. فهوميروس في إلياذته يتفجّع على مصير أمته المأساوي، ولكنه في آن ـ حسب الدراسات الحديثةـ يدعو أهله إلى التخلى عن آلهة يوغل في وصف وحشيتها وأنانيتها ليقنع ذويه بأن لا خلاص يرتجى من أمثال تلك الآلهة، وأنهم وحدهم قادرون على بناء مصيرهم ـ وذلك ما شرعوا به فكان أن تأسست الفلسفة على يد أحدهم، سقراط. فألا يكون نشيد سليم بركات نشيد نهايات هوميريا يبشّر ببدايات جديدة؟
ومما يعزّز هذه الفرضية علامتان واضحتان في النص: تواتر مفردة شعبية بدل كلمة مرادفة شائعة الاستعمال، ومسار إبداعي خاص. فالمفردة هي «البلد» يستعملها بدل لفظة «وطن» التي لا ترد أصلا في النص، ربما بسبب المعنى الذي اكتسبته في العصر الحديث. فقد شُحنت هذه اللفظة بمفاهيم عقائدية تعددت بتعدد الأنظمة التي توالت على العالم العربي، ثم تناقضت بحيث أنها أُفرغت من مضمونها. هكذا استعملتها أدبيات الأحزاب القومية غطاء لسياسة هي على النقيض منها. فهل أفاض في استعمال عبارة «الوطن العربي» أكثر من الأنظمة القطرية المتشدّقة بالوحدة؟ وهل تستّر بمضمونها أكثر من الأنظمة الدكتاتورية، عسكرية كانت أو شبه عسكرية من ملكيات وإمارات؟ وهل تغنّى بها أكثر من مثقفين «باعوا» الوطن لمصالحهم؟ أما مفهوم «البلد» فلم يتعرض لمثل التعسّف، فضلا عن أن له بعدا شعبيا ومكانيا وحسيا يستشعره «المواطن» بالفطرة. أما لفظة «سوريا» فلم يستعملها الشاعر في نصه إلا مرة واحدة، وفي العنوان لا غير، ربما لأنها هي أيضا ابتذلت واستبيحت؛ ومع ذلك تبقى شديدة الارتباط بوعي الناس ولاوعيهم بالمكان ـ البلد، على عكس بلاد الشام أو الرافدين وقد آل أمرهما إلى قبضة «داعش».
وأما المسار الذي اصطفاه فهو الحفر في اللسان العربي للكشف عن أركانه الأساسية ومنابعه الثقافية والإبداعية، التي بها بنت أجيال هويتها وحضارتها الحقيقية على توالي العصور. ينبش اللسان بقاموسه ونحوه لا لكي يذريه ويمحوه، بل ليصفيه من الزغل ومن الانتهاكات التي أصابته، ومن تراكمات عقائدية جامدة شلّت حيويته، فيعيد له عافيته. فهل يحذو، بفعله هذا وبدون وعي منه، حذو أهل «بلده» القدامى ـ أهل ما بين النهرين ـ حين كانوا على مدى آلاف السنين وبعد كل غزو مدمّر، يزيلون أنقاض مدنهم ليعيدوا بناءها على الأسس الأولى الركينة التي لم يستطع أي غزو أن ينال منها؟ وعلى منوالهم، أزال الشاعر طبقات من أنقاض لغة سلطوية، غيبية، فوقية أو شكلية تراكمت عبر العصور، لا سيما عصور الدول المركزية المتجبرة. أزالها ليعود باللسان إلى ذلك العصر الشعري بامتياز، عصر المعلقات، عصر شعراء ماتوا من فرط الحب والهيام. والحال أن ذلك تماما ما حاوله شعراء النهضة المجددون. أكتفي بالإحالة إلى موقف خليل مطران تجاه بعض المتعنّتين، في مقدمة ديوانه الأول الصادر عام 1908: «فيا هذا، نعم، إنه شعر جاهلي، وفخره أنه جاهلي». وبركات «جاهلي» بهذا المنظور: العودة إلى الينبوع المتفجر طليقا قبل أن يُقيد بالعقيدة والقياس كما يقرّره الحاكم بأمره. إلى الينبوع نفسه، غالبا ما يحيل مفهوم «الصحراء» عند محمود درويش وهو القائل: «أنا لغتي». وما عدا ذلك فبركات شاعر الحداثة الحقيقية، بما يملكه من وعي ثقافي إنساني طليق، متجاوزا ـ وهو الكردي بالصميم ـ حواجز الطائفة والإثنية والعقائديات المبتسرة العقيمة.
بوركت، شاعر الحداثة، تبني وطنا من رحم اللغة، على خطى صديقك ورفيق نضالك محمود. بوركت، شاعر الإنسان والوطن بمعناه الأكيد.
(كاتب سوري)
السفير

ايوب صابر 02-27-2016 12:33 PM

Komela Perwer a çanda Kurd
March 26, 2015 ·

سليم بركات حالة أدبية خاصة
:

لم تشهد ساحة أدبية حالة خاصة مثل سليم بركات ذلك المسكون بالشجن المفعم بالشعر و المطارد بالرواية ، حين يأتي الحديث عن سليم بركات يجد المرء نفسه في حالة حيرة شديدة من أمر هذه الروح التي خطفت الألباب بسحر شعرها و بغزارة رواياتها ، لا يمكن إغفال سليم بركات كشاعر كما لا يمكن إغفاله كروائي متميز سرقته الرواية من أجواء الشعر الكردي الحديث الذي يعد من رواده في سوريا بلغته الخاصة المميزة الحية ، حيث دائما ما يتم الإشارة إلى أن الأصوات الشعرية الحديثة جميعها لم تخرج من عباءة ( جيكر خوين ) أو( سليم بركات).
اهتم سليم بالتأريخ الذاتي و أدب السيرة حيث كتب سيرة الصبا في رواية (هاته عاليا ً هات النفير على آخره ) التي صدرت في العام 1982 و كذلك كتب في سيرة الطفولة في روايته ( الجندب الحديدي ) عام 1980 ، ببنما يعتبر سليم أن أولى رواياته هي (فقهاء الظلام ) و التي صدرت في العام 1985،يبلغ إنتاج سليم بركات عشرة أعمال نثرية و عشرة دوايين شعرية أولها كان المجموعة الشعرية ( كل داخل سيهتف لأجلى و كل خارج أيضاَ ) و التي أصدرها في العام 1973 و أخرها المجموعة الشعرية ( المثاقيل) و التي صدرت عام 2000.
اهتم سليم بركات بالشعر القصصي ذو النكهة الحداثية ، يرصع لغته بالسحر و كلماته باللاممكن فحين نقرأ سليم نشعر بأجواء خاصة تبتعد بنا عن أرض الواقع لتحلق في سماء الشعر و الأمنيات و الخيال فنراه يقول في قصيدة (استطراد في سياقٍ مُخْتَزَلٌ):
إنها البراهينُ الحمّى،
وأنتَ تظلِّلها بالحبرِ من تهتُّكِ اليقين،
وتُوْقِعُ بالكلماتِ لتغفوَ البراهينُ على شِجارها.
لا دِيَكَةَ هنا،
لكنها أَعرافُ النارِ المتمايلةُ كأعرافِ الدِّيكة،
والوجودُ المارقُ يروِّعُ السياقَ المكنونَ للظُّهُوْراتْ.
لا بلاءَ هنا إلاَّ من وَرْدٍ،
لا مِزْراقَ طائشاً إلاَّ مِزْراق الكونْ؛
والبرقُ زِرايةُ الليلِ بالمكان، ثمَّ، والمياهُ هُزْوٌ،
فمالَكَ تتلقَّفُ المشيئاتِ بشعاعٍ منكوبٍ،
وتُغْدِقُ على الألمِ إيمانَ المساء؟
سليم بركات شاعر المحال و روائي النضال و البارود يتجلى دوما في دواوينه و رواياته بهموم الإنسان العربي و الكردي على نغمة شجنية واحدة ، و حاول الكثيرون من الشعراء الأكراد المعاصرين تقليد سليم بركات و السير على نهجه في كتابة القصيدة إلا أنه لم يتمكن أي منهم من رسم خط شعري خاص به سواء ممن كتبوا الشعر المقفي أمثال جميل داري و عبد الرحمن ألوجي أو الغالبية التي تكتب شعر التفعيلة و القصيدة النثرية ، إلا أنه هناك مجموعة من الأسماء قد برزت على الساحة الشعرية الكردية الحديثة و يعتبر أشهرها الشاعر (محمد عفيف الحسيني ) الذي يكتب القصيدة الحديثة نقرأ له في قصيدة (شجرة الميلاد):
ثم تنتهي الحكاية،
كما سينتهي هذا العام،
وتنطفىء أشجار الميلاد،
ويعود الساهرون إلى منازلهم الصفراء؛
وتغيب الحكاية، والسيدة الصغيرة،
لاريح تذكرها بالرجل،
وهو يقدم لها حنيناً ويأساً، ومساء الخير.
ثم ينطفىء كل شيء،
كأنْ لم يحدث شيءٌ
سوى مرآة مشروخة، تحمل صورتين جميلتين،
ووردة ذابلة،
وشجرة الميلاد المطفأة.

ايوب صابر 02-28-2016 09:03 AM

سليم بركات والكتابة الشذرية *كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا

بقلم الاعلامي عبد العزيز كوكس

ليس ما أقدمه هنا قراءة نقدية بالمعنى الحصري للكلمة لأعمال الشاعر الفاتن سليم بركات الذي نحتفي به، وتستدفئ ببعض مما أنجبه، وإنما هو شهادة محض ذاتية على هامش متن كبير، كلما قرأته أحسست بتواضع لغتي ورموزي، وأن الدرب لا زال أمامي طويلا للإحساس ولو للحظة أنني اكتسبت أدباً، ولو كنت ابنا شرعيا للأدب..



تعرفت على سليم بركات في زمن متأخر عبر سيرة صباه: “هاته عاليا.. هات النفير على آخره”.. وقادني إلى أعماله الكثيرة الصديق العزيز سعيد الوزان.. فاكتشفت كما لو أن المبدع بركات يخبئ عنا معاجم ضخمة للغة العربية لا تحفل بها خِزاناتنا.. تلك الكثافة اللازمة للكتابة، الوصف الباذخ المغرم بالتفاصيل.. لغة تقول الصمت الكثير الذي يسكن غُموض الأشياء، وتنقل أسرارها في لغة متفردة، هي جوهر شعرية سليم بركات، لغة شذرية تستمع للصمت الكبير لتقول الكلام الأقل، ولا يهمها ضجيج العالم الخارجي المفتون بوجع ما يجري على سطح الأشياء.. نحس في لغة بركات الانفلات من أسر اللغة المسكوكة والمعنى المكتمل والدليل الجاهز الممتلئ.

إنه مثل صائغ يعيد إذابة المجوهرات المتشكلة لديه سلفاً، ليصنع منها بحذق ومهارة شكلا إبداعيا جديداً.. في شعر سليم بركات، وكل كتاباته تمثل هدم الحدود بين الشعر والنثر، نحس ذلك السهر الدقيق على حسن انتقاء الحروف والكلمات والمعاني التي لا تدل على الطرق المرصوصة سلفاً في المتون السابقة أو المجايلة، أو حتى في كتابات بركات الإبداعية السابقة، مهندس ذكي هو يفتح طرقاً غير مسبوقة لأعالي الروح، بحساسية مفرطة يحرص سليم على التدمير الرصين لذاكرة الكلمات والمعاني، وتعابيره تلجأ إلى الحمية للتخلص من الفضلات، تحافظ على رشاقتها وهي تمر في حقل ألغام الروح..

في كتابات سليم بركات، نحس أن كل نص إبداعي متعدد، لا يشبه ذاته.. كلما قرأناه وجدناه مختلفا عن قراءتنا السابقة له، ولا يشبه النصوص السابقة أو اللاحقة لما اختطه سليم بركات نفسه، كل نص هو اغتيال للشبيه، لأن اللغة الشذرية في نصوص بركات لا تخلق النموذج، ولا تسعى إلى جمع الحشود وخلق الأتباع، لأن كل نص يُدخلنا إلى عتمة لا يُرى فيها إلا أثر الأشياء، لغة متشظية مضادة للنسخ وصنو الشبيه، تخلق فرادة كون مستقل عن فراغ العالم، هو بوابة الروح الإنسانية حيث نلامس تمزقات الهوية، غربة اللسان الذي سيصبح وطنه، ذلك الكردي الذي كان أكثر إتقاناً للعربية من بني ذات اللسان، جرح التاريخ، العيش الدائم في المنفى ليس كانتماء للجغرافيا بل ككينونة متشظية بين ألوان تسمو على علم وطني يعلو بناية حكومية أو يرسم الحدود والأسيجة، لذلك كان مطمئنا أن “كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا”، من “الفلكيون في ثلثاء الموت” حتى “هياج الإوز” و”ترجمة البازلت” و”أنقاض الأزل الثاني”… يعلمنا سليم بركات ذلك القفز الحر نحو الغياهب، صدى الفراغ، القبض على اللامرئي… لعل هذا ما دفع بالرائع قاسم حداد أن يعتبر أن أجنحة سليم بركات الكثيرة تجعله سرباً وحده، يقول: “كلما قرأت شعر سليم بركات سمعت صوتا غامضا يستعصي على التفسير، لكنه أكثر السبل متعة في التأويل، الشعر هو هذا في الأصل: شأن لا يستقيم مع التفسير، ولا يمنحه جدية وجمالا مثل التأويل.. فالشعر مع سليم بركات، هو الرمز الخالص المصفى الذي يصقل مخيلة القارئ لكي تصير جديرة به، بالشعر”.

في نصوص سليم بركات نحس بقيمة المعجز اللغوي، كيف نتوفر على ذات المعاجم والقواميس التي أحاطت باللسان العربي، ونتساءل كيف يمنح بركات للغة نصوصه الإبداعية زهو الربيع، شموخ الجبال، صفاء الماء.. مجنون هو هذا الفتى المسكون بالتحول، اكتشاف الغامض، زرع الفخاف في طريق القراءة الكسولة.. كم هي متعبة نصوص هذا المشاكس الكردي؟

كيف تقبض لغته المتشظية على لآلئ الغموض، وتنشر الحقيقة في ظلال الظلمات؟ كتابة هي سليلة المحو، حيث تظل حروفه وكلماته مثل آلة حربية – كما عبر جيل دولوز – تدمر الثابت، المألوف، المسكوك، تزرع الشعر في قلب نثر الحياة اليومية، تفكك سنن المعيار وطمأنينة المؤسسات، وببراعة البستاني وهو يشذب الأغصان ويطهر الربيع من الفضلات والطفيلات دون أن يئد الحياة في الشجرة أو الوردة، يحرص سليم بركات على مد تعابيره بما لا يحتاج إلى الإسعافات الأولية لإنقادها من السكتة القلبية، لأن اللغة الشعرية التي رفعها إلى مرتبة القداسة بعد هدم ما امتلأت به الحروف والمفردات والتراكيب المسطرة في المعاجم أو بطون الأدب، هي صلب كينونته، هي هويته التي أنقذته من التشظي الهوياتي والمنفى وبؤس العالم، فخلق نصاً جميلا مهماً تعددت مسمياته وأجناسه، يظل نصاً واحداً، لعل هذا هو المعنى العميق لعبارة قاسم حداد: “أجنحة سليم بركات الكثيرة تجعله سرباً واحداً”، فلكي تفهم سليم يجب أن تكون سليما معافى من لغة البحث عن المعنى الصحيح، عشق الفضلات والزوائد، الافتتان بلغط العالم، فتنة المعنى المكتمل والدليل الجاهز، سحر الإيديولوجيا الزائف، الهوية المتشرنقة على ذاتها مثل بيت عنكبوت هو أوهن البيوت، الفناء في الثبات والاطمئنان لسلط اليقين..

اللغة الشذرية عند سليم بركات تقربنا مما أسماه نيتشه بـ “رنة الجسد”، أي تلك السعادة الزمردية ذات الأضلاع المتعددة مبنى ومعنى، التي تمنح العالم المرح الضروري لكي لا يفنى أو يُصاب بكسر في منتصف الطريق.. يركز بركات على منح الدليل اللغوي أقصى درجات انشطاره واعتباطيته كما استخلص ذلك فرديناند دوسوسير… لذلك اعتبر أن كل نصوصه المتعددة من الشعر إلى الرواية هي نص واحد مختلف عن ذاته، في الرواية نلمس شعرية التفاصيل، نحو الفضاء grammaire de l’espace، شذرية الزمن الذي يحاكي ملامح الشخوص والوقائع حتى في أدق تفاصيلها.. في الشعر، نعثر على حكي السيرة التي عشقها الأكراد وخوَّنوه لأنه لم يبْق وفيا لما اعتبروه قضية منحصرة في تمجيد الزعماء والألقاب والجغرافيات المصنوعة في دهاليز الأروقة السرية لمخابرات النظام العالمي الجديد.

سيظل سليم بركات وشما على جسد الإبداع العربي، وستظل كتابته الشذرية تلتقط الثابت والعميق من قلب الزمن المتحول..

ستبقى نصوصه حاضرة رغم أنها سليلة الغياب لأنها تزلزل ثرثرة الأشياء، وتغوص بعيداً في خلجان الذات، التاريخ والعالم، ويحق له أن يردد مع نيتشه: “لم تستطع لغة ألبته أن تعبر قبلي عن هذه السعادة الزمردية وهذا الحنان الإلهي”.. سيظل غموض بركات واضحاً فيَّ، وسيستمر حرصه على العناية الفائقة بما كان قد أسماه ابن قتيبة بماء النص، المعبر الأساسي على أن الشعر لا يوجد في العالم، وإنما في اللغة التي لا تحاكيه وإنما تصنعه وتبدعه أو تعيد خلقه.

ايوب صابر 02-28-2016 09:17 AM

سليم بركات شاعر صرخ بشعوب المشرق: أيتها الأمة الرعاعة

سليم بركات يتميز بجديته فاختار أن يصنع الزاوية التي يطل منها على روحه وعلى العالم في بلد غير بلده ليتابع جنونه في اللغة والخيال.
العرب*إبراهيم الجبين [نُشر*في*11/05/2014، العدد: 9555، ص(9)]

بركات ورث عن أسرته العلاقة مع التراث كما ورث الكرد علاقاتهم مع الطبيعة
“إبتدْع أيها اليأسُ في مهبِّكَ يأسي
وليكُنْ قِرانٌ يُعجِّلُ الخواتيمَ، والعرسُ نفسي

وليكنْ سَهَرُ الغبارِ من عَلِيِّينْ يرمي عليَّ الحِليّ حتى أبدَّدَ بعضي

في امتداحِ الغبار؛ أو أستدَقَّ كالسهمِ حتى

تمهِّد الريحُ بي غدرها وهي ترمي منازلَ الماءِ شتى.

ومن ختامٍ،

من غدٍ أو رنينٍ،

من مجاهلَ تعلو كهندباءٍ، ومن لهاثٍ كأرضِ

يجرِّدُ القلبُ سيفَهُ الرمادَ: هاكم شهوديَ ما بين إبرامِ شكْلٍ ونَقْضِ

يدجِّجونَ البعيد بي أو ببعضي”.

أبعد من الأعراق، وأشدّ حرارة من العروق النابضة بالهوية، كلّها هويات، وفي لغته التاريخ والخيال وسحر الكلمات، اختار لغة الشريك كي يذهب بها إلى الآخر، ماضياُ في فتنته، مستعرضاً قدراته التي بلا حدود، “لغة الدين ولغة الفقه والشريعة.. اللغة العربية هي بيتي وجمهوريتي، وهي ليست كلغة المحتل الفرنسي، ليست وافدة”، هكذا يقول سليم بركات، وهكذا يرى، وهكذا يكتب، شعراً ونثراً وعالماً لا آفاق تقدر على حصره وتقييده.

من بين القرى المتناثرة في الشمال السوري، ولد سليم بركات، ابن الملاّ، الذي ورث عن بيته وأسرته العلاقة مع التراث كما ورث الكرد علاقاتهم مع الطبيعة، مع الثلج والجبال، مع الرحيل والهجرة والتبغ والأغاني ذات الأصوات العميقة الجارحة كعواء الذئاب.


الجزيرة السورية قطعة السماء

كان للخمسينات التي رأى فيها سليم بركات النور، وهج خاص في القطعة الجغرافية الإنسانية المسماة “الجزيرة” في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، على تخوم تركيا والعراق، حيث تركيبة السكان الخاصة، واللغات العتيقة للشرق مجتمعة في مثلث خير وفير وأنهار وعوالم قلما عرفتها بقية المناطق السورية التي غالباً ما كانت منسجمة الأهلين، وبينما خضعت المدن لتقلبات السياسيين والعسكر، عاشت الجزيرة تلك التقلبات ببعدها الثقافي أكثر من عصفها المباشر، فكان إهمالها في ذلك الحين نعمة، شاء لها القدر أن تقلب في سنوات الاستبداد إلى نقمة كبيرة، أدّت إلى زوال امتياز الجزيرة، وجفاف أنهارها وهجرة أبنائها وتفرقهم في أنحاء العالم، فأخذت ثقافة العالم الكرد والسريان والعرب والآشوريين والأرمن، كتّاباً ورسامين وموسيقيين لتتبعثر حمولتهم في الخرائط كما تنبأ سليم بركات لبلدته في ديوانه القديم “هكذا أبعثر موسيسانا”.

ذهب إلى دمشق لدراسة اللغة العربية، أواخر الستينات، ولم يبق فيها سوى سنة واحدة غادر بعدها إلى بيروت، ليجد الحرية التي طالما بحث عنها، وسيتحدث عنها بعد ذلك كثيراً، حيث لا حد لحرية خياله ولا لحرية جسده، ثم نشر سليم بركات أول قصيدة له بعنوان “نقابة الأنساب” في مجلة “الطليعة” الأسبوعية السورية، في العام 1971، وانقطعت أخباره حيناً عن الشام ومناخها الأدبي، ثم ما لبثت أن عادت بقوة بعد سنوات قليلة حين وصل كتابه الأول ” كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً” بقطعه الصغير وتصميمه الغريب، ذلك الكتاب الذي بقي يباع سرّاً في مكتبات سوريا من أقصاها إلى أقصاها حتى هذه اللحظة، وكأن عدد نسخه لا نهائي، فكان شعراء سوريا يحصلون عليه متى شاؤوا بهمسات بينهم وبين باعة الكتب في دمشق وحلب والقامشلي، ولم تمض سنتان حتى صدرت مجموعته الشعرية الثانية “هكذا أبعثر موسيسانا” في العام 1975.


شاعر كردي في ثورة فلسطين

انخرط سليم بركات سريعاً مع الثورة الفلسطينية في بيروت، وأصبح أحد أعضاء المنظمة والعمل الثوري الفكري، لتندلع الحرب في لبنان، وتأخذها معها في مهبّها، ولكنه شاء ألا يشدّه المهبّ على هواه، بل كما يريد سليم بركات لسيرته أن تكتب ذات يوم، فكان سليم بركات شاهداً على الحرب مشاركاً فيها، كمقاتل سرد أيامه وقطع حباله نهائياً ودون تردّد مع سوريا الرسمية، التي دخلت بجيشها كقوة احتلال لأرض لبنان، وقوة ردع ليس لغير الفلسطينيين والمقاومة الوطنية اللبنانية، ليكتب سليم بركات كتابه الذي تسبب بمنع تداول اسمه في سوريا بعدها “كنيسة المحارب” في العام 1977 فوثّق فيه الحرب، ورسم جنونها بالكلمات في مغامرة نثرية أولى، وفي السنة ذاتها أصدر المجموعة الشعرية الثالثة “للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك”، وتابع في الحرب وكأنه أحد تفاصيلها، بارودها أو متاريسها، مبانيها المتهدمة، إنسانها، ولكنه كان لا يزال في عالمه الخاص، فكتب ” الجمهرات” في العام 1978 و” الكراكي” في 1981 عن ديلانا وديرام عاشقي سليم بركات الخالدين: “أيقِظْها يا ديرام، أيقظْ فراشةَ الغيبِ ويُعْسُوْبَهُ الذهبيَّ… أيقظْ ديلانا، وأيقظْ معها البيتَ حجراً حجراً، ثم أيقظِ الساحةَ المحيطةَ بالبيتِ، وأيْقظِ السياجَ. وإذ تنتهي من ذلك كُلِّهِ أيقظِ الصباحَ النائمَ قربَ السياجِ، وقُلْ تعالي ديلانا، تعالي لنشهدَ السطوعَ الحيرانَ للأرض وهي تَذْرُفُ الحديدَ والبهاءَ على درعنا الآدمي، ولنكْشِفْ، بعد ذلك، ثديَيْنا لنصلِ الحقولِ، مرتجفيْنِ من عذوبةِ النَّصلِ إذْ يغوصُ إلى حيث يجري السمسمُ والزعفرانُ، كأنَّما نحاولُ، معاً، أن نكونَ الجراحَ التي لا جراحَ بعدَها… هيا أيقظْها يا ديرام”، “أيقظيهِ ديلانا، أيقظي الفتى الذي يتململُ تحت الشُّعاعِ المنسابِ على صدرِهِ العاري.

كتب عنه الشاعر العراقي سعدي يوسف قائلا: "أعظم كردي ظهر بعد صلاح الدين الأيوبي"، ولم يتردد بركات بمهاجمة متطرفي الأكراد كما حارب طويلا من أجل قضيتهم
أيقظيهِ وأيقظي النهارَ والأرغفةَ، ثم املئي دلوَكِ -الدلوَ الذي تسقيْنَ به حيواناتِ الصباحِ التي لا تُرى -املئيهِ شَرانِقَ قَزٍّ وتوتاً مما يتساقطُ من المدائحِ، لتخيطي بالحريرِ والتوتِ هذه العذوبةَ المُسْدلةَ حول ديرامَ. أيقظيهِ أيقظيهِ ديلانا”، في أكثر من مشهدية سينمائية سحرية فائقة بدأها سليم بركات هكذا: ” تيتل على الهضبة، وسكون يرفع قرنيه عاليا كالتيتل، فلا تقتربنّ أكثر أيها الدليل، ولا تبتعدنّ أكثر، مكانك هو المكان الذي ترى منه الجذور الجذور، والأرض ميراثها. تيتل على الهضبة، وسكون صلد يرفع قرنيه عاليا كالتيتل”.


سيرة الطفولة والصبا

لم يغادر القامشلي، رغم أنه غادرها، كتب محموماً بها في بيروت سيرتيه الشهيرتين، “الجندب الحديدي ـ سيرة الطفولة ” في العام1980 و”هاته عالياً، هات النفير على آخره – سيرة الصبا” في العام 1982، يقول عن القامشلي: ” أستطيع أن أصفها سنتيمتراً بعد آخر بعينيها هي، في الأطلس، الذي لم تغادره من أعوامي العشرين.

تستطيع، هي، أن تصفني نحيلا نَزقاً، عاقلاً كهواء طائش. ليس هنالك من قامشلوكي أخرى. عندها أخت، بالاسم ذاته، كبرت – فيما بعد – بالذين يعرفون أن أختها الأولى تقيم معي حاضنةً أطفالها”، في تلكم السيرتين، كتب سليم بركات ذاكرة من عاشوا، ومن سيعيشون فيما بعد أقصى فقْدِ ما رآه هو وجيله، بعد أن زالت ملامح المكان وتخالط الزمان بالاعتيادي والمألوف، فلم يتبق سوى غرابة سليم بركات الراوي والشاهد والحي، “السِّيرة الناَّقصة لطفل لم يَرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيُّها القطا” كتب سليم بركات فيها يوميات الطفل المسكون بالحياة: “إثْنا عَشَرَ أرْنباً حَصيلَةُ المَجْزَرَةِ، وَعِشْرونَ يَوْماً من التَّسَكُّعِ حوْلَ البَيْتِ دونَما جُرْأةٍ على دُخولهِ، أنامُ بيْنَ شُجَيْراتِ القُطْنِ في حقْلٍ قريبٍ، وآكُلُ ممَّا يسرقُهُ لي إخْوَتي”، سجّل مشاهد الجزيرة ووثائقها كما في صورة ساحرة لشيخة قبيلة طيء: ” كُنّا أطْفالاً آنَئِذٍ، يَأْخُذُنا الدَّهَشُ مِنْ عَنود – الأُنْثى الَّتي تَرْتَدي حَطَّةً كالرِّجالِ، ودشداشةً كالرِّجالِ، وسترة كالرِّجالِ، وتتمنطق بمسدس كالرِّجالِ”.
رسم سليم بركات بكتابته عالما ملؤه الحجل والريش المتطاير مستعرضا عضلاته اللغوية وبلاغة العقل والمخيلة فكانت تجربته فضاء واسعاً لا حدود له

الخروج من المنافي الجديدة

كتب الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف: ” في العام 1979 ، كنّـا في بيروت ، بين أضلاع ما سُـمِّيَ الكيلومترَ الأخير، وقد تأكّدَ أنه أخيرٌ، بعد أن طردتنا دباباتُ آرييل شارون في صيف 1982 وخريفها، فلم نجدْ، بَعدها، أرضاً ثابتةً ثباتَ ذلك الكيلومتر المربع الأخير، كنتُ أعرفُ أن سليم بركات مقيمٌ مثلنا، في الفاكهاني، سألتُ عن مَـظانِّهِ، وعرفت عنوانه، دخلتُ المبنى، وتوجّهتُ إلى باب المسكن، ضغطتُ الزرَّ، مضت دقائقُ، حتى لقد خِلْـتُ أنني أخطأتُ المقصدَ… البابُ يوارَبُ بطيئاً، ومن الفتحة بين الباب والجدار تظهر فوّهةُ مسدسٍ، تتلوها ” سبطانةٌ ” كأنها لطولها وشناعتها سبطانةُ بندقيةٍ،

ـ من؟

ـ أنا سعدي يوسف ، يا سليم بركات… أرجوكَ اخفضْ فوّهةَ المسدس″، ليقول عنه سعدي بعد ذلك :” قلتُ لسليم بركات ، مرةً: إنكَ أعظمُ كرديٍّ بعد صلاح الدين، واليومَ، بعد رُبع قرنٍ من مَـرِّ الزمان، أعود إلى القولة ذاتها، وأنا أكثرُ اطمئناناً إلى صوابها، بعد أن شهدتُ ما شهدتُ، وعرفتُ من عرفتُ”.

ولكن سليم بركات المحارب، غادر كنيسته اللبنانية الفلسطينية، وخرج من بيروت مع من خرجوا، في تغريبة كردية سورية فلسطينية عربية متجددة، إلى تونس ثم روما ثم قبرص، حيث استقر هناك وصنع “الزاوية التي يطل منها على روحه وعلى العالم” في بيت جمع في حديقته مئات الشجيرات حافظاً أسماءها باللاتينية، متابعاً جنونه في اللغة والخيال، ليتابع مع الشاعر محمود درويش مشروع مجلة الكرمل، مطلاً هذه المرة على العالم العربي، والقارئ العربي وسوريا ولبنان اللتين باتتا خلف البحر، من نافذة واسعة، وراقية كلغة سليم بركات، وجدّية سليم بركات. “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح” مجموعته الشعرية البيضاء، ومعها أولى رواياته الكبيرة ” فقهاء الظلام” كانتا تأسيساً جديداً لما يريد سليم بركات لطريقه أن تمضي عليه، رصفٌ حجري رفيع، ليس فقط لأن اللغة رفيعة، ولكن لأن المقاصد تسطّر ذاتها في البعيد من العشرات وربما المئات من السنين، ليصبح عالم سليم بركات مفتوحاً على الماضي والحاضر والأمكنة والتفاصيل، يغرق قارئه تارة في تأريخه الخاص للكرد في وصف أسمائهم وثيابهم وعاداتهم وهواجسهم وأحلامهم كما لم ولن يفعل أحد مثلما فعل سليم بركات، وتارة يذهب إلى بيروت ونيقوسيا، والحروب الصليبية والطيور والكائنات والعاشقين والمفاهيم والأشخاص والفلزّات.


طفل بفرح لا يتوقف

وبحزن كبير أيضاً، وحكمة وطيش ودهشة، واصل سليم بركات نقل الفضاء الواسع الذي يسكن داخله، حتى حانت ساعة مغادرتها قبرص مرغماً، إلى منفاه الجديد في السويد، ليعيش منذ العام 1999 في شمالٍ قال إنه “ليس الشمال الذي كتب عنه طيلة حياته” عالم بعيد وجديد، قوانين، ومطر، وضجر، تفاصيل كثيرة ولكنها ليست كتلك التفاصيل التي تولّع بها ونقلها إلى العالم كله من عالم الشمال السوري البسيط، وعن روايته “الريش” التي كتبها في قبرص قال الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو: “نثر سليم بركات، مثل نثر ليزاما ليما، هو هدية ابتكارات دائمة، وصور مستوحاة، واستعارات أخاذة، وانعطافات غير متوقعة، وشرارات شعرية، وتحليقات مجنحة. إنه مزيج فريد من الواقع والحلم، الأسطورة والحدث المرير، لا يطيع قوانين الزمان، ولا قوانين المكان. النصّ يتجوّل طليقاً في طراز من الجغرافيا الرؤيوية، حيث المعالم خاطفة ومتبدّلة: كردستان، التي راودها الحلم ألف مرّة، تتقاطع مع قبرص الإقامة؛ الطفولة مع الرشد، والواقعي مع الغرائبي. من، الشخصية الرئيسية، يتحوّل على مدار الرواية، فهو تارة عصفور، وطوراً ابن آوى، يحادث البشر والحيوان. وإبداع بركات الأكثر حرّية يعبر كلّ حدود الممكن المعقول”.

وقال عنه الناقد والباحث السوري صبحي حديدي بأنه “الكردي- البازيار الذي شق معاني العربية من تلابيبها”.. وأيضاً “حين يتحدثون عن نوبل كردية.. فإن المرء يفكّر بأدوار الشاعر والروائي الكردي ـ السوري سليم بركات، ليس في إغناء الأدب العربي وحده، بل في الارتقاء باللغة العربية ذاتها، وصياغة بيان عربي رفيع بديع″.

انخرط سليم بركات في بيروت مع الثورة الفلسطينية ناشطا في العمل الثوري والفكري معاً، لتندلع الحرب في لبنان، وتأخذه معها فكان شاهداً على الحرب مشاركا فيها كمقاتل وشاعر

الأمة الرعاعة

كتب سليم بركات قبل سنوات، مقاله الغاضب” إنها ليست الأندلس يا يسوع″ ضارباً ما سمّاها بالرعاعة الأمة، التي تنجب الإرهابيين والعبيد، وتغط في سبات وصمت القبور، فلم يدرك كثيرون جوهر الزفرة التي أطلقها صدر سليم بركات، وهو وارث تلك الأمّة ثقافياً وإنسانياً، فهوجم وانتقد وعدّه البعض متعصباً لكرديته عنصرياً ضد العرب والمسلمين، ولكن آخر من يتهم بالتعصّب العرقي والديني، صاحب الأعمال التي احتفت بالأمّة، وهابت حضارتها وانحنت لجلال صنعتها، والكردي ذاته الذي انتقد الأمة ونعتها بالرعاعة عاد ليعصف بوجه الكرد أنفسهم من جديد مع تصاعد انتفاضة السوريين، كتب سليم بركات: ” نحن الكرد السوريين لا نريد أصناماً على مداخل الشمال السوري ومخارجه، تماثيل العائلة الحاكمة الدموية تستجمع ظلالَ حجارتها هاربةً وهي تضع إزميلَ النحت في أيدي عشيرة أوجلان ـ فرع البعث الجديد بلقبٍ كردي ـ كي تنحت لأوجلان تمثالاً من خُدعة الأسد، لا نريد الخروج من عبودية أصنام البعث إلى عبادة أصنام الحزب الجاثمة بمخيلتها الركيكة في لقب (العمِّ) هوشي منه، وماو، وقبعة ستالين. حزبٌ آمن بإلغاء كل مُخالف لضحالة منطقه السياسي، أفراداً أو تجمعات، يستلم، الآن، سلاحَ الأسد، ـ كفعلِ الأسد وحلفه الإيراني، بالسلاح حكراً في لبنان على مستبِدٍّ بالدولة قراراً، ـ وخططَ الأسد، لنقل كرد سوريا من عبودية عانوها والشركاءَ إلى جحيم المجابهة مع شركاء الكرد أنفسهم، وجحيم التمزيق بمخاوف الجار التركي؛ بل أخذهم إلى نكبةٍ أينَ منها نكبةُ البرامكة”.


محمود درويش وسليم بركات

قدّم سليم بركات شعراً متطوراً من حيث البنية والتراكيب واللغة والصورة في وقت كانت لغة الخطابة ما تزال تطغى على الشعراء، والحداثيون منهم كانوا يحوّمون في التغريب واستنساخ تجارب شعراء أوروبا وأميركا. ولم تنتج الثقافة السورية، بعد سليم بركات مثله، وعاش الشعر والرواية السوريان سباقاً كبيراً مع سليم بركات على اللغة والمعاني والصور، فمن لم يتأثر بسليم بركات، الذي قال عنه صديق رحلته محمود درويش، في ندوة جمعتهما بإحدى مدن أسوج الاسكندنافية: “بذلتُ جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات”، ولكنّ كثيرين ممن ظهروا بعد سليم بركات في سوريا والعالم العربي وفي ثقافة المشرق بعمومها، لم يفلتوا من فخاخ بركات التي نصبها في كل مكان لطيور السحر والإبداع والترف الرفيع الذي حلم به الطفل الشقي، ابن الملاّ بركات، ذات يومٍ لأهله كلّهم في الشمال… الذي استهلّ كتابه الأول يوماً بهذه الصورة:

“عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا. في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا”.

ايوب صابر 02-28-2016 09:36 AM

مقولة ساخنة

منذ ايام وانا اتعرف على أدب سليم بركات وهو كردي الاصل عربي اللسان وقد احترت في مصدر خياله السحري وعبقريته الابداعية في مجالات الشعر والنثر والفن لأنني لم اعثر على تفاصيل عن طفولته المبكرة وهل عاش اليتم او لا رغم انه دون سيرته الذاتية في كتابين وليس كتاب واحد...صحيح ان الشعوب المهمشة والمشردة تعيش يتم الوطن وصحيح ان الغربة المبكرة عن مسقط الراس ثم السفر والتجربة النضالية حيث يجد الانسان نفسه على حافة قبر مفتوح وفي مواجهة الموت في كل لحظة ثم الغربة... كلها عناصر يمكن ان تجعل الدماغ يعمل بصورة فوق عادية ويبدع أدبا جميلا سحريا لكن ما ابدعه هذا الانسان يتعدى مثل تلك العوامل العامة ولا بد ان يكون قد اختبر اليتم على الصعيد الشخصي والبيولوجي ... فلا يعقل ان تبدع مخيلة مخرجات بهذا السحر والجمال والقدرة الفلسفية التعبيرية واللغوية وان لا يكون الموت منهلها. وعليه استطيع ان اجزم بان سليم بركات يتيم وان لم يكن فان هناك سر عظيم في طفولته جعلته يختبر اليتم وهو بين ظهراني والديه .

ايوب صابر 02-28-2016 04:23 PM

سليم بركات
بواسطة جارسيا

ما زال المبدع الشاعر والروائي سليم بركات يمارس طقوس جنون الإبداع بالمضي بالقارئ نحو عوالمه الخلاقة العجيبة التي لم يعهدها من قبل لأى كاتب آخر ...

ترجمة البازلت هو عبارة عن قصيدة طويلة يتابع فيها سليم بركات مغامرته اللغوية الساحرة , ومحق الكاتب السوري ابراهيم حاج عبدي عندما قال : في "ترجمة البازلت" يواصل بركات قنصه المتقن في حقول البلاغة والاستعارة والرمز، ويمضي في قطف درر اللغة النفيسة، ورغم غموض عوالمه الشعرية لكن القارئ يستشف بان بركات يصوغ في هذه القصيدة الطويلة ملحمة ذات مذاق كوردي، ويقدم مراثي لأبناء شعبه الذين تاهوا في الجهات، إذ لفظتهم الجغرافيا، ولم يرأف بهم التاريخ يوما، وكأنهم ضيوف أبديون على هذا الكوكب، يقول بركات:

طووا معاطفَهم بأناةٍ.

وضعوها جانباً على المقاعدِ الأزلية.

وضعوا قبعاتهم جانباً.

وضعوا الرياحَ، والسهولَ، والجهاتِ جانباً.

وضعوا الكونَ جانباً على البساطِ الخيش، الذي تلقَّفوا عليه زيتونَهم في حصاد الألقِ اللاذع كخريف.

وضعوا الأقدارَ جانباً، كي يشدُّوا بأيدٍ حُرَّةٍ على الأيدي الممتدة إليهم من صدوع المعقول.

وضعوا أنفسهم ملبَّدةً، كخيال الجوز، جانباً.

وأفاقوا مقتولين.

ترجمة البازلت ديوان شعري مدهش ومجنون بمعنى الكلمة جنون من النوع الذي قال عنه الناقد عابد إسماعيل :
جنون المعنى المنفلت من كلّ يقين، وجنون الأسلوب المتحرّر من كلّ نسق. وبالجنونِ يدوّنُ الشاعر سيرةً ذاتيةً وعامةً،مؤسّسةً على نفي متواصل، وهجراتٍ متواصلة،وموتٍ متواصل ....

----

الرائع سليم بركات ( عرّاب المتاهة وخيّال الهاوية )كما يسمي نفسه فهو صاحب إبداع لا يعرف حدود و مازال منذ أربعة عقود يقدم كل عام للمكتبة العربية كتاب جديد في الشعر والرواية .....أعماله تبدو أقرب إلى أن تكون ملحمة أدبية وليست مجرد روايات أو دواوين شعرية ..... وليتك تجدي فرصة للإطلاع على عوالمه الساحرة ...
---
الكتابة عند سليم بركات لها عالم خاص و مختلف كثير عن الأعمال التي عهدنا الإطلاع عليها من قبل ..
إنه صوت متميز وفريد بمعنى الكلمة فقد منحت أعماله للرواية العربية نكهة لم تعهدها من قبل على الإطلاق .... وخير نصيحة للذين يودون الإطلاع على أعمال سليم بركات ما قالته الكاتبة إلهام ملهبي في الحوار المتمدن ( قبل أن تقرا أي نص من نصوصه البس درعا واقيا يحميك من شراسة لغته و جسارتها المحمومة، و استحضر كل تعويذات الجدات التي تحفظها كي تسلم من سحره المقرون في شكل حروف و حتى لا تصيبك لعنة ما و أنت متوغل في هضابه و سهوله و جباله التي لا تنتهي) ...أتمنى أن تجدي له بعض الأعمال وتطلعيعليها و عليك بموقع نيل وفرات مضمون وعن تجربة ....


---
عوض عيد قال عنه

Awad Eid
01-13-2010, 01:38 AM
أنا تركت بيتي في مرحلة كتير مبكرة من حياتي كطفل حتى، الطفل كان بيحس نتيجة الضغوط الهائلة عليه بإحساس أن يترك عائلته وهو طفل بعد، مسألة الهجرة كانت تتراكم عنده وهو في سنوات عمره الصغيرة جداً، الطرية جداً، مسألة التخلص من العائلة مش مثل الآن بمعنى الاستقلالية، بس طيلة 18 سنة، لا، على الإطلاق، نتيجة تراكمات ضغوط، وقهر وكبت كان الطفل يتمنى أن تلتغي العائلة، أن تموت العائلة من أجل أن يستقل، أو أن يتحرر كونها هي سقف من سقوف القمع

هذا ما قاله الروائي والشاعر سليم بركات في برنامج موعد في المهجر عام 2001 وهو الذي ظل في دوائر الهجرة بحثا عن اقامة دائمة ,,

ملاحظة مهمة : هنا يصرح سليم بركات ويتحدث عن يتم ما وظروف صعبة ولو انه لن يفصل لنا عن تلك الضغوط التي يمكن ان تدفع طفل لترك عائلته في سن مبكرة ولا بد ان الوضع كان صعبا بحق؟

ايوب صابر 02-28-2016 04:29 PM

سليم بركات في مهبّ الفانتازيا

حسين بن حمزة

كردي ينتظر «غودو» بين أنفاق استوكهولم
في السرد، كما في الشعر، نصّه مجبول بالبلاغة. وروايته الجديدة المرصّعة بالألغاز، تدور أحداثها في السويد حيث يقيم هذا الشاعر السوري الذي يقف على حدة فوق خريطة الأدب العربي الحديث ما إن ينتهي القارئ من رواية سليم بركات الأخيرة «السلالم الرملية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) حتى يقول لنفسه: حسناً... يمكنني الآن العودة إلى الواقع والحياة الاعتيادية. ولعل قارئاً غير صبور، وغير مستعد لبذخ سليم بركات المعجمي وخصوبة مهاراته البلاغية الأخاذة، سيضجر قبل اكمال الرواية. بركات يكتب رواية فانتازية، يمكن القول إنّها من اختراعه ولن تحدث في الواقع أبداً. ففي حدود علم القراء العاديين، لم يحدث أن كتب أحدٌ رواية عربية محشوة بهذا المقدار من الشعر والتخييل والتوريات والابتكارات اللغوية. ولعل رواية كهذه لا تتوافر في آداب ولغات أخرى... القارئ يعرف أنّ بركات لا يعبث، وأنه يحتفظ بأصل واقعي ما لروايته، إلا أن النتيجة النهائية أن الغرائبية والغموض يسودان عالم الرواية. تتحول الكتابة إلى لعبة أسلوبية يجاري فيها المؤلف مهاراته وقدراته، غير مكترث بأنّ الرواية ستخاطب قراء من شرائح متفاوتة. لا يهتم بركات إذا زادت الحمولة التخييلة على حساب السرد الروائي أو إذا انجرفت الرواية إلى حجب كل تفصيل واقعي بغلالات رقيقة أو سميكة من الترميز أو إذا كان انهماكه الدائم في التوريات يؤثر سلباً في حسن سير الرواية. وهذا يعني أنّ رواية بركات تطرد طائفة واسعة من قراء الروايات الاعتيادية. سرد بركات، مثل شعره، لا يقيم في أعالي البلاغة فحسب، بل في أعاليها الأكثر وعورة أيضاً. ما من عبارة أو مشهد يمكن أن يمر في نصه خالياً من ممارساته البلاغية إلى حد يمكن القول إن روايته تنتمي إلى الخيال المعجمي، مثلما يُقال عن فيلم ينتمي إلى «الخيال العلمي». تتحرك الرواية على خطّين حكائيين. الأول حديث يدور في محطات عدة لقطار الأنفاق في استوكهولم، ويتمثل في انتظار عائلة يالوه في بلدة سكوغوس قرب استوكهولم لنبي مفترض سيلبّي دعوة الأب إلى العشاء. أما الخطّ الثاني فيعود إلى زمن قديم، حيث يرسل تيغوتكين شاه (حاكم كاروكشين) ستة سعاة على جمالهم (تالماجور، وتاهشين، بالبور، جانكوه، باكالبا، بيغون) في رحلة غامضة إلى ممالك زاهينغ. يقطعون جبال كاكونت وإقليم مودابورك وصحراء لوكهين، ليدونوا هناك كتاب «التمويه على الأقدار المعلومة»، ويستنسخوا «ثقة الملتبس»، ويحضروا رقعة الشطرنج ذات الحجارة الأكثر صقالة المصنوعة من خشب «قسطل الخيل»، من أجل تعليم ابنه لنك شاه الذي يعدّه ليكون نبياً في كاروكشين. يتوزع أفراد عائلة يالوه على الأنفاق، إبيريم ابن يالوه يسأل القادمين في نفق سودرمالم إن كان أحد منهم جاء باحثاً عنه (الصورة تذكرنا بمَن ينتظرون في المطارات حاملين اسم ضيف أجنبي). نوهين الابن الآخر ليالوه، ينتظر في نفق فريدهيمسبلان، والضرتان ميريما وسارها، زوجتا يالوه، تتسوقان في نفق باغرموس. وفي نفق سلوسن، تجري مطاردة بين الأخوين أكيلون وبارسيس، حيث يحاول الأول قتل الثاني الذي يقول له إنه لن ينجح إلا إذا صوب سهمه إلى رضفة ركبته اليسرى (ينجح في إصابته في نهاية الرواية). وفي نفق هوفودستا، نجد الأختين سالوميا وهيدجيرا. وفي نفق رينكبي، يكتشف يوش أن القطارات لم تعد تمر فيه. ثم نجد أشمانو ينتظر النبي الموعود في نفق رودمانشغاتان، وفي نفق شارهولمن، تنتظر الابنة ليداليا. وفي المحطة الرئيسية «سنترال»، نجد يالوه نفسه ومعه عائلته كلها. ثم تجتمع العائلة في البيت منتظرة النبي على العشاء. لا يأتي النبي، بل تأتي امرأة ومعها كلبها وتدعي أنّ البيت ملكها، ثم تغادر، بينما ينجح بارسيس في قتل أخيه أكيلون. فكرة النبي الموعود تجمع خطي السرد. ففي رحلة السعاة الستة، يلتقي هؤلاء برجل لا يلبث أن يحتضر بين أيديهم، ويجدون في متاعه شيئاً من كتاب «ثقة الملتبس» وصندوق الشطرنج المطلوب. في تلك اللحظة، يسأل بالبور رفاقه: «أكان هذا الغريب يهيّئ لظهور نبي في قومه؟». بالبور وباكالبا يقرران العودة بالكتاب والشطرنج إلى كاروكشين، بينما يرفض الأربعة الباقون العودة. أثناء العودة، يقطع عليهم تسعة أنفار الطريق ويسلبانهم متاعهم بينها الكتاب والشطرنج. يقولون لهم: «أعيدوا إلينا متاعنا، أو اقتلونا». فيجيب زعيمهم: «لا نقتل من لم يتدبروا لأنفسهم نبياً بعد». في «السلالم الرملية»، اعتنى بركات بكل ما من شأنه أن يجعل عمله غرائبياً وغامضاً وبعيداً عن الواقع. الرواية، وهي الرابعة عشرة له، مكتوبة وفق هاجس إيقاعي وشعري. السرد بنبراته العادية مستبعد كلياً. البنية الإيقاعية (أكاد أقول الموزونة) تفرض قراءة بطيئة ومتمهلة على القارئ، كي يلمّ بالمعاني المدفونة تحت حركة الابتكارات والانزياحات التي لا تتوقف. الأسماء والتسميات الغريبة تضيف جرعة أخرى من الفانتازيا والمشقة على الرواية. لا تنجو أي كلمة في الرواية من حمولة الفصاحة والمتانة، ولا يسلم أي تفصيل صغير من «شر» النبرة غير المروّضة لصاحب «كهوف هايدراهوداهوس». مثال على ذلك، وصفه ــــ على لسان أفراد عائلة يالوه ــــ الرسوم والملصقات والموجودات التي تزين جدران الأنفاق، كما هي الحال حين يكتب عن «كهف الصرافة» (الصراف الآلي): «في اللوح الزجاج جحور تتبادل الأيدي، عبرها، المكاشفات الأزلية، المحصورة في تحويل المال إلى إيمان بالأمكنة، والأقاليم، والدول، والعناصر التسعة للطبائع المنفصلة عن أمهاتها، فتتطابق بحكمة الميثاق في ورقٍ نقدٍ، أو معدنٍ مصكوكٍ. نقدٍ ناطقٍ بلسان التراب والماء الإلهيين». قد ينسى القارئ بعد صفحات قليلة أنّه يقرأ رواية. ولا يبقى أمامه ــــ إن كان من هواة هذه الكتابة ــــ الا التلذّذ بمهارات سليم بركات وفتوحاته اللغوية. وربّ قارئ آخر سيسأل: أين الرواية في كل هذا المعمار الغرائبي والتخييلي والمعجمي؟
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | hbinhamza@
ثقافة وناس
العدد 313 الثلاثاء 28 آب 2007

ايوب صابر 02-28-2016 06:01 PM

الملحق النسق والكاوس في روايات سليم بركات
علي جازو
13 حزيران 2015

يفيد النسق نظاماً واضحاً للسرد الروائي، فيما يعني الكاوس العماء والفوضى واللاتعيين. وإذا كان النسق شكلاً تتخذه الرواية لطرح خصوصيتها الأسلوبية، فإن الكاوس يعمد إلى كسره وإحلال نسق آخر محله بغية خلق مساحة خيال جديدة داخل وعي القارئ، وداخل اللغة.

يعكف الدكتور محمد بوعزّة في بحثه الأكاديمي الجديد، "هيرمينوطيقيا المحكي" (دار نايا، بيروت، 2014، 368 صفحة)، الذي نال عليه رتبة "مشرّف جداً" تحت إشراف الدكتور سعيد يقطين في جامعة محمد الخامس في الرباط، على تناول ثلاث روايات لسليم بركات، متلمساً طرق السرد لديه ونماذج الحكايات الأسطورية والفولكلورية الكردية، وعلاقاتها المتشابكة، أفقياً وعمودياً، مع النسق الغرائبيّ المكثف (الحلم، الفانتازيا) الذي يسم أسلوب الشاعر والروائي سليم بركات في معظم أعماله. الروايات الثلاث موضوع البحث والدرس هي: "فقهاء الظلام" (1985)، "الريش" (1990)، و"معسكرات الأبد" (1993).


المحكيّ في "فقهاء الظلام"
نجد في راوية "فقهاء الظلام"، شخصية بيكاس التي تولد وتكبر خلال 24 ساعة من لحظة ولادتها إلى لحظة هروبها وضياعها (الموت) في خاتمة الرواية التي ما هي سوى اختصار لعمره القصير والمضغوط في يوم واحد فقط، وما يحمله من أسئلة تربك الأب التقليدي والده (الملا بيناف) وأمّه، مع حكايات فرعية مستلة من محيط القرية حيث يعيش المجتمع الكردي شمال شرق سوريا.
"يجمع بيكاس في كينونته بين ما ليس قابلاً للجمع، بين المتناهي واللامتناهي، بين الإنساني والخارق، بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين المرئي واللامرئي... وتتداخل المتناقضات في مساره السردي: الاختفاء والظهور، العقل والجنون، الطبيعة والإنسان، المقدس والمدنس. إنه الظلام الشامل، المتاهة والعماء، ما دام يحطم كل مرجعيات الفهم، ويوقع بالشخصيات في فخاخ الحيرة والجنون والعبث" (ص322).
تنقسم الراوية في خطين سرديين متوازيين ومتقابلين، إذ يحمل كل فصل حياة خاصة مقابلة لفصل تالٍ. ثمة حركة الكائن الحيواني اللزج، وهو وصف لما قبل تكوّن الإنسان في الرحم جنيناً. ثمة في المقابل حياة بيكاس، والده وأصدقاء والده وأقربائه، التي تنضغط وتتحول وفق مسار سريع غير عابئ بالزمن الفيزيقي الطبيعيّ. يشكل ذلك عامل ضغظ على وعي الوالد (السلطة والعائلة) حينما يولد بيكاس، وتختلط لديه فرحة تجدّد أبوّته مع مشاعر الخوف والرهبة، مما يدفعه إلى الإحساس بمصيبة حلت عليه، وفي الآن تشدّه إلى بيكاس مشاعر الأبوة والعطف.
يرى الباحث أن "المحكي المركزي في "فقهاء الظلام" يتفرع عبر آلية التوالد الذاتي إلى محكيات عديدة، هي محكي بيكاس ومحكي الملا بيناف ومحكي عفدي ساري، ومحكي مجيدو بن عدفي ساري...، مما يحفز آلية التوالد الذاتي بين هذه المحكيات عبر ارتباطها بواسطة علاقة قرابة، ذلك أن الشخصيات الأساسية في هذه المحكيات تربط بينها علاقة أخوة أو صهارة أو أبوة".
من ضمن ما يخلص إليه الباحث وجود تقاطع بين أقدار أسرة الملا بيناف والتاريخ الكردي. فمدار رواية "فقهاء الظلام" هو الإشكال القدري من خلال سؤال الحيرة التي تحاصر الأب وعدم قدرته على قول الحقيقة ولا نقلها إلى أبنائه. ومثلما "كانت مصائر بيكاس خارج أي تدبير عقلاني، فإن التاريخ الكردي ظل خارج تدبير الأكراد، حيث تتحكم فيه قوى إقليمية خارجية وتدبره وفق مصالحها" (ص 174). تتضمن الصفحات الأخيرة من "فقهاء الظلام" رحلة في عاصفة ثلجية حيث تنتهي سيرة بيكاس مساءً، فيما يجهد الأب بحثاً خائباً عنه، كما لو أن ولادته التي بدأت بأعجوبة صباحية مبكرة ما هي سوى تمهيد إلى نهايته المسائية الملغزة التي تنتهي برحلة ثلجية.

القرين والروح المزدوجة في "الريش"
تتناول "الريش" أزمة النظير أو الندّ (القرين) حيث يتناوب التوأم مَمْ محطات حياة مزودجة، حيوانية وإنسانية معاً، إحداها في قرية الهلالية (قامشلو) والأخرى في قبرص حيث مهمة البحث عن "الرجل الكبير".
يرى الباحث أن اللغز في هذا النص الساحر يخالف بنية اللغز في الرواية التقليدية التي يتم فيها طرح اللغز في البداية وتأجيل حله بواسطة إبطاءات سهلة ومعروفة إلى النهاية المتوقعة، حيث ينكشف اللغز، بغرض التشويق وإثارة القارئ. في المقابل، لا يأتي اللغز في رواية "الريش" إلا ليزيد عماءً وتشويشاً في مسار تصويره، ولا يتم حله ولا إضاءته قطّ. يتضاعف اللغز في دوائر أصغر وأكثر التصاقاً وعضوية داخل جسد البطل مم، حينما يتحول إلى ابن آوى ويكتسب خاصياته الحيوانية التي تحرره من معايير العقلانية المقيدة لهويته الإنسانية.
على هذا النحو، كما يرى الباحث محمد بو عزة، تنهار مبادئ الهوية والعقل بمعناهما الحصري والحاصر، ومعها يتمزق منطق الراوية التقليدية أمام ظاهرة التحول والمسخ الفريدة، إذْ في ليلة واحدة يتحول مم إلى ابن آوى ويتجه إلى الحقول ليتلحق بفصيلته الحيوانية: "ومم آزاد يطلق عويله أيضاً بين جنسه الحيواني، رافعاً عنقه على شكل قوس مشدود، فيما يهتز لسانه الطويل اهتزازاً قاسياً داخل فكيه المفتوحين في صرامة" ("الريش"، ص 26، ص 324 من الكتاب). وفي الفجر يعود إلى المنزل وقد تحوّل إلى إنسان.
يلاحظ الباحث المغربي أن شخصية مم في راوية "الريش" تتقاطع مع شخصية بيكاس في "فقهاء الظلام"؛ فلا قواعد تتحكم بتحولاتهما سوى الهذيان والتناقض والطفرة التي تحطم حدود العقل. ففي إمكان مم أن يكون إنساناً وحيواناً في الوقت نفسه، وهو كحال بيكاس لا يستقر على هوية واحدة ثابتة، أو يتجدد وفق حال في عينها، وبذلك يخرق الحدود والمعايير.
في شبكة التحولات اللاعقلانية هذه، على تقاطعها مع الجغرافيا الكردية المتأزمة وصراع الهويات، وعنف السلطات الديكتاتورية المتلاحقة، يطير الملا سليم، والد مم، حينما يتكلم مع النهر والنبات والطيور، ويلاحقه ابنه في رحلة صيد إذ يتمنى بذلك اللحاق أن يغدو مثل أبيه، أو ليصير أباً في التو والآن، فيجمع الطفولة إلى الرجولة والبراءة إلى القوة بقبضة واحدة.
هكذا إذاً، تسقط الحدود، التي طالما مثّلت جرحاً في الوعي الكردي بالمعنى السياسي، وتنهار فواصل الحواس أمام قوة الخيال المحلق، ليتشيّد عاملٌ تتفاعل فيه الكائنات من بشر وحيوان ونبات، من سماء وغيوم ومطر وعشب وزهور برية، وتتبادل الخصائص والهويات؛ غير عابئة بمبادئ العقلانية والمنطق المعهودة والمستقرة.

ملائكة وأشباح في "معكسرات الأبد"
تعدّ رواية "معسكرات الأبد" تلخيصاً عجائبياً لأعوام وجود الفرنسيين في شمال شرق سوريا. وتأخذ الرواية على عاتقها تظهير تلك الفترة وفق مسار ومصائر شخصيات هامشية طَرَفية، لكنهم يظهرون كأشباح (أحمد كالو، موسى موزان، وخاتون) من جهة، مع وجود ملائكة يحملون خرائط (مكين، نفير، وكليمة)، إضافة إلى بحث عبثي للوصول إلى مكمن الكائن الناري، وهو أحد ألغاز الراوية، الماكث خلف الهضبة التي تعدّ مسرح الراوية ومجال تحرك حوادثها.
يرى الباحث محمد بو عزة أن السرد في هذه الراوية يتجه إلى "تفريد الشخصية الطفلة هبة، حفيدة موسى موزان، حيث يشكل هذا التفريد العتبة الأولى نحو تفريغ محكيّ فردي خاص، يستقل عن محكيّ عائلي تقليدي لبنات موسى، غير أن هذا النموذج الفردي لا يذهب بعيداً في الانفصال عن النموذج العائلي، ربما لأن الفاعل ليس سوى طفلة" (ص 106),
عدا الطفلة هبة، ثمة المحكيّ السرديّ لكل من الديكَين، رَشْ وبَلَكْ، ومحكيّ الملائكة الثلاث، مكين وكليمة ونفير، والأوزات الثلاث أيضاً. هكذا نعثر على تقاطع تاريخي وجغرافي مع تسليط الضوء على وجود حيواني أليف يربط الريف بمشقة تجاوز حدود الجغرافيا المغلقة والخيال الجمعي (ثورة عامودا) مع واقع الألم والصراع السياسي العربي الكردي الفرنسي، حيث تأخذ معارك الديكين رش وبلك بداية الرواية ونهايتها، بما يشي كونهما رمزَين عن صراع عبثي سرعان ما ينتهي حينما ينال التعب منهما، ويهبطان الهضبة نحو الدغل، ويختفيان مثلما ظهرا في بداية الراوية.
تأخذ الحوارات بين الشخصيات، في رواية "معسكرات الأبد"، طابعاً واقعياً وخيالياً في وقت واحد، ففي الوقت الذي تنصرف فيه بنات موسى موزان إلى تدبير شؤون الحياة اليومية (التنظيف، جلب المياه، الطبخ، استقبال الضيوف...)، يأتي كل من مكين، وكليمة، ونفير، كي يدخلوا سردهم اليومي العادي في طور آخر، إذ يبحثون عن الكائن الناري، مع تبادلهم بعضهم مع بعض كلاماً لا يفهمه أحد من بنات موسى موزان، ولا الحفيدة – الطفلة هبة. في المقابل يستمر موسى موزان في اخفاء الكائن الناري تحسباً منه على اعتباره "الشيطان" الذي يجب مدّه بمياه باردة كي لا يخرج من مخبئه ويطيحهم. هناك إذاً ما يجعلنا نفهم عن وجود حوار "أجنبي" غير مفهوم بين طرفين، الأول يرى في الكائن الناري شراً مطلقاً يجب تحاشيه، والثاني يأتي كي يكتشف مكانه، كما لو أنه كان كنزاً ينبغي إماطة اللثام عنه.
تتجسد الأبعاد الزمانية في هذه الرواية، كما يلاحظ الباحث، في صورة فقدان الأرض ومعاناة الاحتلال، ويتم ترهين هذه الوضعية من خلال صورة الحملة الفرنسية التي تؤسس لنمط ونظام عيش جديدين، بما تمثله من تداعيات رمزية على نماذج الفهم والتمثل الذاتيين لدى أبطال الرواية، الذين تشكل الهضبة، كمعطى جغرافي محدد من مدينة قامشلو في عشرينات القرن الماضي حتى أربعيناته مكاناً تجتمع من حوله الحوادث: "وفوق ذلك الجزء من الهضبة، على مبعدة غير هينة من حوافها بالطبع، كانت الحفارات والمحادل الفخمة التي جاء بها الفرنسيون لتعبيد طرق الإمداد تعمل في صخب على ترتيب أمور استغلقت على قاطني المنزلين فوق الهضبة، وعلى طيور الهضبة، ونباتها" (ص 245).
بسبب هذه التحولات المفاجئة للهضبة، تنهار الحدود والمعايير. يُقتل موسى موزان وأحمد كالو وخاتون؛ يغيبون عن الهضبة، لكن لا شيء يفوتهم مما حدث، فالموت لا يشكل حداً فاصلاً بين سكان المكان وسكان المعنى حسب التخيل الروائي لسليم بركات.

صحيفة النهار

ايوب صابر 02-28-2016 07:20 PM

سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
دلور ميقري
2006 / 9 / 22
عن الحوار المتمدن - موبايل

1

بظهور ثلاثيته الروائية ، " الفلكيون في ثلثاء الموت " (1) ، إتضحت أكثر فأكثر ملامح أدب سليم بركات ، الفنية . هذا الكاتب ، الذي خط لنفسه أسلوباً خاصاً ، فريداً ، غيرَ مطروق من قبل في فن الرواية العربية . ولكي يستجلي المرءُ تلك الملامح ، الموسومة ، فلا محيدَ عن إلقاء نظرة خاطفة ، شاملة لأعماله السابقة وتقييم بعض الدارسين لها . فإذا كانت رواية بركات ، الأولى ، " فقهاء الظلام " ، قد إختارت وقائعها من الشمال السوري ، المحاذي للحدود التركية والعراقية ، فقد تفردت التالية ، " أرواح هندسية " ، بإختلاف موقعها المكاني ؛ حيث تدور حكايتها في بيروت عشية الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 . إنّ " الريش " ، هي العمل الروائي ، الثالث ، الذي فيه يعود المؤلف إلى التطرق لموضوعه الأثير ، والمنابع التي سبق له أن نهل منها فنه لما يزيد على العشرين عاماً : نعني إتجاه الخارطة ثمة ، إلى الشمال المحتضن طفولة مؤلفنا وصباه ، وما يفتأ مساكناً ذاكرته ؛ هذا بالرغم من وقوع حوادثها الرئيسة في قبرص . وإذاً مع " معسكرات الأبد " ، تكون التجربة الروائية لسليم بركات ، قد إنتشرتْ على مساحة زمنية تقاربُ العشرة أعوام ، يستطيع فيها المتتبع لرحلته الإبداعية أن يتلمّس الوشائج الممتدة بين تلك الروايات ، الموسومة . هذا ، وعلى الرغم من تميّز " أرواح هندسية " ، الملاحظ آنفاً ، بيْدَ أنّ روايات الكاتب ، إجمالاً ، تعالج قضية أساسية : هيَ المصير الإنساني في بحثه المثابر عن هويته ومغزى حياته . هيَ ذي إذاً ، روايات أربع ، لم تتطرق لموضوع مشترك زمنياً ، إلا أنّ أسلوبها الفني كان واحداً ؛ لا من حيث شفافية الرمز حسب ، بل وأيضاً لكون نماذجها البشرية تشترك في سمات متماثلة ، فضلاً عن المرامي الهادف إليها كل من تلك الأعمال .

2

" فقهاء الظلام " ، تدور حوادثها في " القامشلي " ؛ هذه المدينة ، التي تبعد أمتاراً قليلة عن الحدود التركية ، المحاطة بسياج من الأسلاك وأرضها مزروعة بالألغام . واقعٌ مأزقٌ ، لم يمنع المهربون ، على الأقل ، من تحديه بالتسلل عبر حدوده ، جيئة ً وذهاباً . سردُ الكاتب هنا ، المتسم أحياناً بالمبالغة ، يتطرق لحركات أولئك الرجال الجسورين ، الخارقة ؛ وهيَ أساطيرٌ ، على الأرجح ، يتناولها الأهلون في أحاديثهم من جيل لجيل ، مستقرة هكذا في لا وعي الكاتب ، منذ طفولته . سمة موحدة لهذه الرواية الأولى ، مع شقيقتها " معسكرات الأبد " ؛ ألا وهيَ " التكرار " ، الحاصل للحدث نفسه ، عند كل بداية للفصل المقترح : ففي تلك الأولى ، يضعُ كاتبنا تحت مجهره ـ حاله في ذلك ، حال المخبريّ ـ كل خلية من خلايا البطل ، راصداً عملية تكوينه الجنينيّ في رحم أمّه . فيما نتابع ، في " معسكرات الأبد " ، تفاصيل الصراع الضاري بين الديكيْن : هنا وهناك ، يشكل التكرارُ هذا ، جزءاً صادقاً وعميقَ الدلالة في النسيج الكليّ للسرد ، كما سيمرّ معنا في حينه بخصوص العمل الروائي ، الأخير . حكاية " فقهاء الظلام " ، يمكن تلخيصها ببضعة أسطر ، لا أكثر : " الملا بيناف " ، الرجل المكتهل ، يُرزق بمولودٍ ذكر ، ذي طبيعة خارقة للمألوف ؛ يُعطيه إسم " بيكس " . فهذا الأخير ، ينمو بصورة عجيبة ، فلا يمضي نهار اليوم الأول ، الشاهد لولادته ، إلا ويضحي رجلاً مكتملاً ، ناضجاً ؛ حدّ أنه يطلب من الأب عروساً لنفسه (!) .. لا بل سيضطردُ المولودُ الجديد في العمر ليلتئذٍ ، فيماثل أبيه سناً ويحرجه قدام أهالي الحيّ ، الذين قدموا لمباركته فيه : " هكذا ينسج الكاتب سليم بركات روايته ، " فقهاء الظلام " ، خالقاً جواً من الفنتازيا المستمدة من الحياة الواقعية لهذا المجتمع الكردي " . (2)

هذه الرواية ، التي إمتزج فيها ، ككل إبداعات الكاتب ، الجانبُ الواقعي بجانب ميتافيزيقي ، حالم باليوتوبيا المؤملة في مستقبل مخلّص ؛ تتجلى واقعيتها ، أيضاً ، بإضاءاتٍ ضافية في هذا الإتجاه . فهيَ تذكّر المرءَ بسيرة كاتبنا ، الذاتية ، كما قرأناها في مؤلفيْه " الجندب الحديدي " و " هاته عالياً .. " . في هذه الأخيرة ، رأينا كيف كان المعلم الحزبيّ الغريب ، المستبدّ ، يضطهد التلامذة ويشتم أمهاتهم ، كونهم أكراداً . ولكنه لا يلبث مع سقوط النظام الحاكم آنئذٍ ، أن يلقى مصيراً قاسياً على أيدي هاته الأمهات ، جزاء غروره وصلفه وعنصريته (3) : بينما في رواية " فقهاء الظلام " ، يقدّم مؤلفها صورة اخرى للمعلم ، الغريب ؛ هذا الشاب المستنير ، الذي يحاول نشر معتقده التقدميّ بين تلامذته . بيْدَ أنه ، بدوره ، يلقى مصيراً لا يقل قسوة على أيدي الأهالي ، وهذه المرة بسبب إستهانته بمعتقداتهم وتقاليدهم ، ليكون جزاؤه بترهم لأصابع يديه ، ومن ثم طرده خارج منطقتهم . على أنّ المجتمع يدفع أيضاً ثمناً لتلك الفعلة ، الموصوفة ، بما يلقاه من عذاب الضمير . فها هيَ أصابع تنمو في الأرض ، مشيرة نحوَ الأهلين بالإتهام والإدانة . فكان أن عمد هؤلاء إلى تكليف الجدّ " عفدي " حارساً للحقل ، ليحصدَ ثماره الدامية تلك ، كلما نمت من جديد . جديرة بالمقارنة كذلك ، وظيفة الجدّ " عفدي " ، المذكورة آنفاً ، مع وظيفة الحارس " شاشان " في رواية " معسكرات الأبد " . لا بل إنهما هنا وهناك ، كما لو كانا إنعكاساً لصورة اخرى ، واقعية ، سبق وقرأنا عنها في سيرة الكاتب الذاتية ؛ ونعني بها " سيفي " ، حارسة الجداول . (4)

3

الخيوط السحرية ، المنتهية ببيئة الكاتب ، كما تأثرنا بعضها في كلتا الروايتيْن الأولى والرابعة ، والمنسوج منها عالمهما ؛ هذه الخيوط ، تتقطع بنا نوعاً ، ونحن في المعبر المودي إلى روايته الثانية ، " أرواح هندسية " ، التي تدور حوادثها في بيروت خلال أوائل الثمانينات . ولكن لمَ آثر كاتبنا كسْرَ الإمتداد الأفقي ، البيئي ، عند منعطف هذه الرواية ؛ بيئته الكردية نفسها ، المنتقي منها موضوعاته المفضلة والمستغرقة معظم إبداعه الشعري والنثري ؟ .. الجواب ، على تقديرنا ، عائدٌ لما يمكن وسمه بـ " إلتزام " أدب سليم بركات للفنّ الخالص ، المجسّد لإسترجاعات ذاكرته / وتجارب حياته الشخصية ، سواءً بسواء . هذا الأدب المجسّد ، خصوصاً ، حيواتَ الآخرين في بيئته تلك ، وعبْرَ تأملاته المستغرقة ، القلقة ، لكائناتها وأشيائها وموجوداتها ، خالطاً مصائر الجميع ببعضها البعض . هي ذي ، إذاً ، مدينة كبرى بحجم " بيروت " ، مختلفة عن مدينة مسقط رأسه بكل شيء ، وبالتالي تعكس إختلافها على أسماء أبطاله وأبعاد مكانهم ومسافات زمنهم . ها هنا ، على سبيل التمثيل ، رجال التنظيمات اليسارية والفلسطينية ، المتجولون علانية بأسلحتهم وعتادهم .. ، وها هنا ، أيضاً ، قادتهم على مثال " الزعيم " ؛ الشخصية الروائية ، التي جسدها فنّ كاتبنا ، الرفيع .

شخصية البطل هنا ، قد لا تفاجيء القاريء الجيّد لأدب بركات ، من حيث كونها صورة مقاربة لشخصيته بالذات ؛ وهوَ الأدب ، الذي وسمناه آنفاً بالحنين الدائب إلى ماض ضائع . يبدو أنّ إيثاره لهذه الثيمة ، في روايته الثانية ، لأنها كانت تلحّ عليه بشكل معذب . جدير بالقول ، في هذا المقام ، أنّ بركات لم يتعجل البتة في نقل تجربته البيروتية إلى القاريء ؛ حال تلك الأعمال ، الروائية ـ أو سمّها ، ما أردتَ ـ المدونة من لدن بعض الكتاب العرب ، ممن شاءَ لهم الإنفعال وردّ الفعل أن تكون أعمالهم ، حول تجربة بيروت ، غير ناضجة ولا تستحق القراءة . على العكس من اولئك الرفقة ، بدا كاتبنا في " أرواح هندسية " مترفعاً ومتحرراً من تلك الشوائب ، الموسومة ، مخضعاً قلمه لذاكرة حارة وذهن بارد في آن ؛ فلم يبتده الكتابة إلا وقد إختمرتْ بفعل السنين ، الصبورة ، صورة ُ ما يصبو إليه داخله المتململ . ولكن ما الذي يربط هذا العمل برواياته الاخرى ، السابقة واللاحقة ؟ .. إنه كما يجوز لنا تأكيده ، دوماً ، الصدق في نقل التجربة الإنسانية ، علاوة على الأجواء الغرائبية / الفنتازية ، المميّزة لأدب سليم بركات . هكذا أجواء ، تخترقها الأرواح الملازمة بطل الرواية ، خلل رحلته في السفينة المتجهة به ورفاقه الآخرين إلى منافي الله ؛ أرواحٌ ، سنتعثر بأشباهها منذ الصفحات الأولى لقراءتنا رواية الكاتب ، الرابعة ، " معسكرات الأبد " ، وهي تلازمُ أقرباءها الأحياء .

4

ثمّ نصل ، أخيراً ، إلى رواية " الريش " ، المستعيد فيها مؤلفها بركات ملامحَ بيئته ؛ هذا على الرغم من حقيقة ، أنّ المكان الرئيس لأبطالها ثمة في جزيرة المنفى ، القبرصية . وعلى كل حال ، فلم يختلف دارسو الكاتب حول إسلوبه وإيحاءاته الرمزية هنا ، بل إستوقف إنتباههم ما كان من تعامله مع مسألة التاريخ القومي ، التراجيدي ، لشعبه الكرديّ ما بين الأعوام 1900 ـ 1947 م (5) . ونقدّر بأنه ما كان في إعتبار بركات ، بطبيعة الحال ، كتابة رواية تاريخية . فها هنا ، إذاً ، كما كان الأمر في ثيمة " أرواح هندسية " ؛ تطغى أجواء الغربة على حيوات الأبطال ومصائرهم ، على حد سواء . نحنُ بصدد تتبع حركة إبن الشمال ، " مم " ؛ الشاب العاثر الحظ ، الحامل همومه الشخصية ، ومن ثمّ القومية ، من مكان إلى آخر : في البدء ، بلدته الصغيرة المحاذية للحدود التركية ، مروراً بحلب ، مدينة الدراسة ، وإنتهاء في مستقره الكئيب ، المتوحّد ، في جزيرة قبرص . على أنّ ذلك المكان ، ينحو بنا تبعاً لحركة اخرى ، زمنية ، مستعيدة لحقبة تاريخية ، مفصلية ، من التراجيديا الكردية ، المعاصرة لعشية الحرب العظمى . وعلى هذا ، نجدنا من جديد متلمسين ذلك الخيط السحري ، الموصوف آنفاً فيما يخصّ أدب بركات ؛ أيْ حنين الذاكرة ، الدائب ، للجذور المترسبة في البيئة الأولى .

لا غروَ إذاً ، أن يتمثل بطلنا ، " مم " ، تجربة الكاتب بركات ، الشخصية ، في ذلك المنفى ، الموسوم . فضلاً عن إضفاء مزيد من الجوّ الغرائبي / الفنتازي ، الغامض ، على المكان وكائناته جميعاً : تلك التجربة ، القبرصية ، ربما أفادت الرواية في محاولتها تقديم صورة دقيقة ، صادقة ، للمكان ؛ بما في ذلك ، نقل مشاعر كاتبنا الذاتية ، الأكثر خصوصية ، كمغتربٍ يشاركُ بطله مسار حياته ومآلها . على أنّ تصويره ، الموصوف ، ما كان سطحياً أو فوتوغرافياً ، بقدر ما كان فنتازياً . علاوة على أن كاتبنا لم يعمد إلى إلباس بطله ذاك ، وغيره من الشخصيات ، حللاً جاهزة تحلّ محل السياق الدرامي ، بما يسمح لكل منها التطور المستقل ـ والمنفعل ، في آن ، بوعي بما حولها ، وحتى بلوغها الكمال الذي يصبوه لها الروائي : " فهذه الشخصيات ، مسلحة بالوعي بإعتبار أنّ مشكلة الأكراد ، مشكلة سياسية . لذلك فتاريخ الحركة السياسية للأكراد هوَ التاريخ الروحي لشخصيات الرواية ، وإنكسار هذه الحركة هوَ إنكسار الشخصيات الروحي أيضاً " (6) . على أنّ أدب سليم بركات ، الروائي ، لا يخلو من الإشكال ؛ هذا الأدب ، المهيأ له الإنفتاح على قراءاتٍ لا تنتهي ؛ لا لكي تتضح رموزه ومراميه على وجهها الحقّ ـ فهذا مخالف لوظيفة النقد والقراءة ـ بل وخاصة ، كيما تتسع آفاق ذلك الأدب وتتناهى إلى اللا نهاية .

الهوامش :

1 ـ بصدد الجزء الأول من هذه الثلاثية : يمكن مراجعة دراستنا ، المنشورة في " إيلاف " / الأرشيف ، في 10 مايو 2006
2 ـ فؤاد حجازي ، فقهاء الظلام : فانتاسيا تستلهم واقعاً ـ مجلة فلسطين الثورة ، عدد 511 لعام 1985
3 ـ سليم بركات ، هاته عالياً ، هات النفير على آخره ( سيرة الصبا ) ـ بيروت 1982 ، ص 14
4 ـ المصدر نفسه ، ص 40
5 ـ فرهاد بيربال ، الريش ـ مجلة " بربانغ " الصادرة في ستوكهولم ، عدد 93 لعام 1993
6 ـ ابراهيم عبد المجيد ، الريش ـ مجلة " الكفاح العربي " الصادرة في بيروت ، عدد 668 لعام
1991

للبحث صلة ..

ايوب صابر 02-29-2016 01:58 AM

ما فوق الغرائبية
في روايات سليم بركات:
د. محمد بوعزة
august 14, 2013

تطرح روايات سليم بركات في استراتيجيتها الغرائبية أسئلة شائكة ومربكة بصدد شعرية العجائبي، تدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم العجائبي كما صاغه تودوروف في كتابه الرائد ‘مدخل إلى الأدب العجائبي’. في هذا الكتاب يتحدد العجائبي بشرط أساسي هو تردد القارئ في تفسير أحداث فوق طبيعية بالقوانين الطبيعية. وهذا يفترض أن’ تودوروف’ يحدد مفهوم العجائبي في مقابل المحكي الواقعي ، حين يقابل بين الحدث فوق الطبيعي والحدث الطبيعي، بين الخارق والمألوف. وبالتالي ظلت هذه الثنائية بين الطبيعي وفوق الطبيعي، العقل واللاعقل، الخارق والمألوف تحوم حول هذا التعريف وتحد من رؤية أشكال أخرى للكتابة الغرائبية تتحرر من هذه الثنائية، أو على الأقل لا تتقيد بحدودها الفاصلة وزمنيتها الخطية، وتبدع غرائبيتها فيما وراء الحدود والثنائيات.
هل رواية سليم بركات رواية فانتاستيكية أم لا؟
تذهب أطروحة هذه الورقة إلى أن رواية سليم بركات أكثر من مجرد رواية فانتاستيكية. بمعنى أنها لا توظف المحكي الفانطستيكي كبنية تناصية أو مستعارة إلى جانب المحكيات الأخرى الواقعية. ذلك أنها لا تتقيد بالفصل بين فوق الطبيعي و الطبيعي، الخارق والمألوف، ولا تتقيد بقوانين التفسير الطبيعية، أي قوانين العقل في بناء عوالمها الحكائية والدلالية والمعرفية. فالعقل والجنون، اللوغوس والميتوس، الألفة والغرابة، النظام والكاوس، القانون والصدفة، العمى والبصيرة، تتفاعل فيما بينها وتتداخل مشيدة عالما بينيا، هو عالم الظلام ، أي اللاشكل في رواية (فقهاء الظلام)، كمحنة ‘ بحث عن الشكل في السديم العاصف للغريزي’ (ص18).
وفي رواية ‘الأختام والسديم’ يتشخص الما بين في مجاز السديم، المادة اللامتشكلة ، ما يسمى في الفلسفة بعالم الهيولى. وفي رواية (دلشاد أو فراسخ الخلود المهجورة) ينبثق عالم المابين من متاهة النسخ اللانهائية بفعل خيال المترجم اللامحدود،وانزياحات السيمولاكر عن الأصل. وفي رواية (أرواح هندسية) يتجسد المابين في عالم الكثافة اللامرئية للأرواح .
في هذه العوالم الإنتهاكية التي تتورط فيها الشخصيات، ‘كلما أوشك العقل أن يلمس شمس اليقين، انحجبت في ستار محدوديته’.
إن القاعدة في رواية سليم بركات هي الغرائبية، وذلك على خلاف الرواية الفانتاستيكية ، حيث يشكل الخارق استثناء يقتحم مجرى الأحداث الطبيعية، فيخرجها من زمنيتها المألوفة. مع سليم بركات أصبح العالم غرائبيا في كينونته وزمنيته، وانتفى عنه سحر الألفة. وهذا ما يمثل مصدر المصائر العبثية الساخرة لشخوصه وكائناته . ما من يقين يسعف الشخصية في تحمل مصائرها، وما من عقل أو معرفة تسعفها في فهم أقدارها، لذلك يكون مصيرها الانهيار في عالم الظلام، الجنون والحمق، أو النفي بعيدا في أقاصي العزلة الأبدية، حيث تتحول الذات إلى كائن شبحي، أو صيرورة شبح.
هذه الصيرورة الغرائبية ترتبط بإستراتيجية الكتابة عند سليم بركات التي تقوم على فهم لوظيفة الكتابة يتجاوز منطق العقل، يذهب في حفرياته السردية الاستكشافية إلى ما وراء العقل. ويتم تحقيق هذا الرهان الأنطلوجي عبر فعل سردي يشخص الحياة عبر الاشتغال في الجانب الغامض من المصائر، حيث’ الكمال يعمي، حيث رهان الحرية على أتمه في سباق المعنى…حسبي أن أكتب هكذا، دون تفسير، في اتجاه نفسي التي تقامر بها الكتابة ، وأقدارها….حيث الرهان رهان على كمال الوحشة الأقصى للكينونة…إنني في خجل ، أستعير من الراهن فظاظات لغته، لأكد انتمائي إلى خسارة الماضي الذي يوحد الكون كعقل لا يكل عن ترداد أقداره في المرآة، مجرة بعد أخرى، حتى الحدود القصوى المفتوحة على حدود قصوى من يأس المخيلة.) (ص14)
مخيلة تنفتح على تخوم المجهول، ذلك هو خيال السديم الذي يقود مجازات السرد ‘بعيدا عن مسالك العقل، واستيلاد شخوص تقف على العدم والعبث’، ولا تحقق كينونتها أبدا، أو بالأحرى تحقق كينونتها في المصائر الحدية، الجنون، العبث، المتاهة، العزلة الشبحية، في تخطي حدود المعقول والمحتمل، (في الكمين الأقسى للكتابة، حيث المصائر ليست مشهدا، بل دوي في الكثافة اللامرئية للحياة) (ص18)، إذ تفاجأ الشخصيات بالثغرات والفجوات في مصائرها، والمجاهيل والكمائن، (الثغرات التي هي انقطاع التدبير العقلي النسبي، وارتباك البراهين) (ص21) ‘وتصون حتى النهاية أسرارها وتتحدى كل من البسيكلوجيا والمنطق’. إن ما يهم في هذا العالم السديمي الذي يؤسس خرائطيته على أراضي المجاهيل والتخوم القصوى للوجود المعضل، ومحاكاة المجهول بخيال السديم، ليس رهان الكشف سواء بالمعنى الصوفي، أي الكشف عن حقائق محجوبة، ولا بالمعنى الجدلي، أي حل التناقض ، بل على العكس، الإصرار على الحفر في طبقات المجهول في انتقاله من سديم إلى سديم بغواية مطاردة اللامحدود (الرواية ليست كشفا عن شيء..عالم الذات (الأكبر) وعالم الكون (الأصغر) صفات من خطاب النظر التأويلي، والنظر السببي المعلول.لا عالم كبيرا، أو صغيرا،هنا أو هناك. البرهة الواحدة من برهات النفس، في انشغالها بتدبير اللحمة لما هو ممزق من هذا الوجود الممزق، هي كل شيء، من الأزل إلى الأبد. لا أعرف معنى لسياقات الكشوف، من الخيال الصوفي حتى الألسنية النبيلة. لا أبحث عن كشف، بل عن المعضل، المشكل، المتمرد على فظاظات المعنى، اللامتصالح، المتحايل، المارق، المسكون، المختبل ، المنغلق، المستوحد في قطيعته الإلهية مع أي تقديم للمعرفة، من فوق، إلى القارئ. ليبق المعضل معضلا، والمشكل مشكلا. فليتقدم معي القارئ إلى التيه. أريده جسورا) (ص22) .
إن ما يهم هذا الخيال السديمي (هو أن تظل الأشياء ملغزة، لكن ليست اعتباطية، اي بايجاد منطق جديد، منطق بامتلاء، لكنه لا يعيدنا إلى العقل، ويقدر أن يقبض على صميمية الحياة والموت) يقول سليم بركات ( لا أكتب الرواية لأستميل قارئا إلى ‘مقدرة’ إضافية بعد سخاء الشعر المؤلم…مصائر إشكالية تلك هي جسارتي…لا أبدأ رواية بلا إشكال. الحياة إشكال. الأمل إشكال كاليأس. الحضور والغياب إشكالان. أمتحن الواقعة لتمتحن الواقعة دربتي في الوصل إلى مخرج. أحيانا يقع كلانا في المتاهة) (ص20)، ولذلك فإن المعارف العقلية وكل ما بناه العقل من صروح وأنساق تصبح موضع انتهاك وهدم وتجاوز.
رواية ‘فقهاء الظلام’ ، منذ عتباتها التدشينية، ومع انبثاق حكاية المسخ بيكاس، تقذف بالقارئ في عالم الغرائبية، لأننا ندخل عالما غير مألوف، هذا المولود العجيب الذي يولد ويكبر ويتزوج ويشيخ في ليلة واحدة ، وفي الصباح الباكر يغادر زوجته ويختفي، يدخل إلى عالم الظلام، يتحول إلى شبح( أتمزح؟ قل إنك تمزح لن يصدقوا ما سنقول. نحن لم نصدق الأمر بعد. فمن سيهب ابنته من أجل كذبة يا بيكاس، رد الابن’ عليك أن تحاول يا أبي. لم يبق الوقت الكثير.’ فاحتدم الأب: ‘ وقت من ياعجيب؟ من يهتم إذا بقي وقت أو لم يبق؟ ولماذا علي أن أنصت إلى إلحاحك هذا لتجعل إلحاحك أقسى؟ استرنا بحق الله. فأنت تجهز علينا’ لا رد بيكاس.’ الأمر محسوم، وستفعلها يا أبي’. نهض الملا على ركبتيه، متوعدا: ‘ ومن حسم الأمر؟’ فأجابه ابنه ‘ ستفهم ذلك فيما بعد يا أبي’. ‘ لا أريد أن أفهم شيئا فيما بعد، ولا أريده الآن، لست معنيا بهذه المحنة، فليفهمها ربك’ (ص 17)
يختفي بيكاس وتقرر الأسرة ادعاء موته أمام الناس اتقاء للفضيحة. وتؤول الأسرة هذه المحنة (بيكاس) على أنها ابتلاء من الغيب، لا تستطيع تحمله ولا فهمه، لأنه يفوق طاقتها البشرية،( إذا كنت المختار لهذا الامتحان فلست بقادر عليه. للإنسان حدود في الاحتمال، ولا تجاوز حدودي هذه الساحة التي يتصيد فيها أخوك العصافير…يتهيأ لي أنك تعرف كل شيء فدلنا على منفذ) (ص18) وهو ما سيعجل بسيناريو انهيار أفرادها والسقوط في فخاخ الظلام الشيطاني.
يشكل بيكاس عماء قدريا. إنه ‘ المحنة’ و’ القدر’ و ‘الامتحان’ بالمفهوم الميتافيزيقي والأنطلوجي، امتحان كينونة الإنسان على الفهم، واختبار التناهي في مواجهة اللامتناهي، المحدود في مواجهة اللامحدود، محنة فهم سديم الوجود، العقل في مواجهة تناهيه (الأبوان يرقبان فحسب. الأمور تأخذ مجراها خارج أي تدبير) (ص221)
كما تنبأ الأب ستجهز هذه المحنة على عالم الأسرة. وبذلك يمثل بيكاس الحد الفاصل بين عالم النظام والألفة وعالم الفوضى والظلام، حيث يتساقط أفراد الأسرة في فخاخ الجنون والاضطراب والموت والاختلال: يختفي الأب وبيكاس الذي يتحول إلى شبح يسكن الغابات والظلام، ويصاب ‘مجيدو بن عفدي ساري’ و’حشمو’ بالجنون، ويختلي ‘عفدي ساري’ بنفسه في عزلة مطلقة شبحية. تنتهي أغلب الشخصيات بالوقوع في شرك الظلام بوصفه استعارة لثيمات الجنون ومحنة اللامعنى.
في زمنية الظلام تتضاءل الشخصية إلى مجرد شبح وطيف لكينونة متلاشية، تتجاوز الحد الفاصل بين عالم الأحياء والنور والشكل والعقل، وتقع فريسة لعالم الظلام والجنون واللاشكل. إنها أقدار ومهازل كما جاء في النص خارج أي تدبير منطقي. وبيكاس المسؤول عن هذه المحنة ليس (سوى محض لعبة، محض سؤال مرح، محض فضول منبعث من أعماقه وأعماق إخوته.)
يجد القارئ نفسه مورطا في لعبة بيكاس السديمية، لعبة متاهة، لابد أن يحتمي بفضيلة التأويل في مواجهة محنة المعنى والفهم: فهم قوانين عالم مختلف لا يستجيب لقوانين مرجعيته. وبهذا القطع الزمني، ينتقل من زمنية الألفة والنظام إلى زمنية الغرابة والكاوس. وفي هذه المسافة الفاصلة بين التجربة والنص، بين المرجعية والمخيلة، يكون على القارئ خوض تجربة جديدة، هي تجربة المابين التي تميز هذا العالم المختلف:
ـ عالم بيني: يتشكل على تخوم المابين ، يتداخل فيه ماهو طبيعي بما ليس طبيعيا، الواقع بالغيب، الظلام والنور، العقل والجنون، الأشباح والأحياء والأموات، وفق ابستيمولوجية أنطلوجية تضمينية، عوالم داخل عوالم.
ـ عالم هويات بينية هجينة: تنتج عن هذا العالم المابيني بالضرورة هويات بينية هجينة غرائبية، إنساني/ نباتي/ حيواني، بدون حدود فاصلة أو خاصيات جوهرية محايثة. بدل الهوية يقترح هذا العالم مفهوم الصيرورة، حيث يمكن لهوية الإنسان أن تكون صيرورة حيوان، أو صيرورة نبات، أو صيرورة طير . وبالعكس يمكن لهوية الجماد أو الحيوان أن تكون صيرورة إنسان .في البداية تتشكل هوية بيكاس كصيرورة حيوان في ظلام الرحم. وبميلاده وخروجه إلى عالم النور والشكل، ينمو في صيرورة مسخ. ينمو بمقدار سنة كل ساعة، وينتهي إلى صيرورة شبح، أي ظلام. صيرورة ارتحال من الظلام (الرحم) إلى الظلام (شبح غير مرئي). وبالتالي فإن ما يحكم هوية بيكاس هو الطفرة، وليس العضوية، اي الانتقال من حالة إلى أخرى، في أفق صيرورة مفتوحة على التحولات، وليس التطور وفق النموذج العضوي.
ـ عالم كاوسي: محكوم بقانون الطفرة الذي يطيح بالقوانين الطبيعية، حيث تخضع الكائنات للتحولات اللاخطية، وتمحي الحدود بين العوالم: تداخل العقلاني واللاعقلاني، الجنون والعقل، الموت والحياة، الغياب والحضور، الوجود والعدم. عوالم داخل عوالم.
ـ عالم هولامي: يتجاوز منطق الخطية الذي يفصل بين الماضي والحاضر، لأنه في صيرورة تحولاته الكارثية وطفراته الانتقالية لا يتقيد بانتظام التطور، ولا يذعن لحدود الأزمنة، بل يتحرك ويتنقل بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والتاريخ والحلم والأسطورة، حيث المخيلة تحلق فوق الحدود وتعيد بناء جغرافيات جديدة في المجازات القصوى للخيال السديمي.
ما ذا نستخلص من هذا التشكيل الغرائبي للنص؟:
ـ على مستوى التكون، نلاحظ أن الفعل السردي المولد للحكاية ومساراتها وتشعباتها الأفقية والعمودية هو فعل غرائبي، لأنه ينطلق من موتيف معقد ومركب يرسخ غرائبية الحكي والخطاب، يمزج بين العقلي واللاعقلي، بين الحياة والموت، بين الحلمي والوهمي والواقعي ، بين قانون الطفرة والصدفة و الألفة والنظام. وتتفاعل هذه العناصر المتناقضة تفاعلا ديناميا إلى المدى الجذري الذي تمحي فيه الحدود، وتتداخل الهويات و تشتبك العناصر والصفات، بحيث تتولد جغرافية نصية جديدة، عوالم داخل عوالم، بديلة ومنتهكة لعالم الخطية الذي يقوم على انفصال العوالم .
ـ إن الغرائبي في هذا المتن هو القاعدة والنواة التأسيسية، وليس الاستثناء كما في النصوص التقليدية. وإذا ما كانت هذه النواة الغرائبية هي الأصل، وليست عنصرا دخيلا أو مستعارا من أنساق أخرى سابقة على وجود النص، فإن هذا الانتظام الذاتي للغرائبية لا يمنع تطعيم النص بخطابات عجائبية مستعارة من أنساق متنوعة، دينية وعجائبية وتاريخية وأسطورية.
ـ لا يتولد العجائبي في هذا النص من أحداث وكائنات فوق طبيعية، بل يتشيد من ‘الإنسان العادي’، وينطلق أحيانا من اليومي العجيب، من تغريب اليومي.


الساعة الآن 12:14 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team