منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   المقهى (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=19)
-   -   لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=19267)

ناريمان الشريف 01-05-2016 06:49 PM

لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
 
أيوب صابر ..
من منا لم يلمح هذا الاسم ؟!
أيوب صابر
.. باللون الأزرق

ومن منا لم يقرأ كتاباته وبحوثاته المطولة
ومن منا في منابرثقافية لم يلتق به رغم أننا لا نراه ..
كاتب أحس بغيره .. فدخل إلى أعماق كل الذين التقى بهم
حيث استضاف معظم كتاب آل منابر ..
فهل ترى نفيه حقه في هذا اللقاء ..؟
اسمحوا لي أن أستضيف هذا المساء .. الكاتب الرائع أيوب صابر
وهذه دعوة مني للجميع بمحاورته وإلقاء ما يحلو لكم من أسئلة لنعرف أكثر عن هذا الكاتب
أبدؤها بسؤال معتاد يطرح عادة في أوائل اللقاءت ..
بطاقتك الشخصية ...
والتعريف بنفسك بالطريقة التي تحب ..

شاكرة لك أخي أيوب .. وإخواني وأخواتي في منابر حسن استجابتكم

تحية ... ناريمان الشريف

فاطمة جلال 01-06-2016 09:46 AM


الغالية ناريمان اهلا بعودتك الى منابر
وفي جعبتك المزيد وهذا اللقاء مع الأستاذ القدير أيوب صابر

سيكون لي عودة لطرح المزيد والتعرف على شخصية الكاتب

كل التقدير

ايوب صابر 01-06-2016 02:10 PM

اشكرك استاذة ناريمان
الصحيح انني كنت افضل ان يظل الضوء مسلط على كتاب منابر الاكابر الاخرين غيري فانا شخصيا لا احب الاضواء لكني ربما من خلال هذه المقابلة اقول المزيد عن موضوع بحثي الطويل والذي استهلك مني الكثير من الوقت والجهد الا هو العلاقة بين اليتم والعبقرية لما فيه الفائدة العامة.


شكرا لك استاذة ناريمان على طرح اللقاء وارجو ان تسير الامور على خير.

بطاقتك الشخصية ... والتعريف بنفسك بالطريقة التي تحب ؟

- في النبذة المنشورة على غلاف كتبي التي نشرتها حتى الان دونت هذا التعريف بنفسي :

ولد في قرية كفل حارس في العام 1954، في السنة الثانية بعد ولادته فقد الام، ولم يعرف لها اية ملامح فلم تترك صورة. في سن الرابعة تقريبا تزلزل من جديد حيث عرف فجأة ان المرأة التي كان يناديها امي هي في الواقع خالته اخت امه وزوجة والده الثانية بعد وفاة امه. وفي سن الثالثة عشرة كان الاحتلال وشاهد حينها عن قرب اول طبق طائر يحوم في سماء القرية. كانت تلك طائرة هيلوكبتر احتلالية ضخمة تطير على ارتفاع منخفض تبث الرعب في المكان.
اكمل دراسته الثانوية في ظل الحراب والخوف والنقر على الابواب في منتصف الليالي الباردة. انتقل الي مدينة بيت لحم حيث درس الادب الانجليزي والتربية وعلم النفس في جامعتها. سافر الي الكويت للعمل ومن ثم الى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا حيث حصل على شهادة الماجستير في الادب المقارن. وهناك انجز رسالة الماجستير التي ضمنها نظريته حول " تفسير الطاقة الابداعية" والعلاقة بين اليتم والابداع. هذا الموضوع الذي ظل شاغله على مدى الايام ولا يزال. وكان الدافع وراء تاليف كتابة الاول " فلنهدم اصنام القرن الحادي والعشرين" وكتابه الثاني " الايتام مشاريع العظماء" وفيه اكد واعتمادا على اكتشافه بأن هناك علاقة متلازمة بين اليتم والابداع في اعلى حالاته على ان كل يتيم هو في الواقع مشروع عظيم...وخلص الى طرح خطة وطنية لرعاية شريحة الايتام ...عظماء المستقبل.

- اضيف الى ذلك بأن اسمي الحقيقي خليل حمد وهو الاسم الذي انشر فيه كتبي واستخدم اسم ايوب صابر في كتاباتي على الانترنت فقط حيث كنت قد نشرت قصة قصيرة في جريدة الوطن عام 1978 في الكويت بهذا الاسم.

ظهر لدي اهتمام مبكر في الادب وكتبت اول محاولاتي الشعرية في سن مبكرة وفي سن السادسة عشرة وخلال قراءتي لسيرة حياة الاديب الروسي تولستوي لاحظت اننا نتشارك في تجربة فقد الام في سن الثانية وعدم مشاهدة صورة لها مما دفعني في حينه للاعتقاد بأن هناك علاقة بين اليتم والرغبة في الكتابة الادبية ومن يومها وانا ابحث في هذه القضية وكرست دراستي الجامعة الاولى والثانية لمعالجة هذه القضية وخصصت رسالة الماجستير لها حيث كان عنوانها " الابداع والبحث عن الاكتمال" وقد حصلت على شهادة الماجستثير في الادب المقارن على اثرها من جامعة ساندياغو ستيت
san diego state university في كاليفورنيا عام 1983 .

كتبت الشعر ولكنني لا اعتبر نفسي شاعر وفقدت معظمه نتيجة لرحيلي المتكرر ، وكتب القصة القصيرة ولكني لا اعتبر نفسي قاص حيث اركز معظم وقتي على البحث والدراسة.
الفت كتابان واعمل حاليا على انجاز ثلاث كتب اخرى ضمن نفس المجال ومن واقع بحثي حول العلاقة بين اليتم والعبقرية.
عملت في مجال الترجمة ثم انتقلت للعمل الوظيفي الادراي وحاليا اعمل مستشار لشركة تجارية.
افكر في كتابة رواية يكون موضوعها سيرتي الذاتية والتي اعتقد انها غنية (بالاحداث الدرامية يتم واحتلال وسفر وغربة وحروب وهجرة متكررة وبحث عن الذات وعن الاكتمال) ولكن لا اعرف مدى قدرتي على ترجمة هذه الرغبة الى واقع ملموس.


أحمد صالح 01-07-2016 05:18 PM

و أخيرا أقرأك هنا ...
كنت أنتظر تلك اللحظة . قراءة ما ببئرك .
ربما سأكتفي بالمتابعة . ( لكن بكل صدق أشك في ذلك )
سأنتظر الوقت المناسب كي أستطيع مجاراتك في الحوار
فسيرتك منذ تعريفك بنفسك تحمل خلفها الكثير من الكلمات .

الفاضل الكريم الأستاذ ( خليل حمد ) شكرا أن قاربتنا منك
و إن كنت ممن لا يسعى للأضواء
فليس مجاملة ولا مراءاة أن تسعى الأضواء لك .
كل التقدير لك .

و كل التقدير و التحايا لمن قامت بوضعك في هذا الحوار . الأستاذة ( ناريمان الشريف )

ايوب صابر 01-07-2016 05:38 PM

استاذ احمد
اسعدني مرورك وحضورك ويسعدني الاجابة عن اي سؤال تحب ان تطرحه. لقد كنت من اوائل من قابلناه هنا وحبذا لو تعود فتطلعنا على كل جديد في حياتك الشخصية والإبداعية ؟ *

ناريمان الشريف 01-07-2016 07:53 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمة جلال (المشاركة 201661)
الغالية ناريمان اهلا بعودتك الى منابر
وفي جعبتك المزيد وهذا اللقاء مع الأستاذ القدير أيوب صابر

سيكون لي عودة لطرح المزيد والتعرف على شخصية الكاتب

كل التقدير

لا أنساك يا فاطمة ..
فأنت ممن أحب .. ولا تنسي أبداً اسمك من أحب الأسماء على قلبي
عدت لأنني اشتقت لكم جميعاً والله
أشكرك أيضاً على مشاركتك وبانتظار أسئلتك للأخ الكاتب الرائع أيوب صابر
مساء عاطر بذكر الله

تحية ... ناريمان الشريف

ناريمان الشريف 01-07-2016 08:02 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 201672)
اشكرك استاذة ناريمان
الصحيح انني كنت افضل ان يظل الضوء مسلط على كتاب منابر الاكابر الاخرين غيري فانا شخصيا لا احب الاضواء لكني ربما من خلال هذه المقابلة اقول المزيد عن موضوع بحثي الطويل والذي استهلك مني الكثير من الوقت والجهد الا هو العلاقة بين اليتم والعبقرية لما فيه الفائدة العامة.


شكرا لك استاذة ناريمان على طرح اللقاء وارجو ان تسير الامور على خير.

بطاقتك الشخصية ... والتعريف بنفسك بالطريقة التي تحب ؟

- في النبذة المنشورة على غلاف كتبي التي نشرتها حتى الان دونت هذا التعريف بنفسي :

ولد في قرية كفل حارس في العام 1954، في السنة الثانية بعد ولادته فقد الام، ولم يعرف لها اية ملامح فلم تترك صورة. في سن الرابعة تقريبا تزلزل من جديد حيث عرف فجأة ان المرأة التي كان يناديها امي هي في الواقع خالته اخت امه وزوجة والده الثانية بعد وفاة امه. وفي سن الثالثة عشرة كان الاحتلال وشاهد حينها عن قرب اول طبق طائر يحوم في سماء القرية. كانت تلك طائرة هيلوكبتر احتلالية ضخمة تطير على ارتفاع منخفض تبث الرعب في المكان.
اكمل دراسته الثانوية في ظل الحراب والخوف والنقر على الابواب في منتصف الليالي الباردة. انتقل الي مدينة بيت لحم حيث درس الادب الانجليزي والتربية وعلم النفس في جامعتها. سافر الي الكويت للعمل ومن ثم الى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا حيث حصل على شهادة الماجستير في الادب المقارن. وهناك انجز رسالة الماجستير التي ضمنها نظريته حول " تفسير الطاقة الابداعية" والعلاقة بين اليتم والابداع. هذا الموضوع الذي ظل شاغله على مدى الايام ولا يزال. وكان الدافع وراء تاليف كتابة الاول " فلنهدم اصنام القرن الحادي والعشرين" وكتابه الثاني " الايتام مشاريع العظماء" وفيه اكد واعتمادا على اكتشافه بأن هناك علاقة متلازمة بين اليتم والابداع في اعلى حالاته على ان كل يتيم هو في الواقع مشروع عظيم...وخلص الى طرح خطة وطنية لرعاية شريحة الايتام ...عظماء المستقبل.

- اضيف الى ذلك بأن اسمي الحقيقي خليل حمد وهو الاسم الذي انشر فيه كتبي واستخدم اسم ايوب صابر في كتاباتي على الانترنت فقط حيث كنت قد نشرت قصة قصيرة في جريدة الوطن عام 1978 في الكويت بهذا الاسم.

ظهر لدي اهتمام مبكر في الادب وكتبت اول محاولاتي الشعرية في سن مبكرة وفي سن السادسة عشرة وخلال قراءتي لسيرة حياة الاديب الروسي تولستوي لاحظت اننا نتشارك في تجربة فقد الام في سن الثانية وعدم مشاهدة صورة لها مما دفعني في حينه للاعتقاد بأن هناك علاقة بين اليتم والرغبة في الكتابة الادبية ومن يومها وانا ابحث في هذه القضية وكرست دراستي الجامعة الاولى والثانية لمعالجة هذه القضية وخصصت رسالة الماجستير لها حيث كان عنوانها " الابداع والبحث عن الاكتمال" وقد حصلت على شهادة الماجستثير في الادب المقارن على اثرها من جامعة ساندياغو ستيت
san diego state university في كاليفورنيا عام 1983 .

كتبت الشعر ولكنني لا اعتبر نفسي شاعر وفقدت معظمه نتيجة لرحيلي المتكرر ، وكتب القصة القصيرة ولكني لا اعتبر نفسي قاص حيث اركز معظم وقتي على البحث والدراسة.
الفت كتابان واعمل حاليا على انجاز ثلاث كتب اخرى ضمن نفس المجال ومن واقع بحثي حول العلاقة بين اليتم والعبقرية.
عملت في مجال الترجمة ثم انتقلت للعمل الوظيفي الادراي وحاليا اعمل مستشار لشركة تجارية.
افكر في كتابة رواية يكون موضوعها سيرتي الذاتية والتي اعتقد انها غنية (بالاحداث الدرامية يتم واحتلال وسفر وغربة وحروب وهجرة متكررة وبحث عن الذات وعن الاكتمال) ولكن لا اعرف مدى قدرتي على ترجمة هذه الرغبة الى واقع ملموس.


سلام الله عليك أخي خليل
أشكرك على الاستجابة لهذا اللقاء .. وهو كما أسلفت واجب علي
واسمح لي أولاً أن أناديك باسمك الحقيقي ( خليل )
فهو اسم جميل جداً فالخليل هو أبو الأنبياء وجد رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
استهلال رائع .. في التعريف عن نفسك
ولكنني أتساءل وبشدة .. لمَ لمْ تترك والدتك أية صورة
أليس هذا غريباً ؟! في زمن يوثق الناس كل لحظات أعمارهم بالصور ..
أرجو أن تصبر علي ...
فالأسئلة آتية في طريقها إليك .. ولكن بعد أن تجيب يا ( ابن صابر ) !!!


تحية ... ناريمان الشريف

ناريمان الشريف 01-07-2016 08:07 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد صالح (المشاركة 201698)
و أخيرا أقرأك هنا ...
كنت أنتظر تلك اللحظة . قراءة ما ببئرك .
ربما سأكتفي بالمتابعة . ( لكن بكل صدق أشك في ذلك )
سأنتظر الوقت المناسب كي أستطيع مجاراتك في الحوار
فسيرتك منذ تعريفك بنفسك تحمل خلفها الكثير من الكلمات .

الفاضل الكريم الأستاذ ( خليل حمد ) شكرا أن قاربتنا منك
و إن كنت ممن لا يسعى للأضواء
فليس مجاملة ولا مراءاة أن تسعى الأضواء لك .
كل التقدير لك .

و كل التقدير و التحايا لمن قامت بوضعك في هذا الحوار . الأستاذة ( ناريمان الشريف )

أستاذي الذي أكن له كل الاحترام
أهلاً بك هنا على بساط بحث ( الصابر )
هو فعلاً كما ذكرت من السطور الأولى يبدو أن خلفها الكثير مما يلفت الانتباه ويستحق المعرفة
أكرر شكري وتقديري .. مع رغبتي الشديدة في عودتك للسؤال والحوار لمعاونتي في هذه المهمة الصعبة ....
مساء عاطر بذكر الله
تحية ... ناريمان الشريف

أحمد صالح 01-08-2016 01:48 PM

الأخ الأستاذ : خليل حمد ..
ستجدني هنا متابع دوما فبئرك يكتنز بجدول عذب من العلم .
ستجد أسئلتي في الوقت المناسب حين يعلو صليل المناقشة .
أما جديدي فهو يوميات بسيطة أكتبها غير متوالية في الركن الهادئ هنا بعنوان يوميات عازف .
لك تقديري الذي يليق بك .



سيدة الحوار الأستاذة : ناريمان الشريف .
تقديري لكِ يدوم و سأعود ببعض الأسئلة كما ذكرت حين يشتد صليل النقاش .
كل التقدير لمثل هكذا عقول مستنيرة يقرأها الإنسان كاستمتاعه بكوب القهوة الصباحية .

ايوب صابر 01-08-2016 09:05 PM

استاذة نريمان
- اسمح لي أولاً أن أناديك باسمك الحقيقي ( خليل)
لا مانع طبعا ويسرني ذلك كثيرا .

- لمَ لمْ تترك والدتك أية صورة أليس هذا غريباً ؟! في زمن يوثق الناس كل لحظات أعمارهم بالصور ..؟


والدتي توفيت رحمها الله عام 1956 ولك ان تتخيلي ماذا كانت عليه الحال في الريف الفلسطيني في تلك السنوات وربما ان ذلك صعب عليك تخيله لانك تنتمي الي جيل لاحق ومن سكان المدينة وربما انك ولدت في الكويت على ما اذكر .
في تلك الايام كانت فلسطين تعاني من اثر النكبة وما خلفته من كوارث ولا بد ان الفقر كان السمة الغالبة فقد عرفت مثلا ان والدتي كانت مريضه وحتى يتمكن والدي من علاجها اقترض 5 دنانير اردني من احد الاشخاص المرابين ولا بد ان ذلك كان خياره الوحيد ورهن مقابل الخمسة دنانير كرم زيتون ربما يزيد حجمه عن خمس دنمات وما لبث ان استولى ذلك الرجل على كرم الزيتون .
وحتى لو وجد التصوير في ذلك الوقت فحتما كان مقتصرا على اصحاب المال والنفوذ او لنقل ابناء المدينة ربما ولو انها لم تكن تختلف كثيرا في أحوالها عن الريف. ولا تنس ان العادات والتقاليد كانت ربما تمنع المرأة الريفية من ذلك الزمن ان تقف امام الكاميرا ؟! ربما ؟! كما ان الوصول الي اقرب مدينة وهي نابلس وتبعد 20 كيلومتر كان صعبا وغالبا اما انه كان يتم على ظهور الدواب ( الخيل والحمير ) أو سيرا على الأقدام. وقد قيل لي ان ابنة عمة لي كانت قد ارتفعت درجة حرارتها في نهاية الاربعينات فحملها والدي الي الطبيب في المدينة لكن الحرارة كانت قد تمكنت منها قبل وصولها الي الطبيب.
اتصور ان الطفرة في التوثيق والتصوير حدثت بعد الاحتلال اي بعد العام 1967 حيث كان لزاما الحصول على بطاقة هوية لكل مواطن . علما ان اقدم صورة لي شخصيا وجدتها ضمن بضعة صور أخذها ابن عمة لي وهو مدرس وقد أخذت في بداية الستينات واتصور انه حصل على الكاميرا من العراق حيث كان يعمل اخاه الاكبر .
.

ناريمان الشريف 01-09-2016 11:41 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 201815)
استاذة نريمان
- اسمح لي أولاً أن أناديك باسمك الحقيقي ( خليل)
لا مانع طبعا ويسرني ذلك كثيرا .

- لمَ لمْ تترك والدتك أية صورة أليس هذا غريباً ؟! في زمن يوثق الناس كل لحظات أعمارهم بالصور ..؟


والدتي توفيت رحمها الله عام 1956 ولك ان تتخيلي ماذا كانت عليه الحال في الريف الفلسطيني في تلك السنوات وربما ان ذلك صعب عليك تخيله لانك تنتمي الي جيل لاحق ومن سكان المدينة وربما انك ولدت في الكويت على ما اذكر .
في تلك الايام كانت فلسطين تعاني من اثر النكبة وما خلفته من كوارث ولا بد ان الفقر كان السمة الغالبة فقد عرفت مثلا ان والدتي كانت مريضه وحتى يتمكن والدي من علاجها اقترض 5 دنانير اردني من احد الاشخاص المرابين ولا بد ان ذلك كان خياره الوحيد ورهن مقابل الخمسة دنانير كرم زيتون ربما يزيد حجمه عن خمس دنمات وما لبث ان استولى ذلك الرجل على كرم الزيتون .
وحتى لو وجد التصوير في ذلك الوقت فحتما كان مقتصرا على اصحاب المال والنفوذ او لنقل ابناء المدينة ربما ولو انها لم تكن تختلف كثيرا في أحوالها عن الريف. ولا تنس ان العادات والتقاليد كانت ربما تمنع المرأة الريفية من ذلك الزمن ان تقف امام الكاميرا ؟! ربما ؟! كما ان الوصول الي اقرب مدينة وهي نابلس وتبعد 20 كيلومتر كان صعبا وغالبا اما انه كان يتم على ظهور الدواب ( الخيل والحمير ) أو سيرا على الأقدام. وقد قيل لي ان ابنة عمة لي كانت قد ارتفعت درجة حرارتها في نهاية الاربعينات فحملها والدي الي الطبيب في المدينة لكن الحرارة كانت قد تمكنت منها قبل وصولها الي الطبيب.
اتصور ان الطفرة في التوثيق والتصوير حدثت بعد الاحتلال اي بعد العام 1967 حيث كان لزاما الحصول على بطاقة هوية لكل مواطن . علما ان اقدم صورة لي شخصيا وجدتها ضمن بضعة صور أخذها ابن عمة لي وهو مدرس وقد أخذت في بداية الستينات واتصور انه حصل على الكاميرا من العراق حيث كان يعمل اخاه الاكبر .
.

أشكرك .. وأعتذر منك أخي خليل .. لأنني في سؤالي ربما أكون قد قلّبت المواجع
ولكن هذا هو الحال بالنسبة لأية سيرة ذاتية ..
وعلى أية حال .. لم أتساءل بالنسبة للصورة سوى لأنني وجدت صوراً - بالأسود والأبيض - كثيرة لأجدادي في الخليل منذ عام 1948 أو قبل ذلك .. ولكن يبدو كما قلت ربما لأن حال القرى الذي يختلف عن المدن ..
والآن اسمح لي أن أعود إلى الاسم مجدداً
اسمك الحقيقي خليل .. فما هو سبب تسميتك لنفسك ب ( أيوب صابر )
فأيوب هو من أكثر الأنبياء صبراً ثم عطفت على اسم أيوب ..صابر ... وكلاهما عنوان للصبر
مما يعطي انطباعاً أنك صبرت على ( .... ) جداً حتى سميت نفسك بهذا الاسم ؟
ما هو السر وراء ذلك ؟


تحية ... ناريمان الشريف

ناريمان الشريف 01-16-2016 06:28 PM

أين أنت يا أستاذ أيوب ؟؟؟
نحن بانتظارك


تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 01-16-2016 11:39 PM

أنا معكم استاذة ناريمان واعتذر لتأخري بسبب السفر فقد عدت لتوي من رحلة عمل لمدة 5 ايام .
وسوف استكمل ما بداته هنا ان شاء الله الصبر الصبر *

ناريمان الشريف 01-22-2016 06:59 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 202234)
أنا معكم استاذة ناريمان واعتذر لتأخري بسبب السفر فقد عدت لتوي من رحلة عمل لمدة 5 ايام .
وسوف استكمل ما بداته هنا ان شاء الله الصبر الصبر *

الله يعطيك العافية ...
وحمداً لله على سلامتك
نحن بانتظارك لتجيب على سؤالي
وبانتظار الأصدقاء لطرح الأسئلة

تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 01-24-2016 01:34 PM

اعتذر لتأخري مرة اخرى بسبب الانشغال بعملي الوظيفي :)

- أشكرك .. وأعتذر منك أخي خليل .. لأنني في سؤالي ربما أكون قد قلّبت المواجع ولكن هذا هو الحال بالنسبة لأية سيرة ذاتية ..

- لا عليك فانا متصالح مع الماضي ومواجعه ولا حرج في طرح اي سؤال.

س - اسمك الحقيقي خليل .. فما هو سبب تسميتك لنفسك ب ( أيوب صابر )

[SIZE="4"]- هذا سؤال تطول اجابته وقد يحتاج الى مجلدات للاجابة عليه. فانت تطلبين مني سرد قصة حياتي او على الاقل الجوانب الموجعة منها طبعا، ولكني اتصور انني استطيع تلخيص كل ذلك بكلمة واحدة " الاحتلال". فاذا كان السفر قطعة من العذاب فان الاحتلال هو القهر كله.

الصحيح انني منذ لحظة الزلزال الذي صدمني وانا فتى في الثالة عشرة من عمري وذلك طبعا هو الاحتلال ، اردت ان اكون خفيا invisible خشية من الاحتلال وما يرتبط به، وقد تعزز هذا الشعور بعد ان درست كجزء من رسالة الماجستير الخاصة بي ، رواية الكاتب الامريكي من اصول افريقية رالف السون وهي بعنوان الرجل الخفي the invisibleman والذي يصور حياة الالم والوجع الشديد لشاب اسود في بلاد البيض وهو احتلال من نوع اخر ربما اشد قسوة علما بان بطل الرواية يتيم وكذلك الكاتب فالرواية المذكورة سيرة ذاتية اراد البطل ان يحيا فيها خفيا لشدة وهول ما واجهه في مجتمع البيض من الم وقهر.

وهذه فقط بعض المواقف التي ترصد بعض المواجع التي اختبرتها شخصيا وربما تبرر تلك الرغبة واختيار ذلك الاسم .

في الايام الاولى للاحتلال قام الاحتلال بمنع التجول على القرية التي اسكن فيها، وتم جمع الرجال في ساحة وسط البلد ولم يبق في المنازل سوى النساء والاطفال. المشكلة انه اثناء تلك العملية دارت اشاعات بين من تبقى في البيوت والذين كانوا يتلصصون على ما يجري في الساحة بأنهم يقتلون الرجال، وانهم قصوا شوارب فلان وخلعوا اظافر علان واطلقوا النار على زيد وعبيد... لم يكن ذلك صحيحا ولكن اثره كان مزلزلا ومخيفا لطفل في مثل سني في حينه.

بعد سنوات قليله من الاحتلال، وكنت حينها في الجامعة ادرس الادب الانجليزي، ورغبة مني في اتقان اللغة الانجليزية، وتحسين ملكاتها، حاولت العمل بنصيحة استاذة لي من الجامعة اسمها الاخت بيا PIA، وهي من اصول ايرلندية، وما ازال اذكر اسمها لانها كانت تقول ان اسمها يحمل الحروف الاولى لشركة الطيران الدولية الفلسطينية Palestine International Airways ...وكانت تنصح بأن على من يرغب في تعلم شيء واتقانه عليه ان يعلمه if you want to learn something teach it ، فتطوعت لتدريس بعض الطلبة من المدارس في القرية، ولكن ذلك ترجم من وجهة نظر الاحتلال على انه عمل نضالي، ولولا نصيحة صديق لي لكنت ربما عفنت في غياهب السجن...فقط لانني اردت تعلم اللغة الانجليزية.

وقد اختبرت ايضا في احدى الليالي وجع الزيارات الليلة لقوات الاحتلال..فاثناء دراستي الجامعية ارادت قوات الاحتلال على ما يبدو اعتقال احد الطلاب، ولكنهم لم يعرفوا على وجه التحديد مكان سكنه فقاموا على زياراتنا ليلا انا وزميل لي ربما بعد الثانية صباحا..وكانت لحظات رعب حقيقية تلك التي تصاحب مثل تلك الزيارة الليلة...جنود مدججين بالسلاح يطرقون الباب ببساطيرهم واعقاب بنادقهم ..ثم سيل من الاسئلة لشخص مرتبك بل شديد الارتباك لا يكاد يعرف ما يقول وقد افيق للتو من النوم ولا يعرف السبب او المصير...اؤكد لك ان صدمة هذه الزيارة الليلة المفاجئة اشد من صدمة زلزال بقوة 10 درجات على مقياس رختر.

لاحقا وعندما بدأت السفر والى خارج القفص.. او السجن الكبير ...وما ادراك ما السفر عبر حواجز الاحتلال والحدود...اذكر ان لحظات وداع المسافر في مثل تلك الايام كانت اشبه بلحظات وداع مشروع انسان ميت..شديدة الالم والوجع. وكانت طقوس السفر تبدا في ساعات الليل المبكرة ربما الثالثة او الرابعة صباحا ولك ان تتخيلي وجع السفر عبر الحواجز ومخاطره، ثم وجع اجراءات السفر...
كان المشهد في احد المرات في الباص الذي يستقله المسافرون عبر الجسر مزلزلا مؤلما..الي حد ان امرأة عجوز صارت تتأفف فما كان من ابنتها الا ان قالت لها تذكري يا والدتي بأن "الانسان خلق في كبد"؟! ...كان على الانسان استحضار كل الايات والمواعظ التي تحث على الصبر حتى يستطيع ان يتعايش مع ظروف الاحتلال وقهره والم السفر..وعذاباته.

وفي مشهد اخر كنا حينها في رحلة العودة من الاردن حيث كان يطلب منا خلع الحذاء والعقال لمن يلبسه طبعا، وكل ما يشك به ليتم تفتيشه عبر الماكنات، وكان هناك شيخ كبير في السن، خلع حذاءه وعقاله ووضعها في الصندوق المخصص للتفتيش، وعندما انتهى من التفتيش الجسدي سار خارجا ولكن سار حافيا وقد نسي حذاءه... وربما ان وجع المنظر وقساوته هو الذي انساه الحذاء.

هذه مجرد مشاهد تصور بعضا من معاناة والم انسان يعيش تحت الاحتلال... اما وجع الاحتلال وقهره كله... فلا اتصور ان احدا يستطيع حصرها وتسجيليها فهي عصية على التدوين.. وحتى ايوب المشهور بصبره ما كان ليحتملها حتما.



[/SIZE]

ناريمان الشريف 01-25-2016 11:23 AM

وفي مشهد اخر كنا حينها في رحلة العودة من الاردن حيث كان يطلب منا خلع الحذاء والعقال لمن يلبسه طبعا، وكل ما يشك به ليتم تفتيشه عبر الماكنات، وكان هناك شيخ كبير في السن، خلع حذاءه وعقاله ووضعها في الصندوق المخصص للتفتيش، وعندما انتهى من التفتيش الجسدي سار خارجا ولكن سار حافيا وقد نسي حذاءه... وربما ان وجع المنظر وقساوته هو الذي انساه الحذاء.

هذه مجرد مشاهد تصور بعضا من معاناة والم انسان يعيش تحت الاحتلال... اما وجع الاحتلال وقهره كله... فلا اتصور ان احدا يستطيع حصرها وتسجيليها فهي عصية على التدوين.. وحتى ايوب المشهور بصبره ما كان ليحتملها حتما.

سلام عليك .. والله يعطيك العافية أخي أيوب ..
هذه المشاهد التي ذكرت .. كل إنسان فلسطيني عاشها بكل تفاصيلها مع اختلاف درجة الاهتزاز على مقياس ريختر ..
يبدو أنك من غير شعور .. فتحت باباً لا يغلق من أبواب الوجع الفلسطيني الذي نلت منه ونال منك
.. يا ليتك تتحدث باستفاضة .. فسرّ حياة أي إنسان تكمن في تفاصيل أوجاعه
كما أود أن تحدثنا عن طفولتك والظروف التي أحاطت بها غير تلك الظروف السياسية ..
مع الشكر والتقدير

تحية ... ناريمان الشريف

مها الألمعي 01-25-2016 02:58 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طابت أوقاتكم
حتى لا أكون كمتجسسة
فضلت أن أسجل بهذا الرد متابعتي للقاء الأستاذ أيوب
وأنا متشوقة جدا لأن يكمل
شكرا أستاذة ناريمان على هذه الخطوة منك
وشكرا للأستاذ أيوب قبوله مشاركتنا بهذه التفاصيل.

هند طاهر 01-26-2016 12:41 AM

اقتباس:

وفي مشهد اخر كنا حينها في رحلة العودة من الاردن حيث كان يطلب منا خلع الحذاء والعقال لمن يلبسه طبعا، وكل ما يشك به ليتم تفتيشه عبر الماكنات، وكان هناك شيخ كبير في السن، خلع حذاءه وعقاله ووضعها في الصندوق المخصص للتفتيش، وعندما انتهى من التفتيش الجسدي سار خارجا ولكن سار حافيا وقد نسي حذاءه... وربما ان وجع المنظر وقساوته هو الذي انساه الحذاء.

هذه مجرد مشاهد تصور بعضا من معاناة والم انسان يعيش تحت الاحتلال... اما وجع الاحتلال وقهره كله... فلا اتصور ان احدا يستطيع حصرها وتسجيليها فهي عصية على التدوين.. وحتى ايوب المشهور بصبره ما كان ليحتملها حتما.

مشهد مؤلم بعد التجربه .. وبسببه لم اعد لفلسطين من سنة 2009

متابعه لكم ولي عوده باذن الله ... تحيتي ..

ناريمان الشريف 01-26-2016 12:37 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مها الألمعي (المشاركة 202631)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طابت أوقاتكم
حتى لا أكون كمتجسسة
فضلت أن أسجل بهذا الرد متابعتي للقاء الأستاذ أيوب
وأنا متشوقة جدا لأن يكمل
شكرا أستاذة ناريمان على هذه الخطوة منك
وشكرا للأستاذ أيوب قبوله مشاركتنا بهذه التفاصيل.

احترامي وتقديري لشخصك عزيزتي مها
أشكرك على مشاركتنا هذا الحوار الطيب مع الأستاذ أيوب
تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 01-27-2016 12:31 PM

اشكر الاستاذة مها الالمعي
والاستاذة هند الطاهر على الاهتمام والمتابعة

سرني جدا حضوركن...فقد اصبح لدي 5 ملايين متابع...

ايوب صابر 01-27-2016 12:33 PM

مرحبا الأستاذ ناريمان

- يا ليتك تتحدث باستفاضة .. فسرّ حياة أي إنسان تكمن في تفاصيل أوجاعه.

-سأحاول ان اتحدث باستفاضة، وأركز على الوجع ان كان ذلك هو جانب التشويق في السيرة الذاتية وكاشف خبايا النفس، مع حرصي حتما على ان يظل السرد مشوقا للمتلقي...ولعلني في النهاية أكون بفضل اسئلتك الجميلة والذكية وتفاعل الزملاء قد حصلت على نسخة ولو أولية من سيرتي الذاتية.

س‌-أود أن تحدثنا عن طفولتك والظروف التي أحاطت بها غير تلك الظروف السياسية؟

الولادة وظروفها:

للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة بالذاكرة الي البدايات وأقدم الذكريات أولا ثم التالي فالتالي. لكن أولا دعونا نتصور ونتخيل الظروف التي كانت سائدة في فلسطين عام 1954 وهو عام ولادتي.

لا بد ان الظروف كانت شديدة الصعوبة والقسوة، فقد كان الاحتلال قد سيطر على الجزء الأكبر من فلسطين عام 1948 وظلت مساحات محدودة من الأراضي الداخلية الجبلية في فلسطين حيث تقع قريتي...بدون حكومة او حتى جهاز اداري او أي مقومات اقتصادية لان الوحدة الفلسطينية الأردنية حصلت عمليا عام 1950. وحتى بعد حصول الوحدة لا بد ان الظروف ظلت صعبة قاسية فلم يكن شرق الأردن بلدا بأفضل حال من الناحية الاقتصادية ليوفر ظروف اقتصادية أفضل في المناطق التي تبقت من فلسطين، فقد كانت المعاناة مشتركة حتما...

ولا بد ان الفقر كان سيد الموقف بالإضافة طبعا الى الشعور بمرارة الهزيمة وفقدان وطن بكل ما في الكلمة من معنى بالإضافة الي فقدان مواقع تشغيل العمال في المستعمرات والموانئ والبيارات والحقول الساحلية.

في مثل هذه الأجواء اتيت الي الدنيا...وكنت السادس في الترتيب 4 ذكور واخت واحدة انثى. كان عمر والدي 54 عاما عند مولدي فهو من مواليد عام 1900 وهناك رواية تقول انه من مواليد 1898 أي انه كان في السادسة والخمسين من عمره، وكان تصغير العمر بهدف تجنب اللحاق بالجيش التركي عند اندلاع الحرب العالمية الأولى كونه الوحيد عند والده جدي خليل الحمد.... ويبدو ان والدتي كانت مريضه عند ولادتي او بعدها بقليل...فقد أخبروني بأنني عشت سنوات رضاعتي الأولى على حليب المرضعات والماشية...ويبدو ان مرضها كان مرتبط بعدد الولادات المرتفع في زمن خلى من الرعاية الطبية تقريبا، فقد ولدت ما مجموعه ثمانية بطون...سبعة قبلي..لكن البنت الاولى البكر، ماتت بعد الولادة بقليل كما قيل لي، اما الاخيرة فقد ماتت اثناء الولادة...

بعد عامين أي في العام 1956 ماتت امي...ولا بد ان مرضها كان ذلك المرض الذي دفع والدي لاقتراض 5 دنانير من أحد المرابين في قرية مجاورة وخسر لاحقا على إثر هذا القرض، الذي تراكمت فوائده بصورة فلكية، قطعة مهمة من الأرض المزروعة بشجر الزيتون...وهو ما يشير الى حالة الفقر التي كانت سائدة اثناء تلك السنوات العجاف...

وقيل لي انها ماتت اثناء الولادة حيث كانت تحاول إنجاب اخت أخرى سابعة، لكنها توفيت معها فكنت أنا الأخير من بين الابناء...وهذه الحادثة مهمة في حياتي لأنها مرتبطة بقصة مروعة كان لها اثرا مهولا على نفسي اثناء طفولتي وكادت ان تطيح بي وسوف ارويها لكم فيما يلي من صفحات الذاكرة......

وعلى القبر الذي دفنت فيه والدتي وهب جدي من جهة الام اختها، أي خالتي، لابي زوجة أخرى ثانية، بحكم العادة والعرف وحتى تقوم على تربية الأطفال الايتام، انا واخوتي كما يقال...

والدي تعلم القراءة والكتابة في "الكُتاب" وكان يحفظ القران الكريم، وقد علمه خاله الكفيف امام المسجد في حينه...

اخي الأكبر لم يتعلم وكذلك اختي التي تلته في الترتيب ...وكان اخي الأكبر يعمل مع والدي في زراعة الأرض وكلفتها، فقد كان دخل الاسرة الرئيسي من الإنتاج الزراعي والحيواني خاصة انتاج العسل، فقد كان ابي صاحب منحل تزيد خلاياه أحيانا عن 500 خلية ...والتي حققت جميعها نوعا من الاكتفاء الذاتي، بينما كان يتم بيع الفائض في حال وجوده لتوفير الاحتياجات الأخرى للأسرة...

سافر هذا الأخ الأكبر للعمل في الكويت في العام 1965 على الرغم من إرادة والدي...مما وفر للأسرة دخلا إضافيا...كما ساهم اخي الثاني في الترتيب والذي اُخرِج من المدرسة في الصف السادس، بسبب تجازوه للسن القانوني المعمول به في حينه، ساهم في توفير دخل للعائلة حيث عمل مبكرا كعامل بناء ليصبح مقاول في تلك المهنة، مما أتاح لباقي الأبناء التعلم والالتحاق بالمدارس والجامعات فتخرج اخي الثالث من الجامعة الأردنية، تخصص فيزياء، واكتفى الرابع بشهادة التوجيهي العلمي، وتحول لتعلم مهنة الطباعة واصبح لاحقا مدير مطبعة...بينما أنجزت انا شهادة الماجستير في تخصص الادب الإنجليزي من الولايات المتحدة الامريكية.

خالتي اخت امي وزوجة ابي الثانية انجبت طفلة فصار لي اخت أخرى، اما باقي محاولات الانجاب فقد فشلت بسبب الاختلاف في فصيلة الدم وهو امر كان مجهولا على ما يبدو للأطباء .. وتسبب بكثير من الالم والمعاناة...فقد عانت منه خالتي اشد المعاناة، وقد انعكست تلك المعاناة بشكل او باخر على افراد الاسرة..وقد كانت خالتي كثيرا ما تندب حظها في الزواج، ربما بسبب فارق السن بينها وبين والدي ، وكذلك بسبب فشل محاولات الانجاب والذي كان عبارة عن مسلسل موت الامل والابناء وتكرر واحدا تلو الاخر ولاكثر من اربعة او خمسة مرات دون فائدة...وقد المتني حالة خالتي النفسية جدا اثناء تلك الظروف القاسية وما تزال بعض المواقف التي كانت تذرف فيها خالتي الدموع بالم وحسرة محفورة في اعماق ذاكرتي...

ومن تلك المواقف كانت في احد الايام تجلس بالقرب من شجرة التين، في الارض القريبة من المنزل، وكانت حينها تدق القش لتحضيره كمادة توضع مع روث الحيوانات حول الطابون ليشتعل ويجعله حارا للخبز...ورايت عيونها في ذلك الموقف تذرف دموعا حارة فسألتها عن السبب؟! فاجابت انها خائفة من المستقبل، لان ليس لها ولد يعتني بها اذا شاخت...فوعدتها حينها بأنني ساكون الي جوراها...وقد وفقني الله عندما كبرت وصارت في الستينيات من العمر واحتاجت الي غسيل كلى... فوقفت الي جانبها اخدمها بكل ما اوتيت من قوة وصبر..وكلما تراخيت في خدمتها او تلبية احتياجاتها تذكرت تلك الدموع الحاره... وتذكرت ذلك الموقف وذلك الوعد الذي قطعته على نفسي، وانا في مقتبل العمر...وقد زرتها في المستشفى اثناء واحدة من عمليات غسيل الكلى واعطيتها مبلغا من المال، ووعدتها ان اعطيها المزيد بعد عودتي من السفر، وسافرت الى الاردن لحضور اجتماع عمل، فوصلني اتصال هاتفي في حوالي الساعة الواحدة ظهرا من احد ايام السبت التي يكون فيها الجسر على نهر الاردن مغلقا، واخبروني فيه انها توفيت وهي تدعو لي...

حزنت لموتها اشد الحزن وحاولت العودة لحضور جنازتها من خلال ترتيب سفر خاص يوفره الصليب الاحمر لمثل هذه الحالات الطارئة، ولكن عودتي تعذرت بسبب السبت....واتصور ان ذلك كان من ترتيب الله عز وجل فلم اكن لاستطيع احتمال مشاهدتها وهي تدفن، واظن ان ذلك جاء تلبية لرغبة دفينة كانت موجودة عندي منذ زمن بعيد...لان اشد ما أحاول ان اتجنبه وأحيد عنه هو المقابر...فانا مسكون بالخوف من الموت ومل ما يمثله فكيف لو انني اضطررت للوقوف هناك وانا اشاهد جثمانها يودع في القبر وينهال عليه التراب ؟

توفي والدي عام 1991 عن 91 عام...او ربما 93 عاما...بينما توفي جدي من ناحية الاب قبل ولادتي بعامين تقريبا، وهو ما دفع والدي وسمح له منحي اسم جدي ( خليل ) على الرغم، وكما علمت لاحقا، ان جدي كان يرفض رفضا قاطعا ان يتم تسمية احدنا، اي احفاده، باسمه لغرض في نفسه كان قد كشفه في مرحلة ما لوالدي...وسأرويه لكم فيما يلي...وهو مرتبط بصورة او بأخرى بموت امي او هكذا ظن جدي وظننت أنا أيضاً حينما علمت بتلك الراوية الكارثية، وكان لتلك القصة اثرا مزلزلا على نفسي وكياني لفترة طويلة ...

كان هذا الجد طويل القامة، قوي البنية، لم يراجع طبيب طوال حياته كما قيل لي، ويقال انه كان يصرع بعضا من شباب ثورة الستة وثلاثون الاشداء وهو في الثمانينيات من عمره. حينما كان يمازحهم ... اصبح هذا الجد يتيم وهو في سن الثانية، حيث مات ابوه وظل وحيدا عند والدته، وكان يعتقد على ما يبدو ان موت والده جاء بسبب تسميته باسم خليل ...ولاحقا اصبح شاعرا مفوها يقال انه كان يفوز في كل المناظرات التي يدخلها في الاعراس.

اما مكان ولادتي فهو قرية كفل حارس وهي قرية قديمة، قدم التاريخ ربما، والشاهد على ذلك وجود قبور او مقامات عدد من الأنبياء في ارضها، ذو الكفل، ومنه اخذت اسمها الحديث، وذو النون، واليسع، ويوشع ... ويقول كتاب بلادنا فلسطين ان اسمها القديم كان "تمنة ساره" وهي كلمات كنعانية تعني نصيب من الشمس، وهي مقامة على راس تله مرتفعة ، وتحيط بها الوديان وحقول الزيتون من جميع الاتجاهات، وتسطع فيها الشمس طوال النهار، بحيث يكون لكل حي او ركن من اركانها نصيب من الشمس...

ويوجد فيها بالإضافة الي قبور الانباء مغارة تسمى مغارة "ستنا ساره" ويقال انها كانت سكن لستنا سارة زوجة سيدنا إبراهيم الخليل إذا ما مرت في كفل حارس، كما يوجد فيها مقر يسمى بنات الزاوية ويقال انه كان سكن لبنات سيدنا يعقوب... وموقع اثري يسمى الشيخ منسي... ولا احد حاليا يعرف قصته...

ويقع مقام النبي يوشع في وسط البلد ويقال ان فناء المبني يحتوي على قبر لاحد قادة صلاح الدين الايوبي كما كتب على الشاهد، ويحيط بالمبني جدار يمتاز بنمو شجرة بطم قديمة نمت من داخل الجدار، ولا أحد يعرف عمرها، كما يوجد بالقرب من هذا المقر شجرة سدر ضخمة قديمة تخدم كمضافة لسكان القرية، وملتقى للسمر، وكانت قديما مكان تقام فيه الافراح...ومكان يلتقي فيه الرجال ليتسامروا او لممارسة بعض الالعاب الشعبية مثل لعبة السيجة....



يتبع

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...

ايوب صابر 01-31-2016 12:19 PM

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

تبدو صفحات الذاكرة الأولى عندي، والتي تغطي السنوات القليلة الأولى من حياتي، أي سنوات ما بعد الولادة مباشرة، تبدو بيضاء ناصعة البياض، خاوية، وخالية، من أي حرف خط او كتب او رسم عليها...ولكنني الان اعلم وبعد ان تعمقت في دراسة اسرار الشخصية الإنسانية، وأثر احداث الطفولة المأساوية في الشخصية، بأن تلك الصفحات لا بد انها كانت قد دونت بحبر سري، مداده الألم، والحسرة، والوجع، والحزن، وفقدان الاتصال مع الام الوالدة... ذلك كله وأكثر ...الذي ترافق مع موت الام المبكر حتما...نعم تلك هي صدمة اليتم المبكر التي لا بد انها كانت الزلزال الأول الذي الم بي وزادت قوته عن عشر درجات على مقياس رختر، وكان حتما المصيبة الأعظم، واهم حدث على الاطلاق في صندوقي الأسود...

ولا بد ان هذا الزلزال كان عظيم الأثر على نفسي وقلبي وعقلي لأنه حدث في وقت مبكر، وتحديدا في السنة الثانية بعد الولادة ...والدلائل تشير انه وقع في اعماق الذاكرة وترك هناك أثرا مهولا وفجر طاقات صنعت ما انا عليه اليوم وبعد ستون عاما من الضياع والاحساس بالفقد والبحث عن اجابات....

اما إذا ما قلبنا تلك الصفحات الأولى من الذاكرة، والتي تبدو بيضاء ناصعة كبياض الثلج، وهي في الواقع سوداء كالحة كسواد ساعات ما قبل الفجر، من هول وشدة ما أصابني من صدمة الفقد تلك، والتي تركت اثارها في الأعماق السحيقة من اللاوعي كما يقول علم النفس وتؤشر له مجموعة من العلامات والسمات التي ينطبع فيها الانسان...اذا ما قلبنا تلك الصفحات نصتدم بصفحة واحدة كتبت بالدم، وسجلت تلك الصفحة حدثا مروعا، مؤلما، مرعبا، ما ازال اذكر تفاصيله على الرغم انه وقع في وقت مبكر جدا، ولو انه كان حدثا عاديا عابرا لزالت اثاره مع الايام...ليكون ذلك اول حدث يدون على صفحات ذاكرتي الواعية، ولا اكاد اذكر غيره من تلك المرحلة المبكرة في حياتي، وذلك لشدة ما تسبب لي ذلك الحدث من الم وخوف وترويع...

ولا ازال اذكر تماماً ذلك الشخص الضخم، بسحنته المخيفة، وكرشه الكبير، وحقيبته السوداء، وكان اسمه ابو طه، والذي قص بمقصه او ربما هو موس حلاقة حاد من الطراز القديم، جزء غاليا من جسدي، فتدفق الدم الأحمر القاني من اكثر المناطق حساسية في جسدي...يومها البسوني ثوبا فضفاضا، ولفوا مكان الجرح بشاش ابيض، لكنه ظل يكتسي باللون الأحمر لأيام وليالي لاحقة .. رغم انهم كرروا رش الجرح ببودرة بلون ابيض لوقف النزيف...لكنهم لم يتمكنوا من فعل اي شيء بخصوص الالم الذي اجتاحني ، سحقني ، وزلزل كياني ....الم ساحقا، ماحقا، بدأ كطوفان واستمر لأيام، ثم تلاشى تدريجيا تاركا خلفه جرحا غائرا في جسدي، وندوبا وجراحا اكثر عمقا في نفسي وعقلي وذاكرتي ...

تالمت اثناء تلك الحادثة الجريمة وبكيت بشدة ورقصت كدجاجاة مذبوحة... بينما كانت النسوة تطلق العنان لزغاريتها احتفاء بالمناسبة... تلك الجريمة التي ارتكبها ذلك الشخص الضخم المرعب بحقي، واظنه كان يمتهن الحلاقة فمثل تلك المهنة كان يمارسها الحلاقيين في تلك الايام، تلك هي حادثة الختان وتسمى محليا ( الطهور)، وهي الحادثة التي يرقص لها الناس فرحا، بينما تتلوى الضحية الما وخوفا وحسرة على ما فقد...واظن ان اثر ذلك الفقد المحدث يظل عالقا في الذاكرة الي الابد ...فلا احد يعرف تماما اذا كان ذلك الحلاق عرف حدوده ام انه عمق القص قليلا...فزاد من حجم القطعة التي اقتطعها بحجة توفير مزيد من النظافة، فاثر ذلك على الاطوال الطبيعية للاشياء...
ولا شك ان تلك كانت اول حادثه يسجلها عقلي الواعي... وهي حتما اول حدث واعي في سجل ذاكرتي، واكثرها ترويعا ودموية وأشدها الما...كان ذلك حدث من الوزن الثقيل، مؤلم، ومخضب بدم احمر قاني...فكان فاتحة ذاكرة مملؤة بالاحداث القاسية، والمؤلمة، التي سجلتها ذاكرتي على مر الايام...بعضها تسبب في زلزلتي بقوة تزيد على عشر درجات على مقايس رختر...فكان اثرها جليا في صفحات ذاكرتي...

ولو اننا تابعنا تقليب مزيد من الصفحات المبكرة لنقرأ ما دون فيما يلي من صفحات سنجد بأن سنوات حياتي الأولى لا بد انها كانت مرعبة، ومروعة، ومخيفة في مجملها، وهي كذلك بحق من عدة نواحي...

أولا كان بيتنا مكون من غرفتين متواضعتين، صغيرتي الحجم ومبنية من الطين طبعا، بالإضافة الي بناء أثرى قديم لتخزين الحبوب ويخدم مأوى للحيوانات أيضا، خاصة في أيام الشتاء...وكانت الساحة المفتوحة امام الغرفتين، والتي كانت تغطيها في معظم أيام السنة، ما عدا اشهر الخريف... أوراق شجرة توت ضخمة كانت مزروعة في قلب الساحة، كان ذلك الجزء ربما هو اهم جزء من البيت، حيث كانت تلك الساحة متعددة الاستخدامات بالمعني الحديث...صالة، وصالون، ومكان للطبخ ومكان للطعام، ومكان استقبال الضيوف..الخ...

وكانت واحدة من تلك الغرف لابي وزوجته الثانية، خالتي، وغرفة أخرى نصفها مطبخ على الطريقة القديمة أي مكان لبابور الكاز ومكان لزير الماء وامكنه لتخزين ما تيسر من المواد المخصصة للطبخ والطعام...والنصف الأخر مكان كنا ننام فيها نحن الأولاد السبعة...وكنا ننام الي جانب بعضنا البعض كأسماك السردين المحشوة في علبة صغيرة...وكان جزء من سقف تلك الغرفة مكون من القش والحطب، ولطالما كنا نسمع أصوات أشياء تتحرك في ذلك السقف المخيف خاصة في ساعات الليل...وكنا ننام على امل ان تكون تلك الأشياء صراصير او فئران وليست افاعي وعقارب...

واذكر اننا في أحد الأيام استيقظنا من النوم صباحا كالعادة وخرجنا الي الساحة...بينما قامت اختي الكبيرة، عائشة، بطي الحصيرة التي كنا نفترشها تحت الفرشات الاسفنجية، او تلك المصنوعة يدويا من القماش...وما لبثت ان صرخت، وخرجت مسرعة، هاربة الى خارج الغرفة، وهي تشير الى وجود افعى في المكان...وكانت ترتجف والرعب باديا علي وجهها...فسمع الهرج والمرج جار لنا اسمه أبو يوسف، حسين القره، وربما تم استدعاؤه، فاحضر عصاه وقتل الحية، وإذا بها تزيد عن المتر في طولها...وقد فوجئت انها كانت قد خرجت من فتحة في الأرض، في المكان الذي كنت انام فيه انا تحديدا، وكان ذلك في اخر الصف والي جوار اختي الكبيرة التي لعبت دورا مهما في الاعتناء بي بعد موت امي فكانت الام البديلة رغم صغر سنها في ذلك الوقت...

كان الليل في تلك السنين مخيف لطفل مثلي، وكان شديد العتمة والوحشة، فلم تعرف قريتنا الكهرباء الا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وكان وسيلة الإضاءة القنديل، او السراج، ولوكس الكهرباء اليدوي...وأحيانا ضوء أبو شنبر(اللوكس أبو شنبر) والذي كانت اضاءته تعتبر ترف ويضاء غالبا في أوقات الاحتفال والمناسبات...

وكان ما يزيد الليل وحشة ويزيدنا رعبا حكايات اختي الكبيرة، عائشة، والتي كانت تروي لنا، في كثير من الليالي، كنوع من التسلية او لمساعدتنا على النوم...وكانت في معظمها قصص مرعبة...منها قصة "الغول وصاحبة الحب" الذي يتوعدها الغول بأكلها عندما تنتهي من طحن الحب، بينما وحسب القصة كانت هي تغني وتسري عن نفسها فتقول " اطحن معي يا أبو علي يا جارنا...فيرد عليها الغول ...البطل في القصة المرعبة قائلا ..."الليل طويل والحب قليل كل ما خلصتي بوكلك"...يا لها من قصة مرعبة!! ويا له من اثر تركته في اعماق ذاكرتي ولو انها قصة اسطورية...حكاية ربما اخذوها من الف ليلة وليلة فالغول من المستحيلات الثلاثة على رأي الشاعر... وليتنا كنا نعرف ذلك ونحن اطفال...

ولا تقل القصص الأخرى مثل "الشاطر حسن"، و"بير خنيفسه" تشويقا و رعبا...ولا بد ان مثل تلك القصص، والأجواء الموحشة، والمعتمة، والمرعبة...وظروف البيئة القاسية... كان لها وقع مخيف على نفسي، فكنت أحيانا ابلل فراشي، وكانت هذه مشكلة أخرى...تتسبب لي بمزيد من الرعب...حيث كانت خالتي وزودة ابي تهددني بأشياء كثيرة منها دق يدي بالإبرة إذا فعلتها مرة أخرى...واظنها كانت شديدة القسوة في اسلوبها التربوي رغم انني الان أتصور بان غايتها كانت حتما حسنة، وربما كانت تظن بأنها تفعل الصواب بعينه...فهي امرأة امية لا تقرأ ولا تكتب...ولم تقدر أثر مثل تلك الأساليب الترهيبية على نفسي حتما ولا يمكن لي ان الومها...

ولطالما سمعتها وفي أكثر من مناسبة تردد بأن القسوة هي التي تصنع الرجال...وكان اشد ما يهمها ان نكون انا واخوتي شجعان، لا نهاب من شيء، وكان أكثر ما يزعجها ان يتغلب أحد أبناء الحارة على أحدنا باي شكل من الاشكال...وكانت هي تحب ان تكون دائما في الطليعة، وتحب ان يكون كل من يخصها في الطليعة ايضا...

والصحيح انها ورغم قسوتها تلك كانت حسنة المعاملة...شديدة الحنان على الاقل تجاهي...حتى انني لم اعرف او اشعر انها ليست امي الا في وقت لاحق...لا اعرف تحديدا متى؟!... ولكني اعتقد انه كان في سن الرابعة، حيث كانت ابنتها، أي اختي غير الشقيقة، عزيزة، والتي تصغرني بعامين قادرة على اللعب والجري...وقد مثل ذلك الحدث صاعقة رهيبة بالنسبة لي...ولا بد انه زلزل كياني واشعل النار فيه... وذلك حين عرفت بصورة درامية مفاجئة ان امي الحقيقية ميته...وهذه ليست امي التي انجبتني...

وحدث ذلك في ذات يوم جميل كنا نلعب فيه في فناء الدار...وكانت خالتي واختي الكبرى، عائشة، عائدتين من الحقل تحملان على رؤوسهما حزم من الحطب الزيتون... فركضت اختي الصغيرة عزيزة، نحوهما فرحة وهي تنادي امي ..امي...فلحقت بها، وانا اشد منها فرحا، وصرت انادي مثلها امي... امي...

فما كان من اخي الذي يكبرني بعامين، وكان هذا الأخ عصبي المزاج، حاد الطباع...فما كان منه الا ان نهرني بقسوة، وحدة، وقال لي ان هذه ليست أمك...

الصحيح انني لا اعرف ان كان قد حاول هو او غيره اخباري بتلك الحقيقة من قبل، ام أني لم أكن أدرك ما كان يقال لي بخصوص تلك المصيبة والفاجعة وربما انني لم اشأ تصديق ذلك...فكيف لا تكون هذه امي؟؟!!...

ولكن تلك اللحظة في ذلك الموقف تحديدا مثلت لي لحظة وعي وادراك بحدث مزلزل جلل، وبمقياس عشر درجات على مقياس رختر ...فوقع كلامه علي وقع الصاعقة الناتجة عن سقوط كوكب على الارض...وكأن نارا اشتعلت في قلبي وعقلي...رغم انني شعرت وكأنه غمسني في بحر من الجليد...ليست أمك؟ ولا بد انني سألت نفسي عندها، وانا حزين، مكسور الخاطر، اعاني من هول المفاجئة، والدهشة، والارتباك، ولا اذكر ان كان ذلك الارتباك ظاهرا او مستترا لكنه حتما كان جارفا كبحر هائج...فمن تكون امي إذا؟؟ وأين هي؟؟

واظن انني من لحظتها سقطت في بئر عميق، لم أستطع الخروج منه ابدا... ولكنني وجدت في قعره نفقا طويلا، طويلأ...بطول السنوات والأيام التي عشتها وما ازال...سرت فيه مدفوعا بطاقة عجيبة...ابحث عن الحقيقة، وعن معاني الأشياء، وكنهها...اصبحث فضوليا ابحث عن إجابات لكل تلك الأسئلة الوجودية التي يبدو انها فقست فجأة في ذهني...سرت ابحث عن معني الحياة، والموت، واسرار هذا الكون... وكنت في كل ذلك ربما ابحث عن امي؟

ولا بد ان جسدي ظل حبيس ذلك النفق المعتم ولا يزال...اما روحي التي اشتعلت بقوة مائة بركان... فقد انطلقت من داخل النفق وطارت مع طيور الوطواط...لتبحث في فضاءات مختلفة ومتعددة عن الحقيقة وتحاول الوصول الي إجابات لكل الاسئلة...

احدى هذه الفضاءات كان حبي للمعرفة فانكببت على الكتب في وقت مبكر...وكرست لها وقتا ثمينا.... اخترت الدراسة الجامعية الموسعة وعشقت الدراسة والبحث والتحليل...وسافرت في هذا السبيل الى اخر نقطة في الأرض، او هكذا بدت لي، تلك هي الشواطئ الغربية للولايات المتحدة الامريكية، شواطئ المحيط الهادي، حيث التحقت هناك بإحدى الجامعات بنية التوسع المعرفي والي اقصى حد يمكن الانسان من الوصول الي اجابات عن كل الاسئلة...وانا مدفوع بطاقة داخلية هائلة،وفضول، وشغف هادر كموج المحيط ...وباندفاع منقطع النظير لكشف اسرار هذا الكون...وقد توصلت في رحلتي تلك الي حقيقة اذهلتني في لحظة من الزمن...كنت في بالغ السعادة لما توصلت اليه من معلومات واجابات...وكدت ان اخرج الي الشارع اصرخ بملء فمي "وجدتها.. وجدتها" كما فعل ارخميدس ذات يوم ...والصحيح انني يومها طرت انا وخيولي من الفرح...لكنني ما لبثت ان سمعت من شخص بعض كلمات جعلتني انا وخيولي نهبط الى الارض بسرعة فائقة...وعرفت عندها حتى ان اعظم انجاز يمكن ان يتوصل اليه الانسان، ما هو الا لبنة صغيرة في صرح المعرفه الشامل...وان كثير من المجانين على الاغلب هم اناس عباقرة عجزوا عن ايصال افاكارهم لمجتمعاتهم الجاهلة فظنوهم مجانين...وسأروي عليكم رحلة البحث المخيفة تلك، وقصة اللحظات الجنونية التي عشت فيها على الحافة ولكن من شدة الفرح الذي ولد خوفا وشعورا قاسيا بالوحدة والغربة فلا تستعجلوا...

اما الفضاء الاخر الذي ابحرت به فهو عيون النساء...واطنني عشقت المرأة وشغفت بها ليس فقط لكونها ذلك الكائن الملائكي الشفاف... ولكني في حبي للمرأة كنت ابحث وربما بصورة مرضية احيانا عمن تعوضني عن حنان الام، وتملا فراغا شاسعا عشعش في صدري ورأسي ...واتصور انني ما ازال حتى هذه اللحظة مبحرا في بحر الحب...وسوف تظل اشرعة سفني مشرعة ما بقيت وما دامت الرياح مؤاتية...ولا اظن الان ان كل نساء العالم لو اجتمعت تستطيع ان تعوض اليتيم عن جزء يسير من حنان امه...او تملأ فراغا خلفته مصيبة اليتم في تجاويف صدره وقلبه وعقله...

كما ان هذا الأخ الذي اسقطني في ذلك البئر العميق والمخيف والذي لا قرار له ولا مخرج منه...كان مصدر رعب إضافي بالنسبة لي في تلك السنوات المبكرة ...فقد كان كما قلت شديد العصبية، سيء المزاج، وحاد الطباع، واظن الان ان سبب ذلك كان يعود الى أثر وقع موت الام على نفسه...وحيث يبدو ان أثر مصيبة اليتم كانت أعظم عليه واشد قسوة...وربما ان سبب ذلك انه كان في الرابعة عند وفاتها، وهو ما يشير الى ان وقع اليتم يختلف من شخص الي اخر وحسب السن الذي تقع فيه مصيبة اليتم...فتلك العصبية لم تكن سوى تنفيس عن حزن لا يطاق..وغضب على ظروف ماساوية فرضت نفسها...ولم يكن بقادر على ان يستوعبها...

وقد كانت تجتاحه نوبات من الغضب ..و كثيرا ما كان يلجأ لتكسير الأشياء، ولطالما شاهدته وهو يرمي أبواب الغرف الخشبية بالحجارة، فيترك احيانا فيها ثقوبا...ولم أكن اعرف كيف اتصرف حينما كان يمارس هذه الطقوس المرعبة...الا ان أحاول حماية رأسي والاختباء بعيدا عنه قدر الإمكان لحين انتهاء نوبات الغضب، ولو انه ظل بعد ذلك مصدر رعب لي رغم حنانه المفرط وما يزال مصدر خوف ورهبة رغم تبدل الأحوال بشكل دراماتيكي في وقت مبكر حيث ما لبثت نوبات الغضب تلك ان انتهت واختفت الي غير رجعه، وتبدلت بمزاجية حادة، ومتقلبة، وذكاء خارق وشخصية، قيادية، كرزمية، عسكرية في طباعها، صارمه في اساليبها، قادرة على تحقيق نجاح منقطع النظير على المستوى الإداري، على الرغم من عدم حصوله على المؤهلات الجامعية المؤهلة لمثل ذلك النجاح...وظني انه كان قد سقط هو الاخر في بئر عميقة شديدة العتمة والوحشة...وكانت نوبات الغضب تلك انما هي تعبيرا صارخا عن شعوره بالوحدة والوحشة والم الفقد...فلا شيء يمكنه ان يملا الفراغ الذي يتركه موت الام...



يتبع ..سنوات الطفولة المبكرة:::

ايوب صابر 02-02-2016 02:05 PM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة

ولم يكن ذلك الأخ مصدرا للألم الوحيد بالنسبة لي ولكني أستطيع قول نفس الشيء وبصورة نسبية عن جميع افراد الاسرة لسبب واحد، وحيد...وهو انهم كانوا يلقبونني بأسماء وينادوني بها توحي جميعها بأنني طفل كاذب...مما تسبب لي بضيق وألم نفسي شديد...ولا اعرف ان كنت فعلا قد امتهنت مهنة الكذب في تلك السنوات المبكرة من عمري...وان فعلت فربما ان ذلك جاء كردة فعل نفسية عنيفة على ذلك العالم الذي بدى لي كاذبا...فكيف أعيش كل تلك السنوات الأربعة في ظل كذبة بحجم تلك...وهي ان أعيش في كنف امرأة أقول لها امي لأتبين لاحقا بصورة صاعقة مزلزلة انها ليست امي وانما هي خالتي؟؟!!...وان امي ميتة، ومدفونة تحت التراب؟؟؟ يا لهول الفاجعة؟؟!!...وربما كان الكذب عندي وكما يقول علم النفس أسلوب غير واعي للدفاع عن النفس ودرء المخاطر والالم عنها...او ربما هو مؤشر على خيال واسع من دماغ تعرض لصدمة هائلة فاصبح يعمل بطاقة فوق عادية...

ولكن الامر لم يتوقف عند ذلك الحد...ففي احيان اخرى كانوا يدلعونني ويلقبونني باسماء تشير الى قصري، وصغر حجمي...وقد كنت فعلا مخلوقا ضئيلا وقصيرا في تلك السنوات المبكرة، واظن ان السبب يعود لحليب الماشية، وفقداني لصدر امي وحنانها بعد ان يغيبها المرض والموت...وكان اسوأ تلك الالقاب اثر في نفسي لقب "بزبوز" وهي كلمة اظنها مشينة تشير في احدى معانيها الى قطعة صغيرة من البراز...واظنهم لم يقصدوا اهانتي قطعا وانا في تلك السن، ولا تحقيري وشتيمتي فتلك الكملة لم تكن تقال في مواقف تستدعي الاهانة والتحقير والشتيمة... ولو انني لمستها في كل الاحوال...ليتهم كانوا يعلمون...لكن الجهل كما يقول احمد شوقي "يهدم بيت العز والشرف" فما ظنكم ان طفل صغير، لا يملك من امره شيء، كان يمكن ان يفعل ازاء كل ذلك؟

وصدقوني فان تلك المخاطر والظروف كانت كثيرة، ومتعددة، ومخيفة في بيئة شديدة الصعوبة، وعالية المخاطر... والصحيح انني استغرب الان كيف يمكن لأنسان ان ينجو منها، ويظل حتى على قيد الحياة...واعرف الان ومن واقع تجربتي الذاتية ان الموت والحياة امر قدري لا يملك الانسان من امره شيء وان الانسان محمي بإرادة ربانية الي ان تحين ساعته، وينتهي رزقه، مهما تعدد المخاطر...ولو ابتلعه حوت او جرفة موج البحر او اغرقه الطوفان...

وحينما انظر الان الى واقع البيئة المحلية في الريف الفلسطيني وطبيعة الحياة التي كنا نعيشها في تلك السنوات ارتجف من شدة الخوف...واستغرب كيف لشخص مثلي ان ينجو من كل تلك المخاطر...خاصة انني كنت عفريتا صغيرا...دائم الحركة...لا اهدأ ولا استقر...اروم البراري ابحث احيانا عن صيد ثمين مرة الاحق العصافير بالفخ والنبيظة ومرة ابحث عن بيض طائر الحجل...ومرات كثيرة كنا نجني فيها الثمار، اللوز والمشمش والعنب، والتين...لقد زرعوا في ذهني ان الارض غنية وكريمة تطعم كل من يقصدها وقد صدقوا...حتى انني كنت احيانا اذهب الي ارض لنا بعيدة عن القرية مسافة تزيد ثلاثة كيلومترات او ربما هي خمسة وكنت اقطف منها ثمار الخروب...وقد تحولت هذه الارض الجميلة الكركيمة والتي يتوسطها نبع ماء...كنا نشرب منه ونسبح في حوضه ونستجم حوله تحولت حاليا الى مصفاة لمجاري مستوطنة مجاوره...

واني لأظن بان نسبة مساحة الخوف والالم والمخاطر في حياتي المبكرة كانت كنسبة الماء الي اليابسة...او ربما أكثر قليلا من تلك النسبة...وقد كانت تصل أحيانا الي 90%...وما ذكرته من مصادر الم حتى الان ما هو الا مثل قمة راس جبل الجليد اما باقي المصادر فربما لن أتمكن ابدا من حصرها ووصفها او ان اجيد التعبير عنها، وعن أثرها...مهما حاولت وإذا ما اسعفتني الذاكرة لذلك ابتداء ...

اما هذه البيئة التي اشير اليها فهي بيئة الريف الفلسطيني...انها بيئة تنهل بالأفاعي السامة القاتلة إذا ما خرجت تلك الافاعي من بياتها الشتوي، وهي من أنواع مختلفة، واحجام متعددة، اخطرها، وأشدها سمية على الاطلاق هي الأفعى الفلسطينية ذات الرأس المثلث...والتي يقال ان لدغتها تعني الموت المحقق...

والغريب ان العصافير البلدية (عصافير الدويري) والتي تتخذ من المنازل القديمة أماكن لأعشاشها هي التي كانت تخدم كإنذار مبكر لوجود الافاعي، حيث كانت تتجمع وتأخذ في الرفرفة، والزقزقة بصوت مرتفع اشبه بالصراخ وكانها ترفع اشارة حمراء لتحذير الناس رغم انني اظنها تدافع عن صغارها واعشاشها، مما كان يلفت الانتباه وينذر بوجود افعي...ولطالما شاهدناها وراقبناها وهي تتحرك على جدران البيوت القديمة المبنية من الطين...ليقوم صاحب المنزل بمحاولة قتلها بإشعال نار في الفتحة ليجبرها على الخروج ومن ثم قتلها...وأحيانا كثيرة كانت تسقط من السطوح او من على اغصان الأشجار دون سابق انذار...واحيانا أخرى كان الناس يتعثرون بها في الطرق المعتمة غير المضاءة التي يسيرون بها ليلا او تأتي الي حيث يرقد الناس...

كل ذلك ضمن حدود المنازل والبيوت في القرية اما في، البر، أي الأراضي الريفية البعيدة عن المنازل فحدث ولا حرج...وكنا أكثر ما نجدها في اعشاش العصافير ومنها العصفور المدني وهو عصفور صغير الحجم لكنه جميل بالوانه المتعددة الرمادي والاصفر والاسود...تلك العصافير التي تتخذ من الفتحات في أشجار الزيتون المعمرة بيوتا لها او اعشاش طائر الشنار (الحجل) حيث كنا نمضي الكثير من أيام شهر اذار ونحن نبحث عن اعشاش هذه الطيور لنأخذ بيضها اللذيذ...والمعروف بأن الافاعي تظهر في فلسطين تحديدا في مطلع هذا الشهر اذار من كل عام، وتظل نشيطة طوال اشهر الصيف ولحين انخفاض درجات الحرارة بشكل كبيرة حيث تدخل في بيات شتوي وتختفي طيلة اشهر الشتاء... وكما يقول المثل الشعبي (في اذار مرة شميسه ومرة امطار ومرة امقاقات الشنار، وتبيض العنقاء والمنقاء والي ما الها منقار )...ويعني هذا المثل ان كل الطيور وكل الحشرات تخرج من سباتها الشتوي للتزاوج في بداية شهر اذار من كل عام...

ومن المرات القليلة جدا التي اذكر فيها جدي لأمي، صالح الاسعد، والذي توفي وانا في الثامنة... اذكره وهو يسرع الخطى نحو الحديقة المجاورة للمنزل هو ووالدي حيث كان كل منهما يحمل عصى ويلاحقان حية عثرت عليها خالتي وهي تقطف بعض أغصان نبة الشجيرة (الميرمية) لتعطير شراب الشاي...ليتبين لي لاحقا بأن الافاعي تأكل النحل وهي من الد اعداء النحل الكثيرة وهي تتواجد بكثرة في الإمكان التي تتواجد فيها خلايا نحل....

واذكر مرة وانا في سنوات دراستي الجامعية الاولي وكان ذلك في سبعينات القرن الماضي حيث تعرضت خالتي للدغة افعى داخل البيت القديم الذي كنا نخزن فيها الأشياء... ولولا الاجراء السريع والذي تم بنقلها الى المستشفى في المدينة لكانت تلك اللدغة قاتلة حتما...واذكر انها فقدت شيء من جلدها على أثر تلك اللدغة، ولا اعرف ان كان ذلك سببه سم الحية ام العلاج الذي اظنه الكورتيزون...وظلت كل عام تشعر بألم في نفس تاريخ اللدغة ولا اعرف ان كان ذلك الألم نفسي ام هو حقيقة ويظل كبصمة للسم الذي يتغلل في الجسد...ويرى البعض من حولي ان خراب كليتيها في اخر سنوات عمرها وموتها بالفشل الكلوي كان سببه سم تلك الافعى اللعينة...

وان كانت الحية تقتل ضحيتها عن طريق السم الزعاف الذي تضخه في جسد الضحية بواسطة الانياب الحادة في فمها، فان ذكر الحية، ويسمى محليا "بالعربيد"، ليس له تلك القدرة على القتل بالسم، لكنه يستخدم اسلوبا لا يقل بشاعة، وربما هو اكثر عنفا والما...فهو يلتف على ضحيته مستخدما عضلاته القوية جدا لخنق الضحية، فسلاحه الخنق، وربما قطع ضحيته من النصف... وهو ايضا لا يقل بشاعة في منظره عن الحية...فهو مرعب حينما يأخذ يتلوى بحجمه الضخم ويلتف على ضحيته ...واظنة يأني بلون واحد اسود خالص السواد فلم اشاهد في حياتي عربيد بلون رمادي او اصفر او مزركش ولو بمسحة بيضاء صغيرة ...واظن ان العرابيد تعيش في الخفاء في العادة، وكأنها تحب حياة العزلة والبعد عن الناس...وقلما تشاهد مثل الحية منتشرة في كل مكان تقريبا...ربما لان العرابيد لا تمتلك سلاحا قاتلا فتاكا مثل سلاح الحية الفعال والمميت...ووظيفتها ضمان بقاء النوع مثل ذكور النحل...

وإذا كانت الافاعي لا تؤذي كما يقال الا إذا ما استفزت او شعرت بتهديد، ولا أدرى مدى صدقية ذلك ولا اريد ان ادري او اجرب طبعا،...تشكل العقارب مصدر خوف ربما اشد من الافاعي، وكما يقول المثل الشعبي ( قرب العقرب لا تقرب وقرب الحية افرش ونام)، والعقارب أيضا متعددة الأنواع والألوان...فذات اللون الاسود منها يعتبر الأقل سمية، اما ذات اللون البني فهي شديدة السمية، لكن العقرب الأشد سمية على الاطلاق من بينها فهو العقرب باللون الأصفر...ولدغة هذا العقرب الأصفر تعني الموت المحقق إذا لم يتوفر العلاج الفوري وقد لا ينفع العلاج معه خاصة اذا تأخر قليلا ولم يكن فوريا وناجعا...

وإذا ما تذكرنا اننا نتحدث عن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي نعرف بأن العلاج الطبي كان نادرا ان لم يكن معدوما في بعض الاحيان وغير متوفر في اللحظة والتو، واغلب الناس كانت تلجأ الي الطب الشعبي لقلة الامكانيات... مثل جرح مكان اللدغة ومحاولة شفط السم من الجرح ثم وضع الثوم او أشياء أخرى لا اظن حقيقة انها تفيد في شيء سوى التطمين النفسي وانتظار الفرج...

وقد تعرضت شخصيا الي لدغة عقرب منذ سنوات وتحديدا عام 1995 ، حيث كنت قد عدت لتوي من المهجر لاستقر في القرية لعدة سنوات انتقالية، وهذه السنوات كانت مليئة بالاحداث فلم تكن عودة اختيارية وانما اجبارية، وصاحبها ايام وليالي كالحة السواد، سوف احدثكم عنها بالتأكيد فيما يلي، وكان ذلك العقرب صغيرا لا يتجاوز طوله سنتيمتر واحد او لنقل بضعة سنتيمترات على الاكثر ولونه اسود...وعلى الرغم من حصولي على الإبرة المزدوجة كما شرح لي الطبيب المقيم في القرية لكنني شعرت بألم مبرح ظل مستمرا على مدار أربع وعشرين ساعة متواصلة...


يتبع ..سنوات الطفولة المبكرة:::

ايوب صابر 02-03-2016 11:50 AM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

وعلى عكس الحية التي قلما نجدها داخل المنازل، وبين الفراش، او في الملابس... كنا نعثر على العقارب في كل مكان، وكثيرا ما كنا نجدها داخل البيوت، وبين الفراش، واسفل سجادة الصلاة، او عالقة في حجر نحركه من مكانه حيث ان لها طبع غريب عجيب وهي انها تكون عالقة بالشيء ممسكة بمخالبها به باستماته، ولا تظهر على الارض مكانه وهي خدعه طالما ادت الي وقوع محرك الحجر ضحية لها... وأحيانا كثيرة كنا نجدها مختبئة في الملابس او الأحذية ولذلك كان علينا ممارسة طقوس يومية وربما لحظية صارمة...تتمثل في هز الملابس بقوة قبل ارتدائها كي يسقط ما فهيا من عقارب ان وجدت...ومن يتجاهل مثل تلك التعليمات الشعبية غير المكتوبة سيجد نفسه ضحية للدغ والالم...

واني لأظن جازما ومن واقع تجربة شخصية بأن للعقرب نظام بث لاسلكي له تأثير على الجهاز العصبي للإنسان ويتواصل معه ولو بصورة بدائية...اقول ذلك لأنني، في العام 1989، وكنت في زيارة قصيرة للقرية موطني الاول ومكان ولادتي...بعد ان حصلت على إجازة قصيرة من عملي في الكويت، وذلك لعيادة والدي الذي كان مريضا، ولا بد من القول انني في تلك الزيارة رأيت نجوم الظهر بكل ما في تلك الكلمة من معنى، كما يقول المثل الشعبي عندنا، والذي اراني إياها في ذلك الموقف ليس العقارب ولا الافاعي... وانما هم جنود الاحتلال، ولتلك الزيارة حكاية طويلة ومثيرة...وتمثل فصلا كاملا من فصول الألم الذي الم بي خلال مسيرة حياتي، وسأرويها لكم حينما نفتح سويا صفحات ذاكرتي التي تغطي تلك الفترة من الزمن المر...

فبينما كنت اجلس في احدى الليالي تحت شجرة التوت في فناء الدار الامامي، وفي ساعة متأخرة من الليل، وكان الهدوء سيد الموقف... شعرت بأن شيئا يسعى خلفي، وان خطرا محدقا بي... وكان ذلك مجرد إحساس... فلم يكن هناك أي صوت او خشخشه او حركة من اي نوع... فالتفت من توي الى الخلف استكشف الامر، فاذا به عقربا مدرعا مخيفا...بلونين بني قاتم، واصفر لامع، وكان ذلك العقرب يسعى نحوي مسرع الخطى، فقفزت عن الكرسي الذي كنت اجلس عليه، وقتلته بكعب حذاء، وانا ارتجف من الخوف ...

وربما ان سبب الارتجاف كان جزئيا من وحي ما كان يتداول في القصص الشعبية، وهي انها أي العقارب والافاعي، كائنات حقودة، تنتقم لبعضها البعض، وتأخذ بالثأر على طريقة البشر ربما، فان انت قتلت احدها... لا بد ان يأتي اخر من جنسها على نفس المكان لينتقم من القاتل....

وقد لا تصدقون هذه الحكاية لكنني استطيع ان اجزم لكم من خلال التجربة بأن كل كائن حي يمتلك اجهزة استشعار واجهزة بث... وربما انها تتواصل فيما بينها...ولبعضها قدرات هائلة، ومذهلة وقد تتقاطع اجهزة البث والارسال لدى البشر مع بعض اجهزة هذه الكائنات وتتواصل معها ولو بصورة غير محكية...

فهل تعلمون مثلا ان للحية قدرة على شل النطق عند الانسان...نعم حينما يتفاجأ الانسان بالحية ينعقد لسانه، ولا يستطيع طلب المساعدة، بالصوت وقد تنشل حركته، وفي ذلك ما يشير الى ان الافعى قادرة على شل حركة ضحيتها المفترضة... ربما كآلية للدفاع عن النفس او للسيطرة على الموقف وتسهيل عملية الانقضاض على العدو المفترض...الانسان الضحية مع احتمال ان يكون السبب الخوف الذي يشعر به الانسان فهو كافي بذاته لشل حركة الانسان وافقاده النطق طبعا...

كما ان الانسان يستطيع ان يشل حركة الحية اي الافعى، بحركة بسيطة كنا قد تعلمناها من التراث الشعبي، وذلك اذا كان صلبا قويا ولم تتمكن الحية من شل حركته في تأثير استباقي... وهي ان يقوم بلف خصلة من شعره فتتجمد الحية في مكانها...وكثيرا ما كان الناس يؤكدون نجاح مثل هذه الحركة في شل حركة الحية لحين احضار عصا او اي وسيلة اخرى لقتلها...

وهل تصدقون اننا كنا نملك بقرة كنا نسميها "العسلة" نسبة الي العسل...وكانت تلك البقرة بالفعل حيوان وديع، اليفة في طباعها، جميلة في شكلها، وبهية بألوانها الابيض والاسود...لم تؤذ احد ابدا فقد كانت ودودة اليفة، وكريمة في عطائها ..وبذلك استحقت اسمها العسلة بجدارة... رغم اننا كنا نقترب منها، واحيانا نركبها، وربما نسيء معاملتها في محاولة لاستفزازها، وذلك بشد ذيلها وما الي ذلك من حركات...وكانت تؤدي عملا شاقا وهي حراثة الارض هي ورفيقتها وهي الطريقة التي كان يفضلها والدي لحراثة الارض... ولكنها كانت تحتمل وتصبر ولم تتصرف ابدا بقسوة او غضب تجاه احد...وعلى عكس البقرة الاخرى التي لم نعطها اسما... واكتفينا بمناداتها بالبقرة الحمراء نسبة الى لونها...رغم انها كانت جميلة بالوانها الاحمر... والابيض لكنها كانت شرسة، عنيدة، ولم نكن نجرؤ على الاقتراب منها...

الشاهد ان تلك البقرة العسلة كانت تفعل امرا غريبا عجيبا فقد كانت حينما تمر من ساحة في وسط البلد، تسمى ساحة النبي يوشع، وعندما تصل الى مكان كان لحام يذبح فيه بعض الابقار... كانت هذه البقرة الوديعة العسلة في تصرفاتها تمد رجليها الي الامام، وكأنها تنبطح على الارض في حركة عجيبة غريبة وتبدأ بإصدار اصوات عالية مزلزلة وكأنها اصوات بكاء حاد مرير ان لم يكن صراخ مفعم بالالم والحسرة...وهو تصرف ليس له تفسير في نظري الا انها كانت تبكي قريناتها من الابقار التي ذبحت في ذلك الموقع في ايام مضت لم تكن شاهدة على ذبحها ولم يعد للذبح اثرا على الارض...فهل هناك شك بان للكائنات الكثير مما لا نعتقد بوجوده؟؟!! وكثيرا ما نتعامل معها وكأنها من دون احساس...

وظني ان فلاحا هنديا كان قد شاهد في غابر الزمان بقرة تقوم بما قامت به هذه البقرة العسله، وربما اشياء اخرى أكثر ادهاشا، وعجبا، حركت وجدانه، وزلزلت كيانه، فقال على طريقته، إني سقيم، وخر لها ساجدا ...وظل يقدسها... ويستشفي ببولها من بين أشياء أخرى ما انزل الله بها من سلطان!!! وربما يَقتُل ويُقتل ببساطه من اجلها!!! وتبعه في ذلك أناس كثر دون حتى ان يناقشوا او يسألوا عن السبب...

والصحيح انني اعجب اشد العجب لتوقف عقول الناس عند حد معين من الاستيعاب...وكيف ينحدرون الي هذا المستوى من التفكير...ثم يستكينون...والمشكلة انهم يغلقون الابواب؟ افلم ينظر هذا الانسان وقبيله مثلا الي ما يمكن للحصان ان يقوم به... وقد وجد العلماء حديثا انه خبير في معرفة ما يدور في النفوس؟...ثم الم ينظر هذا الانسان وقبيله الي الجمل وتكوينه وقدرته العجيبة على التحمل؟ هذه التحفة الكونية التي استحقت بجدارة اسمها...حين اسموها سفينة الصحراء...ثم لماذا لم يسجدوا لنحلة العسل اذا كان الاستشفاء سببا كافيا للتسليم بقداسة الأشياء؟...اليست نحلة العسل أولى بالتقديس اذا وهي صاحبة الرحيق الانجع في شفاء البشر؟

نعود لنكمل حكاية ذلك العقرب المرعب والذي اقلق راحتي...زيادة على ما كان بي من هم وغم ...ولا اظن انني نمت تلك الليلة ليس فقط بسبب ما كان يمكن ان اتعرض له في أي لحظة من جنود الاحتلال، وتلك قصة أخرى كما قلت سأرويها لكم بتفصيل لاحقا... ولكن من خوفي الشديد بان اتعرض للانتقام من عقرب اخر بعد فعلتي التي فعلت...

والصحيح انني لا اجد تفسير لما جرى ولذلك الإحساس الذي ربما انقذني من الموت او لنقل على الاقل من لدغة موجعة والم مبرح ... سوى احتمال وجود موجات لا سلكية يبثها العقرب...ربما لغايات التواصل مع اناث محتملة وبغرض التزاوج...فلتقطها جاهزي العصبي عرضا لأتنبه لوجوده...والارجح انه كان في مهمة بحث عن انثى فقد كان يبدو شرسا متيقظا، مثل الكثير من الكائنات الحية التي تزداد شراسة ويقظة اذا ما ارتفعت نسبة الهرمونات الجنسية لديها استعداد للتزاوج...

اما التفسير الاخر لما حصل فهو ان الانسان الذي يعيش في مثل تلك البيئة الخطرة والمخيفة، ويكون عليه مواجهة مثل ذلك الخطر الداهم، من زواحف قاتلة وغيرها من الكثير من المخاطر، في كل يوم، وكل ساعة، وكل لحظة، في خارج المنزل، وداخله، في الليل والنهار، في سقف المنزل وفي ارضيته، وهو نائم او وهو مستيقظ، انما يطور مع الزمن نظام دفاعي يتقوى فيه احساسه بالخطر الى ابعد حد...وبحيث يصبح جهازه العصبي جاهزا وقادرا على الإحساس بالخطر مجرد اقترابه منه...وهي ملكة مثلها مثل ملكة الفراسة التي نجدها عند أبناء الصحراء مثلا، والتي لا بد ان للبيئة دورا حاسما في تطويرها...وهي تختفي تدريجيا اذا زالت الحاجة لها...



يتبع ..سنوات الطفولة المبكرة:::

ايوب صابر 02-04-2016 02:16 PM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

والحمد لله انه كان لدينا في ذلك الزمن حيوانات اليفه اسمها القطط...فلولا القطط لربما انتصرت الافاعي والعقارب في حربها الوجودية علينا نحن البشر...ولولاها لاحتلت الافاعي والعقارب ارضنا وبيوتنا في الريف الفلسطيني وطردتنا منها معلنة انتصارها الكاسح والمدوي على هذه الشريحة من بني الانسان ....

واذكر ان والدي كان حريصا على تربية القطط تحديدا، ولو انه كان يربي الكلاب أيضا على نطاق محدود...والكلاب كانت تقتنى بهدف الحراسة والتحذير من المخاطر خاصة في ساعات الليل المعتمة...او للحماية من الحيوانات المفترسة في الأراضي البعيدة عن القرية، وكانت تعيش في بيوتها الخاصة، او تربط بأحكام في زاوية من زوايا الساحة الأمامية للمنزل ...اما القطط فهي شريك دائم لنا على موائد الطعام ويسمح لها بالوصول الي اي نقطة تشاء، وكانت كثيرا ما تشاركنا الفراش اثناء النوم...

وكأن والدي كان يدرب تلك القطط على القتل لتزداد شراسة على شراستها الوراثية الطبيعية...طبعا ونحن هنا نتحدث عن قتل الافاعي والعقارب تحديدا، وكان ذلك التدريب يتم من خلال القاء حبل امامها يجره المدرب فيتلوى الحبل مثل الافعى فينقض القط عليه... ويظل هذا التدريب يتكرر حتى يصبح القط جاهزا للقتال...وربما ان القطط لا تحتاج الي التدريب فهي تقتل بدافع غريزي....

وكان والدي يختار من القطط الأصناف الذكية الشرسة التي تستطيع ممارسة القتل لهذه الزواحف الغازية دون هوادة وبمهارة عالية، وكان يتخلى عن الضعيفة او المسالمة منها او يتجنب اقتناءها اصلا، وهي الجبانة المسالمة والتي لا تتقن القتل...وهذه الحيوانات رغم انها اليفة تقوم بعمل استثنائي بهذا الخصوص، وتنفذ المهمات بإتقان شديد، ومهنية فائقة...وهي تسهر الليالي لحماية اهل البيت بينما هم كما يقال غارقين في اودية من النوم العميق...ولطالما كنا نصحوا من النوم فنجد ان القط قد قتل عقربا او افعى من مكان قريب...

وهي، أي القطط، اول من يشعر باقتراب الخطر، او وجوده...وهي اكثر ما تكون يقظة والناس نيام...وكأنها الاقدر على التقاط البث اللاسلكي من تلك الكائنات...او سماع حركتها ولو كانت خفيفة، وربما تلعب حاسة الشم دورا في ذلك، حيث يقفز القط متحفزا باتجاه الخطر الداهم بمجرد اقترابه...ويحدق بعينيه اللامعة بألوانها السحرية المتعددة لتحديد طبيعته ومكانه وحجمه...ويبدو وكأنه يرسم استراتيجية للقتال ويضع خطة للهجوم...فقتل افعى سامة او عقرب بنفس الخطورة ليس امرا هينا او لعبة يمكن له ان يتسلى بها، بل يأخذها القط على محمل الجد...والامر يتطلب حتما استراتيجية وتكتيك وخطة هجوم محكمة...والا خسر المعركة واصبح هو الضحية بدلا من ان يكون الصياد...

وما ان يشاهد القط الافعى مثلا حتى يجلس على مؤخرته ويضع يده على الجزء الامامي من رأسه يحمي بها انفه وفمه، وكأنها نقاط ضعف لديه إذا تمكن الافعى منها... فتحول القط من فارس الي ضحية ومن قاتل الي مقتول...ويبدأ القط من فوره بحصار المعتدي ويحاول شل حركته...يهاجم أحيانا، وأحيانا أخرى يجلس على مؤخرته...لكنه يظل يقظا، مستعدا، مستنفرا، متحفزا، منتظرا الفرصة المناسبة بصبر وحنكة لينقض على فريسته بشكل نهائي وبضربة قاضية...ويظل على تلك الحالة حتى ينهكه، وغالبا ما تنتصر القطط في حربها على تلك الكائنات السامة القاتلة...وحينما تنتصر تأخذ الجثة غنيمة وتجعلها وليمة دسمة لها...

ولطالما عجبت وما أزال أعجب من قدرة هذه الحيوانات الاليفة في طباعها، والجميلة في منظرها وألوانها السحرية، والضعيفة في بنيتها، على قتل تلك الكائنات السامة...والعجيب انها تستطيع عمل ذلك رغم انها لا تمتلك سلاحا سوى مخالب يديها في مقابل تلك السموم الفتاكة وادواتها المميتة...فهي حتما حرب غير متكافئة...لكنها لطالما حسمت لصالح القطط...

والقطط شجاعة ومقدامة ترمي بنفسها دون تردد في احضان الخطر، تقاتل بذكاء وصمت مطبق ولا تتراجع عن مهمتها ولو أدى ذلك الي موتها... فهي اشبه بالقوات الخاصة، تضحي بنفسها اذا لزم الامر لدرء الخطر ....بينما الكلاب ظاهرة صوتية وتكتفي بلعب دور حراس الأمن في معظم الاوقات ويرتفع عواءها كاداة تحذير، رغم ان وفائها و ولاءها يدفعها احيانا لتقاتل بشراسة مميتة خاصة اذا جاء الخطر من حيوانات مفترسة وأخطرها في فلسطين في تلك السنين كان الضبع، وهذا الكائن يمارس طقوس عجيبة غريبة قبل ان يقتل فريسته....وكان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مصدرا رئيسيا للخوف والرعب خاصة في ساعات الليل وفي البراري الفلسطينية...اما هذه الايام فالبر الفلسطيني يعج بالخنازير البرية المتوحشة وهي لم تات الي برنا الفلسطيني لوحدها، وانما كان ذلك بفعل فاعل وقد جاء بها الجراد على راي الدكتور عبد اللطيف عقل، وهي احد ادوات اسقاط الارض، وحرمان اهلها من الوصول اليها، وهي خطة جهنمية خبيثة اظنها تنجح الي حد بعيد...حيث صار الوصول الي اي مكان خارج حدود المدن والقرى مغامرة، ليس ذلك فقط وانما اصبحت هذه الحيوانات الكريهة احد اسباب حوادث الطرق المرعبة ...

والضبع كان موجودا في الريف الفلسطيني في تلك الايام حتما، فقد كان والدي يمارس طقوس تسمى ( اللجام) لحماية الحيوانات الأليفة اذا ما فقدت، او تركت في البر لغايات الرعي، وتتمثل تلك الطقوس في قراءة بعض السور القرانية القصيرة وأظنها الفاتحة، والإخلاص، والمعوذتين، وبداية سورة التكوير الي الآية الخامسة والتي تنتهي ب ( واذا الوحوش حشرت ) وكان اثناء القراءة يثني موسا ليقفله تماماً مع انتهاء القراءة، والصحيح انني كنت اعجب من قدرة تلك الطقوس على حماية الحيوانات من الوحوش وأتوقع نهاية مأساوية لها ، ولكن في كل مرة كانت تعود تلك الحيوانات سالمة غانمة، وكأن تلك القراءة تلفها بسور حماية من نور، شرط ان لا يفتح الموس طوال مدة غياب الحيوان ...فلا تقترب الوحوش منها أبدا ولو انهم كانوا يجدون اثر تلك الوحوش وما يشير الي وجودها في المكان، اما الحيوانات التي لم تكن تحظى بتلك الطقوس فكانت تتعرض ولو احيانا الي مخاطر قاتله، ويعثر عليها في اليوم التالي وقد بقرت بطونها ...

والحمد لله انني لم أصادف ذلك الحيوان المفترس، الضبع، أبدا، رغم انني كثيرا ما كنت اخرج وحيدا الي البراري راعيا للبقر....ورغم انني لا اذكر متى بدات مثل تلك المهمة في طفولتي لكنها استمرت بشكل متقطع حتى انهيت دراستي الثانوية...

وقد اوقعني رعي البقر في احد الايام وانا ما ازال فتيا غضا، لم اتجاوز حينها الرابعة او الخامسة عشر من العمر في مطب رهيب ، تسبب لي في واحدة من اعنف الزلازل التي اختبرتها في حياتي، والتي زادت قوتها على اكثر من عشر درجات مئوية على مقياس رختير، وكما هي العادة يقف وراء ذلك الزلزال الاحتلال وسوف افرد لتلك القصة فصلا منفصلا واسردها لكم بتفصيل حينما افتح صفحات ذاكرتي التي تغطي سن الشباب والمراهقة ...

ورغم خدماتها الجليلة كانت الكلاب تمثل بالنسبة لي وحتما للكثيرين مثلي مصدر للرعب احيانا، وذلك عندما يتبدل عواءها التحذيري الي نواح اقرب الي البكاء، وغالبا ما كان ذلك يحدث في ساعات الليل، وذلك النواح في التراث الشعبي يعني الموت ...

ويقال ان الكلاب تشعر بوصول ملائكة الموت وربما تراها اذا ما هبطت لقبض روح احدهم وكأن لها جهاز رؤيا فوق طبيعي ... او ربما ان جهازها العصبي يلتقط مثل تلك الاشارات ...وفي كل مرة كانت الكلاب تنوح او نسمع نعيق طائر البوم نذير الشؤم، كان الجميع يتوجسون، ويستنفرون، وينتظرون في رعب ليعرفوا من الذي جاء الموت لقبض روحه ...وفي احيان كثيرة كان ذلك يحدث فعلا، ولو ان البعض كان يموت ربما من الخوف حينما تعلن الكلاب وصول ملائكة الموت كما يظن الناس في التراث الشعبي...

اما أنا فكنت ارتعد خوفا بحق من هذه الأصوات المرعبة، وقد كان نواح الكلب ونعيق البوم بالنسبة لي واحدة من أسوء مصادر القلق والخوف في طفولتي يخيفني ويقض مضجعي...وما يزال حتى هذه اللحظة، وكانه صار لدي ارتباط شرطي بين هذه الأصوات المشئومة وبين الموت، وعلى طريقة كلب بافلوف، الذي كان يطعم الكلب ويدق الجرس وبعد فترة صار يدق الجرس فيسيل لعاب الكلب...

وعلى الرغم انني اسكن في المدينة الان وفي شقة عالية من عمارة سكنية وتحديدا في الطابق الخامس، وهو اختيار مدروس بهدف الحصول على موانع طبيعية تمنع وصول العقارب والأفاعي، رغم انها قليلة العدد هنا في المدينة ...لا اجد سببا في نواح كلب بالجوار او نعيق بوم يأتي من البر الي سطوح مجاور الا انه نذير شؤم واخبار باقتراب ملك الموت ... وحين اسمعه فعلا وصدفة أسارع في اليوم التالي لاتفقد سكان العمارة والعمارات المجاورة ابحث عن الذي فاضت روحه واظل متوجسا خائفا لأيام تالية واضعا في اعتباري كل الاحتمالات ...


يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

هند طاهر 02-07-2016 01:45 PM

تتشابه حياة القرى للفلسطيني بالذات ...

فما كنت تخافه كنت اخشاه ولا زلت رغم -- اننا وكما ذكرت نعيش في بيئه افضل بكثير ..

متابعه لك استاذ .. وربي يعطيك الصحه والعافيه ..

ايوب صابر 02-08-2016 12:07 PM

استاذة هند
مرورك اسعدني وبصمتك زادت المشاهدات بنسبة 100% واكثر...فلا تحرميني من تواجدك الدائم لان في التغذية الراجعة قوة دفع هائلة تمكن الكاتب من الاستمرار...

وارجو ان يكون للموضوع ويظل له قيمة تستحق المتابعة.

ايوب صابر 02-08-2016 12:10 PM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

تلك بعض مصادر الألم المرعب الذي كنا نحاول تجنبها بكل ما اوتينا من قوة، وعقل، وتدبير، وأدوات... ونمارس من اجل ذلك عدة أساليب، وطقوس... توارثها الأبناء عن الإباء، والاباء عن الأجداد وهكذا...وكان ينبغي ان تنفذ بحذافيرها حتى لا يقع الخلل وينفذ الشر...وتقع المصائب... وعلى رأسها الافاعي والعقارب...

حتى ان والدي كان يوظف جيوشا من المرتزقة للمساعدة في تحجيم تلك المخاطر...فرقة للحراسة ودفع المخاطر البرية من الحيوانات المفترسة، والناس غير المرغوب فيهم، وافرادها من الكلاب...وفرقة أخرى من القطط، وكانت تلعب دورا أكثر أهمية وخطورة...وهي فدائية، ومدربة بشكل جيد، وتكلف بالحماية المنزلية على مدار الساعة...وتقوم بمهمات خطرة مميتة أحيانا، وتتلقى مقابل ذلك حظوة كبيرة بالإضافة الى الطعام والشراب والمأوى...بل وكانت تعامل وكأنها جزء أساسي من الاسرة وفرد من افرادها...كيف لا وكانت تلك الحيوانات الجميلة الاليفة تبعد عنا خطر الموت وتمنحنا الحياة والراحة الجسدية والنفسية؟؟؟

لكن صدقوني كان هناك الم كنا نحبه ولا نخشاه، ولا نبذل جهدا كبيرا لتجنبه على الاقل...وقد نفرح في سريرتنا إذا اصابنا عرضا، ولكننا لم نكن لنتعمده حتما...وأحيانا كان بعض الناس يسعى له بأرجلهم وايديهم...انه الم لسعة النحلة، نعم، وهو في كل الأحوال اقل الما بكثير من لدغة الأفعى، وقرصة العقرب، ولا يشكل خطرا على الأغلبية، اذا ظل ضمن حدود معقولة من حيث عدد اللسعات وكمية السم...

وربما من هنا جاءت التسمية المخففة، مقابل تلك الثقيلة (لسعة النحلة)، فقد كان الناس يعتقدون في الميراث الشعبي ان لسعات النحل علاج، وتقوي جهاز المناعة...كونها من حشرة مباركة تأتي بالعسل الذي فيه شفاء للناس، وهي علاج من كل الامراض ما عدا الموت كما كان يعتقد والدي...

وحيث ان والدي كان يربي النحل في الأرض المجاورة للبيت...وكان عدد خلايا النحل يصل أحيانا الى 400 خلية او 500 خلية...ولو افترضنا ان كل خليه كانت تحتوي على مليون نحلة فقط... فذلك يعني ان 500 مليون نحلة تقريبا كانت تسكن على مسافة تقل عن 10 أمتار من ألاماكن التي كنا نتواجد فيها باستمرار...وهو ما كان يفتح المجال لعدد هائل من اللسعات خاصة في مواسم قطف العسل، حيث تثور الخلايا وتهيج النحلات، وتهاجم كل من هب، ودب في محيط المكان...وكان أشرس هذه النحلات ما يسمى بالنحل الحراثي، وهو صنف من النحل البلدي...وعلى الرغم انه صغير الحجم، لكنه يهاجم أي مصدر تهديد بشراسة عنيفة، وبمجموعات كبيرة، ولو استفرد بشخص، وتمكن من بث السم في جسده لوضع في لحظات كمية من السموم قادرة على قتله...

وكثيرا ما كنت في طفولتي المبكرة اتعرض للسعات النحل...خاصة انني ربما لم أكن اتقن أساليب الدفاع عن نفسي مثل الاختفاء بين اغصان الأشجار، او التسمر في المكان دون أي حركة، او حتى نفس يخرج من الشدقين ويدلل على وجود أثر للحياة...وكي تظن النحلة انها بصدد تمثال حجري او جسد ميت فتطير بعيدا...رغم ان تلك الحيلة لم تكن لتنطلي على النحلات من ذلك الصنف كثيرا، ربما لأنها كانت تستشعر الخوف الدفين حينما ترتفع نسبة افرازات الادرنالين...

اما أفضل أسلوب لتجنب لسعة النحلة فقد كان دائما الهرب وبسرعة فائقة تسابق ذلك المخلوق الطائر...الذي يهاجم عدوه ويدافع عن مملكته بتفان وإصرار عجيب، وبفدائية نادرة، حتى انه يموت فور استخدمه لسلاحه الدفاعي والذي ستخدم لمرة واحدة...فما ان تلسع النحلة ضحيتها حتى ينفصل جهازها الدفاعي، ونسميها في اللغة الشعبية (الزبانة)، عن جسدها ليبقى للحظات إضافية يبث السم في جسد الضحية...وهو السم الذي كان الناس وما يزالون يظنونه بلسم...

وقد تبين هذه الأيام ان لسعات النحل قد تشكل خطورة كبيرة على البعض، وقد تؤدي الي الموت ايضا، وهم أولئك الذين لديهم حساسية من سم النحلة او بلسمها، فلا تمر بعض دقائق على لسعة النحلة، عند هؤلاء حتى تتورم اجسادهم وما يلبث الواحد منهم ان يختنق...ويمكن ان يفارق الحياة إذا لم يحصل على الإسعاف الطبي الفوري...

ولا اذكر ان أحدا مات في طفولتي من هذه الحساسية...لكن وللعجب اظنها منتشرة بكثرة هذه الأيام، مثلها مثل عدد اخر من الامراض التي لم تكن معروفة، ولا اعرف السبب حقا...لكن تصوروا معي حجم المخاطرة التي كنا نعيشها في ظل هذه المعلومات الجديدة عن الحساسية من لسعة النحلة، والتي كان يمكن ان تؤدي بحياة الملسوع دون امل في النجاة لغياب العناية الطبية وشحها في تلك الاوقات...



يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

ايوب صابر 02-09-2016 03:08 PM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


اما الميدان الاخر، والذي كنت اتعرض فيه للسعات النحل، فهو المنطقة الواقعة امام الخلايا مباشرة، وكنا نتواجد فيها بكثرة اثناء الحرب الشرسة التي كان والدي يكلفنا بها، نحن الأبناء وأحيانا كثيرة جيش من أبناء الجيران، وهي حرب للدفاع عن النحل نفسه، وكانت تجري غالبا في الميدان امام خلايا النحل وبجوارها وفي المحيط المباشر لبيوت النحل، او في أي مكان يمكن ان نعثر فيه على عدو النحل الأول (الدبابير)، الاشرس، والاشد فتكا من بين أعداء النحل الكثر...

نعم، الدبايير وما أدراك ما الدبابير...فهي كائنات تشبه النحلات في شكلها، لكنها ليست كالنحلات في نفعها ولا اظن ان لها دور سوى قتل النحل... فهي حشرات متوحشة وقاتلة ويكفي ان طعامها الأساسي هو أجساد نحلات العسل، إذا ما توفرت ولا اظنها تأكل شيئا اخر...وهي تفوق في حجمها حجم النحلة، ربما بثلاثة او أربعة او خمسة اضعاف...

وهي جميلة بألوانها الأحمر الغامق الذي يلون رأسها والجزء الامامي من جسدها، والاصفر الفاقع ويلون بطنها والجزء الخلفي من جسدها، والأسود والذي يلتف على الجزء الخلفي من جسدها كأشرطة او خطوط دائرية رفيعة، كما يلون الأسود فكيها الفتاكة وقرون الاستشعار... فتجعلها تلك الألوان مجتمعة كائن غاية في الجمال لكن ذلك لا يقلل من قدرتها على الفتك والقتل...وهي كائنات شرسة في طبعها وسلوكها، مسلطة على النحل كواحدة من أشرس اعداءه...

واعداء النحل كثر، وامراضه ايضا، وهي تعادل في عددها او ربما تفوق ما يصيب الانسان من امراض...فالنحل يصاب من بين امراض كثيرة بالزكام، والرشح، والكساح، والحضنة الأوروبية، والحضنة الامريكية، وهذه اشد فتكا من الأوروبية...وإذا ما وقعت العدوى بالحضنة الامريكية في منحل صار من الواجب حرق المنحل كاملا عن بكرة ابيه، ودفن المخلفات تحت التراب والبدء من جديد من نقطة الصفر...

ومن اعداءها طائر جميل في الوانه المزركشة وهو طائر السنونو، والذي يصطادها من الجو وهي ذاهبة او عائدة من مراعيها...

ومن اعدائها الحرذون وهو من الزواحف، والافعي، ودودة الفاروة، وهذه بحجم القملة لكنها تسير بشكل منحرف، وعلى جنب، وهو الامر الذي دفع الناس للاعتقاد بأنها مصنوعة في المختبر، ومطورة جينيا بفعل فاعل، خصيصا لتؤدي مهمة قتل النحل في المنطقة بأسرها، وهي اذا ما هاجمت منحل لا تحتاج الا الي ليلة واحدة لتقتل كل ما فيه من النحل مهما كان عدده...وقد تعرض والدي بسبب تلك الافة اللعينة لخسارة لا تعوض في احد السنين...حيث تعرض منحله في العام 1982 لهجوم كاسح من هذه الدودة المشوهة، والقاتلة، المميتة، وكان المنحل يحتوي وقت الهجوم على 400 خليه...أي حوالي 400 مليون نحلة تقريبا...وما هي الا ليلة وضحاها حتى مات النحل كله بل لنقل قتل كله بصورة بشعة، ولم يبق في الخلايا الا باقيا الجثث ضحايا الإبادة الجماعية، واقراس شمع العسل الخالية من أي نبض حياة...وان بقي فيها رحيق العسل شاهدا على ما جرى ...وكأنه يقول كان هنا نحل...

ومن أعداء النحلة ايضا العنكبوت الأبيض الذي يتربص بها في قلب وردة نبتة الفاقوع البيضاء، وكأنه جزء من الزهرة، لكنه يكون في وضيعة استعداد وسكون مطبق كسكون اهل الكهف، مستلقيا فيها على ظهره، كامنا لتلك النحلات المسكينة الساعية الي الرحيق...وبمجرد ان تحط النحلة لشفط الرحيق على زهرة الفاقوع الكمين يتلقفها ذلك المخلوق بين مخالبه، ويمسك بها بعنف، وما يلبث ان يلتهمها بشراسة...

لكن الدبور يظل العدو التاريخي ورقم واحد للنحل...فهو مدرع، وشرس، ومحمول جوا... ويتكاثر بأعداد هائلة تعادل او تفوق اعداد النحل...ولا يتوانى عن مهاجمة النحل في كل وقت وكل مكان فيمسك بالنحلة ويفترسها ويتغذى على جسدها...

ولذلك كنا نحاول، في تلك الحرب التي تظل دائرة ما دامت الدبابير قد خرجت من جحورها الي حين اختفائها المؤقت خلال أشهر البيات الشتوي، كنا نحاول فيها قتل أكبر عدد من الدبابير التي تهاجم خلايا العسل، وكنا نقتلها باستخدام لوح خشبي عريض ينتهي بمقبض رفيع، حتى يتمكن المدافع عن النحل الإمساك به، وضرب كل دبور يطير امامه بهدف قتله...

وكنا نتابعها وهي تترصد وتلاحق النحلات في الموقع امام الخلايا او خلفها او عند حوض الماء الذي تشرب منه النحلات، او على اغصان الأشجار، والازهار، ونحاول اقتناصها بضربها باللوح الخشبي... وكانت تلك المهمة أسهل وتتكلل بنجاح أكبر إذا ما كان الدبور المعتدي يطير بتثاقل حين يكون قد اصطاد فريسته النحلة المسكينة...وكنا كثيرا ما نتبع الضربة الاولى الصاعقة والتي تسقط الدبور على الارض، نتبعها بخبطة من القدم نسحق فيها رأسه لكي نحرمه من اي امل في النجاة والعودة لممارسة القتل...وهو اجراء مشابه لما كنا نقوم به حينما يقتل احدهم أفعى...حيث يتردد في الحكايات الشعبية اسطورة مخيفة وهي ان الأفعى لا تموت الا اذا ما سحق راسها...وأنها تعود لتنموا من جديد اذا تم تجاهل هذه الوصية، وحتى وان لم تنموا فهي تصبح اشد فتكا، واكثر حذرا وسمية ...وتسمى في تلك الحكايات حية زعرة في إشارة الي قصر حجمها، وحقدها المكتسب، وقدرتها الإضافية على القتل والاختفاء والهرب ...

وأحيانا كثيرة كانت تلك الحشرات المفترسة تهاجم فتحات الخلية مباشرة...وصحيح ان النحلات المكلفة بالحراسة والدفاع عن الخلية كانت تستميت في دفاعها، وتبذل اقصى جهدها في سبيل منع الدبور المهاجم من الوصول الى الخلية وتراها تقاتل بجهد جماعي، لكن الدبور الأقوى والاضخم كان ينجح في معظم الاوقات في الإمساك بأحدها...وغالبا ما كان يمسكها من رأسها ليطير بها وهو يحملها في فكيه، او رجليه، ثم يحط بها على غصن شجرة قريب، ويبدأ بتقطيع اوصالها مستخدما فكيه القوية...وما يلبث ان يلتهمها بشراسة وعنف...وما ان ينتهي حتى يطير من جديد ويبدأ البحث عن ضحية أخرى... وتلك الحرب عدوانية تشنها الدبابير على نحلات العسل منذ بدء التاريخ...ولا اظن انها ستنتهي الا بانقراض احدى الطرفين...

اما مهمتنا فقد كانت حرب شبه مقدسة بالنسبة لوالدي ولنا...لأننا كنا ندافع فيها عن كائن مقدس والشاهد على ذلك، ان سورة كاملة من سور القران الكريم خصصت له...وهذا الكائن مصدر خير ورزق لنا وللناس كافة...وبرحيقه كنا نتعذى ونتعالج من شتى الامراض...ولكن ذلك ليس كل شيء فكل ما يرتبط بالنحل او ينتجه النحل مفيد وفيه نفع وشفاء من نوع ماء للإنسان...

ففي غياب الحلويات المعروفة اليوم او لنقل ندرتها في تلك الأيام كان (الخبيصة) وهي حلويات مصنوعة من شراب العسل المحلول بالماء، والذي يغلى على نار هادئة، ثم يضاف اليه النشا...فنحصل في النهاية على طعام وحلويات لذيذة ومفيدة كانت واحدة من منتجات العسل...واظنها من الذ الحلويات وأكثرها فائدة، واقلها ضررا على الاسنان وصحة الانسان، والتي كنا نتناولها غالبا في موسم قطاف العسل...

كذلك كان والدي يصنع من شمع النحل كريمات يعالج الجروح واصابات الجسم كافة...
وأحيانا كان يخصص نوع صافي من العسل، وهو الشهد الأبيض، لعلاج امراض العيون، حيث كان يقطف هذا العسل بأسلوب خاص وبدون الطقوس المعهودة والتي يستخدم فهيا عادة الدخان لإبعاد النحل عن قرص العسل، ليقوم عند العلاج على غرس المرود، وهي عصا المكحلة الخشبية المعروفة، في ذلك العسل الصافي، ويضع القليل منه في العين المريضة فتشفى بأذن الله...

فالعسل المصفى الخالي من الرطوبة والسكر الأبيض والشوائب، والمتناسق في مكوناته الأساسية، والمأخوذ من اقراص العسل المختومة تحديدا والذي لا يختلط بالماء يعتبر أفضل مضاد حيوي عرفته الإنسانية على مدى التاريخ...

حتى ان الصمغ الذي يقفل النحل فيه الفتحات من بين استخدامات أخرى كثيرة...تبين الان ان له استخدامات علاجية وطبية عديدة وعجيبة...فهو مثلا قادر على إزالة الزيادات اللحمية (التواليل) التي تظهر على الجسد من جذورها فلا تعود مرة أخرى إذا ما عولجت به بصورة سليمة...واظن ان الناس لم تدرك حتى الان قيمة هذه المادية واسمها العلمي (البروبولس) ودليل ذلك ان مملكة النحل تقوم إذا ما دخل جسم غريب او كائن عضوي الي داخل الخلية، تقوم على تغليف ذلك الجسم العضوي بهذه المادة فلا يفسد ذلك الجسم ابدا ما دامت الخلية موجودة...وكأن النحل خبير في عمليات التحنيط...

اما الغذاء الملكي، فحدث ولا حرج، ففي هذا المنتج الاعجازي عجائب وفوائد جمة ومذهلة... فقد اكتشف العلماء حديثا بأن هذا المكون يشتمل على 183 نوع فيتامين...وحتى الان هناك نسبة من تركيبته الكلية تعادل 3% غير معروفة في طبيعتها، ولم يتم اكتشاف تركيبتها بعد...وهو يعالج الضعف الجنسي والعقم والامراض المتعلقة بجهاز المناعة، لكن الأهم من ذلك كله، ويعتقد بعض النحالين ان الغذاء الملكي يطيل العمر...لان ملكة النحل التي لا تتغذى طوال حياتها الا على الغذاء الملكي والذي تنتجه غدد صماء في رأس النحلة الشغالة...تعيش لمدة لا تقل عن عشرة أعوام، تحكم فيها وتدير شؤون الخلية وتنجب ملايين النحلات...بينما عمر النحلة الشغالة والتي تتغذى على رحيق العسل لا يتجاوز الخمسون يوما...وهي ان حان موعدها وانتهى عمرها المحدود تموت ولو كانت في منتصف مهمة لجني العسل...

ولا ننسى بأن سم النحلة هو علاج لأمراض الروماتزم...ولذلك كان بعض الذين يعانون من ذلك المرض يأتون الينا ليأخذوا معهم عدد من النحلات...كان والدي يضعها لهم في زجاجة فيجعل المريض تلك النحلات تلسعه على مدار جلسات في عدة ايام...وربما من هنا اكتسب سم النحلة شهرته كبلسم...وقد أعلن العلماء في استراليا حديثا بان العلاج الوحيد المتوفر حتى الان لمرض العصر الخبيث السرطان جاء من سم النحل...

ربما آلمتني النحلات في لسعاتها واتعبتني في الدفاع عنها...لكنها حتما اسعدتني بمنتجاتها العسلية، واذهلتني في كل صغيرة وكبيرة تمت لها بصلة...وزلزلت كياني بقدراتها، ونظامها، واسرارها التي يطول الحديث عنها ويطول...فهي مخلوق اعجازي، عجائبي بكل المقاييس...يذهل ويزلزل ويؤشر الي عظمة الخالق سبحانه وتعالى...

وكثيرا ما كان والدي يوسع حربه المقدسة تلك ضد عدو النحل الاول الي الميادين البعيدة والمحيطة، ولا يكتفي بمحاربتها من امام الخلايا ومنازل النحل...فقد كان يحاول شن حرب استباقية وقائية عارمة لا تبقي ولا تذر وكانه مكلف بمهمة الهية...

ولذلك كان يحارب الدبابير أعداء النحل في كل مكان يمكن الوصول اليه، وعلى كل الأصعدة حتى انه كان يلاحقها في جحورها في البراري البعيدة والقصية... وكان يوظف لهذه الغاية جيشا من المتحمسين ومحبي المخاطرة والمغامرة للقيام بالمهمة... وكان يمنح كل من يقتل خلية دبابير بالحرق او بالسم كمية من محددة من العسل، وكان يمنح نصف تلك الكمية لمن يقوم بالأخبار فقط عن مكان وجود وكر الدبابير...ليقوم هو بمهمة ابادتها وغالبا ما كان يتم ذلك بالسم او بالحرق اثناء ساعات الليل وحينما تعود كافة الدبابير الى وكرها...فهي مثلها مثل النحلات تنتشر في النهار وتكمن في الليل الذي جعله الله سبات للإنسان وكأن هذه الكائنات تشترك مع الانسان في حاجتها الي النوم والراحة لتجدد طاقتها.. وتنطلق من جديد مع بزوغ اشعة شمس الصباح الباكر...

وأحيانا أخرى كان يعلن على الملاء ان من يأتيه براس او جثة 100 دبور فله جائزة مالية...وكان يندفع لهذه المهمة بحماس طلاب المدارس ولكنها لم تقتصر عليهم...فيقتلون الالاف المؤلفة من الدبابير طمعا بالمردود المادي...

ولقد نجح والدي ايما نجاح في حربه المقدسة تلك، واظنه كاد يقضى على عدو النحل التاريخي في منطقته الجغرافية، فقد اصحبت في عهده قليلة ونادرة...لكنني وفي زيارة خاطفة منذ أيام لما تبقى من خلايا، صار يشرف عليها اخي الثاني في الترتيب بعد وفاة والدي، وجدت الساحة امام النحلات تعج بالدبابير...وبدى لي ان عددها أكبر من عدد النحلات...واظن انها ستقضى على ما تبقى من الخلايا في ذلك الموقع زمن قصير...

المهم انني لطالما تعرضت في ذلك الميدان والذي تسكن فيه النحلات، واثناء مشاركتي شبه الدائمة والمستمرة في تلك الحرب المقدسة ضد الدبابير الى لسعات النحل، حتى انني لا اعرف عدد المرات التي تعرضت فيها الى لسع النحل، وهي حتما تتجاوز مئات المرات...وقد أصبحت لدي مع مرور الايام مناعة ضد سم النحلات والمها، فلم اعد اكترث او اهتم ان لسعتني واحدة او اثنتين...فقط جل ما أقوم هو فرك مكان اللسعة...حتى ولو كانت في مناطق حساسة مثل الانف، والعين، والاذن ...وأنسى الامر وكأنه لم يكن...


يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

ايوب صابر 02-10-2016 01:04 PM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


والمفارقة انني كنت اتعرض الى لسعات النحلات في هذا الميدان وانا أستميت في الدفاع عنها واعرض نفسي لمخاطر لسعات الدبابير، ولكني لم اتعرض ابدا الي لسعات الدبابير اثناء تلك الحرب الشرسة، والمعروف ان لسعات الدبابير أشد سمية وأعظم الما من لسعات نحلة العسل، ويقال ان بضع لسعات منها كفيلة بقتل الانسان إذا لم يتلق الملسوع العلاج اللازم بسرعة فائقة...فلقد كنت محظوظا في هذا الميدان ولم اتعرض لأي لسعة منها رغم انني كنت احاربها، واقتلها بلا رحمة، او هوادة او شفقة، وكنت اقتلها بكثرة وبأعداد هائلة في كل وقت تسنح لي الفرصة...ولا بد انني قتلت منها الالاف المؤلفة في سنوات طفولتي والي حين غادرت القرية للالتحاق بالجامعة فاستقلت من تلك المهمة الي غير رجعة...

لكن هذا الكائن الشرس في طبعه لا يهاجم الناس في الغالب الا اذ ما اقتربوا من وكره...عندها تثور ثائرة الخلية، وكأن قيامتها قامت، وتهاجم الدبابير المعتدي المفترض بعنف لا يقل عن عنف الانسان، وتستميت في الدفاع عن وكرها ومسكنها...

ولم أكن لاقترب من اوكار الدبابير ابدا من شدة خوفي منها طبعا، وتجنبا لألم لسعاتها السامة المميتة، والذي لا بد انهم قالوا لي عنها بانها لسعات سامة لا تحتمل، وربما انني كنت أيضا اتوجس من انتقامها المحتمل؟! فان كانت العقارب والافاعي تأخذ بالثأر وتنتقم لأبناء جنسها فهل يمكن ان نستثني الدبابير من هذه الاحتمالية؟

ولا بد انني كنت فخورا بإنجازي العظيم بانني تمكنت من تجنب لسعات الدبابير رغم ما فعلت بها، ومع مرور الأيام غادرت فلسطين سعيا وراء المعرفة والرزق...وسافرت في سبيل ذلك الى بلاد قريبة وأخرى بعيدة كأنها في اخر نقطة من الأرض يمكن للإنسان ان يصل اليها...وغبت عن الوطن زمنا طويلا الا لأيام معدودات كنت اعود فهيا زائرا لا مقيما...ومنذ سنوات قليلة، وبعد ان عدت مجبرا لاستقر في فلسطين، ولهذه العودة الجبرية قصة طويلة كأنها من قصص الف ليلة وليلة، وسوف ارويها لكم بتفاصيلها في حينه...

وبعد مرور ما يقرب من أربعون عاما على اخر عملية قتل مارستها بحق جنس الدبابير...كنت في أحد الأيام اقطف بعض ثمار التين من شجرة التين اللذيذ ومن الصنف الخرتماني، وبعضهم يسمونه العجلوني نسبة الى عجلون في الضفة الشرقية، والتي يبدو ان هذا الصنف من التين استقدم منها... وكانت مجاورة لمنزل اخي الأكبر، وكنت اقف على سقف ذلك المنزل امد يدي لأقطف احدى الثمرات ...فاذا بخلية دبابير كانت قد اتخذت من فتحة في طوب الجدار العازل للسقف مقرا لها...تفاجئني بوجودها...وما ان حركت الاغصان حتى استشعرت بوجودي فثارت ثائرتها، وهاجت، وماجت، وهاجمت، بشراسة الجيوش المستنفرة...حاولت بأقصى قوتي الهرب وعلى وجه السرعة...لكن احد جنود قوتها الضاربة تمكن مني فلسعني لسعة ظننت ان المها يعادل الم كل ما لسعني من نحل طوال عمري على كثرتها...سارعت يومها الي الطبيب المقيم في القرية واظنه احسن عملا حينما عاجلني بإبرة مخدرة اضافة الى ابرة العلاج طبعا...فما لبثت ان غبت عن الوجود تقريبا اتحدث ولا اعي ما أقول بفعل ذلك المخدر...وفي اليوم التالي كان الألم قد ذهب عني...لكنه جدد عزمي على ان أحاول ما دمت حيا تجنب بيوت الدبابير ولسعاتها، وكفاني الله قتلا لهذه المخلوقات ووقاني من شر والم لسعاتها...

وفي فلسطين أيضا فئة أخرى من الحشرات الطائرة ذات اللسعة المؤلمة، ولديها القدرة على اللسع السام المؤذي، واسمها المحلي (الصملة)، وهي كائن اشبه بالنحلة، لكنها بيتوتية بامتياز، أي انها تحب مجاورة الانسان، فتبني منازلها من الطين والمطااط والصمغ داخل البيوت أحيانا وعلى الجدران او في أي فتحة يمكنها العثور عليها ضمن محيط المنازل، واظنها تفضل المنازل المسكونة بالبشر، والبعض يسميها النحلة الصفراء نسبة الي لونها، لكنها أكبر في حجمها من نحلة العسل، وأصغر من الدبور، فهي في الوسط من حيث الحجم...والسلوك...لكنها مثل الدبور لا نفع ظاهر منها، ولكنها على الأقل لا تقتل نحلات العسل كما يفعل الدبور...

والصملة كائن جميل، لونها اصفر فاقع، وعليها خطوط دائرية سوداء تشبه تلك التي تزين جسد الدبور، وتسكن هذه الحشرة في خلايا اشبه بخلايا الدبابير، ولكنها تختار غالبا أماكن قريبة جدا من الناس....

وهي مثل الدبور لا تهاجم الناس الا اذا ما اقتربوا من بيوتها...او شعرت بتهديد، واظنها تتصرف بصورة غريزية حيث تطلق العنان لجهازها الدفاعي مدافعة عن نفسها اذا ما شعرت بتهديد بعيدا عن خلاياها...وفي الغالب اثناء بحثها عن الطعام الذي اجدها تستميت في جمعه ولا تتوانى عن ذلك ابدا...
لكنها مزعجة في سلوكها فغالبا ما تظل تحوم، وتحوم، تطير مبتعدة وتختفي ثم تعود لتظهر من جديد...ثم تهاجم وتنقض فجأة على الطعام وهي تفضل اللحوم... فهي مثل الدبور من اكلة اللحوم لكنها لا تهاجم نحلات العسل، وظني انها غير قادرة على ذلك، والا لسابقت الدبور على اجسادها، وافترستها كما تفعل الدبابير...

ويبدو ان للصملة قدرة هائلة على الشم فما تكاد ان تضع الطعام حتى تجدها تحوم لتسرق منه ما تستطيع حمله فينشط الانسان في محاولة لصدها وقد طور لذلك اساليب تمنعها من الوصول الي مكانه ومن اشهرها ملاء قناني شفافة بالماء يقوم على تعلقيها في محيط المكان... ولا اعرف سر عمل هذه الحيلة ومن الاساليب الاخرى هو وضع مصائد لها حيث يتم محلول سكري في قناني فتدخل الصملات وتموت وهي تحاول الخروج...ولكنها احيانا تسبب الاذى وهي تدافع عن نفسها اذا ما حاول الانسان طردها بيده فتستخدم جهازها الدفاعي (زبنتها) التي تبث سما اظنه فتاكا بنفس درجة سم الدبور او اقل درجة ...وإذا ما تراكم بكميات كبيرة في جسم الانسان...والحمد لله انني لم اختبر لسعة هذه الحشرة طوال حياتي...ويسرني ان لا اختبره ابدا...فقد كفاني ما تعرضت له من لسعات والم ...



يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

ريم بدر الدين 02-10-2016 03:17 PM

منذ أن بدأت القراءة ما توقفت أبدا.. كأن الحياة في الريف الفلسطيني في تلك الفترة الزمنية كان متشابها و قد ذكرني بما سرده علي الشاعر الفلسطيني خلد أبو خالد عند كتابتي لسيرته الذاتية منذ فترة قريبة
كثير من الفصول متشابهنة حد التطابق أحيانا
أستمتع بهذا السرد و أحصل منه على معلومات ثمينة و قيمة
متابعة للحوار الذكي الذي تديره الأستاذة ناريمان الشريف و الذي يبوح فيه الاستاذ خليل حمد( ايوب صابر) بمكنوناته و خزائن ذاكرته
تحيتي و تقديري

ايوب صابر 02-12-2016 04:33 PM

شكرًا لك استاذة ريم بدر الدين

اسعدني مرورك وتعليقك ويهمني ان اعرف بان السرد مشوق الي حد يدفع المتلقي لمتابعة القراءة فهذه نقطة في غاية الأهمية وربما تمثل حافزا لتحويل السرد هنا الي رواية من نمط السيرة
وجميل ان اعرف بان في بعض فصولها تطابق مع سيرة شاعر فلسطيني هو ابو خالد فهذا يعني انها صادقة والصدق اظنه شرط اساسي لنجاح العمل الادبي من هذا النمط
اشكرك على متابعة الحوار واتمنى اذا وجد لديك الوقت تزويدي بأي ملاحظات حول السرد وجمالياته وادواته من واقع خبرتك كروائية...عسى ان انتفع بنصائحك واظل اطور النص لحين صدوره بشكله النهائي في رواية فلقد عقدت العزم على نشر مخرجات هذا السرد اين كان مستواه ...

شكرًا جزيلا حضورك هنا اسعدني ،،، *

ايوب صابر 02-15-2016 02:33 PM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


لم، ولا تكاد تنتهي بعد تلك الاحداث شبه الأسطورية التي تسرد قصة الحشرات السامة والمخيفة في الريف الفلسطيني، فما يزال هناك كائن مرعب أخر، ولو انه اقل اذى، ومن طباعه للمفارقة ما ينفع الانسان...بل ويستبشر بوجوده ويتفاءل...لكن بعض اصنافه سام مميت بكل تأكيد...

ذلك هو العنكبوت، والذي يأتي في عدة احجام واشكال، واصناف، وحتى ألوان ...

فالعنكبوت الأبيض مفترس النحل ما هو الا واحد من بين ملايين العناكب التي تستوطن في الريف الفلسطيني، واظن بحق ان عددها يفوق عدد البشر، والحجر، والشجر مجتمعه بمرات، ومرات او هكذا يبدو عليه الامر...فلا تكاد تقلب حجرا الا وجدت اسفله عنكبوتا، او اسرة عناكب...وفي كل جحر، وزاوية، وركن، وحتى على الشجر، وفي داخل البيوت، وخارجها...بعضها صغير جدا لا يكاد يُرى بالعين المجردة، لكن بعضها يكبر حجمه ليصبح بحجم قبضة اليد... واظن ان هذا الصنف يوجد في الكهوف والمغارات في الأراضي الوعرة والجبلية البعيدة عن البيوت...على الرغم ان الكثير من أصناف العنكبوت بيتوتية مثل النحلة الصفراء (الصملة) وتعيش على مسافة قريبة من الناس..

ومنها دقيق الجسم طويل الارجل خفيف الوزن، ولهذا الصنف اسم دلع محلي منسوب الي بيوتها وهو(الشبكة) ويعتقد الناس على الصعيد الشعبي ان هذا الصنف فال خير، فاذا صدف وان وجد شخص على ثيابه واحدة من هذا الصنف تفاءل بقرب استلامه لهندام جديد...وترتبط العنكبوته الشبكة في الذاكرة الشعبية بدورها في انقاذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إذ كانا في الغار حيث بنت بيتها الواهن على باب الغار فساهمت في عمى ابصار الكفار...حتى ان البعض يُحرم قتل هذا الصنف من العناكب، ويحاول ان لا يتسبب لها بأذى فلا يهدم بيوتها الواهنة ابدا...

وأحيانا ترى بعض العناكب وكأنها معلقه بين السماء والارض، او بين جدارين او شجرتين ، وتعرف بوجودها من خلال خيوطها الواهنة، الواهية التي ترتطم في الوجه دون ان تراها، فهي شفافة، ودقيقة للغاية، فتعرف ان عنكبوتا مر من هناك، فهي تستخدم الخيوط في الهبوط والصعود والحركة في كل الاتجاهات، وكأن العالم غابتها وهي طرزانها...

كما انها تنصب اشركاها وتستهدف بها صيدها...وبعض هذا الصيد ان لم يكن كله يجعلها للمفارقة نافعة جدا للإنسان وخادمة له، فالعناكب مسلطة على مصاصات الدماء...اي البعوض... والتي لو ظلت تتكاثر دون ان يكون في البيئة ما يهلكها لربما تمكنت من امتصاص دماء البشر كلهم اجمعون، ذلك إذا لم تقتلهم أصلا بما تحمله، وتنقله من امراض...تلك الكائنات الصغيرة في حجمها لكنها الأشد اذى وفتكا للإنسان حتما، ويكفي انها تختصر الطريق وتأتي الي جسد الانسان مباشرة، فتتغذى بفضل خرطومها ذي القوة السحرية الفتاكة على دمه...والذي يشقى الانسان من اجل ان يحافظ على نسبته في جسده...حتى انها تقوم على تخدير مكان الحفر، ولا يكاد يشعر الانسان بوجودها الا بعد ان تنجز مهمتها في امتصاص حاجتها من دمه...وقد صدق الشاعر في وصف البعوضة اذ قال "لا تحقرن صغيرا في مخاصمة...ان البعوضة تدمي مقلة الأسد"...والافضل يعود في انتصار الانسان على البعوض وفي جزء كبير منه الى العناكب...التي تشن عليها حرب ابادة جماعية...مستخدمة في ذلك اشراك بسيطة لكنها شديدة الفعالية فما ان ترتطم البعوضة في شرك العنكبوت حتى تعلق هناك وتصبح فريسة لا خلاص لها...مصيرها الموت المحتم...

وتتعدد ألوان العناكب في الريف الفلسطيني...فمنها الأسود، والبني، والاحمر، والمزركش...اضافة الي الابيض آكل نحلات العسل ...ولا اعرف صراحة إذا كان اللون يحدد درجة سمية هذه الكائنات أيضا كما هو الحال في العقارب... والتي يعتبر اللون الأصفر فيها أشدها سمية وفتكا...

وكنت في طفولتي أجد الناس تُهون من خطر العناكب ولا تكاد تعير وجودها أهمية...ولا تحاربها كما تحارب العقارب...بل تتغاضى عنها وكأنها غير موجودة...ربما لما تقدمه هذه العناكب من خدمات جليلة معروفة للإنسان...فحينما يقترب الانسان من بيت العنكبوت يجده وقد علق فيه اعداد هائلة من البعوض مصاصات الدماء... وهذه خدمة جليلة تقدمها العناكب ندر مثيلها...

لكن الصورة تغيرت في يوم من الأيام وكان ذلك في نهاية الستينات من القرن الماضي...حيث مات فجأة أحد شباب البلدة الاشداء...وكان جنديا يخدم في الجيش الأردني، وقد تناها الى الناس خبر انه مات بسم لدغة عنكبوت اسود، قاتل، صغير، لا يكاد يبين...من يومها اظن ان نظرة الناس في قريتنا الى العناكب قد تغيرت بصورة جذرية، وصارخة، ولو على سبيل الحذر والاحتياط...وصار العنكبوت منبوذ مثله مثل العقرب...وصارت الناس في قريتنا تشن عليها حربا لا تقل ضراوة من الحرب على العقارب...

كما ولا اعرف صراحة إذا كان العنكبوت الأبيض، هو ابيض في الأصل؟! ام ان لديه خاصية التحول في اللون بحسب المكان الذي يتواجد فيه، كما تفعل الحرباء التي توجد بكثرة في فلسطين أيضا، وهي كائن أقرب الى الحرذون آكل النحل...وهذه الحرباء مسالمة في طبعها لكنها تسبب رعبا لا يقل في شدته عن رعب العناكب بل اشد ربما، والمشكلة فيها انها تأخذ لون المحيط الذي تتواجد فيه وتتلون به...وغالبا ما يتفاجأ الانسان بها، وبوجودها أصلا...

فما ان يمد يده لقطف حبات الكرز او التوت مثلا حتى يجد نفسه على وشك ان يرتطم بها ويمسك بواحدة من هذه الكائنات المتسلقة للأشجار، وتأكل أوراق الشجر والثمر...وربما ان من بعض طباعها اكل بعض الكائنات الطائرة التي تقترب منها مثل الذباب والبعوض...ولطالما تسببت الحرباء لي بالخوف الشديد في طفولتي بل وعلى مدى حياتي فذلك ما حصل معي قبل أيام وتسبب لي برعب شديد...حينما وجدتها فجأة تتحرك بين أوراق شجرة الكرز.. وكانت تسعى نحو يدي...فصحت من شدة الخوف ودون شعور يا اماه...

صحيح ان الحرباء غير مؤذية لكن قدرتها على التلون إضافة الى ذلك الشيء البراق في عيونها الواسعة...وقدرتها الدائمة على التخفي ومفاجئة ضحيتها يجعلها مصدرا شديدا للرعب والخوف...لا يقل في حدته عن باقي الزاحف خاصة الافعى...

وربما ان جزءا من ذلك الخوف ناتج عن كونها من صنف الزواحف، وما يرتبط بها من خوف...فحتى يدرك الدماغ ان هذا الكائن ليس افعى مميته وانما حرباء مسالمة بقدرة اعجازية عجيبة وفورية على التلون...فهو يحتاج الى بعض ثواني، لكن تلك الثواني، تكون كافية لأصابه الانسان بالرعب والخوف الشديد...

وربما انه لا يوجد كائن له القدرة على مفاجئة الانسان والتسبب له بالرعب مثل الحرباء الا السلحفاة... وسبب الرعب الناتج عنها ربما يعود على شكل راسها الذي يشبه كثيرا رأس الافعى... لكن السلاحف كائنات مسالمة لا تؤذي بشرا ولا حجرا... وكثيرا من الناس يقتنيها كحيوان اليف او على الاقل يسمح لها بالتواجد في مكان قريب ليتسلى بها الاطفال...وكثيرا ما يتعثر بها الناس وهي تزحف بصبر وبطء شديد لكنها تصل دائما الى مبتغاها على ما يبدو...وهي تتخفى بلون قوقعتها الصلبة... واذا ماتت احتفظوا بقوقعتها التي يعتقد بعض الناس انها جالبة للخير مثل الشبكة العنكبوته...

اما الكائن الاخر المخيف في شكله لكنه لا يتسبب بأي أذى للانسان فهو كائن شبيه بالحية، وبعضها يصل طوله الى نفس طول الحية... وما يميز هذا الكائن عن الحية اضافة الى انه لا يلدغ وليس له انياب وغير سام ان له اربع واربعون رجلا، ولذلك تسمى اثناه على الاقل بأم اربعة واربعون...وهو لا شك يخيف من يتفاجأ به ويظل يرتجف من يصطدم به حتى يستوعب دماغه انه بصدد كائن آخر عجيب جعل الله له كل تلك الارجل ليسير عليها لكنه يسير بتثاقل وببطء شديد، بينما تزحف الحية وتسعى على بطنها، وتتلوى بحركة لولبية رشيقة ومرنة فتقطع في ثوان مسافات طويلة وشاسعة لا تكاد تصدقها العين...



يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

ناريمان الشريف 02-16-2016 05:26 PM

فكيف أعيش كل تلك السنوات الأربعة في ظل كذبة بحجم تلك...وهي ان أعيش في كنف امرأة أقول لها امي لأتبين لاحقا بصورة صاعقة مزلزلة انها ليست امي وانما هي خالتي؟؟!!...وان امي ميتة، ومدفونة تحت التراب؟؟؟ يا لهول الفاجعة؟؟!!...
مؤلم جداً أن يكتشف الطفل مثل هذه الحقيقة ..
فعلاً هي فاجعة
أكمل أكمل ,,, لا زلت بين سطور طفولتك .. ولكن استوقفتني هذه السطور

والله يعطيك الصحة والعافية ...

ناريمان الشريف 02-16-2016 05:29 PM

كما يقول المثل الشعبي (في اذار مرة شميسه ومرة امطار ومرة امقاقات الشنار، وتبيض العنقاء والمنقاء والي ما الها منقار )
ما المقصود ب ( امقاقات الشنار ) ؟
ارجو التوضيح

ناريمان الشريف 02-16-2016 05:45 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هند طاهر (المشاركة 203483)
تتشابه حياة القرى للفلسطيني بالذات ...

فما كنت تخافه كنت اخشاه ولا زلت رغم -- اننا وكما ذكرت نعيش في بيئه افضل بكثير ..

متابعه لك استاذ .. وربي يعطيك الصحه والعافيه ..

اهلاً بك عزيزتي هند
ما خاف منه الأستاذ أيوب في طفولته هو ذات الأمر الذي أخافك وهو نفسه الذي كان يخيفني
ومن هنا أعتقد أن حكايات الطفولة التي كان يرويها لنا الكبار لها مصادر ( مشبوهه ) ومدروسة من قبل متخصصين نفسانيين لتحدث الرعب فينا منذ الصغر .. ولتجعل منا جبناء في مواجهة الأعداء ..
فمثلاً الغول .. لماذا اختاروا لنا الغول مع أنه حيوان غير موجود !!؟
الدنيا مليئة بالحيوانات التي يمكن أن ينسج حولها قصص .. فلماذا الغول ؟؟
حسبي الله
قد لا تصدقون أضحك الآن من قصص الغيلان والعماليق التي أتذكرها واخافها حتى اللحظة
أشكر مرورك عزيزتي
طبت

تحية ... ناريمان الشريف

ناريمان الشريف 02-16-2016 05:49 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريم بدر الدين (المشاركة 203600)
منذ أن بدأت القراءة ما توقفت أبدا.. كأن الحياة في الريف الفلسطيني في تلك الفترة الزمنية كان متشابها و قد ذكرني بما سرده علي الشاعر الفلسطيني خلد أبو خالد عند كتابتي لسيرته الذاتية منذ فترة قريبة
كثير من الفصول متشابهنة حد التطابق أحيانا
أستمتع بهذا السرد و أحصل منه على معلومات ثمينة و قيمة
متابعة للحوار الذكي الذي تديره الأستاذة ناريمان الشريف و الذي يبوح فيه الاستاذ خليل حمد( ايوب صابر) بمكنوناته و خزائن ذاكرته
تحيتي و تقديري

أهلاً بك عزيزتي ريم
أنرت المتصفح .. وأسعدني جداً حضورك
وبالفعل ...
القرى الفلسطينية والبلدات والخرب يجمعها ذات الشواهد .. وما سمعته من الشاعر الفلسطيني
لا بد أنه يشبه ما سرده الأستاذ أيوب عن طفولته
وقبل قليل .. أكدت الأخت هند نفس المعلومة ..
طبت .. وطاب يومك

تحية ... ناريمان الشريف

ناريمان الشريف 02-16-2016 06:31 PM

سيرتك الطفولية .. موسوعة ثقافية تراثية
مليئة بالمعلومات
أشكرك أستاذ أيوب ..
تابع

تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 02-17-2016 10:23 AM

استاذة ناريمان

اشكرك على هذا التفاعل والحضور ...واشكرك خاصة على هذه الدفعة المعنوية التي ستساهم في دفعي للمتابعة في سرد مخزون الذكريات....

امقاقات الشنار : في وقت التزاوج وعندما تبدأ انثى الشنار وهو طائر الحجل وهو اشبه بالدجاجة البرية لكن له الوان رائعة ومخضب بالحناء في قدمية اي محجل وربما كان هذا سبب التسيمة، عندما تبدا الانثى في وضع البيض يتخذ الذكر من مكان مرتفع قريب مقرا له ويبدأ يغرد بصوت يطمئن الانثى بان الامور على خير وانه لا يوجد خطر في المكان هذه التغريدات تسمى مقاقات باللغة المحلية وهي مؤشر على حلول شهر التزاوج ( شهر اذار ) للطيور والحيوانات والحشرات في فلسطين.


ايوب صابر 02-17-2016 11:01 AM

تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


هكذا كانت البيئة الطبيعية في الريف الفلسطيني في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وهي البيئة التي امضيت فيها طفولتي المبكرة... اراضي، وحقول خضراء يانعة، اشبه بالجنان، أشجار، وثمار، وازهار من مختلف الانواع، ومراعي واسعة وجميلة، مشاهد تسلب لب الناظر اليها وتسحر عيونه، وتثلج صدره وتفرح قلبه...

لكنها كانت بيئة مسكونة بجيوش من الافاعي، والعقارب، والدبابير، والصملات، وهي جميعها مرعبة وسامه ومؤذية وبعضها شديد الخطورة...وجيش من الحيوانات المفترسة...وجيوش أخرى من الكائنات التي لا تؤذي بصورة مباشرة لكنها مرعبة في شكلها وقدرتها على الظهور المفاجئ، فتظل مصدرا للخوف الشديد الذي يكاد يعقد اللسان، ويوقف القلب أحيانا عن النبض، ويمنع الدم في العروق من الجريان...ولكن ذلك ليس نهاية اوديسا مصادر الخوف والأذى التي شهدتها في طفولتي المبكرة في الريف الفلسطيني...فما زال في جعبت ذاكرتي المزيد...

ففي تلك الفترة الزمنية...اذكر أيضا ان حقول فلسطين الخضراء قد تعرضت، في مرة واحدة على الأقل، الى هجوم كاسح، ماحق، ساحق مميت من الجراد...تلك القوارض المهلكة على صغر حجمها...اهلكت الزرع، والنبات، والاشجار، والحقول، وكل ما يمت للحياة الخضراء بصلة...فهي حين تهاجم ارض لا تبقي ولا تذر وتأكل الأخضر واليابس...وكأنها ملائكة موت تسلط على مملكة النبات فتحيلها الى اطلال فتصبح تلك الجنة الخضراء اشبه بهياكل نباتات وكأن الحياة انتزعت منها انتزاعا...

واذكر ان عدد الجرادات التي هاجمت فلسطين في ذلك الهجوم الكاسح، والتي كانت كما قالوا لنا، قادمة من الصحراء الافريقية، كانت بأعداد لا تعد ولا تحصى...منظر مخيف يفوق التصور...وينطبع في اعماق الذاكرة...

واذكر تماما انها حينما حلقت في سماء قريتنا بكثافة وكأنها غيمة مرعبة من حشرات طائرة، حجبت عين الشمس عنها وعنا...فلم نعد نرى سوى الجراد في كل مكان، على الأرض او في السماء...تهبط وتطير وتتقافز هنا وهناك ...وكاد نهار القرية حينها ان يتحول الي ليل مظلم...تلك القرية التي كانت تسمى في الماضي السحيق بنصيب من الشمس لشدة سطوع الشمس على ربوعها...

واذكر انني لم اجرؤ يومها على الخروج من الغرفة...بل اكتفيت باستراق النظر من الباب...وعلى وجل كنت أحدق في السماء فوجدتها، وانا أمعن النظر في كبدها، بأنها لم تعد مثل السماء التي كنت اعرفها واعتدت عليها من قبل...فلقد أصبحت بلون يميل الى البني الغامق واختفت فجأة زرقة السماء في يوم صيفي جيمل، عادة ما يكون صافيا وخالي من اية غيوم...وذلك هو المشهد الوحيد الذي اذكره بتفاصيله المخيفة من هجوم الجراد الشرس المذكور ولا اكاد اذكر سواه...الا ربما منظر الأشجار وقد انتزعت اوراقها...وباتت عارية تماما وكأنها في منتصف الخريف الذي لم يحن اوآنه بعد...

فلكم ان تتخيلوا إذا اعداد ذلك الجيش المحمول جوا...القارض...الشرس...الذي هاجم فلسطين على حين غرة، ودون سابق انذار...ولكم ان تتخيلوا ما فعلت تلك الجرادات ملائكة الموت بأرض فلسطين وحقولها وبساتينها في هجومها الساحق، الماحق المذكور...

لقد اكلت الأخضر واليابس في أيام معدودات، وربما هي ساعات لا تتعدى أصابع اليد...حتى أنك حينما كنت تنظر الى الحقول كنت تجد انها أصبحت جرداء خالية من مظاهر الحياة...وكأن اللون الأخضر مسح في معظمه باستيكة ضخمة بحجم الافق...تلك هي افواه الجرادات...فأصبحت الحقول خاوية على عروشها...ولسان حال الناس يقول كان هنا بساتين وحقول...

ولا بد انهم كانوا يندبون حظهم ويتحسرون على ما اصابهم من مصيبة أضيفت الى معاناة الناس...وكانت تلك الكارثة مشهورة في تلك السنوات، وربما لا يتعداها شهرة الا حادثة سقوط الثلج الكثيف في العام 1952 والذي كسر اغصان الشجر، وحطم بعضها، وتسبب في دمار كبير، فصار الناس يؤرخون الاحداث بالإشارة الي يوم الثلجة الكبيرة لشدة ما اصابهم منها من كرب عظيم وخسائر فادحة...ولو ان الأشجار عادت في العام التالي لتكتسي بخضرة ساحرة، واينعت ثمرا عظيما كما يقولون، وتعلم الناس من الطبيعة بعدها درسا بالغ الاهمية في الهندسة الزراعية...وذلك في غياب للمهندسين والمتخصصين...فقد وجدوا ان في بعض الموت حياة...وان القص والتقنيب رأس سنام الزراعة ...وان التضحية ببعض الاغصان مهم لتظل الشجرة قوية يانعة وقادرة على الاستمرار وانتاج الثمار...فصار الناس يقدمون بجرأة وحزم على تشذيب الشجر بصورة دورية ومستمرة، وعلى رأسها اشجار الزيتون، والحمضيات واللوزيات...ولا يخشون هلاكها ...بل يستبشرون باستفحال نموها واستشراء قوتها، وغزارة ثمرها...

وللمفارقة وجد بعض الناس في هجوم الجراد فرصة للصيد...واذكر ان عجوزا من القرية واسمها حليمية البرغوثي، وهذا الاسم يذكرني بالقمل والبراغيث، والتي لا بد ان نتحدث عنها أيضا فقد كانت تشاركنا السكن، بل بعضها كانت تسكن فينا وفي رؤوسنا، وكانت تلك العجوز تقنص الجرادات، كانت تقنصها، وتسقطها بكل وسيلة ممكنة، وتمسك بها لتجعلها وجبه دسمة لها وربما لمن حولها...تعوضها عن النقص في اللحوم في تلك الأيام المجدبة...والتي لا بد ان هجوم الجرادات زادها بعد ذلك جدبا...ولهذه العجوز قصة مرعبة في محفورة في الذاكرة تجعلني احيانا اوقع اللوم عليها في موت امي...وسوف ارويها لكم حين يكون الوقت مناسبا للحديث عما ارتكبته من فعل خرافي شنيع من ضمن واحدة من طقوس شعوذة وخرافة جنونية يبدو انها كانت سائدة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي...ذلك الفعل الذي اظن انه ساهم بشكل مباشر او غير مباشر في هلاك امي قبل الاون...

ولكن كثير من الناس اختلفوا مع من اكل الجرادات وامتنعوا عن اكلها إما قرفا من شكلها، او لأنهم ظنوا بحرمة اكلها، او عدم لياقته على الاقل...فهي حشرة غريبة، وغير مألوفة في بلادنا، ومن القوارض، ولو انه يوجد في فلسطين من جنسها أصناف عديدة لكنها أصغر حجما منها، واقل شراسة، وتوجد بأعداد قليلة جدا لا تقارن بأعداد ذلك الصنف المخيف من الحشرات القارضة، التي تتكاثر في الصحاري الحارة، وتهاجر الي الأراضي الخضراء في مواسم معينة طمعا في خيراتها فتجعلها بعد هجماتها الكاسحة اثرا بعد عين...

كما ولا تتسبب الأصناف المحلية، وتسمى الجنادب بكل ذلك الأذى، وهذه الجنادب تتواجد في الريف الفلسطيني كواحدة من تنوع حواني نباتي طبيعي عجيب، وتراها تقفز من مكان الى اخر، ولكنها من دون اجنحة كي تطير بها كما تفعل الجرادات...وعليه فهي كائنات تختلف كثيرا عن الجراد في تكاثرها وفي اذاها وطباعها...حتى وان كانت تشبهها كثيرا في الشكل...وربما جاءت في الأصل من جد واحد...

وما لبثت تلك الجرادات ان اختفت من ارض فلسطين بعد ان اهلكت الزرع... ودمرت المحاصيل...صحيح ان بعضها قتل لكن الكثير منها شد الرحال وهاجر من جديد ليهاجم الحياة الخضراء في بلاد أخرى...وربما عاد بعضها الى مسقط راسه في تلك الصحاري الجرداء، التي تتخذ الجرادات منها بيوتا، ودفيئات لوضع البيوض، وفقسه، والتكاثر بأعداد هائلة مستفيدة بذلك من دفء الصحاري... لتنبعث جرادات لا تعد ولا تحصى من أسفل الرمال في دورة حياة جديدة...

ولولا ان الدول تعاونت فيما بينها وتمكنت حديثا وفيما بعد من مكافحة تلك الافة المدمرة وابادت تلك الحشرة في عقر دارها حيث حددت أماكن تكاثرها، ودمرت بيوضها، ثم لاحقتها في كل مكان لتقضى على من كتبت له النجاة منها بالسموم، والمبيدات، فلربما أصبحت تلك الحشرة مع الأيام سيدة الكرة الأرضية، وحاكمتها المطلقة ونافست في ذلك البعوضات مصاصات الدماء...
...

يتبع ...


الساعة الآن 12:55 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team