![]() |
الإعجاز النفسيّ في القرآن العظيم أو تأثير القرآن وفاعليّته في الأفئدة: إنّ تأثير القرآن في القلوب قد بلغ مبلغاً عظيماً لم يعرف قبله ولا بعده كلام قط، إذ تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم روعة وخشية وتعتريهم هيبة وتهيمن عليهم عظمة، ترى آثاره على الجاحدين أبلغ وأظهر، إذ يقرعهم ضلالهم ويقيم عليهم حججاً لا معقّب لها فيستغلّون سماعه ويتولّون عنه بنفور مدبرين. قال تعالى: { وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً }[126] وقد شعر بعض زعماء الشرك أن القرآن قد تملّك قلوبهم، وأحسّوا في أعماقهم هزّة روعته فكانوا يستخفون من الناس ويسترقون السمع إليه ليلاً، ورأوا آثاره في أتباعهم الذين تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين والسورة والسورتين، يتلوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه فتناقد إليه نفوس كانت متعصّبة للأوثان فتهجرها وتتلى بهدي القرآن علماً وعملاً، أدباً وخلقاً، فأدرك زعماء الشرك شدّة أثر وخطر القرآن على سلطانهم ونفوذهم، فأوصوا أتباعهم أن يحولوا بينه وبين أنفسهم. قال تعالى: { وقال الّذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون }[127] ونذكر شدّة تأثّر عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة بالقرآن وكيف احتال الوليد لصرف الناس عنه فقال: { إن هذا إلّا سحر يؤثر }. وما قصّة إسلام زعيمي الأوس أسيد بن حضير وسعد بن معاذ إلّا شاهد على ذلك. وقد ورد في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: (( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب سورة الطّور فلما بلغ الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يؤمنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون }[128] كاد قلبي أن يطير للإسلام[129] وفي راوية أخرى وذلك أوّل ما وقر الإيمان في قلبي [130]. إن تأثير القرآن ونفاذه يستحيل أن تتحصّن دونه القلوب، فإنّه لو أنزل على قمم الجبال لغلقها وشققها بما يودعه فيها من هيبة الله وجلاله ألا ترى أنّه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره من العوام من الخشوع والسكينة وزيادة الإيمان ما لا يخفى، وذلك كلّه من دلائل معجزاته وعظيم آياته الدالّة على نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. |
وهذا الفضيل بن عياض، مسلم لكنّه كان قاطع طريق، يسلب المال ويسفك الدماء، استمع ذات ليلة إلى قارئ يتلو: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالّذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}[131] [132] فتاب وحسنت توبته حتى أصبح من كبار الصالحين المقتدى بهم، فهل كلام يحدث جميع هذه الآثار يدعو به رجل أمّيّ لا دولة له ولا سلطان، هل يكون إلا كلام رب العالمين. أثر القرآن في الجنّ: كما كان للقرآن أثر بالغ وواضح على الإنس مؤمنهم وكافرهم كان له ذلك التأثير على الجنّ وهذا ما سجّله القرآن الكريم حيث قال في سورة الأحقاف: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا: أنصتوا، فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين }[133] يقول سيّد قطب: ( ويرسم النّصّ مشهد هذا النفر وهم يستمعون إلى هذا القرآن ويصوّر لنا ما وقع في حسّهم منه، من الرّوعة والتّأثر والرّهبة والخشوع، {فلمّا حضروه قالوا أنصتوا } وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كلّه طوال مدّة الاستماع. { فلما قُضي ولّوا إلى قومهم منذرين } وهذه كتلك تصوّر الأثر الّذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوا صامتين منبهتين حتى النهاية، فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا يطيق السّكوت عليه، أو التّلكؤ في إبلاغه والإنذار به، وهي حالة من امتلأ حسّه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلّاب، يدفعه دفعاً إلى الحركة به والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جدّ واهتمام)[134] ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم، لا يقف قلب غير مطموس، ولا تصمد روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامع اللئيم، ومن ثمّ لمس هذه القلوب لأوّل وهلة. وقال سبحانه وتعالى: { قل أوحي إليّ أنه استمع نفرٌ من الجنّ فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحداً }[135]. هذه الآيات تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجنّ، مفاجأة أطارت تماسكهم وزلزلت قلوبهم وهزّت مشاعرهم، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثّر امتلأ بها كيانهم كلّه وفاض، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعاً، ولا تملك له صبراً، قبل أن تفيضه على الآخرين في هذا الأسلوب من يفاجأ لأوّل مرّة بدفعة قويّة ترج كيانه، وتخلخل تماسكه، وتدفعه إلى نقل ما يحسّه إلى نفوس الآخرين. |
وأوّل ما بدا لهم منه أنّه عجب غير مألوف، وأنّه يثير الدّهش في القلوب، وهذه صفة القرآن عند من يتلقّاه بحسّ واعٍ وقلب مفتوح ومشاعر مرهفة، وذوق ذوّاق، ذو سلطان متسلّط، وذو جاذبيّة غلّابة وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهزّ أوتار القلوب. فآمنا به: وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن وإدراك طبيعته والتأثّر بحقيقته، يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون، وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجنّ، فيقولون: كاهن أو شاعر أو مجنون، وكلّها صفات للجنّ فيها تأثير، وهؤلاء هم الجنّ مبهورين بالقرآن مسحورين متأثّرين أشدّ التأثّر منفعلين أشدّ الانفعال، لا يهلكون أنفسهم من الهزّة الّتي ترجّ كيانهم رجّاً، ثم يعرضون الحقّ فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان، فآمنا به: غير منكرين لما مسّ نفوسهم منه ولا معاندين كما كان المشركين يفعلون. |
سر تأثير القرآن في النفوس: تميّز القرآن الكريم بتأثيره الخاص على النفوس، وهذا التأثير الأخّاذ البليغ يدلّ على أنّ القرآن كلام الله. وللقرآن سلطان خاصّ على الفطرة، متى خُلّي بينها وبينه لحظة، وحتى الذين راتب على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحياناً وتتململ تحت وطأة هذا السلطان وهم يستمعون إلى هذا القرآن. إن الذين يقولون كثير – وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات، ولكن هذا القرآن ينفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول: إنه قاهر غلّاب بذلك السلطان الغلّاب ! من الذي يتأثّر بالقرآن أكثر من غيره ؟ إنه المؤمن الّذي يفتح للقرآن قلبه وعقله، وكيانه كله، الذي أشرق قلبه، وشفت روحه وصفت نفسه: إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن، تنشئ بالقوة الخفيّة المودعة في هذا الكلام، وإن الكيان الإنساني ليهتزّ ويرتجف ويتزايد ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلما تفتح القلب وصفا الحس وارتفع الإدراك، وارتفعت حساسيّة التلقّي والاستجابة. وإن هذه الظّاهرة لتزداد وضوحاً كلّما استعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه، فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانيّة غامضة، فهي منخفضة حين يخاطب القلب المجرّب والعقل المثقّف والذهن الحافل بالعلم والمعلومات [136]. وقد وقف كثير من علماء البلاغة والتفسير في القديم والحديث أمام أسلوب القرآن، ولاحظوا تأثيره البليغ الأخّاذ على القلوب والنفوس والأرواح واعتبروا هذا التأثير دليلاً على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى. |
إعجاز القرآن في القضايا المحورية لعلم الاجتماع
تاريخ المقال : 20/6/2010 | عدد مرات المشاهدت : 229 http://www.quran-m.com/firas/ar_phot...671d74f0_m.jpg(دراسة نموذجية في الضبط الاجتماعي) الدكتور طــارق الصادق عبد السلام الدكتور جمال الدين عبد العزيز شريف ملخص الدراسة: إن دراسة الإعجاز القرآني وعلامات التحدي في القضايا الاجتماعية ليس أمراً مستحدثاً وإن بدا كذلك، فهي ليست بدعاً في النوع والمضمون من أشكال الإعجاز الأخرى، وقد ذكر علماؤنا الأقدمون أن من وجوه الإعجاز تحقيق الأحكام للمصالح وصدق الأخبار القرآنية وإثبات صحتها عند انطباقها على الواقع، وذلك يشمل كافة الحقائق المتعلقة بالعلوم طبيعية كانت أو إنسانية أو اجتماعية، وليس ذلك فحسب بل إن أقدم نظريات الإعجاز القرآني على الإطلاق قد نصت على الإخبار عن حقائق مستقبلية في بعض الشرائح الاجتماعية، وذلك يعني فيما يعني أن هذا النوع قد كان سابقاً لكل أشكال الإعجاز الأخرى وإن لم يتبلور في صورة منهجية متكاملة. وقد تناولت هذه الورقة بعض القضايا المحورية في علم الاجتماع التي تمت معالجتها في القرآن بوسائل معينة وتمت معالجتها في الغرب بوسائل أخرى - فتكشف الفرق البعيد والبون الشاسع بين المعالجتين وظهر الإعجاز في هذا الجانب الذي لا يمكن أن يعالجه بشر كما عالجه القرآن مهما بلغ من العلم والدراية والحنكة والفطنة. كما تناولت هذه الورقة القضايا المنهجية اللازمة لدراسة هذا النوع من الإعجاز، فبيّنت أنواع الإعجاز بشكل منهجي عام ومنهجية دراسة الإعجاز المتعلق بالحقائق في إطارها المعرفي العام ونظام السنن والقوانين الاجتماعية في القرآن. |
مقدمة:- لم يقتصر التحدي القرآني على وجه دون وجه ولا على العرب دون سواهم، بل أخبر الله تعالى في كتابه العزيز أن الخليقة كلها لو اجتمعت فتعاضدت وتناصرت وتعاونت على الإتيان بمثل القرآن في كافة جوانبه – لما استطاعت، قال تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا)(1) هذا وقد ربط الله تعالى- في بعض المواضع - الإعجاز بالحقائق وانكشافها فقال: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)(2)أي: كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه ولما يأتهم تأويله أي ولم يحصلوا ما فيه من الحقائق الصادقة والأحكام الجالبة لمصالح العباد. |
وهذه الآيات الدالة على الإعجاز تنبه على عدة أمور منها الآتي: 1- إن المعاني الصادقة في القرآن لا يمكن افتراؤها، والافتراء يقع على المعاني دون الألفاظ والنظوم، وذلك أن الذي يحاول الافتراء لا يحيط بعلم الله وحقائقه وكافة معانيه حتى يأتي بمثل القرآن، والقرآن قد أنزل بعلم الله فجعل أمثاله عبراً لمن تدبرها وأوامره هدى لمن استبصرها وشرح فيه واجبات الأحكام وفرق فيه بين الحلال والحرام وضرب فيه الأمثال وقص فيه غيب الأخبار وبيّن فيه الحقائق الصادقة المطابقة للواقع الموصوف، وذكر أنه ما فرط فيه من شيء(3) وقد بين للناس في هذا القرآن من كل مثل احتجاجاً بذلك كله عليهم وتذكيرا لهم وتنبيها على الحق ليتبعوه ويعملوا به (4). 2- قال تعالى في آية أخرى متحدياً البشر: ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) (5) أي إن عجزتم عن الإتيان بمثل معانيه الصادقة التي لا يمكن افتراؤها وادعيتم أنها مفتراة فتحولوا إلى الأسلوب والألفاظ والنظوم وإن جاءت حاوية لكل معنى باطل مفترى، والافتراء أمر يتعلّق بالمعنى دون الألفاظ والنظوم، وبذلك يكون المعنى: إن كنتم تزعمون أني قد وضعت القرآن وافتريته وجئت به من عند نفسي ثم زعمت أنه وحي من الله - فضعوا أنتم عشر سور وافتروا معانيها كما زعمتم أني افتريت معاني القرآن (6)إلا هذه الأساليب والنظوم نفسها قد أعجزتهم معارضتها وأخرستهم مشاكلتها(7). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر) ولما كان القرآن دائم الهدي فإنه دائم الإعجاز أيضا، وقد تكشف للعلماء مع تعاقب الأزمان أنه معجز في فصاحته وبلاغته وفي إحكام أحكامه وبيان حلاله وحرامه وفي جودة نظمه وصحة معانيه وإخباره بالغيب وفي إشاراته إلى حقائق علمية شديدة الدقة سواء في الجانب الطبيعي أو الإنساني أو الاجتماعي وغير ذلك من وجوه الإعجاز ولا شك أن الناظر في علم الإعجاز القرآني عبر القرون - ليجد أن هذا العلم الجليل قد اشتمل على رؤى متباينة ومناهج مختلفة، وهذا الاختلاف الواضح بين المناهج إنما يرجع إلى تعدّد جوانب الإعجاز وتكاثر موضوعاته من جهة، وإلى تباين خصائص الناظرين واختلاف بيئاتهم الفكرية من جهة أخرى، ولا شك أن هذا التنوّع المتفرد في إعجاز القرآن نفسه - من شأنه أن يؤثر في هذه المناهج والنظريات المختلفة ويسبغ عليها علامات معينة وسمات مخصوصة، فضلا عن أن هذه النظريات والمناهج التي تباينت أبعادها واختلفت أشكالها - وإن نظرت إلى موضوع واحد - قد تأثرت أيما تأثر بأفكار أصحابها وما يحيط بهم من عوامل ثقافية أو فكرية، ولا تكاد تلك النظريات تنفك عن هذه العوامل أو تجد دونها مناصاً. |
ورغم أن القرآن ظاهر الإعجاز بيَّن التفرد واضح التميز إلا أن هذا الأمر الذي تحسّه النفس إحساساً دون أن ترجع فيه إلى سبب معين أو علّة مضبوطة - يختلف اختلافاً بيِّنا عن البناء العلمي الذي لا يعّول فيه على الأمور الذاتية التي مردّها إلى إدراك النفس ومرجعها إلى الشعور الذاتي، حيث لا يكفي في العلم أن تنصب له إحساساً ذاتياً أو دليلاً مجملاً، بل لابدّ فيه من وضع الأيدي على التفاصيل والدقائق والجزئيات حتى تقوم عليها الأدلة وتنهض البراهين، وليس ذلك بالأمر السهل، ولهذا يصف القاضي الباقلاني هذا العلم بأن تمييزه شديد والوقوف على اختلاف فنونه متعذر، وذلك لتعلقه بعلوم غامضة الغور عميقة العقر كثيرة المذاهب(7) ولما كان القرآن العظيم معجزا من جميع الوجوه، فإنه ينبغي قي هذا المضمار جمع هذه الوجوه المدركة في صور كلية تندرج تحتها الجزئيات، يقول ابن عطية: (وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه)(8). ويقول ابن تيمية: (التعجيز ثابت في لفظه ونظمه ومعناه)(9). ويقول ابن كثير: ( القرآن معجز من وجوه كثيرة منها فصاحته وبلاغته ونظمه وما تضمّنه من الأخبار الماضية والمستقبلة وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية)(10). |
ورغم اختلاف التعبير وتباين الألفاظ في تحديد وجوه الإعجاز عند العلماء إلا أن هذه العبارات جميعها تحصر الإعجاز في ثلاثة وجوه هي:- • صحة المعاني: أي مطابقة هذه المعاني للواقع في الأخبار، وتحقيقها للمصالح في الأوامر ودرء المفاسد في النواهي. • فصاحة اللفظ: أي حلاوة الصوت القرآني وبهجته في النفس وقوة أثرهـ فيها. • جودة النظم: أي قوة الارتباط وحسن السبك ودقة التراكيب. وهذه الوجوه – وإن ظهرت منفصلة عن بعضها – إلا أنها شديدة الترابط والتشابك، بحيث لا يمكن فصلها عن بعضها أو تجزئتها أو إهمال بعض الجوانب فيها وإذا كان هذان النوعان الأخيران قد درسا عند علمائنا الأقدمين دراسات مستفيضة - فإن النوع الأول لم يدرس بصورة كافية، وإن كانت هنالك إشارات كثيرة له في تراثنا الإسلامي، ولكن لما تفجرت العلوم الحديثة المتعلقة بالكون والتي تناولت معاني القرآن وحقائقها اهتم العلماء بهذا النوع من الإعجاز كل حسب مجاله |
الساعة الآن 03:11 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.