منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية. (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=6821)

ايوب صابر 10-28-2014 11:45 PM

[RIGHT][RIGHT]
والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس


- يعد البشير الخريف(1917-1983م) من أهم الروائيين التونسيين الذين أرسوا دعائم الرواية التونسية إلى جانب مجموعة من الروائيين الاخرين .

- ويتفرد البشير خريف عن هؤلاء الروائيين باستخدام لغة عامية خاصة ، وهي اللغة الجريدية أو لغة جنوب تونس.

- كمايتميز بكونه مؤرخا صادقا لبيئته الجريدية منذ دخول المستعمر الفرنسي إلى حين استقلال البلاد.

- هذا، وقد ترك البشير خريف مجموعة من الأعمال الإبداعيةالأدبية الشاهدة على منحاه الفني والجمالي. ومنأهم رواياته: " برق الليل"(1960م)، و" إفلاس أو حبك درباني"(1980م)، و"بلارة" (1992م)، ومجموعته القصصية: " مشموم الفل"(1971م).

- وعليه، سيظل البشير خريف من الروائيين المتميزين في تونس برؤيته الواقعية الاجتماعية،

- وسيبقى أيضا من ألمع كتاب بلده، وذلك باهتمامه الخاص بكتابة رواية الفلاحين والعمال، وتوظيفه للغة الجريدية، وتشغيل الوصف الاستقصائي التفصيلي في كثير من الأحيان، والتأنق فيه سردا وتقويما وتعقيبا.

- وكل هذا من أجل التأريخ والتوثيق التسجيلي والواقعي، وتقديم رؤية إنسانية متكاملة شاهدةعلى تطور تونس الحديثة.

- من المعروف أن السينما قد استمدت مجموعة من التقنيات من الرواية كاستفادتها من زاوية النظر التي تنبني على الرؤية السردية، وطبيعة الرؤية ،ووظائف الراوي، وطبيعة المنظور السردي ، والذي يحيل على اللقطة السينمائيةوأنواعها.

- ومن هنا، فاللقطة السينمائية ما هي في الحقيقة سوى تحوير لزاوية النظر في علم السرديات، وذلك بكل تفصلاتها الفرعية.

- ومن ثم، فنحن في حاجة إلى استعمال مصطلح اللقطات السينمائية ، وذلك لتوظيفها في ورقتناالنقدية هاته من أجل التمييز بين مجموعة من اللوحات الوصفية على ضوء المنظورالسينمائي على حد خاص.

- تعتمد اللقطة الوصفية البعيدة على التقاط المكان الموصوف من زاوية بعيدة ، وذلك لتقديم فضاءات الأحداث والشخصيات كي يتعرف عليها القارئ المتقبل، كما في هذا المقطع الروائي الذي يرصد فيه الكاتب فضاء كيفان الطين الحمراء:" كان يحث السير فجرا، وراء كيفان الطين الحمراءوهو في برنوسه الصغير يتبع المنعرجات، كأنه إجاصة تسعى، هو ذاك الطريق يلتوي صاعداإلى المواعدة حيث المرح والحنان، حيث أمه الطالق وابنة الخال ولطفها وصغرها، يتخذهالعبة، حيث العربي أخوها، الذي يستجيب له سريعا، إذا ما اعتدى عليه أحد فيالزقاق"(ص:23).

- وتحضر هذه اللقطة الوصفية ، وذلك حينما يذكر الراوي فضاءالمتلوي ، والذي كان في السابق أرضا صحراوية جدباء ، لتتحول بعد ذلك إلى أرض طافحةبالكنوز الثمينة والمعادن النفيسة، يستمتع بها المحتل الأجنبي استعماراواستغلالا.

- استرعت هذه المفازة انتباهه، وكرفت عبقريته النافذة، إن هذه الطبيعة القاحلة، المكفهرة، تضم خيرا كثيرا، فتوقف ونصب خيامه ونقب فاكتشف سمادالفوسفاط فتأسست شركة صفاقس قفصة في أواخر القرن الماضي(1886).

- وقد جاءت هذه الصورة الوصفية البصرية الراصدة عبر نظرةالكاتب البعيدة إلى الفضاء والأشياء، وذلك لتقديم إطار الأحداث

- يقصد باللقطة الوصفية العامةGénérale تصوير المكان على ضوء رؤية عامة، مع تركيز عدسة الرؤية على الشخوص الموجودة داخل هذا الفضاء ، كما هو الحال في هذا المقطع الذي ينقل فيه الكاتبمجموعة من الشخوص الروائية داخل الفضاء ، ولكن من زاوية نظر عامة وبعيدة إلى حدما.

- وهكذا، ينقل لنا الكاتب في هذه الصورة الوصفية منظرا عامايحوي الشخوص الرئيسية في الرواية

- تنقل هذه اللقطة الوصفية المتوسطةMoyenne ثلثي الجسد ، وذلك داخل إطار الرؤية الوصفية التي يستند إليها الكاتب الواصف، وهي تقابل الرؤية الشاملة التي تعتمد على تصوير الشخصية بشكل كلي.

- ومن هنا، فالكاتب يصور لنا العطراء الصغيرة، وهي تبكي على وردتها التي انتزعت منها عنوة من قبل حفصة بنت رقية.

- وينقل لنا الكاتب في هذه الصورة ثلث جسد العطراء إلى الفخذين، وذلك للتعبير عن بكائها الشديد ، وتصوير صراخها الملتهب من أجل استعادةوردتها. وتشبه هذه اللقطة المرصودة اللقطة الأمريكية، والتي تركز غالبا على نصف جسد الممثل.

- من المعلوم أن اللقطة الوصفية المقربةRapprochée أواللقطة الصدرية تنقل لنا الشخصيات من الصدر إلى الأعلى، وذلك للتركيز على الانفعالات الجسدية والنفسية سواء أكانت شعورية أم لاشعورية. ومن بين الأمثلة التي تعبر عن هذه الرؤية الصدرية المقربة اللقاء الحميمي الصادق شعوريا، والذي كان يجمع خديجة المطلقة بابنها المكي، بعد غياب أسبوعي في الزبدة مع والده وجدته الحاضنة زبيدة ، وذلك بعيدا عن والدته الحنونة الحقيقية.

- وتعبر هذه الصورة الصدرية في الحقيقة عن الصدق الأمومي،وافتقاد المكي للعطف والحنان والرأفة والشفقة ؛ وذلك بسبب غيابه الأسبوعي عن أمهالتي طلقها زوجها الزبيدي. ومنثم، فهذه اللقطة تعبير صادق عن المناحي السيكولوجية، والتي تعمل اللقطة على تجسيدهاحركة وسلوكا وتفاعلا ووجدانا.[

- ترتكز اللقطة الوصفية الكبيرةGros plan على نقل ملامح الوجه المعبرة، ورصد انطباعاته النفسية بدقة تشخيصية وتصويرية، كما في هذا المقطع الوصفي الذي يبين لنا الكاتب فيه حالة شخصية حفة بعد اختفاء العربي:" دخل حفة إلى الحوش وعلى شفتيه ابتسامة صفراء ،وقال: إنهذه نتيجة مخالفة رأيه، وانه لم يشأ أن يعطي العوض لكن قلبه رحيم، فلم يقو علىمعارضة الناس فجاراهم وعليه، فهو في حل مما يحدث.
دخلت العطراء من البويبة تنظر وتسمع فذهلت وعادت إلىالحوش اللوطاني."(ص:140).

- وترد هذه اللقطة الوصفية في موضع آخر ، وذلك لتبيان حالةعمير النفسية والثورية أثناء تأجيج نفوس العمال المضربين حقدا وغضبا:" راغ عمير مخلوع القميص مبحوح الصوت على رأسشرذمة من أولاد بويحيى وأولاد دينار والجريدية والقبائل وانتشروا في ساحة المركز،وكان يهتف ناتئ العينين أحمر الوجه في جانبي فمه رغوة وفي شفته السفلى خط أبيضجاف."(ص:249).

- هذا، وتعبر هذه الصور المقربة جدا عن الحالات النفسيةوالانفعالية الشعورية واللاشعورية ، والتي تظهر على وجوه الشخصيات بشكل جليومجسد.

- يلتجئ الكاتب إلى الاستعانة باللقطة الوصفية الكبرىZOOM / Très gros plan ، وذلك لتبئير الموصوفات والعناصر المنقولة، حيث يتم التركيز على الأشياء الدقيقة من الوجه والجسد والرجلين ، وذلك لتقريبها بشكل جيد إلى القارئ المتلقي أو الراصد المتخيل. ومن هنا، نرى الكاتب في روايته الواقعية يصف كلبا عبر هذه الرؤية ، وذلك لكي يبين شراسةالحيوان تجاه الآخرين، وشروعه في الشر للانقضاض على الصبية، بعد رجوعهم من نزهةالوادي:" اعترضهم كلب هزيل، شرير يردهم بنباحه، ويهددهمبعينيه المخضرتين المحمومتين وأنيابه المكشرة، فارتدوا إلى القنطرة ولاذت العطراءبالرجوع وظهر حمة الصالح يعدو بين النخل يتبع الريبة ويصيح على كلبه." (ص:34)

- كما يركز الكاتب بشكل مكبر جدا على يد العطراء ، وذلكللتركيز على ما تفعله الصبية بنبتة كانت بيديها، فتقطعها غضبا وحنقاوحقدا:" فقالت العطراء وهي تنظر إلى يديها وتبرم حشيشةبين أصابعها.

- وهكذا، نجد أن اللقطات الكبرى جدا في رواية البشير خريفتحدد لنا الأبعاد النفسية للشخصية الرئيسية أو الثانوية أو العابرة ، أو تعكس لنامختلف الوظائف والمسارات التصويرية لمختلف العوامل والممثلين ذهنيا ووجدانياوحركيا، وتبرز لنا أيضا ملامحها الشعورية واللاشعورية بكل وضوح وجلاء.

- يلتقط الكاتب البشير خريف العناصر الموصوفة على غرارالكتابة الإخراجية السينمائية من زوايا متنوعة، حيث يستعمل السارد اتجاهات عدة ،وذلك لالتقاط صوره الروائية الوصفية، فقد يكون اتجاه الالتقاط أفقيا أو عموديا أوسفليا أو متحركا. ويمكن توضيح ذلك من خلال الشواهد والأمثلة النصية التالية:

- تلتقط هذه الصورة الوصفية من الأسفل إلى الأعلى، ويعنيهذا أن عدسة التصوير والوصف تتجه من تحت إلى أعلى ، وذلك للتعبير عن التساميوالتحرر والاستعلاء والسيادة والتفوق، واستجلاء ماهو علوي وروحاني ، بعيدا عن عالمالبشر المحنط بالماديات كما في هذه الصورة الرمزية:" خرجت الأنثى ووقفت، وتبعها الذكر، ولبثا هنيهة،كأنهما لم يدركا ما تبدل في وضعهما، وكأنهما لم يحفلا كثيرا بما منحا من حرية، ثمأمال الذكر رأسه ونظر إلى طاقة الشباك وخفف وطار، وتبعته أنثاه وتبعتهما العطراءببصرها، فرأتهما يحلقان إلى عنان السماء، ثم يتجهان إلى سحاب أبيض سمقت إليه نخلتانمتساندتان، وأضحيا نقطتين متتاليتين، وحطا في لفافة النخل." (ص:298)
- ومن هنا، تبدو هذه اللقطة العلوية العمودية تعبير صادق عنالرغبة في التسامي، والتحرر من الكائن المادي، والتخلص من قيود الحس، وذلك نحوالفضاء العلوي المطلق.

- تعتمد اللقطة الوصفية الأفقية الثابتة على رصد الموصوفأفقيا كما في هذا الشاهد الوصفي:" حولت عينيها(العطراء) إلىزوجها(محمد الحفناوي) وقارنت، إنهما يشبهان بعضهما تماما كما تشبه البسرة الغمقة، نعم، يشبهانبعضهما، غير أن النظر لذا أذى ولذلك شفاء، ذلك له عينان وأنف وفم، وذا له عينانوأنف وفم، كل رقبته وشعره، لكن شتان بين الرخمة والطير البرني. وعادت تنظر إلى الشاب، فتخيلت أنها تغسلبصرها." (ص:305).

- وهكذا، يتسم اتجاه الإدراك في هذه الصورة الوصفية بكونهاتجاها أفقيا ثابتا يقوم على النظرة المواجهة.

- المقصود بهذه الصورة التقاط العناصر الموصوفة من عدسةتصويرية موجهة إلى الأسفل ، وغالبا ما يكون الغرض من هذه النظرة الوصفية التعبير عنالضعف والانكسار والانسحاق والانهيار، كما في هذه الصورة الخرافية التي تناجي فيهاالبنات فرعون المنكسر توسلا واستغاثة ، وذلك لمساعدتهن على إضفاء الجمال عليهن، وإنكانت هذه الصورة تحمل في طياتها مؤشرات جاهلية ووثنية قديمة العهد.

من مقال بقلم : الدكتور جميل حمداوي

ايوب صابر 11-01-2014 02:32 PM

تابع

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس

- ولد البشير خريف بنفطة، دراسته مزدوجة بالخلدونية يعمل مدرساً وهو من ألمع أدباء تونس ورائد الفن الروائي فيها، كتاباته تنوعات شتى في معنى الحرية.

- يطرح الكاتب في هذه الرواية "الدقلة في عراجينها" مسألة الأرض كينبوع للمأساة الإجتماعية ويتبعها بطابع تسجيلي انتقادي بمعنى أن عديداً من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكيء على الانتساب الحزبي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات، كما امتزج بخليط من المؤثرات الأجنبية وتتجلى لنا ملامح هذه الرؤية معاً كلما أوغلنا في عالمها الفسيح خطوة خطوة..والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس.

- تمتد حدود الزمان الحدثي في الرواية على مساحة زمنية واسعة جداً تتخللها ثغرات زمنية كثيرة مما يجعل عملية متابعة الخط الزمني تقريبية، يبدو مرة ساطعاً دقيقاً محدداً ويختفي مرات أخرى فلا يكاد يبين، ثم يقفز قفزات زمنية واسعة لا تذكر فيها أية أحداث ، ليأتي فجأة على أيام قليلة فيشحنها بالأحداث والوقائع الكثيرة وهكذا دواليك.

- فأحداث الرواية تنطلق في عيد المايّو أي الرابع عشر من شهر ماي وهو عيد قومي لفرنسا"1"، ومع هذا العيد يكون عمر العطراء، ثماني سنوات "2"، وتبدأ الوقائع مع هذه الاحتفالات منتقلة إلى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء وفصل الربيع، تدور مع الفصول، لتصل الوقائع إلى نهاية الرواية عندما يشير الراوي أن عمر العطراء بلغ الثامنة والعشرين "3"، وقد كان عمرها ثماني سنوات، أي تضاف مدة عشرين سنة مضافاً إليها زمن تقريبي عبر عنه الراوي "وبعد أشهر" أي من رجوع العطراء من العلاج في صفاقص قام الحفناوي وتزوج امرأة ثانية، واستمرت الأمور على هذه الحال حتى وضعت له المرأة الجديدة ولداً، "وانصرف يعجب بوليد وضعته امرأته الجديدة، قالوا إنه كفلقة البدر" "5" ثم مرضت العطراء وتوفيت "6" أي حوالي سنة تقريباً بما فيها فترة الحمل وأشهر الإنتظار، وهكذا يقدر الزمن الحدثي في الرواية بواحد وعشرين سنة تقريباً، بما فيه من ثغرات زمنية كثيرة، ويلاحظ أن الراوي يذكر تاريخ الاضراب الذي قام به العمال التونسيون في معمل الفوسفاط في المتلوي وبقيادة الدبنجق قائلاً: وقع الاضراب في نوفمبر ، مما يدفع إلى الإعتقاد أن الوقائع التاريخية لهذه الأحداث جرت في هذه الفترة بين الحربين العالميتين، حيث كانت فرنسا متواجدة في المغرب العربي بما فيه تونس.

- رغم أن الرواية كتبت في الستينيات "*" فهي تعالج أحداث تاريخية ماضية مما يجعلها نظرة نقدية متأخرة للواقع الإجتماعي التونسي، تنتشر هذه الوقائع على بساط مكاني محدد في بلاد الجريد، وهي آخر نقطة في الجنوب الغربي في تونس "8" وبالضبط في نفطة التي يسكنها البطلان المكي والعطراء، ثم قرية المتلوي "9" التي تبعد بثمانين كيلومتراً شمال نفطة، وبجوارها قرية فليب طوما "10" حيث مصنع الفوسفات "11" ثم إلى السجن "12" وإلى صفاقص "13"عولجت العطراء، ثم العودة إلى نقطة في نهاية الرواية .

- يتصدر دور البطولة في رواية الدقلة في عراجينها للبشير خريف، كل من المكي بن علي الزبيدي والعطراء بنت المولدي، في إثر خلاف بين خديجة أم المكي مع زوجها بخصوص شراء خلخال ذهبي لها، لطالما وعدها به، ولكنها اكتشفت أن الخلخال كان مغشوشاً، مما أدى إلى سوء علاقتها مع زوجها، فرجعت إلى بيت أخيها المولدي وأخبرت عبد الحفيظ أخاها الأكبر، الذي كان له خلاف مع علي الزبيدي الذي جاءه ليسترد زوجته ولكنه رفض، وهكذا سارت وضعيتها إلى الطلاق حتماً رغم أن خديجة ندمت ندماً شديداً، وأرادت في مرات متتالية أن تعود إلى زوجها، لكنها منحتْ أرضها إلى أخيها "حفة" ولذلك رفض علي الزبيدي، ومع ذلك لم تيأس وظلت تحاول الرجوع رغم أن الزبيدي تزوج بامرأة أخرى، وطوال هذه المدة بقي البطل المكي يزور أمه وأخواله كل خميس وجمعة، وكان يلتقي بابنة خاله المولدي، العطراء ويلعب معها الأرجوحة، ويلعب مع العربي، لكن لم تدم الحال وبسرعة غير متوقعة مرض المولدي فتوفى، وبعده بأيام قليلة وتحت وقع هذه الصدمة تتوفى زوجته تبرْ، وتترك أبناءها لرعاية خديجة.

- وينشأ المكي مع العطراء زمناً غير قصير تنمو فيه الذكريات وتزداد أواصر المحبة وثوقاً، و لا يستمر هذا الصفا، حتى يعاود الزمن بضرباته، ويحتد النزاع بين حفّة الذي يمنع أخته خديجة من الرجوع إلى بيت زوجها علي الزبيدي، ويرفع عليه قضايا في المحكمة ويخرج له المنفذ، لاحتجاز حقوق خديجة، لكن خديجة تريد الرجوع، ويسوء حالها فتصاب بمرض خطير وتتوفى، عندها يفترق شمل هذه الأسرة فيسافر المكي والعربي ينخرط في الجيش الفرنسي، أما المكي فينتقل إلى العمل في معمل الفوسفاط، في المتلوي في صفاقص، ويناضل هناك كثيراً مع زملائه العمال وينال رضى "لاكاز" و"بواسييه" مسؤولي المصنع، كما أعجب به العمال العرب وخاصة كبيرهم الدبنجق الذي وصف المكي بأنه مخ ومفكر بالنسبة لباقي العمال خصوصاً وأنه متعلم، وهكذا قام بالتعاون مع الدبنجق وعبد الناصر وآخرين بتعليم العمال القراءة والكتابة، وتوعيتهم بحقوقهم، وتجنيدهم في الإضراب الذي استمر أسبوعاً كاملاً كما وقعت مواجهات مع الفرنسيين خلفت كثيراً من الضحايا وسجن من سجن وفرّ من فرّ.

- ثم يمرض المكي ويطول به المرض فيفصل عن العمل ويرجع إلى بلده في نفطة، يتفق مع حفّة على زواجه من العطراء ولكن يموت في مرضه، فتتزوج العطراء مع الحفناوي ابن حفة، وبعد شهرين تمرض بضرسها فيأخذها إلى صفاقص للعلاج، وعند العودة يركبان القطار لكن مؤامرة تدبر لهما فينزل الحفناوي وينطلق القطار، فيصل إلى قفصة، ويبيت الحفناوي بعيداً عن زوجته، وهنا تأتي امرأة مومس اسمها غرسة فتأخذ معها العطراء وهي امرأة لم تخرج أبداً من قريتها، ولم تسافر، وبطرق شيطانية تحتم عليها ما ترفضه وينتهك جلول عرضها وفي الصباح يرجعونها إلى المحطة، فيصل زوجها، ويأخذها إلى بلده نفطة دون أن تبوح له بشيء، وكان ذلك سبب انحلال علاقتها مع زوجها الحفناوي فيتزوج عليها وتمرض فتموت.

- تنتقد الرواية موضوع ملكية الأرض وحب الاستيلاء عليها من طرف عبد الحفيظ، الذي يملك منها مساحات معتبرة، إلا أنه ظلّ يتطلع إلى أخذ المزيد منها من أصحابها الفلاحين، وهو ما حدث فعلاً عندما جاءت سنون عجاف فاشترى أراضي الفلاحين، المعوزين بثمن بخس، واستعان في عملية الشراء بأموال أخيه المولدي، الذي كان يرسلها له من المهجر، ولكنه في النهاية قيد كل شيء باسمه، وحرم أخاه من حقوقه فأصبحت شخصية عبد الحفيظ تمثل شخصية الإقطاعي في الرواية.

- لذلك اشتد النزاع بينه وبين صهره علي الزبيدي الذي يملك أراض مجاورة له خاصة عندما وقع خلاف بين خديجة وعلي الزبيدي زوجها، لأنه وعدها أن يشتري لها خلخالاً ذهبياً، وهكذا استغل عبد الحفيظ هذا الموقف لتوسيع أراضيه أكثر، بحصوله على نصيب أخته خديجة، ورفض أن يرجعها إلى علي الزبيدي، لكن خديجة ندمت كثيراً على هذا الخلاف الذي استغله عبد الحفيظ، وحاولت طول حياتها الرجوع إلى زوجها لكن عبد الحفيظ أخذ منها أرضها، ولذلك رفض علي الزبيدي ارجاعها بدون أرض، وتزوج بامرأة ثانية وقام عبد الحفيظ بتعقيد الموقف بشكل نهائي، فرفع قضايا في المحكمة ضد علي الزبيدي باسم خديجة وهي رافضة، وتمرض خديجة مرضها الأخير وتدعو بالانتقام من عبد الحفيظ وتتوفى، ومع وفاتها ترجع حقوق الأراضي إلى علي الزبيدي بسبب أبنائها، ولا تتوقف خصومة الأرض عند مأساة خديجة مع زوجها علي الزبيدي، بل تصبح المأساة متوارثة مع إرث الأرض، فعندما يقوم بطل الرواية المكي في نهاية مشواره الذي مرض فيه بخطبة العطراء ابنة خاله المولدي، التي كان يحبها وكانت تحبه ويضغط عليه عبد الحفيظ بأن يتنازل عن خصومة الأرض مقابل زواجه بالعطراء فيوافق ولكن طرفاً آخر يجدد النزاع وهو العروسي أخوه من أبيه، الذي يرفض زواجه من العطراء، مخافة أن يتوفى وهو مريض فترث العطراء من أرضه وتصير في صف عائلة عبد الحفيظ، ويجتهد في بث المشاكل، ونشر العراقيل لأخيه المكي حتى يحول الموت بينه وبين زواجه من حبيبته.

- إن هذه النقاط المرجعية في الرواية ترتبط جميعاً بفكرة الصراع سواء من أجل الأرض وتوسيع الملكية كما يفعل عبد الحفيظ أو من أجل الحق والعدالة، حينما يدافع العمال عن حقوقهم، والمطالبة بالزيادة في الأجور والمساواة مع العمال الفرنسيين، الذين يشتغلون معهم في معمل الفوسفاط في الأجور والحقوق،

- ومهما يكن الصراع وصوره وأشكاله فهو ضد الظلم، سواء كان هذا الظلم من كبار ملاك الأراضي مثل عبد الحفيظ الذي أخذ أراضي الفلاحين المعوزين، فانتقلوا إلى معمل الفوسفاط، ليواجهوا ظلماً جديداً في عدم المساواة وهضم الحقوق والمس بالكرامة الإنسانية، فكأن الرواية أرادت أن تسوي بين كبير ملاك الأراضي والقوة الإستعمارية فكلاهما يأخذ الأرض ويمارس الظلم، ومن ثم وجب انتقادهما معاً على حد سواء، إلا أننا نلاحظ أن شخصية العربي أخا العطراء وصديق البطل المكي، يأتي من التجنيد في نهاية الرواية فيجد المكي قد توفى دون أن يتزوج بالعطراء وهي حلم حياته، فيكشف ما يسميه مكائد الشيوخ أو مذهب الشيوخ، وهكذا يحتفظ عبد الحفيظ بالعطراء لابنه الحفناوي ولا يظهر هذا الأمر إلا فجأة عندما يتوفى المكي مريضاً، لكن لا يسعد بها عندما تقوم العطراء فتنتقم لنفسها ولحبيبها وعلى طريقتها هي خلال سفرها إلى صفاقص.

-تندرج رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف ضمن الرؤية غير المحدودة، وفي نمط الرؤية التي يمتلك فيها الراوي جميع فرص القص باعتباره أكبر من الشخصية في العلم

- فالراوي يروي هنا بصيغة ضمير الغائب المفرد عن البطل المكي وباقي الشخوص الروائية، فهذه العطراء تستيقظ من النوم يروي عنها الراوي بصيغة ضمير الغائب "العطراء"، العطراء، خرجت بنية في الثامنة من عمرها، ما تزال في بذلة نومها، تُميلُ رأسها وتعشش عينيها لتبصر بابن عمتها" "26".

- ويقرأ الراوي ما يدور في نفس خديجة من تساؤلات وحيرة بعد طلاقها ومحاولتها الرجوع إلى زوجها علي الزبيدي، وخوفها من أخيها عبد الحفيظ الذي يرفض ارجاعها "بقيت تتساءل" لعل الحق معه؟ فنظره خير من نظرها، له الفضل والشكر لم تجد في نفسها أية ثقة، لو يتركها، وقد فارقها زوجها، ومات أخوها الصديق، فهل تقدر على المسك بزمام مصيرها؟ ألا تذهب حياتها أدراج الرياح؟...."27" فالراوي يسرد الأحداث بصيغة الضمير المفرد الغائب، ويقرأ ما في نفس الشخوص من تساؤلات لا تصرح بها، وهذا يمثل إحاطة الراوي الذي أصبح عالماً بما يخص الشخوص ويتعلق بها.

- يستعمل الراوي تقنية التهيئة لما سيحدث من أحداث سعيدة أو غيرها ويمهد لحصولها، فهذه العطراء تنظر إلى طائر صغير في السماء وتسأله عن حبيبها المكي الذي رحل ولم يعد، فكأنها تتنبأ بعدم رجوع حبيبها إليها، وهو ما يحدث بالفعل في باقي أحداث الرواية، تغني العطراء أغنية رائعة في ذلك الزمان.

- ومعلوم أن العطراء لا تلتقي بعد ذلك بحبيبها المكي إلا خفية في الليل عندما يتسلق جدار ممنزلها وتقدم له السلم للنزول، لأن عبد الحفيظ كان يرفض أي لقاء بينهما رغم أن المكي خطبها من أخيها العربي، ووظف الراوي التلميح لما سيحدث إلى جانب التنبؤ عندما توفى المولدي وتبر، وتركا أبناءهما العطراء ، والعربي في رعاية خديجة إلى جانب ولدها المكي.

- تهدد خديجة ولدها الوحيد المكي أنها ستموت إن تمادى في احتكارها على حساب العطراء وبالفعل لا تعيش هذه الشخصية أحداثاً كثيرة إذ قارب دورها على النهاية، حتى تمرض فجأة وتموت "وهددته إن هو تمادى على احتكارها، تموت هي أيضاً فتلتحق بالمولدي وتبر هناك في الصورة فيبقى حقيقة بلا أم.... فلقد رأت الموت يعمل وجاش قلبها إشفاقاً وحناناً."29"

- كما اتخذ السرد وسيلة جديدة للتلميح لما سيحدث من وقائع في الرواية، وهي الدعاء فبعد وفاة المكي وزواج العطراء من الحفناوي تدعو الله أن يمكنها من زيارة المدينة والتفرج عليها وعلى العباد فيها "ناجت ربها، ربّ يقولون إنك على كل شيء قدير، وأنا نؤمن بهذا، رب انظر لمخلوقتك العطراء نطلب المستحيل وما هو ما فش المستحيل في حقك، رب مخلوقتك العطراء، ع نطلبك تطلب مشية للمدينة أيه مشية هكاكه نشوف ونتفرج على العباد وعلى الدنيا... فقد استمع الله إليها."30".

- ويتخذ السرد شكل التقرير، حيث يقرر الراوي معلومات لا تناقش بخصوص مسألة ما، يقرر الراوي الصفة التي تكون عليها علاقة المرأة بالرجل فيقول: "والمرأة من ناحيتها تعيش مع زوجها عيشة الريبة وعدم الإطمئنان، عيشة عدو مغلوب، فلاتدع فرصة إلا سرقته ولا غفلة إلا سحرته، ولا مناسبة إلا أضعفته لكي لا يتخذ عليها ضرة"31" وأورد الراوي تقنية الحلم في السرد ليضفي عليه جانباً مأساوياً وليلمح لما سيقع من أحداث، ينام المكي فيرى أمه خديجة في الحلم تبتسم له وتصلح بينه وبين العطراء، رغم أن خاله حفّة طرده من البيت، "وضع رأسه على حجر ونام. رأى أمه كأحسن ماعرفها صحة وابتساماً وطيبة، تصلح بينه وبين العطراء، وجد نفسه يشكو وهي تهدهده وتضحك من جزعه حتى فهم أن المسألة لا تستدعي كل هذا فاستحى مما به، انتبه فسقط في واقعه"32". واستخدم الراوي تقنية استبدال القص أو التواتر في القص بحيث يحكي عن موضوعين بالتناوب، وهكذا يحكي عن وقائع ليلة العطراء"33" ثم يوقف القص ويحكي عن وقائع أخرى هي زواج الحفناوي بامرأة أخرى "34"، ثم يرجع إلى إكمال تفاصيل ليلة العطراء "35" وهكذا.

- يلاحظ قلة مساحات الحوار بالنسبة لمساحات السرد الطويلة، التي طغت على معظم أجزاء الرواية، وحتى في فقرات الحوار القليلة تحاصرها التعاليق وتعقبها التفاسير المطولة، فأثناء الإضراب الذي يقوم به العمال في معمل الفوسفاط، تجري تساؤلات عن الجحشة التي قاطعت الاضراب يقول الراوي: أصبحت القرية في موكب مشطور خرج العملة للأخبار مهتاجي العواطف متوتري الأعصاب، السوق حافل كأنه الموسم، الأخير

- طرق الأنفاق خالية، والقطار الذي ينقل العملة إلى الوصيف ينفخ وحده " "36"، فالحوار يجري بين أشخاص مجهولة من العمال ، وهو موجه إلى السامع، ولا يتوقف السرد عن أن يكون خلفية أساسية، يبنى عليها الحوار، ليكون هو الغالب في مساحة الرواية برمتها، وتأتي فقرات الحوار ثانوية فيها، ويأتي الراوي عنصراً ثالثاً في الحوار بما يقدمه من شروح وتعاليق.

- وهناك الحوار الداخلي أي المونولوج الذي يجريه البطل المكي مع نفسه بعد عشائه عند "لادت عبد القادر " وحديثه المطول مع خضراء وكانت متحجبة فإذا المكي يحاور نفسه، ويقارن بين الخضراء والعطراء وأرليت الإيطالية يقول مخاطباً نفسه: "الحمد لله هذا الوجه الذي تقتصدين في ابدائه، فعليك الأمان لو تبدين عارية من رأسك إلى أخمص رجليك، فإن لي دونك منشعلاً، تعلمين بعضه فما قولك في العطراء؟ تلك في البلد وأما هنا يا ليتك ترين أرليت، إذن فلا تتوهمين أن شفتك المرفوعة خطراً علي."37".

- وزين الراوي الحوار بأبيات من الشعر الشعبي باللسان الدارج، فعندما يسهر العمال في الكوخ يصيح سليمان أن هذه الليلة مبروكة وهم كلهم يتراقصون، "-أو الله ليلة مبروكة هذه: نظر إليهم الدبنجق وطرشق تصفيقة وركز قدمه ورفع رأسه وترنم.
خرج القوم غناء وتصفيقاً ورقصاً على رجل واحدة كمثل الرقص الروسي..

- يسجل أن الراوي استعمل اللغة الدارجة كما لاحظنا وعلى نطاق واسع مما ترك آثار المحلية وطابع البيئة الواقعي واضحاً، وجاء الحوار في عمومه موجهاً إلى السامع وليس إلى المشاهد.

- يسجل أن الراوي استخدم أنواع من الوصف منها الإيحاء عن طريق الوصف التشبيهي، فيصف شيئاً ثم يشير إلى وصف وقائع تشبهه، حيث يصف الراوي علاقة ثنائي من الحمام يتبادلان الحب ثم يصف المكي والعطراء يتحدثان منفردين بينما المكي يصفف لها شعرها"

- فكأن الراوي يوحي لنا بأن زوج الحمام يتساقى الحب، مثلما يفعل البطل المكي مع العطراء إذ يرتب لها شعرها ويحادثها، فتعدت علاقة الوصف من رسم لوحات فنية ومشاهد مثيرة إلى تشبيه لوحة بلوحة ومشهد بمشهد عن طريق الإيحاء والتلميح.

- ويقدم لنا الوصف للأشياء لوحات جميلة إنه وصف للمدرسة الفرنسية، وما توحيه هذه اللوحة من مؤثرات أجنبية وشدة انضباط وجمال المدرسة بمرافقها، وكان المكي تعلم القرآن في الجامع حتى أصبح قادراً على إقامة صلاة التراويح بالمصلين في رمضان، وها هو يدخل الآن هذه المدرسة الفرنسية يقول الراوي:"أرض ساحة الكوليج حصباء دقيقة، وجدرانها نظيفة البناء، مستقيمة الأركان، ملساء يكسوها نبات متسلق، تعج بالتلاميذ، وفي وسط الساحة السادة المعلمون يحيطون بالمسيو لافو مدير المكتب"40"

- ولما دخل المكي القسم الدراسي انبهر به وأحب اللغة الفرنسية، وأصبح غالب كلامه بها" أراه مقعداً، فجلس وكتّف يديه، ينظر إلى النوافذ والصور التي بينها ويتصور نفسه في المتلوي، بلد الحضارة، ولما عاد منه، يومه الأول صاح من السقيفة:" مانج لادات، أي أكل التمر، وأصبح غالباً كلامه بالفرنسية "41" فالمدرسة الفرنسية ضمنت جمالها ودقة بنائها ونظامها في اللوحة الفنية، كما ضمنت تأثيرها المتغلغل في النفوس حيث أصبح المكي يدير غالب كلامه باللغة الفرنسية بعد رجوعه إلى بلدته نفطة.

- يقدم لنا الراوي وصفاً دقيقاً لعمليات تصفية معدن الفوسفاط وإعداده للصناعة، يتفرج عليها المكي والعربي بعد أن سمح لهم مسؤول المصنع بذلك، يتفرجان على معدن الفوسفاط وهو يصل إلى المصنع وكيف يعالج "يؤتى به في عربات على السكة بعد اقتلاعه من الجبل مخلوطاً بالتربة والحجارة، فينكب في قمعٍ واسع يسميه العملة "الدريبة " ثم تحمله سلسلة من القواديس تصبه قليلاً قليلاً بين عجلتين تسحقانه وتسلمانه ناعماً إلى البساط الساري، فيحمله ويسكبه في غربال هناك يبخ عليه من فوهتين تيار ماء فيغسله، فينزل الوسخ والحصال إلى أسفل، ويدفع بالفوسفاط صافياً في ثقب الغربال فيقع في البساط فينزل به إلى حيث تقطر عليه عقاقير كيميائية، كمثل القطران ويخضه لولب حتى يختلط بالسواء وتستمر رحلته إلى برمة في حجم أربع قاطرات يسمونها" الحماصة" يتقد في جوفها أتون تبلغ حرارته ثمانمائة درجة قد أبيض جمره الحجري وتراقصت فيه زيقات تأخذ بالبصر، فيجف، ثم يصعد به البساط إلى مستودع فيتكوم جبلاً سحابي اللون ناعماً وتمر من تحته العربات فارغة"42".ويسجل أن الوصف الذي اختلط مع السرد رسم لوحات رائعة، زينت ثنايا الرواية، وأعطتها نكهة خاصة ومذاقاً عذباً، ينقل الواقع بكل فعالياته وطبيعته، ونقل لنا الوصف المؤثرات الغربية على البيئة العربية التونسية وما خلفته من "كوليج" أي مدرسة ومعمل عصري للفوسفاط تتبع الوصف عمليات تحويل المعدن فيه.

ايوب صابر 11-01-2014 05:32 PM

وإلان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس

- صدرت عن دار الحوار في اللاذقية الطبعة الأولى من روايةالنخاس للكاتب التونسي صلاح الدين بوجاه وهي تتألف من مجموعة فصول وتقع في 220 صفحة من القطع المتوسط.

- في روايته الجديدة يجمع بوجاه صور الحلم، من خلال الانفتاح على الاساليب السردية الروائيةالقادمة من التراث العربي ،و لاسيما تراث الف ليلة وليلة.

- ففي الرواية الواحدة تتداخل الاحداث والحكايات لتطرح اسئلة وافرة وذكية ومثيرة يمكن ادراجها كموقف حياتي وجمالي وثقافي، يساعد على الاستمرار في الحياة الراهنة رغم كل الغربة والمرارة والانكسارالذي يلف الواقع اليومي المصاب بلعنة الحروب المتواصلة والمتفتجرة دون مبالاة.

- جاء في الكلمة المنشورة على الصفحة الاخيرة: ليست النخاسة في هذه الرواية بيع الرقيق،بل ولوج حياة الآخرين، وشرح صدورهم والنظر في دخيلة امرهم ومكنون صمتهم، ثم رتق وجودهم الغبي الصامت المنكفيء على مافيه.

- والنخاسة ايضاً كما تجلوها هذه الرواية هي،تجارة اسرار وفيض خوارق حكايات واحداث مما ترك إلاولون، وقائع واوهام، وبالتالي فالنخاس هو الرحالة الذي لايستقر ،والشاعر نخاس وهم وهو يرسل الظاهر على الباطن والباطن على الظاهر ويدرك الجهر بالسر،و النحات نخاس صخر وطين،والنخاس ايضاً هو كل من اقبل ذهنه او يده على تحويل الشيء من حالة الى اخرى.

-بهذا المفهوم ينسج الكاتب الحكايات التي ترسم حيوات واحداث سفر المسافرين في السفينة من تونس الى ايطاليا،حيث تشتبك اسئلة الشمال والجنوب ،ووعي الذات والعالم، والطبيعة والروح والجسد والكتابة.

- وحيث يتلاقى فن التوريق (الارابيسك) والتاريخ والتراث السردي، كما تتلامح الف ليلة وليلة في مغامرة جديدة وفاتنة من مغامرات صلاح الدين بوجاه الابداعية.‏

- تدور الأحداث فى رواية " النخّاس " على ظهر السفينة الايطالية " الكابو – بلا " حيث يسافر الكاتب الأديب " تاج الدين فرحات " سندباد القيروان وأديبها، والحالم بأوراق العمر، والعاشق لرائحة الورق والحبر والجلد، والباحث عن الحقيقة المضنية، والذى يعالج الكتابة ويعشق الخلوة ويطيل السهر ويمنى نفسه بجائزة حياته الأدبية . يسافر من مدينته القيروان إلى جنوا آملا الحصول على مبتغاه .

- وفى الطريق تبدو السفينة وكأنها مثقلة بالأسرار وحافلة بالغرائب ومليئة بشخوص وإن بدت قليلة على ظهر السفينة إلا إن وجودها وسط هذه البحر الغامض المتلاطم رمز إلى الحياة باستيهاماتها ومواطن الضعف فيها والقوة .

- ويتجول تاج الدين داخل هذا العالم الملغز العائم فوق المتوسط باحثا ومنقبا، فيصطدم أول ما يصطدم بالمرأة حين دخل المرقص وجدها أمامه عفية باهرة : " لبث برهة منجذبا مثل مريد فى الحضرة، ثم أخذ يدنو من المرقص .

- رآها .. أنثى سمراء رائقة تهتز، تسطو على لهفة الرجال المتوثبين، تثير صلف النساء، تدعو، ترتد إلى ذاتها، وعيناها جمرتان " (7) .

- ولأن لعبة المعرفة كانت لعبته المفضلة فقد إنجذب ناحيتها، وبدأ فى قراءتها قراءة متأنية عله يصل من خلالها إلى ما يشفى غليله أو يرضى بواعث فضوله : " لعبة المعرفة والألم تغويه، تثير فطنته وغباءه وتشحذ جنونه، وهذه الراقصة يعرفها، هل صادفها فى بعض مغاور الرهبان فى جبال كريت، أم سقته لبنا أبيض فى بعض مغاور مضارب الرحل فى الصحراء الليبية، أم أمسكت يوما بذراعه فى صلف رومانى وقادته إلى والدها ليبارك بعض انتصاراتهما المتبادلة فوق هذه الأرض أو تلك ! " (8) .

- وللمرأة مع تاج الدين فرحات جولات وصولات، فالذى علمته " النخّاسة " كانت امرأة اسبانيولية من بائعات الحرير و " الدنتيل " ومشابك الصدف، تعرف عليها فداورته وتركته تائها فى خضم الحياة بعد أن ألجمته معنى النخّاسة وبواطن أمورها، كما سبق له أن تعرف على امرأة فى صباه كانت تسكن بيتا واطئا من بيوت نهج خلف الجامع الكبير، علمته فنون الغنج والمداورة، وكانت تهتف له قائلة وهى تتثنى راقصة فى " : أطوار حياتنا هذه، ألا ترى الدنيا بيتا مرصودا كالمتاهة داخله مفقود والخارج منه مولود ؟ ". (9) .

- إن هذه المتاهة التى حدثتها عنه هذه المرأة تشبه إلى حد كبير " متاهة بورخيس " حيث تتوالد حكاياتها وتتناسل خرافاتها وأوهامها وملاحمها وكأن بينها وبين " نخّاس " النص تماثلا وتقابلا فى المعنى والمبنى، وكان للنساء فى نفسه مكانة لا تبارى جاء ذلك من خلال وصفه للفتاة " لورا " أبنة القبطان " غابريللو " ضمن الذين وصفوا فتنتها وجمالها، عندما مرت أمامهم لتنزل القارب إلى الماء ولعل ذلك كان هو المعبر عما يجيش به صدره نحو هذه الفاتنة اللعوب ونحو كل النساء اللائى على شاكلتها : " ليس الخبر مثل العيان ! صغيرتى بيضاء حبيبة رائقة مثل مرجان الخرافة، شعرها من ذهب الحكايات القديمة، وعيناها مثل يمامتين على حافة الجدول . ليس الخبر مثل العيان ! خدّاها مرسلان فى زعفران المدى ولبن الأنهار المعبقة، حبيبتى صغيرة لدنة مطواع، وليس الخبر مثل العيان ! فاذا ما وضعت أفضل ثيابها وهى تتهيأ للخروج مساء فى العاصفة والنوء، مضى عطرها يفوح كالسيف، فالعاصفة تجعله أقوى وأكثر نفاذا، والعاصفة تشحذ غلمة الأنف، وليس الخبر كالعيان ! " (10) .

- ويبدأ الصدام الحتمى بين " النخّاس " تاج الدين فرحات وبقية شخوص النص على ظهر السفينة خاصة القبطان " غابريلو كافينالى " هذا الرجل العجائبى المخاتل الذى ترك مهنة طب الأسنان وتعلم فنون البحر والمخاتلة والسحر والشعوذة ، وأبنته لورا الفتاة اللعوب التى تحاول بشتى الطرق فك الألغاز التى تحيط بالسفينة خاصة ما كان يخبئه أبيها فى غرفة القيادة وغرفة المومياء المحنطة والغرف السبعة الأخرى المغلقة على أسرارها، وعبدون القبايلى تاجر الحرير، والأمير عبد الله الغريب، وشريفة الزواغى القيروانية التى هى فى الأصل الجارة " زينب " التى كانت تجاور أبو محمد عبد الوهاب والتى نبشت تابوت المومياء وأغوت خدم المطبخ داخل السفينة، والتى كان يحوم حولها الأمير عبد الله الغريب، كذلك جرجس القبطى، والناصر التيجانى جزار السفينة، والراقصة لولا الفاسية التى ولدت بفاس وعاشت فى باريس وتزوجت قبرصيا من الإسكندرية .

- وتتوالى الفصول والحكايات مع نسيج النص وكأننا مع شهرزاد فى ألف ليلة وليلة تعمل فينا عملها الحكائى المثير للدهشة والأبهار . فى لغة لها من قوة المفردات وتأثيرها التراثى الفعال ما يعّول على قوة الشكل السردى مما يجعل أصالة المعنى يمتزج بنسيج حداثة الفن الروائى ليكّونا لنا كما قال الشاعر منصف الوهايبى فى مقدمة الرواية نصا معقدا معنى ومبنى : " هذا النص متراكبا مبنى ومعنى ومغنى يصنعه صاحبه، مؤلفا وساردا . وقد يتلاشى الصنيعان حتى ليستعصى تمييز الفروق الدقيقة بينهما ... أو إظهار ثوابت فعل كل منهما " (11) .

- فما يكاد الفصل يثير فينا غريزة البحث والإثارة والترقب حتى ننتقل إلى فصل جديد يبدأ بحكاية أخرى تاركة أيانا مع الفصل الأول فى حيرة من أمرنا، لا نكاد نفرغ من الأثارة والتشويق فى موضع من النص حتى نفاجأ بمعالم جديدة وشخوص أخرى غريبة، ونسيج سردى يحمل داخله أمرا جديدا محيرا .

- وهى سمات البنية التراثية التى تواجدت فى العديد من النصوص القديمة ذات الأبعاد الشعبية والصوفية والتى استحضرها الكاتب ليضئ بها معالم الطريق السردى داخل هذا النص .

- وهو فى حكاياته المتواترة يعتمد على العديد من الفصول المهيئة لتحميلها بحكايات الشخوص والمواقف والصعاب والأهوال التى قابلتها شخصيات النص عبر مواقفها المختلفة واللعنات التى صاحبت شخصيات تاج الدين فرحات والقبطان ولورا وارتطامهم ببعض فى أكثر من موقف ، وموقف البحر وعواصفه وسمك القرش الذى كان مصاحبا للسفينة فى سيرها مما كان يثير الكثير من التساؤلات الغريبة، وطير النوء ودلالات تواجدها فى محيط المكان دائما وسيرها تجاه وجهة السفينة ، والفهرست الأول الموضوع لأخبار النخاسين من المحدثين والغابرين ممن عرفوا طريق الماء والبحر، ومواقف تاج الدين المتلصصة وسرقة أدواته ومخطوطاته منه ثم عثوره عليها مرة أخرى، وكثير من المواقف التى تعرضت لها الشخصيات ، وقد لخص الكاتب فى نهاية النص هذه المطاردات التى مرت بكل الشخصيات فى مواقفها مع نفسها وتجاه الآخرين معبرا بذلك عن مضمون النص ومعادله الموضوعى : " مطاردات جمة تنشأ داخل المركب وخارجه : " لورا " تطارد والدها التائه المقبل على الهلاك، تاج الدين يطارد مخطوطات رواياته وكشاكيله ومسودات فهارسه التى اختلسها غابريال يوم كان مولعا بأخبار الوهم وحكايات الغابرين، المسافرون يطاردون تاج الدين بحثا عما تحويه مصنفاته من حكمة يمكن أن تنير سبيل الضارب هذا الماء المعتق فى متاهة ضياع ليس لها قاع، طير البحر يطارد القرش، والقرش يطارد سمك " الاربيان " الصغيرة اللامعة ! الكواكب السيارة بعضها يطارد البعض، وقليلها يغوى كثيرها، وشرها يكافئ خيرها، ومخالبها تنشب فى اطرافها، وقديمها يدرك محدثها ... ! " (12) .

- لقد كان واحد من هذه الشخصيات المطاردة والمطارده يحاول أن يجلو موقف أو يثير فضول شئ ما هو مغرم به وهو معنى قريب من معنى " النخّاسة " إن لم تكن هى النخّاسة الحقيقة فى هذا النص الذى اعتمد على الغرائبية فى المضمون والبطولة فى اللغة والتجريب فى الشكل الحداثى للرواية .

- ولا شك أن البناء الفنى للنص والمتحلق حول اللغة التى استخدمها الكاتب يكاد يتكأ
69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس مجنون معرفة ، إنها تلك المعرفة التى تطوحنى بعيدا فى ذهن الآخرين أو فى أجسادهم .

-ولعل " الغرفة السابعة " التى جاء ذكرها فى الرواية كانت هى الكتب والنساء والشواطئ البعيدة والنزل الخالية التى شاءت الحكاية القديمة أن تتركها موصدة .. لأحكام الغواية ولمزيد من الإغراء لحدوث التوقف والصبوة والمعرفة (15)أساسا على معطيات الأشياء المسرودة داخل المعالم التراثية الموجودة فى إطار المدونات والمخطوطات المحتفى بها فى نسيج النص، وهى سمة طبعت النص بخصوصية تناثر الأشياء فى كل مكان .

-ولا جرم أن احتفاء الكاتب بهذه الخصيصة نابع من اهتمامه المستمر على مدار النص والنصوص الإبداعية الأخرى فى عالمه الروائى والقصصى بل والنقدى أيضا بهذا الموضوع وكأنه مغرم بجمع الأشياء وترتيبها فى قاموس عبثى خاص يحمل داخله معانى ودلالات الواقع الذى يعبر عنه فى نصه الإبداعى، ودلالة ذلك هو أن اطروحته النقدية التى سبق ان نشرت فى كتابين تحت عنوان الواقعية الروائية ، وقد حددها الكاتب عن دراسة الأشياء فى بعض أعمال الرائد التونسى على الدوعاجى ونجيب محفوظ وصبرى موسى والطيب صالح ، وكان عنوان الكتاب الأول " الشئ بين الوظيفة والرمز " وعنوان الكتاب الثانى " الشئ بين الجوهر والعرض " وهو فى ذلك يقول فى مقدمة أطروحته : "

- يكاد لا يخلو نص روائى خلوا تماما من الأشياء . وإنما يكون حظ هذا أو ذاك منها بحسب التقاليد الأدبية السائدة والدوافع الفردية والجماعية الكامنة فى صلب شخصية الكاتب والموجهة لأختياراته الواعية واللاواعية . فالرواية نوع أدبى يقوم عامة على محاكاة الواقع المرجعى . وبما أن الإنسان يعيش بين الأشياء ومعها وفيها فمن المنتظر بداهة أن يتجلى ذلك عبر البناء الفنى المفرز للواقع الروائى الداخلى . ولقد عبر عن ذلك الكاتب الفرنسى آلان روب جرييه وهو أحد الوجوه البارزة إبداعا وتنظيرا ضمن مدرسة الرواية الجديدة فى فرنسا ، ملاحظا : إنه الطبيعى ألا توجد فى كتبى إلا الأشياء ، وإن ذلك لشأنها فى حياتى : أثاث غرفتى ، الكلام الذى أستمع اليه ، أو المرأة التى أحب " (13) .

-لذلك نجد أن صلاح الدين بوجاه فى رواية " النخّاس " يحتفى بتواجد الأشياء قدر إحتفائه بلغة هذه الأشياء ، ففى كل موضع من فصول النص نجد أن كثيرا من الأشياء تتناثر على الورق وكأنها لوحة سيريالية معبرة تحوى العديد من أشياء قد تكون متناسقة وقد تكون متنافرة ولكنها تشكل أبعادا وخطوطا تخدم الموقف وتحيط الشخصيات بسمات خاصة من هذا التشئ يعبر عن واقعها وسيكولوجيتها فى نفس الوقت ، والنص يحتوى على كثير من هذه التجمعات الوصفية للأشياء التى استخدمها الكاتب فى تأطير العديد من الجوانب الدلالية فيه : " أما الزوايا والكوى والرفوف ومقاصير الغرفة الداخلية فملأى بالمشارط المنسية وأحزمة المطاط وقطع الزجاج الحادة المشحوذة وبشتى أنواع الأوانى من خزف وزنك ورصاص وقصدير وخشب مطلى، فضلا على العلب الملونة وحقق العاج المنقوش ولفافات الكتان والحرير والبردى والتبغ ومجففات ورق العنب والتوت و " الكافيا – فو " اليابانية ذات الشذى العنبرى الرصين، وشتات من قطع الصندل والفلين وكرات غبرة " التلك " البيضاء والمعادن والأسنان وشظايا عظام الفك ومربعات اللادن وبقع الدم المتجمد وأصناف المحنطات وضروب شتى من الحناجر وقنانى العطور القديمة حيث تكاد لا تلحظ غير ثمالة عطر قد جفت أسفل الزجاج واتخذت لون الصفرة الداكنة وفاحت منها رائحة الصمغ اللزج ورطوبة المحلات الموصدة التى لا يدخلها الهواء ولا تنفذ إليها الشمس ولا يهذبها حضور البشر .. " (14) .

- ولعل تكرار هذه التجمعات الشيئية فى أكثر من موضع من نسيج النص قد قدم لنا ثراء تأويليا لما يريد أن يجسده الكاتب فى هذا المناخ الغرائبى الذى يبدو سيراليا فى بعض المواقف . كما الأضافة الملموسة فى هذا النص هو تواجد العديد من سمات الحداثة داخل النص وهو ما يمثل تناصا فى بعض المواقع والمواقف مثل توظيف بعض المقاطع من الأغانى الشعبية التونسية، والتعبير المجازى لنصوص رامبو وبودلير بلغتها الأصلية دون ترجمة ، وبعض المقاطع التقريرية التى احتفى بها الكاتب بهذه الطريقة مثل التقرير الفنى الذى كتبه كبير مهندسى السفينة " الكابو – بلا " أثناء إصلاحها .

- وفى حوار خاص تم مع صلاح الدين بوجاه حول عالمه الروائى ليس فى رواية " النخّاس " فحسب، بل وفى باقى إبداعاته القصصية والروائية .. يقول صلاح الدين بو جاه : " إن الكتابة باب مشرع على الهاوية ! لذلك يحلو لى أن امعن تيها فى القيروان القديمة، فى مقام " سيدى فرحات " فى اضرحة الأولياء وخلواتهم .. لو عشت فى زمن آخر منذ قرن أو قرنين مثلا لكنت من دراويش الحضرة وقتئذ، لهذا لا أميز كثيرا بين المجذوب والشاعر والكاتب والمحلل النفسانى، لا أميز كثيرا بين تلك التخوم الغامضة المحببة إلى نفسى والقريبة منى .. تلك التى تقول غربتى وغربة شخوصى . فشخوصى ليست أنا، إنها كائنات من لغة وتخاييل، لكنها تعبر عن دهشتى وخوفى وجنونى !

- وبناء عليه فأنا مسكون " بالمعرفة " فى أوسع معانيها وأضربها سهما فى الواقعى والغرائبى أيضا ، لهذا تكون المدن القديمة والنساء وغرف النزل البعيدة والشواطئ الخالية من اروع المراقى إلى الخلوة التى تحملنى إليها موجدتى ويؤدى بى غليها وجدى ويغرينى بها وجدانى !

- و " النخًاس " يختزل هذه المدارات بالنسبة لى، لقد أردته : " سرّاق صور وتخاييل ورؤى " ، وأردته تائها باحثا منقبا ، لقد أردته أن يكون مجنون معرفة ، إنها تلك المعرفة التى تطوحنى بعيدا فى ذهن الآخرين أو فى أجسادهم . ولعل " الغرفة السابعة " التى جاء ذكرها فى الرواية كانت هى الكتب والنساء والشواطئ البعيدة والنزل الخالية التى شاءت الحكاية القديمة أن تتركها موصدة .. لأحكام الغواية ولمزيد من الإغراء لحدوث التوقف والصبوة والمعرفة (15)

ايوب صابر 11-01-2014 05:40 PM

تابع ..
وإلان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس

- تعد رواية " النخاس " للروائي التونسي المتميز صلاح الدين بوجاه، واحدة من الروايات التي وصلت إلى ذروة الاغتراف من التراث السردي القديم، ومحاولة إعادة تشكيله في ضوء معطيات جمالية وأسلوبية ودلالية تعبر عن التراسل بين الماضي والحاضر، من خلال صهر فنيات السرد القديم بجماليات الإبداع الروائي المعاصر، بحيث لم ينبت الوعي الروائي الحديث عن شجرة نسبه البكر الكامن في أوليات الحكي لدى القدماء، حين تراسلت لديهم فنون الشعر والمشهد الحواري، إلى جوار صناعة الخبر و المقامة، لتكون هذه الفنون في كليتها العميقة نزعة إنسانية تصب في مجر أوسع يعبر عن مبدأ راسخ يشير إلى أهمية السرد.

- ومن هذا المنطلق الذي يصل بين الماضي والحاضر، بواسطة استرفاد الجوانب الحية في تجربة السردية العربية القديمة، نبتت أفكار بوجاه التي تصوغ وعياً جديداً لسرد مغاير، يستلهم قصص العرب ورواياتهم وأخبارهم وأيامهم وخيالاتهم وبطولاتهم لينسج من جملتها مدونته الرواية، ويصوغ من خلالها مفاهيمه الروائية الخاصة حول الرواية اللغوية أو رواية الواقعة اللغوية، والتي تستند إلى وعى عميق بمكونات الماضي القادرة على الحضور وإعادة التوظيف.

- وإذا كان التشديد على التمازج بين فن السرد القديم والرواية الحديثة على هذا النحو من البروز في تجربة صلاح الدين بوجاه الروائية على الصعيدين النظري والإبداعي فلن تكون مغادرة هذا الملمح أو تجاهلها من قبل مرايا النقد الروائي، ومن هنا وجهت الكتابة النظرية والإبداعية الخطاب النقدي الدارس له نحو العصب المركزي الذي تصب فيه البؤرة المركزية لخلاصة تجربته الروائية، ولعل تتبع مرايا النقد العاكسة لعناصر رؤيته كما تبدت في ذراها من خلال رواية " النخاس " ما يكشف عن تقارب الفضاءات النقدية وتقاطعها إزاء عناصر محددة تمثل نقاط إجماع بين نقاده على أهميتها في تشكيل هذا التقارب مع التراث السردي إن العودة إلى تقديم منصف الوهايبي للرواية ودراسة د. عبد الله أبو هيف عن استلهام التراث السردي في روايات بوجاه، بجانب دراسة د. صبري حافظ عن الرواية والتي بعنوان (متاهة اللغة، مرآة الرواية) ، جميعاً تكشف عن تجاوب بين أفق التوقعات النقدي، وتقارب في توصيف العناصر المكونة لضفيرة السرد في " النخاس "، وتغرينا عمليات التلاقي بين هؤلاء النقاد في التقاط الملامح المائزه للرواية بتتبعها لدي كل ناقد منهم.

- في تقديمه " النخاس " يلمح منصف الوهايبي صلة الرواية بشجرة نسبها العريقة التي تنبع من تربة التراث الإبداعي العربي الثرية، وفنونه البواحه دائماً بعبق الماضي فما تتدثر الرواية به من سمات التفريغ من الأصول و التعريج عن الفروع وإدراك التشعيب غايته، يمثل وشيجة عجيبة تقربها إلى فن " التوريق العربي " أو ما اصطلح عليه مؤرخو الفن الأوربي بلفظة الأرابيسك، ففي (النخاس) أشتات من الأمشاج والصور المستمدة من التاريخ وسيره، تتقاطع مع سيرة بوجاه ذاته، ومن ثم يفجر السرد الروائي مكنونات الشكل القديم ويطلق روحه الحبيسة ليكشف خباياها، فى مزيج غرائبي يكتظ بالشخوص والعوالم العجيبة، تضرب فى أرض الواقع بسهم وتشارف الحلم والرؤيا من خلال التركيز على صورة البحر الأبيض المتوسط، وبنية الترحال التي تجمع فى مسيرتها أشتات الأمم والحضارات المتاخمة له ماضيا وحاضرا : فإلى جوار العرب نرى الترك والبربر والأسبان والقبط والفرنسيين والطليان والزنج.

- ويؤكد الوهايبى أنه بواسطة هذا التمازج العجيب بين شكلين : قديم وجديد يداور أحدهما الآخر، أي العربي القديم والجديد الذي طورته الرواية الأوربية، يخدم الشكل الروائي فى محصلته النهائية متخيلا ينبني على التعدد والتداخل بين الأجناس وتحقيق قدر كبير من الكثافة، فهي تسمى الأشياء وتعددها في اللحظة ذاتها، غيرأن هذا الاحتشاد ينطلق من وعي الكاتب بلعبته الروائية التي يؤدها ببراعة، فلا نجد صوتاً نشازاً أو لحناً ناتئاً بين أمشاج النصوص والأصداء (فالمجردات والمحسوسات جميعاً لا تتدافع ولا تتزاحم قدر ما يفتح بعضها على بعض وينهض بعضها لبعض)، فلا قداسة مزعومة للغة الفصحى، وإنما تداخل لغوي يجمع بين عربية رصينة وأخرى عامية، إلى جوار نسيج مصنوع بحرفية من برج من اللغات فرنسية وإيطالية وسواهما… على أن المبني لا ينفصل عن المعني فهذا التعدد يقود إلى حركة لا تبتغي التوقف ولا تقبل السكونية، تعطي طرفاً من القول وتفتح باباً واسعاً لتعدد لا يحد في تنوع معاينة التي لا تقبل الاختزال.

- وفي دراسته التي تحمل عنوان استلهام التراث السردي في الرواية العربية والتي تتخذ من روايات صلاح الدين بوجاه نموذجاً، يؤكد د. عبد الله أبو هيف على أهمية رواية " النخاس " في مجال استنباش التراث السردي العربي القديم، وهذا ما يظهر جلياً منذ عتبات النص ومداخله.

- إن تصدير الرواية بمقولة ابن سينا المأخوذة ( من الإشارات والتنبيهات) تنقلها إلى كمال الوهم وأقصي أمداء التخييل من خلال عالم أشبه بمغامرة شائقة سردياً ولغوياً، بداية من عتباتها (العنوان ، الإهداء ، الكلمات المفتاحية، التذييل المسمي أطراف النص) عنوان الرواية لا يحمل في طياته كما يذكر أبو هيف تلك المعاني التي أسندها إليه بوجاه، فالنخاس يشير إلى بائع الدواب ويتسع المعني ليشير إلى بائع الرقيق، لكن بوجاه أضاف للكلمة معان جديدة يدخل فيها (ولوج جراح الآخرين وشرح صدورهم والنظر في دخيلة أمرهم)، ويدخل فيها أيضاً المقايضة جليلها وحقيرها وضروب المداورة والتجوال، ويتحول النخاس بحركة هذه المعاني إلى حلزون تائه يزحف في دنيا الناس يكشف الخطايا في أسواقهم وبهذا المعني ينقطع معني النخاس عن مراده اللغوي المباشر المذموم ليعبر عن معان إيجابية دالة على الرحالة الذي يدرك بواطن الأشياء.

- ولا تتخلق رواية " النخاس " في بنائها الروائي إلا وهي تضع نفسها في خضم أثير تحوم فيه داخل متاهات السرد وغوايته الغامضة والتي تكشف عن توق إلى الدخول في لعبة الكشف عما يحدث في الأبعاد العيانية الظاهرة أو الداخلية فيما وراء الأنفس، ولعل استخدام فعل (تداوره) الملتصق دوماً بحالة السفر نحو استلام الجائزة، والذي يكشف أبو هيف عن دوره بدقة تتبعه لوروده المتواتر على طول الرواية، ما يدل على توغل الرواية صوب التعدد وصراع التأويلات ويدخلها في تضافر الأشكال السردية يقول د. أبو هيف " إن فعل المداورة يغني معانيه وتأويلاته مثال لبناء الرواية التي تنوع أشكال سردها من الخبر إلى الحكاية إلى السيرة إلى المقال إلى النزوع إلى الشعر، فتضافر الأشكال جميعها في ذلك التشكيل الفريد لانهيارات السرد وضبطه في الوقت نفسه" وعلى مستوى علاقة السرد الروائي المتخيل بالأبعاد المرجعية نجد أن بوجاه في " النخاس " مثلما يناهضه لمرجع بالتخييل فإنه كذلك يناهضه التخييل بالإيهام حينا وبالمبالغة في المحاكاة أحياناً أخر، وهو ما يظهر في عناوين فصول الرواية، كما يتجلى كذلك في التداخل المقنن بين المبني الواقعي والأستعاري ، فالوحدات القصصية لها طبيعة منطقية ذات ترتيب واع، بالإضافة إلى وجود نسق من التنضيد داخل الخطاب الروائي تفصح عنه فاعليات التناص مع نصوص وإشارات ثقافية،إلى جوار تحول الكتابة إلى فضاء فنتازي بواسطة انصهار اللغة والمخادعة السردية والمرجعية وإظهار الراوي في بؤرة.

- ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث النثري العربي، مما يرهف قدرتها على التعامل مع متغيرات العصر وتبدلات الحساسية الأدبية، ويطرح في اللحظة نفسها بنية روائية جديدة تكتسب بها الرواية العربية خصوصيتها وفي هذا الأفق جاءت رواية " النخاس " لبوجاه لتجسد على صعيد أولي طموح كاتبها لتطوير أداته الروائية بعد روايته الأولي (مدونة الاعترافات والأسرار)، كذلك لتؤكد على مذهبه الذي أصطلح على تسميته بالواقعة اللغوية" وهي واقعية ذات مستويات ثلاث كما يؤكد د. صبري حافظ ، أول هذه المستويات.

- تصوير مباشر للواقع العربي الأعجف الخارجي قديمه وحديثه

- بناء واقع روائي داخلي صرف يحيل على ذاته، ملتمساً جل عناصره من بناه الداخلية بل ورموزه التي لا فك لسننها إلا صدوراً عنها وعودة إليها.

- إقامة واقع لغوي محض يعبر عن واقع لغتنا التي نهوى ونعشق، هذه التي تسكننا ألماً جميلاً ونسغاً حلالاً، يروي كرمة غدنا غوصاً من تربة ماضينا.

- ولقد ظل هذا الطموح يداور بوجاه حيناً ويغدو عصياً في بعض الأحيان إلى أن تحولت مراوداته لهذا الطموح إلي واقع في روايته " النخاس"

- وتتسم ( النخاس ) بقدرة روائية تمزج بين الوهم بالتسجيل، والواقع بالخيال وأشكال السرد التراثية القديمة ببنية السرد المعاصر، كل ذلك يقيم قواعد اللعبة النصية المخاتلة، عبر متاهة نصية ممتعة يستحيل معها تلخيص الرواية، فالرواية لا تعتمد في رأي د. صبري حافظ على مسار الحدث على الرغم من مسيرته الشيقة ولا ثراء الشخصيات على الرغم من خصوبتهما، بل على التراكب والتناسخ وتراسل الدلالات.

- مبدأ التناسخ ذات الأصول الهندية والذي يري أن كل صورة ما هي إلا تجل لصور سابقة، هو مبدأ عمل الأحداث والشخصيات في عالم الرواية فالرواية تؤكد على أن لكل شئ بعده التاريخي، وأن تراكم طبقات الخبرات والمعارف يمكنا من استيعاب الأشياء والجزئيات والشخصيات والتصورات.
ويتوقف د. صبري عند دلالة التصديرين الاستلهلاليين، والذي يتقاطع فيهما بوجاه مع قول لابن النديم من كتاب "الفهرست" وآخر لابن سينا من "الإشارات والتنبيهات" وهما يمثلان مفتاح قراءة للرواية، وهذا ما يتضح في دلالاتهما على شمول التجربة وإلى تحول جميع الأمم والأزمنة، بالإضافة إلى منهج التجاور الذي يسفر عن نفسه في بنية العبارة المقطعة، حيث تتجاور الأخبار والأنساب والأماكن والمناقب والمثالب مما يؤدى إلى توليد علاقات جديدة وتفجير العلاقات التقليدية كذلك الولع بالتركيز والاقتصاد، والمبدأ الجمالي الذي يعي أهمية الكمال كمصدر الكمال وأن مصدر هذا الجمال هو كمال الوهم.

- ويلتفت الناقد أيضاً إلى دور عناوين الفصول في تقديم بعد إرشادي للقراءة، يوهم ويذكر بعناوين النصوص القصصية التراثية القديمة، وتنهض هذه العناوين بعدة وظائف أولها إجهاض التوقع واستباق الحدث، بجانب التقليل من التشويق دون الإجهاز عليه، وثالثها إرهاف من حدة الجدل التناصي مع النصوص القديمة، وأخرها دورها في الإيحاء باستقلالية كل فصل.

- والحكي ينطوي كما يري د. صبري حافظ على مبدأ الغواية الجاذبة نحو السفر والترحال والوهم الذي يباطنه ظن بالحصول على جائزة، الرواية تقص رحلة الكاتب تاج الدين فرحات البحرية على سفينة " الكابو – بلا " السوداء إلى جنوه، حيث تلقي دعوة من هيئة جائزة (مينالدو) الأدبية لزيارة البلاد الإيطالية، ولكنه مدعو إلى لحضور حفل الإعلان عن الفائز بالجائزة لا حصوله هو عليها، (فثمة تعلق بوهم وتعلة، منذ بداية الدعوة، إذ إن غايتها ملفعة بالأسرار والترجي وإن كان مقصدها الجغرافي واضحاً وهو جنوه).

- على أن هذه الرحلة المجسدة داخل الرواية من خلال ارتباطها بدلالات السفينة والمؤلف/ البطل، تشير إلى أبد الرحلة ولانهائيتها كما يقول د. صبري، فالسفينة تشكل استعادة دالة على كوكبنا الأرض، وربما تشير أيضاً إلى قارتنا الأفريقية؟ أو إلى المؤلف – صلاح الدين بوجاه نفسه؟ وحيرة هذه الأسئلة التي تتنازع فيما بينها في تشكيل دلالة الرواية تخلق قدراً من الالتباس لتوسع أفق دلالات الرحلة. (فالرحلة في هذه الرواية هي الرحلة الأفقية والرأسية معاً، أي رحلة الغوص في البحر وتكبد مشاق عباب الغمر، ورحلة الغوص في قيعان النفس البشرية وطبقات التواريخ المطمورة ومستويات اللغة المتراكبة في آن واحد"

- إن السفينة في الرواية تمثل صورة مصغرة للعالم الخارجي ونجح بوجاه في أن يجعل منها نواة مركزية للعالم الروائي، بواسطة تجسيده خصوصية السفينة وعموميتها معاً بتلك الطريقة الشاعرية، التي تنسج خيوطاً محكمة لشبكة من العلاقات والأحداث.

- إن تتبع مسارات الآراء النقدية السابقة, لهؤلاء النقاد الثلاث, على الرغم من اختلاف المنطلقات النظرية لكل منهم, ليكشف عن وجود عناصر أساسية وسمات تعبيرية, لا يمكن أن تتجاوزها العين الناقدة الخبيرة لفن السرد العربي الحديث, فمن خلال تحاور الرؤى حول "النخاس" تبرز أهمية العنوان الروائي والعناوين الداخلية للفصول ونبية العبارة السردية المخاتلة واستخدام الموروث السردي القديم فى بعد إشاري مغاير, كل ذلك يسهم فى صناعة فصل روائي متعدد الدلالات والرؤى, يغوص فى الأوجاع الفردية ويجعل منهما تجربة إنسانية لها صفة الشمول.

- ولا شك أن هذه القراءات الثلاث لتكشف كذلك على قدرة الإبداع الأدبي أن يحرك استجابات جمالية متعددة بحسب المنطلق المحرك للتلقي, لكن هذا التعدد لا يعبر عن الخلاف الجذري, بقدر ما يولد أفق جامع وفضاء مشترك للقراءة, إن كل أدب يتسم بالاستمرار والديمومة لا شك يوكل فى كل منا إحساس ما ويستدعى تجربة ماضية لنا خاصة بكل فرد, لكنه كذلك يستطيع أن يجعلنا جميعا نتقارب فى أبعاد معينة, من خلال نقطة التقاء مشتركة, ومن هنا كان الدرس النقدي حول "النخاس" معبرا عن قدرتها على مزج الخاص بالعام, والفردي بالجماعي, ككل إبداع عظيم, يرجى له فى لحظة ما بالدوام, وبالكشف المستمر عن خبايا التجربة الإنسانية.

- دراسة جديدة حول الروائى القيرواني صلاح الدين بوجاه نشرها كاتبها مصطفى عبدالله بالعدد الأخير من الأسبوعية الإماراتية الصدى. يقول فيها :

- أجد أن مناقشة رواية ( النخاس ) هنا في الإسكندرية ، داخل قصر الكلمة ، في حضور مؤلفها الروائي العربي الكبير صلاح الدين بوجاه بين مبدعي الثغر ، و كبار نقاده فرصة لتبني مشروع إبداعي ضخم حول روايات البحر المتوسط .. هذا الحوض المائي الكبير الذي شهد ميلاد الحضارات في فلسطين و مصر و اليونان و نهضتها في إيطاليا و فرنسا و تميزها في الشمال الإفريقي و الأندلس . و ربما يكون هذا المشروع نواة لحوار من نوع جديد ، لنا مع الآخر ، الذي نشاركه هذه المرة شريان الحياة المائي ، و نهر الإبداع الروائي .

- و قد أغرتني هذه الرواية بإعادة قراءتها و تقديمها في طبعتها الشعبية في مصر لعدة أسباب ، أولها أنها تنتمي إلى كاتب قيرواني استطاع أن يضع بصمة واضحة في تاريخ الرواية العربية في تونس ، حتى أنه أصبح ثاني الأسماء التي تقفز إلى الذهن عندما يرد الحديث عن الرواية التونسية بعد الرائد الكبير محمود المسعدي ، الذي قدمه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للمشرق كله عندما نشرت روايته الشهيرة (السد) ، و كذا لكونها رواية مربكة مريبة ، تأخذ بقارئها في بعض مساربها ، فإذا ما اطمأن و أسلس القياد طوحت به بعيدا حتى يضيع منه المعني فيدخل بيداء الغموض .

- وهذا هو الانطباع الأول الذي يقابل قارئ ( النخاس ) ، هذه الرواية المداورة ، فيزج به في منطق اللهاث و التقصى .. اللهاث خلف أحداثها المتعاقبة الشيقة ، و تقصى مضامينها التي تغوص في تربة الأسئلة الوجودية الكبرى من ناحية، و في استفهامات العالم اليوم من ناحية ثانية .

-و ربما يكمن هنا ثراء هذا النص الذي يثير قضايا الموت و الميلاد و المتعة و الألم و البداية و النهاية إثارته للصراع الغريب المتقد بين الحضارات ، حتى يتحول البحر في الرواية من بؤرة صدام بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب ، فيكون الأداة و الرمز في آن واحد .

- و لأن حوض المتوسط ملتقى لحضارات و ثقافات عدة ،فإن ( النخاس ) تستدرج أجناسا و شعوبا ، منها الإيطالي و الإسباني و الفرنسي و التركي و اليوناني والمصري : القبطي و المسلم ،فضلا عن التونسي طبعا ، فتستدرج بذلك مناخات متعددة تغني الرواية ، و تمدها بثراء فريد ، و تتخطى بنا أحادية الأسلوب و الأغراض للخوض في حوار حول جنس الرواية ذاتها .

- و لعل هذه الوجهة في الفهم هي التي أغرت الناقد الدكتور صبري حافظ بالإشارة إلى أن روايات صلاح الدين بوجاه قد أنشأت حوارا جديدا مع الرواية في المشرق العربي .

- و ضمن هذه الوجهة نضع ( النخاس ) التي تدعونا إلى قراءات متجددة كثيرة للوقوف على خفايا بنيتها ، و مجاهل قضاياها .. و متعة أسلوبها ، و هي وجهات في الفهم و التأويل يلخصها الشاعر التونسي منصف الوهايبي بقوله : "تبدو الرواية على وشيجة عجيبة بفن الترويق العربي ، أو ما اصطفى له مؤرخو الفن الأوروبي لفظة " أرابيسك " ، حيث يسم التفريع الأصول ،كما يسم التعريج الفروع ، و يدرك التشعيب غايته .. قبل أن تنكفئ الحكايات على ذاتها مثلما في (ألف ليلة و ليلة)" .

- لهذا نكرر على أننا إزاء أسلوب ساحر ، ونص سردي مريب ، و إثارة عجيبة للمعاني و الأغراض .. تدفعنا جميعها إلى التوقف عند نص نزعم أنه من النصوص المؤسسة لمرحلة جديدة في الإبداع الروائي العربي .

- لهذا فإننا لا ندعو إلى قراءة هذه الرواية فحسب ، إنما تأملها ، و مقاربتها المقاربة النقدية الضرورية ، و مقارنتها بالجديد المصري و العربي.. و وضعها ضمن مسارات إبداعن الروائي الحديث . هكذا تدرك استفهامات الرواية الكثيرة أفقها الفعلي ، و هي الساعية إلى تجاوز الواقع التونسي أو المغاربي بصفة عامة إلى إثارة مسائل إقليمية حارقة ، هي " قضايا البحر المتوسط " على وجه الحقيقة ، وعلى وجه الإطلاق قضايا تونس و مصر وغيرهما من البلدان العربية .


- تاج الدين فرحات، غابريللو كافينالي ، لورا ، الراقصة ليلى ، وجرجس .. جميعها شخصيات يمكن أن نقول في شأنها ما قال الكاتب في (النخاس ) : " تاج الدين نخاس كاتب أبدا ، حلزون تائه زاحف في دنيا الناس كاشف خفاياهم شارح صدروهم ، حلزون يحمل قوقعة عذابه فوق ظهره ، صدره كونه من الشموس و النار و الثلج و الخوف و الخامات النفيسة و قصور الحكام و فحش آخر الليل ، و الحياء و العفة ، و المخطوطات النادرة و أولياء الله الصالحين . هذا كله شجعني في هذا التمهيد على استجماع عناصر حيرتي و أنا أقرأ رواية أعجبتني كثيرا في مراوغاتها الممتعة ، و دعتني إلى الإسهام في التفكير الكوني الذي يثار الآن حول مسألة الحوار العالمي ، و إسهام العرب في الجدل الحضاري القائم ، و سالف إسهاماتهم في حضارة الأمس و اليوم .


- و كم احتلت هذه الرواية حيزا من مناقشاتي مع بوجاه كلما التقينا هناك في تونس أوهنا في مصر ، و قد أكد لي أن شخصيات النخاس لا ظل لها على أرض الواقع ، و إنما هي تجسيد لحضارات متبانية ، بل و متصارعة فيما مضي في حوض هذا البحر. ولكنها تتجسد في سفينة تبحر من تونس إلى إيطالية ،و كأنها تعلة للانعطاف على لعبة كبرى ..

- و من يبحث عن القيروان مجسدة داخل ( النخاس ) سيرهقه البحث ، فصلاح الدين بوجاه يؤكد أن المدينة لا تعدو أن تكون مجرد خلفية مكانية و زمانية ، و هو حتى عندما يقرر أن يكتب عن القيروان أو يدونها في رواية أخرى مثل ( السيرك ) مثلا فإنه يقدمها كمحصلة لقراءته في المدينة العربية بشكل عام .

- فهل ننعطف في الختام على موقف الناقد العراقي ماجد السامرائي الذي أكد :" حين تسأل الروائي صلاح الدين بوجاه أن يقص عليك رحلته مع الكتابة تجده يبدأ مع "الراوي عن نفسه" ليخبرك بأن الرغبة في الكتابة ولدت عنده منذ طفولته الأولى ؟ أم ندعى إلى أن نهتف مع بوجاه نفسه : ماذا يفعل الكاتب في النهاية غير محاولة تشويش المثل و الحقائق قصد إعادة تنظيمها ؟!" .

ايوب صابر 11-02-2014 10:46 AM


تابع..
مع الروائي صلاح الدين بوجاه

كتبهاكمال الرياحي ، في 2 سبتمبر 2006 الساعة: 13:57 م

المصدر : المدونة الرسمية للكاتب التونسي كمال الرياحي :

حِــكاية نخّاس الحكايا أو قصة الكاتب صلاح الدين بو جاه
الذي يركب الرواية والقصة القصيرة ويرتكب النقد ويداور السياسة
حاوره : كمال الرياحي
تجدّف بك سفينة إبداعه نحو عوالم التراث السردي فتشتمّ منها عبق المخطوطات وكتب التراجم و أدب الرحلة.وتجنّح بك السّفينة لتحملك في طبق طائر وتقذف بك في مجرّات مظلمة من العبث والسريالية فتتقلّب في مناخات كابوسية تذكّرك بعوالم كافكا وترمي بك أمواج السرد أحيانا في عجائبية غريبة تبقى عندها مشدوها هل أنت عند ماركيز أم أنت في جراب السندباد تشاركه رحلاته أم أنت بطلا من أبطال المخيال الشّعبي , وتنحرف بك السفينة مرة نحو عوالم اللاّمعقول فتدخل بك "مقاصير" السحر والشعوذة والطفولة الملتبسة لتكرع من نهر الأسرار وعوالم الغيب وتأسرك مرّة كتابة الجسد وكتابة الأشياء ولغة الكتابة .من هو ؟ هو بكل سخف الأسماء واختزاليتها المميتة :صلاح الدين بو جاه من أهمّ الأصوات الروائية في تونس , لفت إليه أنظار النقّاد والباحثين منذ نصّه البكر "مدوّنة الاعترافات"1985 فنزل هذا النصّ ضيفا على بحوث جامعيّة كثيرة في تونس وخارجها ومازال إلى اليوم يغري النقّاد والقرّاء معا لما توفّر فيه من صنعة روائية غير مسبوقة استفادت من الأشكال السردية التراثية . لم يتوقّف بو جاه عند هذا النّص بل ظلّ يباغتنا كلّ حين بنص جديد رغم مشاريعه الجامعية ونشاطاته السياسية التي نحسب أنّها أكلت من وقته الإبداعي الكثير .
ولد بالقيروان سنة 1956 ليكون كاتبا تونسيا متميّزا يسهم في الحركة الثقافية العربية منذ السبعينات .عرف في المشرق العربي بإسهاماته النقدية والقصصية والروائية .صدرت أعماله في كل من تونس وبيروت والقاهرة ودمشق .عضو باتحاد الكتاب التونسيين واتحاد الكتاب العرب .انتمى إلى الجامعة التونسية منذ منتصف الثمانينات .شغل خطة عميد كلية الآداب بالقيروان .عضو الجمعية المغربية للآداب المكتوبة بالفرنسية وعضو هيئة تحرير مجلة الحياة الثقافية .قدم عديد البرامج في الإذاعة والتلفزة حصل على الجائزة الوطنية للآداب سنة 2003 وناقش أطروحة دكتوراه دولة في الأدب المقارن حول الرواية التونسية المكتوبة باللسانين العربي والفرنسي .من أعماله المنشورة في المجال النقدي :
الأسطورة في الرواية الواقعية ’بيروت ’1990
الجوهر والعرض في الرواية الواقعية’بيروت’1992
مقالة في الروائية’بيروت’1994
كيف أثبت هذا الكلام؟ تونس ’2004
وصدر له في المجال الإبداعي :
مدونة الاعترافات ’تونس ’1985
التاج والخنجر والجسد ’القاهرة ’1992
النخاس,تونس 1995
السيرك’بيروت 1997
سهل الغرباء ,تونس 1999 ,القاهرة 2000
لا شيء يحدث الآن,تونس 2000 ,القاهرة 2003
من مخطوطاته:
وجوه ,بورتريهات
حمام الزغبار ,رواية
هذا الحوار يسلّط الضوء على تجربة الرجل القصصية والروائية ويحفر عميقا في ملامح بوجاه بحثا عن حقيقة الطفل الذي يحمله , وعن المناخات التي أثّرت فيه فدفعت به إلى ارتكاب الكتابة ,في اللقاء سياحة مختلفة في فضاءات السحري والعجائبي والكابوسي والسياسي .
- قرأنا لك حديثا عن روايتك البكر "مدوّنة الاعترافات والأسرار" تقول فيه : "العمل الأول يختزل تجربة صاحبه إذ يكون بمثابة البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، الآن وقد مرّ على روايتك البكر ما يناهز العشرين سنة أما تزال ترى فيها البذرة التي قام عليها مشروعك الرّوائي أم أنّ هذا المشروع قد اتّخذ مسارات مغايرة وطَرَق سُبُلا لم تكن في ذهنك إبّان فراغك من الرواية نطفة المشروع ؟
oo "البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، هذا تعبير قديم يُفيد أنّ المشاريع تكون مختزنة في كلمة أحيانا، أو فكرة، أو ما دونها، والحق أنني اليوم، بعد مرور سنوات طويلة عن بداياتي الأولى أعود لتأكيد هـذه الفكرة ! فكرت أولا في قول العكس، كأن أقول أن مشروع الكتابة عندي قد اتّخذ مسارات كثيرة جديدة بحيث بدا مختلفا عن استهلالاته، ثم استقر الأمر عندي دون عناد أو مناكفة للجزم بأن "مشروع الكتابة"، إن كان لي مشروع كتابة حقا – قد انطلق مع بداية السبعينات حين أقبلتُ على عرض قصصي القصيرة الأولى على مجلات تونسية وعربية.
وأجدك تعيدني إلى بداية الثمانينات، وبالتحديد إلى المقدّمة التي شفعتُ بها "نصّي" الأول. فعلا طال الحديث بعد ذلك، فهناك من قال إنه لا جدوى من أن يُرفق النص الأول بمقدمة، وهنالك من رأى أنها غير مناسبة لنص قصير، فادعاءاتُها كثيرة متنوعة، ومُنجزه محدود قليل !!
موقفي لم يتغيّر ! لا أجدني اليوم مدفوعا إلى تبرير أي شيء أو الاعتذار عن أي شيء ! كل ما هنالك أنني أعلن الآن أنّ تصاريف الحياة والتجارب، وتنوع الاطّلاع الثقافي العام والروائي الخاص قد أدّت بي إلى تغيير ملامح أسلوبي، بحيثُ بدا مختلفا عن البدايات. وهذا طبيعيّ، فليس هنالك من يُحافظ على السمات الأسلوبية نفسها، وعلى معالجة القضايا ذاتها. لهذا أعود لتأكيد الجملة التي افتتحنا بها هذه الكلمة "البذرة التي تختزل حلم الشجرة". هذا لا ينفي أن "المشروع" قد اتّخذ مسارات مغايرة وطرق سبلا جديدة لم تكن في ذهني إبّان الفراغ من الرواية النطفة. ولا أخفي هنا أنّ أسعد لحظات حياتي كانت تلك التي قال فيها الأستاذ توفيق بكار والناشر الأستاذ محمد المصمودي، في دار الجنوب بتونس، بعد أن دفعتُ إليهما بعملي الموالي لرواية "النخّاس" : "فعلا… هذا أيضا موسومٌ بأسلوب بوجاه / C’est du Bougeh !". في ذلك الوقت علمتُ أنّني قد تمكّنتُ من ابتداع أسلوب خاص بي، والأسلوب هنا لا يتعلّق بظاهرة اللغة فقط، إنّما يتّصل بحيثيّات السرد، والمضامين أيضا ! وقصارى ما هنالك أن "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كانت تتضمّن اهتماما بـ"المفارقة" و"تعريضا بالمستقر" و"اختيارا للألفاظ النقيّة" في الغالب الأعم و"ميلا إلى الحلم والفنطازيا والعبث"… وهذه هي ذاتها السماتُ التي تطبع أعمالي الموالية حتى اليوم. كل ما هنالك أنها قد اتّخذت ألوانا جديدة، وأضيفت إليها ظلال أخرى مستحدثة، وخاصة في مجال التخفّف من "صفوية اللغة" واسلاس القياد نحو استعمال العربية قريب من اليومي… أو قُل "إنّه يميل إلى أن يكون قريبا من الجملة العربية العادية اليوم". والحق أنّ الأمر عندي ليس من باب التألّق، إذ التعلق القديم بالفصحى هو الذي يعيدني إلى طفولتي، وإلى كتب الوالد، وإلى المدوّنة التراثية التي نهلتُ منها.
n انشغلت روايتك البكر في نزعتها التجريبية بالهاجس اللغوي أو "الواقع اللغوي" كما عبّرت عنه فكانت اللغة تجهد لتتماسّ مع الأعجاز بما طفحت به من شاعريّة، و ما توفرت عليه من ترميز وما انبنت عليه من تكثيف، أهو الإيمان بأن المشروع الرّوائي هو مشروع لغوي أوّلا وأخيرا أم أنّه الانتصار للغة بوصفها إحدى المكوّنات الهامة والركائز القويّة لحضارة من الحضارات ؟
oo النزعة التجريبية، والهاجس اللغوي، والرمز، والأبعاد الحضارية… كانت الركائز التي انطلقتُ منها. كنّا في منتصف السبعينات نستند إلى نصوص متباينة : مدونة كرم ملحم كرم، "الإنسان الصقر" لعز الدين المدني، "حدّث أبو هريرة قال" للمسعدي… فضلا على نماذج كثيرة من النشر العربي القديم التي استهواني الاطلاع عليها، والاستناد إليها، بالإضافة إلى التراث الغربي متمثلا خاصة في مزيج من كافكا، وجان بول سارتر والشعر الحديث، على يد أعلامه المعدودين مثل بودلير ورامبُو وفرلين ! هذا هو المزيج غير المتجانس الذي استند إليه، فإذا أضفتَ إليه القرآن الكريم، والأناجيل، انتبهت إلى أنه أمشاج شتّى من الغرب والشرق تمازجت بالشائع من أدب الستينات والسبعينات. بيد أن محاولاتي الأولى، مثل كتابتي الراهنة، لم تنتهج درب "الأدب المناضل" أو "الواقعيّة الاجتماعية"، كتابتي ردة فعل على هذا التيّار، باختياراته الأسلوبية والمنهجية ومواضيعه وأغراضه.
بالنسبة إليّ لا قيمة لدراسة الأبعاد الاجتماعية إلا في كنف التعامل مع الأغراض الوجودية الكبرى، مثل الحياة والموت، والولادة واللذة والألم والبداية وخوف النهاية. ليس الأدب فعلا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا… إلا في نهاية المطاف ! إنه فعل عميق جاد يرقى إلى مستوى النصوص الكبرى، الشعر، المسرح اليوناني، الكتب السماوية. لهذا أتشبّثُ بسعي النص النثري العربي إلى الشاعرية، أو قُل تشبّث النثر بأفق الشعر يمتح منه أساليبه ويعالج قضاياه.
ليس الأدب سعيا سياسيا أو اجتماعيا، وليس الأديب رجل صحافة، أو رجل ضرب من الأحزاب. الأديب أرفع من هذا ! أو فلنقل أنه مختلف مغاير، وكفى ! لكل مهمّته ووظيفته. لهذا نجزم بأن الأديب ليس مترجما، كما أنه ليس رجل معارضة ! الأديب "معارض" بالمعنى العميق، بل العميق جدا. الأديب ليس معارضا سياسيا، إنه "معارض" للمجتمع، معارض للخيارات الإنسانية الكبرى… من حيث هو مسهم في الجدل الأصيل حول الإنسان، وتجربته الروحية العميقة. بهذا المعنى ندرك أنّ الأديب محرّك للوجود، ومُثَوِّرٌ للمستقرّ، ومُسهم في معارضة التفسيرات القاصرة المحدودة، ومُشجّع على تبنّي التوازن الروحي في وجود لا يكاد يؤمن إلاّ بالظاهر المادي المحسوس. على هذا الأساس ينبغي أن ينهل الأدب من التجارب الصوفية، ويكون فنطازيا سرياليا في بعض توهّجاته الكبرى !
n لامك بعض النقّاد على التوطئة النقدية التي أردفتها بروايتك "مدوّنة الأسرار" ورأوا فيها إسقاطا كان يجمُلُ بالكاتب تركه للنقاد والاكتفاء بتقديم عمله الإبداعي، تاركا إياه يتحدّث عن نفسه دون أن يسطّر له التأويلات الممكنة أو يشرح له ما أشكل أو يساعد القارئ على فتح مغالقه فيظلّ النص بذلك ببهائه ورونقه، وقد لاحظنا عزوفك عن هذه المسألة /التوطئة في أعمالك اللاّحقة، أكان ذلك من باب تطييب خاطر النقاد أم أنه اقتناع فعلي بأن ما تطلّبته باكورة أعمالك الرّوائية من توضيح – بوصفها العمل البكر – لا تحتاجه بقية رواياتك ؟
oo فعلا، العمل الأول يختلف دائما عن الأعمال اللاحقة، وقد سلف أن أكدتُ أنه "مثل صندوق الأم يحوي "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". إنه يحوي المتناقضات المتنوّعة الكثيرة، لذلك يحسن أن يُشفع بمقدمة تدعمه وتفسر مغاليقه وتُسنده. والحق أن وضع مقدمات بين يدي الأعمال ليس بالبدعة، خاصة بالنسبة إلى الأعمال الأولى… سواء من قبل الكتاب أنفسهم أو من قبل بعض أصحابهم. انظر على سبيل المثال سلسلة "عيون المعاصرة" تجدها تضم أفضل المقدمات التي أنشأها كتاب، أو نقاد، يتناولون العمل المنشور بالنظر الأدبي الرفيق، فيضيفون إلى فهم القرّاء ويمهّدون الطريق أمامهم.
ولعلّ الحرج الذي قابل به النقاد مقدّمة العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" يعود إلى أنها كانت فعل بين "المقدمة" و"البيان"، أو لعلها كانت إلى البيان أقرب. فعلا كانت بيانا مشفوعا بأنموذج مما يدّعي صاحب البيان. وكان من الطبيعي أن ينشأ تفاوتٌ بين النظري والتطبيقي، فضلا على أن الناس لا يستطيبون بيانا يصدر عن كاتب لم يُنشئ حتى ذلك الحين إلا بعض القصص القصيرة المنشورة في عدد من المجلات. لعلّهم كانوا ينتظرون بيانا ممّن ترسخت قدمهم في عالم الكتابة القصصية. لهذا نشأ عندهم حرج واسع بين قبول "المقدمة-البيان" أو رفضها، ورفض العمل الإبداعي الذي يصحبها.
n جاءت لغة روايتك "مدوّنة الاعترافات" مع قوّتها ومتانتها لغة شفافة ومتألقة، كثيرة الرواء، مفعمة بالشاعرية. أكان ذلك راجع إلى كثافة حضور الذات في الرواية بوصفها العمل البكر أم هو الحنين يشدّك إلى التجربة الشعرية أم هو الاعتقاد في أن الطابع الشعري ضروري لتقع الرّواية من الأنفس المتلقية موقعا حسنا ؟
oo أجنَحُ إلى الإقرار بالعفوية. لهذا أقول هنا : تلك هي الطريقة التي كنت أحسن استعمالها. فعلا، ذلك هو الأسلوب الذي ورثتُ عن الأغاني، ونشوار المحاضرة والكامل، والعقد الفريد، والمقامات، والأدب الكبير، فضلا على مطالعاتي الغربية التي تحتفظ منها "المدوّنة" خاصة بعمل شهير، سلف أن توهّتُ به، هو "التحوّل" فرانز كافكا. كنت في ذلك الوقت قد قرأتُ "التحوّل" فراقتني كثيرا، لم أكن قد اطّلعتُ بعد على ما نشأ حولها من نقد، بل ما تراكم من آلاف الصفحات حول الكتابة عند فرانز كافكا، وحول تمثيله لمرحلة مهمّة في تاريخ الرّواية الغربية. لقد شعرت بقيمة الكتاب، وأغوتني بنية كتب أخرى لكافكا، مثلا "المحاكمة" أو "القضية، فانتبهتُ إلى أننا إزاء مشكلة وجودية أصيلة، فضلا على الإحساس بالحصر الذي يخصص عصر كافكا. في ذلك المجال من العبث، والإحساس بضيق الكائن، تحرّكت رغبات الكتابة عندي، فألفيتني في عملي الأول أحن إلى بهاء الأسلوب [فيما ورثتُ عن قراءاتي العربية] وإلى أشكال البنية وتداخلها، وتعقد المعاني. لهذا كانت "المدونة عملا مثيرا للاستفهام خاصة ببنية الحاشية والمتن، التي استعارها للمرّة الأولى في تاريخ الرواية التونسية المعاصرة.





ايوب صابر 11-02-2014 02:20 PM

وإلان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس

المصدر : المدونة الرسمية للكاتب التونسي كمال الرياحي :

- تجدّف بك سفينة إبداعه نحو عوالم التراث السردي فتشتمّ منها عبق المخطوطات وكتب التراجم و أدب الرحلة.

- وتجنّح بك السّفينة لتحملك في طبق طائر وتقذف بك في مجرّات مظلمة من العبث والسريالية فتتقلّب في مناخات كابوسية تذكّرك بعوالم كافكا وترمي بك أمواج السرد أحيانا في عجائبية غريبة تبقى عندها مشدوها هل أنت عند ماركيز أم أنت في جراب السندباد تشاركه رحلاته أم أنت بطلا من أبطال المخيال الشّعبي ,

- وتنحرف بك السفينة مرة نحو عوالم اللاّمعقول فتدخل بك "مقاصير" السحر والشعوذة والطفولة الملتبسة لتكرع من نهر الأسرار وعوالم الغيب وتأسرك مرّة كتابة الجسد وكتابة الأشياء ولغة الكتابة .

- هو صلاح الدين بو جاه من أهمّ الأصوات الروائية في تونس , لفت إليه أنظار النقّاد والباحثين منذ نصّه البكر "مدوّنة الاعترافات"1985 فنزل هذا النصّ ضيفا على بحوث جامعيّة كثيرة في تونس وخارجها ومازال إلى اليوم يغري النقّاد والقرّاء معا لما توفّر فيه من صنعة روائية غير مسبوقة استفادت من الأشكال السردية التراثية .

- لم يتوقّف بو جاه عند هذا النّص بل ظلّ يباغتنا كلّ حين بنص جديد رغم مشاريعه الجامعية ونشاطاته السياسية التي نحسب أنّها أكلت من وقته الإبداعي الكثير .

.
- أنني أعلن الآن أنّ تصاريف الحياة والتجارب، وتنوع الاطّلاع الثقافي العام والروائي الخاص قد أدّت بي إلى تغيير ملامح أسلوبي، بحيثُ بدا مختلفا عن البدايات. وهذا طبيعيّ، فليس هنالك من يُحافظ على السمات الأسلوبية نفسها، وعلى معالجة القضايا ذاتها. لهذا أعود لتأكيد الجملة التي افتتحنا بها هذه الكلمة "البذرة التي تختزل حلم الشجرة".

- هذا لا ينفي أن "المشروع" قد اتّخذ مسارات مغايرة وطرق سبلا جديدة لم تكن في ذهني إبّان الفراغ من الرواية النطفة. ولا أخفي هنا أنّ أسعد لحظات حياتي كانت تلك التي قال فيها الأستاذ توفيق بكار والناشر الأستاذ محمد المصمودي، في دار الجنوب بتونس، بعد أن دفعتُ إليهما بعملي الموالي لرواية "النخّاس" : "فعلا… هذا أيضا موسومٌ بأسلوب بوجاه / C’est du Bougeh !". في ذلك الوقت علمتُ أنّني قد تمكّنتُ من ابتداع أسلوب خاص بي،

- والأسلوب هنا لا يتعلّق بظاهرة اللغة فقط، إنّما يتّصل بحيثيّات السرد، والمضامين أيضا ! وقصارى ما هنالك أن "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كانت تتضمّن اهتماما بـ"المفارقة" و"تعريضا بالمستقر" و"اختيارا للألفاظ النقيّة" في الغالب الأعم و"ميلا إلى الحلم والفنطازيا والعبث"… وهذه هي ذاتها السماتُ التي تطبع أعمالي الموالية حتى اليوم.

- كل ما هنالك أنها قد اتّخذت ألوانا جديدة، وأضيفت إليها ظلال أخرى مستحدثة، وخاصة في مجال التخفّف من "صفوية اللغة" واسلاس القياد نحو استعمال العربية قريب من اليومي… أو قُل "إنّه يميل إلى أن يكون قريبا من الجملة العربية العادية اليوم". والحق أنّ الأمر عندي ليس من باب التألّق، إذ التعلق القديم بالفصحى هو الذي يعيدني إلى طفولتي، وإلى كتب الوالد، وإلى المدوّنة التراثية التي نهلتُ منها.

- يقول عن كتاباته : النزعة التجريبية، والهاجس اللغوي، والرمز، والأبعاد الحضارية… كانت الركائز التي انطلقتُ منها. كنّا في منتصف السبعينات نستند إلى نصوص متباينة : مدونة كرم ملحم كرم، "الإنسان الصقر" لعز الدين المدني، "حدّث أبو هريرة قال" للمسعدي… فضلا على نماذج كثيرة من النشر العربي القديم التي استهواني الاطلاع عليها، والاستناد إليها، بالإضافة إلى التراث الغربي متمثلا خاصة في مزيج من كافكا، وجان بول سارتر والشعر الحديث، على يد أعلامه المعدودين مثل بودلير ورامبُو وفرلين ! هذا هو المزيج غير المتجانس الذي استند إليه، فإذا أضفتَ إليه القرآن الكريم، والأناجيل، انتبهت إلى أنه أمشاج شتّى من الغرب والشرق تمازجت بالشائع من أدب الستينات والسبعينات. بيد أن محاولاتي الأولى، مثل كتابتي الراهنة، لم تنتهج درب "الأدب المناضل" أو "الواقعيّة الاجتماعية"، كتابتي ردة فعل على هذا التيّار، باختياراته الأسلوبية والمنهجية ومواضيعه وأغراضه.

- بالنسبة إليّ لا قيمة لدراسة الأبعاد الاجتماعية إلا في كنف التعامل مع الأغراض الوجودية الكبرى، مثل الحياة والموت، والولادة واللذة والألم والبداية وخوف النهاية. ليس الأدب فعلا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا… إلا في نهاية المطاف ! إنه فعل عميق جاد يرقى إلى مستوى النصوص الكبرى، الشعر، المسرح اليوناني، الكتب السماوية. لهذا أتشبّثُ بسعي النص النثري العربي إلى الشاعرية، أو قُل تشبّث النثر بأفق الشعر يمتح منه أساليبه ويعالج قضاياه.

- ليس الأدب سعيا سياسيا أو اجتماعيا، وليس الأديب رجل صحافة، أو رجل ضرب من الأحزاب. الأديب أرفع من هذا ! أو فلنقل أنه مختلف مغاير، وكفى ! لكل مهمّته ووظيفته. لهذا نجزم بأن الأديب ليس مترجما، كما أنه ليس رجل معارضة ! الأديب "معارض" بالمعنى العميق، بل العميق جدا. الأديب ليس معارضا سياسيا، إنه "معارض" للمجتمع، معارض للخيارات الإنسانية الكبرى… من حيث هو مسهم في الجدل الأصيل حول الإنسان، وتجربته الروحية العميقة. بهذا المعنى ندرك أنّ الأديب محرّك للوجود، ومُثَوِّرٌ للمستقرّ، ومُسهم في معارضة التفسيرات القاصرة المحدودة، ومُشجّع على تبنّي التوازن الروحي في وجود لا يكاد يؤمن إلاّ بالظاهر المادي المحسوس. على هذا الأساس ينبغي أن ينهل الأدب من التجارب الصوفية، ويكون فنطازيا سرياليا في بعض توهّجاته الكبرى !

- فعلا، العمل الأول يختلف دائما عن الأعمال اللاحقة، وقد سلف أن أكدتُ أنه "مثل صندوق الأم يحوي "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". إنه يحوي المتناقضات المتنوّعة الكثيرة، لذلك يحسن أن يُشفع بمقدمة تدعمه وتفسر مغاليقه وتُسنده. والحق أن وضع مقدمات بين يدي الأعمال ليس بالبدعة، خاصة بالنسبة إلى الأعمال الأولى… سواء من قبل الكتاب أنفسهم أو من قبل بعض أصحابهم. انظر على سبيل المثال سلسلة "عيون المعاصرة" تجدها تضم أفضل المقدمات التي أنشأها كتاب، أو نقاد، يتناولون العمل المنشور بالنظر الأدبي الرفيق، فيضيفون إلى فهم القرّاء ويمهّدون الطريق أمامهم.

- ولعلّ الحرج الذي قابل به النقاد مقدّمة العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" يعود إلى أنها كانت فعل بين "المقدمة" و"البيان"، أو لعلها كانت إلى البيان أقرب. فعلا كانت بيانا مشفوعا بأنموذج مما يدّعي صاحب البيان. وكان من الطبيعي أن ينشأ تفاوتٌ بين النظري والتطبيقي، فضلا على أن الناس لا يستطيبون بيانا يصدر عن كاتب لم يُنشئ حتى ذلك الحين إلا بعض القصص القصيرة المنشورة في عدد من المجلات. لعلّهم كانوا ينتظرون بيانا ممّن ترسخت قدمهم في عالم الكتابة القصصية. لهذا نشأ عندهم حرج واسع بين قبول "المقدمة-البيان" أو رفضها، ورفض العمل الإبداعي الذي يصحبها.

- أجنَحُ إلى الإقرار بالعفوية. لهذا أقول هنا : تلك هي الطريقة التي كنت أحسن استعمالها. فعلا، ذلك هو الأسلوب الذي ورثتُ عن الأغاني، ونشوار المحاضرة والكامل، والعقد الفريد، والمقامات، والأدب الكبير، فضلا على مطالعاتي الغربية التي تحتفظ منها "المدوّنة" خاصة بعمل شهير، سلف أن توهّتُ به، هو "التحوّل" فرانز كافكا. كنت في ذلك الوقت قد قرأتُ "التحوّل" فراقتني كثيرا، لم أكن قد اطّلعتُ بعد على ما نشأ حولها من نقد، بل ما تراكم من آلاف الصفحات حول الكتابة عند فرانز كافكا، وحول تمثيله لمرحلة مهمّة في تاريخ الرّواية الغربية. لقد شعرت بقيمة الكتاب، وأغوتني بنية كتب أخرى لكافكا، مثلا "المحاكمة" أو "القضية، فانتبهتُ إلى أننا إزاء مشكلة وجودية أصيلة، فضلا على الإحساس بالحصر الذي يخصص عصر كافكا. في ذلك المجال من العبث، والإحساس بضيق الكائن، تحرّكت رغبات الكتابة عندي، فألفيتني في عملي الأول أحن إلى بهاء الأسلوب [فيما ورثتُ عن قراءاتي العربية] وإلى أشكال البنية وتداخلها، وتعقد المعاني. لهذا كانت "المدونة عملا مثيرا للاستفهام خاصة ببنية الحاشية والمتن، التي استعارها للمرّة الأولى في تاريخ الرواية التونسية المعاصرة.

ايوب صابر 11-04-2014 09:48 AM

n راهَنَتْ رواياتك إجمالا ورواياتك البكر تحديدا على التراث اللغوي تنهل من منابعه وتستلذّ ثماره المعتّقة وتنثر عنه غبار الزمن باعثة فيه روحا جديدة تستجيب لإشكاليات المرحلة. فهل ترى أنّ الاستفادة من الموروث هي إحدى الإمكانات المتاحة للمبدع وهو ينسج نصّه أم أن استلهام الموروث وهضمه وتجاوزه هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن ؟‍!!
oo أحتفظ بقولك "إن استلهام التراث، وتجاوزه، هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن". أضع استلهام التراث عند ركن الزاوية. فعلا، فهو حجر الأساس بالنسبة إلى كل بناء جادّ ينشد البقاء. ليس في إمكاننا بناء معلم باق إلاّ باستلهام التراث، والانطلاق منه والنسج على منواله. لكنّ شرط التجاوز من الشروط الأساسية في هذا البناء. انظر الهندسة المعمارية مثلا، تجدها تطبّق هذه المقولة تطبيقا رصينا أصيلا كاملا. لهذا فإنني أعتقد أن النصوص الجيّدة تبنى لا محالة على مزيج من النصوص القديمة المستقرّة، أما البناء من عدم، أو قل "ادّعاء البناء من عدم" فأمر مردود لا يكون أصلا.
وقد يكون من الطريف أن ألاحظ هنا أنّ تجارب الكتابة عندي قد نشأت، أول نشأتها، تراثية صرفا، وليس في ذلك أية غرابة، إن كنت تحت تأثير الكتب التراثية الكثيرة التي طالعتُ في مكتبة والدي، فانبثقت كتاباتي الأولى من قبيل المحاكاة، فـ"الأدب" بالنسبة إليّ هو ذاك ! بالإضافة إلى أنّ والدي الزيتوني لم يكن يعرف مفهوما مغايرا للأدب. أودّ هَهُنا أن توقف بعض الوقت للإلحاح على دور والدي في تكويني، خاصة في المرحلة الأولى، لقد كان معلما فعليا بالنسبة إليّ، معلما في الصرف والنحو، بل في الرياضيات والعلوم الطبيعيّة… قل إنه المعلم الشامل، وكفى. جعلت شخصيّته بقية شخصيات المدرسين في الابتدائي والثانوي تمضي غير ذات قيمة، إلا فيما ندر ! وقديما كان النقّاد حين يكتبون ترجمة أديب أو شاعر يشيرون إلى شيوخه. شيخ شيوخي كان والدي، بتكوينه التقليدي الذي كان يميل إلى النثر، ولا يحفظ من الشعر إلا شواهد قليلة دالة، بالإضافة إلى إشاراته المتكرّرة إلى المعلّقات.
في هذا الباب يمكن أن أقول إن تجربتي في الكتابة تستند إلى طبقات، بل هي طبقات متراكمة : الطبقة التقليدية التي ورثت الأدب عن بداية القرن العشرين [أو قل آخر التاسع عشر] مع جبران خليل جبران وكرم ملحم كرم خاصة، ثم عقبتها طبقات شتّى متنوّعة بدخول الفرنسية في تكويني، وإضافة عوالمها الشيّقة جدا، خاصة عالم السريالية الذي بقي عالما شيّقا جدا، إذ أتاح التعبير عن العقلاني، والتخييلي الاستيهامي في وقت واحد ! في طفولتي كنتُ أسأل نفسي كيف أعبّر عن خيالات الصبا الأول بكيفية رصينة متوازنة، ثم حدث انشطار عندي فصرتُ أميّز بين العالمين… حتى كان كافكا من ناحية، والسريالية الفرنسية من ناحية أخرى، فتمكّنتُ من قول الهجنة التي تسكنني. لذلك تعثر في كتاباتي اليوم [في تناولي لقضايا الحياة والموت والبداية والنهاية والمتعة والألم] عن مزيج غير متجانس بينها جميعا !
n قال بعضهم إنّ بنية نصّك "مدوّنة الاعترافات…" يعتريها شيء من التفكّك على ما في النص من طرافة فكرة وسلاسة لغة وثراء خطاب، بهذا المدى الفاصل بين زمن كتابة الرّواية وزمن قراءتك لها اليوم. هل ترى فيها هذا الرأي أم ترى أن كفاءة التلقّي ما تزال تنفر من الجديد الصادم وتأنس بالقديم المألوف ؟ ألا ترى معي أن الذائقة الرّوائية والإبداعية عموما تكشف عن ملامح الذهنية العربية الشرقية وعن آليات اشتغالها ؟
oo ليس القارئ مجبرا على "رأب الصدع" في البداية كنت أحمله ما لا يحتمل، فأقول إنه ينبغي أن يُسهم في كتابة الرّواية برأب الصدع، أو تصوّر النقائص وملئها. والحق أنني أميل اليوم للإلحاح على أن العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كان فعلا "عملا أول"، بما يتضمّنه ذلك من إشارات إلى البكارة والبداية واكتناز التجربة… لكنه أيضا كان عملا أول من حيث النقائص الكثيرة التي يتضمّنها. كنتُ أوحيتُ فيما سبق أنّ الاستناد إلى التراث بالنسبة إليّ يعود إلى سببين : أوّلهما تكويني وأثر والدي، وثانيهما اختيارٌ معقلن يقضي بوجوب الاستناد إلى التراث. حدث ذلك بإيجابياته وسلبياته. وهنالك مسألة يمكن أن تكون دالة هنا، وهي الاختلاف بين الثقيل المشرقي والتونسي. لقد نشرتُ في القاهرة رواية ومجموعتين قصصيّتين، ويمكن أن أقول أن القارئ المصري، أو قل المتأدب المصري، مطّلع على ما أكتب ويقبله قبولا عاديا، أمّا القارئ التونسي فيميّز بين التراثي في "المدوّنة" خاصة و"غير التراثي" مثلما ظهر في الأعمال اللاحقة.
إلى جانب خياراتي الأسلوبية أحيل على "أفق التقبّل"، أفق التقبّل في مصر – وفي المشرق عموما – يختلف عن أفق التقبل في تونس، خاصة أن أعمالي الأولى ظهرت مباشرة بعد انتشار "الأدب النضالي" الذي لا يعني بالنسبة إليّ أيّ شيء، بنضاليته الفجّة وانغماسه المبالغ فيه في الواقع اليومي المعيش.
n لنبقى مع اللاّئمين، فنذكر لك ما عابه عليك الدكتور مصطفى الكيلاني – بعدما أطنب في الإعجاب بالرّواية – من تجريد فيقول في مؤلّفه : "صلاح الدين بوجاه قد أعاد في هذه المحاولة الروائية طرح إشكالية اللغة الإبداعية في المجال الروائي والمسألة الحضارية معا في زمن نحتاج فيه إلى مثل هذا الطرح بغية إنشاء رواية عربية أصيلة حديثة، ولكنّنا نعيب على هذا الطرح طابعه التجريدي".
هل كنت قصدت ذلك التجريد حتى يكون عملك الإبداعي أفّاقا ومتحرّرا من حمولات الواقع وما يرشح به من إسفاف، أم أنّك كنت تسير في طريق كان قد بدأ تعبيدها المسعدي بأعماله الشهيرة ؟
oo هو بين هذا وذاك في الوقت نفسه. فقد سبق أن قلت إنّ ثقافتي الأولى تقليدية، مما جعل أمامي أفقا تقليديا لقول ما أريد أن أقول. قد يكون الأمر ناتجا عن توازن بين تلك الثقافة الأولى، وسعي إلى التحرر من القضايا اليومية التي تثقل الكائن. أما اليوم فأنا أميل إلى التعبير عن أوسع الرموز وأهمها وأبعدها غورا بأحداث إنسانية بسيطة تطبع الكائن. حياة الكائن مثقلة بها يُتيح الإحالة على الأبعد وأكثر ثراء والأعمق دلالة. في أدب محمود المسعدي نعثر أيضا على هذا الجوار الدال بين ما هو قريب وما هو بعيد، في أدبه يحدث وفاق عجيب بين بسائط الأمور وعظائمها. لهذا نعلن هاهنا أنه مرحلة هامة جدّا في تطوّر الأدب العربي عموما، رغم أنه لم يلقَ الشهرة العربية التي هو بها جدير. المسعدي مشهور جدا من حيث الأسهم، لكن القرّاء في المشرق قلّما اطّلعوا على أعماله. بعض النقّاد طالعوا نتفا من "السد" أو "حدّث أبو هريرة قال" والحق أنه ينبغي اليوم أن نعود إلى أدبه بالكثير من التمعّن على اعتباره مرحلة هامة جدا من مراحل تطور الأدب والفكر.
n يقول عز الدين المدني في كتابه التأسيسي "الأدب التجريبي" : "وما الأدب التجريبي إلاّ مرحلة مؤقّتة وانتقالية ستفضي إلى الأدب الكامل بعد اجتيازها". لماذا طالت هذه "المرحلة المؤقّتة" وطال انتظار هذا "الأدب الكامل "؟ وهل يمكن أن نتحدّث عن جمالية وفنية في العمل الإبداعي خارج سؤال التجريب وألعاب الإطاحة بالسائد ؟
oo مع احترامي للأديب الصديق عز الدين المدني لا أعتقد أنّ هنالك أدبا كاملا. الأدب تجريبي أبدا، أما الأدب الكامل فنسعى إليه ونتوق إليه دون أن يكون وجودا فعليا. "موريس بلانشو" يعبّر عن هذه الفكرة الرائعة للجزم بأن الأدب هو "ما نُقبل دوما على ابتداعه"، الأدب في حركته وتبدله وتطوره وتغيره. من قبيل التبسيط القول بوجود مرحلتين : مرحلة تجريبية مؤقتة، ومرحلة أخرى نهائية ودائمة. على العكس المرحلة التجريبية هي الدائمة عبر ترافد حلقاتها الكثيرة المتعاقبة. ولا أشكّ في أنّ أفضل نص ابتدعه عز الدين المدني هو قصة "الإنسان الصفر"، بمراحلها القديمة والجديدة المنشورة في "كتاب الأسئلة" لخالد النجار. لقد كانت هذه القصة القصيرة قصة رَحِمِيَّةً مكّنت الكثير من النصوص من أن تكون. لهذا أجد لها أثرا فيما أكتب وفيما يكتب إبراهيم الدرغوثي خاصة.
لقد سعت إلى تجريد الأشياء من قداستها، وإلى قول ما يعسر أن يُقال، أو قوله بطريقة أخرى مغايرة، فمثّلت منطلقا حقيقيا للكثير من عيون الأدب اللاحق، حتى "دار الباشا" لحسن نصر تتضمّن فصولا تذكّر بـ"الإنسان الصفر" لعز الدين المدني.
n وضعت عبارة "رواية تجريبية" عتبة تلقّي في "مدوّنة الاعترافات…" وغابت هذه العتبة عن بقية أعمالك الرّوائية رغم أن هاجس التجريب ظلّ يرافق النصوص. هل يعني هذا أنّ التجريب في النص الأوّل كان سؤالا مركزيا بينما تحوّل في النصوص اللاحقة إلى استراتيجية لطرح أسئلة أخرى قد تكون مضمونية ؟!!
oo إشارتك هذه ذكية جدا، إذ تلتقط سمات التجريب وتميّز الموجود منها في النص الأول لمقارنته ببقية النصوص الموالية. مثلما أشرت التجريب جزء من الاستراتيجيا المركزية في صلب النصوص الموالية، إنما لم يعد القضية الأساسية. أما الأسئلة الجديدة فمضمونية. لهذا يُمكن أن أقول إن العمل الأول أعلن إجمالا عن خيارات أسلوبية معيّنة، ثم تأتي الأعمال الموالية لتأكيدها مع تقديم فسحات غرضية مغايرة. فكأنّ الأعمال اللاحقة من قبيل دعم الأصل بإضافات جديدة. لهذا، ومن هذا المنظور أساسا، أقول أنها تنويعات جديدة تدعم الأصل وتُغنيه. أما الأسئلة الجديدة التي تتضمنها فقد سلف أن عبّر عنها محمد الغزّي إذ أعلن أنها أسئلة وجودية، في المعنى العام الواسع.
الأدب الذي يُثير المسائل الأساسية كالموت والحياة واللذة والألم هو الأدب الذي ينغرس في بنية الكائن للتعبير عن حرقته إزاء الاندهاش الأصيل الذي صاحب نزولنا من الجنّة. الطفولة هي جنّتنا الأولى، لهذا تبقى أعمالنا معبّرة عن فترة نزولنا من الطفولة نحو الكهولة والشيخوخة وتركنا ذلك العالم الأول الأثير الرائع العذب. هذا ما قاله الشابي وهذا، وهذا ما قاله المسعدي، والبشير خريف وعلي الدوعاجي… حتى لا نتحدث إلا عن تونس.
n يتواتر سؤال السبيل في روايات صلاح الدين بوجاه، هل يعيش المؤلّف أزمة الاتّجاه في زمن اندثرت فيه معالم الطريق أم هو سؤال المثقف في كل الأزمنة باعتباره توأم الاغتراب ونزيل غربة دائما وتلك ضريبة "الوعي الشقيّ" ؟!
oo أقول هو "سؤال الإنسان"، فعلا لا أميل إلى التمييز بين المثقّف وغير المثقّف، إنما أريد أن أجزم هاهنا بأنّ كلاّ منهما يعبّر عن المأساة الفعلية الأصيلة بكيفيته الخاصة. منذ النصوص القديمة التي التقطناها، منذ الكتب السماوية الأولى، وآثار الفراعنة، ومدوّنات السلالات البائدة… لم يقل الإنسان إلا فكرة واحدة في كل ما كتب : لقد فغرَ فاهُ ليصرخ : آهٍ كم هو رائع هذا الوجود، أه كم هو مروّح الموت، أي لماذا تأتي النهاية بسرعة ! تلك هي الجملة الواحدة التي كتبت فيها الآلاف المؤلفة من الصفحات، وأقبل كل أديب، وكل شاعر، وكل نحّات، وكل رسّام، وكل موسيقار للتعبير عن عمقها الكاوي بطريقته الخاصة. أما غير هذه الجملة فخواء لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع ! لذلك تجد الأدب الجيد مجرّد تنويع على هذا الأصل الواحد الذي يُعبر عن دهشة الكائن الفرد المعزول الأعزل إزاء الحقائق الكبرى في الوجود.
فجأة ننتبه إلا أننا لا نريد أن نقول شيئا، ولا نريد أن نعبّر عن شيء، قصارانا أن نعلن خيباتنا، وحدود أفعالنا، وسعة الفضاء الكوني الذي يشملنا !
n قرأنا في روايتك "السيرك" عن ظاهرة أكل لحم الكلب أو "غزال السطح" التي تنتشر في إحدى مناطق الجنوب التونسي والتي يُنكرها أهلها، رغم أن التيجاني سبق إلى تدوينها منذ قرون في رحلته الشهيرة. هل في ما ارتكبته شيء من نيّة فضح المسكوت عنه وما يجري في المناطق الخلفية لوجاهة الإنسان المتمدّن وما يعيشه من وحشية ونزعة إلى ارتكاب الممنوع والمحرّم ؟!
oo هي نزعة أثيرة عندي. أهدف إلى كشف المستور وإزاحة القداسة عن الواجهات الهشة التي كثيرا ما تخفي ممارسات شتى خفية، وعادة أكل الكلب من قبل الأفّاقين والمجرمين والسكارى عادة منتشرة في أكثر من جهة، لكن الناس يتستّرون عليها، على أنها من العادات المكروهة. وكم من عادات مكروهة تخفي الباقات المنشّاة والأفعال الموزونة. عادة أكل الكلب يشيع أنها كانت منتشرة في حي "الرحبة" في مدينة القيروان. وهذا الحي قد جمع الأفّاقين وباعة الحشيش والخمر منذ عصور… حتى أصبح أنموذجا واسعا للمسكوت عنه بكل أنواعه. المسكوت عنه، الجنسي والديني والسياسي أيضا من المسائل التي أصبو إلى الكشف عنها ويهتك أستارها. من هذا المنظور يبدو الروائي دارسا أنثروبولوجيا كاشفا منقّبا يُعرّي العورة ويهنك السرّ ويُفضي إلى النقيصة.
الكشف عن النقائص أيضا هدف أسمى يسعى إليه الكاتب، لأنّ وضع الإنسان إزاء ذاته، إزاء حقائقه الأولى البسيطة، هو من أهداف الرّوائي التي ينبغي أن يحتفظ بها ويقدّمها. هذه هي الأهداف التي أتشبّث بها ويعنيني أن أواصل العناية بها بكيفيات مختلفة فيما أكتب. الكتابة في ذاتها تنبع من نزعة نحو إتيان المحرّم، نزعة قصية في أعماق الكائن البشري عموما ! وهل أعتى من الكتابة في مجتمعاتنا هذه التي تعتبرها نسيا منسيا، بل عادة سرية مرذولة مكروهة !
n قرأنا في "السيرك" إصرارا على إقحام العامية التونسية من خلال مجموعة من الأسماء والأفعال عمدت إلى تفسيرها في ملحق/ذيل، هل كنت تختبر لغة المتداول اليومي أم كنت تريد الإيهام بالواقعيّة أم كان دافعك البحث عن تلك الأسلبة التي أعلنها باختين في تناوله للخطاب الرّوائي ؟!!
oo تلك هي الرّواية التي هتف بعد قراءتها الأستاذ بكار : "هذا أسلوب بوجاه !". أقول هذا لأنني فعلا سعيت إلى ترصيعها بألفاظ عامية لخدمة وظائفها السردية أولا، ولاستحضار معجم واقعي تونسي يتماشى خاصة ومعمار الرّواية. الرّواية تُبنى عبر الزقاق والسقيفة والمجالس والمقاصير والمستراقات، وهي جميعا تحيل على المعمار العربي القديم في البيوت القيروانية، وبيوت تونس بصورة عامة، وقد رغبت في اعتماد الكثير من "الأشياء" في تسمياتها العامية الدارجة بيننا تماديا في تصوير الواقع اليومي. ورغم ذلك انتبه "عُتاةُ القرّاء" إلى الأسلوب الخاص بي الكامن في تجاويفها والنابع من بنيتها السردية والملابس لأحداثها. أما مسألة إدراج ثبت يُفسّر العامية فمن اقتراح الأستاذ بكار. ذلك أن النص كان سيصدر ضمن سلسلة "عيون المعاصرة" مثل نص "النخّاس"، ووضع مقدمة له الأستاذ الصحبي العلاني، وطلب الأستاذ بكار بوضع "معجم" في آخره يشرح الألفاظ التونسية للقرّاء في المشرق العربي. لكن ظروف النشر شاءت بعد ذلك أن يصدر النص ضمن "منشورات دار الأدب" ببيروت، قبل أن أعيد نشره – على كاهل المؤلف – سنة 2002.
n لاحظنا غلبة الجمل الاسمية في روايتك "السيرك" والتي تفيد عادة السكون وانحسار الحركة وهو ما يتناقض مع دلالة العنوان الذي يحملنا إلى عوالم الحركة بامتياز. هل هذه المفارقة بين اللغة والمتخيّل من ناحية وبين العنوان والمتن من جهة أخرى من قبيل المراوغة أم المصادفة ؟
oo غلبة الجمل الاسمية… مجرّد صدفة غير مقصودة، إلى حدّ اللحظة لم أعد إلى النص للقيام بإحصاء غلبة هذا النوع أو ذاك من الجمل عليه. والحق أنني لا أحفل كثيرا بمثل هذه الملاحظات الأسلوبية أو أن الكتابة، لأنها مما يُرهق الرّوائي ويضع الأغلال في أقدامه. قد يكون من مهام النقاد أن ينتبهوا إلى مثل هذا، لكن حركة النص، ودلالات الشخصيات داخله، وأبعاده المعنوية تبقى حرة متحركة بعيدة عن هذا أو ذاك من التفسيرات التي تبقى مجرّد تأويلات.
n تمرّ بنا فصول روايتك من خلال عناوينها من الزقاق إلى السقيفة الأولى فالثانية ثم وسط الدار فالمجلس الكبير ثم المستراق مرورا بالمقصورة لتخرجنا من الخوخة. في هذه العنونة مبرّرات كثيرة لقراءات مختلفة ففيها إشارة إلى وعي الرّوائي بشعرية العنونة، وفيها معنى الاستضافة : استضافة القارئ، وفيها ما يحيل على جمالية المكان، فكأنك تؤثّث فصول الرّواية كما يؤثّث بيت عتيق، فأيّ هذه الدلالات كانت حاضرة في ذهن بوجاه وهو يضع عناوين الفصول ؟
oo الدلالة الأولى نابعة من إعجابي بـ"الدقلة في عراجينها" للبشير خريف. كنتُ أعتقدُ – ولا أزال – أنه قد تمكّن من ابتداع بنية رائعة بتقسيم روايته إلى شماريخ وعراجين، فرغبتُ في محاكاته بكيفية أخرى إذ عملتُ على استحضار بنية "البيت العربي" القديم بمختلف عناصر عمارته. وأعتقد أنني قد نجحت في لفت انتباه القارئ التونسي والمشرقي. فكثيرون هم الأصدقاء الذين لاحظوا ذلك وتساءلوا عن دلالاته ! لهذا أجزم معك أنها غاية جمالية تلك التي دفعتني إلى استحضار المعمار القديم المساوق للمضامين.

ايوب صابر 11-04-2014 09:53 AM

n تصرّ في خاتمة رواياتك أن تقحم إمضاءك فتغتال الرّاوي في عملك، هل كنت أنت المؤلف الذي يروي دائما أم أنّه يحزّ في نفسك أن تترك تلك العوالم الرّوائيّة لشخصيّة ورقيّة ؟
oo فعلا ملاحظتك طريفة جدا، والحق أنّ هذا التقليد حاضر في "المدوّنة" و"النخّاس" و"السيرك" و"التاج والخنجر والجسد". أستحضر اسمي مباشرة، أو بعض ألقابي الظاهرة أو الخفية، كأن أقول "أبو يُسر" وهي كبرى بناتي، أو "تاج الدين فرحات" تنويعا على "صلاح الدين بن فرحات" وهي لقبي الأصلي… إلى غير ذلك من "الرموز" المفضوحة الواضحة التي تصبو إلى الإحالة على المرجع الخارجي، وجعل النص "نسبيا" أي نسبيّ الانغلاق، أو الإحالة على ذاته. والأمر نابع من تصوّري للعلاقة بين النص والمرجع، فليس في كتابتي "سيرة ذاتية" بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن فيها يقينا نابعا من الجوار الدال. بين النص المكتوب والمرجع المحكي، حتى لأكنهما واحد. في ذلك تصور للفن الروائي الساعي إلى الانبثاق من الحياة والعائد إليها، ينبثق منها بإثارة أسئلتها الوجودية الكبرى، ويعود إليها للإلحاح على استفهاماتها الأصلية.
… ثمّ انتبهتُ بعد ذلك إلى أن الشاعر الزّاجل في قصائدنا العامية يُضمن اسمه للتباهي في نهاية "القسيم"، فاستطرفتُ ذلك حقّا !!
n لاحظنا في آخر أعمالك وفي "السرك" تحديدا أنّك تنزع إلى الوصف مستعملا لغة واقعيّة محايدة خلافا لعملك البكر الذي جاء مثقّلا بحضور كثيف للذات جعلها تقف منظّرة ملقية بحكمها ورؤاها. هل انحسار هذه الذّات الوجودية وانفجار الواقع ليعبّر عن نفسه في علاقة بانهيار الإيديولوجيّات والفلسفات اليوم ؟
oo قد أوافقك على "انهيار الأيديولوجيا وانحسار الواقع"، لكنّني أولا وآخرا أعيد الأمر إلى "العمل الأول" الذي افتتح به هذا الحديث. فالعمل الأول يقتضي منا أن نقول كل شيء، فكأنه يختزل، ويختزن، جميع الأعمال التي تعقبه، أما الأعمال الموالية فأقل ادّعاء، لذلك تكون أكثر صمتا، وأميل إلى الإيحاء دون جلبة أو ضجيج. فلنقل إن التفسير مزدوج إذن، هذا وذاك في الوقت نفسه، لكنّني أعود لأكرر الإشارة إلى أنّ الكاتب إذ يكتب لا يقصد إلى هذا الأمر أو ذاك، إنما من مهام الناقد فيما بعد أن يُعمل أدوات التأويل فيما بين يديه.
n تحدّث سعيد يقطين في حوار أجريناه معه عمّا سمّاه بـ"الرّواية التفاعليّة" التي استفادت من الثورة المعلوماتيّة. هل يعتقد بوجاه أنّ هذة الاستفادة كفيلة بأن تضمن للرّواية حداثتها، أم أنّ هذا التوظيف لا يعدو أن يكون صرعة فنيّة سرعان ما يعود بعدها الرّوائي إلى سحر المخطوط وجماليات البصري العتيق ؟
oo أنا من القائلين بأنّ "الإنسان بصدد التغير والتبدّل"، فعلا، الإنسان إذ يبتدع أدوات جديدة يدخل علاقات مغايرة، وبالتالي يُغيّر من ذاته، لهذا لا يمكنني اليوم أن أجزم بأن البقاء للمخطوط. إنّما يعنيني أن ألاحظ أن المسألة بالنسبة إليّ تعود إلى الاحتفاظ بالمكتوب، أما بالنسبة إلى غيري فمن يدري. أنا ممن يؤمنون بالقدرة التحريرية للكتابة الروائية التي تحتفظ لنفسها بمجالات الهدوء والصمت والتأمل والرويّة وإعمال العقل. هذه الجوانب هي الكفيلة بالإسهام في تحرير الإنسان، أما الجلبة فلا تغني ولا تسمن من جوع !
n شخصيّة "تاج الدين" – سيد الورق في روايتك "النخّاس" – فيها الكثير من صلاح الدين بوجاه. هل كنت تراوغ الرّوائي بالذاتي وتضفر الرّواية بالسيرة والمتخيّل بالواقعي في مؤلّفِك ؟!!
oo هي هباءات متمازجة، وفي الإمكان أن تعثر على إجابة على هذا السؤال طيّ الصفحات السابقة، تاج الدين فرحات هو صلاح الدين بوجاه، وهو جيل بكامله من أصحاب صلاح الدين بوجاه، لكنه مخلوق روائيّ نصيّ قد قُدَّ من كلمات. لذلك لا أميل إلى التأكيدات الخاوية الجازمة النهائية، إنما تستهويني الأجوبة المفتوحة غير المكتملة. ولا أعتقد أنّ "النخّاس" رواية سيرذاتية، رغم رغبة الرّاوي في الإيحاء بذلك. إنما هي تبنى – مثلما أسلفْتُ- على حوار أخّاذ بين الواقعي المرجعي والنصّي الصرف، لذلك تتردّد بين هذا وذاك. والحق أنّ ما يُنبئ فيها بالسيرذاتي يوجد في غيرها من رواياتي، بل من مجاميعي القصصيّة، لذلك أميل إلى تأكيد ما يمكن تأكيده بالنسبة إلى غيرها… فيها مزيج من نتفٍ وهباءات قد تذكّر بسيرتي لكنها تتجاوز سيرتي لتضرب بسهم في سيرة جيل بكامله، مدوّنة الاعترافات والأسرار كذلك، وبطلها الذي يختفي منذ الصفحة الأولى.
وكنتُ قُلتُ في ذلك الحين، إنه قد غاب، أو غُيِّبَ. وأعلن هاهنا أيضا أنّ "تاج الدين" في "النخّاس" هو أبو عمران سعيد في "المدوّنة" وهو الرّاوي في "التاج والخنجر والجسد"… وهو جميع هؤلاء الذين سيترددون على محاولاتي الرّوائية القادمة، له سماتهم وعلى لسانه شذراتٌ مما يقول، وفي ملامحه أيضا !!
n نواصل الحديث في هذه المسألة : "نصوصي تشبهني، فهي لا تحتيا في كنف العافية، إنما تقوم على مطلق الانشطار والخفّة… والبحث عن الجديد البعدي المبهج".
هذا الكلام لك، ومع ذلك تستدرك سريعا لتقول أنّك لم تقصد كتابة سيرتك ولا سيرة جيلك، وإن كانت الوجوه التي عرضتها في نصوصك تشبهك أو تشبههم.
هل فعلا يقدر الكاتب أن يحسم في ذلك الشبه أم أن المتلقّي هو الذي قد يعثر على ذلك الشبه بينك وبين تاج الدين مثلا لأن الكاتب قد يكتب تحت ثقل اللاوعي فتنسرب من بين أنامله حيواته وخلاياه وجيناتـه وهـو لا يعلم ؟!
هل تكتب وأنت على عرش وعيك أم أنه يحدث أن تراجع نصّا كنت قد كتبته فتغيب عنك دوافع ارتكابه ؟!!
oo فعلا، أنا لم أقصد إلى كتابة سيرة جيلي قصدا، لكن تلك السيرة تظهر من تجاويف الرّواية، تمدّ رأسها لتنظر من خلال شقوقها. وأجزم مجدّدا أنّ نصوصي تشبهني، وأنها مثلي لا تحيا في كنف العافية، إنما تتصادم ولا تترافد ! أقول إنّ هذا ينبع من بنيتها، وبنيات شخصياتها، لهذا فهي "لا تقول هذا" لكنّها "توحي به"، هذا هو لبّ المسألة. وأنا معك في أنّ الأمر يُترك ليحسم في شأنه المتلقّي بما يريد. وقصارى ما أقول هنا لا يعدو أن يكون تفسيرا واحدا من بين تفسيرات شتّى كثيرة يمكن أن تصيب، كما يمكن ألاّ تصيب ! وأشير هاهنا إلى أنّني أكتب نصوصي دفعة واحدة، ولا أعود إليها.
النص الوحيد الذي كتبتُه على مرحلتين، الأولى تفصلها على الثانية سنة كاملة، ثم عدتُ إليه لأتناوله بالكتابة مجددا… حتى تجلّى ذلك في بنيته وترجيعاته… هو "التاج والخنجر والجسد" أما بقية الأعمال فكتبت مرة واحدة، بل دفعة واحدة !
n تقول في الشهادة الأردنية (عمان عدد 101) إنّك اكتشفت أخيرا أنك لا تتوق إلى قول شيء بعينه. وإنّه كل همّك الآن هو معالجة فوضاك ومخاتلته زمنك وقرنت ذلك الشعور بمسألة الكتابة والخوف والحرية ؟
أولا : هل يعني هذا أنّ مقولة رسالة الكاتب (الحضارية) مقولة بائدة وليس عليه أن يكون لا مصلحا ولا مساهما في ثورة أو تحوّلات اجتماعية وكل ما عليه أن يلتفت إلى وجهة ؟!
ثانيا : لنتوسّع في الحديث عن الخوف والحريّة، ألا يحتاج الكاتب أحيانا ذلك الشعور بالخوف ليكتب كتابة مختلفة. ألا ترى في الخوف أو القمع منافع أدبية جمّة فبحضوره يمكن للكاتب أن يخلق أدوات جديدة فتحمله بعيدا عن المباشرة الفجّة التي قد توقعه فيها الحريّة ؟!
oo قلتُ ذلك الكلام لأن الكاتب في بداية تجربته يسعى إلى أن يُعلن عن مواقف، أما حين تتقدّم به السنوات فيُصبح أقلّ وثوقا، وأكثر تواضعًا… حتى أنه يكاد أن يعتبر الصمت أفضل من النطق ! لهذا أقول إنّ منتهى ما أصبو إليه هو أن أخاتل زمني وأعالج فوضاي. أما الخوف الذي أشرتُ إليه فخوف فعلي في بداية حياتي، نابع من مجاورة "الجان" في اعتقادات الطفولة ومجاورة الموتى في فناء الولي الصالح، حيث كان الأجداد قد اتّخذوا الفضاء مقبرة يدفنون فيها موتاهم. أمّا بعد تقدّم السن، فلقد أصبح الخوف سبيلا إلى الحرية. في هذا المستوى أوافقك على اعتبار أنّ الكاتب فعلا يحتاج ذلك الخوف لكتابة روايات أكثر إيحاء، وأقدر على الاستشراف. خشية الانفضاح تجوّد أدوات الكتابة عندنا، وتندرج ضمن المستقبل. استشراف المستقبل هو الضامن لوجود كتابة تحترم ذاتها. لكن الكتابة الأجدى تبقى – رغم كل هذا – جهادا ضدّ الضغط والظلم والخوف… جهادا في سبيل الحرية.
n يمثّل الفنتاستيكي رافدا من روافد تجربتك، فهل هو ناتج عن انغماسك في المدوّنة التراثية أم عن قراءاتك لأدب أمريكا اللاتينية… أم هي طفولتك القرويّة القيروانية بين الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت، أم كل هذا مجتمعا. نريد قليلا من البوح والتجلّي في علاقتك بالسحري والعجائبي واللامعقول ؟
oo أجواء باهرة هذه التي يحيل عليها سؤالك، تفتح مجالا رحبا لتمثل "الأدب". وهل "الأدب" بصفة عامة إلا ذلك الانغماس المبهج في "ألف ليلة وليلة" التي على إيقاعها تمضي طفولة الفتى في مدننا القديمة، وعلى إيقاع ما نُسج على غرارها من "صور متحركة" و"ألبومات مصورة" تمضي طفولة الفتيان شرقا وغربا. لهذا ليس من العسير اليوم أن نهتف أن "الأدب" هو ذلك البراح الفاتن الذي عليه تنفتح ألف كوّة من كوى الطفولة والشباب. الأدب الفنتاستيكي أوسع من أن يُضبط في رواية أمريكا اللاتينية، أو أجواء الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت.
علاقتي بالسحري واللامعقول تعود إلى أغوار خفية في تركيبة طفولتي، إلى أشياء صغيرة جدا تواريها أمي في حقق من العاج والمعدن والخشب، بعضها معلوم وأكثرها غير معلوم، إلى اعتقادها أنّ كائنات عجيبة تشاركنا حياتنا وتملأ أركان غرفنا ومقاصيرنا، إلى حكايات العمة الوافدة من أعماق القص الشرقي، إلى ليالي الشتاء الطويلة الصامتة تلف خيالنا بألف ملاءة من بيارق ملوّنة وبخور لذيذ، إلى "زيارة" أولياء الله الصالحين تفعمها الشموع… إلى رائحة الدم في أضاحي المساء البعيدة، حيث تولد الحكايات من كمّ فرحنا وخوفنا وتوقنا إلى الجديد الرائق.
هل أقول يا أخي كمال إنّ الأصل هو العجيب، وإنّ كل ما عداه ثانوي واستثنائي وطارئ. أوَدُّ ههُنا أن أجزم بأن الذائقة الغالبة على إدراكنا للرواية اليوم هي الذائقة "الفرنسية المدرسية" التي قنّنت الرّواية وضبطتها وجعلت منها ما يُعرف بين جمهور النقّاد بأنموذج "القص الكلاسيكي"، كأنما جاء وقت قد تمحّضت فيه نواميس بعينها للتعبير عن جنس بعينه واضح الملامح، جليّ العلامات، والحقّ أن هذه القوانين الكلاسيكية لا تعدو أن تكون رافدا من روافد القصّ موصولة بمحور بعينه من محاور الرّواية في العالم. وفي إمكاننا أن نشير على وجه الدقّة والتحديد إلى أنّ الرّواية الفرنسية هي التي أورثت العالم هذا الإدراك بتمحيضها رافدا بعينه من روافدها واعتباره الأصل والمحور، واعتبار كل ما عداه فرعيا طارئا غير أصيل. والواقع أن توسيع دائرة الإدراك سرعان ما يُنبئنا عن فضاءات روائيّة أخرى كثيرة منها الرّواية الإسبانية خاصّة، والرّواية الألمانية، وقد لبثتا منفتحتين على مستنداتهما المشرقية انفتاحا ذكيا جدا، ومنها المستندات العربية، والفارسية والهندية والإفريقية.
ولقد عملت على تطوير ذلك الموروث الثري وإعادة تأمّله فتيسر لها الكثير من الغِنى والطرافة وتوطّدت قدرتها على استدراج آليّات مشرقيّة بالغة الأهمية، منها خاصة آلية الشعر الصوفي، وما يُتيحه من عروج على مقامات بهيّة غير معلومة.
عن الرّواية الإسبانية أو أكاد أقول الإسبانية/العربية القديمة) تولّدت الرّواية الأمريكية الجنوبية، بمختلف نماذجها، هذه التي أضحت اليوم دُرجة أدبية في العالم. والحق أنّني قد اطّلعتُ عليها اطّلاعا واسعا في السنوات العشر الأخيرة، إذ كنتُ قد لبثتُ أسير النظرة الطاغية القديمة… رغم إيماني الثابت بوجوب تطعيمها بموروثنا الشخصي الأمومي الدراويشي التراثي القريب قصد تطويرها وإغنائها بالجديد. لهذا أذكر مجدّدا "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" و"المسخ" لكافكا و"ذئب البراري" لهرمان هسه… قبل أن أذكر أيّة رواية أخرى !
n وصف الأستاذ محمد الغزّي روايتك "النخاس" بأنّها "بالأدب الملحمي أوثق صلة"، هل يعني هذا أنّ الرواية انعطفت على سابقتها "الملحمة" لتتشرّب منها ؟ هل يعني هذا أن الرواية تُقبل على إحياء الملحمة التي كانت المتهم الأول في إراقة دمها ؟!
oo لقد غدا مقرّرا الآن أنّ الرّواية جنس "أَكُول"، يتغذّى على الأجناس الأخرى، فيقتات من الشعر، والملحمة والقصة القصيرة والموّال والعروبي والخرافة والأسطورة، يستحوذ على فضاءاتها، حتى يكون – مثلما أثْبَتُّ يوما ما – مثل النواسخ التي تدخل على المبتدإ فيكون اسمها وعلى الخبر فيكون خبرها. الرواية بهذا الفهم تُحدث تشويشا في النظام القائم، نظام الوجود، لتعويضه بنظامها المبتدع.
على هذه الشاكلة فهمتُ الكتابة الرّوائيّة، وأمارسها اليوم، وضمن هذا الإدراك أفهم قول الصديق الشاعر محمد الغزّي "إنّ النخّاس بالأدب الملحمي أوثق رحما". والواقع أنني لم أكتبها لغاية معيّنة أو ضمْن هدف بعينه… إنّما كان قصارى ما رغبتُ في إنشائه لا يعدو أن يكون نصّا يستلهم التراث العربي والرواية الحديثة في الوقت نفسه. المأزق الحقيقي الذي انبثقت منه كتابتي يكمن في برزخ اللقاء بين الوهم والحقيقة. كل ما حولي في طفولتي يعلن عن نفسي العقل، خاصة في رحاب الولي الصالح سيدي فرحات ورحاب الصحابي الجليل أبي زمعة البلوي، بينما الدُرجة العربية في السبعينات خاصة كانت تتمثّل في التشبّث بالعقل لدى النخب المثقفة على الأقل.
مع مدونة "كافكا" انتبهتُ إلى إمكان التعبير عن المتناقضات، قول العقول والحدس والعجيب في الوقت نفسه، هذا هو اليقين الذي نحن في حاجة إليه الآن، أن نكون في مكانين في وقت واحد، أو قل أن نكون في المكان وخارج المكان، هذا هو إيقاع العصر، وليس في إمكان الرّواية العربية إحداث إضافتها الكونية اليوم إلاّ بتجاوز المنطق الأحادي، والجد المبالغ فيه وارتياد مجاهل الوهم والعجيب واللامعقول. ليس لدينا مدوّنة فلسفية نستند إليها، كل ما هنالك نُبذٌ من شتات غير واضح من الرؤى التي يمتزج فيها الكياني الأصيل بالسياسي المتغير السريع غير الثابت لا سلاح لنا اليوم غير التناقض، والتهكّم، والعجيب. بهذا قد نتمكّن من رصد واقع عربي متناقض عجيب غير معقول، واقع لا نملك فيه شيئا، ولا نتحكّم فيه.
الرّواية التقليدية تتصوّر أنّ الكاتب ذات قوة فاعلة قادرة على التغيير، والحقّ أنّ قصارى ما تتوق الرّواية إلى تسجيله لا يعدو أن يكون تأكيد عجزها وعجز شخصياتها، وعجز الرّوائي عن الفعل.
المنفذ الوحيد للنجاة اليوم من مخلب الواقع المرير يكمن في السخرية منه، فلا مستندات فلسفية عربية واضحة اليوم، ولا مستندات فلسفية غريبة يُمكن أن تعبر عن الواقع العربي العجيب. لهذا فإنّنا نعلن أنّ رواية قائمة على التناقض هي الأقدر على التعبير على همومنا الكثيرة الطاغية. ضمن هذا الأفق ندرك قولة الغزي أنّ الرواية لدى بوجاه تتوق إلى الملحمة !

ايوب صابر 11-04-2014 10:03 AM

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين

- "من جبل تبدو نابلس كانون نار، والمصابيح تتألف كحبات الدق، لكن العتمة والآهات ونداءات الشباب. وحسام المصادر أين ينام؟ يجئ مع شقشقات الفجر وآذان الصبح ينقر شباك العلية ويقول وهو ما زال خلف القواطع: "صباح الخير عمتي". يسعد صباحك ويطلق جناحك ويجعل نهارك نور وسرور. فوق يا عمتي فوق، فوق خدلك غفوة". وتقوم من فراشها فيندس فيه، وينام حتى قبل الظهر. وذات مرة جاءها برفيق له، وكان جائعين كالقطط الضالة، فأكلا الخبزات واستقرضت المزيد. وبعدها بأيام جاءها بالرفيق نفسه وفي صدره صلية دمدم. ومات الشاب بين يديها وحسام يبكي في العتمة وقف على السطح وصفر، فجاءوا كالجن من الليل حملوه ودفنوه في لحظات دون أن تعلم أمه، وحين حملت لها الخبر المشؤوم صاحت بجنون: ابني لحالي؟ ابني وابنك، أنت سحبتيه! وتذكرت. بلى والله، فهي من قصت سرته، وهي من تلقت بشارته، وهي من حملته يوم طهوره، واليوم، هي من تسمح دمعته الأخيرة، وتذكرة عينيه الغائمتين ورائحة عرقه، مات وهو يحلم بحمام ساخن، ودفنوه بعرقه ورائحة الأصطيل والتبن العالق في شعره. صامت الولادة فهرعت إليها. وأطل الرأس ثم غاب فنامت وبرد الطلق وتراجع وخافت أن يبرد أكثر، فصاحت فيها تصيحها: عيني ولدك يا مستورة، عيني ولدك!" من واقع معاناة شعب فلسطين ومن جراحهم المذبحة بالدماء، تلتقط سحر خليفة صور روايتها هذه "باب الساحة" لتروي للعرب وبأسلوبها المعبر البسيط مشاهد تحدث كل يوم خلف هذا الباب الكبير الذي هو صورة لأبواب أخرى تخفي خلفها نفس المعاناة في فلسطين. في حي من أحياء نابلس شرح الكاتبة بقلمها لتلتقط صورها من كل البيوت، ولترسم وعبر شخصية "الداية زكية" وبيراعها ما يحدث من تخريب في بيوت نابلس وحرق ودمار على يد أصحاب العلم ذا اللونين الأزرق والأبيض وهي بما ترسم لم تنسى التوقف عند واقع المرأة الفلسطينية المتدهور محاولة المقارنة بين حالها اليوم بعد الانتفاضة وحالها قبل ذلك أيام العز حيث لم يكن للدمعة في عيونها طريق ولا للخوف في ملامحها تعبير.


- "وناولها ثاني قصيدة، فتحتها، قرأتها، وطوتها ثم ابتسمت. سألها بخوف: ألا تعجبك؟ قالت: لا بأس، أحسن من الأولى، ولكن بعد؟ "بعد، وماذا بعد؟" قالت: "بعد صغيرة؟" من هي الأولى أم الثانية؟ قالت بعتاب: "بل الفكرة. يا ابني يا شاطر في الأولى أنا كنت الأم، والآن، أنا كنت الأرض، وغداً، طبعاً، أكون الرمز، اصح يا شاطر، أنا لست الأم، ولست الأرض ولست الرمز، أنا إنسانة. آكل أشرب أحلم أخطئ أضيع أموج وأتعذب وأناجي الريح. أنا لست الرمز، أنا المرأة." قال بإحساس: "بل أنت سحاب." ضحكت بكل نواجذها وهمست بجبين مرفوع: وأنت المشتاق للآفاق".

- وبدأ يلاحقها كالمسعور. يذهب يوميا إلى المكتبة، يقرأ، يحلم، يصغ، وينام، ويقرأ ثانية ويفكر. وتمر الأيام ولا تحضر. ثم تحضر فجأة. بدون نظام. ومعظم المرات تجيء بعد انصراف المدارس عند الظهر. ويلمحها من وراء الزجاج تتقمز بالكعب العالي واللبس الأنيق. القوام الممشوق كالخيزران والتنانير الضيقة والواسعة، وسترات صيفية تعطيها مظهرها الرياضي الأنيق. تقف على "الكاونتر" لتعيد الكتب ثم تمشي وتطقطق فوق البلاط وتغيب طويلا بين الرفوف.

- وبدأ يتجسس عليها. الاسم، التخصص، مكان الدراسة، اسم الوالد واسم العائلة. أبوها نجار "مستور،" أخوتها ما زالوا صغارا، فهي الكبرى، تدرس العلوم والأحياء، تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن نالت منحة. كانت من العشرة الأوائل. فهي أذن ذات عقل وفهم. الجامعة الأميركية والأحياء؟ يا رب السماء! فليقرأ أذن كتب العالم.
وماذا تقرأ؟ أدب، فلسفة وسياسة، علوم تاريخ وسياسة، اقتصاد، شعر وسياسة، سياسة، سياسة. فليقرأ إذن كل هذا وذاك، وليسمع ويناقش ويتسيّس.
الآن وهو يذكر أصل السياسة في ماضيه البعيد، يقر بالاعتراف الخطير، فلولاها ما عرف السياسة بهذا العمق. لكان تذوقها ككل الناس: مجرد واقع، واحتلال وبؤس وثورة تجيء من الطرف الآخر عبر الأردن.
حين سمع صوتها أول مرة كان قد كبر كثيرا. مرت سنتان أو أكثر وهو يتابعها في الأحلام والكتب المستعارة والمكتبة. كان قد اجتاز التوجيهي وقدم أوراقه "للنجاح" (*). وحينذاك اعتقل صدفة. سجن إداري ككل الشباب، ومن بعدها انكسر الخوف. ما عاد يخاف من سلطة أبيه. ما عاد يقف بالصف على الدرج ويقول بذل حزين: "مسا الخير يابا." ما عاد يخجل من النظر مباشرة في عين البنات. ما عاد يشعر أن النظر خيانة. وأهم من هذا وذاك، ما عاد مقتنعا بهذا الحب، الحب من طرف واحد، حب الأحلام، حب يجيء من الصفحات والرغبة المكبوتة في الأعماق، والعقل الواعي صمام الأمان. بدأت قراءاته تجدي. الآن يفهم ما يقرأ، ويحلل ويعلل ويتأمل. وقل المكوث على السطح بين "الروبابيكيا" والأجراس. وكثرت زياراته لباب الساحة وخان التجار. وانتمى لأول تنظيم ثم اعتقل. ثلاثة أشهر ثم "النجاح." ثم التنظيم الثاني، ثم سنة وصف خرج بعدها وقد اشتد عودا، يفهم ويعرف ماذا يريد، ويريد أبدا أن يعرف.
ورآها في معرض للكتب. اللباس الأنيق نفسه والكعب العالي والقد الملفوف. ما زالت حلما، والقلب يخفق بهدوء مشوب. اقترب من الطاولة حيث تقف وهي تقلب كتابا جديدا. قال بتحد: "أي بلد هذه؟ خمس سنوات أو أكثر وأنا أعرفك ولا أعرفك."
التفتت بسرعة واضطرت لرفع عينيها. كان قد بات طويلا، أطول منها. التقت عيناها بعينيه. همست بصوت عريض أبح بطيء: "ما عدت تدمع." قال بهدوء موقوت: "كبرت." هزت رأسها وابتسمت بفهم "واضح. واضح."
أي عنف هذا؟ هذا هو الحب الأول، بل أول حب وآخر حب. في حبها اختلط الحنان بقدح الرأس ورعش البدن. الشمس أصفى مما هي، والأرض أغنى مما هي، والبلد القديمة كالأحلام. يسير في حي القصبة، يهوم بين الأبنية القديمة والأقواس والكليل العريض ورائحة السيرج والجفت الحار والخبز الساخن وشي الكباب وقزحة وسماق ومناقيش زعتر وقينر وحلاوة طحينية وجوزة الطيب. بهارات العالم في شوالات، وبصيص النور في كوات، ونجوم مذهبة في المسجد، وسقف الخان وفوق القباب.
والآن ما عاد يستمتع بمواجهة أبيه. ما أن يرى السيارة مدبرة في الطريق حتى يقفز السور ويدفع الباب ويدخل، ويجلس في إحدى الشرفات الزجاجية ويمد ساقيه ويسرح. ومن خلال الزجاج تتسلل شمس الخريف حاملة دفء العالم وإشراقه.
من أين لهذه المدينة كل هذا السنى؟ وامتداد الأفق الغربي يملأ الضباب. وفي الأمسيات البعيدة يغدو الغروب أثيرا يحلحل عقد المفاصل. ويقف منتشيا على سطح الدار يشم الشذى ورائحة الأرض ويحلم بالوصول إلى ابعد نقطة، حيث الخلود وأسواق الروح القصوى، والحب الشامل الوجود كله.
تلال زواتا وقمة روبين وانحدار البطاح لقرص الشمس وحب فتاة عيناها أجنحة الشفق وريش السنونو وذهب السنابل. كانت المرأة صورة، وما زالت، كرمز الأرض. أو أن الأرض هي المرأة. لكن الأرض ما عادت حلم الأحلام. الآن وقد دفع الثمن الغالي يعرف كيف يموت المرء على صخرة أو جحر مهجور كابن آوى. ولولا الروح وإيمان القلب لكفر، وكفر بكل الناس. لكن الناس هم المعبد، هم القبلة، وهم اللازمة لكل صلاة. فبدونهم ما طعم الأرض؟ ما طعم الروح ومعنى الوطن؟


مقطع من رواية باب الساحة لسحر خليفة.
الناشر دار الآداب، لبنان (1999). الطبعة الثانية. ص 53-56=

ايوب صابر 11-04-2014 11:42 AM

تابع ,,,,,والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين

- نشرت الروائية سحر خليفة روايتها باب الساحة عام 1990 وأعادت طباعتها للمرة الثانية عام 1999م .

-في هذه الرواية المتوسطة الحجم ، أطلقت الروائية العنان لمخيلتها فخلقت مجموعة من النساء تتظافر العوامل فتجمعهن في بيت واحد، وعلى اختلاف أولئك النسوة وتمايز كل واحدة في تفكيرها ومستواها الثقافي إلا أنهن ينجحن في إزالة سياج شائك مترس بالإسمنت بطريقة ذكية طالعتنا عليها الروائية .

- تدور أحداث الرواية في منطقة ( باب الساحة ) في نابلس إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتتعرض بكل جرأة لما أصاب المجتمع الفلسطيني من عدم الثقة بالآخر إلى أن وصل الأمر حد إعدام إحدى نساء باب الساحة للاشتباه بتعاملها مع العدو وجفاء جميع سكان الساحة لابنتها " نزهة " ليس لشيء بل لاعتقادهم بالمثل :" طب الجرة على ثمها بتطلع البنت لإمها "

- ولا تتوانى نزهة في هذه الرواية عن إكالة الشتائم لفلسطين إلى حد أني خفت على كاتبتها من أشباه النقاد فيصبح مصيرها عند البعض مشبوهاً فتغدو كوليمة حيدر حيدر !!

- تطالعنا الكاتبة في صفحة 211عمّا قد يقوله إنسان ما في لحظة ضعف وتخلي الجميع عنه ما جاء على لسان الشخصية الأكثر حضوراً وغموضاً في الرواية " نزهة " المشبوهة من قبل الجميع ...:

- الحقيقة إن سحر خليفة في روايتها قد نجحت في رسم معالم المجتمع الفلسطيني إبان الانتفاضة الأولى متمثلاً بالضعف الإنساني ، والخوف من كلام الناس ، وسطوة الأب ، والذكورية المفرطة لهذا المجتمع .


-في عملها الروائي تعبر سحر خليفة عن إيمانها العميق بأن وعي المرأة النسوي هو جزء لا يتجزأ من وعيها السياسي،

-وهي ترينا في رواياتها، وبأسلوب فني مقنع، أن نضال المرأة الفلسطينية والمحن التي تمر بها هي جزء من النضال السياسي الفلسطيني العام من أجل التحرير.

- أسلوبها الروائي حساس
- ومقتصد
- وشفاف؛

- ورغم أنها تكتب بالعربية الفصيحة، فإن لها قدرة عجيبة على استعارة العامية الفلسطينية وتعبيراتها الدارجة عندما يقتضي حال الحوار في الرواية.



ايوب صابر 11-04-2014 11:58 AM


تابع ,,,,,والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين



- نجحت سحر خليفة منذ روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" الصادرة عام 1974 أن تشدّ إليها اهتمام القراء والنقّاد وأن تُرسّخ وجودها على الساحة الأدبية.

- وبصدور روايتيها الصبار(1976) وعبّاد الشمس (1980) وتصويرها لوضع ومعاناة الانسان الفلسطيني تحت نير الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ حزيران 1967 فرضت سحر على نفسها التزام هموم شعبها وتصوير حياته اليومية وما فيها من تعقدات وتشابكات خاصة بكل ما يتعلق بوضع المرأة وعلاقتها بالرجل،

- وبالمقابل في مرافقة نضال الناس في مواجهتهم لاحتلال الأرض وظلم الانسان.

- حتى باتت سحر تُؤطّر بين ثنائيتين هما : المرأة في مواجهة الرجل. والانسان الفلسطيني في مواجهة جندي الاحتلال.

-هاتان الثنائيتان المترافقتان والمتلازمتان في معظم رواياتها حتى أصبح من الصعب الفصل ما بين النضال ضدّ المحتل الغريب والنضال ضدّ ظلم الرجل والمجتمع للمرأة، والاقتناع أنّ تحرّر الوطن من رَبَقة الاحتلال لا يكون كاملا وناجحا إذا لم يُرافقه تحرّر المرأة من قيود المجتمع والرجل.

- لقد عايَشت سحر خليفة الناسَ وعانت ما عانوا وآمنت لفترة من الزمن أن ظروف الاحتلال والمقاومة قد تصقل المجتمع الفلسطيني وتأتي بشعب جديد عركته النضالات ووحدته الأهداف ومحت الفوارق بين فئاته ووضعت المرأة في مكانة واحدة مع الرجل لأنها كانت مرافقته وساعده الايمن، وفي كثير من الحالات المتقدّمة عليه ورأس الحربة في مواجهة المحتل،

- هكذا آمنت سحر ورسمت في روايتيها "الصبار و عبّاد الشمس" وهذا ما عملت على تحقيقه وفَرضه في حياتها اليومية والجامعية حيث نشطت في مختلف المجالات وكانت صاحبة الصوت القويّ والحضور الملموس

- لكنّ خيبة أمل سحر خليفة كانت كبيرة وهي ترى أنّ سنوات الاحتلال العجاف التي زادت على العقد والنصف لم تُحقّق الذي أمِلته، وظلّ المجتمعُ الفلسطيني بكل موراثاته القديمة هو الضاغط، والرجل الذي أمِلت، من خلال مرافقتها له في الحياة النضالية والمَعيشية اليومية، أن يكون قد تغيّر وتبدّل وتفهمّ لأهمية دورها، ظلّ هو الرجل الذي لم تُغيّره الشهادات التي يُعلّقها على الحائط ولا ما تفرضه عليه ظروف الاحتلال وما فيها من إهانة وإذلال واحتقار وإلغاء لعنجهيتة الجوفاء.

- وزاد من حزن وثورة سحر ما ألمّ بالفلسطيني، وبالتحديد بالمرأة الفلسطينية في لبنان وما وصلها من أخبار المجازر التي تجاوزت كلّ حدود اللامعقول والخيال في مخيّمي صبرا وشاتيلا.

- هذه الخيبات المتتالية كانت ثمرتها رواية سحر خليفة الجديدة "مذكرات امرأة غير واقعية" التي صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 1986

- تروي في هذه الرواية قصة فتاة باسم عفاف ولدت زمن الحكم الأردني في مدينة من مدن الضفة لأسرة ميسورة الحال، والدها يعمل مفتشا مما أكسبه وأهلَ بيته مكانة وهيبة بين الناس. ما أزعج عفاف منذ صغرها هذا الانحياز الكلي للولد الذكر على حساب البنت، فكل ما يعمله مغفور ومقبول، بينما البنت مرفوضة ومقيدة ولا حقوق لها. وهذا ما دفع عفاف لمحاولة إلغاء هويتها بالتظاهر والتصرّف كالولد الذكر مما أثار عليها انتقادات الأهل وجعلها ترفض وتتحدّى وتثور. وأخذت تصادق زميلاتها من الأسر الفقيرة وتلعب مع أولاد في سنها رغم تحذيرات أمها ومنعها من ذلك. تكبر عفاف وهي تعمل على كسر تابو الذكر، فارضة وجودها ومثيرة انتباه الكلّ، غير آبهة بالانتقادات والتحذيرات والأوامر. في المدرسة، بعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة، تُصادق زميلة باسم نوال منظمَة حزبيا ومناضلة في الحزب الشيوعي، تقوم بتوزيع المناشير الداعية للفكر الاشتراكي والرافضة للاحتلال. لكنها تظل في نقاش حادّ مع نوال حول مَن يأتي في المرتبة الأولى من الأهمية: العمل على تحرّر المرأة من ظلم الرجل والمجتمع كما ترى عفاف، أو العمل على تحرير الوطن من المحتل أوّلا كما ترى نوال.!؟ وتفشل الواحدة في اقناع الثانية ويظلّ السجال بينهما.
ويحدث أن يضبط والدها في دفترها ورقة كتبها لها فتى تعرفه يُصارحها بحبّه لها، فتثور ثائرة الأب والعائلة وتُزوّج عفاف من تاجر موسر يعمل في إحدى الدول الخليجية ، وهناك تعيش في بيت وحيدة طوال ساعات اليوم لا تكلم أو تُجالس أحدا، تضيق بزوجها الذي أرغمت على الزواج منه وفَشل في كسب ودّها، وكرهت أن تلدَ له ولدا فعملت على اسقاط الحَمل مما تسبّب بمضاعفات خطيرة أدّت إلى استئصال الرحم وعقمها وجعل حياتها خاوية لا أمل لها فيها، فزوجها، انتقاما منها، لا يقبل طلبها بالطلاق، ويهملها ويعيش حياة ليلية صاخبة حيث يعود إليها ساعات الليل المتأخرة ليزيد عذابها باهانتها وضرب قطتها المؤنسة الوحيدة لها في غربتها، وتفشل عفاف في كل محاولاتها حتى نجحت أخيرا في إقناعه بالسماح لها بزيارة الأهل في الوطن ولكنه يتركها تعود وحيدة بينما هو يختار الدول الأوروبية ليسافر إليها . في عمان تلتقي عفاف صديقة صباها نوال التي تعمل الآن في مصرف، وتكشف لها نوال عن زيف صديقها الثوري الذي أحبته وبادلته الحب والأحلام والعمل النضالي، لكنه رفض الزواج منها مفضلا ابنة عمه عليها. وكذلك تلتقي عفاف بفتى أحلامها الذي كتب لها كلمات الحب وسبّب في زواجها وحياتها التعيسة، واكتشفت أنه لا يختلف عن أي رجل فهو يريدها عشيقة له بينما يصرّ على الابقاء على زوجته والحفاظ على أولاده وبيته مما صدمها وجعلها تبتعد عنه وتتركه وتتابع سفرها إلى أهلها في الضفة الغربية. وتُصدَم مما ترى وتجد، البيت البارد الخالي من أهله إلاّ الأم الوحيدة التي تعاني من الإهمال والوحدة بعد موت الزوج، والإخوة المشغول كل منهم بمشاغله وهمومه الخاصة، جلسات النساء المملة والنابشة في اعراض الغير، وجو الخمول والاستسلام والعجز الذي يعيشه الناس في ظل الاحتلال مما دفع بالعديد للقبول بالواقع المرّ أو الهجرة وترك الوطن.

- كل شيء صدمها في الوطن، المدينة ليست المدينة، وبيت الأهل ليس الذي عرفته، غريبة هي في بيتها ووسط ناسها، ليس لها وجود، حتى صورة العائلة المعلّقة على الحائط لا وجود لها فيها. حياة الناس هي هي، لم يتغيّر شيء، نفس الكلام. نفس الأفكار، ولا يبقى أمامها إلاّ أن تتخذ القرار الصعب، ولكنه الوحيد، بالعودة إلى زوجها والاستسلام للحياة التي فُرضَت عليها.

- تبدو القصّة للقارىء عاديّة في موضوعها لا تختلف عن روايات عديدة قرأها، لكن القارىء نفسه قد يستغرب ويتساءل عندما يعرف أنّ الكاتبة فلسطينية والرواية تحكي قصة أسرة فلسطينية وتعكس واقع وفكر مجتمع فلسطيني يرزح تحت نير الاحتلال ولا يزال. والأكثر إثارة للتساؤل أنّ القارىء لم يلمس أثر الاحتلال القوي على سير الأحداث وحركات الشخصيات وواقع الحياة اليومي!!

- لعلّ الكاتبة سحر خليفة قصدت ذلك، وأرادت أن ترفع صرختها عاليا لتُنبّه الجميع إلى ما آل إليه الوضع في الأراضي المحتلة، وكيف أن احتلالا كهذا الواقع ، والسنوات الطويلة التي انقضت لم تفعل فعلها وتعمل على تغيير بنية ومفاهيم وأفكار أبناء هذا المجتمع. لعلّ سحر أرادت أن تقول: إنّ مجتمعا يحتقر المرأة ويستهين بها ويهمشها لن يكون مجتمعا قادرا على نيل حريته واستقلاله.
- ولعلّ النقّاد من جهتهم تبنوا الموقف الثاني وهو أن تحرير الوطن هو الأهم وكلّ القضايا الأخرى يمكن تاجيلها وحلّها فيما بعد، وهذا ما دفعهم إلى عدم الاهتمام بالرواية وتناولها بالتحليل والنقد، خاصّة وأن الانتفاضة انفجرت في الأراضي الفلسطينية بعد أشهر من صدور الرواية عام 1987، وجاءت بعد سنوات الركود والقهر والحزن وشبه الاستسلام للواقع مفاجئة للجميع، فشدّت إليها الاهتمام وألهبت حماس الجماهير في كل الوطن العربي ولفتت انتباه العالم.

- لقد نقلت الكاتبة صورة قاسية لهذا المجتمع الفلسطيني لا تختلف، كما أعتقد، عن واقع المجتمعات العربية الأخرى! مجتمع يحتقرُ فيه الغنيّ الفقير، ويخضع فيه الضعيفُ للقوي ويتذلل له وينافقه. فأم عفاف تكاد تُجن عندما علمت أنّ ابنتها تلعب مع فتيات من الطبقة الفقيرة، وحاولت ردعها عن ذلك. ووالد عفاف يتهادى متفاخرا بمركزه بين الناس البسطاء المبهورين ، ولكنه يتصاغر أمام المفتش الأعلى منه درجة في العمل. مجتمع تُحتَقر فيه البنت من يوم مولدها بينما يُحتفى بالمولود الذكر، ويتعطرون ببوله وتُغتفَر له ذنوبه مهما كبرت طوال سنوات عمره، بينما البنت تُراقَب وتُدان وتُعاقب وتُقيّد وقد تُقتَل لمجرّد أن زلّت بها القدم أو رفض مجتمعها الذكوري تصرّفها.

- لقد أرادت سحر خليفة من خلال شخصية عفاف أن ترفع صوت الفتاة المتمردة المطالبة بحقها في الحياة والحرية، الفتاة التي ترفض هيمنة الذكر الأب أو الأخ أو العم أو حتى الفارض هيمنته من خلال استغلال موقع الأم وتأثيرها. لقد أرادت سحر أن تؤكد على حريّة الفتاة في تصرفاتها وجسدها وأفكارها وطريقة عيشها ومن خلال شخصية نوال المناضلة الشيوعية، أحقيّة البنت وجدارتها في دورها النضالي المقاوم. أما تلك النماذج من النسوة المتمثلات في الأخوات والجيران الراضيات بواقعهن والمستسلمات لقدرهن والمنزويات في بيوتهنّ، الغافرات للرجل كلّ ذنوبه، فهنّ النموذج للمرأة المنسحقة في المجتمع العربي الذكوري، النموذج الذي يُريد الرجل الإبقاء عليه وتكريسه.
- ومثل هذا النموذج النسائي هو الذي ترفضه الكاتبة وتريد توعيته وتثويره وتفعيله ودَفعه للمواجهة والوقوف في وجه الرجل ليأخذَ حقوقه ودورَه في صنع الحاضر والبناء للمستقبل. والمجتمع الفلسطيني لم يعدم مثل تلك الفتيات المناضلات أمثال تلك الفتاة التي شاركت الرجال في القتال والمقاومة (ص137) والمرأة التي رفضت كلام الناس وتزوجت بعد مقتل زوجها المقاوم حفاظا على مستقبلها ومستقبل ابنتها (ص142-143).

- وتصوّر سحر خيبتها من إمكانية تحقيق التغيير السريع في مجتمعها وفي الرجل بشكل خاص بانكسار كل من نوال وعفاف. نوال التي خُدعَت بالرجل الثوري، رفيقها في الحزب وزميلها في النضال، واكتشفت بعد أن أسلمته قلبَها وجسدَها أنّه لا يختلف عن باقي رجال مجتمعه(ص 117).

- وعفاف التي قضت السنوات تتوق للقاء فتاها الوحيد الذي تصوّرته مغايرا فاكتشفت أنّه ككل رجال مجتمعه أنانيّ محبّ لنفسه يحتقر المرأة ويراها أداة لهو وإناء تفريغ لأحزانه وهمومه وشبقه، ويقتصر دورها، في رأيه، على توفير الجنس للرجل وتربية الأولاد وتدبير البيت، "فالرجل العربي مهما تعلّم يظلّ يحتفظ بنفس الصورة، المرأة فريسة وهو الصيّاد"(ص 135).

- وسحر نفسها بوصفها لبطلة روايتها "امرأة غير واقعيّة" قد توقع القارئ في وَهْم استسلامها للواقع، والاعتقاد بأنّ تصرّفات عفاف وأفكارها هي المرفوضة بينما كان الآخرون على حقّ.

-بينما ما تُريد الكاتبة أن تقوله ويتبنّاه القارئ، هو أن عفاف بالفعل لم تكن امرأة واقعية في مثل هذا المجتمع الذي لا يزال يعيش في مفاهيم ومعتقدات كانت مقبولة قبل مائة عام وأكثر، لكنها اليوم وفي الربع الأخير من القرن العشرين، وقد تطوّر العالم وتغيّرت المفاهيم والأفكار والحياة، وانفتح الكلّ على الكلّ، كيف ترضى بواقع مجتمعها واستكانة أبناء شعبها واستمرارية تحكّم المفاهيم والمعتقدات التي كبّلت المرأة وهمّشتها وأخرجتها من دائرة التأثير والعمل، وحتى كبلت الرجل وسحقت شخصيته وجعلت منه مخلوقا مستعبَدا لا يثق بقدراته وينتظر رحمة السماء لعلّ وعسى!؟ مجتمع كهذا يرزح أهله تحت نير احتلال غريب يُصبح هو غير الواقعي وغير المعقول، يجب التمرّد عليه والثورة ضدّه، وهذا ما فعلته عفاف بطلة رواية سحر خليفة الواقعية جدّا.

- لقد اختارت سحر خليفة أن تكتب روايتها على شكل مذكرات ترويها عفاف بطلة الرواية. والسرد بضمير المتكلم المفرد وَفّر لبطلة روايتها القدرة على اختيار المواقف والأحداث التي تُريد التركيز عليها والوقوف عندها، وجعل صوت عفاف، بطلة الرواية، هو الصوت الوحيد المقدّم للقارئ يحمل وجهة النظر الوحيدة، وإذا ما قُدّمت وجهات نظر أحد أفراد أسرتها أو صديقتها نوال فترتد إلى داخل ذاتها مستحضرة الماضي عبر شريط تستعرضه لحوار لها مع ذلك الشخص.

- لكن هذا السرد بضمير الأنا أعطى للقص دفئا خاصا وقرّب عفاف من المتلقي ليتعاطف معها ويتفهم أناها المعذبة ويؤيدها في رغبتها الانعتاق من الظلم وإثبات وجودها كأنثى لها مكانتها.
- كون عفاف، بطلة الرواية، هي الساردة الوحيدة للأحداث جعلها تعتمد تيّار الوعي حيث تتنقل عبر الأزمنة، تخلط ما بين الحاضر والماضي والمستقبل، وإن كان الزمن الماضي هو المستأثر بالقسط الكبير، لأن ما تسرده هو مذكرات لأحداث جرت تستعيدها من الذاكرة، حتى غدت حياتها الحاضرة مقتصرة على ما كان في الماضي لدرجة أنها تعترف قائلة: "أحسست أني قطعة من ذاك الماضي، وأنّ الماضي ما زال حولي وأني ما زلت بانتظاره كي يمرّ في إحدى الطرقات ويراني أمامه".(ص28)

- فعفاف لا تحلم بمستقبل أجمل تعمل للوصول إليه بل نراها تحلم بالماضي وبعودته حيث فيه تجد حبيبها وسعادتها وكيانها. وإذ يتحقق لها ذلك بلقاء صديقتها نوال وحبيبها الولد الأهبل وأمها وأهل بيتها والجيران، تُصدَم ويتعرّى زيف هذا الماضي الجميل الذي تَوهمته، فترتدّ إلى نفسها وتختار حاضرَها مع كل قسوته مفضلة إيّاه على الوهم الكبير الذي عاشته كل السنوات الماضية في الغربة.

- وكما طغى الزمن الماضي على فكر وحياة عفاف هكذا كان للأمكنة القائمة في الوطن سطوتها على عفاف في بلاد الغربة حيث كانت تستعيدها بكل عواطفها وحبها وشوقها، رافضة مكانها الذي تقيم فيه حيث الصحراء والوحدة والجو الخانق فَ "ربيع بلدي شيء آخر"(ص 73).

- صحيح أنّ علاقة عفاف مع الأمكنة بدت سطحية مجرد ذكر اسمها أو وصف خارجي عابر ، فلا نجد هذا الاحتضان للمكان والتماهي معه والوقوف على تفاصيل جزئياته ووصفها، حتى البيت الذي أقامت فيه وحيدة في الغربة وكانت تقضي فيه ساعات اليوم بطولها لم تهتم أن تصفه واكتفت بذكر الغسالة وحبل الغسيل والصحون والخزانة بكلمات عابرة. هكذا كانت علاقتها بمدينة عمان التي تتمثلها بسجن الفقراء، ومدينة القدس التي تنحصر رؤيتها لها في كونها مدينة سياحية مفتوحة لجنسيات مختلفة وأديان مختلفة. حتى البيت الذي ولدت وكبرت فيه لم تتوقف عند جزئياته واكتفت بذكر ما شدّ انتباهها ورغباتها مثل البركة والأوراق التي كانت تسقط فيها من شجرة الخشخاش.

- لقد تألّقت سحر خليفة في روايتها هذه باستعمال مختلف أساليب السرد والحوار، والمرونة باستخدام اللغة ما بين الفصحى والعاميّة،

- وحافظت على عفويتها في اختيار الكلمات والعبارات،

- وتميّزت كعادتها بجملها القصيرة وكلماتها القليلة الحادّة في دلالتها وإيقاعها.

- كما اعتمدت أسلوب الوعي خاصة في مشاهد حياتها مع زوجها وعلاقاتها مع عنبر قطتها في الغربة.

- صحيح أنّ النقّاد تجاهلوا رواية سحر خليفة هذه، وقد تكون لهم أسبابهم التي حاولنا توضيح بعضها، إلاّ أنّ الصحيح أيضا أن رواية سحر هذه "مذكرات امرأة غير واقعية" تشكّل علامة بارزة ليس في إبداع الكاتبة فقط، وإنّما في الإبداع الروائي العربي حتى منتصف سنوات الثمانينات من القرن العشرين.

- من مقال بقلم : د. نـبـيـه القــاسم




ايوب صابر 11-04-2014 02:35 PM



تابع ,,,,,والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين


-تعود سحر خليفة في روايتها هذه، صورة وأيقونة وعهد قديمفي غَفلة الآخرين، إلى زمن بعيد وأيام خوال وعهد قديم لا يزال يتفاعل في داخلها، يَدفعها إليه بَعد هذه السنين من الجَفاء والهجر والقَطيعة، زمن كانت فيه تنطلق من ذاتها لذاتها، فتسمو وتشفّ وتُحلّق وتضيع من ذاتها في ذاتها، وعندما تعود للواقع تجده كما تركته بكلّ قاذوراته، فلا تغضب، وتُتابع، بكل الصدق الجارح، خطواتها بثقة وأمل نحو الأمام كما عهدها الآخرون.

- في رواية "صورة وأيقونة وعهد قديم" لا تكون الانتفاضة محور الأحداث رغم أنّ الرواية كُتبَت وصدرت في خضمّ أحداثها. ولا تكون المرأة ومعاناتها من ظلم الرجل ما يُشغل الشخصيات ويُحرّك الأحداث. بل تَحكي الرواية قصة حبّ جنوني، وعلاقات انسانيّة وارتباطات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، ليس في الزمن الفلسطيني المعيش، وإنّما في كلّ زمن من أزمنتنا الحاضرة.

- أعادتني سحر بروايتها هذه سنوات إلى الوراء، إلى روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" التي صدرت عن دار المعارف بمصر ضمن سلسلة إقرأ عام 1974 التي تناولتُها في دراسة طويلة نشرتُها في مجلة "الجديد" وكانت سبب تعرّفي على سحر ولقائي بها بعد هزيمة الجيوش العربية واحتلال الضفة وباقي الأراضي العربية في حزيران 1967.

- تحكي سحر خليفة في "لم نعد جواري لكم" قصة حب عنيفة بين شابة جميلة مثقفة في أوّل تفتّحها ورسّام ثوري عصفت بهما الأحداث حيث اعتقل وحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة. فتقطّعت العلاقة وتباعد الحبيبان. هي تزوّجت رجلا غنيّا مات بعد سنوات قليلة، تُدير مكتبة هي صاحبتها في مدينة رام الله، وهو خرج من السجن وغادر الوطن ليعود بعد سنوات فنّانا مشهورا ليُقيمَ معارض لرسوماته في الوطن. ويلتقيان من جديد، ولكن بشخصيّتين متباعدتين. يستذكران الماضي، كلّ يُلقي اللوم على الآخر ولا يسامح، فيفترقان من جديد وقد تأكّدا من عدم إمكانيّة التلاقي والحياة معاً.

- وكما أنّ وقائع قصة "لم نعد جواري لكم" حدثت قبل حزيران 1967، أيام الحكم الأردني، هكذا أيضاً فالقسم الأول من أحداث قصة "صورة وأيقونة وعهد قديم" وقعت في الفترة الأردنية بينما باقي الأحداث كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي للضفة.

- أحداث قصّة سحر تمتدّ على مَدى ثلاثين عاما، من منتصف الستينات حتى أواخر تسعينيات القرن العشرين. وفضاؤها مدينة القدس وقرية من قراها القريبة من رام الله. إبراهيم شاب مسلم من مدينة القدس يحلم أن يُصبح كاتبَ قصة معروفا، كان ضحيّة والده الذي ترك البيت ليتزوّج من امرأة تنجب له الأبناء الذكور، وخاله الذي أراد أن يُزوّجه من ابنته. فهرب ليعمل مُدرّسا في إحدى قرى المنطقة، لكنه سرعان ما وقع في حبّ فتاة مسيحيّة باسم مريم، مثقّفة تُجيد أربع لغات تُحبّ الأدبَ وتقرأ لفرانسوا ساغان، مَلكَت عليه حياته بما تمتّعَت من جمال وجاذبيّة وسحر وصَمْت يُخفي الكثيرَ من الأسرار. فطاردها ثمّ طاردته وسافرا معا إلى القدس فتكشّفَت له عن فتاة أخرى دائمة الحركة والحيويّة، تُحبّ الحياةَ واللهوَ والرقصَ، كانت قد عاشت، كما روت له، قصةَ حبّ غريبة مع كاهن في البرازيل حيث عاشت مع أفراد أسرتها، ممّا دفَع باخوتها لإعادتها إلى الوطن مَنعا لسقوطها الكامل. وفي رحلة ثانية لهما إلى القدس يقضيان ساعات جميلة بين معالم القدس وكنائسها، ثمّ تأخذه إلى دير للأرمن وينامان معا في هوستل الدير.
وتنتشر قصة حبّهما في القرية ويستنكرها الجميع. لكنّ ظهور الحَمل عقّدَ القضيّة واستَدعى حضور اخوتها من البرازيل لمسح العار، فيهرب إبراهيم مُتخفّيا إلى القدس بينما تلتجىء مريم إلى الدير فيحميها. وتنقطع العَلاقةُ بين إبراهيم ومريم باحتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية ورحيل إبراهيم.
ويعود إبراهيم بعد ثلاثين سنة إلى القدس رجلا غنيّا، لكنه لا يعرف السعادة ليبدأ عملية بحث شاقّة عن مريم، وعن ابنه أو ابنته، ثمَرَة تلك الليلة البَعيدة. وينجح بمساعدة راهب القرية التي تعرّف فيها على مريم، في الوصول إلى ابنه ميشيل الرّاهب العاكف على مداواة الناس ومُساعدتهم، لكنّ الابن يتنكّر له ويرفضه. ويتعرّف إبراهيم على عجوز باسم جميلة، مسؤولة عن بيع بيت مريم في القرية، تكشف له أنّها التي حضنت مريم ورعت ابنها ميشيل وتبنّته بعد أن تركته أمه واختارت الدير سكنا لها. ويصل إلى مكان مريم بعد مشقّة طويلة وتنقّل ما بين القرية والقدس والناصرة حيث وجدَها أخيرا في دير نوتردام في القدس، وقابلها واعتقد أنّه سيحرّك مشاعرها ويُعيدها إليه، فحدّثها عن ابنهما ميشيل الذي قابله ورغبته في أن يعيشا وإبراهيم معا. وخلال حديثه كانت مريم تكتفي بالابتسام وتَرديد كلمات: "هل عُدتَ يا ابراهيم؟ يا ابراهيم!. وقدّم لها صورتَها التي عثر عليها, فقالت: صورة قديمة وما حاجتي الآن إلى صورة".(ص227) ولم تنفعل ولم تتجاوب، وظلّت تبتسم بصمت وسخرية قاتلة رافضة الاستماع إليه ممّا دفعه لتركها والخروج إلى الشارع حزينا مُحطّما. وتكون النهاية بوقوعه وسط معركة غير متكافئة في ساحة المسجد الأقصى بين جند الاحتلال الاسرائيلي والمصلين، ولم يُنقذه من الموت الأكيد غير ظهور جميلة، وأخذها له إلى بيتها.

- تبدو سحر خليفة في روايتها هذه مُرتاحة هادئة مُنسابة مُتصالحة مع ذاتها، تعيش الجوّ الذي تُريد، تترك مَشاغل الحياة الصاخبة لتُحلّقَ في قصة غرائبيّة نَسجها خيالُها الراكض نحو عوالم أخرى لا يعرف سكانها غير حياة الحبّ وفقط الحبُ. قصة تظهر فيها قوّة المرأة وقدرتها على التّعايش أينما كانت، وخَلق الجوّ الذي تُريد وإقامة العلاقات التي ترغب، غيَر آبهة بما يتعارف عليه الناس من عادات وتقاليد ومجتمع. امرأة متفتّحة على الحياة، تَعيشها بكلّ رغباتها المتوثّبة لا يردعها ثوبُ الكهنوت للحبيب المعشوق، ولا حاجز الدين للذي اعتقدته البديل. امرأة قد تُضحي في سبيل الوصول إلى مَن تُحبّ بكل غال، ولكنّها تحتقر هذا الرجل وتنفر منه إذا ما تكشّفَت لها أنانيّته وبان جُبنه وآثَر سَلامةَ نفسه وقتَ المحنة.

- هكذا احتقرت مريم ابراهيم عندما تركها صباح تلك الليلة التي قضياها في هوستل الدير في القدس وذهب، دون أن يخبرها، ليُحضر الدولارات من والده وراودته مشاعر المذنب والرغبة في التكفير والدّخول إلى المسجد الأقصى ليصلي. فتركته وعادت وحيدة لبيتها وقد قرّرت، وصارحته بأنها ستعتبره صديقا ليس إلاّ. وبعدما تركها وآثر الهرب بعد احتلال الضفة عام 1967 قرّرت التنازل عنه نهائيّا وحتى عن ابنها الذي يُذكّرها به، واختارت أن تعيش حياتها وتُنهيها كما أرادت راهبة مُتعبّدة في الدير.

- الحبّ كان محوَر رواية سحر خليفة، والرغبة في التمتّع بكل لحظة تُتاح كانت ما يُشغل مريم، وجُبنُ ابراهيم وعدم قدرته على استيعاب مثل هذا الحبّ كان المُثيرَ والمُغضبَ لمريم ومن ثمّ لابنها ميشيل الراهب الذي احتقر والدَه ابراهيم وصارحَه بكلّ القسوة قائلا: "ماذاتريد؟ تريد أمي؟ هي لا تُريدك. تريد رجوعي؟ أنا لن أرجع. تُريد مني أن أرضى بك؟ أنا لن أرضى. فدعني وشأني".(ص246).

- تؤكد سحر خليفة في روايتها هذه قدرتَها على الخروج من عالم الواقع غير البادية بوادرُ التغيير فيه، عالم الظلم والقهر والاحتلال للوطن والمقاومة والذلّ العربيّ وانسحاق الانسان الفَرد، لتُعَيّشَنا قصّة حبّ غرائبيّة، بطلتها فتاة تشعر أنها "غريبة في أرض الوطن، وحيدة بين الاخوة، ووحيدة بين الأغراب"(ص50) رفضت أن تكونَ مجرّد صورة أرادها الناسُ لها، فعَرَفت كيفَ تُرضي الناسَ في قريتها بظهورها أمامهم في الصورة التي يُريدونها لها، وكيفَ تتمرّد وتثور وتعيش حياتَها التي أرادت بعيدا عنهم، إذا كان ذلك في البرازيل أو في مدينة القدس، وشجاعة في مواجهة المواقف الصعبة حيث اقترحت على ابراهيم عندما أحاق بهما الخطر الهرب والزواج بعيدا عن القرية وأهلها (ص 86). وحازمة وقاسية في رفض طلب إبراهيم عندما عاد إليها بعد ثلاثين سنة، وقد ضاع منها شبابها وحبها وابنها، يطلب منها أن يجدّدا الحبّ والحياة مقدّما لها صورتها أيام شبابها بقولها: "صورة.. صورة قديمة، وما حاجتي الآن إلى صورة؟" (ص 227) وابتسمت بكل الألم وأهملته، لم تنظر إليه ، تركته بستجدي عودتها ويجهد نفسه في اقناعها، وتسأله على فترات: "هل عدتَ يا ابراهيم؟" حتى يئس وتركها غاضبا فاقدا كلّ أمل في استرجاعها.

- بينما أظهرت جُبْنَ الرجل وضعفَه وضياعه بمصارحة ابراهيم لنفسه "ما عدتُ أعرف مع مَن أعيش ومَن أعشق، أعيش مع مريم من خلال الكتاب وأعشق مريم من خلال الكتب وجوّ المكتبة وصور الأدب. ولم يخطر ببالي على الإطلاق أنّ المشكلة في ذاتي وليست مريم. ولم أكتشف تلك النقطة، أو تلك الجنحة أو المَثلبة إلاّ في ما بعد، بعد عشرات السنين، 20 سنة، 30 سنة، أو ربّما أكثر بقليل، وظلّت علاقتي بدنيا الناس تتخبّط لأنّي أتعامل مع أشخاص من صنعي، أصنعهم من الكتب ومخيّلتي، وأحللهم حسب ذوقي واجتهادي، وأفسّر طوابعهم وطوالعهم بما يحلو لي وما يُعجبني أو ما يدور في رأسي من فكر وأحلام وخواطر. فأعلو وأرتفع مع التحليل ثمّ أغرق، وأرى زوايا ليست هناك، وأبني توقّعات على ما أرى، ثمّ تأتي الصدمة كالإنفجار"(ص 24-25)، وتمزّقَه بين تعلّقه بأسرته ومُعتقداته وخوفه كلام الناس وعقاب الرّب. فكما هرَب أوّل مرّة من مُواجهة خاله ومصارحته بعدم رغبته في الزواج من ابنته، يُفكّر بالهرب ثانية من محبوبته مريم بعد قضاء ليلته معها في هوستل الدير، وأنْ يُكَفّر عن فعلته بالعودة إلى رحاب الأسرة وطاعة الرب، وبعد أن يَظهرَ الحَمْلُ لا يُفكّرُ إلاّ بالخلاص منه، وإذ يفشل يهرب من مواجهة الناس وإخوة محبوبته، ويجد في احتلال الجيش الاسرائيلي للضفة الغربية المناسبة للهرب وتَرك الوطن والمحبوبة والجنين الذي على وشك الولادة.
وتُظهر جَهلَ وسطحيَةَ الرجل (ابراهيم) الذي يعمل مُدرّسا ويُريد أن يكون كاتبَ قصص عندما يُفاجَأ في القرية التي ذهبَ ليعمل فيها بأجواء وحياة سكانها المسيحيين المختلفة عن حياة المسلمين، ويُبهَر بها، رغم أنّه ابن مدينة القدس، وُلد وكبُرَ ولا يزال يعيش فيها، فالكنائس، وخاصة كنيسة القيامة، لم يزرها طوال حياته، ودخلها أوّل مرّة مع مريم. وحتى مشهد المُواجهة الدّامية بين جنود الاحتلال الاسرائيلي والمُصلّين، والذي انتهى بقتلى وجرحى، لم تكن الغاية منه فقط تَصوير بشاعة المحتل وظُلمه، وإنّما جاء ليبرّرَ انقطاع كلّ خيوط امكانيّات اللقاء بين ابراهيم ومريم وابنهما ميشيل. وأنّ هذه العلاقات التي كانت غيرَ طبيعيّة وغيرَ صادقة، لا يُمكنها أن تبقى وتَتجدّد وتَحيا وتستمرّ. وقد يكون مَقتل إيلاي اليهوديّ الروسيّ صديق أبي يوسف في المُواجهة مع مَقتل محمود العربي، جاء ليؤكدَ على بشاعة الاحتلال، وأنّ ضحاياه ليسوا العرب فقط وإنما الفقراء اليهود الذين خُدعوا وغَرّروا بهم وجعلوهم يتركون مواطنَهم الأصليّة ويأتون إلى إسرائيل! رغم أنّه لم يكن لاحتلال إسرائيل للضفة ومن ثمّ لكلّ أعمال المقاومة ، بما في ذلك الانتفاضة، أيّ تأثير مُباشر على الأحداث، وإنّما كانت في النهاية إشارات لتغيّر المكان والزمان والأجواء، حيث تذكر المستوطنات، واحتلال اليهود لبيوت العرب، وأخيرا انفجار المقاومة بين المصلين المسلمين وجنود الاحتلال في باحة المسجد الأقصى.

- هذا التّكامل المُتناسق بين كلّ أجزاء الرواية، والانسياب الأخّاذ في استمراريّة الأحداث، والّرسم الرّائع لشخصيّة مريم المُتكشّفة للقارىء مع كلّ حدَث ونَقلة وحوار يلتقي مع اللغة الهادئة السلسة الجميلة التي تُدخل القارىءَ في أجواء الخيال والحبّ بَعيداً عن هموم الحياة، وتُذكّره بجماليّات وأجواء وسحر رواية سَحَر خليفة الأولى "لم نعد جواري لكم" ، وتؤكّد ما ذهبتُ إليه في مُفتَتَح الكلام، بأنّ سحر خليفة في روايتها هذه تُغافل القارىء وتعود إلى زمن بعيد وأيّام خوال وعهد قديم لا يزال يتفاعل في داخلها، يَدفعها إليه، بَعد هذه السّنين من الجفاء والهَجر والقَطيعة، زمن كانت فيه تنطلقُ من ذاتها لذاتها، فتسمو وتشفّ وتُحلّقُ وتَضيع مع ذاتها في ذاتها.

- سحر خليفة في روايتها هذه "صورة وأيقونة وعهد قديم" تَرتدّ إلى ذاتها الجميلة رغمَ أنّها لا تنسى أنّ الواقعَ الذي يُحيط بها واقع ظلم وقَهْر وظَلام.

من مقال بقلم : د. نبيه القاسم

ايوب صابر 11-05-2014 12:05 PM

تابع ,,,,,والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين

- رسمت بقلمها الواقع بلا "تجميل".

- سحر خليفة: نحن عرب "قُح".. بـ"ملءِ الفم" قالت!

- سحر خليفة كاتبةٍ فلسطينية وروائيةٍ غير تقليديةٍ..


- الأدب هو الجمال والحكمة والفهم، وأداة التواصل مع ذاتي ومع الآخرين"، هكذا استهلّت خليفة حديثها، مبينة أن أسس التعامل معه – من وجهة نظرها-هو الالتزام، والانتظام بمواعيد محددة للإنتاج، والصدق في التعبير، والعمل المستمر على تطوير الأدوات الفنية والمعرفية، "فالموهبة وحدها لا تكفي" وفق تعبيرها.

- وتتابع حديثها:"بدايات المرأة الأدبية اقترنت بمستوى تعليمها، إذ لا يمكن لامرأة أمية أو متدنية المستوى التعليمي أن تنتج أدباً، فالمرأة الموهوبة والمتعلمة والمُثقفة مثل الرجل سواء بسواء"، لافتةً النظر إلى أن الإنسان حين يشعر بأن لديه شيء يقوله، ولديه القدرة الفنية والأدوات يفعل ذلك، وتضيف: "فالمسألة لا تحتاج لقرار، لأنها تأتي بشكل تلقائي وبدون تخطيط، لكن الاستمرار في الكتابة بحاجة لتخطيط، وتنظيم، والتزام".

- وتشير إلى أن لكل امرأةٍ ظروفها الاجتماعية والسياسية والشخصية، فإنتاج المرأة محكومٌ بما تعرف، وبأسلوب الحياة الذي تعيشه، مستدركةً:"لكن باستطاعتِنا المُجازَفة بالقول إن المرأة حاولت أن تعبّر عن واقعها الشخصي والاجتماعي وما تعانيه من تمييز ضد الجنس، وبالنسبة للنساء في العالم الثالث، وبالذات الفلسطينيات، كان للواقع السياسي حيز كبير في أدبها، وأحياناً، يختلط الواقعان: الشخصي والسياسي، بحيث لا نستطيع الفصل بينهما، كما هو الحال في أدبي أنا".

- "تقولين إن نتاجك الأدبي هو صورة حقيقية مغايرة للتصورات المصطنعة أو الوهمية عن الواقع الفلسطيني، صورة حقيقية بلا هالات، فما المغاير فيه؟"،


- تجيب: "لطالما قدمنا الشعر الفلسطيني أو العربي في صورة شعب مختلف عن بقية خلق الله سواء من حيث التركيبة الاجتماعية، أو المزايا الخلقية، أو النزعات البطولية الفذة التي خلقها الله بتحيزٍ تام وجعل منا أبطال هذا الزمان والمكان، وأنا حاولت عبر مسيرتي الأدبية الطويلة أن أقول بملء الفم إننا مثل بقية خلق الله، "عرب أقحاح"، بكل ما لدى العرب من بؤس وفقر وتخلف، وأيضاً، قصص بطولة تتحدى الظلم والاستعمار، إلا أن واقعنا المحلي المتردّي، وموازين القوى العالمية المتحيّزة ضدنا على طول الخط، لم تثمر وتعطي بقدر ما قدمناه من تضحيات وضحايا، وهذا يحتم علينا أن ندرس هذا الواقع بشقيه المحلي والعالمي حتى نعرف أسباب الضعف ومؤهلات القوة".

- وتكمل:"أنا حاولت، وما زلت أحاول، أن أقدم الواقع الفلسطيني من خلال هذا المنظور، وأقدم نماذجه البشرية بشكل حقيقي، بلا هالاتٍ ولا أوهام ولا تصنع.


- الناس حين يقرؤون شخصياتي يسارعون إلى وضعها في سياق حقيقي كما لو كانوا يعرفون تلك الشخصيات معرفة حميمية، شخصياتي.. حتى التي جسدتها منذ السبعينيات وما بعد، ما زالت تعيش في مخيلة الكثيرين من القراء".

- هناك من يرى أن روايات سحر خليفة انعكاس لمأساة مدينتها "نابلس" وشعبها، لكن هي ذاتها لا ترى ذلك، وتقول: "نابلس بالنسبة لي هي المختبر، والمحك العملي الذي أبرهن من خلاله أن الإنسان العربي المتشابه في الوعي والمعرفة والجهل والتخلف والاضطهاد والصراع مع القوى الأجنبية، ومع ذاته هو نفسه، سواء كان مكانه في نابلس أو بيروت أو دمشق أو بغداد أو تونس، فالشخصيات النابعة من حارات نابلس لا تختلف إلا ببعض التفاصيل الثانوية والمحدودة عن الشخصيات النابعة من حارات دمشق أو القاهرة أو المغرب، الإنسان هو الإنسان في كل مكان، ولا يميزه عن غيره سوى عوامل الثقافة والبيئة وظروف العيش بما فيها من بطالة وقمع وتخلف وقوى استعمار واستبداد.. نابلس هي رمز فقط، وهي واقع، وهذا الرمز هو الواقع!".

- وتتحدث خليفة عن الدافع الذي جعلها بعد رواية "ربيع حار" التي تدور أحداثها في مرحلة حصار الرئيس عرفات التوجه إلى التاريخ في روايتيها "أصل وفصل" و"حبي الأول"، لافتةً النظر إلى أن الأمور توقفت عند تلك المرحلة ولا شيء جديد، فالحصار كان ولا يزال حصارًا، تماماً كالوضع الفلسطيني الذي يعيش حالةً مستمرة من الجمود والتفسخ، والانقسام أضافَ لعنةً جديدة إلى باقي اللعنات، فماذا أكتب؟

- وتقول "ورجوعي للتاريخ هو لنبش المخبوء وما خجلنا منه وما نسيناه أو تناسيناه، فبرأيي أن أصل الداء هو في التاريخ، ومحاولتي استعادة ذاك التاريخ هو للتذكير بأن أصل الداء ليس أميركا ولا (إسرائيل)، أصل الداء كان فينا، في تربيتنا، في قيمنا، في تركيبتنا الاجتماعية ونظرتنا الخاطئة أو السطحية للأشياء".

- وتكمل:"في رواية "أصل وفصل" استحضرت "عز الدين القسام"، وفي "حبي الأول" عبد القادر الحسيني، والآن أستعد لتجسيد "أنطون سعادة"، إنهم من حاولوا القيام بثورات جزئية أو شمولية، بمعنى ثورات ضد الاستعمار أو ثورة تتخطى الاستعمار إلى محاربة الوضع الداخلي وقوى التبعية والرجعية، وفشلوا في تحقيق انتصارات تذكر لأن الوضع الداخلي لم يسعفهم، بل على العكس، أحبطهم وغدر بهم وكسر شوكتهم".

- وتوضح الأسباب التي تدفعها للتذكير بهم، فالسبب الأول لوضع اليد على الجرح وتوجيه البوصلة إلى بيت الداء، والسبب الثاني لنتذكر هؤلاء الأبطال ونجعل من قصصهم عبرًا نعتبر منها، وسبب ثالث لا بد من ذكره، حتى يرى أبناء الجيل الجديد الذين يعيشون مرحلة الانحدار والتصحر أن هذا الوطن أنجب لنا رجالاً عظاماً ولم يبخل علينا بمن يستحقون الخلود والاستقرار في ذاكرتنا حتى يكونوا مبعث فخر واعتزاز وكرامة.

- وتضيف: "مشروعي الروائي هو رصد تأثير تجربة الاحتلال على المجتمع الفلسطيني في تحولاته المختلفة، وبالتالي فإن رواياتي هي حكاية مجتمع بأسره، وهو مجتمع مليء بالقصص وكثير من الهزات والتحولات والظواهر القابلة للاستنتاجات التي يمكن تعميمها على مجتمعات عربية بأكملها"، متابعة: "من المؤكد أننا لا نستطيع أن نفصل بين هواجس الروائي وحياته وانطباعاته والأدب الذي يكتبه، ذلك لأن الأدب بالضرورة أداة تعبير عن الحياة وتجاربها، فبالنسبة لي لا أستطيع الكتابة عن أميركا اللاتينية، حتى لو تسنى لي ذلك، لأن المكان ليس مكاني، والمجتمع ليس مجتمعي، والأحداث ليست ملكي".

- "إذًا هل أنت راضية عن نتاجك؟!"..كان ردها:"راضيةٌ وغير راضية، راضيةٌ عن نفسي لأني اتخذت القرار الصحيح في الوقت المناسب، واتخذت قرارًا بأن أصبح كاتبة تعكس حياة الناس وهمومهم، وأن تقول الصدق ولو على قطع رقبتها، لكن ما زلت أطمح للمزيد، وبإنتاج الرواية الصعبة التي تصل إلى كل قارئ عربي فتهز كيانه، وإلى كل أجنبي فتهز عقله ومواقفه وضميره".


المصدر: صحيفة فلسطين

ايوب صابر 11-06-2014 07:23 PM

تابع ,,,,,والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين


-تميّزت سحر خليفة في إبداعاتها بالتزامها معالجة هموم الشعب وتصوير حياته اليوميّة وما فيها من تعقيدات وتشابكات خاصّة بكل ما يتعلّق بوضع المرأة وعلاقتها بالرجل، وبالمقابل في مرافقة نضال الناس في مواجهتهم لاحتلال الأرض وظلم الإنسان حتى باتت تُؤَطّر بين ثنائيتين هما: المرأة في مواجهة الرجل. والإنسان الفلسطيني في مواجهة جندي الاحتلال.

- سحر خليفة واحدة من الذين شاهدوا وتوقّعوا وحذّروا ونبّهوا وصرخوا، وتكاد تكون الوحيدة التي لم تُهادن ولم تتراجع ولم تقبل بكلّ التفسيرات والتعليلات والتطمينات والإغراءات، وظلّت على موقفها المنتَقد الرافض.

- سحر خليفة، صاحبة الرؤية الثاقبة الصحيحة، والرؤيا البعيدة، والرّافضة لكل مخادعات الواقع ومُغريات الحياة، اختارت اللغة القريبة للغة الصحافة اليومية لتخاطبَ الناس وتحكي لهم قصّتهم التي يعيشونها ليعرفوا حقيقة واقعهم ويرفضوا رفع راية التسليم.

-ورغم سهام الاتّهام التي وُجّهت لها ظلّت على مواقفها الصامدة الرّافضة المتّهمة مُعلنة صرختها العالية: لا.

ايوب صابر 11-07-2014 09:58 AM

تابع,,,,,والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين


- واضح ان سحر خليفة عاشت طفولة ونشأة صعبة جدا اختبرت فيها الموت وهي في سن صغيرة حينما توفيت اثنتان من اخواتها الثمانية، لكن ازمتها امتدت مع ام صعبة ومدرسة داخلية متزمته هي راهبات الوردية وهي تقع في مكان بعيد عن مكان الولادة ( عمان )، وزواج تقليدي مبكر في سن الـ 18 وكانت حياتها خلاله اكثر صعوبة ولم يقف الحد عند ذلك فلما عادت بعد عذاب الزواج لمدة 11 سنه وجدت العائلة قد تشتت فالوالد تزوج من امرأة اخرى والاخ الوحيد اصيب بالشلل نتيجة لحادث سيارة.

-اذا عاشت سحر خليفة ظروف شخصية صعبة وظروف عامة اصعب تمثلت في مرحلة انتكاسات واحتلال وانتفاضات وثورة ونضال وعنف ودمار، فجاءت الكتابة عندها تعبير عن ألم فردي والم جماعي متواصل.

ايوب صابر 11-07-2014 10:10 AM

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 71- سابع أيام الخلق عبد الخالق الركابي العراق

- يبدو أن "سابع أيام الخلق" نص يجمع نصوصاً متفرقة، لا على مستوى مخطوط الرواق وحسب، بل على مستوى الاستدخالات من نصوص مختلة في الجنس والاتجاه... الروائي هدف إلى إنتاج "نص ممتع يجمع بين المتعة الحكائية والمخبلات الصوفيى العرفانية.

- استطاع عبد الخالق الركابي في روايته المثيرة للجدل "سابع أيام الخلق" أن يبني نصاً ذكياً وحاذقاً حين أقام مجموعة من التوازيات بين الماضي والحاضر وبين "مدينة الأسلاف والمدينة الحاضرة" وبين "عالم الباطن وعالم الظاهر" وبين "العالم الصلب والباطن الصوفي الحدسي" وبين "المؤرخ والروائي". وكلها تشكل قضية السيد نور الذي اختفى بطريقة غريبة حين دخل كوخه ولم يخرج منه بعد ذلك ومعه النص الأصلي لـ"السيرة المطلقية" التي هي الأساس الذي تقوم عليه الأحداث.

- يفصح المؤلف في روايته عن رؤيته لواقع وأحداث كان جزءاً منها، شغلته بهمومها كما شغلت كثيرين من أبناء جيله، إلا أنه نظر إليها نظرة لا تخلو من الشمولية. لقد كشف ترسب من أوهام وأفكار في نفوس أبطاله تاركاً لهم حرية الإفصاح عن مكنونات نفوسهم دون أن يفقد سيطرته على أحداث الرواية.

- أما إبطاله فهم أموات وأحياء، أموات قد غادروا عالمنا أو مازالوا فيه لكنهم يقفون على مسافة من الواقع وينغمسون في أحلامهم وتهويماتهم الصوفية، وهم أحياء بعث فيهم الحياة ورسم لهم طريق العبور إلى الخلود، وهم بيننا يكاد لا تخلو إحدى مدننا منهم لقد التقط المؤلف تفاصيل روايته من الواقع الحي، المعاش وغلفها بتلك الرؤية الخاصة التي لا يمتلكها إلى المتميزون والمبدعون، وبعد فإن القارئ ليحار أيقرأ رؤية أم كتاب تاريخ يؤرخ لما سيأتي، أم أنه يقرأ سفراً من أسفار الخلق.

ايوب صابر 11-07-2014 06:31 PM

تابع ....والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 71- سابع أيام الخلق عبد الخالق الركابي العراق

- يمتاز المنجز الابداعي للروائي عبد الخالق الركابي بميزتين أساسيتين، هما: التنوع والغزارة.
- فهو منذ صدور مجموعته الشعرية الاولى (موت بين البحر والصحراء)، تواصل في نتاجه الأدبي ورفد المكتبة العربية بالعديد من الاعمال الأدبية، بل زاد في ذلك من خلال انتقاله في مختبره الابداعي بين الأنماط الأدبية من قصة قصيرة ورواية ومسرحية. إضافة الى نصوص قصصية منفردة ولقاءات صحفية عبر فيها عن رؤياه الجمالية في منجزه و في غيره.

- غير ان ما يلفت النظر في ذلك المنجز على تنوعه. ان الركابي لم يكن به ميلاً الى تكرار الانتاج في نمط واحد يقدم فيه عملاً سوى الرواية. فقد اصدر مجموعة شعرية واحدة، آنفة الذكر، وهي البكر في إنتاجه الأدبي، ومجموعة قصصية واحدة هي (حائط البنادق) . ومسرحية (البيزار) التي كرر في نمطها مسرحية (نهارات الليالي الالف). في حين اصدر روايات عدة هي على التوالي: (نافذة بسعة الحلم)، (من يفتح باب الطلسم)، (مكابدات عبد الله العاشق)، (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق), التي تعد من بين اعماله الروائيه الاكثر تميزا، و (اطراس الكلام) واخيرا (سفر السرمدية) التي نشرت على حلقات في إحدى الصحف. مما يؤكد ميله الى استخدام الرواية اداة تعبير يحقق من خلالها قدرة القول ويفصح عن رؤياه الجمالية عبر تقنيات كتابتها.

- وقد استثمر في ذلك التنوع بين الانماط، تنوع آخر في أساليب كتابتها، بين المستل من عمق التراث، وبين المستحدث على وفق أخر التطورات التقنية في فن الكتابات السردية.

- اعتمد الركابي في تلك الاعمال جميعها التعبير عن البيئة العراقية على المستويين المحلي والوطني. كانت من بينها الاعمال الروائية الثلاث (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق). التي اعتمدت ومثل ما اعتمدت سابقاتها وفي إطارها الجغرافي على البيئة المحلية نفسها.

- وتحديداً منطقة طفولته وصباه، غير انها إتصلت مع بعضها عبر وشائج تحاول بها ان تحيل القارئ الى أماكن أكثر اتساعاً والى زمن اكبر مما استغرقه فعلا . فأصبحت بذلك أعماله ترتبط بتاريخ واسع لجغرافية محددة قابلة للانفتاح.

- إن المنجز الابداعي آنف الذكر للركابي على المستويين الكمي والنوعي. خلق له حضورا في الواقع الثقافي العراقي تحديداً. وان لم يكن ذلك الحضور واضح على المستوى العربي. لاسباب لا يمكن عدها ثقافية. فهو صوت مهم من بين الأصوات العربية التي قدمت تجربتها الجمالية عبر الكتابة الروائية. وقد كانت روايته (سابع أيام للخلق) إضافة نوعية مهمة للرواية العربية والعراقية معا.

- ذلك لما تمتاز به من خصائص فنية على مستوى البناء والسرد فيها، والذي قال عنها في حوار معه في مجلة الموقف الثقافي (العدد السادس لسنة 1998 ص 108): ((سبق لي ان كتبت روايات محدودة الطموح، لكن الأمر يختلف مع روايتي الأخيرة - سبع أيام للخلق - فهي تمثل النقطة الأساسية في نتاجي الروائي)).

- وكذلك استثمارها جملة من المعارف لا تمت بصلة مباشرة الى هذا النمط الابداعي من بينها الأسانيد التراثية والمعارف الصوفية، وتحديداً نظرية وحدة الوجود، مما جعلها لا تُعد – من وجهة نظرنا – جزءاً من ثلاثية او امتداداً لها، أصبحت نتيجة لتلك الخصائص نصاً مكتفياً بذاته من دون إحالات الى ما سبقها من عملين روائيين (الراووق) و (قبل ان يحلق الباشق) وان تشابه الموضوع بينهما.

- فالرواية على الرغم مما تشيعه من فوضى ظاهرية أشار إليها المؤلف في المتن الروائي، غير انها خضعت لبناء فني دقيق يكاد يضيع في تلك الفوضى الظاهرية على القارئ غير المتمرس، وجعل من إمكانية الوصول الى معرفة تلك الدقة يتطلب القراءة المتأنية لغرض الوصول الى معرفة ما تقوله وحاولت البوح به . وهو ما حاولنا القيام به.

- ان تفحص اثر الزمن في خلق البنية الدلالية في الرواية، لكي لا يكتفي بما يوفره التنظير من إمكانية خلق رؤيا قد تقترب من رؤيا الخطاب الفلسفي في موضوعة الزمن التي يشوبها التناقض والاضطراب فيه، جنح الى اختيار إنموذج روائي يحقق لنا إمكانية تتبع ذلك الأثر، فكان اختيارنا لرواية (سابع أيام الخلق) للروائي (عبد الخالق الركابي) لجملة أسباب من بينها:

- تنوع مستويات السرد فيها، بين سرد سابق عل تشكل المتن الحكائي، وسرد لاحق عليه، وسرد متزامن معه، كان لها الأثر الواضح في خلق قيم دلالية عبر تشكل البنى التي توختها، معبرة بذلك عن رؤية المؤلف للوصول الى غايات تم تحديدها في محلها من الدراسة.

- كذلك استثمارها جملة معارف تراثية موغلة في القدم، كانت تؤدي في الأصل الذي وجدت فيه وظائف معرفية مختلفة عن الوظائف التي أدتها في النمط الابداعي الذي استثمرت فيه.

- من بينها أساليب الاسناد التراثية، ونظرية وحدة الوجود الصوفية، كان استثمارها قد أدى بها الى خلق وظائف دلالية جديدة عبر البنى التي شكلها السرد بأزمانه المتعددة في الرواية.

- كذلك استثمار ما عرف بتاريخ التوثيق المعرفي العربي (بعلم الرجال) الذي تطلبته فترة توثيق السنة النبوية الشريفة، والذي عد التوثق من صدق الرواة يتطلب إخضاعهم الى ضوابط سلوكية دقيقة على ضوئها يمكن الاعتداد بروايتهم او اهمالها.

- وهو معيار حاولنا استثمار بعض من خواصه، من بين وسائل عدة، وإخضاع رواية السيرة المطلقية في الرواية اليه، للوصول الى قناعات بصحة المروي، او الكشف عن أهداف أُخر عبر اصطناع تلك الصحة، حاول الروائي الوصول إليها او إقناعنا بها .

- ان معاينة اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية (سابع أيام الخلق). فصل مجتزأ من مخطوطة أوسع نشر منها فصل واحد بعنوان (المخطوطة في رواية سابع أيام الخلق) في العدد الثالث لسنة 2000 من مجلة الأقلام.

- تناول الزمن التأريخي في الرواية، وهو على ارتباط مباشر بموضوعة السرد التي يتناولها هذا البحث، لذا اقتضى التنويه للراغب في الاستزادة

- شكل الزمن منذ بدء الوعي به إحدى المعاضل العصية على الحل، فهو لا يأبه بالافراد او بالمجتمعات، وسيره حثيث باتجاه مغاير لسلوك الاشياء، فكان تقسيمه الى زمن اللحظة المعاشة وزمن اللحظة التي غادرت لتوها وزمن لحظة اتية، فكانت (الان) نقطة تماس تلك اللحظات، وبتراكمها حين تنصرم تخلق تاريخ الأشياء الذي اتفق عليه عرفاً انه (الماضي)، والذي يمثل التيار المعاكس لخط سيرنا الذي يمخر عباب الزمن الآتي (المستقبل) مستفيدا من لحظة التماس بينهما وهو (الحاضر). وبذلك يتشكل وعينا بالزمن عبر تقسيمه وإيجاد وسائل اصطلاحية تساعدنا على فهمه ومن ثم إدراكه، ليخلق ذلك الفهم والإدراك الوعي به.

- غير ان ذلك الوعي، الذي يخلق الرؤية المتشكلة به وبالأشياء التي تتحرك فيه، أسير وعي جمعي في جانب منه خلقه التراكم الكمي والنوعي لاحتمال الصواب والخطأ في فهمه. واسير وعي فردي يخلقه التأمل فيه ثانيا.

- فكان تنوع الرؤى وتناقضها في فهمه غير قادرة على حرث أرضه، فتركت برغم المحاولات الكثيرة، من دون اطمئنان من إمكانية استنبات أفكارنا فيه لتثمر يقينا، يدفع بنا بعيدا عن شك احتمال الصواب والخطأ. فكان الزمن بذلك أرضا بكر يصلح دوما لادعاء إمكانية إعلان ابتكاراتنا فيه من دون ادعاء الريادة في ذلك. وهو ما دفع (بالقديس او غسطين) للقول : ((...... ان لم يسألني أحدا عنه، اعرفه. اما ان اشرحه فلا استطيع)) (1).فكانت سهولة النظر فيه مغرية لولوج عالم عصي على الإمساك، عل العود يكون احمد بما يشفي الغليل من ظمأ سكن الوعي الفردي والجمعي منذ بدء تشكيل ذلك الوعي.

- فقد ذهب (ارسطو) الى تحديد معنى الزمن عبر تحديد أجزاؤه بقوله: ((ان الأجزاء التي يتألف منها الزمان : أحدها كان ولم يعد بعد موجدا، والثاني لم يأتي بعد. والثالث لا يمكن الامساك به، فأجزاؤه اعدام ثلاثة))(2). ينتهي الى ان الزمن يستحيل ان يشارك بالوجود لاتصافه بالعدم. غير ان اثره يرتبط جليا حين يرتبط بالحركة ويكون بالامكان معرفة ماهيته. ذلك التصور الذي يتفق مع فلسفة العلوم وان اختلف معها في طبيعة تلك الحركة، حيث ذهبت النظرية النسبية، التي شكلت الأثر الأكبر في خلق التصور الفكري عن الزمن في فلسفة العلوم الحديثة الى انه ((... لا مكان للقول بالزمان المطلق لان الزمان يختلف من نظام مرجعي الى آخر، تبعا لكون هذا النظام المرجعي يتحرك بسرعة دنيا او سرعة تصل او تقترب من السرعة القصوى التي هي سرعة الضوء))(3) فكان الزمن قد فقد ماهيته من دون ان يرتبط بحركة، غير ان فلسفة العلوم تؤكد ان الحركة بذاتها متغيرة وعلى ضوء تغيرها يتغير الزمن كذلك. وهو ما يناقض رؤيا (بروكسن) عنه حيث ذهب الى ((ان الواقع الحقيقي للزمن يكمن في الديمومة. اما اللحظة فليست الا تجريداً لا واقع له .. فاللحظة تقطيع خاطئ للزمن ... فالديمومة تدرك في وحدتها التي لا تقبل الانقسام))(4).

- بين ديمومة الزمن على وفق رؤية (بروكسن)، وعده عدم لا يشارك في الوجود على وفق رؤية (ارسطو)، تنوعت الآراء بين المنجذب الى هذا والمفترق عنه. فكان (روبنل) من بين الأصوات التي تتناقض في رؤياها للزمن مع (بروكسن) ولا تتفق بالمقابل مع النظرية النسبية في فهمها له. حيث يعد (روبنل) الزمن ((... يكمن في اللحظة، والديمومة تركيب لاواقع له .. ان حقيقة الزمن تصبح اذن مركزة في الحاضر الذي يفهم الماضي انطلاقا منه ..))(5). وهو ما يتفق به مع (باشلار) الذي يذهب الى ان ((ليس للزمان الا واقع هو اللحظة. فالزمان واقع محصور في اللحظة ومعلق بين عدمين. يستطيع الواقع دون شك ان يتجدد. ولكن عليه قبل ذلك ان يموت فهو لا يستطيع ان ينقل كينونته من لحظة الى آخرى لكي يكون من ذلك ديمومته))(6). ذلك الرأي الذي يتفق معه (القديس او غسطين) الذي قال فيما سبق ((اما ان اشرحه فلا استطيع)). فهو في محل آخر يشرحه بظن الوضوح نافيا تقسيم الزمن الى ماض وحاضر ومستقبل، بل يعده ((... جزء واحد من الحاضر، والصحيح ان يقال ثلاثة أقسام، حاضر لأشياء مضت، وحاضر لأشياء حاضرة، وحاضر لأشياء ستأتي))(7).

- مما تقدم يتضح حجم الاضطراب في الرؤى الفلسفية التي حاولت معرفة ماهية الزمن، فهي بين ان تعده مطلقا، وبين ان تربطه بالحركة، وبين ان تعده لحظة الحاضر حسب. وان كنا اهملنا عن عمد التسلسل التاريخي لاعتقادنا ان سيادة او شيوع مفهوم فلسفي معين، لا يمنع من وجود مفاهيم أخر على الضد منه في الفترة نفسها، وكان هدفنا من ذلك بيان هذا الاضطراب والتعارض في فهمه.

- فاذا كان الزمن في الخطاب الفلسفي يشوبه الاضطراب والتناقض فأنه في الخطاب الأدبي يمتلك إمكانية اكبر على تجسيد تلك الرؤى. ومن ثم يكون التوظيف لهذا المفهوم، وان خضع في الأصل للرؤيا الفلسفية لمنتج الخطاب، تحكمه عوامل مختلفة عن تلك التي تحكمه في الخطاب الفلسفي، حيث ((هناك بعدان في كل عمل فني: بعد اجتماعي (منطلق من الواقع المعاش). وبعد فردي (منطلق من خيال الفنان)..))(8).

- واذا كانت ((... قابليتنا للتخيل هي قابليتنا لنتذكر ما خبرناه مسبقا ونطبقه على موقف مختلف))(9).

- فأن خيالنا نفسه يتحول الى ضرب من ضروب التفاعل مع الزمن، او ان الزمن يمثل جانبه الحيوي. لذا فأن الزمن في الخطاب الأدبي، وان تنوعت الأساليب في استخدامه، لا يمكن اغفاله او استبعاده من العوامل المؤثرة. فالخطاب الادبي نفسه لا يمكن ان يمتلك فاعليته الحقيقية في التأثير ان لم يكن قد ارتبط بزمن سواء كان ذلك الزمن تاريخياً ام مفترضاً ام وهمياً ام نفسياً، ففي جميع الأحوال لا بد للخطاب الأدبي ان يرتبط بزمن وان كان على درجة متفاوتة من الظهور والفعالية. ففي حين يمثل الزمن الاطار العام الذي تنمو فيه الاحداث سواء في علاقتها السببية، كما في (الحبكة) والتي تشكل لنا في النهاية شكل العمل الروائي. ام في علاقتها الزمنية التعاقبية، كما في (القصة)، فأن تلك العلاقات يشكلها الزمن اولا، ثم تكون لأدوات الفنان الخلاق قدرة تشكيلها بالطريقة التي يعدها مؤثرة في خلق قناعتنا او تغيرها او توكيدها. فاذا كان ((الأدب موجود في الزمن وخارجه معا..))(10).

-على وفق رأي (هوجارت)، غير ان الادب لا يمكن على وفق هذه الرؤيا، ان يفهم انه خارج الزمن حقيقة، بل في زمن غير قابل للتحديد، او زمن يستغرق مدى اوسع ((يكاد يكون مستحيلا))(11).

- وبهذا فلا يمكن تصور وجود ادب خارج الزمن بل لا يمكن ان يكون هناك نشاط نعيه ما لم نربطه بزمن، وان تنوع بين زمن خارجي او زمن داخلي، او زمن واقعي، او زمن تخيلي، شأنه في ذلك شأن الخيال العصي على الامساك. فالزمن على وفق رأي (ستايجر) يمثل ((.. توقا داخليا وهو توترا، وهو القاعدة الهامة التي تدعم تركيبة العمل الفني))(12).

- وتخلق ابعاده المراد عبرها نقل ما يود الخطاب الادبي ايصاله الى الآخر، في محاولة الاجابة عن سؤال، او تحفيزا لاثارة سؤال، فيكون بذلك الزمن وتبعاً لاساليب الاستثمار، متنوع التأثير كما هو متعدد الاستثمار. ففي حين يمثل العنصر الاساسي في الاعمال السردية عموما ومن بينها الاعمال الروائية، نظرا لوظيفته في (الحبكة) و (القصة) معا، فان الذاكرة في الاعمال الشعرية تشكل ((... ملكة الشعر لأن الخيال نفسه يعد ترويضا للذاكرة))(13).

- والذاكرة نفسها تعد في جانبها الاساسي تفاعلا مع الزمن. بل ان الخطاب الادبي عموما، حيث يمثل في جانب منه وضع المتلقي في موضع منتجه. فأن ذلك يتطلب من المتلقي بالمقابل ان يضع نفسه ((مكان البطل .. ان يوضع في زمنه))(14).

- وبذلك يكون الزمن، عنصرا، لكي يحقق كامل فاعلية الخطاب الادبي، يجب ان يكون مشتركا بين المتلقي والمنتج معا للوصول الى ذلك التأثير.

ايوب صابر 11-07-2014 06:49 PM

تابع
تابع ....والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 71- سابع أيام الخلق عبد الخالق الركابي العراق

- صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الرابعة من رائعة الروائي العراقي عبد الخالق الركابي "سابع أيام الخلق " بحلة جديدة والطبعة هذه منقحة ومتميزة ويقول عنها الناقد العراقي طراد الكبيسي في مقدمة مسهبة يتناول فيها الرواية من جوانبها المختلفة :

- في ( سابع أيام الخلق ) ليس هناك حدث بمعنى الحدث في رواية القرن التاسع عشر مثلا ، لذا لا نجد الشكل الروائي يتخذ تسلسل : البداية ، الوسط . النهاية ، الذي يراه البعض عاكساً للزمن والتاريخ .

- اننا ازاء ( شكل مكاني ) يتهرب من الزمن المحسوس عبر الزمن المتخيل ، ويتموضع في جماليات تعتمد الحركة التصويرية في متابعة البحث عن مخطوط ( الراووق ) وتحقيقه للوصول الى حقيقة ما حدث في اليوم الذي سمي بـ( دكة المدفع ) ، ولذا فإن القارئ للرواية لا بد أن يحس التكرار واللاتزامن ، فالرواية مقيدة بموضوع مغلق ، والأحداث اليومية المتماثلة والشخصيات تتحرك في حركة دائرية مغلقة هي الاخرى بحكم المكان المحدد .

- ويبدو أن أماكن الطفولة والشباب للمؤلف / السارد العليم / كان أكثر من تذكر أيام خلت ، بل كان آسراً الى الحد الذي جُعل وكأنه موطن الخلق الأول ، وما أعقبه من أحداث تروى ، عادة ، بتخيلات لا تخلو من أسطورية ومجريات عجائبية على نحو ما بني عليه كتاب ( ألف ليلة وليلة ) : حكايات تسرّد ، تتخللها رؤى صوفية عرفانية مستقاة من كتب المتصوفة أمثال ابن عربي وعبد الكريم الجيلي وغيرهم ، حتى تصل الحال ب ( مدينة الاسلاف ) الى يوتوبية : (مدينة الحروف والكلمات ) ينكشف فيها المرء عن ذاته ويكشف الآخرين من خلال عمل ( رواية ) .

- عبد الخالق الركابي هو قاص عراقي ولد في محافظة واسط في قضاء بدرة عام 1946 وتخرج من اكاديمية الفنون الجميلة ثم عمل في التدريس تسع سنوات.بدأ عبد الخالق الركابي حياته الادبية شاعراً واصدر مجموعة شعرية عام 1976 بعنوان (موت بين البحر والصحراء) ، و بعد هذه المجموعة الشعرية بدأ بكتابة القصة القصيرة والرواية فأصدر عام 1977 روايته الأولى (نافذة بسعة الحلم).

- اصدر عدد من الاعمال القصصية والروائية والشعرية منها (نافذة بسعة الحلم) وهي رواية.(الموت بين البحر والصحراء) وهو ديوان شعر.، (حائط البنادق) وهي مجوعة قصصية ،(من يفتح باب الطلسم) وهي رواية، (مكابدات عبد الله العاشق) هي رواية.، (الرواق) هي رواية احرزت المرتبة الأولى عام 1987.،(سابع ايام الخلق) وهي رواية.

ايوب صابر 11-08-2014 07:35 AM

عمل إبداعي متميّز على الصعيدين العام والخاص
الكتاب: سابع أيام الخلق
المؤلّف: عبد الخالق الركابي
الناشر: المؤسّسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2011

> لا يجيد الروائي عبد الخالق الركابي لعبة الترويج للنفس، وهي صناعة باهتة لكل من صار يعبث على الورق بركام من السخام، ويطلق عليه زوراً تسمية «رواية»، كما يطلق منحرف على نفسه لقب قديّس. هذا الروائي تعرّض لحادث مؤسف أوشك على أن ينهي حياته، وتوقّع محبّوه أن ينتحر بعد تلك الاصابة التي حوّلته كومة لحم لا تتحرّك إلا من خلال كرسي متحرّك ولا شيء فيه ـ في المراحل الأولى ـ يتحرّك غير رموشه...! ولولا الدعم والمؤازرة اللذان تلقّاهما من حفنة أصدقاء، ومن زوجته على نحو خاص، لمات الركابي على كرسيّه منتحراً في أقرب فرصة تحرّكت فيها يده بصورة مفاجئة بقوّة الأمل والحب والصداقة.
وهذا الروائي الذي توقّع كثيرون أن ينهي حياته من فوق كرسيّه المتحرّك، فاجأ الجميع حين قرّر إطلاق النار لا على نفسه، بل على التاريخ والزمن والحقارة البشرية التي صار هناك من يحتفل بها ويتلقّى برقيّات التهاني بسبب موهبة الحقارة وحدها..! إنه زمن عراقي رديء تماماً. ويبدو أن عبد الخالق الركابي، الذي يعيش الكتابة الروائية بصدق وصمت وسرّيّة ومن دون ضجيج، لم يعد مشغولاً بما كتب أو يكتب عنه، لأن كل هذا لن يفيده بشيء في اللعبة الروائية الشديدة المراوغة والالتباس. فمن حصار الداخل على الابداع الروائي، والرواية تزدهر في مناخ الحرّيّة، الى حصار الخارج حيث مرجعيّات النقد والكتابة هي مرجعيّات حزبية، عائلية، قبلية، شخصية، مزاجية، ويغيب تماماً السؤال الثقافي، وتتلاشى المعايير النقدية الجدّيّة لمصلحة الهوى والمزاج والرغبة والعلاقة، فليس غريباً أن يمدحك شخص ما ويتوقّع أن تجلب روايتك لك الأعداء، وتجد نفسك كما قال أحدهم «داخل نسيج عنكبوت، من دون رؤية العنكبوت» وبعد أيام لا أكثر، يقوم هذا العنكبوت نفسه، وبلا مقدّمات، بقيادة حملة صبيانية وغوغائية كأنه أراد أن يثبت نبوءته، أو أراد قول ما هو أهمّ، وهو: إن القول وعدمه/ المدح والذمّ/ الحب والكراهية/ يتساويان في تقاليد الغوغاء، وهذه طبيعة العقل المنهار. وحسب الناقد حمزة الحسن، فإن «سابع أيام الخلق» هي ملحمة روائية عراقية تستحق احتفالية خاصّة نسيها النقد في الخارج، ولم يتعرّض لها أحد، كما لو أن الركابي متّهم بارتكاب جريمة العيش في وطن تقلّصت حدوده الى مجرّد كرسي متحرّك، يعيش ويكتب ويحلم داخله ويحاكم الأزمنة. قال عنها الشاعر المبدع رعد عبد القادر: «إن الروائي الركابي قد ارتقى في ـ سابع أيام الخلق ـ الى مستوى الأعمال الابداعية المتميّزة على الصعيدين الخاص والعام. والرواية بعد ذلك هي نوع من الأعمال التي تعادل حياة، وهي ـ أيضاً ـ رواية بحث عميق في المعرفة الشرقية ودقائقها، تتمتّع هندستها بعمليات خلق مرئيّة وغير مرئيّة...».
هذه الرواية كتبت سنة 92، وطبعت سنة 94، ووزّعت لأول مرّة سنة 97، وللمرّة الثانية، وهذه الفترة بين الكتابة والطبع، أعطت الروائي، كما قال هو في مقابلة، فرصة إعادة النظر في النص أكثر من مرّة، وهو أمر لم يحصل في أعماله الأخرى.
تتعرّض هذه الرواية الملحمة الى فترة قرون عدّة من تاريخ العراق، وتعتمد في البناء على مرجعيّات تاريخية ومعرفية وأسطورية مختلفة، من أجل تدعيم فكرة النص، وتعزيز البناء الروائي، وهذه المرجعيّات التي وضعت كخلفية للتخيّل، لم تستخدم كما هي، بل قام الروائي بمنحها بعداً أسطورياً، وهنا أيضاً يفترق الروائي عن المؤرّخ.
والرواية تعتمد على مستويين من الزمن: زمن الحكي، أي زمن الرواية، وزمن الأحداث؛ وكما قال الروائي، إن البؤرة الرئيسية في الرواية ونقطة تلاقي الأزمنة هو: عملية الخلق. أي أن النص يُخلق خلال الكتابة، وخلال تداخل الأزمنة، وتلاقي الشخوص، وليس قبل أو بعد ذلك. وكما حصل في رواية أندريه جيد ـ مزيّفو النقود ـ، فإن إحدى شخصيات رواية الركابي هو روائي ينعزل من أجل كتابة رواية، وهذه طريقة في الحكي الروائي تعتبر من تقنيّات الحداثة الروائية، حيث يقوم الروائي بمساءلة نصّه من داخله... كتب الدكتور مهنّد يونس عن هذه الرواية في مقال له: في «سابع أيام الخلق» هناك بحث لا ينتهي، وهناك رواية داخل أخرى، ولكن بتقنيّة خاصّة تختلف كثيراً عن روايات أخرى من هذا النوع. ونذكر في هذا المجال رواية جيد ـ مزيّفو النقود ـ حيث نعثر من بين الشخصيات على كاتب روائي يكتب روايته المستقلّة داخل رواية جيد الكبيرة... «سابع أيام الخلق» هي أيضاً عودة الى أساليب الحكي التراثية، ومحاولة كتابة روائية بلغة تراثية، وهذه العودة، كما يقول الروائي، ليست استنساخاً، بل استبطاناً وبحثاً عن ذات مغيّبة. وفي هذا النوع من الروايات تقترب تجربة الركابي مع تجارب عربية أخرى، كتجرية الروائي المصري جمال الغيطاني في روايته «الزيني بركات»، وتجربة الروائي المغربي سالم حميش في روايته «مجنون الحكم»، وهي تتحدّث عن فترة حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وهي شخصية مثيرة للغرابة والتنوّع والفرادة. إن هاجسنا في هذا العرض هو توسيع دائرة النقاش والرؤية والفحص والسؤال، من أجل خلق مرجعية نقدية وثقافية غير هذه التي نعرفها، والخروج من حبس القراءة الواحدة والرأي الواحد الى فضاءات أوسع في الكتابة والحرّيّة، حتى ولو كان ذلك لا يمرّ إلا من خلال أشراك كثيرة، وفخاخ المصادرة، والرأي الواحد والشبيه، غير المسموح بتعدّده إلا عبر التناسخ والتشابه على حساب المغامرة الابداعية، وهي مغامرة الحرّيّة أصلاً >

ايوب صابر 11-08-2014 07:43 AM

تابع ...


عبد الخالق ألركابي والكتابة الروائية لتاريخ العراق الحديث
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل

ليس كفؤاد التكرلي، وعبد الخالق ألركابي من وثق لتاريخ العراق الحديث والمعاصر روائيا .ونكاد نستطيع أن نقرأ التاريخ العراقي الحديث والمعاصر بأجوائه " المعقولة "، و"الغرائبية " ، فيما دبجه يراع هذين الكاتبين الروائيين .ولقد كتبت عن الروائي فؤاد التكرلي منذ زمن في كتابي "تاريخ العراق الثقافي " . وكان في بالي أن أكتب عن عبد الخالق ألركابي إلا أن بعضا من الأمور ، والانشغالات حالت دون ذلك وقد تيسرت الفرصة ألان .
عبد الخلق محمد جواد علي محمود ألركابي ،وهذا هو اسمه الكامل ، من مواليد قضاء بدرة بمحافظة واسط أي الكوت سنة 1946 .درس في مدارس الكوت ،ثم جاء بغداد ودخل أكاديمية الفنون الجميلة وحصل منها على شهادة البكالوريوس في النحت سنة 1970 . عمل في التدريس قرابة تسع سنوات ومن المدارس التي درس فيها مادة التربية الفنية " ثانوية بدرة " في محافظة واسط ..ثم اتجه نحو الكتابة فعمل مشرفا لغويا في مجلة آفاق عربية (البغدادية ) أواسط الثمانينات من القرن الماضي وسكرتيرا لتحرير مجلة "أسفار" ومحررا في "مجلة الأقلام "حتى سنة 2003 .انتخب عضوا في المجلس المركزي للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في إحدى الدورات ..وهو عضو في جمعية التشكيليين العراقيين، ونقابة الصحفيين العراقيين . نشر أولى قصائده في أواخر الستينيات من القرن الماضي في مجلة الآداب البيروتية) .)
بدأ عبد الخالق الركابي ، حياته الأدبية فنانا تشكيليا ، وشاعرا ، واصدر مجموعة شعرية سنة 1976 بعنوان : (موت بين البحر والصحراء) . و بعد هذه المجموعة الشعرية اليتيمة بدأ بكتابة القصة القصيرة والرواية ، فأصدر سنة 1977 روايته الأولى : (نافذة بسعة الحلم) ، ثم اصدر (من يفتح باب الطلسم) وهي رواية سنة 1982 ، و(مكابدات عبد الله العاشق) وهي رواية سنة 1982، و(حائط البنادق) سنة 1983وهي مجوعة قصصية. و(الراووق) 1986 وهي رواية أحرزت المرتبة الأولى من بين الروايات العراقية سنة 1987، و(قبل أن يحلق الباشق)وحازت جائزة أفضل رواية عراقية سنة 1990 ومسرحية البيزار 1990و(سابع أيام الخلق) وهي رواية، سنة 1994 و( اطراس الكلام ) 2002 و( سفر السرمدية) 2005 ،.كما اصدر مسرحية في ثلاثة فصول بعنوان: (نهارات الليالي الألف) 2001.
يقول الأستاذ قيس كاظم الجنابي في كتابه " ثلاثية الراووق :الرؤية والبناء دراسة في الأدب الروائي عند عبد الخالق ألركابي " الصادر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد سنة 2000 إن سبب تحول ألركابي من الشعر إلى الرواية هو انه "أحس بأن الشعر غير قادر على استيعاب تجربته " ،ولعل ولعه بالتاريخ العراقي الحديث وخاصة الفترة العثمانية 1516-1918 والصراع العثماني – ألصفوي الفارسي حول الاستحواذ على العراق وما نجم عن ذلك من احتلال بريطاني وتشكيل حكم وطني وماتبع ذلك من متغيرات سياسية واجتماعية ، جعله يكتب بتأن وتأمل كبيرين "يقرأ التاريخ العراقي ...ويتأمل الصراعات العديدة فيه ،فهو يستعرض احتلال إيران للعراق في عهد الشاه إسماعيل ألصفوي (914-930 هجرية -1508-1523 ميلادية ) .ثم يحاول الإحاطة بتاريخ العراق تحت حكم الدولة العثمانية مع إعطاء أهمية خاصة للوالي المصلح المتنور مدحت باشا خلال توليه لولاية بغداد 1286-1289 هجرية -1869-1872 ميلادية ) ،ثم يكمل الأحداث حتى الاحتلال البريطاني 1914-1918 فيستمر في ذلك مارا بحرب حزيران –يونية سنة 1973 .وهذا العرض التاريخي عبر ثلاثة أعمال روائية يشكل التفاتة مهمة لقراءة تاريخ العراق الحديث وهو ما دعاه إلى إعادة صياغتها مجددا في ثلاثية الراووق " . ومن الطريف أن ألركابي يقرأ التاريخ العراقي الحديث وفق منهجية تاريخية لايعمل بها إلا في جامعة السوربون فهم هناك يبدأون تدريس التاريخ بالفترة المعاصرة عندما يدرسونه للطلبة ويعودون إلى الفترتين الوسيطة ثم القديمة ..وهكذا نرى بأن الركابي ابتدأ بروايته الموسومة " نافذة بسعة الحلم " والتي نشرت سنة 1977 والتي تتعرض لمرحلة زمنية تمتد من حرب حزيران –يونيو 1967 حتى حرب تشرين –اكتوبر 1973 .
يقف الأستاذ الدكتور شجاع العاني في كتابه " البناء الفني في الرواية العربية في العراق " عند هذه الرواية ، ويطلق على ما فعله ألركابي في روايته : " نافذة بسعة الحلم " حين اختصر أحداثها في يوم واحد فقط ، مصطلح " الكثافة الزمنية " ويقول أن زمن هذه الرواية لايتجاوز بضعة ساعات ، وهي تتركز حول بطلها (حازم ) وقد جعل زمنها الروائي يبتدأ عند (الصباح) حيث مرحلة الطفولة ثم يبلغ (الظهيرة )حيث مرحلة الشباب وينتهي عند (المساء) حيث إصابته بالعوق في حرب اكتوبر -تشرين الأول. ويقينا ان الروائي الركابي أراد القول أن الزمن لايدور في صالح الأمة ، فالحرب قد انتقلت بها من النهضة إلى السقوط ، ومن الحركة إلى السكون ، ومن الاستقرار إلى الفوضى ، ومن الحلم إلى المأساة .بطل الرواية يتعوق في الحرب ويخفق في الزواج لكن مع هذا فالبطل الكلكامشي يظل يقظا في شخصية (حازم )الذي يروي الأحداث بطريقة متوازنة .يقول الجنابي ان حازم بطل الرواية حينما يروي الأحداث فأنه استطاع ان يعبر عن أزمته بطريقة أمنت له التوازن بين جو الهزيمة الخانق الذي يعيشه ، وأفق الانتصار الذي يصبو إليه .أما رواية " من يفتح باب الطلسم " فأنها تطرح فكرة نهاية الحكم العثماني للعراق مشيرة إلى احد أبواب مدينة بغداد وهو " باب الطلسم " الذي حسب السلطان مراد الرابع 1638 انه بسده سيمنع أي فاتح آخر من دخول بغداد ولكن بغداد ظلت عرضة للغزو والاحتلال ..ولم ينس الروائي ألركابي أن يوثق لكثير مما أصاب العراقيين جراء أعمال الغزاة وولاتهم من ماس كبيرة . وفي " مكابدات عبد الله العاشق " يشير ألركابي الى تأثير بلدته الحدودية : بدرة والى وادي الكلال والى ما اختزنته ذاكرته عن انقطاع المياه وسعي الفلاحين إلى تعميق صدور الأنهار عند خط الحدود العراقية –الإيرانية، ومصرع احد الفلاحين نتيجة ذلك، وتلك هي خلفية هذه الرواية وخلفية معظم روايات الركابي التي قال عنها الركابي نفسه في شهادته التي سجلها الناقد والأديب باسم عبد الحميد حمودي في نصه : " الناقد وقصة الحرب" أنها تعتمد تنوير التاريخ العراقي بل تثويره من خلال التركيز على الواقع الاجتماعي .ومن الطريف أن يكون عنوان ثلاثية ألركابي الراووق تعني مخطوطة كتبها احد أبناء عشيرة البواشق لكنها فقدت ..والراووق المصفاة التي ينقى فيها الماء من كل شائبة ولابد من أن تبذل الجهود للعثور على الراووق لتكون أساسا لمعرفة الأصول، وأداة للنهوض، والتخلص من الظلم والاستبداد والاستعباد ، والبدء بالثورة ومن هنا فأن الرواية تتوقف عند ثورة العراقيين الكبرى ضد المحتلين الانكليز وهي المعروفة ب"الثورة العراقية الكبرى " التي أجبرت الانكليز على تغيير سياستهم والشروع بالاستجابة لمطالب العراقيين في إقامة الحكم الوطني .
أقام نادي القصة في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بمقره في بغداد احتفالية خاصة بالروائي ألركابي تحدث فيها عدد من النقاد وأدارتها السيدة هند القيسي وفي هذه الاحتفالية التي نقل لنا أحداثها الأستاذ محمود النمر في جريدة المدى يوم 26 آذار-مارس 2011 تحدث ألركابي عن منجزه فقال : " إن جدية الحداثة ، والسخرية منها أمر سبق فيه العراقيون العرب الآخرين ، فقد عرفوا الحداثة قبل غيرهم تاركين لنا أيضاً أزمة الحداثة ونحن نخوض أزمة الحداثات في الفن التشكيلي والشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد...".
وأضاف الركابي لقد بات أن الحداثة من الأمور البديهية حتى أن الروائيين انتظروا طويلاً إلى سؤال مفاده ،أتصح كتابة الرواية على طريقة روائيو القرن التاسع عشر قرن الروايات العظيمة والروائيين العظام..؟ أم على الطريقة الحديثة طريقة ايريك وكافكا وجويس ،وكما هو متوقع لابد من تبني الاتجاه الأول في مجتمع لا يزال غارقا في ظلام الأمية، وكما حدثت في مجال العلوم الدقيقة قطيعة ابستمولوجيا ، حسب مصطلح باشلار مع الاتجاهات القديمة ، حدث الأمر نفسه في مجال العلوم الإنسانية والرواية من ضمن هذه الأمور ، وعلى هذه الشاكلة مثلت لدي في روايتي – سابع أيام الخلق – هذه القطيعة ،وبعد كتابة خمس روايات هي : نافذة بسعة الحلم ، ومن يفتح باب الطلسم،ومكابدات عبد الله العاشق ، والراووق ، وقبل ان يحلق الباشق . وانسياقا مع قراءاتي التي كانت تنساق إلى الفلسفة المعاصرة وجدت نفسي منهمكا إلى كتابة رواية جديدة في 1992هي - سابع أيام الخلق – لتظهر سنة 1994..." .
كتب عنه عدد من النقاد العراقيين منهم: الأستاذ عبد الرحمن طهمازي ، والدكتور علي جواد الطاهر ،والدكتور محسن الموسوي ، والأستاذ قيس كاظم الجنابي والأستاذ حاتم الصقر ، والأستاذ عيسى حسن الياسري ، والأستاذ حسين سرمك حسن ، والأستاذ مهند يونس والأستاذ حمزة الحسن .كما حاوره كثيرون منهم الأستاذ منذر عبد الحر في " جريدة الشرق الأوسط " وقال عنه انه من المبدعين الذين تميزوا بغزارة النتاج الأدبي، فقد قدم عددا من الروايات والمجموعات القصصية، وبدأ عالم الكتابة والنشر بمجموعة شعرية، سرعان ما تجاوزها إلى عالم الرواية. وتعد أهم مسألة تطرق إليها ألركابي في الحوار هي الحديث عن تكوينه الفكري والثقافي وقراءاته الدائمة والجديدة حين قال أن قراءاته اليومية تتوزع بين كتب التراث، والفلسفة ، والشعر والرواية في الغالب. يقول ألركابي : " ما أنا منهمك في قراءته هو كتاب محمد عابد الجابري (تكوين العقل العربي) الذي سبق أن قرأته منذ أعوام، إلا أنني أعدت قراءته الآن لكي أتواصل مع الأجيال الثلاثة الأخرى من هذه الموسوعة الفكرية الرائعة والمتمثلة لبنية الفكر العربي، والعقل السياسي العربي، والعقل الأخلاقي العربي... " .
وأضاف أن كتاب "ألف ليلة وليلة" ، يلازمه منذ طفولته، إذ انه لا يتذكر عدد المرات التي قرأ فيها هذا الكتاب الذي يحسب انه الكتاب الأول في تأريخ هذا الكوكب. وهناك أيضا "ديوان المتنبي "بطبعاته وشروحاته المتعددة، الذي يلازمه باستمرار، فضلا عن "حماسة أبي تمام" . وهناك «الصخب والعنف» لفوكنر، وهناك بالتأكيد" القرآن الكريم،" و"الكتاب المقدس" لا سيما "التوراة"، من دون ان ينسى ملحمة كلكامش والأساطير العراقية القديمة عموما، سواء أكانت سومرية أم بابلية أم آشورية.
يرى الناقد طراد الكبيسي أن رواية " سابع أيام الخلق" لعبد الخالق ألركابي ، هي رواية مكان " يتهرب من الزمن المحسوس عبر الزمن المتخيل، ويتموضع في جماليات تعتمد الحركة التصويرية في متابعة الحدث" . وتدور أحداث الرواية حول البحث عن مخطوط " الراووق" ، الذي ضاع الأصلمنه، واختلف الرواة في ما جاء فيه وذلك بهدف الوصول إلى الحقيقة في السيرة المطلقة .
إن الشيئ الذي أكده الناقد الكبيسي هو أن معظم روايات ألركابي تستلهم "التراث"، أو "التاريخ" ، لتنحو عبره إلى قراءة الحاضر.وهنا يمكن القول –تماشيا مع ما قاله فيلسوف التاريخ الايطالي كروتشة أن هذا الحكم يعد صحيحا ، فالتاريخ كله ،في نهاية الأمر ، تاريخ معاصر أي أننا ننظر إلى الماضي بعين الحاضر .. ندرس التاريخ لنفهم الحاضر ونستكشف المستقبل . ويقدم الناقد الكبيسي للقارئ مقدمة ضافية لعمله الذي يتناول فيه رواية "سابع أيام الخلق " من جوانبها المختلفة بقوله : في (سابع أيام الخلق) ليس هناك حدث بمعنى الحدث في رواية القرن التاسع عشر مثلا، لذا لا نجد الشكل الروائي يتخذ تسلسل البداية، الوسط. النهاية، الذي يراه البعض عاكسا للزمن والتاريخ.. إننا إزاء (شكل مكاني) يتهرب من الزمن المحسوس عبر الزمن المتخيل، ويتموضع في جماليات تعتمد الحركة التصويرية في متابعة البحث عن مخطوط (الراووق ( وتحقيقه للوصول إلى حقيقة ما حدث في اليوم الذي سمي بـ(دكة المدفع) ودكة أو دقة بلهجة العراقيين الشعبية تعني "الحادثة " أو "الواقعة " ، ولذا فإن القارئ للرواية لا بد أن يحس التكرار واللاتزامن، فالرواية مقيدة بموضوع مغلق، والأحداث اليومية المتماثلة والشخصيات تتحرك في حركة دائرية مغلقة هي الأخرى بحكم المكان المحدد.
ليس من شك في أن ألركابي أثرى الحياة الثقافية المعاصرة في العراق ، وفتح آفاقا واسعة لفهم المجتمع العراقي وإشكالاته وعقده النفسية .وفي هذا المجال يقول الناقد مالك المطلبي انه درس بعضا من روايات ألركابي ، وسلط الضوء على تراكيب السرد الروائي فأكتشف بأن الكلام عن روايات ألركابي هو كلام عن العالم المكتظ ويضيف : " في تقديري أن ألركابي يلعب لعبة داخل اللعبة ، فالفنون والآداب كلها العاب وانساق ،وان استمدت لغتها من الواقع وان اتجهت إلى القارئ الواقعي ..إنها تبدأ بالواقع وتتجه إلى الواقع لكن مابين البدء والاتجاه يوجد نسق من الألعاب وهو يلعب بموضوعه داخل اللعبة ويتعامل مع قضية الزمن على أنها قضية أساسية .وإذا قلنا بأن الأعمال الروائية تقوم على الحكايا أو ما يسمى ب"المتن الحكائي " والسرد فأن النص هو مرجع عبد الخالق ألركابي .أما الناقد فاضل ثامر فيرى أن ثمة طرقا عديدة لقراءة عبد الخالق الركابي روائيا .ففي إحدى رواياته وهي "سفر السرمدية " نجد ان شخصا طلب منه أن يدخل إلى أربعين غرفة ، وحذر من الدخول إلى غرفة واحدة . ويقينا أن هذا الشخص يعمل جاهدا للدخول إلى مثل هذه الغرفة لأنها غرفة الإسرار . ان عبد الخالق ألركابي في هذه السيرة الروائية يكشف منحى مهما فيما يسمى "ماوراء السرد أو " الميتافكشن" ، ومعنى هذا أن ألركابي بدأ رواياته الأخيرة منذ الراووق ، على التمحور على كتابة الرواية بشكل واع أو وجود رواية داخل الرواية
وأكد المسرحي والناقد عباس لطيف علي " أن هناك في حياة كل مبدع عملاً واحداً يتمحور عليه ، بدليل أن الروائي المصري نجيب محفوظ في كل أعماله (يشتر) زقاق المدق وظل (يشتر) الثلاثية ،ولكني أرى في سرديات عبد الخالق ألركابي أن هناك روحاً تجريبية تسري في كل رواية ولا يستكين إلى قالب معين يذهب إلى أقاصي المغامرة كي يمسك نسقا روائيا يتماش مع الواقع بمنظور وبمدخل جديد" . في بحثه الموسوم: "اثر الزمن المفترض في خلق البنية الدلالية في رواية
(سابع أيام الخلق) للروائي عبد الخالق ألركابي" يقول الأستاذ حسن كريم عاتي :
"إن المنجز الإبداعي للروائي عبد الخالق ألركابي يتميز بميزتين أساسيتين، هما: التنوع والغزارة. فهو منذ صدور مجموعته الشعرية الأولى (موت بين البحر والصحراء)، تواصل في نتاجه الأدبي ، ورفد المكتبة العربية بالعديد من الأعمال الأدبية، بل زاد في ذلك من خلال انتقاله في مختبره الإبداعي بين الأنماط الأدبية من قصة قصيرة ورواية ومسرحية. هذا فضلا عن نصوص قصصية منفردة ولقاءات صحفية عبر فيها عن رؤياه الجمالية في منجزه و في غيره.غير أن ما يلفت النظر في ذلك المنجز على تنوعه. إن ألركابي لم يكن به ميلاً إلى تكرار الإنتاج في نمط واحد يقدم فيه عملاً سوى الرواية. فقد اصدر مجموعة شعرية واحدة، آنفة الذكر، وهي البكر في إنتاجه الأدبي، ومجموعة قصصية واحدة هي (حائط البنادق) . ومسرحية (البيزار) التي كرر في نمطها مسرحية (نهارات الليالي الألف). في حين اصدر روايات عدة هي على التوالي: (نافذة بسعة الحلم)، (من يفتح باب الطلسم)، (مكابدات عبد الله العاشق)، (الراووق)، (قبل ان يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق), التي تعد من بين أعماله الروائية الأكثر تميزا، و (اطراس الكلام) وأخيرا (سفر السرمدية) التي نشرت على حلقات في إحدى الصحف. مما يؤكد ميله إلى استخدام الرواية أداة تعبير يحقق من خلالها قدرة القول ، ويفصح عن رؤياه الجمالية عبر تقنيات كتابتها.
وقد استثمر في ذلك التنوع بين الأنماط، تنوع آخر في أساليب كتابتها، بين المستل من عمق التراث، وبين المستحدث على وفق أخر التطورات التقنية في فن الكتابات السردية.
اعتمد الركابي في تلك الاعمال جميعها التعبير عن " البيئة العراقية " على المستويين المحلي والوطني. كانت من بينها الأعمال الروائية الثلاث (الراووق)، (قبل أن يحلق الباشق)، (سابع أيام الخلق). التي اعتمدت - ومثل ما اعتمدت سابقاتها وفي إطارها الجغرافي - على البيئة المحلية العراقية نفسها . وتحديداً منطقة طفولته وصباه، غير أنها إتصلت مع بعضها عبر وشائج تحاول بها ان تحيل القارئ الى أماكن أكثر اتساعاً والى زمن اكبر مما استغرقه فعلا . فأصبحت بذلك أعماله ترتبط بتاريخ واسع لجغرافية محددة قابلة للانفتاح.. وقد كانت روايته (سابع أيام للخلق) إضافة نوعية مهمة للرواية العربية والعراقية معا. لما تمتاز به من خصائص فنية على مستوى البناء والسرد فيها، والذي قال عنها قبل سنوات أنها تمثل النقطة الأساسية في نتاجه الروائي خاصة وأنها اعتمدت الأسانيد التراثية والمعارف الصوفية، وتحديداً نظرية وحدة الوجود.
إن ما قدمه الروائي عبد الخالق ألركابي ، عبر السنين الماضية وخاصة رواياته التي وثق فيها تاريخ العراق الحديث ،يعد انجازا ثقافيا متميزا يرتقى في كثير من جوانبه الشكلية ، والجوهرية إلى الأعمال الروائية العالمية التي أحدثت نقلة نوعية في مسيرة الرواية التاريخية .والاهم من ذلك كله انه صار بمقدورنا –كمؤرخين –اعتماد "النص الركابي " مصدرا لكثير من بواطن الأحداث التاريخية العراقية الحديثة .ولايمكن إغفال الروح الجمالية التي تميزت بها روايات ألركابي ولغته القوية وأسلوبه الواضح ونفسه الوطني وغيرته على بلده وتصديه لكل من يحاول العبث بمقدراته .لقد عاش الرجل بعيدا عن السلطة والسلطان طيلة أربعين عاما ..كنت أراه وهو يستخدم عكازه نتيجة حادث تعرض له كاد يودي بحياته ، وجعله طريح الفراش سنوات عديدة ، يجلس بعيدا عندما يضطر لحضور ندوة أو مؤتمر لايتقرب أحدا من المسؤولين ..كان بسيطا في ملبسه ، متواضعا في جلسته ، يصغي ، ويناقش بصوت هادئ ..كنت أحبه عن بعد وأراقبه بعين مؤرخ ، وأقول بيني وبين نفسي بمثل هذا الإنسان يرتقي العلم وتتسع دائرة الثقافة ويبنى الوطن . ومن الأمور المفرحة أن الرجل ، حظي بالاحترام من الجميع ، وان بعض رواياته حصلت على جوائز وتكريمات في العراق . كما أن بعضا منها قرر في المدارس والجامعات العراقية ، وترجم عدد من هذه الروايات إلى اللغات العالمية الحية ،ورشحت لجوائز عالمية في الرواية التاريخية ،واختيرت بعض رواياته وقدمت سينمائيا وتلفزيونيا ومن ذلك ، على سبيل المثال ، فيلم العاشق عن روايته "مكابدات عبد الله العاشق "وفيلم "الفارس والجبل "عن قصته الخيال تحية لك أيها الروائي العراقي الكبير ، وجزاك الله خيرا على ما قدمت .

ايوب صابر 11-08-2014 07:57 AM

والان مع العناصر التي صنعت الروعة ي رواية رقم 72- شيء من الخوف ثروت أباظة مصر

في عام 1969 فاجأ الأديب الكبير ثروت أباظة قراءه بروايته الأكثر بريقا "شيء من الخوف"، ففي هذا العمل طرح أباظة دور فؤادة الفتاة الصغيرة التي تحب عتريس الفتى البريء النقي لكن عتريس الذي ينقلب الي وحش كاسر ويعيش علي القتل والنهب يعاقب البلدة ذات يوم بأن يمنع عنها الماء، فلا يجد من يقف له سوي فؤادة، حبه القديم ونقطة ضعفه الوحيدة. ولما لم يستطع ان يقتلها كان عليه أن يمتلكها بالزواج.
وترفض فؤادة ويتم تزوير الوكالة وتنتقل إلى العيش مع عتريس دون شرعية، وتقاوم البلدة محاولات عتريس انتزاع الشرعية، وترفض فؤادة الاستسلام لعتريس حتي الموت، عندما تحرقه البلدة، ويفر رجاله، وتنضم فؤاده للبلدة لتوديع الشهيد محمود.

وسرعان ما جذبت الرواية السينما ليحولها المخرج حسين كمال إلى فيلم سينمائي؛ سيناريو وحوار صبري عزت؛ ولعبت بطولته شادية أمام محمود مرسي.. عتريس وفؤادة.. وكانت شخصية شادية أو فؤادة ينطبق عليها القول إنها كانت تقف على قدمين من ماء ونار تروي من تخطو اليه وتحرق من يخطو إليها، والفيلم يحمل رموزا سياسية كثيرة منها أن عتريس هو الديكتاتور الذي أخذ البلدة بالحديد والنار والقهر والخوف، وأن زواجه من فؤادة التي ترمز للسلطة الشعبية زواج باطل، قدمه إليه الخوف من البطش، لكن دم الشهيد في عرسه الوطني هو الذي سيقود الثورة المضادة ويحرق هذا (العتريس).
وبعيدا عن عالم السياسة ورموزها؛ فقصة الحب الخالدة بين فؤادة وعتريس تعد قصة رومانسية شديدة التفرد.. فبينما يجسد عتريس (محمود مرسي) التمرد علي الضعف تمثل فؤادة تمردا على "تمرده".
كانت فؤادة تحب هذا الزعيم، وكانت تتألم لما يفعله لكنها لم تتوقف عن الاعجاب به، لقد أحبت قدرته لكنها كرهت استخدامه لهذه القدرة، وكان حتما أن يقضي أحدهما علي الآخر ليعيش.. قصة حب غريبة فقد كانت فؤادة هي رمز الضمير ولم يكن ممكنا أن تتنازل، فالضمير الذي يتنازل لا يعود ضميرا، ولذا فعندما انتصر الضمير صارت القوة الغاشمة هي الأمثولة، وصار مألوفا أن نقول: "زواج عتريس من فؤادة باطل" عندما تحاول أية سلطة اغتصاب حق من الحقوق.. وبين الرواية والشكل السينمائي لها.. اعتبر "شيء من الخوف" علامة مضيئة في تاريخ السينما المصرية.
---
في عام 1969 فاجأ الأديب الكبير ثروت أباظة قراءه بروايته الأكثر بريقا "شيء من الخوف"، ففي هذا العمل طرح أباظة دور فؤادة الفتاة الصغيرة التي تحب عتريس الفتى البريء النقي لكن عتريس الذي ينقلب الي وحش كاسر ويعيش علي القتل والنهب يعاقب البلدة ذات يوم بأن يمنع عنها الماء، فلا يجد من يقف له سوي فؤادة، حبه القديم ونقطة ضعفه الوحيدة. ولما لم يستطع ان يقتلها كان عليه أن يمتلكها بالزواج.

وترفض فؤادة ويتم تزوير الوكالة وتنتقل إلى العيش مع عتريس دون شرعية، وتقاوم البلدة محاولات عتريس انتزاع الشرعية، وترفض فؤادة الاستسلام لعتريس حتي الموت، عندما تحرقه البلدة، ويفر رجاله، وتنضم فؤاده للبلدة لتوديع الشهيد محمود.

وسرعان ما جذبت الرواية السينما ليحولها المخرج حسين كمال إلى فيلم سينمائي؛ سيناريو وحوار صبري عزت؛ ولعبت بطولته شادية أمام محمود مرسي.. عتريس وفؤادة..

فيلم شيء من الخوف إنتاج عام 1969 من إخراج حسين كمال وهو مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الكبير ثروت أباظة. الفيلم تم تصويره بالأبيض والأسود بالرغم من إمكانية تصويره بالألوان لانتشار الأفلام الملونة في هذا الوقت، ويرجع ذلك لاستغلال المخرج حسين كمال لظلال الأبيض والأسود ببراعة لم تكن ممكنة فيما لو تم التصوير بالألوان.


القصة

القصة تدور بقرية مصرية حيث يفرض عتريس (محمود مرسي) سلطته على أهالي القرية ويفرض عليهم الإتاوات. كان عتريس يحب فؤادة (شادية) منذ نعومة أظافرة ولكن فؤادة تتحدى عتريس بفتح الهويس الذي أغلقه عقاباً لأهل القرية ولأن عتريس يحب فؤادة لا يستطيع قتلها فيقرر أن يتزوجها.
حافظ (محمد توفيق) أبو فؤادة لا يستطيع أن يعصى أمر عتريس فيزوجها له بشهادة شهود باطلة.
بسبب هذا الزواج الباطل يتصدى الشيخ إبراهيم (يحيى شاهين) لعتريس فيقتل عتريس محمود ابن الشيخ إبراهيم.
يأتي مشهد النهاية بمشهد جنازة محمود وفيها يردد الشيخ إبراهيم جملته الشهيرة "جواز عتريس من فؤادة باطل" ويردد كل أهل القرية وراء الشيخ إبراهيم ويتوجهون لمنزل عتريس الذي لا يستطيع مقاومة كل أهل القرية مجتمعين فيحرق أهل القرية منزل عتريس وهو بداخلها وتكون هذه نهاية عتريس جزاءاً لأفعاله.
البعد السياسي للفيلم

الفيلم به الكثير من الرمزية، فعتريس يرمز للحاكم الديكتاتور، وأهل القرية يرمزون للشعب الذي يقع تحت وطأة الطاغية. فؤادة ترمز لمصر التي لا يستطيع الدكتاتور أن يهنأ بها.
أشار بعض النقاد إلى أن هذا الفيلم قد يرمز لفترة حكم جمال عبدالناصر وأشار البعض الآخر أنه قد يرمز لفترة حكم الملك فاروق، كما قال البعض انه يرمز لأي حكم ديكتاتوري وطغيان وقهر عامة.
قال حسين كمال: لقد أطلق أعداء النجاح إشاعة مؤداها أننا نقصد بشخصية عتريس الرئيس جمال عبد الناصر
حدثت زوبعة وكان الفيلم جاهزا للعرض وكانت أفيشاته تملأ الشوارع وشاهد جمال عبد الناصر الفيلم وشاهده مره أخرى مع أنور السادات وبعد المشاهدة الثانية إقتنع جمال عبد الناصر انه لا يمكن أن يكون المقصود بشخصية عتريس وسمح بعرض الفيلم
فريق العمل

الإخراج: حسين كمال
التأليف:

ثروت أباظة (قصة)
صبري عزت (سيناريو)
عبد الرحمن الأبنودي (حوار)

ايوب صابر 11-08-2014 11:41 AM

المحملة بأشهر عبارة وأشهر صرخة في الأدب العربي: «جواز عتريس من فؤادة باطل». فؤادة التي تحولت في كل ميادين مصر إلي أيقونة لثورة 25 يناير ثم 30 يونيو، تلك الصرخة المدوية التي شطرت حاجز الخوف، الفزع والهلع والخنوع. ثم كان جواز.. الجماعة من مصر باطل.. باطل.. باطل.. إن شيئا من الخوف يصنع الطغاة فهم يقتاتون علي خوف الرعية والشعوب يتغذون عليه، يتعملقون ويتوحشون ويتغولون من هذا الخوف، يستمدون طغيانهم منه، فالخوف هو سلاحهم وإذا زال الخوف من النفوس تلاشت قوتهم، فها هي الدهشانة تلك القرية أو البلدة الرمزية، المسحورة الدهشانة التي أدهشتنا.. الدهشانة الواقعة في براثن عتريس وعصابته، صارت تكمل عشاءها خوفا، صارت تتلحف به، القهر حول أرضها إلي حقول متغضنة من العطش مقفرة، مكفهرة، تئن، تتيبس، تتشقق والخوف ينمو ويتعملق، يلجم الألسنة، يحني القامات يدهس الحق، فالولد صار وحشا ولكن فؤادة هي القلب، هي الروح والفؤاد هي لاتخشي الولد الذي صار وحشا، وئدت الإنسانية في غياهب نفسه الشريرة، وفؤادة لاتخشي إلا الحق والعدل فهي لاتعرف الخوف، الدهشانة حكاية الظلم والطغيان في كل مكان وزمان وستظل صرخة الأحرار والثوار والأبطال (شيء من الخوف) صدرت في زمن وصم بالخوف زمن جمال عبدالناصر ولكن ثروت أباظة لم يخف، ففؤادة في قلبه مخيلته، شيء من الخوف صنع طغيان أمريكا، كاد أن يعصف بمصر ويدفنها في هوة كئيبة ولكن حاجز الخوف تهشم بفعل دهشانة مصر، بفعل الشعب المبهر، والرئيس المحترم عدلي منصور الذي أوصي بالمرأة والأقباط خيرا. بجيشنا الوطني ثم الرئيس البطل عبدالفتاح السيسي وكلنا نصنع التاريخ ونشاهده ونبتهج بالجمهورية الجديدة.

ايوب صابر 11-08-2014 11:50 AM

آراء وافكار: شيء من الخوف
*

*
*

جمعة عبدالله مطلك
في رواية ثروت اباظة شيء من الخوف* والتي تحولت الى فيلم سينمائي شهير اخرجه حسين كمال، يخوض قارئ الرواية او مشاهد الفيلم لحظات صعبة مع شخصيات يحاصرها الخوف والهلع من المحيط والآخرين ومن الذات ايضا. واستطاع الروائي “ومخرج الفيلم ايضا” ان يقدم بديلا موازيا لهذا الخوف تمثّل بتبلور ارادة عامة عبّرت عن نفسها برفض الظلم ايجابيا. أي تجاوز عدم المشاركة الى الوقوف بوجه رموزه.


لا ادري لماذا تقفز مشاهد الرواية والفيلم الى عميق احساس الانسان في مشاهدته وقائع من الحياة اليومية للعراقيين. ففي “كراجات النقل العام” لابد للمرء ان يصطدم بعشرات النسوة والشيوخ والشباب ايضا ممن يبحثون بذعر وقلق واضحين عن مكان او دائرة رسمية او مركز رعاية او مستشفى. يحمل هؤلاء “الغرباء” همومهم او حزمة من اوراق في ايديهم متوسلين بالمارة او ركاب السيارات ان يدلوهم على مكان في هذه المدينة التي لا تشبه نفسها.
لا يمكن وصف بغداد بانها تحولت الى ريف كبير. فهي تفتقد فضائل الارياف الصغيرة او الكبيرة في شعور الانسان بالامن على الاقل وسط اناس يعرفهم ويطمئن اليهم. وبنفس الوقت لا يمكن وصف هذا الحيز الجغرافي الكبير ذي الالق التاريخي الذي شكل عبئا عليه بانه مدينة حديثة. لا تعدو بغداد منذ عقود الا مسرح قلق لا تستطيع كبيرة السن بسهولة ان تصل الى مستشفى او تزور قريبا لها “وهذا ترف لا تدعيه عجائز العراق”.
المدينة الحديثة رومانسية وشديدة الصرامة القانونية بنفس الوقت. فهي حانية وسلسة وتستطيع العجوز والمراهق والانسة الصغيرة المهذبة ان يصلوا الى ما يريدون دون ذعر من مجاهيل تستوطن مدينة معلقة في فراغ ذعرها وخوفها.
في بغداد “شيء اكبر من الخوف”. انه الخوف نفسه عندما يعبر عن ذاته بعلائق اجتماعية مشوشة ومضطربة تفتقد الثقة والشعور بالتواصل الانساني الحميم بين الذوات البشرية وبينهم وبين الطبيعة. لهذه الاسباب وغيرها عز على بغداد الغارقة حتى النخاع بامجاد الماضي ان تريح نفسها من عوادم السيارات ونزق السواق غير الاعتيادي بمترو بسيط. ما يزال العراقيون ينتظرونه منذ اربعة عقود على الاقل. وجريا على العادة والمالوف لم تكسر السياسة هذه النسقية البغدادية المثقلة بالتوتر والفزع بل زادت عليها تشظيا فارهقت كثيرا ما تبقى لها من فسحة بعد ان تقطعت السبل بالبغداديين او يروا حديقة في منازلهم. فقد علا الاسمنت شحيح الامتار المتبقية في بيوت تحولت الى مستعمرات. وما عادت آنسات العراق الجميلات يجلسن في الحديقة لمطالعة الدروس والاستمتاع بساعة او ساعتين مع منظر الفراغ الحالم والخضرة الموحية. ولاننا في واقع حقيقي خارج المجاز الفني الروائي فازاء هذا الكثير من الخوف يحتاج العراقيون ما يماثله من الثقة والاحساس بالسلام الداخلي. فماذا هم فاعلون مع لغتهم وارثهم وسياستهم والملثمين الباحثين في طبقات الاسمنت العراقية المتلاصقة عن مكان للانتحار.

ايوب صابر 11-08-2014 12:09 PM

شيء من الخوف


ابراهيم محمد عياش
الحوار المتمدن - العدد: 1934 - 2007 / 6 / 2 - 05:30

الخوف هو واحد من الغرائز العديدة التي خلقها الله في كل إنسان بل حتى في الحيوان ولكنها قد تضمر عند البعض وقد تطغى على البعض حسب ظروف حياتهم إلا أن الخوف شعور سيئ يجعل الإنسان سجين فيشل إرادته و يعيق تفكيره.
والفيلم *شيء من الخوف*طرح هذه القضية و هو ثالث أفلام المخرج المرحوم حسين كمال بعد *المستحيل*عام 1965 ثم *البوستجي* عام 1968 ثم* شيء من الخوف* الذي أنتج عام 1969 عن قصة لثورة أباظة وكتب له السينايرو صبري عزت و الحوار عبد الرحمان الأبنودي والموسيقى التصويرية بليغ حمدي لقد ارتبط هذا المخرج بسينما الإنسان، الباحث عن الحق والعدل والحرية سينما تتجاوز الموضوع إلى أغوار الإنسان الفكرية والوجدانية والنفسية.

أن مضمون هذا الفيلم هو مضمون إنساني عام لأنه مضمون عالمي يرتبط بالإنســـــان في أحاسيسه وتفاعلات مشاعر هذا الكائن, دون تحديد الزمان والمكان، انه يتحدث عن الخوف من أي شيء وربما من كل شيء، هذا الخوف الذي زرعناه في انفسا وقلوبنا يخلـق في داخلنا أشباح ترعبنا و ترتعد منها فرائسنا رغم انهم من صنعنا وهم بشر مثلنا، يخافون مثل ما نخاف بل ربما أكثر.

إن هذا الخوف المعنوي أو النفسي هو الذي خلق حولنا الباطشين والعابثين بحقوقنا، وهو الذي يخلق المستبد والديكتاتور في أي زمان أو في أي مكان، لذلك فحكاية هذا الفيلم ليست قاصرة على زمان محدد أو شخوص بعينهم، فرغم التجسيد والتشخيص فهي حكاية صالحة للحدوث في أي مكان وفي أي زمان.
لقد انتج هذا الفيلم سنة 1969 ومازالت مشاهدته تشعرنا وكأنه يعالج قضية معاصرة نعيشها الآن مع العلم أن البعد الزمني الشاسع ما بين كتابة العمل روائيا ثم معالجته وتنفيذه سينمائيا يعطي للمشاهد إحساس بأن الفيلم يعالج مشكلة نعيشها الآن وقد نعيشها في المستقبل, ما دام شي من الخوف لا يزال يعيش في قلوب بعض الأهالي فنحن في حاجة إلى مشاهدة هذا الفيلم عدة مرات لعلنا نتعظ ونعتبر مثل تلك الفلاحة التي جسدت دورها الممثلة المعتزلة شادية*فؤاده*.
عمد عبد الرحمان الأبنودي إلى استعمال الأغاني في هذا الفيلم لكي تلعب دور الراوي الذي يكمل العمل الدرامي و لا يسرد الأحداث, و هذه الأغاني برقتها ورومانسيتها تطرح وجهة نظر كاتب السيناريو و المخرج في ذات الوقت, استعملت هذه المقطوعات الغنائية وبالتحديد الأمزورات أو الموتيفات كالإطار أو البرواز الذي يغلف الموضوع و الأحداث لتجسيد المعنى والمضمون العام للفيلم و خاصة مقطوعة * عيني على الولد*. أن هذه المقطوعات الغنائية استطاعت إن تغوص في البنية الدرامية للفيلم ودفعت بالعمل السينمائي قدما نحو الأمام في تصاعد مستمر فزادته الكثير من المصداقية. كما دخلت أيضا في تركيبة الشخصيات إذ عبرت عما يدور في خواطرها و ما يجول في أفكار المشاهد الذي يقف مجذوبا إلى ما يدور على الشاشة .
إن هذا الفيلم رغم انه ابيض واسود أي من كلاسيكيات السينما العربية، غير أن الظلال والأضواء و الديكور و الملابس تقوم مقام الألوان في هذا الفيلم فتساعد على تجسيد المعنى المطلوب من اللقطة بصفة خاصة و المشهد بصفة عامة.
فعلى سبيل المثال في مشهد يظهر الطفل *عتريس * من خلال قضبان النافذة يوحي إلينا أن الطفل سجين مقيد كما نلاحظ أيضا أن إضاءته واضحة رمزا للمستقبل والأمل والبراءة بينما إضاءة الجد *عتريس* الذي يمثل الظلم و الماضي إضاءته قاتمة تعبيرا عن سواد قلبه المملوء بالحقد رغم وجوده في مقدمة الكادر أو الشاشة.
و في مشهد آخر لفؤادة مع عتريس قبل أين يتحول إلى شرير نلاحظ رقرقة ماء البركة وانعكاس أشعة الشمس على وجه فؤاده دلالة على نقائها و صفائها و إيحاءا من المخرج لنا بأن هذه الشخصية في صفاء الماء وفي توهج وتوقد الشمس.
و نلاحظ على مدار الفصول التكنيكية للفيلم التي يرمي من خلالها المخرج للتعبير عن شخصية عتريس الحفيد نجد ملابسه بيضاء وباقي افرد العصابة ملابسهم سوداء و بعد مقتل *عتريس الجد* تتحول ملابسه إلي اللون الأسود مثل باقي أفراد العصابة و كأن الملابس تترجم مكنون الشخصية أو كأنها التعبير الخارجي عن أحاسيس الشخصية و أخلاقها الداخلية، فتلاحم هذه المتناقضات البصرية مع الملامح الشخصية لشخوص الممثلين وألوان الملابس وحركة الكاميرا أعطى للفيلم جمالية رائعة أوحت للمشاهد عن مكنون ذاتية الشخصيات في هذا الفيلم ألقت بنا في فضاء الفيلم لنتخذ موقفا منها وبالتالي من موضوع الفيلم، كما أكدت لنا على مقدرة المخرج من استعمال عناصر الصورة السينمائية لإيصال المعنى المقصود من اللقطة أو المشهد.
كما أضفى التوليف (المونتاج) على أحداث الفيلم الكثير من المصداقية والمنطق في فهم مواقف الشخصيات.فاستعمال التوليف المتناقض لإظهار مراحل تنشئة و تربية *فؤاده* و *عتريس* الشخصيتين المحوريتين في الفيلم كان موفقا إلى أقصي درجة وزاد في كثافة المعنى و أوصل مفهوم هام إلى المشاهد فمن ارتوى بأفكار الظلم والجبروت لا يمكن ان يكون إلا باطشا و عابثا بحقوق الناس و لن يفعل الخير أبدا لأن من شب على الشيء شاب عليه، فبلقطات عامة سريعة تارة ومقربة تارة أخرى تجلى فيها ذاك التناقض بين الشخصيتين.
في الوقت الذي كان فيه *عتريس* يتعلم ركوب الخيل كانت *فؤادة* تحفظ القرآن،و لما كان جده يعلمه الرمي بالسلاح (البندقية ) كانت هي تسقي الزرع ولما كان هو يحرق في الزرع كانت *فؤادة *تطفئ النار مع الفلاحين.
فهذا الفيلم بصفة عامة يتناول قضية الخوف كقضية أساسية إلا أن المشهد الذي يحمل هذا المضمون بشكل صارخ هو الفصل الذي تتحدى فيه *فؤادة* *عتريس* يمكن اعتباره نقطة الانقلاب في أحداث الفيلم والوصول إلى ذروة الصراع القائم بين الحق والباطل والتمرد ضد الظلم.
يبدأ هذا المشهد بلقطة بانورامية عامة تبين حالة البؤس التي يعشها السكان بعد أن منع عنهم عتريس ماء السقي: الأهالي جالسين في مجرى البركة ثم تنتقل الكاميرا إلى وجه فؤاده في لقطة ذاتية( سبجكتيف شوت) الوجوه خائفة, الأرض جافة والضرع جاف, النساء حيارى فتتابع هذه اللقطات التحريضية يهيئنا للتفاعل مع اللقطة المتوسطة* لفؤاده* وهي تفتح الهويس ( الحنفية) فيتدفق الماء وتعلو الزغاريد وتعم الفرحة وتروى الأرض فتعود الحياة لكل شيء وخاصة القلوب الخائفة لتتخلص من ذاك الشبح القاتل للإرادة.
فهذا الفيلم أحد علامات السينما العربية لأنه طرح قضية تلقي بظلالها على الإنسان في الماضي, الحاضر والمستقبل وفي كل مكان. أن هذا الفيلم يصنف ضمن الأعمال السينمائية الجادة لأنه استطاع خلق واقع مماثل و موازي للواقع المعاش ولأنه تناول هذه القضية التي تركت في أنفسنا العديد من التساؤلات وبهذا يبقى في الوجدان و الأذهان.
والجدير بالذكر في هذا المقام أن هذا الفيلم الملحمي الطابع الذي أصبح من كلاسيكيات السينما المصرية تعرض إلى عدة متاعب رقابية من قبل البوليس السياسي الذي اسقط بعض أحداث الفيلم على رموز الحكم و على شخص الزعيم ذو القوة المطلقة القاتلة لأرواح الناس.

ايوب صابر 11-08-2014 12:12 PM

ثروت أباظة
(1927-2003م)

ملتقي اسمار د . حسين علي محمد

سيرة موجزة

ولد في 15 يوليو 1927م في بلدة غزالة بمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، وهو من أسرة أدبية أخرجت للأدب العربي عمالقة من الأدباء, علي رأسهم والده الأديب إبراهيم الدسوقي باشا أباظة الذي تولي الوزارة عدة مرات، وعمه الشاعر الكبير عزيز أباظة وابن عمة الكاتب الكبير فكري أباظة.
تخرج ثروت أباظة في كلية الحقوق جامعة القاهرة 1950م, لكنه بدأ الكتابة قبل تخرجه في الجامعة, حينما كان طالبا في المرحلة الثانوية.
وقد استهل حياته العملية بالعمل بالمحاماة ثم تولى العديد من المناصب في الهيئات الأدبية والصحفية والسياسية.
وقد رأس تحرير مجلة (الإذاعة والتليفزيون) عام 1974م, ثم رأس القسم الأدبي بجريدة (الأهرام) (1975-1988م), وظل يكتب في الصحيفة نفسها حتى وفاته.
حصل علي العديد من الأوسمة والجوائز منها وسام العلوم والفن ونمن الطبقة الاولي ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولي وجائزة الدولة التشجيعية عام 1959 عن رواية (هارب من الايام) وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 1982م, كما منحته جامعة الزقازيق درجة الدكتوراه الفخرية 1998م, وتبلغ مؤلفاته أكثر من 40 مؤلفاً، منها 30 رواية، ومسرحيتان، و10 كتب في الدراسات الأدبية والتراجم. وتم تحويل نحو 25 عملاً أدبيا إلي مسلسلات تليفزيونية ,كما كتب سيرته الذاتية تحت عنوان (لمحات من حياتي).
كان وكيل مجلس الشورى، كما كان عضوا بالمجلس الأعلى للثقافة والمجالس القومية المتخصصة ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون والمجلس الأعلى للصحافة. وكان رئيس شرف رابطة الأدب الحديث وعضو نادي القلم الدولي, بالإضافة إلي رئاسته لاتحاد كتاب مصر حتى قدم استقالته عام 1997م.
وقد ألف الراحل ثروت أباظة عدة قصص وروايات، تحول عدد منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية، كان أهمها: "هارب من الأيام"، "ثم تشرق الشمس"، "الضباب"، و"شيء من الخوف"، "أحلام في الظهيرة"، "طارق من السماء"، "الغفران"، "لؤلؤة وأصداف".
ولم يكن ثروت أباظة يسير علي هدي نجيب محفوظ الذي اختار أن تصدر أعماله كلها عن ناشر واحد، هو «مكتبة مصر»، فقد صدرت مؤلفات ثروت أباظة عن خمسة عشر ناشرا بدءا من دار المعارف التي أصدرت كتابه الأول «ابن عمار» في عام 1954م في سلسلة «اقرأ»، ومرورا بأخبار اليوم، ونهضة مصر، ودار غريب، ودار الشروق، ومكتبة مصر، والمكتب المصري الحديث، ودار الكتاب اللبناني، ودار النهضة العربية،ودار القلم، وروز اليوسف، ودار الكاتب العربي، والمركز الثقافي الجامعي، ودار التعاون، والهيئة المصرية العامة للكتاب التي أصدرت أعماله الكاملة.
وقد توفي فجر الأحد 17-3-2002م بعد صراع طويل مع المرض إثر إصابته بورم خبيث في المعدة، ونُقل جثمانه من مستشفى "الصفا" بالقاهرة إلى مسقط رأسه في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية حيث أوصى بدفنه.
ظلمه النقاد
وقد ظُلِم ثروت أباظة ظلما بينا فلم يمنحه النقاد الكبار ما يستحقه من جهد نقدي يتفق مع حجم عطائه في الرواية أو القصة أو المقال، ولولا محاولات عشوائية مثل كتاب ثروت أباظة 'الفلاح الأرستقراطي' لمحمود فوزي، ودراسات مثل : 'الدين والفن في أدب ثروت أباظة' لمهدي بندق، و'النماذج البشرية في أدب ثروت أباظة' للدكتور عبد العزيز شرف، وكتابين آخرين صدرا مؤخرا، ورسالتين أكاديميتين: 'الخطاب الروائي عند ثروت أباظة' للسيد أحمد السوداني 'من جامعة عين شمس'، و'الفن القصصي عند ثروت أباظة' لوجيهة المكاوي 'كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالإسكندرية'، أقول لولا هذا لما واكبه أي جهد نقدي.
وإن كان توجه جائزة الدولة التشجيعية في الرواية في أولي دوراتها عام 1958 له عن 'هارب من الأيام' هو في حد ذاته تقدير لإبداعه أكده بعد ذلك منحة جائزة الدولة التقديرية في الآداب في بداية الثمانينات.
معارك سياسية
خاض ثروت أباظة معارك سياسية كثيرة مدافعاً عن مواقف يرى أنها صحيحة، ولم يحاول أن يُغيرها لإرضاء أحد حتى ولو أغضب منه الكثيرين، وقد كان الخلاف الأساس بين أباظة وبين كتائب اليسار والناصريين وذلك لمهاجمته عبد الناصر يعد رحيله في مقال شهير بعنوان «في أي شئ صدق؟»، والذي مثل بداية حرب سياسية ضد كاتبنا الكبير.
ولاشك في أن السياسة لعبت دورا كبيرا في حياة ثروت أباظة، وربما كان السبب في ذلك المناخ السياسي الذي عاش فيه وتشبع بمفاهيمه حول قضايا الحرية بصفة عامة.
وما بين السياسة والأدب مضت رحلة كاتبنا الكبير .. فقد خاض أكثر من معركة سياسية ابتداء بمعركته مع الناصريين وانتهاء بالإخوان المسلمين وفي كل الحالات لم يغير الرجل مواقفه مهما كانت ضراوة المواجهة .
وقد أثارت روايته "شيء من الخوف" التي تصور زواج فتاة رغم أنفها من رجل خارج على القانون جدلا؛ حيث اعتبرها كثيرون انتقادا لحكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
ثروت أباظة وعبد الناصر
وقد كتب محمد الخولي في صحيفة العربي الناصرية في عموده «آخر زمن» ـ العدد 884 ـ السنة 11، في 9/11/2003م، تحت عنوان «مشكلة الأستاذ أنيس»، يقول:
من حق السيدة عفاف أباظة أن تنشر كتابا تشيد فيه بسيرة زوجها الأديب الراحل ثروت أباظة ومن حق السيد أنيس منصور أن ينشر مقالا يتغنى فيه هو الآخر بمآثر الكتاب المذكور أعلاه لكن ليس من حق أنيس منصور أن يقول إن ما كتبه ثروت أباظة في سب الزعيم عبد الناصر وبعنوان "وفى أي شيء صدق" هو أجرأ وأقوى مقال كتبه أديب عن عبد الناصر.. واصفا سخائم المقال بأنه قذائف صاروخية وأن كاتبها المرحوم أباظة كان صادقا شجاعا.. إلخ.
نقول إن من حق هؤلاء جميعا.. أن يقولوا ويكتبوا ما يشاءون لكن شرط أن نسجل نحن الحقيقة الأبلغ والأسطع والأبقى وهى:"إن الأديب ثروت أباظة كتب مقاله الموصوف بالجرأة والقوة والشجاعة وبأفعل التفضيل بعد رحيل جمال عبد الناصر إلى عالم الخلود وقد كتبه في إطار الحملة المسعورة والمشبوهة على ما كان يمثله عبد الناصر ـ الرمز والإنجاز وهى الحملة التي باتت تعرف الآن في أدبيات السياسة الأمريكية تحت مصطلح "تفكيك ناصرية مصر" وقد بدأت بحكاية الرئيس المؤمن والزبيبة والمسبحة وشارك فيها عدد من الكتاب الذين أتاح لهم النظام "المؤمن" إياه منابر جهيرة وكان منهم صالح جودت في مقاله "لو استطعت لأطلقت عليه الرصاص" وجلال الحمامصي الذي تجاسر ـ وهيهات ـ في التشكيك في ذمة عبد الناصر، ثم كتابات ومقالات ثروت أباظة ومنها المقال الذي يعتبره الأستاذ أنيس منصور الأجرأ والأشجع بين ما قالته العرب في باب "الهجاء بطبيعة الحال".
مشكلة الأستاذ أنيس منصور أن الجرأة والشجاعة والقوة وكل المسائل كانت جميعا بأثر رجعى.. وبعد أن رحل عبد الناصر بوقت طويل وباتت شتيمته أمرا مطلوبا ومريحا ومربحا من حيث الزلفى إلى الرئيس الجديد الذي رأى أيامها أن يعدد ما تركه سلفه من إنجازات فقال "لقد ترك جمال لي شيئا مهما للغاية هو.. الحقد".. وغفر الله للجميع.
من أقواله
يقول عن مولده: «ولدت بالقاهرة عام 1927 في 28 يونيه وقد كنت في غناء عن ذكر هذا التاريخ الا انني اذكره لان ابي لم يشأ أن يقيد ميلادي بالقاهرة وانما انتظر حتي ذهب الي بلدتنا في الريف غزالة الخيس مركز الزقازيق باقليم الشرقية وقيدني هناك ولذلك فتاريخ ميلادي الرسمي المقيد بشهادة الميلاد في البطاقة هو 15 يوليو 1927 وقد ذكرت هذه الواقعة علي بساطتها لابين مدي ارتباطنا بالريف ويوم ولدت كان أبي عضوا بمجلس النواب ثم صار وكيلا لمجلس النواب سنة 1930 إلي 1938 ثم عين وزيرا عدة مرات واستمر في احدي هذه المرات خمس سنوات متتالية في الوزارة، وهذا المولد وتلك النشأة التي تجمع بين أب فلاح ينتمي الي الريف ويدين له بكل ما وصل اليه من مجد وأب وصل في نفس الوقت الي أعلي المراتب في الدولة جعلتني اخالط كل الطبقات مخالطة معاشرة تامة.
وكان أبي أديبا.. وهكذا بدأت القراءة وأنا في السابعة وكان يرعي بماله وجاهه الشعراء فكان بيتنا لا يخلو من شاعر كبير.. ولهذا اتقنت اللغة العربية اتقانا قل ان يتاح لمن تعلموا مثلي في غير المدارس المتخصصة في العلوم الدينية واللغوية وقد قضيت طفولتي الباكرة بحي المنيرة وهو حي شعبي، ثم انتقلت قبيل حصولي علي الابتدائية الي حي العباسية وهو حي يجمع بين كل الطبقات، فصراع الطبقات الذي يقولون عنه انما هو عندي اكذوبة كبيرة لا حقيقة وراءها ابدا.
تزوجت عن حب من عفاف أباظة ابنة شاعر العربية والمسرح الكبير عزيز أباظة ولنا ابنة تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية واسمها أمينة، وابن واسمه دسوقي تخرج في كلية الحقوق وعين معاونا للنيابة وهي أولي درجات السلم القضائي.
لم اجد صعوبة في نشر مقالاتي ولا وجدت صعوبة في نشر كتبي، فأول مقالة لي نشرت بمجلة الثقافة القديمة سنة 1943 وكان عمري 16 سنة، وأول كتاب وهو 'ابن عمار' نشرته لي دار المعارف في سلسلة اقرأ عام 1954 وكان عمري 27 سنة والشيء الوحيد الذي آسف عليه ان أبي لم ير شيئا من كتبي لانه توفي في 22 يناير عام 1952، ولكنه كان قد قرأ كل ما كتبته بالصحف والمجلات حتي وفاته، وكنت انشر بجميع الجرائد المصرية تقريبا، ولكنني انتظمت في النشر أولا في مجلة الثقافة ثم جمعت اليها مجلة الرسالة، ثم اصبحت اكتب مقالا اسبوعيا بجريدة المقطم، ثم تركتها لاكتب مقالا اسبوعيا بجريدة المصري وقد ظللت اكتبه حتي استولت الثورة علي الجريدة وأغلقت أبوابها وصادرت أموال اصحابها، ثم أصبحت اكتب القصص بمجلة المصور ثم 'أخبار اليوم' ثم الجمهورية وعملت فترة بجريدة القاهرة من 1954 الي نهايتها.
ولم اكتب في كل ما كتب كلمة واحدة تمجد العهد السابق في مصر فجزائي انني لم اعين في أي وظيفة منذ تخرجي عام 1950 أما جريدة القاهرة فقد كانت ملكا للامير فيصل وعيني الرئيس السادات رئيسا لمجلس ادارة مجلة الاذاعة عام 1974، وكانت الجامعة العربية تريد تعييني بها ولكن السلطات المصرية قبل السادات رفضت وكانت كتاباتي كلها في هذه الفترة من خارج الصحف فاذا التحقت بوظيفة فلمدة شهور باحدي المجلات الاهلية، ولم اكن ارفض أي وظيفة خوفا من الفراغ، ولعله من الطريف انني حين نلت جائزة الدولة التشجيعية في أول سنة انشأت فيها عام 1958 عن رواية هارب من الايام نلت معها وسام العلوم والفنون فصدرت البراءة به ووظفني في البراءة رئيس تحرير مجلة الاعلان حتي أحس حين استيقظ في الصباح أن لي عملا يمكن أن اذهب إليه.
ولعل أهم أعمالي التي وضح فيها الرمز هما هارب من الأيام وشيء من الخوف وقد ظهر كلاهما بالسينما والإذاعة والتليفزيون وظهرت هارب من الأيام علي المسرح في علاج درامي قامت به المرحومة السيدة أمينة الصاوي.
وقد أثارت شيء من الخوف ضجة كبري في مصر والعالم العربي وقد كان المحور الأساسي فيها هو الشرعية وكانت هناك جملة تنطق بها الجموع وهي 'زواج عتريس من فؤادة باطل' وكانت الجموع في دور السينما تهتف زواج عتريس من فؤادة باطل' ولذلك لم يستمر عرض الرواية أكثر من ثلاثة أسابيع في دارين للسينما بالقاهرة، ثم مرت مرورا سريعا بالأقاليم، لكنها في عهد الحرية أصبحت تعرض كثيرا بالتليفزيون، وقد أصبحت هذه الجملة مثلا سائرا يستعمل كثيرا في المسرحيات كلما أراد المؤلف أن يعبر عن الحرية.

شغل المناصب التالية

: رئيس القسم الأدبي لجريدة الأهرام ، رئس مجلس إدارة مجلة الإذاعة والتلفزيون ، نائب رئيس اتحاد الكتاب في مصر ، عضو مجلس الشورى وغيرها من المناصب .
المؤلفات
الروايات
ابن عمار ، 1954
هارب من الأيام ، 1956
قصر على النيل ، 1957
ثم تشرق الشمس ، 1959
لقاء هناك ، 1960
الضباب 1965
شيئ من الخوف ، 1966
أمواج ولا شاظى ، 1969
أوقات خادعة ، 1970
جذور في الهواء ، 1974
خائنة الأعين ، 1977
نقوش من ذهب ونحاس ، 1979
خيوط السماء 1982
طائر في العنق ، 1983
أحلام في الظهيرة ، 1984
لؤلؤ وأصداف ، 1985
النهر لا يحترق ، 1986
طارق من السماء ، 1986
وبالحق نزل ، 1988
بريق في السحب ، 1992
القصص القصيرة
الأيام الخضراء ، 1961
ذكريات بعيدة ، 1963
هذه اللعبة ، 1967
حين يميل الميزان ، 1970
السياحة في الرمال ، 1973
لأنه يحبها ، 1977
وبقي شيئ ، 1979
المسرحيات
الحياة لنا ، 1955
حياة الحياة ، 1968
من أقاصيص العرب ، 1968
مقالات : 11 مؤلفا من المقالات أهمها خواطر ثروت أباظة 1980
كما صدر في العام 1992 مؤلفات ثروت أباظة في 6 مجلدات.

دراسة عن المقالة عند ثروت أباظة

حصل شكيل أحمد خان الندوي‏(‏ هندي الجنسية‏)‏ علي درجة الماجستير بتقدير ممتاز عن موضوع فن المقالة عند ثروت أباظة ـ دراسة فنية من قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة‏.‏ تكونت لجنة المناقشة من الدكاترة‏:‏ شعبان محمد مرسي أستاذ الأدب العربي بالكلية مشرفا‏,‏ ومحمد موسي خشبة أستاذ الأدب العربي بالكلية‏,‏ وأحمد حلمي حلوة رئيس قسم اللغة العربية بأكاديمية الفنون بالهرم عضوين‏.‏
وقد بدأ الباحث دراسته باستعراض تاريخي لفن المقال من حيث تطوره وأساليبه‏.‏ فقد كتب ثروت أباظة أكثر من‏1500‏ مقال صحفي ما بين سياسي واجتماعي وأدبي ونقدي وثقافي واقتصادي‏.‏ وأهم النتائج التي توصل إليها‏:‏ الكاتب ثروت أباظة استطاع أن يناقش قضايا مجتمعه المصري من خلال قلمه‏,‏ وقد حاول أن يجد حلولا لهذه المشاكل‏.‏ وأن هذه المقالات تأريخ لمصر‏.‏ وقد اهتم ثروت أباظة بقضية العدل واهتم بكل طبقات المجتمع‏.
‏ كما عني الكاتب باللغة العربية الفصحي الجميلة‏,‏ واستخدم لغة سهلة وابتعد عن الألفاظ الحوشية غير المتداولة‏.‏ وكثر اقتباس الكاتب من القرآن والأحاديث النبوية والشعر والأمثال‏.‏
ويقول الباحث‏:‏ انه يري ضرورة أن تهتم الدوائر الثقافية بإعاد ة نشر مقالات الكاتب الكاملة‏,‏ لأن ما نشر لا يضم كل مقالات ثروت أباظة‏.‏

*الأهرام ـ في 25/10/2009م.

ايوب صابر 11-08-2014 12:22 PM

القصة في الشعر العربي - ثروت اباظة



برحيل الأديب ثروت اباظة فقدت الحركة الثقافية المصرية واحدا من الكتاب الذين انحازوا في كتاباتهم الابداعية لقضايا الفقراء والطبقات البسيطة في مجتمع المدينة، كما يعتبر اباظة من أكثر الكتاب المصريين إثارة للمعارك الابداعية، والثقافية والسياسية والتي كانت واحدة منها سببا في إقصائه من رئاسة تحرير مجلة الاذاعة والتلفزيون عام 1975، بعدها استمر الكاتب الراحل في معاركه مع قوى اليسار المصري والناصريين، كما هاجم الكثير من الكتابات ذات الرؤى الحداثية، وقال في أحد مقالاته «أتحدى ان يحفظ الشعراء الذين يكتبون قصائد التفعيلة ما يكتبون».

* حياة أدبية متنوعة
* ولد ثروت أباظة في 28 يونيو (حزيران) عام 1927، وتلقى تعليمه في مدارس القاهرة، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة (فؤاد الأول) عام 1950، وتزوج بعد ذلك من عفاف ابنة عمه الكاتب المسرحي عزيز أباظة، وتعرف على أعماله المسرحية وأشرف على طباعتها وتمثيلها في المسرح، كما قرأ أعمال توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد ويوسف السباعي الذي كان يعتبره أخاه الصغير.
نشر ثروت أباظة أول قصة قصيرة له بعنوان «اكرم من حاتم» في مجلة «صرخة العرب» عدد يناير (كانون الثاني) 1955، أما أول رواية فنشرت عام 1954 بعنوان «ابن عمار»، وحصل على أول جائزة تشجيعية للدولة عن روايته «هارب من الأيام» عام 1958 كما قامت جامعة ليدز البريطانية بتدريس قصصه بقسم اللغات السامية في عام 1960.
لم يقف الأديب الراحل ثروت أباظة عند حدود القصة والرواية، بل كتب المسرحية والدراسات النقدية والمقال.
* الجبار: احتفاء بالقيم الايجابية
* يقول عنه الدكتور مدحت الجيار عضو مجلس ادارة اتحاد الكتاب: «ان أهم المحاور التي عمل عليها الكاتب الراحل كانت قضايا القرية والمدينة، وكشف عبر رواياته وقصصه عن الظلم في العلاقات داخل القرية وربط بينها وبين الواقع السياسي في ذلك الوقت. ولعل شخصية «كمال الطبال» في رواية «هارب من الأيام» و«عتريس» و«فؤادة» في «شيء من الخوف» يمكن ان تشكل رموزا واضحة على هذا العالم، وهي نماذج تمثل عالم القرية وما يحدث فيه من تناقضات بين عالمي «الظاهر والباطن»، كما في «هارب من الأيام»، كما نلمح رموزا لعالم القوة والضعف، في «شيء من الخوف» وغيرها من الروايات مثل «لنا لقاء» و«ثم تشرق الشمس»، وكلها روايات من وجهة نظر الحيار تحتفي بالقيم الأخلاقية ونبل العلاقة بين الرجل والمرأة.
وأضاف الجيار «ان ثروت أباظة الذي توفي عن عمر يناهز 75 عاما لم يدع يوما في حياته يمر دون كتابة، فقد قدم للمكتبة العربية 20 عملا روائيا مثل معظمها في السينما والتلفزيون، كما كتب أكثر من 70 تمثيلية للاذاعة، ومائة قصة قصيرة ومسرحيتين هما «الحياة لنا» و«حياة الحياة». وأضاف د. الجيار يكفي ان نقول ان مجمل ما كتبه ثروت أباظة يتجاوز 10 آلاف صفحة من القطع الكبير.
وتحدث الجيار عن كتابات ثروت أباظة النقدية، مشيرا الى انها كانت كتابة انطباعية وخرجت في ثمانية كتب منها «السرد القصصي في القرآن» و«شعاع من طه حسين» و«القصة في الشعر العربي»، وأشار الجيار الى ان ثروت أباظة كان تلميذا نجيبا للكاتب الفرنسي موباسان والكتاب الروس وعلى وجه الخصوص تولستوي وديستويفسكي وجوجول، لكنه أقرب إلى موباسان لانه يعالج عالم البسطاء ويحاول ان يقدم شخصيات نبيلة في كل عمل قصصي له تكون وسيطا لحل لغز الرواية أو القصة، لتنتصر في النهاية القيم الأخلاقية النبيلة.
* جبريل: وقف إلى جانب كثير من الكتاب الشبان
* وحول دور ثروت أباظة قال الروائي محمد جبريل نائب رئيس اتحاد الكتاب السابق اذا كنت أدين بفضل الريادة وتذليل خطواتي الأولى في الساحة الثقافية في القاهرة منذ قدمت من مدينتي الساحلية الاسكندرية الى جيل الاربعينيات نجيب محفوظ والسحار والبدوي وغيرهم فاني أدين بالفضل نفسه الى الأديب الراحل ثروت أباظة هذا رغم انه من جيل تال عليهم، ولعلي اعترف أنه كان الوحيد من جيل الخمسينيات الذي وقف الى جانب كثير من المبدعين الشباب يساعدهم ويأخذ بأيديهم وينشر لهم أعمالهم ويتحمل غلاساتهم سواء على المستوى الشخصي أو اثناء رئاسته لاتحاد الكتاب حيث انتخب رئيسا له منذ عام 1984 واستمر في منصبه حتى عام 1990، وكان قبل ذلك نائبا للرئيس.
وأضاف جبريل كان ثروت أباظة يقوم بنفس الدور في نادي القصة والذي كان يترأسه ايضا وقال جبريل اذا كان البعض قد تسول له نفسه انكار ما قدمه ثروت أباظة له على المستوى الانساني والشخصي قبل المستوى الابداعي، فان ضمائر الكثيرين لن تقبل هذا وأنا منهم.
صحيح اختلفنا معه فكريا وفنيا لكنا لم نختلف معه أبدا على المستوى الانساني فقد كان انسانا نبيلا وفارسا لا يتذكر ابدا مساوئ الآخرين، واضاف جبريل جميعنا يذكر المؤامرة التي احيكت ضده لابعاده عن اتحاد الكتاب من بعض من ساعدهم حتى في أحوالهم المعيشية فقابلوا الاحسان بالاساءة وتآمروا عليه لكن ثروت أباظة لم يلجأ ابدا لمقابلة اساءاتهم والرد عليها وإنما تخلى بأخلاق الفرسان عن كل شيء في اتحاد الكتاب حتى العضوية العادية وكان مثالا للترفع عن الصغائر، وأشار جبريل الى اهتمام ثروت أباظة بالأعمال التي كان ينشرها زملاؤه من المبدعين، وحرصه على أن يلتقي بهم ويبدي لهم وجهة نظره في أعمالهم.
* داود: أعماله تشكل علامة في السينما المصرية
* وأشار الكاتب المسرحي ومدير السينماتيك المصري عبد الغني داود الى ان معظم أعمال ثروت أباظة الابداعية والتي تم تحويلها الى أفلام سينمائية تشكل علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية ولعل أهم هذه الأعمال فيلم «شيء من الخوف» الذي اخرجه حسين كمال وقام ببطولته الفنان محمود مرسي وشادية، وذكر ان هذا الفيلم كان من الشجاعة بحيث شكل ادانة صريحة للواقع السياسي في ذلك الوقت.
وأشار داود الى ان رؤى ثروت أباظة التي عبر عنها في رواياته ونقلت الى السينما انحازت الى عالم الفقراء وانتصرت للحق والعدل، مع انه كان ممثلا لعائلة اقطاعية ثرية وبرغم انها اضيرت كثيرا من سياسات التأميم والمصادرة إلا ان ذلك لم يمنعه من مناقشة قضايا الانسان المصري وانحاز كثيرا للطبقات الهامشية في المجتمع.

ايوب صابر 11-08-2014 12:28 PM

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 73- اللاز الطاهر وطار الجزائر

رواية اللاز
أول رواية نشرها الكاتب الجزائريالطاهر وطار وذلك سنة 1974 وهي تعالج الصراع بين الثوار والثوار أيام الثورة التحريرية, حيث ذبح بعض الشيوعيين والمثقفين بسبب انتماءاتهم الأيديولوجية, نشرت هذه الرواية في أكثر من بلد وبأكثر من لغة, وهي تدرس إلى جانب رواية الأم لمكسيم غوركي والعقب الحديدية لجاك لندن, في المدارس النقابية والحزبية.
وأهم عمل للروائي جعل شهرته تقفز.

وصلات خارجية

يمكن قراءة هذه الرواية أو نسخها من موقع المؤلف علي الرابط :

ايوب صابر 11-08-2014 04:35 PM

لاز الوطن النبيل
كتبهاالخير شوار ، في 1 ديسمبر 2008 الساعة: 21:23 م

رواية اللازللطاهروطار ككل رواياته السابقة تتناول في متنها الشأن الجزائري خاصة فترة الاستعمار الفرنسي والكفاح ضده عبر حرب التحرير التي شهدت مؤازرة عربية عن طريق مد هذه الثورة بالسلاح والوقوف معها سياسياً في المنابر الدولية..

محمد الأصفر*
تناول الطاهر وطار أيضاً في رواياته الفترة التي أعقبت التحرير وتناول بالتحليل والدرس الشخصيات والفئات التي استغلت هذه الثورة لتجنى ثمار الإنتصار من دون أن تصنعه وعبر هذه الفئات الطفيلية استطاع الطاهر وطار أن يضع إصبعه على جراح وهموم الشعب الجزائري من دون أن يقترح حلولاً ولعل تشخيص الحالة ووضع الأصبع على موضع الداء هو نصف العلاج لأي مرض.
في رواية الشمعة والدهليز والتي على ما أعتقد أنه كتبها في نفس واحد أي في فترة قصيرة متصلة مع بعضها من دون توقف حاول أن يدخل دهليز الظلام بشمعة وقودها روحه وفي هذا الدهليز المظلم أضاء الكثير من المنعطفات والثنايا كاشفاً ما فيها ومنظفها من قذارة الظلم والقهر والنفاق.. لقد حارب الطاهر وطار في روايته الشمعة والدهليز النفاق والتملق عبر شخصية بطل الرواية المناضلة والمثقفة واليسارية وفضح الكثير من لاعني الملة وآكلي الغلة.. الذين ينتقدون الدولة والنظام في المقاهي والجلسات وفي الوقت نفسه هم أكبر المستفيدين من هذا النظام وما أن يدعوهم إليه أو يهمس لهم حتى يهشون ويبشون ويركضون نحوه متنكرين لكل المبادئ التي يطلقها لسانهم والتي ينظرون لها في الاتساع.
عندما قرأت رواية الشمعة والدهليز لم أشعر أن الطاهر وطار يتحدث عن الجزائر إنما يتحدث عن بلادنا فكل ما تناوله عبر الرواية موجود لدينا وأعتقد أيضاً أنه موجود في كل الدول مما يعني أن قضية التملق والمتاجرة والنفاق قضية إنسانية عالمية لا يستحوذ عليها مكان واحد مهما تعاظمت فيه. وهذا الأمر يعتبر أمراً جيداً فالرواية هي فن عالمي ولو أنه يكتسي دائماً بالمحلية، فالمحلية دائماً تتركز في المكان والزمان لكن الأحداث والصراع دائماً تكون عالمية لأن مادتها الإنسان وأحاسيسه ومشاعره ومعاناته.. كل الكتاب المنطلقين من وجهة نظر سياسية والذين لديهم انتماء عقائدي أو سياسي سنجد لديهم المادة الروائية غزيرة جداً.. لأن السياسة تنتقل معهم دائماً إلي الفن.. والسطور تتحول إلى شخصيات والأوراق تتحول إلى منابر تقول فيها كل شخصية رأيها ومن هنا يتحول العمل الفني إلى /خطابة / أو مقالة من الممكن أن ننشرها في جريدة وألا نَصْنَعَ منها رواية.. لكن عند الطاهر وطار يختلف الأمر، فمادته سياسية لكن حبره إبداعي، فروايته عبارة عن لوحة فنية أو جدارية ترى فيها الأحداث قبل أن تقرأها لتحسها وتشعر بها أكثر، فكتابته نابعة من إيمان عميق بقضية الإنسان.. وكتابته محاولة لاكتشاف ما يمتلك هذا الإنسان من طاقات جبارة تمكنه من مقاومة الألم والفناء والانبعاث من جديد.. في الشمعة والدهليز نلمس الغوص في النفس الإنسانية.. نرى التوغل في أعماق هذه النفس بمصباح يذوب كلما عاش أكثر في هذا الزمن.
وفي رواية اللاز التي تتحدث معظم أحداثها عن فترة المقاومة الجزائرية للإستعمار الفرنسي يطرح الكاتب مشكل الإستعمار وما يفرضه من نظم على البلاد التي يحتلها فيقسّم السكان إلى نعم أو لا.. معنا أو ضدنا والشيء نفسه تفعله المقاومة أو الثورة.. ومن هنا يجد الإنسان نفسه بين نارين.. نار الثورة ونار الاستعمار.. وكلاهما يمارس العنف والتصفية على معارضيه.. لقد صور لنا الطاهر وطار في روايته اللاز الدم ومعنى كلمة اللاز هي البطل.. لكن هذا البطل سرعان ما يتحجم ويكاد يختفي منذ منتصف الرواية ليتحول اللاز إلى الجماعة التي تعنى الثورة، لكن في الثورة تحدثت صراعات.. فالثورة ليس لها إلا وجه واحد.. وعندما تجد أن المقاومين متعددي المشارب السياسية تحاول هذه الثورة أن تصفي اليسار فتحاكم كل المنضويين إليها من تيارات سياسية أخرى وهنا يضع الطاهر وطار قضية المتطوعين في المقاومة والذين يتعرضون للتبرأ من أفكارهم السياسية السابقة والانصياع لعقيدة القوة المسيطرة على الثورة الجزائرية آنذاك عبر سطوة القيادة في المنفى.. فعلى الرغم من أن قضية النضال ضد الفاشية والظلم عالمية حيث يشترك في المقاومة الجزائرية إلي جانب المجاهدين الجزائريين عدة أفراد ينتمون إلى أحزاب شيوعية.. أسبانية وفرنسية وجزائرية بل هم أوروبيون وليسوا جزائريين.. إلا أن هذا النضال لا يقبل منهم في النهاية ويتعرضون إلى محكمة صورية تخيّرهم بين التخلي عن المبدأ أو الذبح فيختارون الذبح ربما ندماً وتكفيراً على الالتحاق بهذه الثورة التي باعتهم.
في رواية اللاز حفر الطاهر وطار جيداً في قضية الثورة وفي قضية الدفاع عن الوطن وتحريره ساعده في ذلك أنه عاش هذا النضال عن قرب فأحياناً تشعر أن ما يكتب هو سيرة ذاتية فلا تشعر بأي تكلف في الكتابة فالكلمة جزائرية واللسان جزائري والغضب جزائري والذبح والدماء جزائرية.

وعلى الرغم من قدرات الطاهر وطار الإبداعية الكبيرة إلا أنه لم يبتعد عن واقعه ولم يخرج من ملعبه ليلعب بعيداً عن أرضه.. أي أنه لم يتأثر بما يكتبه الأدب الفرنسي الذي يجيد لغته والذي وقع في فخه الكثير من الروائيين الجزائريين. فجاءت رواياتهم ذات نكهة فرنسية لا تحمل من الخصوصية الجزائرية إلا كون الكاتب جنسيته جزائري.
فرواية وطار واضحة جداً.. دائماً تحكي عن نضال الشعب الجزائري الذي مازال مستمراً حتى الآن ودائماً تنحاز إلى اليسار ودائماً تواصل الحفر لفهم هذا الإنسان الذي يقدم التضحيات من أجل الثورة ثم يسرقها أو يقتلها أو يطفئ لهيبها لكن لا يتركها تندفن أو تتوغل في الظلام فعبر أغنية جزائرية يبعثها من جديد يشتعل الرقص والغناء وتصدح الموسيقا في كل مكان.
من هو البطل ؟
ومن هو اللاز الحقيقي ؟
وما مفهوم البطولة ؟
وهل البطولة تعنى الانتصار ؟
.. هذه المعاني نجدها واردة بصورة جلية في رواية اللاز.
هذا اللاز الذي حنكته الحياة وربّاه الشارع المكتظ بالدروس.. اللاز الذي يرى الوضع بعين النبل حتى وإن كان منحرفا مع العباد فهو مخلص مع الوطن يجند المجاهدين الجدد ويساعد المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي على الهرب بأسلحتهم والإنضمام للمقاومين وعندما تم القبض عليه وجهت له هذه التهمة التي افتخر اللاز بها كثيرا والجميل أن المجاهدين لم يتركوه اقتحموا المعسكر وحرروه ودمروا الكثير من آليات العدو وقتلوا الكثير من جنوده وسأعرض جزء من نضاله عبر هذه المقاطع التي سطرها إبداع وطار على الورق :
/ اللاز… إننا وحدنا، كما رغبت… هيا تكلم… أنت تعيش في الثكنة، في مقر القيادة إن شئنا التدقيق. تتصل بالمجندين المسلمين وتسلم لهم رسائل من الخارجين عن القانون، أو تقنعهم بالقرار، بدون رسائل، وحين تتفق مع ثلاثة أو أربعة تحدد لهم المكان والوقت بعد أن تتصل بالشخص الذي يتولى نقلهم أو إرسالهم أو تهريبهم، سمه كما شئت. كل هذا عرفناه بوسائلنا الخاصة التي تعلمها. و بقي أن تقول لي من هو الشخص أو الأشخاص أو رئيسهم الذي تتصل به أنت. هذا فقط ما أريد معرفته.
سأضمن سلامتك إن اعترفت.
بمن أبدأ؟
فكرة رائعة… رائعة جداً… الشامبيط، الخنزير. لشد ما عذبني بسوطه… الخائن… أكبر خائن على الإطلاق… هو الذي يشي بكل الناس… أربع محاولات اغتيال ينجو منها.
سيساعدني ذلك على اتهامه… سأعلن للضابط أن محاولات اغتياله كانت تمثيلاً لا غير، المقصود منها التمويه عنه.
سأراه منبطحاً على هذه المنضدة كالثور، عارياً تخزه المسامير الحادة، وتلسع جلده اللدن السياط المبتلة، والجراح المملحة.
يا له من منظر! وانفرجت شفتاه المتورمتان عن أسنانه الصدئة السوداء…/.
رواية بها الكثير من الألم وبها تصوير رائع للتضحية في سبيل القيم والمبادئ التي بدأت رحيلها نحو الانقراض.. رواية بها الكثير من الأحداث التي يظنها البعض أنها لعبة ( اكشن ) لكن ليس هناك مقاومة ساكنة أو استعمار صامت فظروف الرواية وأحداثها تفرض على الكاتب أن يضمّنها الكثير من المشاهد الحركية.. طريقة الهجوم.. طريقة التفتيش.. الاغتصاب.. الذبح.. هي رواية بها الشيء الكثير الذي يسمى السيناريو.. تقرؤها وكأن أمامك شاشة تلفزيون.. هي من الروايات التي تقرؤها وتراها بصرياً ووجدانياً في الآن نفسه وعندما تنام تحلم بها كثيرا فتؤرجحك بين حالات كثيرة كابوسية ولذيذة وحالمة.. رواية تجعلك تستيقظ صباحا برأس عنيد كرأس اللاز عندما يقرر التحدّي.

* روائي من ليبيا

ايوب صابر 11-08-2014 04:41 PM

اللاز ملحمة شعب
دراسة نقدية لرواية الفنان الجزائري الطاهر وطار-اللاز


بقلم عبد الله رضوان



تعريف بالمؤلف:

ارتبطت بعض الأسماء الروائية العربية،بظروف تطور مجتمعاتها بشكل انعكس على الكثير من إبداعاتها الروائية،فإذا كان نجيب محفوظ روائي البرجوازية الصغيرة في صعودها ونمائها حتى وصولها إلى الحكم،وصدقي إسماعيل في روايته"العصا"يحد المرحلة التاريخية التي عاشها الشعب السوري بين حقبتين-الأتراك،الفرنسيين-وبداية الاستقلال مشيرا إلى دور البرجوازية الوطنية وظهور بداية التشكل السياسي.
وإذا كان حنا مينة قد التزم في معظم رواياته،باستثناء المرصد،برصد واقع الفقراء وابراز مجموعة من النماذج الفاعلة اجتماعيا وسياسيا في مجتمعه بحيث ارتبط اسمه كمعلم بارز من معالم الرواية الواقعية تستطيع من خلال رواياته أن نقرأ تاريخ سوريا المعاصر.
إذا كان ذلك صحيحا فإننا نستطيع القول بثقة أن الطاهر وطار يشكل ظاهرة فنية مميزة ليس في الجزائر فقط وانما في المغرب العربي عموما،انه رجل الثورة الجزائرية الذي يعي دوره الحقيقي كفنان ملتزم بمجتمعه وشعبه، لصالح تقدم هذا المجتمع وتحقيق الثورة الزراعية والصناعية تمهيدا لتكوين المجتمع الجزائري.الحلم.
وإذا كان بعض الأسماء الجزائرية،التي تتعامل باللغة الفرنسية في إبداعها،قد أخذت حجما متقدما من الاهتمام في المشرق العربي مثل محمد ديب، وكاتب ياسين وغيرهم،فان الطاهر وطار قد ظلم على أكثر من مستوى،علما بأن ما يقدمه يشرب من نفس المنبع الذي قدمه هؤلاء،المجتمع الجزائري الحديث والقديم،الفقراء،مع إيمان حاد بتقدم هذا المجتمع وتغيره ومن هنا أهمية التعريف بهذا الكاتب،وضرورة دراسة نتاجه.
وطار كفنان خصب الإنتاج فقد أمكن التعريف على بعض أعماله التي تنوعت بين القصة القصيرة،و الرواية،والمسرحية.نذكر منها:
الهارب-مسرحية.
الطعنات-قصص قصيرة.
الزلزال-رواية
عرس بغل-رواية.
الموت في الزمن الحراشي.
رواية.
واخيرا وكما ورد في غلاف روايته اللاز،فالطاهر وطار من مواليد 1936،وقد شارك في الثورة التحريرية الجزائرية منذ عام 1956 ولازال عنصرا فاعلا في مجتمعه حريصا على ثورته وعلى استمرار تقدمها.
لماذا اللاز
*تتبع أهمية هذه الرواية التي تقدمت في أهميتها معظم ما كتبه الطاهر وطار،من أكثر من مستوي،منها،ميدان الرواية التي اختار وطار فيها التحدث عن أخطر مراحل الثورة الجزائرية،المرحلة التي تلت انبثاق الثورة،أو مرحلة انتقال الثورة من الحالة العفوية،إلى حالة منظمة،وما اعترى هذا الانتقال من معوقات، بل حد من محاولة تصفية للقوي التقدمية فيها.
الجانب الثاني-أن الرواية-وأن لم تتخذ الحالة التسجيلية،بمعنى أنها ليست رواية تاريخية لواقع معين ولكننا نقرا فيها التاريخ،نعيش حالة الشعب الجزائري عبر ملحمة بطولته في النضال ضد المستعمر الفرنسي،مثل هذه الموضوعات تفتقدها في أدبنا العربي عموما-إذا استثنينا ما قدمه الروائيون الفلسطينيون في اكثر من عمل يتقدمهم الشهيد غسان كنفاني-رشاد أبو شاور واخرون.
الجانب الثالث-يتعلق بالمضمون الثوري الذي تطرحه الرواية وتصر عليه،عن طريق عكس لرؤية وموقف الروائي نفسه أننا نحس بإيمان الطاهر وطار بفقراء شعبية،وقدرتهم الدائمة على النضال،هذا النظال الذي وان بدأ هنا ضد الاستعمار الفرنسي،سنجد انه في الجزء الثاني من الرواية-الموت في الزمن الحراشي-يأخذ بعدا جديدا متمثلا في النضال ضد بعض القوي الغيبية داخل المجتمع الجزائري هذه القوى التي تختار الوقوف ضد الثورة متمثلة بمحاولتها لتخريب الثورة الزراعية.
أننا نلتقي في هذه الرواية بملحمة شعب،شعب المليون شهيد،الذي خاض النضال أشعل ثورته ضد الاستعمار أولا،ثم ضد التخلف والجهل والمرض.
التعامل النقدي مع هذه الرواية سيتم عبر محورين:
المحور الأول-محاولة التحليل الجانب البنائي في العمل.
المحور الثاني-متابعة تطور الحدث في الرواية لتقدمها إلى القارئ ومن ثم الخروج بمجموعة من النتائج والملاحظات حول هذا العمل.
حول المحور الأول نشير إلى أننا نستطيع متابعة الجانب الروائي في الرواية بشكله البسيط والمعقد من خلال متابعة الظواهر التالية:
*الزمن:
عنصر الزمن في الرواية عنصر أساسي،وزمن الرواية-الحدث-يتم في فترة الثورة الجزائرية على أننا نقصد بالزمن هنا،الطريقة التي أستخدمها الراوي في تحديد مسار روايته فالرواية تبدأ من لحظة حاضرة..
- أيه الله يرحمك يا السبع
- سيد الرجال
- عشر رصاصات،ومات واقفا الرواية ص9
الراوي إذن يضعنا أمام حالة حاضرة تتحدث عن لحظة ماضية،انه"قدور"أحد أبطال الرواية،والانتقال إلى الماضي يتم عبر ذكريات الشيخ الربيعي، والد قدور الذي"استند إلى الجدر وأطلق العنان لمخيلته،تتحسس الجرح..شيء عشناه،وشيء سمعناه..وشيء نتخيله"ص10
عندها تبدأ الرواية عبر الماضي-الحاضر،بمعنى أن الراوي ينقلنا عبر ذكريات الشيخ الربيعي إلى لحظة قائمة في الماضي،لنسير معها،عبر بداية جديدة،وكأن الزمن في طريق تشكله التدريجي والطبيعي.
في سير الحدث، يطرح المستقبل، عبر استشر قات وتخيلات القائد- زيدان-حينما يفكر في خلوته في مصير قريته-جزائر،مجتمعة،ثم وعبر تقطيع يشبه المشاهد المتلاحقة وصلت إلي اثنين وعشرين مشهدا، لنصل إلى الخاتمة-العودة إلى الحاضر في لحظة ابتداء الرواية،يعود الشيخ إلى واقعه،أمام مكتب توزيع المنح لاسر الشهداء"هات بطاقتك يا عم الربيعي"ويتقدم اللاز"يقف في أبهة وتطاول...وهو يهتف-ما يبقي في الوادي غير أحجاره-اللاز الذي تحول من حضور مادي محسوس إلي حالة روحية ذات حضور يقترب من الأولياء-بالمصطلح الشعبي-والذي تتابع حركته أو لنقل حركة الروائي معه في جزء الرواية الثاني-الموت في الزمن الحراشي.
هذه الطرية في البناء الزمني،تشبه إلى حد بعيد ما تحدث عنه الروائي جبرا إبراهيم جبرا في حديثه في مجلة الأفلام حول روايته الأخيرة،البحث عن وليد مسعود-وان كان استخدام جبرا لدائرية الزمن استخداما مختلفا عن استخدام الطاهر وطاو،على أن كليهما يتفقان على خصوصية الزمن لدى الإنسان العربي- بل والشرقي-عموما-فاللحظة الحاضرة ليست مفصولة عن اللحظة السابقة-الماضي- وهما بدورهما مرتبطان بحركة المستقبل بعكس الزمن لدى الإنسان الأوروبي الذي يتحرك أفقيا-ماضي- حاضر-مستقبل-دون العودة إلى الماضي لإغلاق الدائرة.
هذا الزمن الدائري نجده يمتد في جوانبه العمل في رواية اللاز-ليصبح كل نموذج رئيسي فيها-اللاز-زيدان-حمو-قدور-بعطوش-يتحرك كل هذه الشخصيات ضمن دائرية الزمن-الحاضر-الماضي-المستقبل-ثم الحاضر-الماضي وهذا في دوائر مختلفة،على أنها قضية-أي دائرية الزمن-في العمل الروائي العربي-بحاجة إلى مناقشة وتعمق اكثر ليس هذا مجاله.
*البطل:
تشير بعض الدراسات الأكاديمية في تقسيمها للأشكال الروائية إلى أن هنالك رواية أبطال،ورواية البطل الرئيسي-النموذج-وسط جمع حاشد من الشخصيات النمطية،وهنالك رواية المكان..الخ،وهنا لن ندخل في تفاصيل هذه التقسيمات،وانما سنتطرق إلى خصوصية الطاهر وطار في تعامله مع أبطاله،إننا في رواياته خاصة-عرس بغل واللازبقسميها-لا نجد اعتمادا على البطل الفردي،بل نجد أنفسنا أمام مجموعة أفراد يتوزعون البطولة في مشاهد مختلفة،في الجزء الأول من اللازيتقدم-زيدان-على المستوى المباشر للحدث ليحتل دائرة الضوء،وزيدان-البطل الثوري الحقيقي-واقعيا،والمسيطر على حركة المحور الحدثي في الرواية،فعند زيدان –القائد الثوري- تتمحور مجموعة خيوط الشخصيات الأخرى في العمل، وحتى الشيخ"مسعود"الذي مارس عملية الإعدام-الذبح من العنق-ضد زيدان ورفاقه،يبقي متراجعا إلى الظل واقعيا وفنيا،ليتقدم زيدان دائما في مركز البؤرة .
وفاة زيدان بهذه الكيفية-الذبح-ثم انفجار الدم أمام ولده اللازعمل على نقل اللاز من دائرة الوعي،إلى حالة أخرى،مما سيساهم على إعطاء اللاز بعدا روحيا جديدا لن نلبث أن نتعرف عليه في الجزء الثاني من الرواية،وهذا ما سنتعرض له في دراسة لاحقة.
هذه الظاهرة-تعدد الأبطال- الملاحظة في أعمال الطاهر وطار الروائية والمتمثلة في تقديم اكثر من بطل مع السماح بتقدم الشخصيات في روايته ليحتل مركز البؤرة دون أن يلغي ذلك حضور باقي الشخصيات،تكاد تعمم في معظم روايات الطاهر وطار،إذ لا وجود لشخصيات ثابتة ضمن محور محدد إلا فيما ندر"كما يلاحظ في روايته الزلزال" فلو عدنا إلى"عرس بغل"فإننا نجد أن أبطال الرواية الأساسين يتورطون وتتغير مواقفهم على الدوام تبعا لتغير الحدث،أ لنضج التجربة.الحاج كيان-عصفور الجنة.العنابيين-الفلاح..الح"وهي نقطة تبقي لصالح هذه الروايات ذات النهج الواقعي في الرؤية التي تعددت أشكال بناءها الفني،بين بناء مباشر كما في اللاز.وبناء رمزي مبسط في الزلزال-أو اللجوء إلي البناء الرمزي المعقد في –عرس بغل-وهذا مؤشر على قدرة هذا الروائي الفذ في التعامل مع واقعه ببعديه الموضوعي والفني.
في اللاز تتقدم الشخصيات لتحتل مواقع جديدة على الدوام،فهي شخصيات نامية ومتحركة داخل العمل،تصل إلى مرحلة النمذجة الفنية في كثير منها،ولو أردنا التمثيل على ذلك بالإضافة لـ ـزيدان واللازـ فإننا نلتقي بـ ـ حموـ قدورـ بعطوش ـرمضان..الخ.
هذا التعامل مع ظاهرة البطل،أعطى رواية"اللاز"تحديدا،بناء ملحميا،يتحرك فيها الشعب،بتناقضاته،وغضبه،بمظاهر المتعددة،الايجابيةوالسلبية،وهنا تتقدم خصوصية جديدة لصالح الطاهر وطار وهي ـ واقعية النقديةـ فهو يعايش مسيرة مجتمعه حتى النخاع يجيء بالإيجابي لفرزه وتثبيته،والسلبي لتحديده ومن ثم تجاوزه والابتعاد عنه،هنا يأخذ العمل الفني دوره الاجتماعي كحالة فاعلة غير معزولة عن حركة مجتمعها.
*اللغة:
اللغة الروائية مسألة من الصعب ضبط وتيرة توجهاتها،ذلك أن لكل عمل خصوصية،وبقدر نجاح الفنان في التعامل مع اللغة،يقدر قدرته على فهم شخصياته،ووعيهم وثقافتهم،أما بالنسبة للطاهر وطار،فان الأمر يبدو قد حسم،ففي"عرس بغل"نجد أن اللغة تشف،وتتعقد أحيانا،وتدخل في سحابات من الحلم والضباب،مما يبعدها عن القارئ العادي،وهذا وضع طبيعي على أساس أنها موجة للنخبة، وان كانت هذه القضية اقصدـ توجد النخبةـ بحاجة إلى نقاش ليس هذا مجاله.
في اللاز،نجد مستويين من اللغة،المستوي الأول،المباشر،الحدثي الذي يجيء على لسان الشخوص،وهو بسيط يقترب من العامية،بل ويدخل فيها أحيانا وهذا ما يتفق مع وعي شخوصه،لتراقب هذا الحوار،بين حمو،وقدور قبل التحاق الأخير،بالثورة"تصبح على خير،أنها الرابعة،تأخرت عن أيقاد الفرن ..تختلف عن موعد"دايخة"..لايهم...تصبح على خير.
-ربي يعزك..حمو..أنت أخ بحق"-ص32
بينما نجد أن مستوى وطريقة بناء الجملة يختلف حين يتعلق الأمر بالتعبير عن حالة الحلم، فالجملة عندها تصبح قصيرة مكثفة،محملة بشحنة شعورية عالية ومتدفقة،لتراقب هذا المقطع حول تداعيات-زيدان-القائد المثقف.
هذا الوليد..آه..الجزائر..هذا الوليد لا يزال في المهد،بل لا يزال جنينا،نقطة في أحشاء التاريخ،يكتمل نموه ويولد،يرضع ويحبو،ويسقط مرات ومرات،ثم ينهض على قدميه،يمشي على الجدران،يقف معتدلا،يسقط وينهض...وسيظل طيلة سنوات طفلا صغيرا،سيظل بلا منطق زمنا طويلا..من يدري أي عذاب يلحقه أثناء مرحلة المراهقة آه..هذه المرحلة يجب أن نكون نحن"ص109.
هنا اللغة تستخدم في أدق تجليتها..زيدان القائد المثقف،يرسم من خلال حلمه مستقبل شعبه،ومجتمعة،بل ثورته.
اكتفي بهذه الملاحضات حول الجانب البنائي في الرواية،وانتقل لمناقشة المحور الثاني
*الحدث:
اللاز-هو الشخصية الذي يتمحور حولها سير الحدث في الجزء الأول من الرواية،طفولته طفولة شقي،اندع الرواية تقدمه لنا"هذا اللقيط الذي لا تتذكر حتى أمه،من هو أبوه..برز إلى الحياة يحمل كل الشرور..يضرب هذا..يختطف محفظة ذات،ويهدد الأخر أن لم يسرق له النقود من متجر أبيه..حتى إذا جاء يوم الأحد بادر إلى الملعب،شاهرا خنجره في وجوه الصغار حتى ينزلوا عند إرادته"ص12.
مكابر،معاند،وقح،متعنت،لا ينهزم في معركة،وان استمر عدة أيام،يضربه المرء حتى يعتقد انه قتله،لكن ما أن يبتعد عنه حتى ينهض ويسرع على الحجارة..مما جعل الجميع كبارا وصغارا يهابونه،ويتحاشون الاصطدام معه.
اللقيط،كلما كبر واعتق الناس انه سيهدا.. ازداد سعاره.. حتى بلغ معدل دخوله السجن،ثلاثين مرة في الشهر،ص13.
هذا هو اللاز،عند قدوم المستعمر الفرنسي يقوي علاقته بالجيش الفرنسي،ثم يصبح على علاقة وثيقة مع الضابط-مسؤول المعسكر-مما يزيد من كرة القرية له،اتهمه البعض بالخيانة ولكنه لم يقتل،ولو كان خائنا لصفاه الثوار،وكذلك لم تمسك عليه خيانة واحدة.
فجأة نجده مدمي،يجره الجنود،يضربونه وهو يسير أمامهم في شوارع القرية حتى يتوقف أمام دكان قدور صارخا"حانت ساعتكم كلكم"
ينتقل الحدث إلى قدور- الوحيد الذي يعلم بعلاقة اللاز بالثورة،وقد استلم قدور التحذير من اللاز،فيقرر الالتحاق بالثوار في الجبل،يهجر القرية تاركا حبيبته وأمه وحياة الدعة والاستقرار،منتقلا إلى مرحلة جديدة،المشاركة في النضال المباشر-الحرب-ضد الاستعمار الفرنسي مع صديقه.حمو-الذي سبقه إلى الجبل مستعرضا الروائي قصة انضمام قدور إلى الثورة عن طريق صديقه حمو-الفقير المعدوم الذي لا يملك إلا قوة عمله كخمار في فرن يمتلكه أحد السادة-حمو الذي التحق بدوره بالثورة بعد أن نظمه أخوه زيدان فيها.
زيدان،الشخصية الثورية الفاعلة الذي يجمع بين الفعل والنظرية،مثقف،واحد الأعضاء التقدميين،ناضل طويلا،أتقل عاملا إلى باريس،هنالك تعلم،ثم انتقل إلى مدرسة للكادر،عاد بعدها مقاتلا في صفوف الثورة الجزائرية ضد فرنسا،ليس مقاتلا فقط بل ومنظرا،وقائدا لإحدى الفصائل الثورية.
زيدان هو الذي نظم-حمو-الذي بدوره الحق-قدور-بالثورة في جهازها السياسي أولا،ثم ليتسلم قدور مكان حمو كمسؤول في القرية بعد التحاق حمو بالجبل،وليفاجأ قدور بعد فترة بدخول اللاز عليه قائلا كلمة السر"ما يبقى في الوادي غير أحجاره"ثم لتصبح هذه المقولة فيما بعد عبارة تردد على لسان،مشيرة إلى أن الحق،والحق فقط،هو الذي يبقى وان الاستعمار والخيانة،في سبيلها إلى الاندحار تدريجيا.
انضمام اللاز إلى الثورة جاء بعد لقائه مع زيدان،اللاز يبحث عن زيدان ابن قريته،ويجده باستمرار وكأنه يراقبه،في إحدى المرات يطلب من زيدان أن يضمه إلى الثورة،أن يضمه إلى الثورة،يفاجأ زيدان ولكنه،وحين يرى الإصرار عند اللاز،يخبره بأنه سيعمل على ذلك ،يصعدان معا في القطار الذاهب إلى المدينة.
يتحدثان في الطريق فيعترف زيدان للاز بأنه أبوه،وانه أي اللاز ليس لقيطا،فقد جملت به أمه-مريام-بعد أن شتت العسكر الفرنسي أهل القرية التي كانوا يعيشون فيها،فالتقى مع ابنة عمه في الغابة-أم اللاز-وعاشا معا شهرا كانت حصيلة اللاز.أما الأب فقد القي القبض عليه وارسل إلى الخدمة الإجبارية في الجيش الفرنسي.هذا السر الذي كشف،يهز اللاز من أعماقه،يفرح،وبعد أن يهدأ من المفاجأة يخبر أباه مستفسرا عن مقولة سمعها من الضابط الفرنسي،بأن لونه-أي زيدان-"احمر"وان الضابط وضع اسمه"زيدان"على رأس قائمة المطلوبين وهذا ما دفع اللاز للبحث عن زيدان لإخباره،لماذا"كنت دائما احبك يا عم زيدان..يا أبي..لانك الوحيد الذي لم يؤذني،ولم يشتم أمي..ولانك الوحيد الذي يحتقر الأغنياء ويسبهم..الوحيد بعدي طبعا ص67 عندها يطلب زيدان من ابنه الاتصال بقدور رجل الثورة في القرية ويخبره بكلمة السر"ما يبقى في الوادي غير أحجاره"لتتحدد مهمة اللاز في مساعدة الثوار المعتقلين،وهي المساعدة كذلك على تهريب الجنود الجزائريين من خدمتهم الإجبارية إلى الجبل للالتحاق بالثورة.
هذا الوضع يمهدنا للعودة إلى الضابط في تحقيقه مع اللاز،مع تصوير للتعذيب البشع الذي تعرض له اللاز دون أن يعترف،في النهاية يقرر اللاز أن يلعب لعبة تطيل الوقت أمام قدور ليتسنى له الهرب وإخبار الرفاق،وترفع التعذيب عنه،فيقرر الادعاء بأن-الشامبيط-الجزائري الفني المتعاون مع المستعمر هو الذي نظمه،وانه أي الشامبيط-يعمل مع الثورة وان ادعى بأنه يخدم فرنسا فليس ذلك إلا ادعاء طلبه منه الثوار.
هنا تتدخل الصدفة،والصدفة،في حياة اللاز مقبولة ومبررة لأننا وأن بدأ التعامل مع شخصية واقعية،فإنها-أي شخصية اللاز-شخصية ذات بعد روحي،بمعنى أنها تمزج الواقع بالخيال،الحلم بالحقيقة،الغيب والحاضر معا،وهذا ما سيتضح في الجزء الثاني من الرواية.
هذه الصدفة تمثلت في دخول الشامبيط معلنا هرب قدور من القرية،فيتغير الموقف،الضابط يطلب من خادمه إعطاء اللاز مزيدا من الخمر،بعد خروج الضابط من القرية،تتدخل شخصية جديدة هي السرجانت.
رمضان-الجزائري الذي يخدم في الجيش الفرنسي والذي يعرف اللازجيدا،يتقدم رمضان إلى مكان اللازحاملا الخمر ليقدم إلى مساعد الضابط الذي بقي عند اللاز،عند دخوله يقتل المساعد الفرنسي،ويأخذ اللاز معه بعد أن البسه ملابس المساعد،ويخرجون مع اثنين من الجنود الجزائريين للالتحاق بالجبل،يفقدون أحدهم في صدام مع نقطة حراسه وينطلقون ثلاثتهم إلى الجبل معتمدين على حدس اللاز في معرفة الثورة.
هنا تأخذ الرواية مسارين،الأول في القرية.
الثاني في الجبل.
في القرية يجمع الضابط قواته بعد اكتشافه موت مساعده ستيفان،وهرب اللاز،وينتقل إلى القرية،إلى بيت قدور.
يدخله ويطلب إحضار مريام أم اللاز،في بيت قدور يجد أمامه الأب الربيعي.والد قدور وزوجته-خيرية،خالة بعطوش الخائن مع فرنسا ضد أبناء قريته،والذي رفع إلى رتبه"كابران"ليصبح المساعد الأول للقائد الفرنسي،يطلب القائد من بعطوس أن يقتل بقرة خالته،فيفعل،ثم قتل مريام أم اللاز،فيفعل ذلك أيضا،الضابط الفرنسي يطرحه لنا الروائي كشخصية مريضة تعاني من مركب نقص كتمثل في عقدة اللواط.فيطلب من بعطوش ممارسة الجنس مع خالته أمام هذا الجمع المكون من القائد،والشامبيط والربيعي،الزوج،وبعض الجنود،فيفعل ذلك أيضا،هنا تصل شخصية بعطوش إلى حالة لا إنسانية قدرة ،لكن إيمان الطاهر وطار بشعبه،إيمان عظيم فهو لا يسمح بانهيار أحدهم،ففي الوقت الذي يستمر الشامبيط-صاحب المصلحة- الغني-في تعاونه مع فرنسا،نجد بعطوش يأخذ موقفا مغايرا،فهو يصاب بانهيار عصبي،ولا يستطيع نسيان ما فعله يحاول الهرب إلى المخمر فيفشل،ثم يقرر عمل شيء أخر،فيقتل خالته وكأنه يقتل عاره وسقوطه هو لكن ذلك لا يشفيه فيعود إلى المعسكر مقررا عمل شيء أخر.
هذا التغير الانقلابي الذي يحدث مع"بعطوش"قد يبدو تغيرا غير مبرر فنيا،ولكن ضخامة الأحداث التي وقعت في هذه الفترة الزمنية الضيقة لم تستطيع عقلية بعطوش-الشاب الفقير البسيط،الذي كان يعمل راعيا،أن يتحملها،خاصة وانه لا يتعامل عم الفرنسيين من منطق تعامل-الشامبيط-معهم،فالشمبيط يعتبر أن استمرار نفوده ومركز الاجتماعي والمالي مرتبط بفرنسا يعكس بعطوش الذي لا يريد إلا أن يصبح سيدا"آه بعطوش"يا رعي العجول لقد صبرت سيدا،سيدا معتبرا"ص127،يضاف إلى ذلك إيمان الروائي بشعبه،دفعه إلى عدم الإساءة حتى إلى بعطوش الذي ما أن ارتكب أخطاءه هذه حتى دخل في حالة انهيار عصبي،هذيان،بدأت الأشياء خلالها.تضح بصورة مشوشة مع تركيز غير واعي على منطقة تجمع البنزين في المعسكر ،واتجاه تفكيره يميل إلى تخيل منظر المعسكر وهو يحترق.
تصل المر إلى حافة الانفجار حين يدعوه الضابط إلى المبيت عنده لإشباع مركب نقطه،هنا يعود"بعطوش"إلى الانهيار من جديد،يقترب من الضابط المستلقي على بطنه ،يخنقه ثم ما يلبت أن يستل خنجره وراح يطعنه أينما صادف..ظل يطعن ويطعن حتى انفتحت عيناه..لقد زال الضباب"ص263.
الفرنسي ثم يبدءون بنقل الذخائر المتبقية والأسلحة إلى الخارج،عندها يلتقون مع أحد الثوار الذي يعرفه علاوه،هذا الثائر جاء أصلا لاغتيال بعطوش ولكن المعادلة تغير فقد اختاربعطوش موفقا جديدا-فهو الذي قتل الضابط،أشعل النيران في المعسكر-فيتعانقان-الثائروبعطوش ويبدأ الجميع ينقل الذخائر إلى الجبل والزغاريد تملأ سماء القرية تحية الأبطال.

*المسار الثاني للرواية:
يكون في الجبل،مع زيدان ورفاقه وقد انضم قدور إليهم وتوجهت المجموعات لاداء مهماتها،عارضا لشخوص متعددة من الثوار،مبرزا بعض أطفالهم،وعبر تداعيات زيدان لشكل الثورة،واقعا،ضرورة النظرية لدعم البندقية،ثم ليلتحق اللاز ورمضان ورفيقيهما الثالث بزيدان،وتعود المجموعات بعد أداء مهمتها،عندها نلتقي بعنصر جديد جاء ليطلب زيدان لمقابلة القيادة،يطبق زيدان المركزية الديمقراطية فيتم اختيار السبتي مكانه لحين عودته،ويذهب مع ولده اللاز،والعنصر الجديد إلى القيادة،في الطريق يلتقون مع فرقة-الشيخ مسعود-ويلاحظ زيدان بعض الأوربيين الأسرى معه،يتعرف فيهم على رفاق قدماء من فرنسا وإسبانيا،يلقي الشيخ القبض على زيدان،يسجنهم في مغارة ليقرروا حل التجمع التقدمي الذين ينوون تشكيله،في المغارة تتضح الكثير من المفرقات،ثم ليأخذ القرار بعدم حل أنفسهم لانهم مؤمنون بموقفهم وانهم لا يمتلكون ولا يريدون الحل،فيحكم عليهم الشيخ بالذبح من العنق،يشترط زيدان أن يبعدوا اللاز حتى لا يرى هذه المذبحة،ولكن وحين جاء دور زيدان أرسل الشيخ أحد اتباعه لجلب اللاز الذي ما رأى ذبح أبيه حتى وقع صريعا منتقلا من حالة الوعي إلى حالة روحانية جديدة نتعرف عليها في الجزء الثاني من الرواية.

*نتائج وملاحظات:
*أولى هذه الملاحظات التي تفرض حضورها على القارئ والدرس معا،هو هذا البناء الملحمي الضخم المتمثل بحركة شعب أثناء ثورته وانفجاره ضد مستعمريه،مع إبراز قدرة هذا الشعب العربي على فرض إرادته، وحصوله على استقلاله.
هذا البناء الملحمي،ومتابعة الحدث على أكثر من رافد،لتصب جميع الروافد في الحركة المركزية-الثورة –يؤكد المقولة السابقة حول انتماء هذا الروائي لشعبه وأرضه،والتصاقه بهما حتى العظم.


*الملاحظة الثانية:
تتعلق بهذه الملحمة الواقعية.التي نلتقي فيها،بأشكال واقعية متداخلة بين واقع تسجيلي لعل.اكثر من يدلل عليه،ما حدث بين جماعة الشيخ مسعود وبين زيدان ورفاقه.
ثم الواقع النقدي-الذي يتمثل في اكثر من موقع في الرواية،أبرزه كذلك الحوار الذي يدور بين-الناصر-قائد المجموعة التي نفدت حكم الإعدام بالخونة،وبين القائد زيدان الذي يرفض أية ظواهر انحرافية والتي تمثلت بحديث الناصر-بحيث بدا انه يمارس متعة القتل،والثورة ليست ممارسة متعة بقدر ما هي واجب،ونضال واعي ومدروس لتحقيق الأهداف النبيلة.
كذلك نلتقي بنقد لاذع لبعض حالات كانت سائدة في المجتمع الجزائري،مع إدانة كاملة للاتجاه الغيبي الذي كان متواجدا في الثورة الجزائرية،وسنجد استمرار هذا الصاع بين الاتجاه الغيبي والاتجاه التقدمي في الجزء الثاني من الرواية بحيث أن هذا الصراع سيشكل المحور المركزي الذي تدور حوله رواية"الموت في الزمن الحراشي".
كما يتضح هذا البناء الواقعي في الإيمان الجاد والقوي بالشعب ممثلا لفقرائه،وقدرة الشعب على بناء الجزائر الجميلة والفتية.
هذه الأطروحة التي نلمسها في الرواية تنقلنا للتحدث حول انتماء الطاهر وطار إلى المدرسة الواقعية-ليست الواقعية الجامدة-الفهم الميكانيكي لحركة الواقع ومن ثم بناء العمل الفني وانما الواقعية الخلاقة التي تحدد مناطق السلب لتجاوزها،وتدفع وتعمق الاتجاهات الإيجابية مع الحفاظ على البناء الغني المتماسك،مما يعطي الطاهر وطار قدرة روائية فنية متميزة.
*الملاحظة الأخيرة:
أن هذا العمل يبرز قدرة الطاهر وطار على تطوير شخوصه،ليتجاوزوا دائرتهم الحياتية،تمهيدا للوصول إلى النموذج الفني-أرقي أشكال التعامل الجمالي مع الواقع خاصة في طرحه لشخصيات-زيدان-بعطوش-اللاز-
وبعد..فإنها رواية عظيمة،تستحق أن تدرس بعمق اكبر،لابراز جوانبها المتعددة،والتي أرجو أن أكون قد وفقت في إبراز بعض منها.
قتل الضابط يعيد إلى بعطوش توازنه فيأخذ رشاش الضابط،وبعض القنابل وينطق إلى تجمع السيارات والبنزين فتتوالى الانفجارات،ثم يلتقي"بعلاوة"الجزائري المجند في الجيش لتشكل فريق جزائري يقوم بمهمة إبادة المعسكر.
بقلم عبد الله رضوان
جريدة الدستور الأردنية 26/12/1980

ايوب صابر 11-10-2014 12:10 AM

تابع


الراحل الطاهر وطار : بين فضاء الإبداع ودهاليز السياسة


ياسين تملالي
الحوار المتمدن - العدد: 3094 - 2010 / 8 / 14 - 13:45
المحور: الادب والفن


بالرغم من أن أول نص روائي جزائري عربي اللغة كان "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة (1971)، لا شك في أن الطاهر وطار، بغزارة إنتاجه (10 أعمال) وتنوع مواضيعه هو من أسس الروايةَ الجزائرية المكتوبة بالعربية في منتصف السبعينيات، أي بضعة عقود بعد ميلاد نظيرتها المكتوبة بالفرنسية.

بدأت مسيرة وطار الأدبية في تونس خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962) بنشر بعض النصوص في الجرائد والمجلات وكتابة مسرحيات نذكر منها "الهارب" (نشرت في الجزائر سنة 1971)، لكن أولى مؤلفاته لم تصدر إلا في 1961، في شكل قصص قصيرة ("دخان في قلبي") حُولت إحداها إلى فيلم بعنوان "نوة" أخرجه عبد العزيز طُلبي سنة 1972. وقد كانت "نوة" بوصفها البليغ لتحالف الإدارة الاستعمارية مع كبار ملاك الأرض، إيذانا بما سيكون عليه كاتبُها من إيمان بواقع صراع الطبقات المرير وراء واجهة الأمة الواحدة المتحدة.

نشر وطار أولى رواياته، "اللاز"، في 1974، فجاءت صدمة لكل من كان يعتقد أن مناقضة تاريخ الثورة الرسمي مهمة مستحيلة على رجل هو عدا كونه عضوا في "الحزب الواحد"، كاتبٌ لغتُه العربية وما ألصقَ العربية آنذاك لدى قطاع كبير من الأنتلجتنسيا بـ "الرجعية الدينية" من جهة والأيديولوجية الرسمية من جهة أخرى. عبر حكاية اللاز، الشاب اللقيط الذي تزدريه القرية كلها ويبادلها هو نفس الشعور، يروي هذا النص انتقال الشعب الجزائري من مرحلة تلقي ضربات الاستعمار (والعمل على نسيانها بسرقة ملذات صغيرة عابرة) إلى مرحلة الثورة، لكنه يروي أيضا ما تخلل هذه المرحلة من مآس منها تصفية جبهة التحرير لشيوعييها إثر رفضهم حل تنظيمهم والالتحاق بصفوفها فرادى.

ليست "اللاز" رواية واقعية-اشتراكية فالتصفيات الجسدية في أوساط الثوار تلقي بظلالها على التعبئة البطولية من أجل الاستقلال، لكن كاتبها، بما لا يدع مجالا للشك، كان اشتراكيا، لم يمنعه الانتماء إلى الحزب الواحد من إدراج الشيوعيين في عداد محرري البلاد، ما كان تابوها في أوساط هذا التنظيم الأحادي بالرغم من يساريته الرسمية (بل وتحالف بعض قطاعاته مع الحزب الشيوعي في بداية السبعينيات).

اقتناعات وطار السياسية تجلت في اختياره مواضيع الكثير من رواياته : "الزلزال" (1974) التي تروي، من خلال شخصية عبد المجيد أبو الرواح، سعي البورجوازية وكبار الملاك إلى إفشال التأميم والإصلاح الزراعي، و"العشق والموت في الزمن الحراشي" (1982) التي قدمت على أنها الجزء الثاني من "اللاز" والتي تصف الصراع في البلاد بعد استقلالها بين مؤيدي الثورة الزراعية و"الرجعيين" الذين يرفضونها بحجة أن الطبقات "سنة الله في الكون". في هاتين الروايتين كذلك، لم يكن وطار بالكاتب "الواقعي-الاشتراكي المتفائل بـ"طبعه" أو بأمر من الحكام. بالعكس، سعى إلى تدمير أسطورة توازي الاستقلال والرفاهية فرسم الجزائر في أبشع ما عرفته من فقر وانتشار للرشوة والمحسوبية سنينا معدودة بعد رحيل المعمرين الفرنسيين.

نشر وطار في 1978 و 1981 على التوالي روايتين "غير سياسيتين" إن صح التعبير، هما "الحوات والقصر" و"عرس بغل". تصف الأولى في قالب أسطوري رمزي، إحباط "الرعية" (الحوات) العميق وهي تكتشف "راعيها" (القصر) في أفظع وجوه استبداده ووعيها بضرورة التخلص منه. و تدور أحداث الثانية في ماخور أثناء تحضير زواج إحدى المومسات فيما يتركز "خطابها الأيديولوجي" على فضح التاريخ الرسمي للدولة الإسلامية والتذكير بما عرفته من حركات انتفضت على الإسلام المؤسساتي المهادن.
وكان هذان النصان ختام مرحلة أولى من مسيرة الكاتب الأدبية، تلتها أخرى تراوحت اهتماماته فيها بين تجذير نقده للنظام ووصف صعود الحركات الإسلامية. ونذكر من أعمال هذه المرحلة الثانية "تجربة في العشق” (1989) و “الشمعة والدهاليز” (1995) و كذلك "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" (1999).

تبدو أولى هذه الروايات شبه سيرة ذاتية، فمن خلال حكاية مثقف ينتهي به الأمر مفصولا من عمله في وزارة الثقافة (وطار كان "مراقبا" بالحزب ثم أحيل على التقاعد)، يُسَلَطُ الضوء على علاقة الانتلجنتسيا الجزائرية بالسلطة وتردد الحكام بين الرغبة في كسب ودها ومصادمتها. الروايتان الأخريان تتطرقان إلى صعود نجم التيارات الدينية الأصولية في الجزائر (والعالم العربي والإسلامي)، ولا يبدو التدين فيهما كما في نصوص سابقة مرادفا للرجعية ونصرة الإقطاع والبورجوازية. بالعكس، فإحدى شخصياتها تتساءل وهي ترى الحشود تلبي دعوة حزب إسلامي إلى التظاهر في ميدان عام : "لو كان لينين حيا لتساءل : ماذا سيخسر هؤلاء الجياع لو انتصروا باسم الله". أما رواية "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي"، فتركز على مفارقات هذه الحركات الدينية وتأرجحها بين الرغبة في تحرير الإنسان وسعيها إلى ذلك بوسائل العنف والترهيب.

لم يكن وطار أديبا فحسب. كان أيضا مجادلا ماضي اللسان، ويمكن القول إن ازدياد وعيه بطاقة الدين التعبوية وهو يرى جبهة الإنقاذ تكاد تصل إلى سدة الحكم في مطلع التسعينيات، ترافق بتعمق مقته لمن كان يسميهم "الفرانكفونيين"، على اعتبار (خاطئ واعتباطي) أنهم كلهم لا يقفون في صف الشعب ولا يحترمون لغاته وثقافته. وقد اتخذ هذا المقت في بعض الأحيان أشكالا بالغة العنف كان أحدها تصريحا قال فيه معلقا على اغتيال الكاتب الجزائري طاهر جاووت في 1993 : "لا أحد سيفتقده سوى أمه وفرنسا".

مثل هذا الكلام رسخ لدى بعض الجزائريين، ممن لم يعرفوا عن صاحب "اللاز" سوى مواقفه السياسية في التسعينيات وسنوات الألفين، صورة كاتب محافظ بل وإسلامي متطرف. لا شك أن وطار، بتصريحاته المثيرة للجدل، مسؤول عن هذه الصورة إلا أنها قطعا إكليشيه سريع يهمل أنه على "تعربه"، كان من أول من طالب بالاعتراف باللغة الأمازيغية وأن "محافظته" لم تحببه يوما إلى الإسلاميين فلم يتخلوا أبدا عن نعته بـ "الكاتب الشيوعي".

ايوب صابر 11-10-2014 01:18 PM

تابع...

-يقول عن نفسه "لقد اتجهت لكتابة الرواية في الخمسينيات وكان زادي قراءة طويلة وعريضة ومعرفة ودراية بقواعد واصول الملحمة والتراجيديا والدراما من الاغريق الى الانكليز الى الكلاسيكية الروسية الى الاتجاه الاميركي والفرنسي ..

- انا لا اكتب الرواية تناصا.. اكتبها عن وعي ودراية.. والوم زملائي في العالم العربي انهم يكتبون دون الارتباط بأصول الفن الروائي..

- نقرأ الرواية المكونة من مائتي صفحة.. لكن يمكن ان تقرأ عشر صفحات ثم تقفز الى الصفحة الثلاثين ثم تقفز الى الصفحة السبعين دون ان تشعر بأن هناك انقطاعا قد حدث.. بينما حين تقرأ رواية ماركيز (مائة عام من العزلة) فأنت مرتبط بكل سطر فيها حتى تعرف مثلا مصير الولد الذي سيولد بذنب فتنقرض العائلة..

- وهذا ما يقلل قيمة الكثير من الروايات العربية.. لان اصحابها يجهلون اصول كتابة الرواية..

- وانا بالنسبة لي كاتب هاو لا اكتب لغيري.. كلما امتلأت اكتب.. ولم اشارك في مسابقة اطلاقا.. واختلفت مع جابر عصفور عندما طلب مني ان اشارك في مسابقة.. فاحترت كيف انه يطلب مني ذلك بعد كل هذه المسيرة والتجربة اذهب كناشئ واتقدم للمسابقة انتظارا للتقييم.. واذكر انني ارسلت له رسالة غاضبة.. وقد دعاني لزيارته حتى يشرح لي وجهة نظره في الموضوع لكنني رفضت..

- كل ما كتبته نال اهتمام النقاد.. سلبا ام ايجابا.. لان حتى من يكتب عنك سلبا فهو على الاقل قرأ.. لقد كتب حول تجربتي نقاد كثيرون منهم صلاح فضل وجابر عصفور نفسه الذي وضع مقدمة للترجمة الانكليزية لروايتي (الزلزال).. وغيره كثيرون.. ولدي موقع في (الانترنت) فيه مئات الشهادات من كتاب كبار..

- كذلك ترجمت ثلاثة من اعمالي في المانيا وتدرس كتاباتي في الجامعات هناك وتترجم في باريس.. كل هذا تكريم..

- وانا لا اكتب بماء الذهب حتى ارجو من الناس ان يقيمونني تقييما جيدا.. ولكن استطيع اقول ان معظم ما كتب كان لصالح كتاباتي..

- وهناك البعض لا يعترفون بي لدوافع ربما ايدلوجية.. يرفضون كل تجربتي وفكري.. وانا متسامح معهم.. والغلبة في نهاية الامر للتاريخ لانه هو الذي سيحكم..

- وانا مسرور كون هناك شباب في الجزائر يكتبون الآن رواية جيدة.. يكتبون عن معرفة بأصول الكتابة.. هؤلاء لا اقول انهم امتداد لي.. ولكن على الاقل ينشأون الآن في مظلتنا.. ولذلك فهم اقدر مستقبلا على تقييم تجربتي.

- الواقع انني كاتب سياسي وعندما اشعر انني افرغت الحقبة السياسية التي تشغلني انتظر لأن ليس لدي ما اضيفه..

- وفي رواياتي تنبأت بأشياء كثيرة.. فلي مثلا رواية (تجربة في العشق) كانت حلما وقتها حول عودة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية حيث قلت انهم سيعودون الى الارض المحتلة.. وهذه الرواية نشرت في الثمانينيات قبل اوسلو بسنوات طويلة.. حيث قلت فيها انهم سيدخلون بدون سلاح الى ارضهم..

- وكما قلت انا لا اكتب يوميا او سنويا.. وانما كل اربع او خمس سنوات ثم امتلئ واتفرغ للكتابة اياما معدودات.. لا تتجاوز غالبا الثلاثة اسابيع.. واكتب الرواية على نفس واحد.. كل يوم عشر ساعات تقريبا.. بدءا من التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء.. الى ان تكتمل الرواية.

- يبدو عموما ان الخلاصة التي خرجت بها الرواية العربية بعد استقراء طويل جدا هو ان كثيرا من زملائنا الروائيين لا يعرفون اصول الدراما.. لا يعرفون اصول التراجيديا.. ولا الكوميديا.. يكتبون تناصا.. يستحلبون من ذاكرتهم اشكالا وشخصيات..

- فالكتابة الروائية ينبغي ان تكون عن اصول وقواعد.. هناك كما قلت للاسف روايات مليئة بالحشو وما لا يلزم.. ويمكن ان تفهم خلاصتها من قراءة بعض صفحاتها فقط.. فهي تخلو من المقدمة المنطقية والبناء العقلاني للشخصيات.. وتفتقد الى التناسق بين اللغة والمضمون والشكل والحالة الروائية في فصولها المختلفة.. فاللغة تبدو متنافرة مع رواية تتحدث مثلا عن بحر هادئ ولكن كلمات السرد تجئ محماة ومتشنجة.. هناك استسهال للاسف في كتابة الرواية.. وكثير من الروائيين اكتسبوا اسماء فصاروا يدمجون الروايات بشكل متواتر.. وهناك كتاب لا اسميهم قلت لهم في وجوههم انكم لم تكتبوا روايات.. بل كتبتم ملخصات لافلام.. وعلى كل ومهما كان فالرواية في العالم العربي صارت مهمة سهلة ففي اليوم الواحد يمكن ان تصدر عشرات الروايات .. لكن لن نخرج من كل هذا الكم الا برواية واحدة.
(ترجمة ابداعية)
* ماذا أضافت ترجمات أعمالك لتجربتك الابداعية.. وهل كان انتقاء هذه الترجمات موفقا من ناحية ومصقولا على النحو الذي تتمناه من ناحية اخرى؟
** مجرد ترجمتي في بلدان اخرى وبلغات اخرى فهذا هو من وجهة نظري اعتراف بأهمية تجربتي الروائية .. وسواء كانت هذه الانتقاءات موفقة ام لا او مصقولة ام لا فهي في النهاية حملت روحي الروائية الى مدى بعيد وعرفت الاخرين بما اكتب .. واظن أن ذلك أسهم في ذيوع الرواية التي اكتبها .. كما كرست للرواية العربية بشكل او باخر في خارطة الرواية الدولية
*مازال النقاد العرب يحاولون التنظير لرؤيةنقدية عربية تجاور النص الابداعي العربي وتكون اكثر تماهيا معه وبعيدا عن هذا التنظير المسافة تبدو بعيدة بين النقد والابداع .. واقترابا من تجربتك نسأل عن المدى الذي يمكن ان نتحدث عنه بين خطاب النقد وخطابك الروائي؟‍!
** النقد العربي مع الاسف الشديد لا يمارس من منطلق ان الناقد احب عملا ابداعيا ما او يريد منه الخروج برؤية نظرية ما .. ولكنه في كثير من حالاته يكون من اجل بعض الدولارات يأخذها من مجلة او صحيفة او ندوة.. وهو ليس نقد بمفهوم النقد بل هو مجرد تقرير او استعراض ليس الا .. وهذه الكتابات غير النقدية لا تتابع حركة الكتابة الروائية او الشعرية في العالم العربي بحيث تتناول الانتاج الجاد والمهم وكذلك متابعة الاصوات الجديدة .. معظم النقاد او من يسمون بنقاد يكتبون عن حنا مينا ونجيب محفوظ واميل حبيبي والطاهر وطار وهي اسماء معروفة يستعرضون من خلالها ادواتهم الجاهزة غالبا مع وضع قليل من البهارات حتى يتميزون عن سواهم ويرتبون انفسهم في مقام ذلك الروائي المعروف وهذا امر مؤسف جدا ويكشف حقيقة العوز النقدي الذي نعيشه .. ربما في الجامعات والمعاهد والمؤسسات العلمية هناك عمل نقدي جاد وجماعي ويشرف عليه اناس لهم خبرتهم في هذا المجال وهو جهد مفيد ويبين مسالب وايجابيات العمل الابداعي وهذا النقد نحن نبشر به وننتظر انتشاره وان لا يكون فقط حبيسا داخل هذه المؤسسات الاكاديمية .. ومع ذلك فلي ملاحظات على بعض المناهج الادبية والنقدية فبعضها قديم تجاوزه الزمن وبعضها غربي محض لا ينطبق على ذهنياتنا الشرقية والعربية ولكن هذا المتاح الان على الاقل وربما تولد مستقبلا مدارس نقدية عربية رغم انني ارى صعوبة في ذلك..
حيث حاولت شخصيا ان نفعل شيئا في هذا المجال .. وبدأنا بالفعل نبحث ونضيف اشكالا جديدة أو بالاحرى قريبة منا فنضيف مثلا للواقعية التجريد او نستخدم اشكالا هندسية ما كانوا يلتفتون اليها .. ولكن جهودنا وحدها لا تكفي لاحداث التحول المرتقب في المفهوم النقدي سواء الروائي او الشعري
(كتابة حديثة)
*وماذا تقول للذين يقولون ان تجربة الطاهر وطار توقفت عند نقطة ما وتجاوزها الزمن او الكتابة الروائية الحديثة ‍‍!!
** أنا لم اسمع هذا الكلام ولم التق بهؤلاء وينبغي ان نعرف اولا من هؤلاء حتى ندرك قيمة ما يقولونه وعموما لقد صدرت لي منذ سنتين روايتي (الولي الطاهر يعود لمقامه الذكي) وصنفها النقاد بانها من الرواية الجديدة رغم ارتباطها بالتراث ووجدت استحسانا كبيرا من كل جهة وترجمت الى الفرنسية مؤخرا.. وعندما تكون كاتبا مثقفا يضيع منك الجانب النجومي وانا لا افكر في ان اكون نجما لامعا وساطعا فلدي ما يشغلني من قضايا هي اهم من ذلك قد نخفق لما لا ولكن جدوى ما نفعله لا تسقط والعملية الابداعية عموما شاقة جدا عندما تكون عميقة واصيلة وتكون محاولات للخروج من حالة الى حالة ومن زمن الى زمن وانا اقول دائما انني لا اكتب بماء الذهب ولست تاجرا يبيع الكلام ولا انشر في الصحف لاتقاضي اجرا عن ذلك وعندما انشر افعل ذلك في (القدس العربي) لانه ينشر مجانا ولا احد يمكن ان يتهمني باني اجرى وراء الدولارات او انتظر المدح واعتبر الكتابة موهبة وهبني الله إياها وعطية احترمها لذلك لا اكتب بالمقابل اصلا ورواياتي الاخيرتان لم أتلق عنهما قرشا واحدا .. نشرتا في مصر والاردن لم اتلق حتى نسخا منها والطبعة التي صدرت في الجزائر اهديتها لجمعيتنا (الجاحظية) وفي عام 1974 أهديت حقوق تأليف كتابين صدرا لي واحد منهما لمنظمة فتح قبل ان تكون منظمة التحرير الفلسطينية والاخر لفيتنام.. انني مثل من يكتب الرقى والاحجبة .. اعتبر ان ذلك غير مأجور او مدفوع له امارس الكتابة كهاو لانتشي .. كما يغرد العصفور .. فليقولوا ما يشاؤون فأنا راض عما كتبت ومنتش به.
(أصول وقواعد)
*لكن ماذا يقصدون بالكتابة الجديدة؟‍!
** أقولها صراحة.. مع الاسف الشديد كثير من الكتاب العرب لا يكتبون عن دراية بالكتابة.. انهم يظنون ان غارسيا مثلا كتب (مائة عام من العزلة) كرواية حديثة بينما هي مبنية على اصول الملحمة الاغريقية التي تجعل لها مقدمة منطقية تقول ان هذه العائلة ستنقرض عندما يولد فيها ولد له ذنب كما تقول عرافة لاي بطل اغريقي او اي بطل من ابطال شكسبير في الملك لير.. الخ
زملاؤنا الروائيون يتخلصون من قواعد الكتابة احيانا يتناصصون واحيانا اخرى يتلاصصون مع نصوص كتبت لمجتمعات اخرى فالواقعية الاشتراكية مثلا للملتزمين السياسيين كانت لها انذاك اصولها كأن يكون البطل ايجابيا وان تكون الرواية مرتبطة بالطبقة العاملة وان تكون متبنية لايديولوجية معينة الى ما غير ذلك فراح روائيونا من العالم الثالث واضافوا للواقعية الاشتراكية البطل السلبي .. اضافوا البطل المضاد والتجريد الذي هو عدو للواقعية وكان النتاج مشوها نحن نحتاج لادوات كتابة تتناسب مع وضعياتنا وواقعنا .. انا اعتبر كل اعمال متجددة لانها لا تتكرر.. لم اكرر شكلا .. لم اكرر بطلا .. وايضا جديدة لانها نتيجة لاسيتعابي لمعطيات المثاقفة الجديدة ولوجود خط خاص بي .. ولا يمكن ابدا ان نطلب من حنما مينا او نجيب محفوظ او الطاهر وطار ان يلهثوا وراء كتاب كانوا حداثيين منذ اكثر من عشرين عاما والبنيوية عندما انتهت في الغرب تبناها بعض النقاد العرب ولكن في جانبها السطحي فقط.. وفي بلدنا مثل شعبي يقول ( الشاعر اذا جاع يصير مداح) فهؤلاء عندما يعجزون عن التأليف الابداعي والخلق والابتكار يذهبون للتقليد ويكتبون اشياء ليس لها قواعد ولا اصول ثم يروجون لها على انها كتابة روائية جديدة وللاسف يقدمونها لقراء قدامى لهم خزينهم المعرفي الذي يؤهلهم لكشف هذا الزيف
(نصوص مفتوحة)
*هناك النص المفتوح الذي يتداخل فيه الشعري بالنثري.. وتتقاطع فيه القوالب ضمن أفق يسمى بالمفتوح ما رأيك في هذا النص؟‍!
** اقرأ هذه النصوص المفتوحة .. منها ما أسميه بنصوص (البوب) على غرار موسيقى البوب ليس لها قواعد عموما نحن ننتظر كيف ستصنف فيما بعد وكيف ستكرس لمكانها اما الرواية فلغتها منضبطة جدا وينبغي في احيان كثيرة ان تتخفى المفردة لترك المجال للصورة وللحالة الفنية والحركة الروائية وان لا تطمسها بالضجيج وهذا يحتاج الى خبرة .. همنجواي مثلا في كتاباته كأنما انت امام طلقة رصاصة .. رصاصة تصيب هدفها ولا يمكن تفاديها .. نجيب محفوظ في اعماله الاولى (اولاد حارتنا ) و(ثرثرة فوق النيل) و(كفاح طيبة) كانت ايضا كلمته هكذا منضبطة وبعض زملائنا يعجزون كما اشرت عن تأسيس حالات روائية فيروحون يثرثرون باللغة والمفردات والشعرية.. لكن لكل مقام مقال وهذا ينبغي ان يطبق في الرواية بصرامة.
(دال ومدلول)
* المرأة في رواية الطاهر وطار.. ماذا كانت تشكل على مستوى الدال والمدلول؟
**كل اعمالي كانت المرأة هي القضية هي الرمز في الخمسينيات كتبت قصة (نوة) وتحولت الى فيلم نال اعجاب العالم و(نوة) هي الضوء وكذلك كتبت قصة (ذنوبة) وهي رمز ايضا وكذلك قصتي (رومانة) وهي رمز لحركة التحرير الوطني الجزائري .. فالمرأة بالنسبة لي هي القضية وهي (الشريفة والمكافحة) في كل اعمالي عندي رواية لم اهن فيها المرأة ولم اكن الهث واجري وراء مشاهد اغرائية .. كانت المرأة كادحة وعاملة تشقى وتعانى وكانت الرواية كلها للواقع الفاسد والمقهور
* تحدثت عن فيلم (نوة) المأخوذ عن قصة لك .. ما رأيك في مسألة التناول السينمائي للاعمال الادبية وهل تعتقد ان التجربة المرئية تضيف بعدا اخر للتجربة المكتوبة ؟
** كل الصور المتحركة في السينما والتلفزة تضيف للعمل المكتوب فالسينما المصرية مثلا استقت بعض اعمالها من روايات نجيب محفوظ ولكن الاعمال الكبرى لنجيب محفوظ لم نشاهد الا القليل منها كالشوارع الخلفية او باب الحديد كما ان الجانب التسجيلي او الفلكلوري غالبا ما يضيع ولا يظهر .. وبالنسبة لنا في الجزائر فقد حولت احدى قصصي الى فيلم هو (النوة) ولي قصة اخرى هي (الشهداء يعودون هذا الاسبوع) حولوها الى مسرحية وقد نالت الجائزة الاولى في قرطاج وماعدا ذلك هناك تهميش سينمائي متعمد تجاه اعمالي واعتقد ان بعض المخرجين السينمائيين في الجزائر متأثرون بالثقافة الفرنسية ولا تحركهم كثيرا الكتابة العربية.
(مشروع رائد)
* قرأنا تجربتك (الشهداء يعودون هذا الاسبوع) من خلال اصدارات (كتاب في جريدة) ما رأيك في هذا المشروع المعرفي العربي الذي تبنته بعض الصحف العربية ومنها (الوطن) العمانية؟!
** هو مشروع رائد ورائع ولابد من تحية القائمين على هذا المشروع والصحف الذي تبنته لانه بالفعل ينشر الفكر والابداع العربي ويجعله متاحا للجميع كما يسهم في حل اشكالية النشر بالنسبة للكتاب انفسهم فعندما نشروا عملي ( الشهداء يعودون هذا الاسبوع) وصلت كتابتي الى الاف القراء وهذا سرني جدا واتمنى ان يستمر هذا العمل لانه يعتبر تكريما للكتاب العرب وآمل ان يتناول هذا المشروع كل الكتاب العرب الذين لهم تحربة مهمة.
*أخيرا ماذا تقول عن الطاهر وطار؟!
** أنا حياتي غنية جدا .. انا مخضرم (عشت عهد الاستعمار للجزائر) من مواليد الثلاثينيات وخضت الثورة التحريرية وعشت في تونس وطفت تقريبا ثلاثة ارباع العالم من الهند الى كوبا الى انغولا الى اوروبا الى العالم العربي .. تنقلت في الجزائر شبرا شبرا ولي في كل قرية صغيرة اصدقاء ومعارف .. حياتي صعبة ومرت وتمر بمراحل خطيرة ودائما انا في تحد .. اشعر اني اسير وحدي وبالتالي هي حياة مليئة بالاسرار لذا ستكون لمذكرات حياتي لو كتبتها وقع كبير وهذا ما يخيفني لقد فكرت في كتابتها لكنني ترددت ومع ذلك فالفكرة لا تفارقني ربما هذا هو اوانها .. لا اعرف!!.

ايوب صابر 11-15-2014 11:16 PM

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 74- المرأة الوردة محمد زفزاف المغرب

المرأة والوردة” في قراءات أحمد اليبوري
هند الركيبي

- يرى احمد اليبوري في النص الثاني أن الرواية ضبطت العلاقة بين الكاتب والشخصية الرئيسية في إطار ما يسمى” الميثاق السردي”.

- ومن هنا برزت الخاصية الأساسية للكتابة الروائية من خلال انطلاق الكاتب من الواقع، وخلقه لعوالم متخيلة ذات علاقات منطقية.

- يرى الكاتب أن عنوان الرواية ” المرأة والوردة” والتي تتجلى في حضور المرأة في الرواية بشكل واضح مع ارتباط ذكرها بالحس، وهذا عكس الوردة التي وردت بشكل نادر رامزة للسارد بالاستمرارية والألوهية، وهذا ما اتضح في النص الأول وقد أكده في النص الثاني مع اعتبار أن الوردة تشكل الخلاص بالنسبة للشخصية الساردة، وكلا الكلمتين تحضر في التراث الشعبي، باحثة عن التوازن النفسي والكمال والصفاء.

- عدد الكاتب من خلال النصوص الثلاث تقنيات روائية والتي يؤكد فيها اللاحق فيها السابق، مع الزيادة لما توصل إليه الكاتب. ترددت تقنية الحلم في النصوص الثلاث بيد أن هذه التقنية عكست في النص الأول حاجة الشخصية الساردة للاستقرار العائلي والاستمرار المتمثل في خلق امتداداته؛ ليجعل منه فردا داخل المجتمع، ذلك المجتمع الذي يخاف الاندماج والذوبان فيه، هذا بالنسبة للحلم الأول

- أما الحلم الثاني فقد عكس لاشعور الشخصية الرافضة لما تقوم به في الواقع. وقد أحال الحلمين معا في النص الثاني وحسب التحليل النفسي الذي انتهجه في هذا النص، إلى التعبير عن الأنا الأعلى واللاوعي التواق إلى الاستقرار النفسي سواء اجتماعيا ودينيا ؛
- أما في النص فقد اكتفى بالحلم الثاني مبينا فيه استعمال الشخصية لمعجم قرآني كدليل على صوت القيم الذي غير نظرة السارد إلى الأمور ومن ضمنها المرأة التي تغيرت بنظره من آلة جنسية إلى عامل للاستقرار والتوازن، وبهذا نجده قد تجاوز بقراءته قراءات أخرى والتي ترى في هذه الرواية سرد بورنوغرافي، لتكون رواية تجربة وتحولات على مستوى الشعور.

- لقد ترددت تقنية العرض السينمائي في النصين الأول والثاني بحيث إنه استعمل نفس المثال من الرواية؛ ليفسرها في النص الأول بأنها” حيوية نابعة من استجابته لهواجس الحياة الفطرية، التي تم التعبير عنها بجمل فعلية قصيرة”

- أما في النص الثاني فقد اعتبرها حيوية أيضا لكنها نابعة في حضور الحركة كإشارة بديلة للغة والجسد والفكر وفيهما معا انتفاء لعنصر ذهني على مستوى التعبير وسلوك البطل.

- يرى الكاتب أن الرواية تعتمد لهجة الخطاب الحكائي الشعبي بحيث إنه بين في النص الأول ” أن الجملة تنتقل من النهي إلى الاستدراك إلى الاستفهام إلى التعجب إلى الاستنكار ثم الجواب وبذلك يكتسب الحديث الأدبي مرونة وبساطة.

- أما في النص الثاني فقد توسل بنفس المثال ليبين الدينامية الحكائية في الرواية؛ مع تبينه لالتجاء الروائي لكليشيات من التراث الشعبي وقد تمكن من تطويع اللغة من حيث التعدد اللغوي الذي كان دقيقا لدرجة أنه مزج بين المصطلحات لنخلص إلى تعطيل الحوار،

- كما أكد على مرونة اللغة كما في النص الأول لكن مضيفا على استعمال المحسنات البلاغية والإنشائية، استعمال سجلات الدارج والفصيح.

- وفي النص الثالث فقد عمق في رؤيته لأسلوب الرواية الشعبية مشيرا إلى ما أورده في النص الثاني حول تميز الرواية بالتركيب والتعدد على مستوى البناء والدلالة وقد اشتغل بالنهج الانشطاري من أجل توضيح هذه الخاصية والذي سعى من خلاله حسب تقديم الأستاذ بوحسن أحمد لكتاب أحمد اليبوري ” في الرواية العربية: التكون والاشتغال” إلــــــــى ” تقديم قراءة متعددة تراعي مختلف الطبقات المكونة للنص السردي”.

- ناقش أحمد اليبوري العلاقة بين الكاتب والسارد في النصين الأول والثاني مستعينا بنفس المثال وهو الاستشهاد بديتش. والذي يرى أن الابتعاد عن الواقع يجعل العمل أكثر إبداعية حتى لو كان سيرة ذاتية، وقد نوقشت هذه العلاقة في النص الثاني في مستهل التحليل تقريبا، بينما ختم بها في النص الأول وهذا تأكيدا على أن الرواية بعيدة عن حياة صاحبها الشخصية.

- وأخيرا نخلص إلى أن أحمد اليبوري خلال نصوصه الثلاث والتي تؤرخ بتواريخ متباعدة نسبيا قد قارب نوعا رواية ” المرأة والوردة” من خلال مناهج متعددة، بلغة مركزة أقرب إلى العلمية، وهو لا يتوق لمقاربته بصفة نهائيا لكن يدع مجالات للمه في كل مرة يطرح إشكال الرواية المغربية.

ايوب صابر 11-16-2014 07:35 PM

تابع ......والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 74- المرأة الوردة محمد زفزاف المغرب

- اهتمام صاحب «المرأة والوردة» بعالم المهمشين والضائعين أضفى على أعماله نكهة إبداعية خاصة

- بدأ محمد زفزاف مشواره الإبداعي شاعراً في أوائل الستينات قبل أن يتجه لكتابة القصة والرواية تحديداً.

- كما استطاع «كاتبنا الكبير» (وهي الصفة التي اختارها له محبوه وأصدقاؤه من الكتاب) أن يطبع المشهد الأدبي العربي بطابع خاص يشهد له به الجميع،

- وخصوصاً ما يتصل منه باهتمامه الوفي باستيحاء العوالم السفلية في المجتمع المغربي في كتاباته القصصية والروائية، بما يوازي ذلك الاستيحاء من رصد وتمثل لعوالم المهمشين والمقهورين، اجتماعياً ونفسياً وفكرياً.

- وفي انتصاره ذاك لهذه العوالم ما يضفي على أعماله نكهة إبداعية خاصة يتميز بها محمد زفزاف في كتاباته، إلى جانب صديقيه في الحياة وزميليه في حرفة الأدب (محمد شكري وإدريس الخوري).

- هذه الخصوصية التي يتميز بها أدب محمد زفزاف جعلته يتبوأ مكانة خاصة واستثنائية في المشهد الأدبي العربي والعالمي. فبعض أعماله تُدرس الآن في بعض الجامعات الأوروبية والأمريكية، وخصوصاً روايته الشهيرة «المرأة والوردة».

- وهو ما جعل شهرة زفزاف أيضاً تخترق المحلية بفضل ما ترجم له من أعمال إبداعية إلى عدة لغات أجنبية، كما اختيرت بعض قصصه ضمن المختارات القصصية العالمية.

-ومحمد زفزاف في كل ذلك لم يسع قط إلى الشهرة في حياته، كما أنه لم يشهد له البتة بتهافته وراء الأضواء ووسائل الإعلام والدعاية. فالشهرة هي التي سعت إليه، غير أنها لم تستطع أن تغير من أصالته ونبل قيمه، ومن وفائه لمبادئه ومواقفه وهو الذي عاش بسيطاً إلى حد الجرح ومات بسيطا.

- ولد الراحل بمدينة سوق أربعاء الغرب التي تبعد قليلاً عن العاصمة الرباط. غير أن اسمه وحياته وإبداعه وشهرته، كما هو الحال بالنسبة لموته، ارتبطت جميعها بمدينة الدار البيضاء. ففي هذه المدينة تفجرت رؤاه الإبداعية، كما وجد فيها ضالته التخييلية.

- وبإمكان المهتمين بعلاقة المبدع بالمكان أن يتخذوا الآن من هذه التجربة، التي اكتملت وانتهت، مجالاً للتنظير والرصد والمقاربة.

- لقد بقي محمد زفزاف وفيا لهذه المدينة (الغول)، كما يسميها أحد المبدعين، إلى أن دُفن بها، استوحاها في جل أعماله، كما تمثل عوالمها السفلى والهامشية ورصد تحولاتها المتسارعة وصيرورات شخوصها وانهيار القيم فيها.

- كان الراحل محمد زفزاف أحد الكتاب المغاربة السباقين إلى النشر في المشرق العربي. وقد تركت قصته «الديدان التي تنحني»، التي نشرت في مجلة «المجلة» المصرية التي كان يرأس تحريرها الراحل يحيى حقي، وقعاً كبيراً على قراء القصة العربية آنذاك، كما لفتت الأنظار إلى هذا الكاتب وقد استمر في نشر إبداعاته ومقالاته الأولى في أمهات المجلات العربية آنذاك (المعرفة السورية ـ الآداب اللبنانية ـ الأقلام العراقية، وغيرها..)، حيث فرضت إبداعاته نفسها على أشهر تلك المجلات العريقة في وقت كان الوصول فيه إليها أمراً صعباً للغاية.

-وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة كذلك إلى ما حققته رواية محمد زفزاف «المرأة والوردة» من تراكم نقدي لافت حولها، حيث أنه بمجرد صدورها في أواخر السبعينات خصها النقد الأدبي في المغرب بالقراءة والتحليل، لتحقق تراكماً نقدياً مهماً ساهم فيه مجموعة من الأسماء من الجيل الأول من النقاد ومن الأجيال التالية.


-كما تباينت بصدد الرواية نفسها المنظورات النقدية من ناقد لآخر وأحياناً لدى الناقد نفسه، خصوصاً أن هذه الرواية تطرح من الأسئلة والموضوعات ما يُغري النقد الأدبي آنذاك لأجل تجريب المناهج وتوظيف المفاهيم والمقولات النقدية، وتحديداً ما يهم منها موضوعات «الجنس» و«الذات» و«الهوية» و«الآخر» (الغرب).



- وتعتبر الدراسة التي أنجزها الجامعي المغربي الباحث أحمد اليبوري، احدى أقدم تلك الدراسات وأنصفها وأعمقها تحليلاً لهذا العمل، بشهادة أحد من كتبوا بعد اليبوري عن الرواية ذاتها.



- خارج الاحتفاء الملحوظ لأعمال زفزاف، القصصية والروائية، بالزخم في المضامين والأسئلة والموضوعات، اهتمت أعماله كذلك بالتنويع في الأشكال وفي طرائق الكتابة السريعة، خصوصاً على مستوى التنويع في استثمار المنظورات السردية وتعديدها في النص الواحد.



- ومحمد زفزاف في ذلك كله، وفي غيره من الإنجازات الأخرى، إنما كان يؤسس لكتابة، قصصية وروائية، مغايرة، بما هي كتابة تراهن على رصد كتابة المغامرة إلى جانب مغامرة الكتابة في تلويناتها العديدة.



- إلا أن أهم ميزة تكشف عنها أعماله هي تجسيدها لوفاء أسطوري بين الكاتب وعالمه الإبداعي بمثل ذلك الوفاء المشتهى لفضاء الدار البيضاء، خصوصاً ما يتصل منه بالحضور المهيمن للرؤية الانتقادية في أعماله الأدبية.



- فقيمة أعماله الإبداعية تأتي أساساً من قدرتها على الانتقاد والسخرية والتهكم،



- بحيث نحس باللغة الإبداعية في أعماله غير منفصلة كلياً عن لغات الشخوص وعن رؤية الكاتب إلى العالم الذي يخلقه من حولها، وهي (أي الشخوص) تحكي عن ذواتها ومشاكلها وخيباتها، وعن رغائبها الخاصة والعامة، كما تحكي عن أوهامها وأحلامها وآمالها.



- هذا الوضع إذن يكشف عن ثراء باهر في مستويات المتخيل الحكائي المميزة لأعمال زفزاف الأدبية، وهو ما جعلها تثير من حولها الكثير من الجدل والأسئلة النقدية المخصبة والمقلقة.



- ويكفي هنا أن نشير إلى أعماله التالية (بيوت واطئة ـ المرأة والوردة ـ الأفعى والبحر ـ بيضة الديك ـ الثعلب الذي يظهر ويختفي ـ غجر في الغابة ـ بائعة الورد ـ أفواه واسعة...) لكي نلمس عن كثب مدى ما حققه التراكم النصي لدى الراحل من أسئلة وما يقدمه من إمكانات جديدة لإعادة القراءة والتأويل واستخراج دلالات جديدة، خصوصاً أن أعماله القصصية والروائية قد أعيد طبعها في أربعة مجلدات (ضمن سلسلة الأعمال الكاملة) بمبادرة من وزارة الثقافة المغربية، وهي تشكل الآن تجربة نصية متكاملة ومنتهية للدارسين والمهتمين بالتأريخ للأشكال وللمضامين وعقد المقارنات وتتبع المراحل التطورية في الكتابة والسرد.


- وإذا كانت قضية «الكتابة» قد شغلت الراحل محمد زفزاف في العديد من أعماله، وتحديداً في روايته الأخيرة «أفواه واسعة»، باعتبارها موضوعاً للمساءلة والانتقاد، فإن سؤال «الموت» قد جثم بدوره على هذه الرواية، وكأن زفزاف قد أحس بثقله عليه ففجره إبداعياً فيها وبشكل لافت وحدسي، حيث يخيم الموت كعتبة لتحريك العديد من الأسئلة المسكوت عنها والمرتبطة بسؤال الكينونة خصوصاً، فالموت في هذه الرواية يصبح أحد هموم الكتابة عموماً، بما هو سؤال جوهري، في ارتباطه خصوصاً بمسألة القلق والوجود والحياة والعالم الآخر، فـ «النصر للموت في آخر الأمر»، تقول الرواية (ص68):

- هكذا تشاء المصادفات أن تكون آخر موضوعة تحتفي بها آخر رواياته هي موضوعة «الموت»، وكأن هذا المبدع قد حدس رحيله فأبى إلا أن يتصالح مع الموت إبداعياً قبل أن يختطفه من عالمه الإبداعي، يموت زفزاف ليحيا في أصيلة.

ايوب صابر 11-17-2014 01:47 PM

تابع.......والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 74- المرأة الوردة محمد زفزاف المغرب



- رواية محمد زفزاف (المرأة والوردة)، تعتبر عند البعض نموذجا أدبيا، وعربيا خالصا، للسيرة الذاتية الصعلوكية.

- تستهل الرواية، بالراوي، الذي هو بصدد تعليل مسألة الرحيل، رحيله إلى الغرب. وبالتحديد، رحيله من الجنوب العربي، إلى الشمال الغربي. وهكذا وقف بمدينة طنجة المطلة على الحدود الإسبانية المتاخمة لها، ومنها انتقل إلى مدينة (طري مولينوس) الإسبانية، الواقعة على الساحل الشهير (كوستا دِلْ صول)، الذي يعد، من بين أكثر السواحل الشمسية، استقطابا للسياح الأوربيين الأثرياء.

- وفي هذا المناخ السردي، تظهر عبر ضمير الغائب، شخصية ثانية نعتبرها، ازوادجية لأنا، الراوي. جاءت كصورة ناطقة وشاهدة، لتجربة سابقة، لهذا النوع من التجوال، في بلدان الغرب. وبطريقة غير مباشرة، مؤيدة ومشجعة للرحلة، التي يزعم البطل الراوي، القيام بها. ثم يعرض علينا، صورا سلبية لمدينة الدار البيضاء، التي خرج هاربا منها. فيقول عن المدينة، بأنها ملك للأجانب البيض، الذين يعيشون في ثراء، وأبهة، وفساد مالي، على حساب بقية طبقة الشعب المهمشة، خصوصا، تلك التي لا تنطق باللغة الفرنسية، لغة سادة البلاد.

- ثم تأتي مدينة طَنْجَة، في سياق الرحلة، كآخر محطة قبل العبور لإسبانيا. وهذه المدينة، تمثل لديه، الفرق الحدودي الواضح بين عالمين: عالم منبوذ لأنه عربي، وعالم مرغوب فيه لأنه أجنبي غربي. وفي هذا السياق الحلمي، يذكر تلك السنوات الأربع التي قضاها من قبل، في الغرب كأحد الأباطرة، منعما بحسن المأكل والمشرب، والثياب الفاخرة، ونكاح أجمل النساء. ثم يتطور السرد الروائي، ليحملنا إلى مشاهد لقاء، على ضفاف المصطاف، بين الراوي محمد، و(آلان)، و(جورج) القادمين من فرنسا، في اتجاه الجنوب، لاقتناء العُشْبَة المخدرة (الحشيشة). وفي هذه الأجواء السردية، تدخل (روز) الدانماركية، في صورة المرأة الجنس. المرأة الأوربية، المتحررة من كل القيود الأخلاقية، المرأة التي تهب جسدها مجانا، للمتعة الجنسية، والتي ترمز لدى الكاتب، حسب ما ورد في نصه الروائي:" تعرف كيف تمنح العالم، الحنان والحب." وفي رحلته الذاتية الداخلية، يرجع محمد بذاكرته إلى الوراء، حيث فتح عينيه، ونشأ في أسرة فقيرة بئيسة. ثم يعود الحديث من جديد، لعشيقته، (سوز) في أجواء (هِبِّيّة) من الإنسياح، وتعاطي بلا حدود، للحشيش، والخمور، والجنس. ويختم الراوي رواته، أو سيرته الصعلوكية، متسائلا عن هويته قائلا:" أنا .. ! من أي جنس أنا؟".


- فعبر هذه السيرة الصّعلوكية، يكون محمد زفزاف هو المؤسس، والرابط بالفعل، لهذا الجنس الروائي الحديث، بآفاقه التراثية الماضية.

- فكل العوامل والشروط، لهذا الجنس الأدبي، متوفرة في نصه الروائي.

- ونحن لا نزعم، بأننا المبتكرين لهذا الجنس، وإنما إذا ما نحن ربطناه بالتراث المقامي العربي الممهد له، تبين لنا بأن العلاقة تظل وطيدة بين هذا وذاك، ولئن كان الفارق الأساسي بينهما، يكمن في العامل الأخلاقي، الذي لم تخترق المقامة حدوده.

- على العموم، فإن البطل في هذه الرواية، التي تكاد تكون قصة طويلة، هو إنسان حاقد ومتمرد على مجتمعه، كما على الظروف، التي جعلت منه، إنسانا هامشيا. ثم إنه ليعلن تمرده، سيمشي ضد التيار الأخلاقي، والقيمي الذي تسير عليه أمته. فكل ما هو محرم، أو مسكوت عنه، سيصبح مباحا، في نظر الكاتب. فهو يخترق الحدود، يتجاوزها، ويسخر من أولئك، الذين ما زالوا مقيدين بها، أو العاملين على حراستها. ثم إنه يسعى إلى المقارنة والمقابلة بين عالمين: عالمه العربي الذي ينتمي إليه، والذي لا يعترف به كإنسان، ولا يقيم له أي شأن، والعالم الغربي البديل في مخياله، الذي يمنحه الحرية، والحب، والحنان بدون ثمن. ويتلخص في المرأة (سوز)، التي ترمز في هذه السيرة الإباحية، إلى عالم الحب، والتحرر من القيود. و محمد الزفزاف، بالرغم من جرأة صراحته، فإنه ظل نوعا ما، لبقا في عدم الدفع بتمرده اللغوي، إلى حد الوقاحة والخلاعة.

- ويعد من حيث تجربته القصصية، والروائية من رواد الأدباء المغاربة، الذين نقلوا لنا، صورا حية، وواقعية، عن المجتمع المغربي، منظورا إليه هذه المرة، بعيون المنبوذين والمهمشين، والفقراء، والصعاليك، والسكارى، والغشاشين، والمحتالين، من الطبقة الضالة، والمغضوب عليها اجتماعيا (الخبز الحافي) لمحمد شكري (1935-2003)
أما (الخبز الحافي)، فإنها رواية صعلوكية بامتياز. ونمط السرد السيرذاتي فيها، يعتمد على ذاكرة، مملوء خزانها، بصور مختلفة ومتداخلة، لشريط الكاتب الحياتي،أيام كان المغرب تحت الحماية الفرنسية-الإسبانية.

- ولقد كانت قصة نشر هذه الرواية الصعلوكية، وهي، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حادثة عرضية، غير متوقعة.

- فالرواية أصلا، ليس لها ذاك الثقل الروائي، المتواجد لدى الروائيين الكبار.

- وليست حتى برواية أصلا، حتى يخوض الباحثين في تركيباتها، وحبكاتها العجيبة.

- إنما هي باختصار، شهادة إباحية لصعلوك متمرد، عن نشـأته، وعن مصيره، في مجتمع طبقي، حكم عليه، كما على من هم أمثاله، بالجهل والفقر والعيش في المستنقعات.

- فالكاتب مثلا، قبل التفكير في نشر هذه السيرة الصعلوكية، والتي لم يكن قد فكر في كتابتها، كان يعاشر بعض الكتاب الأجانب، القادمين إلى المغرب، بحثا عن الشذوذ الجنسي، ولو كان ذلك خلف أقنعة أدبية، أو فنية.

- نذكر منهم (تينسي وليام)، و(جان جنيه) الفرنسي، و(بول باولز) الأمريكي، وبالتحديد، الناشر الإنجليزي (بيتر بين) صاحب (بول باولز). لقد كان هذا الناشر، قد قدم للمغرب، بحثا عن الأدبيات الشاذة.

- وهو بالمناسبة، الذي نشر لكل من: العربي العياشي (حياة مليئة بالثقوب)، و(الحب بخفته من الشعر)، لمحمد المرابط، التي كان (بول باولز)، قد قام إلى نقلها إلى الإنجليزية، بعد سماع روايتها شفهيا، من الكاتبين المعنيين.

- وفي هذا السياق، سياق البحث عن الشاذ، التقى الناشر (بيتر بين) بشكري، وعرض عليه، نشر أحد نصوصه، شريطة أن يكون، من الأدبيات الصّعلوكية الشاذة. وكذلك كان، أن التجأ محمد شكري، إلى مرشده الصّعلوكي، بالتبني في هذا المستنقع الأدبي، (بول باولز)، الذي نقل له سيرته الصعلوكية في السبعينات، وذلك قبل ظهورها بالعربية، لسبب بسيط، وهو أن النص العربي، لا يوجد، ولم يتواجد قط.

- ومن المفارقة العجيبة، بخصوص هذا المتن السيرذاتي، فإن المؤلف نفسه، لم يحرره كتابيا قط. وهكذا قام الكاتب محمد برادة، بنقله إلى العربية، من بعد ما ظهرت ترجمته إلى الفرنسية، التي أشهرته، على يد الكاتب، الطاهر بن جلون. والسر من ترجمة هذا النص إلى العربية، على يد كاتب عربي آخر، يكمن في عدم تمكن محمد شكري، من اللغات الأجنية، حتى يعيد كتابة النص بنفسه من الإنجليزية أو الفرنسية، إلى العربية.

- و إلا لكان قد أخرج نصه العربي، أو بالأحرى أعاد كتابته. لكن كيف سيعيد صياغته، على أصل إنجليزي، أو فرنسي، قد لا يكون وفيا، لنقل ما ورد فيه.

- وملخص هذه الرواية، التي لا تغدو عن كونها قصة طويلة، نجمله في صور متفرقة، ومتداعية من هنا، وهنالك لذاكرة الكاتب. فرواية (الخبز الحافي)، تروي عن طفولة الراوي، الشقية والمعذبة. عن سلطة الأب العنيفة. هذا الأب، الذي تجمعت فيه كل أوصاف الرذيلة، من حيث أنه، كان شرّيرا، سكّيرا، قمّارا، ومعذبا لزوجته، وقاتلا لأخ الكاتب. ثم يحدثنا عن رحيل العائلة، إلى مدينة طنجة. ثم رحيلها منها، في اتجاه مدينة تطوان، فوهران. ثم عودته لطنجة من جديد. ثم اشتغاله كبائع للسجائر المهربة. ثم تعلمه القراءة، للدخول إلى المدينة الفاضلة للمتعلمين. ثم يعرض لطابور من النساء العواهر. ثم بعض الصور، للشذوذ الجنسي، مع رجال أجانب، ولأدباء مشاهير مروا من هنا، وكل هذا، في المناخ الإباحي، لمدينة طَنْجَة الليلي. لأن النهار، كان متروكا لأصحاب العمل، أما الليل فهو لأصحاب السهر، من المدمنين، المتعاطين، للخمور والحشيشة، والذعارة بشتى ألوانها.

- فالخبز الحافي، قد كتب لها النجاح، في الخارج مبدئيا، لأن مروجيها، كانوا يعلمون مدى المراهنة التجارية، على إخراج شبه كتاب، من هذه الدرجة الصعلوكية، ومن هذا النوع الصعلوكي المستحب. بل واختراع شبه كاتب، يكون حصانا طرواديا، لتمرير هذا الجنس الأدبي الصّعلوكي المحرم، إلى مجتمع عربي إسلامي محافظ في أدبياته.

- وحين كتب له النجاح، كحامل لراية الرواية الصّعلوكية، لم يجد، ما يمكن أن يخسره، سوى المضي قدما بمشروعه، عبر قصصه ورواياته اللاحقة: كمجنون الورد، والشطار والوجوه. والذي جر على محمد شكري، لعنة منع روايته، وحظرها في كل من م ة، وأسلوبها الخلاعي، لبطل صعلوك وشاذ.

- فإذا كان الأدب الصعلوكي في بدايته التاريخية مع الصعاليك، أدب احتيال وسرقات، مع احتفاظه بمقوماته الأخلاقية، وفي عصر النهضة مع عرب الأندلس، أدب تمرد واحتجاج، فأنه سيصبح مع شكري، بالإضافة لهذا وذاك، أدب وقاحة، واستهتار، ومجون، وخلاعة ولواطة، وسحاق، واغتصاب الغلمان.

- وسيصبح بيانه الصّعلوكي،[على غرار البطل، راسكولينكوف، في الجريمة والعقاب، لدستوفيسكي] على لسان الكاتب نفسه:" إن السرقة مشروعة في عالم االصّعاليك". ونضيف من جهتنا مصححين، بل في أجواء صعلوكية كهذه، فإن كل المحرمات، والمعاصي، تصبح مباحات مشروعة.

- لقد طورا، كل من محمد زفزاف، ومحمد شكري، فن القصة القصيرة، كما الرواية المغربية، انطلاقا من الستينات. فالزفزاف مثلا، من (حوار في ليل متأخر)، إلى (الأفعى والبحر)، مرورا ب(المرأة والوردة)، إلى (الثعلب الذي يظهر ويختفي)، كان يعمل فعلا، على تأسيس التجربة الروائية الصّعلوكية، انطلاقا من التجربة المعاشية، لواقع المدن المغربية، كمدينة الدار البيضاء، نموذجا.

- ولقد جاءت تجربة الزفزاف الروائية، كما قصصه، التي تتمحور حول الأنا الساردة، شهادة تمرد، وإغراق الذات في المشروبات الكحولية، وتجوال بدون هدف، واحتجاج، وإدانة، وفضح للفوارق الطبقية، وبؤس مدن الصفيح، والطبقة الشعبية المهمشة، في مقابل أصحاب الثراء.

- ولقد جمع محمد زفزاف، في قاموسه اللغوي الروائي، كل ما هو عامي، وشعبي، وصعلوكي.

- وكانت هذه التجربة الأدبية، تدور داخل إطار الأدبيات الرسمية آنذاك. ولو أن صاحبها، ظل نوعا ما، ككاتب مُهَمّش طوال حياته. وهذا بالرغم من ممارسته، لمهنة التدريس من جهة، وتعامله مع الأدب العربي، والعالمي، من جهة أخرى.

- وهو في كل هذا، وبجرأته الأدبية الصّعلوكية، والخارجة عن المألوف الأدبي العربي، لم يخترق حرمة الخط الأحمر.

- لقد ظل محترسا، نوعا ما، علما بأن أدبياته الصّعلوكية، كانت كثيرا ما تثير حرجا كبيرا، في تعريتها لكثير، من مشاهد طقوس الحشيش، والخمريات، والقَحْبانِيات.
أما شكري فإنه في مقابل محمد زفزاف لم يكن ليحظ بهذا الثراء الثقافي الزفزافي. ولم تكن له، تلك السلطة الثقافية، التي كان يتمتع بها نده. ولئن كان كليهما، يشترك في تقاسم، مجالس الحانة والقصص الحمراء.

- فشكري، سيأتي متأخرا، من حيث الثورة الكتابية. وهو الآخر، كان قد نشر هنا وهناك، في بعض المجلات والصحف العربية، إلا أن كتابته الصّعلوكية المحتشمة، والحذرة آنذاك، لم تكن لتثير إليه الانتباه. وهو سيدخل إلى معترك الساحة، كرائد ومؤسس لهذا الوجه الإباحي، والمتعالي على أخلاقيات المجتمع، بتمرده هو الآخر، ولكن بشكل متطرف.

- فشكري والخبز الحافي، بداية لسلسلة حلقات سيرذاتيّة صعلوكيّة، ذات أوجه متعددة، ومضمون واحد. وهو بهذه المناسبة، من (الخبز الحافي)، إلى (الخيمة)، ف(الوجوه)، مرورا (بمجنون الورد)، و(الشطار)، لم يضف من عبقرية صعلوكية، سوى تكرار البطل الصّعلوكي نفسه، الذي يمكننا اختزاله، وتلخيصه في (الخبز الحافي). وقاموسه اللغوي الصّعلوكي، بإمكاننا حصره في الألفاظ التالية: الإغتراب، السرقة، الاحتيال، إدمان الحشيش والخمور، بالإضافة إلى القَحْبانِيات، والسخرية، و السّحاق، واللّواطة، والقيم المبتذلة.

- لقد سقنا هذه الدراسة التحليلية، وليس في نيتنا، أن نحكم على هذا أو ذاك. لقد عرضنا، لربّما بشكل فاضح، ما يشكل ويؤسس هذا الجنس، من الأدبيات الصّعلوكية الإباحية. وسقنا بعض الشواهد التاريخية، لنربط حاضر هذا الجنس الروائي، بماضيه. ثم إننا من جهتنا، لا نرى من ضرورة، لمنع أو تحريم هذا الجنس الكتابي. بل نرى بالأحرى، دراسته والوقوف على سلبياته، كما إيجابياته، لتوظيفها في خانتها التي تليق بها. ثم العمل من بعدئذ، على معالجة تلك الظواهر الاجتماعية، التي تعمل كالسرطان، في الطبقات الدنيا من مجتمعنا. فإذا كان محمد زفزاف، قد عانى من البؤس والفقر، لغاية أنه راح يجترهما في تجربته، طوال حياته.

- وإذا كان في الوقت نفسه، قد شخص لنا بعض الأمراض، التي تنهش كالسوس، في شجرة مجتمعنا. فلأنه كان يسعى من خلف كتاباته، أن يوصل لنا رسالته، التي عبر عنها بأسلوبه، وطريقته الكتابية، الخاصة به.

- ومحمد شكري من ناحيته، كان هو الآخر، ضحية لهذا الداء الذي تحدثنا عنه. فلا غرابة إذن، أن يكون هو بالذات، الذي قد تعرض للاغتصاب، والاعتداء، قد أراد هو الآخر، أن يبلغنا رسالته، ولكن بشكل قاس، ومبتذل، لأنه لم يكن بإمكانه، أن يستبدل طبيعته، وعما نشأت وتربت عليه، بطبيعة أخرى.

- وملخص القول، من هذه الدراسة، أننا لم نلعب قط، دور المرشد أو الواعظ. بل إننا نرى، أنه لنا في هذه الأدبيات الصّعلوكية، عبرة، ولنا فيها مادة اجتماعية، قد يستفيد منها الأديب، كما قد يستفيد منها، الدّارس الإجتماعي. بل وكل مصلح اجتماعي، سواء على مستوى الأحياء الشعبية، بمحاربة الأمية، والفساد الجنسي. أو على مستوى جمعيات وخيرات محلية، لمحاربة إدمان المخدرات، والسرقات، والدعارة، وباقي العاهات، والأمراض الاجتماعية المزمنة.

ايوب صابر 11-18-2014 11:36 AM

تابع...والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 74- المرأة الوردة محمد زفزاف المغرب



- ولد الشاعر والقاص والروائي المغربي الكبير محمد زفزاف عام 1942م في مدينة الغرب في المغرب. كاتب له خصوصيته التي ميّزت أعماله، نشر أولى محاولاته الشعرية في الستينيات.

- كتب عن المجتمع المغربي وانتقده في أغلب أعماله التي تكاد تكون سيرا ذاتية مموهة،

- ترجم جل أعماله إلى عدة لغات عالمية،

- امتازت كتاباته بحوار ممتع مكثف ولغة سهلة وراقية.

- لأعماله قيمة معرفية وفكرية واجتماعية لا حدود لها، ترك مهنة التدريس وتفرغ للكتابة، عاش فقيراً ومات فقيراً مريضاً عام 2001م.

- يتحدث في روايته "محاولة عيش" عن معاناة الطبقة المسحوقة في المغرب، أولئك الذين يسكنون في "البراريك" أو بيوت الصفيح قرب الميناء، منطقة تعج بالغربيين الذين أفسدوا أهلها، والفقر أفسد أهلها كذلك، منطقة بغاء وحشيش وخمور.

- شكلت أعمال الراحل الكبير محمد زفزاف (1942-2001) لقصة عربية / مغربية من نوع مختلف وأدب سار ضد كل تحاليل وتصنيفات الأكاديميين.

- أدب مبتكر، حداثي، جميل، وغارق في تفاصيل الهم اليومي للإنسان العادي البسيط.

- نصوص زفزاف العالقة في الأذهان لا تنسى،

- فيها يصور المواطن العادي مهلل الملابس يمشي خائفا متلفتا وراءه وهو يعبرالشاعر ويتقيأ يوميا متقززا من كل شئ.

- عاش "بوهيميا" لا يعرف غيرالكتابة بين شقته ومقاهيه المفضلة مثل مقهى ماجستيك بحي المعاريف بالدار البيضاء.


- إنه الفوضوي المنظم، كان بنظر الكثير من النقاد العرب، أحد أكبر كتاب المغرب.

- وظل طيلة حياته لا تستسيغه مدينة الإسمنت ولا يستسيغها.

- كان دائما يمثل الوجه الاخر.

- الصورة المتناقضة مع "ثقافة المدينة" وبريقها الخادع وأصحاب البدلات الشيك والجهل الثقافي المطبق.

- كيف لا يراهم جهلة وهم من هدموا مسرح المدينة الوحيد في الثمانينات؟

- مثله مثل المبدع المغربي الراحل محمد شكري، كانا معا يجوبان الحانات يبحثان عن إجابة للمسائل الكبيرة.

- يقول الكاتب العراقي فيصل عبد الحسن: "كنت أعرف ان المبدع محمد زفزاف كريم اليد ويجود بما يملكه، كان بيته ممتلأ دوما بالأدباء الشباب الذين يأكلون معه في صحن واحد ويدخنون من علبة سجائره ويشربون معه بذات القدح.. لكنه، بسبب افتقاره الي مورد مال ثابت كان لا يستطيع في بعض الأحيان حتي شراء الجريدة."

- زفزاف، الذي لم يحظى بأية جائزة أدبية وطنية في بلاده. يعكس حالة معروفة تماما في الأدب العربي بشكل عام.

- فالثقافة واجهة للسياسة وساحة لها أيضا. وليس ثمة رابط حقيقي بين الإبداع والشهرة.

- يفسر الشاعرالعراقي الكبير سعدي يوسف قلة الإهتمام بزفزاف ويرجعها إلى سببين: الأول أن أعمال زفزاف العفوية الصادقة تحترم جمهورها وتعنى بقضاياه ولا تقدمها كما يشتهي الآخر، والثاني: أن زفزاف لم يكتب بلغة أجنبية.

- من بين كتّاب القصة المغاربة، ظل محمد زفزاف الأكثر نصَباَ ازاء الفن، يحزم أمره، ويأخذ نفسه بالشدة.

- ومن بين كتاب القصة المغاربة، ظل محمد زفزاف الأكثر وفاء لمسحوقي شعبه، حريصا الحرص كله على ان يظل هذا الوفاء متألقاً واضحاً عبر الفن، لا عبر البيان الصحافي او السياسي.

- يقول سعدي يوسف في رثاء زفزاف: تشبّثه بالحرية، حرية الفنان والمواطن، أورده شظف العيش، بل المقاطعة والعزلة أحيانا. وبينما كانت النُّهزة سبيلاً الى الرفاهة كانت الشدة لدى محمد سبيله الى قامة الفنان الفارعة.

- لقد كان الأدب المغربي بحاجة الي مسيح، يعذبه الفقر والمرض، ويموت بدلا عن جميع الكتاب والأدباء المغاربة، ويتحمل بموته عذاباتهم وغربتهم وقلة حيلتهم ازاء واقع متغير لا يرحم أحدا.

- لقد خسر الأدب العربي محمد زفزاف مبكرا وربما ربح العرب والمغاربة "اسطورة أدبية"، كما فعل العراقيون حين ربحوا بموت السياب المفجع نموذجهم الأدبي الخاص بهم.

- ( محمد زفزاف صريح إلى درجة الإحراج،


- صادق إلى درجة الفضح،


- وأنه رجل المبدأ إلى درجة التهور).

- قد يكون الروائي محمد زفزاف من بين روائيين عرب قلائل من الذين استطاعوا أن يخفوا بمهارة وحرفية عالية صوت الراوي أو الحاكي ويدمجه في ثنايا النص كلغز حتى يصعب التفريق ـ ولا يستحيل ـ بين صوت السارد من صوت المؤلف في عفوية مدهشة مصنوعة بحس عفوي يحاول إعادة بناء كل شيء ببراءة نصية تقترب لتلقائيتها من الجمال غير المدرك لنفسه، مثل جمال البراري والنجوم والينابيع الصافية العذبة.

- ومع أن هذا الروائي الذي يظهر ويختفي( عنوان رواية رائعة لمحمد زفزاف هو: الثعلب الذي يظهر ويختفي) لم يكتب نصا صريحا تحت عنوان سيرة ذاتية أو سيرة روائية ذاتية، غير أن جميع رواياته هي نصوص سيروية رغم أن عقد القراءة الأولي بينه وبين القراء يشير دائما على الغلاف باسم رواية وليس سيرة روائية ذاتية، وهذه اللعبة الروائية شائعة على يد كبار كتاب الرواية في العالم.

- فمن المرأة والوردة إلى الحي الخلفي إلى بيضة الديك ومحاولة عيش وحتى قبور في الماء أو الأفعى والبحر أو الثعلب الذي يظهر ويختفي، هناك دائما، تحت طبقات الخطاب الروائي المخفي بعناية، أو النص الصريح، جزء من سيرة هذا الروائي المبدع.

- وقد تكون روايته( الثعلب الذي يظهر ويختفي) تلخيصا مركزا للخطاب الروائي الزفزافي وهو خطاب يحاول فيه الكاتب تجنب فخاخ الكلام السياسي الفخم الذي يثقل النص، والاعتماد على السرد الحكائي القصصي المشذب والبعيد عن كلام الآيديولوجيا التي دمغت نصوص الأدب الروائي العربي لفترة طويلة.

- لا يمكن طبعا عزل أعمال محمد زفزاف عن تاريخ الرواية المغربية وهي رواية نشأت بين حضنين ترك كل واحد منهما فيها أثرا خاصا: الحضن العربي، والحضن الحداثي الغربي، وتحديدا الفرنسي، والروائي محمد شكري هو أول أمطار الرواية المغربية الحداثية التي تأثرت بالغيم القادم عبر البحر، مع الطاهر بن جلون.

- إن صفات الوصف السردي غير المنتظم وتكسير الأزمنة والشخصيات الضبابية غير المحددة المعالم ( في عالم ضبابي يضيع فيه الفرد) والكشف الجريء عن المخبوء والمسكوت عنه والتعرية والفضح، والرواية التشردية، والبحث عن معنى، والتمرد، وتفكيك البنية الاجتماعية، والرفض أو العصيان على التقاليد الادبية والاجتماعية، والتركيز على اللغة كمكون روائي عضوي، والبوح، والصدمة، والفرادة، والعلنية، والجسد، واللعب المدروس خلال الحكي، وهو شرط جوهري في الرواية الجديدة، كل ذلك شكل أبرز ملامح هذه الرواية رغم أنه جاء في نصوص كثيرة من خارجها أو ملصوقا عليها وهذه طبيعة أي تقليد لحداثة مجلوبة لا تنبع من شروطها التاريخية والنفسية كالحداثة الروائية في أمريكا اللاتينية، علي يد غابريل ماركيز مثلا، وأنخيغل اوستاريس مؤلف رواية( السيد الرئيس) أو ماريو فارغاس يوسو مؤلف رواية (حفلة التيس) وكلهم حصلوا على جائزة نوبل وتركوا أثرا في الحداثة الروائية العالمية بما في ذلك الاوروبية دون الوقوع تحت سطوة الرواية الغربية.

- لا يمكن عزل زفزاف الروائي والإنسان عن هذه المدينة (الدار البيضاء )، ولا يمكن قراءة أدبه خارجها، فهذه المدينة بكل ما فيها من بشر وأمكنة وروائح وتيه وضياع وأمل وخوف وجمال هي صورته السرية، هي متاهته الشخصية مثل أية متاهة أخرى، كمتاهات بورخيس، أو متاهات امبرتو ايكو، أو بصرياثا محمد خضير، فكل كاتب يصنع متاهته الخاصة بنفسه.

- إنها مدينة، نص، ينتفح، وينغلق، على الروائي، وهذا التقلب هو سر الحنين الدائم في الهرب منها والعودة إليها من هذا القنيطري ( نسبة إلى بلدة القنيطرة المغربية التي ولد فيها زفزاف) ثم دخل في غرام البيضاء حتى يوم حفل التكريم الذي قال عنه ضاحكا( هذا حفل تكريم أم حفل تأبين؟!)لأن العرب لا يكرمون كتابهم إلا بعد قراءة آخر تقرير طبي يشير إلى الحالة الميئوس منها، أو بقايا الفقيد، وعندها تبدأ حالات تبرئة الذمة وحفل الزور.

- هذه هي عادة زفزاف في كونه يضفي على الواقعي شكلا أسطوريا، أو يحول العادي إلى حكائي، سواء في الهامش النصي، أو في المتن، أو في الحقيقة.

- إن مقاهي الدار البيضاء مثل مقهى لاكوميدي، المسرح البلدي، مقهى الكابتول، أو مقهى ميشيل، مدام غيران، ميرسلطان، مقهى الرونيسانس، أو الزنقات التي عاش فيها مثل زنقة البريني، أو زنقة ليستريل، أو زنقة الجبل الأبيض، والمطاعم التي كان يرتدها( هو غير محب للطعام) مثل مطعم التيرمينوس، كلها ستكون في نصوصه الروائية أمكنة أخرى مع الشخوص والروائح، رائحة الناس، أو رائحة النبيذ، أو رائحة الزمن الذي يمر على رصيف الأزهار السري حيث الخطى المتسارعة لأقدام الزمن.

- وعودة إلى سلم منزل الروائي محمد صوف الشبيه بسلالم كافكا ( ضحك صوف كثيرا لهذا الوصف حين عثرت عليه في المقهى) فإن روايات زفزاف مشبعة بهذه الأجواء البيضاوية( نسبة إلى المدينة) حيث البحث عن مأوى وسرير وكأس نبيذ هي الخاتمة أو اللازمة التي تتكرر في جميع روايات هذا الروائي الكبير ولا أدري كيف حصل ذلك وهل كان واعيا به أول الأمر أم لا وحتى اليوم الأخير؟

- هذا الهاجس الثلاثي( السرير والنبيذ والمأوى) هو هاجس شخصي قبل أن يكون روائيا، أي أن نصوص الروائي هنا تأخذ تطابقها( التطابق هنا ليس التناسخ بل التشابه وهذا افتراق عن الأصل) من التجربة الحية للروائي، وهذا هو هاجس السرية الذاتية الروائية.

- أدناه نهايات سبع من روايات محمد زفزاف تبين بوضوح أن هذا الروائي المنهك بأعباء كثيرة كان يستعجل، يستعجل تماما، الوصول إلى الغرفة أو المدينة التي فارقها، أو السرير أو الدخول إلى بار أو كأس أو الأمل بالعثور على مكان دافئ نظيف حسن الإضاءة بتعبير أرنست همنغواي.

ايوب صابر 11-20-2014 12:28 PM

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم -75- ألف عام وعام من الحنين رشيد بوجدرة الجزائر

-- رشيد بوجدرة كاتب وروائي وشاعر جزائري ولد في 5 سبتمبر سنة 1941 م بمدينة عين البيضاء. اشتغل بالتعليم، وتقلد عدة مناصب منها، مستشار بوزارة الثقافة، أمين عام لرابطة حقوق الإنسان، أمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين.

في رواية ألف عام وعام من الحنين يلتحم الخيال بالواقع التحاما قويا الى درجة أنك لا تستطيع الفصل بينهما، بل تظهر كل محاولة للفصل بينهما مجرد عبث سيؤدي الى فراغ الرواية من محتواها.

- في هذه الرواية، يتصارع الممكن والمستحيل على حد سواء.

- الواقع في الرواية خيال والخيال واقع.

- إن بو جدرة يحلل التاريخ رابطاً الماضي بالحاضر من خلال ما جرى في التاريخ الإسلامي عبر (مملوكيته) وما يجري فيه حاليا عبر المملوكية (المتطورة في أشكال جديدة)،

- من هنا، كانت أهمية الرواية التنبؤية الداعية الى تأمل التاريخ، مرآة أية حضارة تطمح الى تجديد مجدها.

- الروائي رشيد بوجدرة طرح اسمه لأكثـر من مرة للفوز بجائزة غونكور للأدب الفرانكفوني، وحتى جائزة نوبل للآداب.

- وقد فاز بجائزة المكتبيين الجزائريين عن روايته الأخيرة ”نزل سان جورج”، ومن سخرية الأقدار أن الكاتب صاحب الشهرة العالمية الذي فرح بالجائزة اعتبرها أول تكريم له في بلده·

- ورواية ألف وعام من الحنين اختارها اتحاد الكتاب العرب ضمن قامئة أفضل مئة رواية عربية في تاريخ الأدب العربي.. رغم أن كاتبها كتبها باللغة الفرنسية!! وقد ترجمها إلى اللغة العربية الأديب ( مرزاق بقطاش).

---------------
- رشيد بوجدرة: كتبت بالفرنسية لأصبح معروفاً

- الروائي الفائز بجائزة المكتبيين الجزائريين عن روايته «نزل سان جورج» بدا نشطاً وحيوياً وفق إيقاع أعماله الروائية التي بلغت العشرين عملاً روائياً في اللغتين العربية والفرنسية، ومتابعاً لما ينشر من أعمال سردية حتى على مستوى منتديات الحوار على شبكة الانترنت.

- قدم رشيد بوجدرة الكثير من الأعمال الروائية، أبرزها: «الحلزون العنيد»، «الإنكار»، «التطليق»، «التفكك»، «تيميمون» وسواها.

- يقول الكتابة في الغرب جعلتنا نخلخل البنى الاجتماعية ونكسر التابوات. لم نر مثيلاً لنا في كتّاب المشرق العربي؛ فليس من بينهم من وظّف الجنس بطريقتنا، بالكيفية التي تتجلى في أعمالنا».

- يرد على سؤال : يقال إنكم اشتهرتم في إظهاركم عيوب العرب أمام الغربيين؟ـ نحن لم نرد ذلك، أردنا ان نظهر عيوبنا لأنفسنا، لكن الغرب استغل ذلك،

- نحن كتبنا بقصد النقد الذاتي، وقد استمتع القارئ العربي بذلك وبيعت أعمالنا في القاهرة والكويت بنسب كبيرة.

- روايتي «ألف عام وعام من الحنين» طبعت مرات عدة بخاصة هنا في الجزائر، وهذا يعني انها أعجبت القارئ العربي.

-وف يرده على سؤال : يرى بعضهم انك تأثرت بماركيز في رواية «ألف عام وعام من الحنين»؟ يقول "ليس صحيحاً، أعدائي من الجزائريين أشاعوا ذلك في وقت سابق، لكن روايتي هي قراءة مركزة للتاريخ العربي القديم.

- وفي المناسبة، «الواقعية السحرية» التي يقال ان ماركيز وكتّاب أميركا اللاتينية هم الذين أسسوها، بدأت عندنا لدى الحريري، في «المقامات» وفي «ألف ليلة وليلة». وماركيز ربما لا يعرف هذا العمل... الذي كتب قبل «الواقعية السحرية».

- بعض الجزائريين «المتفرنسين» أشاعوا مسألة تأثري بماركيز، لكن ما قدمته كان مختلفاً ونحن ككتاب مغاربة انفتحنا على التراث العربي.

- وفي مسألة التقنية، فإن تقنية الكتابة الحداثية هي تقنية «ألف ليلة وليلة». كل الكتّاب الغربيين في فرنسا وبريطانيا اعترفوا بذلك. علي اي حال من هو ماركيز قياساً الى «ألف ليلة»؟

- وللحقيقة روايتي «ألف عام وعام من الحنين» هي الأعمق، فيما «مئة عام من العزلة» لوحات ممازحة وكاريكاتورية تفتقر الى العمق.

- يقول عن لغة الكتابة : اللغة العربية هي الأفضل لكتابة الرواية بالطبع. عندما كتبت بالفرنسية لم أتجاوز نسبة محدودة من الصفحات. وفي العربية كتبت رواية بلغت ألف صفحة.

- ويقول " الكتابة باللغة العربية تتيح لي استخدام العامية، وهي توسع الفضاء أمامي، وقد درست الفلسفة والرياضيات ولدي منظور هندسي، لذا تمكنني اللغة العربية أكثر في التعبير، لكن الرواية في العالم العربي لا توزع أكثر من ألف نسخة، وفي الغرب تصل الى 27 ألف نسخة، وتلك هي المفارقة!

>وفي رد على سؤال : الرواية هل هي وثيقة تاريخية أم تجربة فنية محضة في رأيك؟ يقول " الرواية تجب قراءتها على أساس جمالي، يمكننا توظيف التاريخ ولكن ليظهر كعمل تخييلي لا كوثيقة. وبعض الأعمال الرديئة تعجز عن خلق هذا الفرق فلا تجد فيها المادة التاريخية الأمينة ولا التجربة الفنية الفعلية!

بقلم عصام أبو القاسم - الجزائر


ايوب صابر 11-20-2014 01:08 PM

تابع ....والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم -75- ألف عام وعام من الحنين رشيد بوجدرة الجزائر

- تسعى هذه الدراسة إلى تسليط بعض الضوء على واحدة من أهم التجارب الروائية في المغرب العربي يمثّلها الروائي رشيد بو جدرة الذي غادر منذ الثمانينات “ فم الذئب” ليحبّر نصوصه باللغة العربية بعد أن أنجز مدونة روائية بلغة ديكارت جعلته في مصاف كبار الروائيين في الغرب وواحدا من أهم ممثلي تيار الرواية الجديدة في فرنسا إلى جانب كلود سيمون و ألان روب غريي و ناتالي ساروت ,

- غير أن نداء الهويّة جعله يغادر لغة فلوبار ليعود إلى لغته الأم و يقدّم مدوّنة جديدة بلغة الضاد أثبت بها أنّه متميّز دائما فأثرى بنصوصه المكتبة الروائية العربية بسرد مختلف ورؤى جديدة ,

- يمثّل رشيد بوجدرة حالة وجودية استثنائية بين الكتّاب العرب الذين مارسوا الكتابة بغير العربية، فقد انطلق الرجل في الكتابة بالفرنسية ليُعرف كاتبا فرونكفونيا إلى جانب محمد ديب ومالك حداد وليلى صبّار وآسيا جبّار فأصدر روايته التطليق (1969) والإنكار (1972) ثم الحلزون العنيد (1977) وألف وعام من الحنين (1979) والفائز بالكأس (1979).

- وبعد هذه المسيرة التي كرّسته كاتبا باللغة الفرنسية يرتدّ رشيد بوجدرة عن الفرنسية ويهجر متلقيه ليجترح سنة 1982 أوّل رواية باللغة العربية فكّك بها صلته الإبداعية بلغة فلوبار وفولتار ووسمها ب”التفكّك” ليبدأ رحلة إبداعية جديدة لا يعمل ماذا ينتظره على جنباتها.

- وبالفعل تعرّض بوجدرة إلى هجوم مزدوج ممّن طلّقهم، قرّاء ونقّادا فرنسيين وممن عاد إليهم قرّاء ونقّادا عربا.

- ويكفي أن نذكّر بما ورد في مجلة الوسط (العدد 85) بتاريخ 13/09/1993 على لسان حموش أبو بكر في مقاله : تجربة الكتابة باللغة الفرنسية. “رشيد بوجدرة، تحوّل إلى الكتابة باللغة العربية ونجح في الإبداع بها، غير عابئ بالضجّة السياسية التي أحاطت بقرار تخليه عن الكتابة باللغة الفرنسية.

- ويقال أن الأمر وصل بجريدة “لومند” الفرنسية إلى حدّ ردّ نسخ من روايات بوجدرة الجديدة. كانت أرسلت لها من قبل الناشر الفرنسي “دونوال” الذي قام بنشرها مترجمة عن العربية. ويبدو أن محرّر “لوموند” أرفق النسخ المترجمة برسالة إلى الناشر مفادها أنه لا جدوى من إرسال مثل هذه الروايات إلى الجريدة إذ أنها لن تكتب عن أي عمل لرشيد بوجدرة بعد تخلّيه – على حد تعبيرها – عن لغة ومنطق ديكارت “.

- لكن بوجدرة سرعان ما عبر مأزق الامتحان لتسّاقط من قلمه روايات أخر بلغة الضاد تثبت أنّ رواية “التفكّك” لم تكن بيضة الديك ولا هي نزوة إبداعية إنّما هي نقطة تحوّل كلّي في تجربة المبدع، فكانت روايات المرث (1984) وليليات امرأة آراق (1985) ومعركة الزقاق (1986) ثم جاءت مرحلة الصمت التي تزامنت مع اشتعال فتيل المحنة ليعود الرّجل إلى الكتابة ويكسر جدار الصمت في بداية التسعينات بنصّين روائيين يحملان بصمات المحنة وروائح سنوات الجمر وهما فوضى الأشياء (1990) وتيميمون (1994).

- يقول عن سؤال لماذا عاد الى العربية : يردّ الكاتب نفسه على هذا السؤال قائلا : ” عُدت للعربية بالغريزة، كنت منذ عام 1969، عندما بدأت الكتابة بالفرنسية أشعر بعقدة ذنب وحنين للعربية، وكانت علاقة عشق بالمعنى التصوّفي باللغة العربية، وكان انتقالي للعربية ناتجا عن ضغوط نفسية.

- كنت عندما أكتب بالفرنسية أعيش نوعا من العصاب بسبب عدم الكتابة بالعربية، في بعض الأحيان كنت تحت وطأة كوابيس أراني فيها فقدت النطق بالعربية أمام جمع حاشد “.

- وأقرّ بوجدرة بقصور اللغة الفرنسية على نقل أفكاره ومواضيعه المتعلّقة أساسا بالإنسان الجزائري العربي المسلم، وأبدى الكاتب ارتياحه للعودة إلى العربية التي مكّنته من الرقص على درجات سلّمها فاستخدم “اللغة الشعبية واللغة السوقية” يقول ” هناك شيء يسمّى اللغة العربية بقاموسها العظيم الزخم، كما هناك أيضا اللغة الشعبية وأقول في أحيان كثيرة اللغات الشعبية.

- فقد استعملت “الشاوية” مثلا في بعض الروايات من خلال منولوجات أو حوار [إن] إدخال اللغات الشعبية في الكتابة الغربية يعطي العمل الأدبي نوعا من الزخرفة والزخامة والقوة للنص العربي أكثر مما يعطيه للنص الفرنسي “.

- وفي حوار آخر يرى بوجدرة أنّ المستقبل للرّواية العربية المكتوبة بالعربية : “المستقبل بالفعل للرّواية الجديدة المكتوبة باللغة العربية “ وأن لا مستقبل للكتابة الروائية العربية باللغة الفرنسية.

- يمكننا أن نخلص من خلال هذه الآراء إلى أنّ عودة رشيد بوجدرة إلى اللغة العربية لها أسبابا عميقة وذاتية وأخرى موضوعيّة فهو يعيش في اغتراب لغوي، إنه يعيش خارج بيته ومسكنه أليست اللغة مسكن الكائن البشري ؟!

- وهذا ما جعله يفقد الإحساس بالأمان، مما ولّد عنده كوابيس تدور حول حادثة فقدان النطق بالعربية، وهذه الحادثة الذاتية النفسية يمكن فهمها في سياق أكبر، وهو علاقة اللغة بالهويّة. يبدو أن رشيد بوجدرة أصبح يشعر أنه مهدّد في هويّته العربية نتيجة استمرار حالة الاغتراب اللغوي، وهذا ما عجّل عودته إلى العربية ويذكّرنا هذا بعبارة مالك حدّاد الشهيرة “اللغة الفرنسية سجني ومنفاي “.

- أمّا الدافع الموضوعي للعودة فهو ارتباط مناخات الكتابة عنده بالفضاء والإنسان العربيين، واللغة الأجنبية لا يمكن أن تنقل خصوصيّة المناخ العربي وتفكير الإنسان الجزائري نقلا أمينا. كان رشيد بوجدرة يفكر بالعربية ويكتب بالفرنسية وفي تلك الرحلة بين لغة التفكير ولغة الكتابة تسقط أشياء كثيرة وأحيانا يسقط عمق الفكرة، فالأمر أشبه ما يكون برحلة النص بين لغتين من خلال الترجمة، فالترجمة ستظلّ خيانة للنص أبدا. وبعودة رشيد بوجدرة إلى العربية تطابقت لغة الفكر مع لغة الكتابة وسقطت رحلة الاغتراب.

- يتقاطع هذا السبب الموضوعي لعودة بوجدرة إلى العربية مع الأسئلة المصيرية التي طرحها محمد ديب ذات يوم على نفسه وعلى زملائه: “هل يمكن للإنسان أن يتلاءم مع ذاته وهو يبدع بلغة غيره، وأن يرتاح لذلك خاصة وهو يعرف أن لغته تمتلك قدرات حضارية وتعبيرية عالية ؟

- وأضاف “بعد أكثر من نصف قرن من الإبداع بلغة الغير، التفت إلى تجربتي فرأيت بكل حسرة أنها بلا جدوى. لقد بقيت دوما أعيش غربة المقصّ ووحشة المجهول. وأحس أنني أعسكر وحيدا في حقل أجرد للغة أخرى، تائه أترقّب وهم التجذّر في مجالات ومدن أغلقت في وجهي إلى الأبد. فبقيت كالغجري، على أبوابها، وأهلها يخافون منّي، عيونهم مفتوحة عليّ خشية أن أسرق دجاجهم !!!”.

- وإجابة عن تلك الأسئلة ترك كاتب ياسين “فم الذئب” وكتب نصوصه المسرحية بالعربية الجزائرية وعاد رشيد بوجدرة إلى لغة الضادّ في أوج شهرته.

- مثّلت عودة رشيد بوجدرة إلى اللغة العربية مكسبا كبيرا للرّواية العربية الجزائرية من ناحية ومكسبا آخر للرواية العربية عامّة، خاصة أن الرجل عاد مُدجّجا في تجربة ووعي كبيرين بالكتابة الرّوائية.

- وقد عاد رشيد بوجدرة إلى العربية عودة الفارس المنتصر لا الجندي المهزوم حيث تخلّى عن انتصاراته ومناصريه وغنائمه ليغيّر اتجاه السير في حركة لا يجرؤ عليها إلاّ الثّوار وكان بالفعل ثائرا في نصوصه على كل ما هو سائد من أساليب كتابة ومضامين متن ليؤسّس” فاجعة “الكتابة العربية.

- فشكّلت نصوصه مأزقا حقيقيا للكاتب العربي التقليدي الذي تربّى على الخمول والمهادنة والتقنّع. لقد اجترح رشيد بوجدرة مسلكا جديدا للإبداع العربي علامته الأولى الكتابة دون حدود وخارج سلطة الرقابة (الفنية، السياسية، الدينية) فتحرّر من كل ما يعيق العمل الإبداعي ليحاور في جرأة كبيرة كل المحرّمات والمقدّسات التي كرّستها الكتابة المنحنية، فأعاد للمرأة العربية لسانها المنهوب منذ شهرزاد حتى تقول ذاتها، فكرا وجسدا، وتصدّى للسلطة السياسية ففضح فسادها وكشف آلاعيبها وواجه التاريخ العربي المزيّف بحقائق الوقائع لتتعرّى أمام القارئ العربي قرونا من الوهم والحمل الكاذب.

- لقد اختارت الكتابة السردية عند رشيد بوجدرة أن تكون كتابة عقوق، وكتابة مقاومة وكتابة انحراف عن الطرق المسطورة وكتابة تمرّد على تاريخ الكتابة العربية. إنها كتابة السفلي (الجسد) لكشف العلوي (الفكر) وفضحه فانشغلت نصوصه بتعرية المستور وحرق ورقة التوت الشهيرة ليكون ساردا لا يحتمل يتمترس وراء معجمه الخاص ليعبّر عن عصره الموبوء بكل العورات.

- رشيد بوجدرة هو لا وعي الإنسان العربي، إذ انقلبت نصوصه إلى لوحات سلفادورية(نسبة إلى الرسّام السريالي سلفادور دالي) تعهر بجرأة عظيمة ومستحيلة بين أحضان الحروف العربية. لقد خلّصها الرّوائي رشيد بوجدرة من قداستها، ليحوّلها إلى لغة ماجنة معربدة، لغة أيروسية تلتذّ خيانة نفسها وتعلن في غير تردّد ارتدادها.

- إنّّ اللغة العربية, مع بوجدرة, لم يعد إعجازها متمثّلا في كونها لغة النصّ الديني/ المقدّس فقط ، إنّما تمثّل إعجازها الحقيقي في قدرتها على قول المدنّس و تصويره بنفس القدرة و الكفاءة . غير أن هذه العودة لم تدم طويلا إذ عاد بوجدرة إلى "فم الذئب" ليكتب بلغة مستعمره القديم بعد أن خابت توقعاته عن المتلقي العربي .

- فقد ظلّ بوجدرة يهاجم في كل محفل إلى أن تحوّل فم الأم الحاضنة إلى فم أشرس من فم الذئب الذي اشتكى من أنيابه كاتب ياسين . من السّرد الحداثي عند رشيد بو جدرة .

- لا يمكن أن نلمّ بكلّ الجوانب التي تجعل من رواية بو جدرة رواية غير تقليدية ,رواية تجنح إلى الحداثة, لذلك سنكتفي بعنصرين اثنين نقارب من خلالهما نماذج من تجربته -ما كتبه منها بالفرنسية و ما حبّره بالعربيّة- و هما :التكرار و ما أطلقنا عليه عبارة ؛شعريّة العين و الأذن .

- يتّفق كل من جرار جينيت وتودوروف حول مفهوم السرد المكرر , باعتباره أحد أشكال التواتر الثلاث :”السرد المفرد” و”السرد المكرر” و”السرد المجمع” فيقول تودوروف مثلا “هناك ميزة أساسية في العلاقة بين زمن الخطاب و زمن التخيل في التواتر وأمامنا هنا ثلاث إمكانيات نظرية :القص المفرد حيث يستحضر خطاب واحد حدثا واحدا بعينه,ثم القص المكرر حيث تستحضر عدة خطابات حدثا واحدا بعينه وأخيرا الخطاب المؤلف حيث يستحضر خطاب واحد جمعا من الأحداث” وهذا ذات التقسيم لأشكال القص الذي نجده عند جرار جينيت في مؤلفه صورر 3 أين أشار إلى حضور السرد المكرر عند ألان روب غريي ويلح خاصة على أهمية هذا الأ سلوب عند رواد الرواية التراسلية في القرن التاسع عشر ويمثل السرد الاعادي علامة بارزة في مؤلفات الروائي رشيد بو جدرة ويتخذ مستويات متعددة وأشكالا مختلفة ,ويمكن للقارئ أن يكتشف ذلك بسهولة سواء كان قارئا عابرا أم كان مقيما في مدونة صاحب “التفكك” إذ يحضر التكرار عند بوجدرة في العمل الروائي الواحد من خلال تردد مقاطع سردية معينة على امتداد النص كما هو الشأن في رواياته “ضربة جزاء “و “التطليق” و”الحلزون العنيد”و “معركة الزقاق”… ويكون هذا التكرار إما إعادة نسخية لمقطع سردي ,أي كما ورد أول مرة أو إعادة المعنى أو إعادة سرد الحدث بأسلوب آخر .ويتخذ التكرار ساعة شكل “التكرار المتدرج” كما يسميه محمد سار ي في مقاله “رشيد بو جدرة وهاجس الحداثة” وهو تكرار “تصاعدي” يأتي دائما بالجديد شبّهه الناقد “بقوقعة الحلزون التي تنتظم على شكل لولبي يبتدئ من نقطة مركزية ليتطور نحو الخارج”.

- ولكننا نعتقد أن أهم شكل من أشكال التكرار الذي ميّز كتابات بو جدرة هو التكرار العابر للرّوايات .وهذا أسلوب لم أعثر عليه عند غيره وإن وجد فبأنماط لا ترقى إلى ما ظهر عليه عند بوجدرة فنعثر بسهولة على مقاطع كثيرة ترتحل من نصّ الى آخر نسخا أو ببعض التغيير الطفيف .ويمكن رصد هذا الأسلوب في كل روايات بو جدرة وخاصة في رواياته “ضربة جزاء” و”الحلزون العنيد”و”ليليات امرأة آرق “حيث تتداخل هذه الروايات بشكل لافت

- ويتواصل ارتحال المقاطع السردية بين الروايتين فيعيد الروائي سرد حادثة المرأة التي اغتصبها زوجها ليلة العرس بوحشية فخاطت جهازها التناسلي وانتحرت .ويمتد سرد هذه الحادثة على ثلاث صفحات في رواية “ضربة جزاء (94 .95 .96 ) وعلى خمس صفحات في ليليات امرأة (41.40,39,38,37.) ولم نر تغييرا في سرد تلك المقاطع ما عدى تغيير الضمائر فبعد أن كان السرد منسوبا إلى رجل في رواية “ضربة جزاء” نسبه إلى امرأة في “ليليات امرأة آرق”.

- ولا يخرج التكرار عن هذه الملامح العامة بين رواية “الحلزون العنيد” و”ليليات امرأة آرق” فالليليات تكاد تستنسخ في جزء منها رواية الحلزون العنيد. وقد تركز التكرار خاصة على الجانب المعرفي الذي رشحت به الرواية الأولى حيث تستعيد سعاد في ليلياتها تلك المعلومات التي دونها الراوي في الحلزون العنيد حول الحلزون والخنزير والجرذان .واختار الروائي مقاطع محددة من الرواية الأولى ليقحمها في الرواية الجديدة وهي تلك المقاطع المتعلقة بالجنس والقدرة الجنسية فأعاد سرد ما ذكره عن القدرة الجنسية للحلزون الذي يقضي أربع ساعات في السفاد وذكر قدرة الخنزير الذي يقذف نصف لتر من المني فيقول مثلا في الحلزون العنيد :” الحلازن .تلتذ لمدة أربع ساعات.الحلزون في الميثولوجيا الكونية متصل أوثق الاتصال بالقمر وبالتجدد…(ص ص.78.77).

- ويعود إلى هذه المعلومة في ليليات سعاد التي تقول متحدثة عن عشيقها .”عاد متشنجا و عدائيا.ممتلئا حقدا وغطرسة .عيناه ممتلئتان قذارة وزهوا ونكلة .قلت في نفسي :إنها زلتي الأولى .تذكرت الحلازن في الحديقة ما قرأته عن طاقاتهم الهائلة .احتقرت هذا .أوقفته عند حده .مهلا سعاد […]بات مسمرا في مكانه مبهوتا .مبهورا .غضبضبا. وابتعدت عنه .الحلزون .الحلزون أفحل منك يا صاحبي !أربع ساعات يقضيها الحلزون في التجانس .أما أنت..”(ص60)

- لماذا هذا التكرار ؟ يقول الباحث محمد الساري “وتساءلت مع نفسي عن وظيفة هذا التكرار ولم أعثر على جواب مفيد .وسألت بو جدرة نفسه فاكتفى بالقول بأن هذه الطريقة لم يستعملها أحد قبله ,وبما أن رواياته في أغلبها هي رواية واحدة وهي أقرب إلى السيرة الذاتية فما المانع من من إدخال نصوص سبق نشرها في النصوص الجديدة “.

- ويبدو أن محمد الساري لم يقتنع بحجج بو جدرة ورأى أنه لا جدوى من إعادة تلك النصوص في مدونة الروائي . و يذهب الروائي العراقي عبد الرحمان مجيد الربيعي ,في مقالاته التي كتبها عن روايات بو جدرة , إلى نفس الرأي فيراها زوائد لا خير فيها و اعتبرها من النقاط التي أخلّت بنصوصه و” نصحه” بتشذيبها فيقول:” إن ايغال بو جدرة في التفاصيل الشاذّة لا يمكن تفسيره أو ارجاعه إلاّ إلى هذه الملاحظة و هي إرضاء فضول القارئ الأجنبي ,و كان بالإمكان تشذيب الكثير منها خاصة ذلك الذي يتكرّر بشكل ملحّ” و عاد إلى نفس الملاحظة في قراءته لرواية “معركة الزقاق” فلم ير في المقاطع السردية المكررة غير زوائد غير أننا سنعثر,حتما, على وظائف لذلك التكرار لو جوّدنا النظر في مدونة الرجل مستحضرين عبارة تودوروف”التكرارلا يكون تاما أبدا لان المقاطع المكررة محاطة بسياق مختلف واطلاعنا على الحكاية يكون كل مرة مختلفا” يسعى الروائي حين يعمد إلى تكرار مقطع سردي معين داخل الرواية الواحدة إلى تأكيد حدث معين باستعادته المتكررة حتى يرسخ في ذهن القارئ.فيكون ذلك أشبه باستعادة المشهد السينمائي في الفيلم من خلال استعادة الشخصية الدرامية للحدث .وينشط هذا الأسلوب في الأفلام ذات الطابع السيكولوجي حيث تتردد فيها مشاهد الكوابيس والأحلام وأحداث الطفولة .

- والحق أن رشيد بو جدرة ليس غريبا على الميدان السينمائي (كاتب سيناريو) كما أنه يعتمد اعتمادا كبيرا على التداعي الحر والأحلام والاستيهام والسرد الاسترجاعي في كل مؤلفاته.

- ويتوسل الروائي مرة بالتكرار لإبراز زاوية نظر مختلفة للحدث الواحد .فكل شخصية تروي الحدث من زاوية نظرها الخاص ومن موقعها الخاص كما أن دلالة الحدث تتغير مع موقع سرده في الحكاية فدلالته في بداية الرواية غير دلالته في وسطها أو فى نهايتها .ويذكرنا هذا التكرار بقضية مهمة تبنتها الرواية الجديدة وهي” نسبية الحقيقة” فلا شيء ثابت ونهائي في العمل الإبداعي , كل شيء نسبي لذلك فالمقطع السردي الواحد في ارتحاله من موقع إلى آخر لا يكون هو هو .

- ولا يمكن أن يحافظ على الدلالة نفسها والوظيفة نفسها ,فمثله مثل النهر الذي لا يمكنك أن نسبح فيه مرتين لا يكون النص المكرر نفسه وان حافظ على خصائصه اللسانية والطوبوغرافية .

- أما التكرار الثاني والذي أطلقنا عليه عبارة “التكرار العابر للروايات” فيحمل شعرية أخرى ودلالات مغايرة منها خلخلة عملية التلقي التقليدي ذات الطبيعة الوثوقية .فالقارئ المتابع لتجربة بو جدرة الروائية تهزه هذه التكرارات وتثير عنده أسئلة جمة أهمها :أين قرأ ذلك المقطع ؟ وهذا ما يدفعه في اغلب الأحيان إلى مراجعة مدونة الروائي حتى يعثر على النص المكرر .إن استعادة أحداث بعينها في أكثر من رواية لنفس الروائي تدفع بالمدونة الروائية نحو السيرة الذاتية لأنّ الحدث يتملّص من نسبته إلى الشخصية المتخيلة/الورقية ليصبح لصيقا بشخصية الكاتب.ويفتح هذا الرأي أفقا جديدا لتلقي مؤلفات بو جدرة بين السير الذاتي والتخييل الروائي.

- تشي القراءة التناصية للنصوص المكررة في روايات رشيد بو جدرة بمسألة أخرى يمكن اختزالها في عبارة “النصية الذاتية “أو” التناص الخاص” حسب عبارة جون ريكاردو حيث اتخذ هذا التناص أشكالا مختلفة في المدونة الروائية العربية ,فترتبط روايات الغيطاني بهاجس توظيف التاريخ _المملوكي خاصة_ وترتبط أعمال الطيب صالح باستثمارها للخرافي والأسطوري وروايات أمين معلوف بأدب الرحلة وروايات إبراهيم الكوني بالمناخ الطوارقي وروايات واسيني الأعرج بالتاريخ الأندلسي وبشخصية مريم التي تحولت إلى إمضاء يوقّع به الكاتب جلّ رواياته [18].

- كما تضافرت نصوص بو جدرة باستعادة المقاطع السردية وأحداث بعينها حتى تبدو كما لو كانت رواية نهرية .غير أن قيمة التكرار الحقيقية كما نراها في روايات الرجل تتمثل أساسا في كشفه علاقة الذاكرة بالكتابة .

- إذ أثبت رشيد بوجدرة أن الذاكرة الواحدة بما تحمله من أحداث محدودة وما تختزنه من ذكريات متناهية وعوالم مضبوطة يمكنها أن تكون معينا / منبعا لنصوص لا نهائية فنصبح أمام الذاكرة الواحدة والنص المتعدد.لأنّ التكرار عنده لا يعبر عن قصور في التخييل أو توعك إبداعي أو خداع للقارئ كما يرى البعض باستنساخ الروائي لمقاطع من نصوصه التي كتبها بالفرنسية في نصوصه المكتوبة بالعربية ظانا أن القارئ لم يطلع عليها بالفرنسية ,إنما مثل التكرار استراتيجية كتابة وخصوصية ارتآها الكاتب لتجربته تكشف قدرة الإبداع على إعادة تشكيل محتوى الذاكرة وعلى نسبية الحقيقة وهذا ما يمكن أن يكون تفسيرا لرد بوجدرة على سؤال الأستاذ محمد الساري الذي ذكرناه سابقا من أنّه لم يسبقه إلى تلك الطريقة أحد .

- انفتحت الرواية الجديدة على وسائط أخرى غير اللغة الأدبية فاستفادت استفادة كبيرة من كل الفنون الأخرى مستلهمة فن العمارة في تشكيلها لفضاءاتها التي تدور فيها الأحداث وقد انتبه الروائي العربي إلى هذه النقطة فكانت رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني التي قسمها صاحبها إلى سرادقات وكذلك كتابه الخطط الذي استلهم فيه خطط المقريزي ,وفي تونس بنى صلاح الدين بو جاه روايته “السيرك” على شكل البيوت العربية القديمة المقسمة إلى سقيفة ..ووسط الدار ..والمجلس الكبير ..و المقصورة و المستراق و الخوخة …وانسرب فن الرسم إلى الرواية منذ مراحلها الأولى عبر الوصف ورسم ملامح الشخصيات ولكن توظيف الرسم تنوع مع الرواية الجديدة التي تحولت إلى لوحة من لوحات الفن التشكيلي ويكفي أن نذكر بأعمال كلود سيمون الذي يقول “اكتب كتبي كما تصنع اللوحة .

- وكل لوحة تأليف قبل كل شيء” ونمثل لرواياته ب”حديقة النباتات” التي تحول فيها النص الروائي إلى مشهد .من خلال إعادة تشكيل النص المكتوب وتوزيعه الفني على الصفحة أو تكرار حروف بعينها مما يشكل مشهدا بصريا ويلتفت المؤلف أحيانا إلى اللوحات ينقل تفاصيلها كما لو كان يحمل بين أصابعه كامرا _انظر وصفه الدقيق للوحة الغاستون أرشيف الذاكرة في “حديقة النباتات”

- كان رشيد بو جدرة أقرب الروائيين العرب إلى تيار الرواية الجديدة بل هو أحد أعلامها حتى انه كان يستدعى باعتباره ممثلا لهذا التيار في العالم العربي وأفريقيا لذلك كان أكثر الروائيين العرب توظيفا للفنون البصرية وللخطاب الإعلامي في نصوصه .

- ففي روايته “ضربة جزاء “استطاع أن يبني نصا روائيا قائما على تقنية التناوب السردي بين السرد الروائي والخطاب الصحفي المسموع عبر توظيف مادة التعليق الرياضي على مباراة كرة قدم فكان الراوي يقطع سرده لينقل إلينا ,مستعينا بالمذياع الذي يستمع إليه في سيارة التاكسي, صوت المعلق الرياضي قائلا مثلا :”نحن الآن في الدقيقة السادسة عشر من المقابلة ,والضغط الذي يمارسه تولوز قويا جدا, اللاعبون متجمعون في منطقة مرمى فريق أنجي … إنه باليه حقيقي .رجال جول بيجو” وتتكرر تدخلات المعلق الرياضي في الرواية أكثر من عشرين مقطعا يمتد أحيانا على صفحات من المتن .

- وقد أبرزه الروائي ببنط عريض حتى يميزه عن بقية السرد ووصل رشيد بو جدرة في التجريب إلى حدّ عنونة فصول الرواية بنتائج المباراة فعنوان الفصل الأول :تولوز :صفر _انجي :صفر وعنوان الفصل الثاني : تولوز هدف .انجي :صفر وعنوان الفصل الثالث :تولوز 2 .انجي :صفر وعنوان الفصل السابع :فترة الاستراحة ما بين الشوطين .

- كما وقف بو جدرة على عادة روائيي الرواية الجديدة عند بطاقة بريدية ينقل تفاصيلها وجها وقفا فيقول مثلا:”وخطر له أن يرسل إحدى تلك البطاقات إلى والدته […] انجذبت عيناه نحو بطاقة ترتسم عليها صورة تمثال صغير واقف على قاعدة .يمثل رياضيا شاهرا كأسا …[…]وبحركة آلية قرأ الكتابة المحفورة على البياض إلى الجانب السفلي الأيسر منها .قاعدة مجمرة التروسكية:

- أما اسفل البطاقة فهناك كتابة مطبوعة بأحرف أصغر بكثير[…]إلى الجهة العلوية اليمنى من ظهر هذه البطاقة البريدية .مستطيل صغير يحدد موضع الطابع البريدي . وفي وسطها ثلاثة سطور متساوية الأبعاد والبرج .ثم هناك سطرا آخر مطبوع على غرار الأسطر الأخرى ويمثل الثلثين من أطوالها السطور الأربعة مخصصة لكتابة العنوان بدون شك,أما السطر الأخير فهو لكتابة اسم البلد المرسل إليه (ص122 )

- إن نقل الراوي تفاصيل هذه البطاقة البريدية يشي بعمق الوعي البصري للروائي الذي عليه أن يكون رساما وسينمائيا ورياضيا حتى ينقل تلك الألوان والظلال والأبعاد بكل تلك الدقة .و يتكرر هذا الولع بقل اللوحات والصور عند بو جدرة في روايته” معركة الزقاق ” حيث تنهض المنمنمة التي يظهر فيها طارق بن زياد محرّكا أساسيا للسرد الروائي فيحتفل بها أيما احتفال.

- يوظف بوجدرة في رواياته الأخرى الخبر الصحفي كما هو الأمر في روايته تيميمون أين حشد مجموعة من الأخبار الصحفية التي تنقل جرائم الإرهاب بجزائر التسعينات فنقرأ مثلا :”صحافي فرنسي يغتال من طرف إرهابيين إسلاميين بالقصبة في الجزائر العاصمة”(ص77) “تسبب انفجار قنبلة وضعها الأصوليون في مطار الجزائر العاصمة في مجزرة خلفت تسعة قتلى وأكثر من مائة جريح جلهم في حالة خطرة “(ص92) “شغالة منزلية في السادسة والأربعين من عمرها وأم لتسعة أطفال تغتال رميا بالرصاص وهي عائدة إلى بيتها “(ص102) “الكاتب الكبير طاهر جاعوط يغتال برصاصتين في رأسه من طرف ثلاثة إرهابيين وهو يقود ابنته إلى المدرسة “(ص111) يبدو أن الروائي اختار أن يلتقط عناوين الأخبار من على الصفحات الأولى للجرائد أي “المانشيتات” وليس الخبر الصحفي بتفاصيله كما وظفه واسيني الأعرج في روايته “حارسة الظلال “[20] والحق أن توظيف هذه القصاصات الصحفية أصبح مطروقا في الروايات العربية المعاصرة مع واسيني الأعرج وصنع الله إبراهيم ولكن طرق التوظيف هي التي تختلف فبو جدرة حافظ على طوبوغرافية النص الصحفي في روايته “طوبوغرافية نموذجية لعدوان موصوف ” حين استعان بتقنية الكولاج ليقحم خبرين صحفيين كما وردا في الصحيفة بتوزيعهما العمودي يتحدثان عن العنصرية في فرنسا و عمليات الاغتيال التي يتعرض لها المهاجرون الجزائريون .

- إن لإقحام تلك الأخبار في النص السردي وظائف شتى منها الوظيفة الجمالية المتمثّلة في خلخلة المشهد الأفقي/ التقليدي للنص السردي فتربك تلك النصوص خطية التلقي وتخرج القارئ من رتابة القراءة المعتادة لتبعث فيه الحذر .فالقارئ التقليدي لن يتمكن من متابعة النص الحداثي الجديد الذي يتلاعب فيه الروائي بتشكيل الصفحة.فمع روايات كلود سيمون مثلا لا يمكنك أن تقلب الصفحة مرة واحدة لأن عليك العودة إليها لتقرأ مقطعا سرديا آخر يركن في أحد أطرافها لأن توزيع النص ليس توزيعا تقليديا و إنما هو توزيع يخضع لمقاييس جمالية أخرى حولته إلى لوحة لا يمكنك أن تمسحها مسحا واحدا .لقد” تشظى” النصّ داخل الصفحة وتنجّم إلى قطع .و ينهض الخبر الصحفي –إضافة إلى التوظيف الجمالي - بوظائف أخرى لها علاقة بالسرد و سير الأحداث والتلاعب بالزمن السردي وزمن التلقي.

- * إنّ التعامل مع نصوص رشيد بو جدرة الرّوائية مغامرة محفوفة بمخاطر عديدة لأنّ هذا الكاتب يقدّم جماليات جديدة في الكتابة العربية قد لا تتلاءم مع ذائقة القارئ العربي الذي ظلّ إلى وقت قريب سجين نمط كتابي معيّن .

-و الحقّ أنّ عودة بو جدرة إلى العربية حملت معها أشكالا سردية جديدة و غريبة أحيانا على بنية السّرد العربي التقليدي, كما حملت متون رواياته أسئلة جديدة , ربّما استأثرت باهتمام سدنة الرواية العربية فأهملوا في المقابل شعريّة الكتابة و جماليتها لينكبّوا على ما رأوه خرقا لنواميس القصّ العربي و أخلاقياته .

-و اكتفى البعض الآخر بملاحقة الأخطاء اللّغوية التي وقع فيها الروائي- و هي كثيرة حقّا- ليحكم على نصوصه بالنجاح أو بالإخفاق , و لكنّ ,يبدو أنّ النّقد العربي المعاصر بدأ يعود إلى نصوص الرّجل ليحاورها بعيدا عن الآراء المسبقة ,وبعيدا عن القراءة الإيديولوجية ليكتشف جماليات ذلك السّرد العربي المختلف الذي يحفر في أعماق الذات العربية بحرّية غير مسبوقة

ايوب صابر 11-21-2014 11:57 AM

تابع ....والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم -75- ألف عام وعام من الحنين رشيد بوجدرة الجزائر

- أصر الروائي رشيد بوجدرة في كل ما كتبه على أن يكون النص جزءا منه أولا؛ فهو ينطلق وفقا لما قاله وصرح به في كثير من المناسبات من تجارب حقيقية يحولها إلى أبعاد ترميزية قادرة على تقمص الحالة الإنسانية عموما أو الحالة الوطنية أو حالة الأمة في أبسط الدلالات.

- أما الرافد الثاني الذي يغرف النص السردي منه أدبه الروائي فهو التراث العربي الإسلامي وما تضمنه من رموز عالمية كالجاحظ وابن خلدون وابن عربي وغيرهم،

- وهكذا يغدو أدب رشيد بوجدرة مدرسة ''استغرابية'' مناقضة للمدرسة الاستشراقية التي تفهم التراث العربي الإسلامي انطلاقا من الغايات الغربية؛

- إذ أن رشيد بوجدرة يضمّن لغته الفرنسية وأدبها الغاية الوطنية والقومية والفهم القومي الأصيل للتراث العربي حين يعبر عنه باللغة الفرنسية، وبذلك يظل أدبه خارج السرب الفرنوكفوني بالرغم من الحروف الفرنسية التي يحبّر بها أدبه،

- وهو بعد ذلك يعمّق هذا البعد القومي حين يغازل الأندلس وإسبانيا واللغة الإسبانية ليزيل تلك الهيمنة الفرنكوفونية التي فرضتها اللغة الفرنسية في ظروف تاريخية معروفة.

- والعمل الفني في جوهره هو هذا إذا كان صاحبه يعنيه جانب الصدق، وإذا كان يعنيه أصالة النبع الذي يستقي منه أدبه، بل إذا كان يريد لقارئه عالما روائيا حقيقيا،

- فهذا التصور الذي ينطلق بوجدرة منه يضمن للقارئ الفرنسي ولكل قارس باللغة الفرنسية التعرف على عوالم ثقافية وقيمية وجمالية غير متوفرة في التجربة الروائية الفرنسية؛ وهنا نتساءل: ماذا يمكن أن نقدم للقارئ الفرنسي إذا أعدنا كتابة فلوبير أو زولا أو بروست أو غرييي أو لو كليزيو؟

- إن وجود بوجدرة ضمن كبار ممثلي الرواية الجديدة مع ''كلود سيمون'' و''آلان روب غرييي'' و''ناتالي ساروت''، لم ينسه البقاء ضمن الرواية المكتوبة بالفرنسية بعيدا عن الرواية الفرنسية، في موقف دقيق شديد التمييز بين مفهومين مختلفين هما: الأدب الفرنسي والأدب المكتوب بالفرنسية.

- يبدو بوجدرة في هذه النقطة في غاية الحذر؛ حذر يمكن أن نستشفه من ذلك الموقف الصريح الحاد الذي وقفه من الروائية آسيا جبار حين رأى ضمها للأكاديمية الفرنسية اعترافا بانتمائها للرؤية الفرنسية، وخدمة الفرنكوفونية،

- وهذا يعني أنه يميز بين اللغة التعبير واللغة الموقف، ويبدو أن هذه الرؤية الحذرة هي التي جعلته يعود إلى التعبير العربي والمساهمة في السرد العربي بدءا من ''التفكّك'' سنة 1982 وهو عنوان شديد الدلالة على التحول من الفرنسية إلى العربية.

- ومن التفكك إلى ''المرث'' عام ,1984 ثم المرث في (1984) وليليات امرأة آرق عام (1985) ومعركة الزقاق في (1986) وتلت هذه الإبداعات مرحلة تأمل واندهاش أمام المشهد الدامي الذي عرفته الساحة الوطنية من تمزق عام كان اقتتال الجزائريين أبرزها، فاستدعت المرحلة قول الموقف السياسي قبل الموقف الفني كسرا لجدار الصمت بداية التسعينيات فكانت ''فوضى الأشياء'' عام (1990) و''تيميمون'' عام .1994

- إن بوجدرة المسكون بالتعبير عن ذاته الباحث في لغة غيره عن إمكانية تصوير أعماقه كان من المنتظر أن يعود إلى العربية التي رآها قادرة على أن تمنحه إمكانات أوسع لتجسيد ذاته وثقافتها وحضارتها وواقعها من خلال الطاقات التعبيرية المختزنة في الفصحى وعامياتها وفي كل الألسن الجزائرية العربية والأمازيغية، وهي الطاقات التي قد لا تستطيع الفرنسية التعامل معها بسهولة، بالنظر إلى تلك العلاقة العميقة الموجودة بين العربية وبقية الألسن الجزائرية التي كثيرا ما تستقي قيمها التعبيرية من العربية ذاتها، وبذلك يكون التعبير العربي حاضنا طبيعيا لها في العمل السردي، بل لعل هذه الطاقات المختزنة في ''العربيات'' هي التي جعلت الرجل يرى أن الأدب الناطق بالعربية في الجزائر أكثر عمقا من التعبير الفرنسي، غير آبه بمسألة الكم القرائي الذي كثيرا ما يثار في هذا السياق.

- يمكن القول كذلك بأن هذه الأصالة الفنية التي حققها رشيد بوجدرة قد تكون هي التي أغرت عددا من كتاب الرواية العربية في الجزائر لتجريب كتابة الرواية باللغة الفرنسية، لكن عودة رشيد بوجدرة إلى العربية هي ضمن البحث الفني الأكثر ثراء، قبل أن تكون عودة إيديولوجية - إن سلمنا بإيديولوجية لغة التعبير- مع العلم أن معظم حالات التعبير الفرنسي لدى الجزائريين قد شهدت هذا ''الهاجس الرجوعي'' الذي نجده قويا لدى مالك حداد الذي أعلن موقفه بشكل صريح حين عد الفرنسية منفى، وفي غصرار مولود فرعون على تجسيد حياة قريته ولغة قريته بإدخال عدد من الكلمات المحلية ككلمة ''الجماعة'' التي يذكرها حرفيا بهذا الشكل، ويظهر هذا الهاجس بقوة أيضا في بوح محمد ديب الفني الذي راح يترجم من العامية ومن الثقافة العربية ويحاول التقرب من الروح العربية قدر المستطاع ، فقال مثلا:
je te coupe la parole je couperai dans ta bouche du miel

- ويبدو بوجدرة مولعا بالمضي في هذا الخط إلى أبعد الحدود حين يورد نصوصا لكبار الكتاب والعلماء العرب في رواياته، بل وحين يدخل في تفاصيل اللغة اليومية الجزائرية ليتمكن من دخول ذاته بصدق لا تمنحها له إلا اللغة العربية.

منقول من صفحة الأثر بجريدة الجزائر نيوز

ايوب صابر 11-21-2014 06:45 PM

[RIGHT]
والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 76- القبر المجهول احمد ولد عبد القادر موريتانيا


- تندرج رواية أحمد ولد عبد القادر «القبر المجهول أو الأصول» في رواية التأرخة التي تسند التخييل السردي إلى أصالة التاريخ في موريتانياوجغرافيتها الصحراوية والمدينية معاً وتمازجات هذه الأصالة التاريخية مع عناصرالتمثيل الثقافي،

- إذ تأخذ العادات والتقاليد والطقوس والأعراف في مدلولات الأضرحةوالعقائد والأصول الناظمة للسلطان الديني والاجتماعي الذي يفضي إلى هيمنة السلطان السياسي وطغيانه اعتماداً على السلاح المادي من جهة، والفتن والمخادعة والتضليل من جهة أخرى.

- وتقوم الرواية على تشابكات الخطاب الروائي من طبيعة المعتقد الديني إلى مشكلات الصراع السياسي ولبوسها بلبوسهما الاجتماعي،

- ويظهر غطاؤهما التاريخي تعبيراً عن أشكال الصراع العسكري والسياسي في موريتانيا بخاصة وفي الوطن العربي بعامة، فقد عانى العرب خلال القرن العشرين من الانقلابات والطغيان والقمع وهدرالإمكانية العربية من أجل التحكم بالسلطان السياسي واستغلال الثروات والسيادةوالحرية.. إلخ.

- ولو تأملنا في التطورات السياسية الموريتانية منذ نصف قرن حتى اليوم، لوجدنا الصراعات العاصفة والمدمرة بين سلطة وأخرى، مثلما يطرح السلطان السياسي العربي في موريتانيا وسواها العزف على المأثور الديني والعقائدي والثقافي وتعليلها ضمن سيرورة تاريخية، وهذا جلي في هذه الرواية المبنية على مدلول الضريح المقدس أو المبارك (المجهول) في الصحراء

- ومدلولات الصراع القبلي بين مالكي المال والثروة من خلال السلاح والسلطة، ومالكي الجاه والعلم والنفوذ الثقافي الروحي، وبين المضطهدين الذين يندفعون إلى أي سبيل متاح لهم في المواجهة، ولو كانت الحيل والفتن والمخادعة والتضليل.. الخ.

- مهّد الروائي لضبط المنظور السردي بالإيماء إلى دلالة القبر المجهول ومعنى الأصول في الفصل الأول عن «الضريح» (والفصول كلها مرقمة)،إثارة للتساؤلات العميقة حول قيمته عند المسلمين، فهل هو قبر لأحد الأولياء والصالحين المعروفين أم لأحد عمالقة العصور الماضية البعيدة والقرون الغابرة، أم «لأحد المسلمين من الجان شُهر على هذا النحو ليزوره أصدقاؤه من الإنس تبركاً منه ووفاء للعهد؟!» (ص5)،

- ولُفت النظر إلى امرأة مختبئة (هي أو الولد صاحب الضريح الذيمات ودفن رضيعاً) بين شجيرات طلح ملتفة حول بعضها البعض، بينما تكاثر عدد مرتاديه الذين يحضرون أخشاباً لحمايته، ويتبركون منه.

- ثم كشف السرد في الفصول اللاحقة واكتمال دائرته في الفصل الأخير (26) أن القبر لوليد ميمونة التي أحبها ابن عمها سلامي ولد الهادي، كما أشرنا إلى ذلك، وتزوجها دون معرفة أمها، و غادر البلاد لطلب العلم، ووعد بالعودة بعد شهرين، غير أن غيابه طال ثماني سنوات، في الحج والإقامة في مصر دارساً ومدرساً في الأزهر.

- ثم هربت ميمونة من منزل أمها مطرودة من زوج الأم،لتدفن وليدها الذي مات في الصحراء عطشاً، ووضعت على قبره أخشاباً وقاية من الرمال،وأقامت في منطقة أخرى، وتزوجت هناك لفقدان الأمل بعودة زوجها سلامي.

- وأبان الفصل الأخير حقيقة الضريح عند والديه فحسب، إذ صار مزاراً عند الجميع، فقد عاد سلامي،وصار شيخاً، وتزوج امرأة أخرى لدى إخباره عن وفاة ميمونة، فزار الضريح الذي كثرتحوله الحكايات، وتشعبت الروايات «حول استجابة الدعاء عنده، لما لصاحبه المجهول منجاه عظيم عند الله» (ص248).

- واقترب الفقيه من موضع القبر، وصلى ركعتي الضحى قبالة رأس الضريح، وفوجئ بوجود زوجته الحبيبة الفقيدة ميمونة بنت الهادي، ولميخامره أي شك في أنها هي بعينها، وشاءت الأقدار أن يلتقيا في هذا المكان عند قبر ولديهما، وظهر جوهر الصراع بينهما، على أنه، برأيها «الخائن، الكاذب، المخادع» (ص251)، و«الخسيس المتحايل النصاب!» (ص252)، وجاهرته أن دعاءه لن يستجاب، «لأن الله عاقبك بالداء على جريمتك النكراء» (ص252)، واتهمته بالجهل والبلادة، وأنه مغفل،و«أن المدفون هنا هو ولدك، فضحتني وكنت وحدك المسؤول عن قتله يا مجرم» (ص253).

- ورفضت أن تقصّ عليه حكايتها، ولن تستمع إلى «أساطيره» (ص254)، ونبذت نداءه لعودتها، وهي لن تخون زوجها، ما دامت نمداوية وفية، وهددته بالمقدرة على صرعه وتعفيره، بل على ردمه هنا في التراب إلى جانب ولده المظلوم (ص256- 257).
وخطا إلى الوراء بعد تهديدها، وربط في دعائه بين المدلول الأعم للقبر المجهول والمدلول الأخص لجوهر الصراع المتأصل في الذات: «سبحان خالق الأصول ومغيرها! سبحان من قسّم الأقدار والأقسام وحددها!» (ص257).

- وأدغم المنظور الروائي بالتأرخة والتمثيل الثقافي لإضاءة معنى الأصول في تصوير الصراع بين ثلاثة مناطق بدوية في الصحراء سماها الروائي أحياء، الأولى «من قبيلة أولاد اسويلم: حسانيون محاربون أشداء، كسبهم من المواشي قليل، إلا أنهم مسلحون بالبنادق، ولديهم بعض الخيول المسومة العربيةالعتيقة»، والثانية من قبيلة أولاد عبد الرحمن: «عشيرة زوايا من قبائل العلم المتخصصة أصلاً في تدريسه، والعمل بمقتضاه، مجردة من السلاح، ولكن لديها مواشٍ كثيرة»، والثالثة من قبيلة أولاد إحميدان: زناقة عزل تقريباً من السلاح والعلم،ولكن مواشيهم أكثر من حيوانات الحيين الآخرين مجتمعين، على أن في أموالهم حقاًلأولاد اسويلم أهل السلاح والسلطة، وآخر لأولاد عبد الرحمن بحكم النفوذ الثقافيوالروحي» (ص7).

- وأوحى المنظور الروائي ضمن عملية ضبط أغراض السرد النابعة من «الأصول» في المجتمع الموريتاني، إذ تتعدد القبائل والعشائر في براري الصحراء تمثيلاً للقوى المتصارعة باسم الدين أو السلاح أو المال في فئات حسان المتحكمة بالسلطة زمناً بالسلاح التقليدي وسواه والزوايا المتسلحة بالدين والثقافة، وأزناقة المظلومة والمضطهدة من الفئات الأخرى، وصور الراوي المضمر العارف بالواقع وتحولاتهاتسيّد فئة على أخرى من ببكر ولد عثمان وجرفون وغزوهم لأولاد أعميرة وأولاد احميدان،إلى حرب شكرود وأبديهل انتصاراً للثاني على الأول، إلى انتفاضة ديلول وأولاداحميدان الذين صاروا الحكام الجدد لأولاد اسويلم وأولاد أعميرة الذين رضخوا مع فئةالزوايا أو فئة أزناقة، فقد ثبت «أنهم قتلوا كثيراً وكثيراً جداً من الرجال!» (ص225)، واعترفوا أنهم سحقوهم «سحقاً.. وفرّ بعضهم بدون أسلحة، واعترضهم كمين منرجالنا المسلحين بالسيوف والفؤوس ومزقوهم في لحظات..!» (ص229)، وزاد ديلول من تدريب قومه على الرماية وأعمال الفروسية بعد نجاح الانتفاضة، حرصاً على السيادة والمقدرةعلى تنفيذ الخدائع! (ص234).

- واندغم سرد قصة القبر المجهول الناجم عن مكابدةالعيش الذي أفسد مصير ميمونة وولدها الرضيع الميت، بسرد قصة الأصول، عندما عادسلامي ليجد تبدلات الأحوال في انتقال السلطة ممن كانوا مظلومين ليصبحوا ظالمين، على أن الحاكم ليس بإرادة الآخرين، بل بتسلله إلى السلطة كلما أمعن في التلاعب والاحتيال والمخادعة والإرهاب والعنف دفاعاً عن نفسه وممارسة للجور والطغيان على الآخر تبديلاً لموقع العدو من الداخل، ولقد مات الكثيرون، وأُنتهكت أعراضهم وممتلكاتهم وحياتهم، لذلك تكررت تسمية الأعداء كثيراً من فئة إلى أخرى، وما يندرج في منظومتها المأساوية، مثل أرض الأعداء والرصاص والقتال والمعارك والموت والحرب،حتى أن طرفاً من هذه الفئات شبّه هذه الحرب «بحرب البسوس التي توجد أخبارها فيالكتب، والتي دارت في الجاهلية بين تغلب الأراقم وأبناء عمهم بني بكر..!» (ص93).ولطالما رددت الأطراف انتظارها للمعركة الحقيقية التي ما زالت أمامهم «عندما نلتقي بذلك الشيطان المقطوع الأصابع ورجاله» (ص97).ولا يكتفي المقاتلون بمجرد النصر على الفئة أو الفئات الأخرى، بل يربطون معاركهم بموت هذه الفئة أوالفئات الأخرى، كوصف سلامي لديلول: «ولكن شكرود أطلق حال سقوطه على الأرض آخر رصاصةعنده، فاستقرت بين كتفي الأعور، وزحف إليه على بطنه ليقطع رأسه قبل أن يلتفت إلىكسر ساقه» (ص113).

- ولعل مثل هذه المحاورة بين أفراد فئة مقاتلة كاشفة عن مدى استغراق الفئات جميعها في ارتهان «النصر»، تجاوزاً بالقضاء على الفئات الأخرى:
«- أظن أن علينا الآن أن نعجل تعبئة الجيش لغزو الأعداء. ولو تمكنا منالقضاء على شخص شكرود، كما فعلنا بأبيه وأشقائه، فلن تبقى أمامنا عقبة في طريقالانتصار المحقق على أولاد اسويلم» (ص139).ووصفت العلاقة بين الفئات «بالدائرةالجهنمية» (ص152)، وكأن الفئة الواحدة تحارب عدداً بالفعل من خارج هذه الفئاتالواحدة:
«- لأن الحرب سجال، والشرّ جرّ، البسوس دامت أكثر من مائة سنة. وعدمالغزو ليس دليل ضعف. في بعض السنوات تتالت غزوات أولاد أسويلم، وبقي الآخرونمدافعين. إنهم يتبادلون الأدوار، يوماً لهذا ويوم لذاك.. هذا يغزو وذاك يدافع..» (ص155).

- وأشار قتل شكرود غدراً من آخر، وهما يتقاتلان، إلى طبيعة الحياة الخانعةللصراعات المخادعة والمضللة والظالمة، إذ رُمي بسهم مارق، و«لعلع الرصاص من بندقيةمعتوق ولد بلال في مكمنه، وأصاب شكروداً في خاصرته اليمنى، ونفذ من اليسرى، وسقطمجدلاً على قفاه بعيداً عن فرسه وإعفاج بطنه المرتمية على مسافة عشرة أمتار من نقطةمصرعه!» (ص202).

وقد اعتمد أحمد ولد عبد القادر في بناء الرواية على التقاناتالتالية:
أ- التأرخة:وسمي التاريخ زمناً موريتانياً قديماً جداً «بالنظر إلىمدى اختلاف ظروف حياة أهله عن عادات وظروف حياتنا نحن أبناء اليوم، والقريب جداًبالنظر إلى درجة ابتعاده في الماضي، وهو العقدان الرابع والخامس من القرن التاسععشر الميلادي» (ص7).

- وربط التاريخ بجغرافية المكان وامتدادها العربي لدى وصف البيئة والمناخ والطقس والأعراف في هذه المنطقة الصحراوية إلماحاً إلى الدلالات الكامنة عن طبيعة الحياة المعذبة تحت وطأة الصراع الدائم للتسيد علىالحكم.

- وأفاد المنظور الروائي إلى مجازية السرد نحو إفصاح الخطاب عن الغرض المراد، مثل استنطاق التأرخة للسياسة الراهنة، حين سمّي أحد السادة «رئيساً سياسياً للعشيرة» (ص50).

- وأكثر الروائي من إيراد أسماء الأماكن والمدن والقرى والمناطقإلى جانبها مثل الرقيطة وتقانت وآراء وأجبتين وأفلة والركيز وأفان وتيرس والحلة.. الخ.

- ب- العتبات السردية: عمد الروائي أحمد ولد عبد القادر إلى العنايةبالعتبات السردية مثل العنوان ودلالاته في التبئير لإظهار القصد الروائي.

- وثمة شروح عديدة لمفردات وتراكيب وأسماء لدى استخدامها في النص الروائي من أجل توضيح المدلولات الخافية، وأورد أمثلة لذلك:
- التوالة: نظام للضيافة، اتبعته بعضقبائل الزوايا.. الخ (ص29).
- حلق القرن: عادة عُرفت قديماً عند القبائل المسلحةالحسانية.. الخ (ص34).
- السلام عليك: لفظ التحية عند قدماء قبيلة النماديالصيادين (ص98).
- التلاليس: في اللهجة الحسانية، خيمة الصوف التي تشققت مسوحهالقدمها، أو قطعة منها بالية.. الخ (ص137).
- القراقيز: واحدها أقرقز، وتنطقشعبياً آقراقيز من أصل منهاجي، جلود الغزلان.. الخ (ص164).

- ج- التناص: لجأالروائي إلى التناص تدعيماً لعناصر التمثيل الثقافي، ولا سيما النصوص الدينيةالإسلامية كالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة والسيرة النبوية والدعاء والصلاة وصلاةالاستسقاء.. الخ. مثلما أدغم بعض الحقول الدلالية بالأمثال الشعبية، في عشرات الأماكن ص81، 85، 101، 140، 148، 179، 186، 188، 195، 210، 212، 214، 220.. الخ.

- وأضاف إليها الشعر الشعبي للشاعر الشعبي الموريتاني القديم سيدي عبد اللهبن أحمد بن أحمد دام الحسني (ص246- 258)، اختتاماً لحال الصراع الدائر خاتمة للرواية:
ومن صحب الأيام أنأين جاره
وأدنت له من ليس بالمتداني

- أوحت الرواية من خلال التعالق النصي بين قصة القبر المجهول وقصة الأصول في هذه المنطقةالصحراوية وتواصلها مع المناطق المدينية في موريتانيا أن وصف الحروب الدامية بين الفئات العربية تؤدي إلى العذاب والقتل والدمار بتأثير استلام سلطة الحكم، إشارةإلى استمرار الانقلابات العسكرية في العديد من الأنظمة العربية التي لا تنتج إلاانعدام الحرية ودوام الاستبداد.

ايوب صابر 11-22-2014 12:01 PM

تابع ....والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 76- القبر المجهولاحمد ولد عبد القادر موريتانيا

- وفي "الأسماء المتغيرة" و"القبر المجهول" يكون الزمن أداة الحياة والنماء والموت، فهو موسم المطر والخير، وهو فصل الجفاف والعطش والرياح الحمراء وهو في القبر المجهول خصوصا كما رأينا من خلال الاستشهاد يكتسي دلالة مركبة ففصل المطر يتزامن مع استئناف الحروب والصراعات القبلية، بينما يهدأ الناس في فصل الصيف ويامن بعضهم بعضا وذلك مظهر من مظاهر تراجيدية الحياة البدوية التي تصورها الرواية.

- وقد تعددت أنماط التصرف في الزمن الروائي فتنوعت الاسترجاعات والتلخيصات وقلت الوقفات والثغرات، وبلغت المشاهد في القبر المجهول أربعة، واقتصرت على مشهد واحد في الفصلين الأولين في "الأسماء المتغيرة" وخلت "أحمد الوادي" من أي مشهد فلم تتأزم الأحداث ولم تنحبس الأنقاس على مدارها وذلك نابع من تقنيتها التي لا تهتم بما نسميه اللحظات البؤرة أي اللحظات الحاسمة التي تفصل الرواية.

- واذا كان المكان البدوي ساد الروايتين الأوليين الى حد كبير، فإن المكان الحضري وسم الرواية الثالثة بميسمه، وتوزعت الأمكنة البدوية بين أمكنة خارجية (فضاء) وأمكنة داخلية مغلقة كالخيمة، أو مفتوحة كالمسجد، وهو غالبا شجرة وارفة الظلال في وسط الحي، وكانت الأمكنة الفضاء مسرحا للمعارك والحروب والضحايا، كما هي مأوى قطاع الطرق وسراق المواشي، والحيوانات المفترسة التي تعترض القوافل والبشر، وبشكل عام، انعكست نظرة الإنسان البدوي على المكان فكان المكان الداخلي بالنسبة له مصدر الأمان النفسي، في حين ظل المكان الفضاء عنصر قلق دائما، ولعل ما كان يمزق نظرته للمكان شعوره أنه مصدر رزقه ومكمن هلاكه، وهو في الوقت نفسه قدره الذي ليس عنه من محيد..

- أما رواية "القبر المجهول" فتنحو منحى غير بعيد عن د«الأسماء المتغيرة» إذ أن مؤلفهما واحد، كما عرفنا، وهمومه في نهاية المطاف مترابطة، ومع ذلك فهما لا تسيران في المسار نفسه.. فاذا كانت «الأسماء المتغيرة» تنحو منحى البانوراما التاريخية للمجتمع الموريتاني عبر الزمن، فإن «القبر المجهول» تنتقي فترة زمنية محدودة لا تتجاوز عقدين من الزمن ينتميان للمرحلة السابقة للاحتلال الفرنسي فهي إذن تصوير لما يمكن أن نسميه المجتمع الموريتاني في عهد الفطرة، أي قبل ورود مؤثرات خارجية فعالجت أنماط حياته والصراعات التي تدور بين فئاته حول مناطق النفوذ العسكري والروحي،

- ولعل الفكرة العامة التي تحكمها هي أن الأصول متغيرة بينما الوظائف الاجتماعية ثابتة، فوظيفة القبيلة الحسانية (المحاربة) ثابتة، ولكن القبيلة نفسها كواقعة تاريخية متغيرة. كذلك وظيفة القبيلة الزاوية (العالمة) وقل مثل ذلك في القبيلة الزناقية أو التابعة. إنها بنية تتحول عناصرها وتنفير كما تتقلب رمال الصحراء التي تتمسرح عليها الأحداث.

- ويذهب الأستاذ محمد ولد عبدالحي الى انه "إذا كانت رواية الأسماء المتغيرة" محكومة بنظرة التمجيد للمقاومة الوطنية والغيرة على الوطن فان رواية القبر المجهول محكومة بنظرة ترد كل شيء الى العامل الطبيعي وتتسم بالقلق إزاء الصراع القبلي وإيديولوجيته المهيمنة، والرواية الأولى محكومة بجو سنوات الأمل في بداية عقد السبعينات، والثانية محكومة بسنوات الإحباط في نهاية السبعينات وبدايه الثمانينات."

من مقال بقلم الكاتب : محمد الحسن ولد محمد المصطفي


الساعة الآن 06:19 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team