منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية. (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=6821)

ايوب صابر 05-31-2012 11:01 PM

إلياس فركوح


ولد الياس جورج باسيل فركوح في عمان عام 1948، حصل على ليسانس فلسفة وعلم نفس من جامعة بيروت العربية عمل في الصحافة الثقافية خلال السنوات 1977 -1979، وشارك في تحرير مجلة المهد الثقافية، كما شارك الشاعر طاهر رياض العمل في إدارة دار منارات للنشر خلا السنوات 1980 -1991، ثم أسس دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 1992 حيث يعمل مديراً لها. وهو من مؤسسي اتحتاد الناشرين الأردنيين، وهو عضو في الاتحاد المذكور، وفي اتحاد الكتاب والأدباء العرب، ورابطة الكتاب الأردنيين التي عمل عضواً في هيئتها الإدارية لعدة دورات.

حازت روايته قامات الزبد على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990، وحاز على جائزة الدولة التقديرية في حقل القصة القصيرة عام 1997، كما نال جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة من رابطة الكتاب الأردنيين، وكانت الرابطة قد منحته جائزة أفضل مجموعة قصصية للعام 1982 عن مجموعته أحدى وعشرون طلقة للنبي.

مؤلفاته:
  • القصة القصيرة:
  1. الصفعة بغداد، وزارة الثقافة، 1978.
  2. طيور عمان تحلق منخفضة ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981.
  3. إحدى وعشرون طلقة للنبي ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982.
  4. من يحرث البحر ، عمان: دار منارات، 1986.
  5. أسرار ساعة الرمل ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1991.
  6. الملائكة في العراء ، عمان: دار أزمنة، 1997.
  7. شتاء تحت السقف (مختارات) أمانة عمان الكبرى، 2002.
  8. من رأيت كان انا (مجلد المجموعات الست) دار أزمنة، عمان، المؤسسة العربية، بيروت 2002.
  9. حقول الظلال، دار أزمنة، عمان، 2002
  • الرواية:
  1. قامات الزبد (رواية) عمان، دار منارات ومؤسسة الأبحاث العربية، 1987.ط2 المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة،2004.
  2. أعمدة الغبار (رواية) عمان، دار أزمنة، 1996.
  • نصوص:
ميراث الاخير، دار أزمنة، عمان، 2004.
  • شهادات ومقالات في الثقافة والكتابة:
  1. الوعي المستريب، من جدل السياسي - الثقافي، دار أزمنة، عمان،2003.
  2. النهر ليس هو النهر، عبور في أسئلة الكتاية والرواية والشعر، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2004.
  3. أشهد علي أشهد علينا، دار أزمنة، عمان، 2004.
  • الترجمات الأدبية والفكرية:
  1. موسيقيو مدينة بريمن (قصص أطفال مترجمة) عمان: دار ابن رشد، 1984.
  2. آدم ذات ظهيرة (قصص مترجمة) عمان: دار منارات والمؤسسة العربية، 1989 (مشترك).
  3. الغرينغو العجوز (رواية مترجمة) عمان، دار منارات، 1990.
  4. نيران أخرى (قصص لكاتبات من أمريكا اللاتينية) (مشترك) دار أزمنة عمان، 1999.
  5. القبلة (قصص) دار أزمنة، عمان، 2004.
  6. ما هذا "البيت المشترك"؟ (حوارات)، دار أزمنة، عمان، 1996.
  7. جدل العقل: من حوارات آخر القرن، (بالاشتراك مع حنان شرايحة) المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 2004.

ايوب صابر 06-01-2012 03:58 AM

الياس فركوح: أدركُ بأني ما زلتُ الناقص الباحث عن اكتمال ما!
في ندوة 'مبدع وتجربة' أقامها منتدى الرواد الكبار في عمان


2011-05-09

عمان ـ 'القدس العربي' ـ من سميرة عوض درج منتدى الرواد الكبار في العاصمة الأردنية عمان على اجتراح أنشطة إبداعية مبتكرة في إطار برنامجه الثقافي ومنها 'مبدع وتجربة'، التي استضافت الروائي الياس فركوح، الذي قدم شهادة عن تجربته في روايته 'ارض اليمبوس'، فضلا عن مشاركة نقدية حول الرواية ذاتها قدمها د.فيصل دراج.
الندوة التي أدارها المدير التنفيذي للمنتدى استهلت بكلمة ترحيبية لرئيسة المنتدى هيفاء البشير، عبرت فيها عن سعادتها باستضافة 'مبدع متميز في إنتاجه الذي يجمع فيه بين الرواية والقصة القصيرة والترجمة، وقد جاء في مجمل ذلك مبدعاً، له صوته الخاص وأسلوبه المتميز، إنه الروائي المبدع الأستاذ الياس فركوح. كما ونسعد ونعتز باستضافة ناقد عربي كبير هو الدكتور فيصل درّاج، المثقف الطلائعي الذي تجمع كتاباته بين النقد الأدبي في صيرورته ومرجعياته الاجتماعية، ليقدم لنا نسيجاً نقدياً عميقاً قادراً على ربط الظواهر الأدبية الفنية بمرجعياتها التاريخية الاجتماعية'. لافتة إلى 'خصوصية برامج المنتدى الثقافية والاجتماعية التي يجري تنظيمها من خلال لجان المنتدى وبخاصة من خلال اللجان الثلاث النشطة والمتميزة: الثقافية / الفنية التشكيلية من جهة، واللجنة الاجتماعية من جهة ثانية، ولجنة المكتبة من جهة ثالثة'، منوهة إلى أن 'هذا العمل الجماعي الذي تقوم به هذه اللجان الثلاث هو مؤشر على نجاح العمل المؤسسي وتميزه'.
الناقد د.فيصل دراج: الحقيقة المؤجلة في الإبداع الروائي
يخلص الناقد د.فيصل دراج في شهادته المعنونة 'إلياس فركوح في أرض اليمبوس: الحقيقة المؤجلة في الإبداع الروائي' إلى أن 'الياس فركوح وصل في (أرض اليمبوس) إلى عمله الروائي الأكثر إتقاناً، منتهياً إلى نص نوعي يضيء معنى الكتابة الروائية'، منوها إلى 'سعي إلياس فركوح، منذ بداياته الأولى، إلى تمييز ذاته، مدركاً أنّ الشخصية الكتابية أسلوب لا يختزل إلى غيره، وأنّ كتابة تائهة الأسلوب لا ضرورة لها. وسواء احتفى القارئ بروايتيه: (أعمدة الغبار) و(قامات الزبد) أو لم يحتفِ بهما، فإنّه سيذكر منهما، إن كان قارئاً جاداً، أمرين: أولهما عمل في اللغة يقترب من الصناعة، وثانيهما وحدة العملين الأكيدة، التي تعيّنهما عملاً واحداً، أو تكاد. ولعلّ هذين البعديْن الإيجابييْن، فاشتقاق الشخصية من الأسلوب فضيلة كبرى، هما اللذان يفرضان على القارئ أن يقرأ عمليّ فركوح بين روايات عربية أخرى، طالما أنّ صاحبهما لم يرغب، منذ البداية، في أن يكون كاتباً مطمئناً يداعبه الاستسهال، بل أراد أن يكون روائياً حقيقياً، يحاور غيره من الروائيين، ويقدّم إضافة خاصة به'.
وبيّن دراج أن الناقد 'يستطيع، ربما، أن يقع في العملين السابقين على آثار روائييْن متميّزيْن: أولهما غالب هلسا، الذي قاسمه فركوح فكرة (النثر اليومي)، إذ الرواية شكل من اليوميات أو ما يشبهها، تدور حول مفرد يتكلّم ويوزّع كلامه على غيره. وثانيهما: إدوار الخرّاط الذي أخذ منه إلياس، ربما، الصناعة اللغوية، التي هي ردّ جمالي على واقع لا يلبـّي من رغبات الروائي شيئاً كثيراً. هناك، في الحالين، مغترب نموذجي، يشتق خفة التاريخ من رخاوة نهار قوامه الرتابة، ويردّ على ما يخدش الروح بلغة مصقولة، لا ترحّب بها اللغة اليومية كثيراً. بيد أنّ الياس، الذي وحّد بين الشخصية والأسلوب، لا يكتفي بمحاكاة غيره، مُؤْثراً حوار ما يمكن حواره والذهاب إلى مساحة خاصة، لا تلتبس بغيرها. ولهذا يفترق إلياس عن هلسا في شكل التعامل مع اللغة، وينفصل عن الخرّاط مدرجاً 'التاريخ القومي' في الخطاب الروائي. وواقع الأمر أنّ 'الما بيْن'، الذي سيقول به الروائي في عمله الأخير: 'أرض اليمبوس'، كان ماثلاً في تصوّره منذ زمن، أي منذ أن أدرك، مبكّراً، أنّ العمل الروائي الذي لا تحتشد فيه أعمال سابقة عليه لا يأتي بجديد'.
'أرض اليمبوس' عمل فركوح الروائي الأكثر إتقاناً
ويواصل دراج: 'يصل إلياس فركوح في (أرض اليمبوس) إلى عمله الروائي الأكثر إتقاناً، بل يصل إلى عمل يجد لذاته مكاناً مريحاً بين أفضل الروايات العربية التي ظهرت العام 2008 - وقت نشر الرواية - يتكئ هذا الحكم النقدي على الموضوع الذي عالجه الروائي، لكنّه يتكئ أكثر على العناصر التقنية التي أنتجت الخطاب الروائي. والموضوع هو: اللايقين، أو النقص المتوالد الذي لا سبيل إلى تجاوزه، أو المعنى المخادع الذي كلّما توهّم الإنسان القبض عليه تسرّب من جديد . ومع أنّ الرواية، من حيث هي جنس أدبي، تجعل من المعرفة الحوارية، أو من نسبية المعرفة، عنصراً أساسياً في بنيتها الكتابية، فإنّ الأعمال التي تحقّق ما تقول به النظرية ليست كثيرة، إن لم تكن قليلة، أو تتاخم القليل. أراد فركوح لروايته ألاّ تنزاح عن النظرية كثيراً، مدركاً، بحذق كبير، أنّ معنى العمل الروائي يقوم في التقنية التي صاغته، التي تتفق مع النظرية وتوسّع آفاقها.
وفي إضاءة نقدية لبنية الرواية يبين دراج 'بنى الروائي عمله، كما يردّد بشكل إيقاعي، على فكرة النقص، فلا شيء يكتمل، ويظل ناقصاً إن استعان بآخر. يقود هاجس النقص إلى التعدّد، طالما أنّ المفرد لا ضمان فيه، وأنّ التعدّد يفصح عن اللايقين، فلو كان اليقين ممكناً لما التمس المفرد عوناً من غيره. وبسبب هذا المنظور تستدعي كل علاقة روائية علاقة أخرى وتحيل كل علاقة، مهما كان شأنها، على عنصر، أو عناصر، مبرهنة أنّ المعنى لا يقوم في العلاقات بل في الفسح القائمة فيما بينها، ذلك أنّ (الما بيْن) هو المعنى الأخير، الذي لا يراهن عليه. تبدو (أرض اليمبوس)، في مستهلها، رواية، أي فضاء متخيلاً يتوسطه 'مركز لغوي'، هو صورة أخرى عن 'مركز حكائي'، يسرد حكايته، ويترك آخرين يسردون حكاياتهم أيضاً. بيد أنّ الفضاء المتخيّل، المطمئن إلى مركز مزدوج، لا يلبث أن ينتج ارتباكاً، فنياً، يضع إلى جانب المتخيّل الصريح 'سيرة ذاتية'، تدلّل على وجودها 'الأنا' الساردة ومراجع واقعية، محدّدة المكان والزمان. وواقع الأمر أنّ الروائي، المسكون بفكرة اللايقين، لا يطمئن إلى أحادية الصوت، بل انّه لا يطمئن إلى تعددية الأصوات، إلاّ بقدر، فيضع الشخصية إلى جانب شخصيات، كي تتحاور وتتداخل، متحوّلة إلى شخصية إنسانية شاسعة يخترقها القلق'.
فركوح يمرعلى فلسطين وعام 1948
وزاد: 'تنتج سطوة النقص تعددية المكان، الذي يبدو واضحاً وشديد الوضوح حيناً، ويبدو واهن الملامح، حيناً آخر، مسقوفاً بالأطياف وغيوم الذكريات. تتداخل عكا ويافا والقدس وعمّان، إذ في الأولى حياة مضت وفي الثانية ذكريات هاربة وفي الثالثة حنين موجع وحكايات منقضية والأخيرة موقع حكايات شتائية وسيرة حياة طافحة بما يسر ولا يسر، وعلى الرغم من تراصف الأمكنة المحددة الاسم، فمعناها جميعاً ماثل في الحكايات، الصادرة عن ذاكرة تخون ولا تخون، ذلك أنّها أشبه بغربال جيد الصناعة، لا يحضر المكان بل يحضر ظله، ولا يحضر المكان إلاّ إذا استضاف آخر يضيء عتمته، فصور الأمكنة جميعاً رهن بذاكرة قلقة يخالطها البَدَد. غير أنّ الأمكنة، ثابتة الأركان كانت أو عرضة لوهن الذاكرة، لا معنى لها خارج الأزمنة التي تغلّفها، تلك الأزمنة الجامحة التي تبدو كنثار من الوقت، بعيداً عن زمن تتابعي واضح المفتتح وثابت الخطا. ومع أنّ فركوح يمر، كعادته، على فلسطين وعام 1948، ثم على هزيمة العرب في الـ 67، وصولاً إلى حصار العراق وهزيمة العرب في العراق، فإنّ أزمنته المتعددة تنبثق من الحكايات لا من تواتر التاريخ المستقيم، وتنبجس من (مناخ الوعي)، إن صحّ القول، إذ في الكآبة ما يستذكر هزيمة، وإذ في رائحة القماش ما يضع شوارع القدس تحت بصر الذاكرة'.
لا شيء له مركز- كما يبين دراج - والمركز الصلب الذي يدّعي قول الحقيقة فاسد، وجميع المراكز لا وجود لها، فما يوجد هوامش متعددة، طالما أنّ الذاكرة مكشوفة الغطاء ومليئة بالشروخ. وبسبب غياب المراكز، بلغة الجمع والمفرد، لا يكون للسارد الأول غبطة ممتلئة، كما كان يفعل الراحل جبرا إبراهيم جبرا، فهو موزّع على شخصيات يسردها وتسرده باحثة، جميعاً، عن حكاية لا تكتمل. فإلى جانب السارد الأول، الذي يروي من حياته الذاتية أشياء كثيرة، هناك الفلسطيني المتأنّق الذي يحشر الحديث عن فلسطين بين كماليات أخرى، وفلسطيني آخر مليء بالنقاء والعذوبة، وصور النساء المتلاشية التي أسبغ عليها النسيان صفة وحيدة، وشخصية الأب المنسوجة من التواضع والحكمة والندى، ومرايا الإشراق والانطفاء . كل شخصية توجد واضحة، كما يأمر بها مبدأ المساواة الروائي لكنها لا توجد، على مستوى المعنى إلاّ بغيرها، ذلك أنّ صورة الفلسطينيين كامنة في تأويل يتجاوزهما . اتكاء على مبدأ المساواة وإضاءات التأويل المتبادلة، واتكاء على منظور روائي يرى العالم في تعدّده، أدرج الروائي في نصه لغات متعددة: الحوار الموجز واللغة التأملية الكثيفة ولغة السرد البسيطة واللغة العامية ولغة غامضة ملتبسة، تتاخم الشعر أو تساكنه. والتعدّدية اللغوية، بهذا المعنى، ليست مصطنعة وهي بعيدة عن التصنّع والصناعة لأنّها استجابة مطابقة للمنظور الروائي، تضيء تعدّدية الأمكنة وتستضيء بها، وتحاور زمناً روائياً بعيداً عن الصلابة والتماسك. فما يتعدّد ينقسم، وما ينقسم يتصل بغيره وينفصل عنه، وعلاقات (أرض اليمبوس) مرايا مختلفة لجدل الاتصال والانفصال.
أدرج إلياس فركوح في روايته إشارات دينية متعددة، لكنّه - بحسب دراج - وهو الروائي المأخوذ بفكرة النقصان، حوّل ما يبدو دينياً إلى مادة روائية بين مواد أخرى. وفي الواقع فإنّ فركوح، المفتون بلغة خاصة، ليس مهجوساً بفلسطين بل بما يحيل عليها، ولا بالدين بل بما يرمز إليه، ولا هو مشدود إلى هذا المكان أو ذاك، لأنّه مشدود إلى الصور البشرية المتناثرة على الأماكن جميعاً. لذا يحوّل المادة الروائية، في مصادرها المختلفة، إلى علاقات قيميّة ـ جمالية. فإذا كان التصوّر الديني للعالم يطمئن إلى فكرة 'الأصل' الذي ينكر التغيّر، فجميع العلاقات في رواية فركوح متبدّلة متغيّرة، ترضى بـ 'اسم' معيّن وتقع، لاحقاً، على اسم آخر. وهو ما جعله يبدأ بـ 'مريم' وينتهي إلى 'ماسة'، التي هي مجرّد قناع لوجه واسع لا وجود له، كما لو كان لا يقبل بالموضوع إلاّ إذا انزاح عن موقعه وجاور موقعاً آخر.
لا تصدر دلالة العمل الروائي عن مضمونه، قال بالنقص أو بالكمال، إنّما تتعيّن، وتتحدّد وتقاس بالعناصر التقنية التي أنتجت معناه. وبسبب ذلك تُقرأ رواية 'أرض اليمبوس'، في علاقاتها كلها، انطلاقاً من التقنية الفنية المندرجة فيها. وبداهة فإنّ تعددية المعنى، التي تفتح أمام القرّاء أفقاً واسعاً، لم تكن ممكنة من دون العناصرية التقنية التي أعلنت عن 'مأساة النقصان' بأشكال مختلفة. يستهل الروائي عمله بمجاز 'السفينة'، تلك الملتبسة المتماوجة الغامضة التي تنتهي إلى موضوع، وإشارة: فهي موضوع من حيث هي صورة ملوّنة مؤطرة تشيع ملامحها إيحاء قاتماً، وهي إشارة إلى روح إنسانية مضطربة، تهجس بالغرق واللهب وما يدع كيان الإنسان خارجه. وإضافة إلى المجاز الموحش، الذي يحايث الرواية بإيقاع لا انقطاع، استعمل الكاتب تقنية القرين، حيث في الشخص المتكلّم شخصية أخرى، تحاوره وتتدخل في حديثه وتضاعف تساؤله. بل انّ السارد الذي حذف المسافة بينه وبين شخصيات قريبة منه، رحّل قرينه إلى هذه الشخصيات، واستولد من كل منها قريناً جديداً. وتكثير القرين، أو القرائن، درب إلى تعددية الكلام، التي تعلن عن القلق والسخرية في آن. لن تختلف وظيفة الفصل بين الزمن الفيزيائي المباشر، الذي يأتي بارداً مربوطاً بتاريخ معروف، والزمن النفسي، الذي يحوّل التاريخ البارد إلى دوّامة من الأسئلة، ويقترح لغة تنوس بين الوضوح والغموض. لا غرابة في تصوّر ينصاع إلى عتمة الذاكرة أن يحضر، بعفوية كاملة، تيار اللاوعي وأن تحضر فسحة زمنية واسعة. وإذا كان تيّار اللاوعي يستحضر الأحداث معتمداً على صدفة لاهية، يزاملها لون أو رائحة أو صوت وكل ما يترجم الحدث العارض إلى صورة وإحساس، فإنّ عمق الذاكرة القلقة هو الذي يفرض زمناً مديداً، يمتد من بواكير الطفولة إلى أبواب الكهولة مروراً بـ 'صبا'، اختلط بكثير من الرغبات والنزوات. وعلى الرغم من أزمنة متراكمة لا متجانسة يظل زمن الطفولة، في رواية إلياس، هو الأكثر جمالاً وكثافة، لأنّ في زمن الطفولة من الأسرار ما يساوي أسرار سور الصين.
بين النص و' عتبة النص'
وبين دراج أن الياس فركوح 'التمس من العناصر التقنية ما يحتاج إلى دراسة مفصلية. فإلى جانب القرين والمجاز الاستهلالي وتيّار اللاوعي ميّز الكاتب بين النص و(عتبة النص)، فوضع لكل فصل روائي مدخلاً خاصاً به، هو تمهيد وتعليق وتأويل في آن، موحياً بأنّ السرد لا يقول تماماً بما يصرّح به، لأنّ وراء كل نص صريح نص مضمر أكثر اتساعاً. وزّع الروائي نصّه على أقسام ثلاثة أولها: السفينة، المدخل المحمّل بالقلق والالتباس وثانيها: الأسماء، القسم الناطق بسخرية مضمرة، ذلك أنّ اسم الإنسان الحقيقي هو ما تقترحه الذاكرة المتحوّلة، التي تخلع على الإنسان اسماً ليس له وتخلع عنه اسماً عرف به منذ الطفولة. لن يكون القسم الأخير، أي اليمبوس، إلاّ امتداداً منطقياً لما سبقه. يتحدّث الروائي في الصفحة الأولى عن اليمبوس فيقول إنّه: (المنطقة الوسط، بحسب المفهوم الكاثوليكي، أو الثالثة، ما بين الجنة والجحيم'، فلا الجحيم الخالص موجود، ولا وجود لجنة كاملة، مثلما أنّ الصواب المبرأ من الخطأ مجرّد احتمال لا أكثر. وسواء انتهى الروائي إلى (المنطقة الوسط) أو بدأ بها، فإنّ علاقات عمله كلّها تقول بالاحتمال ولا تقول بغيره. '
وختم دراج شهادته بالقول: 'ملاحظتان أخيرتان عن معنى الكتابة والحكاية لدى إلياس فركوح: ليست الكتابة عند الروائي وسيلة تسجّل موضوعاً، إنّما هي الموضوع الذي ينجز تحققه بوسائل عديدة. كتابة حرّة، تحاور إمكانيات الكتابة، بعيداً عن كل كتابة شفافة مستقيمة. ولهذا تكون الحكاية هي البحث القلق الدؤوب عن كتابة الحكاية، ذلك أنّ فعل الكتابة الروائية هو الحكاية الكبرى، لأنّ فعل الكتابة إشعار بالنقص ومحاولة محدودة لحصار مساحته.
شهادة الروائي الياس فركوح
أعلن الروائي الياس فركوح في نهاية شهادته 'هذا أنا. في جميع هذه البؤر. وأدركُ بأني ما زلتُ الناقص الباحث عن اكتمالٍ ما من غير أطماعٍ أو أوهام، كبيرة أو صغيرة'، وكان فركوح قسم شهادته إلى ثلاثة محاور أولها عنونه بـ 'أرض اليمبوس.. وأحمال الذاكرة '، وثانيها: 'الرواية رؤية ذاتية'، وثالثها: 'الذات ليست سطحاً واحداً'.

'أرض اليبموس' وأحمال الذاكرة

يقول فركوح في الجزء الأول من شهادته 'كنتُ أعتقد بأنني، إثر انتهائي من كتابة (أرض اليمبوس)، سأكون قد نحيّتُ جانباً الجزء المتبقي الأكبر من مخزون الذاكرة وأثقالها. غير أنني اكتشفتُ، رغم الصفحات الكثيرة، أنَّ المسألة ليست بهذا اليُسْر أو تلك البساطة؛ فثمّة تداعيات تتبع الكتابة تستدعي، بدورها، نُتَفَاً أخرى كانت مخبوءة أو مطموسة جاءت الكتابة لتحييها من جديد ولتطالبني بمستحقاتها. إنها مستحقات ذات خصوصيّة شخصيّة تنفردُ بي وأنفردُ بها، ولا تشكّلُ بالضرورة مادةً جديدةً للكتابة؛ اللهم إلاّ إذا ساقتها النصوصُ القادمة من تلقائها واحتاجتها داخل متنها في سبيل اكتمال أوجهها'، مؤكدا: 'نعم، لقد استطعت التخلّص من بعض أثقال الذاكرة ـ مع الأخذ بالاعتبار أنَّ الإنسان، وبعد أكثر من خمسة عقود عاشها وعاينَ خلالها هذا الكم الكبير من الشخصيات والأحداث الكبيرة والصغيرة، إضافةً إلى التغيّرات التي أصابت تقييمه لمجريات حياته، إنما يحتاجُ إلى مجموعة روايات!'.
ويوضح فركوح بخصوص مسألة دمجه أو توفيقه بين الخاص والعام، 'ربما يكمن السبب في أنَّ حياتي الشخصيّة ـ الداخليّة والظاهر منها للخارج - ضمن خطوطها العريضة ومحطاتها الرئيسية، كانت إما استجابة للوقائع العامة الكبرى أتحركُ على إيقاعها متفاعلاً معها ومحاولاً التدخل (بحجم شخصي الصغير طبعاً) ليكون لي دوري المأمول فيها. أو هي مجموعة الأسئلة التي طَرَحَتْها تلك الأحداث العامة على الجميع، والتي بقدر ما تبدأ بالحيوات الكُليّة للمجتمع فإنها، في الوقت نفسه، تنتهي في عقل الإنسان الفرد لتقلب له يقينياته وتجعلها عُرْضَةً لعصف المساءلات. نحن، كأفراد، لسنا سوى التفاصيل البانية لمجموع المشهد البانورامي'، خاتما بالسؤال الوجودي 'ألسنا كذلك؟'.
الرواية رؤية ذاتية
ويواصل فركوح في الجزء الثاني من شهادته القول 'أشرتُ في غير موضعٍ إلى أنَّ الرواية باتت، لدى فئات واسعة من القُرّاء والمثقفين والكُتّاب ودارسي علم الاجتماع، وبمعنىً معيّن، إلى مُدّوَّنة حديثة لمجريات الحياة العربيّة تسجِّل الأحداث من زوايا جديدة ليست هي الموافقة الكُليّة، وليست المعترضة كُُليّاً، وليست هي الحاذفة للبشاعات والتشوهات، أو تلك المضفية عليها أفضالاً وجماليات مزعومة. الرواية، ولأنها (بانوراما ذاتيّة) تتشكَّل وفقاً لرؤيا ذات كاتبها / كاتبتها؛ فإنها التدوين الأدبي المتحلّي بفنيات الكتابة ذات التجنيس لعلاقة التفاعل - الكاملة أو الناقصة المضروبة ـ لإنسانٍ عربيٍ بعينه لتاريخٍ ومجتمع معيشين كان لا بُدَّ من تسجيله وتوثيقه'.
ويستدرك فركوح 'كان الشِّعرُ تاريخنا العربي، في جزء كبير منه، أو تاريخ حياتنا العربيّة، موزوناً مُقفّى، ولكن بحسب أنساق وموضوعات ذاك العصر: راثياً، ومادحاً، وهاجياً، وباكياً على الأطلال. وبحسب منظور ذاك العصر أيضاً (هي عصور على أي حال) كان تاريخاً يتصفُ بالمبالغة غالباً، وبالتزوير والتحريف أيضاً. حتّى الحُبّ؛ كان حُبّاً مبالِغاً في عِفته المزعومة، طامساً لحقيقة الاشتهاء الحِسّي وطاقته الدافعة للشاعر لأن يُلقي على الملأ ظاهرَ الحالة باحتشام، ولنفسه الباطنيّة يهمس بالاحتراق اللاسع!'.
الرواية هي التدوين
لذلك كله يؤكد فركوح أنَّ 'الرواية هي التدوين (وأشدد على أنها تدوين، بمعنى أنها كتابة وليست شيئاً آخر، صوتاً كالشعر مثلاً) يصيرُ من خلالها إيصال وجهة نظر صاحبها، أو مجموع أسئلته، لآخرَ مجهول لكنه مُفْتَرَض، ليس مرئيّاً ومباشراً بحيث تَحولُ الأُلفةُ المفقودة دون الصراحة في التصريح. كما أنها كتابة تتطلبُ في الجانب الثاني منها، أي القراءة، درجةً من التخصص والتعمُّق والذائقة وخبرةً في النوع الكتابي من دونها جميعاً تبطل فاعليّة العمليتين: الإرسال والاستقبال!.
من خلال الرواية، كما الحال مع صنوف الآداب المكتوبة الأخرى، تتحاور الكائنات البشريّة / الاجتماعيّة تحاوراً عن بُعْد! لكنه التحاور الحميم، والصادق، وغير المسدود بأي حواجز يخلقها واقع ووقائع ما هو خارج النَصّ. فعلى أرض الكتابة نمتلكُ قدراً كبيراً من حُريّة التعبير عن أسرار أسرارنا، وعليها أيضاً نمتلك ذاك القدر من حُريّة المشاركة والتأويل على نحوٍ ليس له مثيل على أرضٍ أخرى على الإطلاق!.
إذا صادقتُ على المأثور القائل بأنَّ الشاعر العربي القديم كان ينطق بلسان الجماعة؛ إذ هو ناطقها الإعلامي، أو ضميرها الجمعي!؛ فإنَّ الروائي العربي لا ينطق بغير لسانه هو. لم يعُد الفنان/ الكاتب بمعناه الحقيقي في زماننا يتماهى مع الجماعة وينوب عنها في قول ما تريد. باتت مكانة الفرد، داخل الفرد، هي محل التقدير والاحترام والأخذ بالاعتبار، وليس العكس.
بتواضع: لم أجد حتّى الآن هُويةً خاصّة للرواية العربيّة؛ اللهم سوى لغتها العربيّة، ومناخاتها الاجتماعيّة. أما أن نذهب أبعد ونزعم بوجود هُوية مفارقة تقف بلونها المختلف إلى جوار رواية أميركا اللاتينيّة مثلاً (وهذا بحاجة لتدقيق أكبر، إذ ليس هنالك 'ماركة' واحدة تجمع الروايات الطالعة من هناك؛ اللهم سوى مرجعيتها القاريّة)؛ فإننا نكون نقفز عن الحقائق. ثم؛ هل من اللازم أن يكون للرواية العربيّة هُويةً مخصوصةً في زمن التلاقح والتداخل المعرفيين والثقافيين وما ينتج عنهما من مشترَكات تدخل في الِبنى المكوّنة للأشكال الأدبيّة؟!'
الذات ليست سطحاً واحداً
ويذهب فركوح إلى القول: 'إنَّ جُملة تلك الضروب من الكتابة ليست سوى محاولاتي من أجل استكمال صورتي الكائنة في داخلي، والتي أنظرُ إليها باعتبارها إمكانيات متفاوتة في نسبة وكثافة منسوبها تحثّني على أن أحققها، لأتحققَ أنا على هذا النحو تارةً، أو على غيره تارةً ثانية. إني من المؤمنين بأنَّ الإنسان يمتلكُ في أعماقه، وبعد عقود من التجربة الحياتيّة والثقافيّة، عدة مستويات أو طبقات، هي خُلاصته. أي: الإنسانُ ليس سطحاً واحداً، ليس كائناً مسطحاً، ليس هو 'الإنسان ببُعدٍ واحد' ـ بحسب تعبير هربرت ماركوز. ولأنَّ الأمر هكذا؛ فإني أزعمُ وجودي في جميع تلك المجالات الكتابيّة / الأدبيّة / الثقافيّة. لكنه، وينبغي عليَّ التنبُّه والتنبيه، وجودٌ ناقص وسيبقى ناقصاً حتّى النهاية. ثمّة اللازمة المتكررة في رواية 'أرض اليمبوس'، والتي باتت بمثابة الأيقونة كمفهومٍ أرى وجوباً أخلاقيّاًً وفكريّاً اعتبارها حِكمةً تستوقف الكثيرين مِنّا، ألاْ وهي: 'لا شيء يكتمل'. أنا أحاول أن أكتمل عبر توزعي على جميع الأنشطة المذكورة، مع يقيني بأني أسعى وراء سراب! لكنه القَدَرُ.. بمعنى من المعاني.
أكتبُ لأمتحن رؤيتي
أكتبُ القصة والرواية لأطرح أسئلتي، وأمتحن رؤيتي، وأتعايش مع شخوص الحياة عبر تعالقنا جميعاً وانضفارنا بحبال الخيال الذي يُشهدُنا على أحوالنا من مسافة. وأقومُ بالترجمة لأنَّ نصوصاً قرأتها فأعجبتني، ولكلّ واحد منها خصوصيته، الجماليّة أو المعرفيّة، فأحببتُ نقلها لآخرين مجهولين مفتَرَضين يشاركونني محبّة الجَمال وتوق التعرُّف. وكتبتُ مجموعة شهادات لأفضي برؤيتي لِما أكتب وأشهدُ عليَّ من الداخل، وكذلك لأقول رأيي المتواضع بما أقرأ لغيري وماذا رأيتُ في ذلك كلّه. وأعملُ بالنشر لأني، ومنذ البداية، عرفتُ بأني لستُ مؤهلاً على مستوى النجاح التجاري أو الاقتصادي، ولا أطيق وضعيّة الموظف

ايوب صابر 06-01-2012 11:29 AM

وقفة متأنية: «أرض اليمبوس» أم متاهتنا العربية؟

* بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي
هذه واحدة من أجمل الروايات العربية التي قرأتها، وكانت لجنة جائزة البوكر العربية محقة في ترشيحها ضمن قائمتها القصيرة عام 2008، والرواية عنوانها «أرض اليمبوس» ومؤلفها الكاتب الأردني الياس فركوح.
لقد احتفى عدد من النقاد العرب بهذه الرواية وكتبوا عنها عددا من المقالات أمثال: فيصل دراج، مصطفى الكيلاني، حاتم الصكر، فاروق يوسف، عالية ممدوح، يوسف ضمرة، محمد معتصم، أماني سليمان، وغيرهم. وقد ثبّت المؤلف مقتطفات من مقالاتهم على الغلاف الأخير والصفحات الاخيرة من الرواية.
وإلياس فركوح ناشر (صاحب دار أزمنة)، وهو روائي (له رواية أخرى بعنوان قامات الزبد 1990 حائزة على جائزة الدولة التشجيعية)، وله أيضا رواية ثالثة بعنوان «أعمدة الغبار» 1996، ولكن منجزه الكبير يتمثل في أعماله بالقصة القصيرة إذ له عدة مجموعات وحاز بعضها على جوائز تقديرية من اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة في الأردن. منها الصفعة (1978)، طيور عمّان تحلق منخفضة (1981)، احدى وعشرون طلقة للنبي (1982)، من يحرث البحر (1986)، أسرار ساعة الرجل (1991)، الملائكة في العراء (1997).
وله منجز مهم في مجال الترجمة سواء كانت بالاشتراك أو قام بها بمفرده.
لعل ما يلفت الانتباه ان إلياس فركوح اجتهد كثيرا من أجل أن يكتب روايته هو، أن يمنحها التميز الذي لابد منه لكي تتميز عن غيرها، وتحقق هوية كتابية ذات بصمة خاصة.
وهو في هذا لم يبتعد عن روايات السيرة الذاتية التي صارت سمة لكل الروايات الجديدة التي تكتب في البلدان العربية وجلها لأسماء جديدة لم يعد فيها مركز ولا أطراف بعد الثورة الاعلامية التي وحّدت وقرّبت الأدباء من بعضهم، بل صرنا كلنا مركزا بقدر ما نحن أطرافا في الآن نفسه.
وبمعزل عن تقرير لجنة تحكيم بوكر التي رأت هذا (وحّد إلياس فركوح في هذه الرواية، بنية السيرة الذاتية لانسان محدد الهوية والانتماء وسيرة الانسان المغترب بشكل عام (كما ورد نصا)، نقول بعيدا نجد الرواية هذه رواية سيرة ذاتية لا باعتماد (بنية) هذه السيرة (اذ هناك أكثر من بنية) لكونها تعتمد على الكاتب نفسه الذي انشأ النص ومما أشرناه أنه يستمرئ التخفي له ولمن حوله، فمريم مثلا التي تحدث عنها منذ سنوات الروضة وحتى الشيخوخة ـ ان كانت الخمسون شيخوخة ـ مريم هذه تتخفى وراء عدة أسماء فمرة منتهى وأخرى «ماسة» ويكاد اسم «ماسة» ان يكون اسم كل من عرف من النساء.
ثم ان بطل الرواية يدور حول اسمه ولا يقوله، حتى انه فضّل ان يكون «رفيق» وهذه الكلمة يطلقها أعضاء بعض الاحزاب على بعضهم (مثل حزبي البعث والشيوعي)، وقد جاءه الاسم بعد أن انضمّ الىأحد فصائل الثورة الفلسطينية.
وصديقه الذي تعرّف عليه بعد حرب 1991 القادم من الكويت ليقيم في عمان تخفى وراء اسم نجيب الغالبي، هكذا يحب أن يكون اسمه وهكذا يحب ان ينادى رغم أن يافطة الباب النحاسية المثبتة أمام باب شقته تحمل اسم عزيز رزق ا&، حتى ان (رفيق) فكّر: (أهذه احدى متاهات بورخيس؟).
وعندما فتح نجيب الباب سأله: (من هذا العزيز رزق ا&؟) فردّ ببساطة (أنا عزيز).
هنا نحن أمام انسان فصل ما بين الاسم الذي يحب أن يحمله والاسم الاخر الذي هو اسمه الرسمي (شهادة تقدير السن، وجميع اوراق الثبوت الرسمية وجواز السفر، وعقود البيع والشراء الى آخر هذه الشكليات).
ومبرره لهذا أعلنه جوابا: (مللت اسمي، رأيت أنه لا يناسبني، ببساطة).
(رفيق) هذا (وقد تماهيت مع ما ارتكن عليه هذا اللامسمّى) المولود في القدس سنة النكبة 1948 يورد تفاصيل يكاد ينفرد بها نصّه من مرصده الخاص حول ما جرى في فلسطين والقدس تحديدا وبعد ذلك التحول الى عمّان مع أسرته.
سيحكي الياس فركوح عن الحياة في القدس، رياضها، مدارسها الداخلية، أناسها، كنائسها، ثم احتلالها بالكامل عام 1967 وهجرة الكثير من سكانها.
ونجد أيضا ان الكاتب قد أثرى نصّه بكل الطقوس والعادات المسيحية التي تمارسها أسرته البسيطة، الأب الخياط النسائي، والأم ربة البيت والاخوة.
كما أثرى نصّه بحديث مدينة عمان وكيف نمت وتوسعت وامتدت ورأى أنها قد أفادت من محن مدن أخرى في هذا مثل بيروت وبغداد ومدن فلسطين. ثم أحداث الكويت، وهو إذ يؤشر هذا في حواره مع مريم لا يرى فيه مأخذا على المدينة بل وصف لحالتها.
و(رفيق) هذا يريد أن يكون كاتبا متفرغا، يعيش من كتاباته، ولكنه لا يريد أن يبقى في موقع المراقب لما يجري من مسافته بل اختار أن يعيش في الخضم، ومثلما فعل ذات يوم عندما انتمى الى أحد الفصائل الفلسطينية وحمل الرشاش فإنه لا يكتفي بمراقبة ما ينتظر العراق ـ الحاضر بآلامه في الرواية ـ من عدوان وشيك تم عام 1991 فوقّع البيانات وانخرط في المظاهرات المنددة بالعدوان، واعتصم وأضرب من أجل العراق.
هذه الرواية غارقة في التفاصيل الساخنة النابتة من الوجع العربي الذي يتّسع ولا يلتمّ.
تتداخل الضمائر فمتاهة بورخيس هي متاهته أيضا، ولكنها متاهة قد تبدو بسيطة أمام المتاهة العربية المتفاقمة حيث تتلاشى ومضات الأمل وتحتجب الاحلام موؤودة في حفرها، وتهوي النجوم من سماواتها في خلوات الرمل والخرس والموت.
في الرواية خبرة لغوية فاتنة، تأتت من ممارسة كتابية ثريّة في الدلالة وفي العديد من الشخصيات التي تتحرّك بحيوية في فضاء هذه الرواية.
أما عنوانها فيشرحه المؤلف بقوله: (ان اليمبوس هي المنطقة الوسط حسب المفهوم الكاثوليكي، أو الثالثة بين الجنة والجحيم).
فهل نحن في هذه المنطقة حقا في (المطهر)؟ لا أظن هذا.

ايوب صابر 06-01-2012 11:37 AM

فركوح: المصادرة منطق الرقابة

حوار مع الروائي الأردني إلياس فركوح 4/2 شوكوماكو أجرى الحوار: محمد ديبو "أوليست هي
الحروب ما عَلَّمَ وحفرَ وفرزَ وخلَطَ وولّدَ وأدّى وكشفَ وخَبّأَ وطمَرَ وعَرّى عارَ مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسيّة راعية هزائمنا وداعمة خسارات أرواحنا وأحلامنا .. وأراضينا" يمتاز الروائي الأردني الياس فركوح عن غيره من الروائيين العرب بنشاط متنوع الاهتمامات, وطاقة موزعة على حقول متعددة تبدأ بالرواية ولا تنتهي عند حدود القصة والمقالة والترجمة ودار النشر التي تستنزف وقته وعمره, محاولا البحث عما يعينه على تحمّل مأسي العالم من جهة , ومنقبّا من جهة أخرى عن كوّة نور يطل من خلالها على الأمل . شوكوماكو التقى الروائي الياس فركوح وحاوره حول وصول روايته” أرض اليمبوس” إلى القائمة المصغرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى وحول أمور أخرى. للروائي : في الرواية :أعمدة الغبار – قامات الزبد – أرض اليمبوس في القصة: حقول الظلال – من رأيت كان أنا ...‏ - ولدتَ عام 1948، هذا العام الذي يصادف ذكرى النكبة، والآن يحتفل العالم بذكرى “تأسيس إسرائيل” بينما نحيي ذكرى النكبة الستين وسط خَجَل عربي فاضح. ماذا يعني لك هذا على الصعيد (الشخصي والعام؟ وهل ولادتك في ذكرى النكبة أثرّت على شخصيتك لاحقاً وزرعت فيك جينات ستجعل منكَ لاحقاً كاتباً مغموساً بالهم العام والكتابة عن فلسطين؟‏ أن تولد عام 1948 يعني أنَّ الحياة باشَرَت، ومنذ بداية بداياتك، بحفر علاماتها الجارحة في روحك. معناه أنَّ “صُدفةً تاريخيّةً ما” عملت على تكريسك، ربما بنصف وعي أحياناً، شاهداً رغمكَ على محطات الحياة العربيّة المعاصرة، ومنخرطاً منغمساً في تفاصيلها اليوميّة. معناه أنَّ تلك البداية وضعتكَ داخل سياق عَيشٍ أنتَ لم تختره اختياراً حُرّاً صافياً في عمومه، إذ لم تترك لكَ سوى هامش الموافقة على أن تكون إبناً لهذا السياق تتفاعل معه وتفعل فيه بقدرٍ شخصي ضئيل .. أو تخرج منه (إنْ استطعت) فتخسر الخسارات الكبرى واهماً لتكسبَ، بالمقابل، ذاتاً مُعَرّاة ومنعزلة تتغذّى على ذاتها دون شَبَع. هي حالةٌ أو معادلةٌ لا مكان فيها لأي بطولة مفتخرة بنفسها، لأنَّ منطق قاعدتها لا يسمح أو يمنح أبناء جيلنا فرصة إلاّ أن يكونوا ضحايا/ مقاتلين، أو إنْ شئت، هُم: المقاتلون/ الضحايا. كأنما صدى “ البحرُ من ورائكم، والعدو من أمامكم، فأينَ تنفرون وتفرون!” هو النداء الوحيد، أو القَدَر المرسوم الذي أطبقَ على مصائرنا طوال أكثر من خمسة عقود، بدايةً من نفير 1948 الأوّل! ثمة الكثير من المعاني لهذه الولادة من حيث التاريخ. وكذلك، وهذا في غاية الأهميّة كما أرى، من حيث الجغرافيا. فالأردن هو وجه فلسطين الآخر، عَبْر دلالات مجازيّة تفكريّة وواقعيّة أرضيّة لا تُحصى. فكيف لي أن أهرب من فلسطيني اللصيقة بي، أنا الأردني!‏ - عشتَ ودرستَ في القدس وعمّان وبيروت، هذه المدن التي نجدها مزروعة في روح نصوصك. إلى أي حد سكنتكَ المدينة؟ وإلى أي حد أسكنتها في أعمالك عموماً ورواياتك خصوصاً؟‏ أنا إنسانُ مدينةٍ في معظم طبقات تكويني الشخصي. أنا كذلك لأنني لستُ سليل أُسرة ريفيّة، كما لستُ ابن صحراء أو بادية. صحيحٌ أنَّ مُدننا العربيّة لم تُمْنَح ما يكفي من الوقت لتستوي مُدناً تنمو (وتتطور وفق “أُسس وقوانين” نشوء المُدن، إذ ضُرِبَت مبكراً بريفٍ هَجَّرَهُ الجوعُ وأجبره على غزوها ومَلئها، فأعاقها وشوهها رغماً عنه وعنها ـ إلاّ أنَّ ذلك كلّه لم يَحُل دون تميّزها وتميّز أبنائها بهويةٍ مختلفة وأُخرى مغايرة لسواها. هي ليست أكبر شأناً بالضرورة، لكنها ليست أقلّ أصالة بالتأكيد. ولأنني كذلك؛ ولأنَّ المدينة تشكّل فضاءً طبيعياً لي، فضاءً ليس مُعادياً، أو صادماً، أو باعثاً مستفزاً لاختلاق ما يشبه كذبة عَيش “الغُربة” الرومانسيّة المفتعَلَة التي يدّعيها عدد من الكُتّاب القادمين من خارجها لأسباب وحجج شتّى؛ لأنني كذلك، كانت القدس كعمّان، في تحليها بمبادىء المدينة الصغيرة وفق الطراز البسيط لذاك الزمان، فما وجدتُ فيها سوى التنويع على أمرٍ أوّل أليف مألوف. أما بيروت؛ فجاءت فيما بعد لِتُزْهِرَ فيَّ قابليّة القبول بالمدينة الكبيرة والرضا الهادىء السلس بها. نعم. المدينةُ تعيشُ فيَّ لأنها رحمي الأول ومالكة تكويني. ولأنني، قبل كل شيء، عشتُ فيها كمكانٍ أصْل فعاشتني كحالةٍ متناميّة. فأنتَ، بعد عُمْر، تتحوّل من ابنٍ لها لتصبحَ أباً لتوالي تحولاتها المستمرة، وبذلك تصيرُ بانياً لها صفةً تضيفها إلى مجموع صفاتك. فإذا كان ذلك كذلك، فلا مفر من حضورها الكبير في نصوصي. هي وحدها المكان ـ البطل. إني من الكُتّاب الذين لا يقتربون، بالكتابة، من عوالم وفضاءات أزعمها معرفةً، لكنني لم أعشها حياةً وحالات.‏ “-أرض اليمبوس” روايتك الأخيرة التي دخلت قائمة البوكر العربيّة، تتداخل فيها السيرة الذاتيّة بالسيرة العامة للتاريخ العربي في نصف قرن. هل كنتَ تكتب سيرتك الشخصيّة، أم سيرة عَمّانك وقُدسك، أم كنتَ تصفّي حسابك مع تاريخ عربي أكلَ عمركَ وروحكَ ولم يهبكَ سوى الهزائم وبُكاء اللغة؟‏ بين السيرة الذاتيّة أو الشخصيّة، وانتقاء محطات معينة من تجربة الكاتب الحياتيّة يراها منسجمة ومتآلفة مع السياق الروائي ومعززة لدلالته .. ثمة فرق. هذه نقطة أراها حاسمة للتمييز بين مَعنيين يجري خلطهما أحياناً، فيأخذ أحدهما مكانَ الآخر مستبدلاً بذلك هويةَ أو ماهيّة الجنس الكتابي، وهذا خطير؛ إذ تقع عمليّة القراءة في شَرَك الشواش أو قُلْ الانحراف باتجاهٍ آخر تماماً. وفي أحسن الأحوال يصير لاجتهاد القارىء سبيل تسميّة العمل المكتوب بـ”سيرة روائيّة”، أو “رواية السيرة”، أو “رواية ـ سيرة”، أو “رواية سيريّة”. ومع أني منفتحٌ تماماً، لا بل أدعو وأحضُّ على طموح توسعة الهوامش في أي جنس كتابي، لتتضمن ضروباً وافدة من أجناس أخرى، إغناءً له وتجريباً واعياً مسؤولاً؛ إلاّ أنني أخشى سوء القراءة والاستنتاج الذي يجعلُ العملَ يندرج في جنسٍ حائر! فبقدر ما يتحمّل الكاتب غير المتمكّن مسؤوليّة إضاعة هويّة كتابته، إذا ما لجأ إلى تهجينها عبر توسعة هوامشها من غير تدبُّر مكين؛ كذلك الأمر في ما يتعلّق بالقارىء المتسرّع الذي يجد نفسه كمن وقع على اكتشاف مفترَق طُرُق: أأقرأ النصّ روايةً؟ أم سيرةً؟ .. ثم يريح نفسه في منطقة الوسط ليجلس حيث هو بينهما: هي رواية سيرة! عَليَّ الإقرار بأنَّ درجةً عاليّةً من التماهي أوْجَدتُها واعياً بين شخصيتي ككاتبٍ للرواية يمتحُ من تجربته الحياتيّة، وبين شخصيتي المكتوبة كراوٍ متعدد الأصوات وزوايا النظر داخل الرواية، وهذا ما دفعَ معظم ـ إنْ لم أقُلْ جميع قُرّائها ـ إلى تأويلها على أنها رواية سيرية. ولعلّي أبالغُ في تحسسي لمفردة “سيرة ذاتيّة” جرّاء أخذ نفسي بشدة عند الالتزام بِدِّقة معاني المفردات وحدودها قبل استخدامها، كتابةً أو حواراً مع آخرين. ثمة الخِشية من إضاعة اللغة المشتركة ، بمعنى عدم الاتفاق الضمني والأولي على معنى أو دلالة اللفظ قبل النُطق به! إضافةً إلى ذلك، وهذا ما لم يلتفت إليه أحد ممن كتبوا قراءاتهم للرواية، هنالك توسعةٌ أزعمها في تطبيق مفهوم الكتابة ما بعد الحداثيّة. فإذا كانت، في أحد جوانبها، معاينتها لنفسها ككتابة ومحاورتها من وفي داخل النصّ حين يتخلّق ومساءلتها لنفسها؛ فلقد أُخضِعَت شخصيّة الكاتب هي أيضاً لأسئلتها عنها، ولضروب التشكيك في ذاكرتها، وبالتالي لمدى مصداقيّة أو موثوقيّة ما تكتب، حين تكتب نصّها عنها وعن سواها! جُملة ما تخرج به القراءة تنضفرُ في سَلَة أسئلة تجافي الذهاب إلى أن الرواية سيرة تتستر برداء رواية. فالسيرة وقائع أكيدة الحدوث ليست كتابتها سوى عمليّة تدوين لوقائعها كما وقعت .. وإنْ بقليلٍ من التعديل. وقائع ليست موضع تساؤل أو تشكيك، يسجّلها صاحبها عنه وعنها، وبذلك يسجّل سيرته، وسيرة آخرين، وسيرة الأمكنة وأزمنتها. لا أنفي ولا أعترض على أنَّ جانباً من “أرض اليمبوس” أُوكِلَت إليه مهمة كهذه، غير أن الرواية ليست هذا فقط، كما أنها ليست تأريخاً إلاّ بقدر ما يكون التاريخ، في الأدب والفن، إعادةُ كتابةٍ مَرَّت في موشور الذاكرة المنتقيّة الحاذفة والمضيفة (كما ورد هذا حرفيّاً داخل النصّ)، ومصافي اللغة المتفكّرة، و”شياطين” الرغبات الفالتة من شروط “الملائكة” المحافظين على سكون الخليقة، كما هو، عند أوّل بزوغها.‏ - تمارس الترجمة إلى جانب نشاطاتك المتعددة، كيف تقيّم حال الترجمة /من وإلى/. هل نستطيع القول أننا بتنا موجودين على قوائم الترجمة العالميّة، أم أننا ما زلنا متخلفين عمّا يحصل في العالم في هذا الأمر أيضاً؟‏ لا زلنا على الصعيد العربي، بمؤسساتنا الرسميّة وشبه الرسميّة وكذلك بدور النشر الأهليّة ضئيلة القدرات الماليّة الممولة لمشاريع الترجمة، في وضعٍ متخلّف بكل معنى الكلمة. وإني هنا أشير إلى حال (الترجمة من لغات العالم إلى لغتنا العربيّة. فبالإضافة إلى تقرير اليونسكو الذي نشر قبل سنوات قليلة بهذا الخصوص والأرقام الصريحة الواردة فيه والتي تشكّل فضيحةً ثقافيّةً حضاريةً ينبغي لكل مشتغل بالثقافة ومَعْنيّ بها التفكير بمدلولها الخطير؛ أقول: إضافةً إلى هذا التقرير، بإمكان أي متابع لحركة الترجمة، وفي جميع حقول المعرفة، وضع اليد على أننا في آخر دول العالم عنايةً واهتماماً والتماساً لضرورتها، رغم أننا الأحوج في هذا الراهن من التاريخ إلى نقل معارف الآخرين إلى لغتنا وبالتالي إلى إنساننا الذي لا يتقن سوى لغته الأُم. أما عن ترجمة نتاجنا الفكري إلى لغات العالم؛ فحدّثْ ولا حَرَج! فإذا كان تقرير اليونسكو يشكّل فضيحة؛ فإنَّ الجانب الآخر لهذه الفضيحة أكثر فضائحيّة وأشد مرارة. ناهيك عن السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعاً: هل لدينا في نتاجنا المعاصر والحديث من المعارف (غير الرواية والشعر والقصة القصيرة) ما ليس مُتاحاً للآخرين هُم بحاجة إليه يسدون به نقصاً ما في دوائر معارفهم؟‏ - نلاحظ في رواياتك الثلاث (قامات الزبد، وأعمدة الغبار، وأرض اليمبوس) حضور الحرب كحدث مركزي. هل تسعى لتأريخ الحروب العربيّة روائياً؟ وكيف تتجلّى لديك العلاقة بين الحرب والرواية؟ أي، كيف تستطيع أن تُخضِع الحرب كوثيقة ومعارك وموت ودمار و.. لمفهوم الرواية وأدواتها، دون أن تخسر الرواية وتقع في مطب المحاكاة الساذجة لواقع قائم وترتفع بها نحو مصاف الإبداع الخالص؟ ﴿ بدأتُ قاصّاً منشغلاً برصد النُتَف الصغيرة في يوميات أفرادٍ يمثّلون ذواتهم مثلما يمثّلون، في الوقت نفسه، غيرهم. لكنني، حين كنتُ أكتب ذلك، وجدتني أسجّل رؤيتي لعوالم غلُبَت عليها العاديّة لفرط تكرارها في حياتنا، كل يوم، ومن خلالها كنتُ أكشفُ عن قسطٍ من موقفي حيالها: بمعنى أني كنتُ أكتشفُ لحظةَ الكشف قسطاً مني أنا شخصياً. وهكذا تحوّلَ وعيي على الكتابة ليكون وعياً للذات الكاتبة أيضاً، وبذلك صرتُ أرددُ قائلاً بأنَّ القصة تكتبني شيئاً فشيئاً كلّما تدرجتُ بكتابتها مشهداً مشهداً. كانت »قامات الزبد« روايتي الأولى بعد مجموعات قصصيّة عدة، وما كنتُ أعرف ماذا سأكتب بعد انتهائي منها. ثم، وإثر نشري لها بسنوات، وقعتُ على أنني لحظة شروعي بالكتابة الروائيّة، مستنداً إلى محطة في حياتي، إنما باشرتُ التأسيس للكتابة عن جيلٍ أنتمي إليه مَرَّ بكل المحطات التي مررتُ بها. وهكذا اتضحَ لي مشروع ثلاثيّة روائيّة غير معلَنَة تغطّي المفاصل الرئيسة في حياتنا، فكانت »أعمدة الغبار« ثم انتهت بـ »أرض اليمبوس«.ما المفاصل الرئيسة في حياتنا، إذَن، إنْ كنتُ أسجّل روائياً سيرةَ جيل ولِدَ عام ١٩٤٨؟أوليست هي الحروب ما عَلَّمَ وحفرَ وفرزَ وخلَطَ وولّدَ وأدّى وكشفَ وخَبّأَ وطمَرَ وعَرّى عارَ مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسيّة راعية هزائمنا وداعمة خسارات أرواحنا وأحلامنا.. وأراضينا؟ ست حروب خلال ستة عقود، كأنما ثمة حرب في كل عقد هدية لكل جيل! لستُ أسعى لتأريخ الحروب روائياً، ولستُ مَيّالاً للكتابة عنها إلاّ بقدر ما تعمل هي على كشف التوتر داخل الشخصيات التي مرَت بها، أو مرّت الحربُ عليها، ولكن كأمرٍ مسبب وكخلفيّة تصبغ المناخات وتحدد الإيقاع. يَرِدُ ذِكر الحرب كعامل استفزاز يكشف عمّا هو أهمّ منها: الفردُ الذي طحنته نتائجها المدمّرة. كما أني، بالكتابة، إنما أدوّنُ دواخل الشخصيات وتاريخها على وقْع الحرب وصداها المتردد في أعماقها. الحربُ ليست موضوعاً مثيراً لكتابتي إلاّ بقدر ما تشير إلى »الحرب الأخرى« الدائرة بين »نحن المكشوفة« و»نحن المطمورة«. لن يجد القارئ في رواياتي حرباً أحاول وصفها وتصويرها، بمفرداتها العسكريّة ومعاركها وجنودها وقتلاها وضحاياها وأبطالها ومشاهد ساحاتها، إلخ. ذلك ليس هَمّي أبداً. وبالتالي فأنا لا أحاكيها ولا أحاكي سواها. كتابتي »فـي« الأشياء وليس »عـن« الأشياء. والعلاقة بين الحرب والرواية التي أكتبها بحسبي، هي علاقة بين إشارة استفزاز تعمل على إثارة الأسئلة عن حروب ذواتنا. أسئلة عني أنا أيضاً، تماماً مثلما فعلتُ في كتابة القصص، كما بدأتُ ممهداً للإجابة. تعدّد - كتبتَ الرواية، والقصة، والمقالة، والبحث، والترجمة، والشهادة، إضافةً لدار النشر التي تملكها. لماذا هذا التعدد؟ هل هو صدى لروحك المتشعبة؟ وأين يجد الياس فركوح روحه أكثر؟ ﴿ لو أنكَ سألتني هذا السؤال قبل سنة أو سنتين، لربما أجبتكَ على هذا النحو: روحي تحققُ ذاتها في هذه الأنواع الكتابيّة جميعها، ولكن بِنِسَبٍ متفاوتة بالطبع. فما دام المرء الواحد ينطوي على مستويات أو طبقات عدة تبتغي التعبير عن طاقاتها، وهنالك ما يكفي من الوقت لأن يتوزع صاحبها عليها منشغلاً بها؛ فليس ثمة مشكلة. هذا صحيح من حيث المبدأ. وصحيح أيضاً قبل سنة أو سنتين، حين لم ألتفت إلى ضرورة ترتيب الأولويات بإعطائها حقها الأوفر من الجهد، والانشغال، والوقت ـ وهو الأمر الذي بِتُّ أعيش إشكاليّة توفيره الآن. ولم يعد المتبقي من العُمْر يكفي للإحاطة بهذا »التَرَف«! تحضرني بهذا السياق حكاية نيكوس كازانتزاكيس ووقوفه عند زاوية الشارع متسوّلاً المارّة شيئاً من الوقت يدّخره لإكمال أحلامه الكتابيّة! كما ينبغي للمرء، في هذه المرحلة من عمره، أن يواجه نفسه بعنوانه الأوّل أو الرئيس، وبذلك يكون قد تحلل، ولو نسبياً، من مُلحَقات العنوان باعتبارها تفريعات له. ربما لا يتمكن من التخلص منها نهائياً كونها تشكّلُ إعاقةً لمشروع العنوان، لكنه سينصرف حتماً إلى الحَدّ منها ليتفرغ لِما يراه يتحلّى بالأولويّة. التعدد سِمة جوهريّة في الكائن، والعمل على إشباع مكوناته يحققُ له التوازن. لا شك في هذا. إنما، وبالنسبة لي والآن، معترفاً بفضل هذا التعدد في إثراء جوانبي المعرفيّة الثقافيّة، أصبحت عمليةُ تلبيتها مرهقة ومسببة للتشتت وفقدان القدرة على التركيز. وبذلك، أصبحتُ بدوري أنحو باتجاه الانصراف إلى الرواية، إعداداً، وقراءات، وتفكراً، لتكون عنواني الأوّل. دار النشر مشروعٌ وعملٌ جميل! مشروع وعمل مِعطاء وصاحب رسالة بمعنىً ما. لكنه غولٌ يلتهم الوقت، والجهد، والتركيز، والمال القليل، ويستنفد أنايَ الكُليّة التي ما عادت قادرة على تلبيّة حاجاته واحتياجاته من ذلك كلّه. لن يكون باستطاعتي التخلص من الدار؛ فليس سهلاً تصفيّة ما يشبه مؤسسة طفقت تحقق نجاحاً ثقافياً وحضوراً لافتاً محترماً، ومحو منجزها وشطب طموحاتها. وهذه مشكلة حقيقية تؤرقني. رقابتان - الرقابة في العالم العربي أمر محيّر ومربك للكاتب، وفي الوقت الذي يعتبر أغلب الكُتّاب خارج الأردن أن الرقابة السياسية أخطر أنواع الرقابات وأشملها؛ نراك تركّز على الرقابة المجتمعيّة. لماذا؟ وماذا عن الرقابة الدينيّة؟ كيف تؤثر الرقابة على عملك الإبداعي بالدرجة الأولى وعلى عملك كناشر؟ وهل سبق أن اضطررت للمراوغة بشكل ما أمام الرقيب؟ وما الحل برأيك للتعامل مع الرقابة السياسية من جهة، والرقابة المجتمعيّة والدينية من جهة أخرى؟ ﴿ لستُ مستخفاً بأي من الرقابتين السياسيّة أو الدينيّة على الإطلاق. أبداً. فأنا أعي تماماً بأنَّ الرقابة المجتمعيّة بقدر ما تنطوي على أثقال الرقابة الدينيّة وممنوعاتها الخافيّة المتخفيّة بالمحافظة على »دين وأخلاقيات وقيم وعادات« المجتمع والأُمة. أو تلك الجاهرة بتكفير كل ما/ ومَن تراه خارجاً على منطوقها اللفظي بشروحاتها الجامدة أو شروحاتها المتطرفة ـ فإنها أيضاً تتضمن، في أُسها وأساسها، منطق المَنْع والمصادرة، وتمنح نفسها سلطةً على الجميع هي مستمدةٌ أصلاً ومدعومة من السلطة السياسيّة المتراجعة أمامها خوفاً، أو مجاملةً لتيّارٍ زاحف يصطبغ بشعبويّة ساخطة، أو بالتواطؤ، أو عبر عَقدٍ تضامني (هو مرحليٌ بالضرورة) يكفلُ للطرفين مساحاتهما السلطويّة. عندما أركّز على الرقابة المجتمعيّة (وليس الاجتماعيّة) فإنني أدعو إلى تفكيك عناصرها المكوّنة لها لاكتشاف أنها مجموع الرقابتين السياسيّة والدينيّة، ومعاينة آليات فعلهما المشترك داخل البِنيات الاجتماعيّة المؤدية إلى: انحباس في الرؤيا، وتَعَصُّب في التعامل، وحَظْر للحِراك المدني والاجتهاد الفكري بعمومه، ومصادرة للاختلاف، وفِتنة في المعتَقَد، ومعاكسة لمتطلبات العدل والمساواة، وضرب لمفهوم المواطنة القائم على عدم جواز التفريق بين المواطنين بسبب اللون، أو الدين، أو الجنس، أو الأصول، أو القرابة، أو العشيرة، أو المال، أو النفوذ المتوارَث، إلخ. السلطة المجتمعيّة بمواصفات كهذه وراهن كهذا، وبالتالي رقابتها المتأتيّة عنها، لن تنتج بلداً بمؤسسات مدنيّة مرتكزة إلى قواعد ديموقراطيّة حقيقيّة غير زائفة أو شكليّة ترسم حدوداً واضحة للحريات، ولأذرُع السلطات التي تتغوّل، في حالاتنا العربيّة، السلطةُ التنفيذيَة لتهيمن على التشريعيّة والقضائيّة! نعم، هذه هي الرقابة المجتمعيّة في خُلاصتها. وهي شاذة. وهي أخطر بما لا يُقاس من مجرد رقابة سياسيّة تمنعُ كِتاباً بمقدورنا تسريبه إلينا وقراءته رغماً عن أنف الحدود والرقابات البلهاء. نحن الآن بصدد أزمة انغلاق أُفق، وحالة تخلُّف شديدة التعقيد في تركيبتها تتجاوز المفهوم السياسي لدولٍ باتت رهن التحلل والارتهان لقوىً إقليميّة وعالميّة شارعة بتسيُّد العالم وإعادة اقتسامه، مزيحةً من طريقها هذه »الدول« المشكوك بسيادتها السياسيّة على أراضيها! أما عن الشق الثاني من سؤالك؛ فأود الإشارة إلى أن تجربتي الكتابيّة علّمتني كيفيّة التعامل مع الرقابة الرسميّة دون أن تتنازل عن منطوقها من جهة، أو أن تُنْزِل الضرر بمستواها الفني. فلكّل رقابة، وبحسب التجربة الشخصيّة، تخومها وحدودها على الكاتب والناشر معاً معرفتها ليصار لكلٍ منهما أسلوبه في إدارة ما أسمّيه »سِجال الذكاء« المفتَرَض والمفروض عليهما. ثمة قاعدة اجتهدتُ خلال ما يقرب الثلاثين سنة من الكتابة في بنائها، تتلخص في أنَّ على الكاتب (والناشر) أن يحترم نفسه فلا يبتذلها! والابتذال عادةً ما يكون بواحدة من طريقتين: إما أن يتجاوز الخطوط الحُمْر بمباشرة وانكشاف وصراخ بحيث يُجبر الرقيب على فعل المنع، فيتحوّل إلى »شهيد« بالمَجّان، لكنه يصبو في الوقت نفسه لأن يصنع من نفسه »نجماً« ضمن منطق إعلام الإثارة وسوق فبركة الأبطال. مع ملاحظة أنَّ المباشرة والانكشاف والصراخ، في الأدب والفن، تستدعي معها، غالباً، لغةً وأسلوباً يقعان خارج البناء الفني وعلى حسابه. ولذلك، فإنَّ قراءةً نزيهةً ونبيهة وبريئة من طغيان »نجوميّة شهيد الحريّة« لكثير من »النصوص الممنوعة« تدلّنا على فقرٍ كِتابي داخلها تم تعويضه، أو التستر عليه بالأحرى، بضجيج الحظر والمنع. أما طريقة الابتذال الثانيّة، فإنها ببساطة الخضوع لاشتراطات الرقابة على نحو مبالغ فيه يصل عند البعض إلى درجة المهانة، فيتنازلون عمّا ليس مطلوباً التنازل عنه! ليس هنالك من حل واحد في التعامل مع الرقابات، السياسية والمجتمعيّة والدينيّة. ليست هنالك صيغة جاهزة. أنتَ تبني صيغتك بحسبكَ وبحسب تجربتك. أما الحل الجذري؛ فبإلغاء الرقابات كافة، واستبدالها برقابة الضمير، وروح احترام الكتابة كاحتراف له شروطه. -قلتَ لنا في الأردن إنك تعتبر أن المستقبل سيكون للنصّ النخبوي، وأن الثقافة تتجه لأن تكون نخبويّة. ألاْ ترى أنكَ بذلك تلغي القارئ من المعادلة الثقافيّة التي تموت دونه؟ ﴿ لستُ أنا مَن يلغي القارئ من المعادلة الثقافيّة؛ بل هو النظام التعليمي، والتربوي، والتثقيفي الآخذ بالتفكك والانحلال على طول الوطن العربي وعرضه. هنالك عمليّة تَخَلٍ كامل من قِبَل المؤسسات ذات الشأن عن مسؤولياتها تجاه تنميّة ثقافيّة، عريضة وعميقة ومستمرة، تطال مواطنيها عبر جميع المراحل، بحيث تعودُ للمعرفة المتجاوزة حدود المتطلبات الأكاديميّة ومستلزماتها قيمتها داخل المجتمع، وبالتالي داخل الحياة الخاصة لكل فَرد عربي. ثمة إفقارٌ في الوعي الثقافي للإنسان العربي، وإجدابٌ في التذوق الفني والأدبي لديه، كأنما بقصدية ووعي وهذا أمرٌ مُريب! وإنْ كان ليس كذلك، فالأمرُ ينذر بكارثة قادمة على مستوى عُمق الشخصيّة العربيّة كنتيجة حتميّة لهذه المقدمة. مثلما يدلل، في الوقت نفسه، على تَرَدٍ فاضح في كفاءة أصحاب المسؤوليّة، وغياب منهجيّة أو استراتيجيّة عارفة متأتيّة عن رؤيا واضحة بعيدة المدى تعي مفهوم »الوطن« حقاً، وتُعنى بمستقبله. فلنكُنْ أكثر صراحةً: حين يتحوّل الفسادُ إلى ظاهرة متفشيّة وراسخة في المجتمعات العربيّة، فإننا لحظة اعترافنا به والتسليم بصعوبة اجتثاثه كونه أصبحَ مؤَسَساً (بفتح السين) إنما نعاينُ ونشهدُ انفلاشه خارج المؤسسات الرسميّة الحكوميّة وأجهزتها، ليغطّي ويتغوّل على معظم جوانب البِنية المجتمعيّة.. اللهم بعض الدوائر الصغيرة والمشتتة من المثقفين والشرفاء، والمعزولة للأسف. هي دوائر تم عزلها بفعل إدبار الجسم الأكبر من المجتمع عن التعاطي مع ضروب الإنتاج الثقافي، فباتت نتوءاً شاذاً ربما يُلتَفَتُ إليه كرنفاليّاً وعلى سبيل استكمال الديكور باقتطاع يومٍ ما من روزنامة السنة للتذكير به بدافع (رفع العَتَب)، ثم يُنسى! معارض الكتب تشهدُ تراجعاً واضحاً في زوّارها، وخسارات تؤكد أرقامها في مبيعاتها، وانفضاضاً عن الكتب الموسومة بـ»ثقيلة الدم« مقابل الهجوم على تلك الموصوفة بـ»الصفراء« المبشّرة بعذاب القبر، والموصية بأي من القدمين عليكَ دخول المرحاض، وكيف للزوجة أن تجذب زوجها وتحتفظ به عبر سُبُل الإثارة والإغراء، والصفحات التي تُطلعك على حظك كل يوم في كتب تدّعي علم الفلك والإبحار بين النجوم! أي صورة يمكنكَ رسمها عند الحقيقة القائلة بأنَّ عدد النسخ المطبوعة من أي كتاب، قبل عشرين سنة، كان ثلاثة آلاف ـ بينما الآن، رغم تكاثر الجامعات والأكاديميات على اختلاف تخصصاتها تكاثراً بكتيريّاً، لا يتجاوز الألف نسخة! والبعض من الكتب، الشعر خصوصاً، الخمسمائة! عند تدقيقنا بهذا الحال، هل تتوقع قارئاً مثقفاً يتجاوز دائرة النخبة بمقدوره التفاعل مع النصوص الأدبيّة الحديثة؟ هل تتوقع أن يكّف الكُتّاب عن المضي عبر تحولات الأجناس الكتابيّة، ليتوقفوا عند نقطة الانقطاع الثقافي والفني والأدبي ـ المعرفي عموماً ـ للمجتمع، بانتظار صحوة شاملة تأخذ بالاعتبار تعويض ما فاتها؟ هنالك نخبوية على صعيد الكتابة لأنَّ هنالك نخبويّة، ومن قبل، على صعيد القراءة. وهنالك غُربة بين الفئتين تكاد تقتل. - نلاحظ في كتابتك عموماً اهتمامك الكبير باللغة، حيث تغدو لغتك معجميّة صافية ومنحوتة بإدهاش، وتقترب من تخوم الشعر. كيف تتعامل مع اللغة؟ هل تتقصد أن تكون لغتك هكذا وأنتَ تكتب، أم أن الأمر يأتي تلقائياً؟ ومن جهة أخرى، ألاْ تخشى أن تُبعدك هذه اللغة عن القُرّاء؟ ﴿ من الأقوال المأثورة: »الكاتبُ هو الأسلوب« ومن الخُلاصات التي خرجتُ بها عبر تجربتي الكتابيّة وعنها: الكتابةُ هي اللغةُ كعلامةٍ فارقة تشير إلى كاتبها، تماماً مثلما هي بصمةُ الكائن الواحد التي لا تتكرر. من دون لغة خاصة يتعرّى النصُّ وينكشفُ خفيفاً فاقداً لخصيصة صاحبه، ويتحوّل إلى مجرد كتابة تشبه غيرها من كتاباتٍ سواها، فلا يبقى ما يشير إليها إلاّ موضوعها وطريقة بنائها. وبالرغم من أهميّة هذين العنصرين (الموضوع وطريقة البناء)، لكنهما لا يكفيان لوحدهما ليوجدا للكاتب حيّزه الخاص على خريطة الجنس الكتابي الذي ينخرط فيه. أما عن خِشيتي من ابتعاد القُرّاء عن كتابتي بسبب هذه اللغة؛ فإني أحيلك إلى إجابتي السابقة بخصوص نخبوية القُرّاء. ناهيك عن وجهة نظري الرائية إلى أن ليس ثمة وجود للقُرّاء (بأل التعريف) .. بل ثمة قُرّاء معينون لكل كتابة معينة. لقد انتهت أسطورة جمهور القُرّاء، أو الوهم بوجودهم ككتلة متجانسة واحدة في مستوى وعيها الفني والثقافي، والخروج بالتالي بنتيجة علمية قياساً إليهم وإحالةً عليهم. - العلاقة بين المبدع والسلطة بطبيعتها علاقة إشكاليّة من حيث طبيعة كل منهما، ولكن في العالم العربي تغدو تلك العلاقة مدمرة وتناحرية. كيف تقرأ العلاقة بين السلطة والمثقف؟ وهل من الضروري أن يكون المثقف نابذاً ومواجهاً لأي سلطة، على الأقل معنوياً؟ ﴿ لم تتسم العلاقة بين المثقف والسلطة يوماً، خاصةً في الوطن العربي، بالتوافق أو الانسجام، اللهم إلاّ إذا تقاطعت رؤية كل منهما أو المصلحة لديهما عند نقطةٍ ما. وهذا نادر الحدوث. تاريخنا يشهد على ذلك، والمشهد المعاصر تكملةٌ ليست نشازاً لذاك التاريخ الطويل. إنَّ طبيعة الأنظمة العربيّة، على اختلاف شعاراتها وتسميات عناوينها، بما تتضمن من أُحاديّة في وجهة النظر وفرضها: وانعدام مساحة القبول الحقيقي بالاختلاف والتعامل الموضوعي معه، والتعارض الجوهري مع مبدأ تداول وانتقال الحكم، والاستناد إلى قبليّة وعشائريّة المجتمعات وعصبياتها بما يحول دون بناء الأسس الراسخة لمجتمع مدني يفرز أحزابه السياسية الحقة، وجمعياته النقابيّة غير المشتراة، وصحفه الحرّة حقاً؛ كل ذلك أفضى إلى هذا التوتر التاريخي في العلاقة بين المثقف العربي وسلطاته الحاكمة. هذه الأنظمة بطبيعتها والتي تجيز للرئيس أو للرجل الأول، أياً كان، الاستمرار بالحكم رغم عجز حكوماته وبالتالي عجزه هو عن حل المعضلات المعيشيّة في الداخل والاختلالات الهائلة بين الشرائح الاجتماعيّة من جهة، وإفقاد بلده لوزنه الدولي لإضاعته دوره مهما بلغ حجمه من جهة ثانية، وفشله في ردّ الاعتداءات المباشرة أو استرداد الحقوق الوطنيّة من جهة ثالثة .. ومع ذلك؛ نراه يترسخ مع الزمن ليتحوّل إلى »زعيم« و»محط الآمال«! يتحوّل من حاكمٍ مطلق إلى حكيمٍ بصير وضرورة تاريخيّة! يتحوّل شخصياً ليكون هو المؤسسة، والدولة، والمرجع الأول والأخير، والتجسيد الملموس لروح الأُمة، والموّجه للسياسات الداخلية والخارجية ملغياً بذلك كافة المؤسسات الدستورية، وناسفاً حتّى الديكورات الكاذبة لديمقراطيّة شوهاء، وبالتالي يحق له تمثيل مقولة: »أنا الوطن، والوطن أنا«! من بعد؛ هل لنا أن نتصور نظاماً كهذا يتقبّل المثقف، أو تسمح تركيبته بدورٍ عضوي للمثقف يلعبه باتجاه إحداث تغييرات حقيقية، تنويرية وتثويرية وتثقيفية وتعليمية تقلب المعادلة السائدة طوال ما يقرب قرن من الزمان؟! ثمة خطوة ناقصة يحلم بها المثقف، حتّى البراغماتي الاتجاه، تعجز عنها السلطات المبنيّة على الفرد الواحد. خطوة التسليم بأنَّ الحاكم ليس ظِل الله على الأرض، وأنه مجرد لحظة خاطفة في التاريخ. هذه من ثوابت التاريخ العربي. إضافةً إلى أن النقد، وعدم الرضا، والتعفف عن تبييض ذِمة الحاكم، تعتبر من لوازم المثقف ومن صفاته الجوهريّة. باختصار: إنَّ مكان المثقف الدائم يقع خارج مؤسسات السلطة. على هامشها. وكلّما عسفت السلطة نأى المثقف عنها وتعاظمت حالةُ التوتر بينهما. السلطة، وفق النظام العربي، هي المُطْلَق، بينما المثقف هو النسبي. الأولى خارج التاريخ لأنها مضادة للعلم والمنطق. والثاني ضحيّة تاريخه رغم محاولاته لأن يدخل تاريخ الانسانيّة. أسماء وأسماء - نلاحظ في العقد الأخير وصول النتاج الأدبي الأردني إلى العواصم العربيّة، ولكن رغم ذلك نرى أن الأمر محدود بعدد قليل من الأسماء وكذلك الأمر في دول عربيّة أخرى بحيث تطغى أسماء معينة على كامل الحضور الثقافي لبلدٍ ما. إلامَ تعزو هذه الظاهرة، وهل فعلاً أن هذه الأسماء هي الأفضل في كل بلد عربي، أم أن علاقات الصداقة والشلليّة والعلاقة الجيدة مع السلطة هي التي تجعل من هذه الأسماء واجهة لبلدانها؟ ﴿ أبدأ بالقول أنَّ هذه ظاهرة حاضرة وشاملة جميع البلدان العربيّة، للأسف، وإنْ بِنِسَب مختلفة، آخذين بالاعتبار التمييز الدقيق بين الغثّ والسمين في مجموعة »الواصلين« تلك، على صعيد النتاج الأردني أو سواه. وبقدر ما يدعو انتشارها للاستفزاز والغيظ فإنها، في الوقت نفسه، تجلب معها أسئلةً كأسئلتك. لماذا؟ والسبب، بحسب اجتهادي، ليس واحداً بل هو متعدد يتصف بالتركيب وأحياناً، عند التدقيق باسمٍ ما، بالتعقيد بحيث يصعب الحصول على إجابة مقنعة تشفي الغليل. يمكن لي أن أعدد الآن مجموعة أسباب ليست من اكتشافاتي بالتأكيد؛ إذ يعرفها الجميع مثل الشللية، واحتكار المنابر الإعلاميّة، وأمزجة المسؤولين الثقافيين ومستواهم المعرفي وشبكة علاقاتهم، وتبادل المنافع هنا وهناك، واجترار الأسماء عينها في كل المؤتمرات والندوات، واحتراف صناعة العلاقات العامة بما تجلب معها الأضواء والمانشيتات لزوم »الشهرة«!، ثم تأتي درجة العلاقة مع السلطة في آخر سلم الأسباب. فأنا لم أعرف أديباً واحداً على علاقة جيدة بالسلطة ظل محتفظاً ببريقه الإعلامي، وبسبب من هذه العلاقة وليس نتيجة إبداعه العميق، في أي من الحالتين التاليتين: موته الفيزيقي هو نفسه، أو انهيار السلطة التي عملت على رفعه والترويج له. ربما أكون صادماً في رأيي حين أقول بأنَّ هشاشةً ما تتسم به الحالة الثقافيّة في بلداننا العربيّة سببت هذه الظاهرة، ولسوف تستمر في تغذيتها ما دامت الهشاشة والخِفّة والاستسهال من طبيعة الحالة الثقافيّة، وبالتالي من طبيعة المتحركين ضمن دوائرها. وما دامت روافع الأديب جُلِبَت من خارج نصوصه الأدبيّة بما تحمل أو لا تحمل من قيمة فنيّة وفكريّة! ثمة أبعاد أخلاقيّة ذات صِلة بالقِيَم والمبادئ تمَ التخلّي عنها وهَجْرها لصالح الشهرة السريعة والسهلة المأخوذة من مانحٍ لها (شلة، منبر، علاقات، إلخ) ارتضى لنفسه أن يقبض وأن يقايض. فإنْ كُنا تطرقنا للفساد في موضعٍ سابق من الحوار، فإنَّ فساداً مفضوحاً يمكن معاينته بسهولة، أو استنتاجه، عند قراءتنا لهذه الظاهرة. ثمة ما يمكن النظر إليها وتسميتها بحالات »الرشوة«! وكذلك، ثمة ضحالة ثقافيّة سمحت بانتشارها.

ايوب صابر 06-01-2012 11:38 AM

الياس فركوح
المصدر : موقع القاص والناقد ايــاد ع. نصــار
ترتبط سنوات السيرة الذاتية لالياس فركوح بمحطات عربية هامة. هل للصدفة أهمية هنا؟ لعلها كذلك. ولكن بلا شك شكلت هذه المحطات معالم رئيسة في تطور وعي الياس فركوح وأدواته السردية وعالمه الروائي الخاص به نحو انجاز مشروعه الذي يطمح الى تحقيقه وخاصة بعد الاستقبال الكبير الذي لقيته روايته الاخيرة أرض اليمبوس من قبل الساحة الثقافية والنقدية العربية والذي تمثل في ترشيح الرواية ضمن القائمة القصيرة للترشيحات النهائية لجائزة البوكر العربية لعام 2008، مما يذكرنا كذلك بالاستقبال الذي لقيته مجموعته القصصية الثالثة "واحد وعشرون طلقة للنبي" التي صدرت عام 1982 ونالت جائزة رابطة الكتاب لافضل مجموعة قصصية تلك السنة.

ولد الياس جورج باسيل فركوح ابن العائلة ميسورة الحال في عمان في العام ذاته الذي شهد النكبة الفلسطينية 1948، وقد درس المرحلة الابتدائية في مدارس الفرير دي لاسال في عمان. كما درس المرحلة الثانوية في القدس حيث كان طالباً في القسم الداخلي في المدرسة ، وقد امضى اربع سنوات من حياته المدرسية في القدس ، انتقل بعدها الى عمان. شكل ضياع القدس وهزيمة عام 1967 حدثاً مأساوياً ليس على الصعيد العام بالنسبة له كأديب وروائي بلا شك وحسب ولكن على الصعيد الشخصي الذاتي لانه ضاعت بذلك ذكريات مرحلة مهمة من تاريخ حياته الاولى.

كانت هناك ثلاث محطات رئيسة في حياته لعبت دورا مبكراً في تنمية موهبته الابداعية واتجاهه نحو كتابة القصة والرواية. شكل اطلاعه الواسع المبكر على أعمال نجيب محفوظ في الرواية وأعمال يوسف ادريس في القصة القصيرة بالاضافة الى القصص القصيرة المترجمة بداية الطريق نحو الابداع، ثم هزيمة عام 1967 وما تلاها من اضطرابات سياسية وعسكرية وفكرية وأدبية خلخلت بنية المجتمع العربي والاطلاع في تلك الفترة على الفكر السياسي والثوري اليساري وتجارب المقاومة الشعبية في كوبا وفيتنام. كما أثرت فيه ترجمات الشاعر العراقي سعدي يوسف لشعر الشاعر اليوناني الوطني المعروف بنضاله من أجل الحرية يانوس ريتسوس.

كانت اول قصة نشرت له في الصحافة الاردنية المحلية في اليوم الاخير من سنة 1976 وشكلت ذكرى جميلة لا تنسى بالنسبة له.

في المجال الاكاديمي حصل الياس فركوح على ليسانس فلسفة وعلم نفس من جامعة بيروت العربية. أما على الصعيد العملي فقد عمل في الصحافة الثقافية خلال السنوات 1977 - 1979، وشارك في تحرير مجلة المهد الثقافية، كما شارك الشاعر طاهر رياض العمل في إدارة دار منارات للنشر خلا السنوات 1980 -1991، ثم أسس دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 1992 حيث يعمل مديراً لها لغاية الان. وهو من مؤسسي اتحاد الناشرين الأردنيين، وعضو فيه. وهو عضو في اتحاد الكتاب والادباء العرب.
كما شغل عضوا في الهيئة الادارية لرابطة الكتاب الاردنيين لعدة دورات.

حازت روايته "قامات الزبد" على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990، كما حاز على جائزة الدولة التقديرية في حقل القصة القصيرة عام 1997. نال الياس فركوح جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة من رابطة الكتاب الأردنيين، كما نال جائزة أفضل مجموعة قصصية للعام 1982 من رابطة الكتاب أيضاً عن مجموعته القصصية "أحدى وعشرون طلقة للنبي". وفي عام 2008 نال جائزة تيسير سبول للرواية التي تمنحها رابطة الكتاب الاردنيين عن روايته أرض اليمبوس في حفل أقيم خصيصا لتسلم الجائزة. تعد أرض اليمبوس عملاً روائياً مهماً ينهل في بعض مصادره من جوانب من السيرة الذاتية للمؤلف، مع المحافظة على الجانب الابداعي التخيلي للسرد الروائي.

نشر في عام 2002 مجموعة نصوص بعنوان "الميراث الاخير" تحت إسم مستعار هو "راكان خالد" . حاول في هذه النصوص المقاربة بين الشعر والنثر دون الدخول في توصيف النصوص، رغم أن الياس نفسه يراها أقرب الى قصيدة النثر. وقد نشرها بالاسم المستعار حتى يتسنى له معرفة وجهة نظر الساحة الادبية في محاولته الشعرية الاولى وتلمس ذوق ووجهة نظر القاريء في عمله، ولكنه نسبها لنفسه لاحقاً.

علاوة على مجموعاته في القصة القصيرة والروايات، فقد قام بترجمة عدد من القصص القصيرة وقصص الاطفال والروايات. كما نشر عدداً من الدراسات والشهادات الادبية والمقالات.

ايوب صابر 06-01-2012 11:54 AM

الظروف الحياتية التي اثرت في تكوين الاديب الياس فركوح

- ولد الياس جورج باسيل فركوح ابن العائلة ميسورة الحال في عمان في العام ذاته الذي شهد النكبة الفلسطينية 1948.
-درس المرحلة الابتدائية في مدارس الفرير دي لاسال في عمان.
- كما درس المرحلة الثانوية في القدس حيث كان طالباً في القسم الداخلي في المدرسة ، وقد امضى اربع سنوات من حياته المدرسية في القدس ، انتقل بعدها الى عمان.
- شكل ضياع القدس وهزيمة عام 1967 حدثاً مأساوياً ليس على الصعيد العام بالنسبة له كأديب وروائي بلا شك وحسب ولكن على الصعيد الشخصي الذاتي لانه ضاعت بذلك ذكريات مرحلة مهمة من تاريخ حياته الاولى.
- شكلت هزيمة عام 1967 وما تلاها من اضطرابات سياسية وعسكرية وفكرية وأدبية خلخلت بنية المجتمع العربي والاطلاع في تلك الفترة على الفكر السياسي والثوري اليساري وتجارب المقاومة الشعبية في كوبا وفيتنام مصدرا للابداع.
-أثرت فيه ترجمات الشاعر العراقي سعدي يوسف لشعر الشاعر اليوناني الوطني المعروف بنضاله من أجل الحرية يانوس ريتسوس.

فركوح مولود سنة النكبة ولا شك ان السنوات التي تلت كانت عاصفة ونجده قد درس في القدس في مدرسة داخلية وهي على الاغلب مدرسة ذات نظام كنسي قاسي. لا شك ان مثل تلك الطفولة كانت مأزومة، وعلى الرغم اننا لا نعرف عن والديه شيئا اجد بأنه عاش يتما اجتماعيا كونه درس في مدرسة داخليه بعيدا عن العائلة.

يتيم اجتماعي.

ايوب صابر 06-01-2012 02:50 PM

97- عصافير الفجر ليلي عسيران لبنان

نبذة النيل والفرات:
عاشت الأديبة ليلى عسيران محنة الحرب بضميرها وإحساسها، فحلقت بخيالها وواقعها في ضمائر البشر المرهفين بنزيف الأرض وغضبها، وجالت في خواطرهم وعاشت معاناتهم، وإيمائهم بالعاصفة والثورة التي ستنفجر الحياة بعد الموت. فلقد استشهد خالد فولد أحمد، وقاتل سليمان ليُحرر والده الأخرس، نسفت البيوت فراحت النساء تزغرد، وبين قلب مريم وسهير ولد حب جديد طاهر مهّد تراب أرضه لتخطو عليه أقدام المقاتلين برقة. وظل مازن عينين نقيتين، وفؤاداً طاهراً، يحمل حزناً عجيباً لأنه استطاع أن يطلق من عبراته بسالة الشجاعة وأعجوبة الفرح، وفي رهبة الليل تصاعدت أنفاس "الختيار" تتخطى لهاث خطوات الخطر المهيمنة على "العاصفة" في كل التفاتة. ولكن الشمس كانت تشرق في سواد الليل فجراً، في نسمات اليقين والاطمئنان، العاصفة، الثورة، أحداث ناشدتها المؤلفة وهي أهم من الحرب تفردها عصافير الفجر قائلة: الثورة حتى النصر.

ايوب صابر 06-01-2012 03:04 PM

الرواية النسائية العربية.. إشكاليات التمرد والوعي ونظرة الآخر
- إياد نصار -


لم تعد الروائية العربية تنظر للكتابة النسوية على أنها منشور ضد القهر ونوع من التمرد على الثقافة الذكورية وحسب. لقد تجاوزت الرواية النسائية العربية عبء هذه الوظيفة، ولم تعد الكتابة مجرد صرخة احتجاج ضد حرمان المرأة من حقوقها في التعليم أو العمل، أو دعوة للتمرد على القيم البطريركية التقليدية. وكما في الماضي، حين استطاعت الكلمة، الحكاية تحديداً، أن تنقذ المرأة من الموت وأن تخلصها من خوف العبودية والاستغلال مثلما فعلت شهرزاد، فإن الكلمة، الرواية خصوصاً، هي عنوان تحرر المرأة مع بداية العصر الحديث في الأدب العربي، بعد قرون من الارتهان للرجل، باستثناء بعض النماذج المضيئة مثل ولادة بنت المستكفي في الأندلس في القرن الحادي عشر.
ترى د.بثينة شعبان في كتابها مئة عام من الرواية النسائية العربية ، أن المخاوف من اتهام الروائيات العربيات بأنهن يطرحن قضايا ذات طابع سيري أو قضايا شخصية حول الحب والزواج والأطفال والأسرة وهي ليست ضمن اهتمامات الجمهور، دفعت ببعض الروائيات العربيات إلى اختيار بطل ذكر بدلاً من بطلة أنثى لرواياتهن، لكي يضفن على رواياتهن خبرة اجتماعية أعمق وأوسع.
عملياً، لم تكن هناك كتابات نسوية مستمرة قبل القرن الثامن عشر. تقول الأديبة الإنجليزية فرجينيا وولف: إن الجواب كامن في حاضر مقفل عليه في مفكرات قديمة، ومخبأ في خزائن قديمة، نصف محذوف من ذاكرة العصور، حيث لا يمكن رؤية أجيال النساء إلا كأشباح . ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن الكاتبات العربيات في القرون الأربعة الأخيرة قبل مطلع عصر النهضة الذي بدأ مع قدوم حملة نابليون على مصر ومشروع التحديث الذي بدأه محمد علي في مصر، وبداية ازدهار الحركة النسوية العربية في ما بعد مع ظهور قاسم أمين وهدى شعراوي.
تعدّ ال
رواية العربية بالمقاييس الفنية المعاصرة حديثة العهد، لم يمض عليها سوى قرن من الزمان، لكن الأبحاث التي تتناول ولادة الرواية العربية الحديثة، تكشف أن المرأة العربية كان لها فضل الريادة وأسهمت قبل الرجل في ظهورها.
تورد المصادر بشكل مؤكد محاولات عدة مكتملة البناء الفني، كان أولها اللبنانية زينب فواز التي نشرت روايتها الأولى حسن العواقب أو غادة الزهراء العام 1899، تلتها اللبنانية لبيبة هاشم التي أصدرت
رواية العام 1904 بعنوان قلب الرجل . وفي العام 1904 نشرت لبيبة ميخائيل صوايا من لبنان رواية حسناء من سالونيك ، وقد نشرتها متسلسلة على حلقات في صحيفة عربية كانت تصدر في نيويورك آنذاك. وكتبت عفيفة كرم رواية حملت عنوان بديعة وفؤاد ، وقد صدرت في نيويورك للمرة الأولى العام 1906، وهي في مجملها قصة حب تجري أحداثها على ظهر سفينة متجهة إلى الولايات المتحدة وتحمل مهاجرين لبنانيين وتطرح مسائل التخوف من الحياة في البلاد الجديدة وموقف المرأة من العصرنة وتحدي الهوية وعلاقة الشرق بالغرب. وكل ذلك حدث قبل أن ينشر محمد حسين هيكل زينب في العام 1914، والتي ساد الاعتقاد فترة من الزمن، أنها أول رواية عربية بالمعنى الفني للكلمة.
وقد اهتم د.جوزيف زيدان، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة أوهايو، بتأليف موسوعة حول مصادر الأدب النسائي في العالم العربي الحديث 1800-1996 . وهي دراسة ببليوغرافية للأدب النسائي في العالم العربي الحديث خلال هذه الفترة، وقد صدرت في العام 1999. ويذكر أن زيدان ركز في السنوات الأخيرة على الأدب العربي النسائي، فوضع كتابه الروائيات العربيات: سنوات التكوين وما بعدها الذي صدر باللغة الإنجليزية في العام 1995.
يورد المؤلف في الموسوعة نبذة أدبية وتاريخية عن ما يزيد على 1270 اسماً لكاتبات عربيات نُشرت أعمالهن خلال هذه الفترة التي تمتد لقرنين، وكأنما يريد أن يدلل بأن هذا العدد الكبير هو الرد على مقولة إن العالم العربي لا ينجب كاتبات أو مبدعات كما ينبغي، خصوصاً أن أغلب هذه الأسماء تنتمي للقرن العشرين.
كانت الأعمال الروائية النسائية الأولى تقوم على استنباط العبرة من خلال توظيف القضايا الاجتماعية والثقافية أو التوجه التعليمي في مخاطبة القارئ. وكانت دعوات تحرير المرأة وتعليمها في محيط ينكر عليها الاعتراف بمساواتها مع الرجل أو يحرمها حتى من أبسط حقوقها، تجد صداها في الروايات، ثم بدأت تدخل مواضيع أخرى تعمّق من التجربة النسائية في الحياة والحب والزواج والعمل، بالإضافة إلى طرح إشكالية دور المرأة ومكانتها وتجربتها في الحياة العامة، ثم المفارقات في صورة المرأة ودورها بين الشرق والغرب مع ما يرتبط بذلك من تحرر وحداثة وسفر واغتراب وخروج عن التقاليد المحافظة من قبل المرأة، ونقد التراث الذي كرس صورة نمطية تقليدية مقموعة للمرأة. ومن روايات الريف إلى روايات المدن بتعقيداتها النفسية والزمانية إلى روايات الاغتراب والسفر والتأمل في تجربة المرأة بين نموذجين وعالمين.
مرت الروايات العربية، خصوصاً النسائية منها، في موجات من التحول نحو تحطيم النماذج النمطية وفي تطوير الأساليب السردية والصور اللغوية الجمالية، ورافقت تحولات البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعبّرت عن القضايا الوطنية ومرت بما مرت به تلك القضايا من ازدهار وانكسار. وإذا كان هناك ثمة تقاطع في صورة المرأة التي تقدمها الروايات، وإذا كان هناك صور للمرأة تسهم في إعادة إنتاج القيم الذكورية وتزيد من تهميش المرأة، فإن ذلك مرده إلى التحولات الحادة التي يمر بها الوعي العربي في مرحلة انتقالية تشهد قيام بنى وقيم جديدة تؤسس لعلاقة أكثر إنسانية، وسط رفض تقليدي لا يعدم الهيمنة وتوظيف مختلف وسائل الخطاب ليمنع ظهور صورة المرأة الجديدة.
وشهدت ال
رواية النسائية العربية تطور تقنيات السرد وأساليبه، وتطوير الجملة القصصية والروائية، والتمايز بينهما، وخلق المشاهد والانطباعات وتقنيات الوصف وربطه بالشخصيات والحالات النفسية المختلفة، والتوغل في توظيف مختلف أنواع الزمن، والانتقال بين صيغه المختلفة، وتوظيف تقنيات علم النفس والتحليل النفسي، وإدخال تقنيات الإعلام المرئي والمسموع المختلفة في بنية الرواية، وغيرها من الأساليب الفنية المختلفة التي انتقلت بالرواية من التقسيم الثلاثي التقليدي من بداية وعقدة ونهاية إلى مستويات متعددة للحدث زمانياً ومكانياً وذات تأزمات مختلفة ونهايات مفتوحة، وخلق أجواء غامضة تناسب انقطاع السرد وحركته باتجاهات مختلفة وبأصوات متعددة للروي.
وقد حدث تحول في نظرة الروائية العربية للرجل. فبعد أن كانت تنظر اليه على أنه العدو في مجتمع ذكوري هو المسيطر فيه، والصور المرادفة لذلك مثل المنافس والمضطهِد، أصبحت تنظر إليه على أنه ضحية مثلها، يطيع بشكل أعمى تقاليد ومتوارثات اجتماعية وقيمية بالية عمرها قرون.
وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى روايات عكست إصرار المرأة العربية عموماً، والروائية العربية خصوصاً، على تحطيم القيود المفروضة عليها وتحرير النظرة تجاهها من عبء التقاليد الاجتماعية والدينية، سواء من خلال مبيعاتها الهائلة في داخل الوطن العربي وخارجه مثل ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، أو من خلال ترجمة هذه الروايات إلى لغات أخرى، ومنها على سبيل المثال الوطن في العينين للروائية الفلسطينية حميدة نعنع، و حكاية زهرة لحنان الشيخ، و ضحك الحجر لهدى بركات.
وترى د.بثينة شعبان أن سحر خليفة أهم روائية في النصف الثاني من القرن العشرين، على مجمل رواياتها ومواقفها الجريئة التي سبقت تلك الروايات ومهدت الطريق أمامها للظهور. لقد حفظت الذاكرة الشعبية أعمالها بكل اهتمام، مثل الصبار ، و لم نعد جواري لكم ، و عباد الشمس ، و مذكرات امرأة غير واقعية ، و باب الساحة ، و الميراث .
تعدّ الكتابة العربية النسائية، وبالذات القصة وال
رواية والسيرة الذاتية الأدبية، تعبيراً عن رغبة المرأة العربية في فتح حوار حول قضايا المرأة في المجتمع العربي ودعوة الآخرين للحوار حولها وعن سعيها للتغيير الاجتماعي وحشد التعاطف أو التفهم له وتبرير أسبابه. كما تهدف إلى مخاطبة الآخر المتمثل في القراء المؤيدين لنضال المرأة في مجتمعاتها، وفي جمهور القراء والنقاد وحلقات الدرس الأكاديمية أو اللقاءات والمؤتمرات وورشات العمل في الدول الأجنبية.
ومن الكتب الجيدة التي تعرّف القارئ الغربي بال
رواية العربية، كتاب الرواية العربية 1834 - 2004 الذي ألفه كاظم جهاد بالفرنسية وصدر عن دار أكت سود ضمن سلسلة سندباد الشهيرة، وقد أراد مؤلفه من خلاله تعريف الجمهور بولادة الرواية العربية وتطورها، ويكاد كتابه يكون من الكتب القليلة في هذا المجال، لأن الكتب الأخرى تقدم الأدب العربي بمجمله وليس الرواية بحد ذاتها، وبذلك يقدم المؤلف نافذة واسعة الرؤية للقارئ الغربي ليطل منها على مراحل نشوء الروايات العربية وتطورها، مع التركيز على الكتاّب واختيار نماذج من أعمالهم لتكون دالّة على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في تلك الفترة. وقد وصفت الكاتبة الفرنسية مارتين غوزلان في مقالة لها في صحيفة الثقافة الفرنسية، ما جاء في الكتاب بقولها إنه يخبئ كل إشكاليات العالم العربي من أمل وجنس وخوف وسجن وحب ودكتاتورية ودين واضطهاد وبترول. إنه الشرق الباذخ والتراجيدي في آن واحد .
ومن مظاهر الاهتمام الغربي المتزايد بالكتابات النسائية العربية، تخصيص درجات علمية أكاديمية أو على الأقل مواد جامعية متخصصة في دراسة الأدب العربي، ومن ضمنها تندرج عادة دراسة أعمال كاتبات عربيات في القصة وال
رواية. وفي هذا الإطار وضعت أستاذة آداب العالم الثالث في جامعة مانشستر، أناستاسيا فلاسوبولوس، كتابها القيم الذي صدر العام 2007 بعنوان الكاتبات العربيات المعاصرات ، وفيه تناولت أعمال كاتبات عربيات من مصر وفلسطين ولبنان والعراق والجزائر، وناقشت فيه قضايا الحركة النسائية والدراسات الجنسوية وتأثير التاريخ والثقافة الشعبية والترجمة والتحليل النفسي ووسائل الإعلام على الأدب النسائي. وقد تطرقت في كتابها إلى أعمال أهداف سويف ونوال السعداوي وليانا بدر وحنان الشيخ.
كما أصدرت أستاذة الدراسات الشرق أوسطية في جامعة نيويورك منى ميخائيل، كتابها شوهد وسُمع: قرن من النساء العربيات في الأدب والثقافة في العام 2003. وتناولت فيه تساؤلات تدور حول كيف يرى الآخرون النساء العربيات؟ وكيف ترى النساء العربيات أنفسهن؟ وتتناول الدراسة دور المرأة ومكانتها في المجتمع العربي الحديث، بالإضافة إلى تأملات في الثقافة المعاصرة وحول كتابات أبرز الكاتبات العربيات.
ووضعت ليزا مجج، المحاضرة المتخصصة في الأدب العربي في كلية امهيرست بالولايات المتحدة، كتاباً في العام 1992 بعنوان المرأة والدراسات الجنسوية ، درست فيه خبرات وطرق تعبير النساء العربيات من خلال مراجعة كتاباتهن خلال الفترة من 1860 حتى وقتنا الحاضر. وقد ركزت على الطرق التي تعبّر فيها المرأة العربية عن غياب الموضوعية، والأدوار الاجتماعية والأسرية تحت الاختبار والتغيير، وتراث التفاوض، والتجاوب مع الخبرات الأدبية والنسائية.
كما وضعت مجج كتاباً في العام 1992 بعنوان أصوات أنثوية ومفاوضات نسائية: خبرة في تدريس أدب الكاتبات العربيات ، طرحت فيه تساؤلات حول الطريقة المثلى التي يمكن بها تدريس أدب المرأة العربي. وأشارت إلى أن أسئلة تثور عند التفكير في نصوص أية مجموعة من كتابات المرأة التي تنتمي لسياق ثقافي معين أو لتقسيم جغرافي: هل يجب التركيز على السياق الثقافي للأدب؟ أم على قضايا الجندر؟ أم على عناصر الأدب؟ وما تداعيات مثل هذا التقسيم؟ هل هناك مبادئ نسائية عالمية يمكن الاحتكام إليها عند دراسة نصوص المرأة؟
في إحدى النقاشات التي أدارتها مجج، ذكرت إحدى دارسات الأدب النسائي العربي من الأميركيات: كغالبية الغربيين، كانت لدي صورة أحادية للمرأة العربية- شكل مغطى بالسواد، سلبية، غامضة، وفوق ذلك كله صامتة. وكما أظهرت لي القصص والقصائد والمقالات والروايات، فإن العالم العربي ليس غريباً ولا بدائياً أو غامضاً، لكنه تكوين معقد من الحقائق الإنسانية، أحياناً مألوفة وأحياناً غير ذلك. أما بالنسبة للتصور بأنها أمرأة أحادية صامتة داخل عالم أحادي عنيف، فإنني أتعجب الآن إن كان هذا موجوداً في الشرق أم الغرب، وكيف أن المرأة تحولت إلى شكل رسمه الخيال الغربي، وليس موجوداً في أدب المرأة العربية .
ويقدم د.جوزيف زيدان مساقاً في جامعة أوهايو بعنوان الأدب العربي الحديث في الترجمة: الروايات النسائية العربية . يهدف المساق إلى تقديم نظرة شاملة للطالب حول ظهور وتطور القصة وال
رواية التي قدمتها المرأة العربية من خلال الأعمال المترجمة، مع التركيز على مفاهيم ونظريات الاتجاهات النسائية كما يعكسها الأدب من خلال تناول روايات مختارة تعدّ نماذج على هذه المفاهيم. ويتناول في مادته مواضيع البحث عن هوية ذاتية والبحث عن هوية وطنية من خلال تناول روايات أمينة السعيد الجامحة ، ونوال السعداوي مذكرات طبيبة ، ولطيفة الزيات الباب المفتوح ، وليلى بعلبكي أنا أحيا ، وليلى عسيران عصافيرالفجر ، وإميلي نصرالله طيور أيلول ، وحنان الشيخ حكاية زهرة ، وكوليت خوري أيام معه ، وغادة السمان ليلة المليار ، وسحر خليفة أشواك برية .
ومن الكتب المهمة التي صدرت باللغة الإنجليزية حول الروايات النسائية العربية، كتاب صدر في العام 2003 عن مطبعة جامعة تكساس لمؤلفته نوار الحسن غولي يحمل عنوان قراءة السير الذاتية للروائيات العربيات: شهرزاد تحكي قصتها . وفيه تؤكد المؤلفة أن الحركة النسائية في الغرب لم يكن لها تأثير كبير في الحركة النسائية العربية، بل كانت مطلباً داخلياً عربياً وتطورت من داخل المجتمع العربي.
وفي هذا المجال تشير مذكرات جين سعيد المقدسي، شقيقة إدوارد سعيد، التي نُشرت في العام 2005 باللغة الإنجليزية بعنوان جدتي وأمي وأنا ، إلى أنه في حين كان لمدارس الإرساليات المسيحية في الشرق دور تثقيفي وتعليمي في فتح المجال للمرأة العربية لبناء ثقافة عربية غربية عصرية إلى حد ما، والتفكير بكيانها كامرأة وبمشكلات واقعها بطريقة أكثر منهجية فكرياً وأكثر تحرراً اجتماعياً، وجدت على غير ما كانت تتوقع أن مستوى تقبّل أسرتها والمجتمع العربي بشكل عام للأفكار العصرية الغربية كان محدوداً، وهكذا بقيت تأثيراتها مقتصرة على وعيها وحبيسة جدران محيطها الثقافي.

ايوب صابر 06-01-2012 03:16 PM

ليلى عسيران

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

من نساء لبنان اللواتي تركن أثرا في الصحافة والرواية والقصة القصيرة. وقد عملت من اجل قضايا الامة العربية وكذلك قضايا المرأة اللبنانية والعربية.


ولادتها وأسرتها
  1. ولدت في صيدا في العام 1934 ميلادي
  2. هي زوجة رئيس مجلس الوزراء اللبناني الاسبق الدكتور أمين الحافظ
  3. ابنها المهندس رمزي الحافظ، ناشر مجلة Lebanon Opportunities
نشاطاتها
  1. كانت ناشطة في مجال تحرير المرأة، تبع رؤية خاصة اقتنعت بها، وهي أن تمارس المرأة نضالاً مشتركاً مع الرجل، من أجل القضايا الوطنية العامة.
  2. كانت متعاطفة مع حركات النضال العربية، خاصة القضية الفلسطينة وقد قضت إحدى الليالي في مخيم للمقاومة الفلسطينية، على ضفاف نهر الأردن. وقد كان لها مساهمة كبيرة بالقلم والفعل في يوميات المقاومة الفلسطينية منذ نشأتها.
مؤلفاتها

تركت ليلى عسيران العديد من الرويات التي حكت فيها قصص قريبة للواقع من يوميات المعراك في المخيمات الفلسطينية على ضفاف نهر الأردن، إلى يوميات حرب 1967م، وصولا إلى الكتابة عن بيروت ومعاناتها وغيرها من الخيبات العربية، حتى قيل أنّ ليلى عسيران هي مؤرخة الخيبات العربية.
ومن مؤلفاتها:
  1. لن أموت غدا
  2. الحوار الأخرس
  3. المدينة الفارغة
  4. جسر الحجر
  5. عصافير الفجر
  6. خط الأفعى
  7. قلعة الأسطى
  8. الاستراحة
  9. طائر من القمر
  10. شرائط ملونة من حياتي.
وفاتها

توفيت في 15 أبريل من العام 2007. نتيجة نوبة قلبية كانت قد نجت من إحداها قبل وفاتها.
المراجع
  1. كتاب "دليل جنوب لبنان كتابا" - إصدار المجلس الثقافي للبنان الجنوبي - صفحة 330
  2. جريدة السفير - مقال لأحمد بزون - 16/04/2007.
  3. جريدة الشرق الأوسط - 17 ابريل 2007 العدد 10367 - مقال لسناء الجاك.
  4. جريدة المستقبل - الاثنين 16 نيسان 2007 - العدد 2587

ايوب صابر 06-01-2012 03:18 PM

الأحد، مايو 04، 2008

ليلى عسيران صحافية، وروائية صدرت لها ثلاث روايات عن الفداء


نجاة فخري مرسي
من الأرشيف: لقاءات نسائية في لبنان

كانت اول امرأة تقيم بين الفدائيين في قواعدهم العسكرية.
ونتيجة لهذه التجربة صدرت لها روايتان: "عصافير الفجر" و"خط الافعى"...
عاشت في منطقة جسر الباشا المحاصر اثناء الحرب الاهلية (1975 – 76) وكتبت عن هذه التجربة رواية "قلعة الاسطى"...
ترددت على قرى الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني المحتل حيث صورت الصمود والنضال في وجه الاعتداءات الاسرائيلية الوحشية المتكررة في روايتها "جسر البحر"...
منحت عام 1997 وسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس تقديرا لاعمالها الروائية...
من اقوالها في حديث لها مع مجلة "الاداب":
- "كان في حياتي صراع دائم بين الطوق الادبي وارتباطي بالحدث القومي، وان قصتي "المدينة الفارغة" تعبر عن احباط...
- تصوروا انني وصفت بيروت المتألقة بالمرأة الجميلة التي لا عقل لها ولا ذكاء، وبعملي هذا اقترفت جريمة بحق بيروت...
- كانت كتبي ممنوعة من دخول الاردن، ومنحت تأشيرة باذن خاص لاكتب عن الحرب... كتبت عن شهداء فلسطين الاحياء...
- من الصعب أن تنسى امرأة وجوه جرحى النابالم...
- ساعات طويلة امضيتها تحت الشمس أشاهد نزيف النزوح، وهذه المشاهد محفورة في نفسي.
عن مجلة "الآداب"
* * * *
وبعد أن قرأت بعض ما قالته أديبتنا، وبعد ان تشبعت بقراءة بعض رواياتها التي تفوح منها روائح القومية، والاسلوب الفلسفي والشفافية النسائية والانسانية، الى جانب مواقفها السياسية الرائعة، سعيت الى لقائها في منزلها العريق في بيروت، حيث كان لي معها هذا الحديث المتواضع، قياسا بآفاقها الادبية والفلسفية.
وإن كنت التقي معها عند الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني المحتل حيث الاعتداءات الاسرائيلية الوحشية المتكررة، وحيث الصمود والنضال كما صورتهما في روايتها "جسر البحر" ولكنني سأبقى بانتظار ان يرفرف علم لبنان فوق هذا الجزء العزيز المحتل، وان يسجل التاريخ العربي ما كتبته الاديبة ليلى عسيران الحافظ عن ذلك الصمود الاسطورة.
اللقاء:
س: هلاّ تفضلت بتعريف القارئ على الاديبة ليلى عسيران؟
ج: المؤلف لا يعرّف على نفسه، بل على السائل المستمع ان يستنتج الحقائق
من خلال الحوار.
س: كيف استطاعت الصحافية والاديبة الاستاذة ليلى عسيران/ وقرينة دولة
الرئيس السابق امين الحافظ، من الجمع بين الصحافة ومتاعبها والتأليف ومتابعته، وسط اجواء سياسة دولة الرئيس ومطالبها؟
ج: لقد دخلت عالم الصحافة من باب تجربة الحياة، وتخصّصت في التحقيق
السياسي والفلسفة في الجامعة الاميركية في بيروت، ثم كتبت عددا لابأس به من القصص القصيرة كتجارب ادبية اولية. لقد استفدت كثيرا من اجواء السياسة، التي انغمر في غمارها امين الحافظ، وذلك قطعا اخذ يضيف الى تجربتي مع الناس في كل مستوياتهم، وكذلك اخذ وقتا من تفرّغي الكامل لبيتي ومطالعاتي وتجاربي في ممارسة الادب والنشاطات الفنية.
س: هل تطالب الاديبة ليلى عسيران بتحرير المرأة، أم أنها تفضل أن تطالب بحقوق المرأة، أم بالاثنين معا، أم أن لها نظرة خاصة في شأن المرأة اللبنانية، ودورها في المستقبل؟
انا أؤمن أن تحرير المرأة يبدأ من العقل والفكر والوجدان، وينتهي بالاكتفاء المادي لها. الا أن المجتمع اللبناني لم يزل لا يعطي المرأة كل حقوقها، مثله مثل العالم أجمع، إذ أني أقرأ عن العنف المستعمل ضد المرأة في اميركا وفي اوروبا. لكن في كل الاحوال لا أؤمن ولا أقرّ الا أن تكون المرأة انسانة لها كرامتها وليست منصاعة ومقهورة ومنساقة الى ظروف الحياة القاسية، سواء أكانت تلك الظروف مادية، أو نفسية. المرأة انسان كما الرجل انسان.
س: ما رأيك بالمرأة اللبنانية، ودرجة نشاطها في تأكيد دورها الفاعل في مجتمعها، ام انها لازالت في أول الطريق؟ ولماذا برأيك تتهرب الحكومات السابقة والحاضرة من التسليم لها بالمزيد من حقوقها المدنية والسياسية؟
ج: ارى أن المرأة اللبنانية ذات حيوية قصوى، ولقد كانت خلال الاحداث التي امتدت سبعة عشر عاما "البطلة" الاولى، حيث تصدّت لكل أنواع المخاطر. والمرأة اللبنانية فاعلة في جميع قطاعات العمل، وانواع الانتاج، والفنون، والتجارة، والهندسة، والاعلام، والتعليم والابحاث الخ..
إن المرأة كما الرجل بحاجة الى ممارسة عملية على الارض قبل ان تلج باب السياسة، وهذه مهمة تتطلب سنوات وسنوات من الخبرة، وكيفية التعامل مع الناس، وتلبية حاجاتهم، والالمام بالقوانين الدستورية والوزارية.
انا لا اعتقد ان الحكومات "تتهرب" ولكن الحقوق تؤخذ ولا تعطى، ومن يتابع نشاط المرأة اللبنانية، يجد أنها تقدّمت كثيرا، وهي مازالت تناضل لكي تحصل على ما تستحقه من حقوق، وواجبات – اللهم اذا كانت من النوع الذي يستحق فعلا.
س: هل أنت راضية عن المجلات النسائية في لبنان، وهل هي في نظرك ما زالت تحمل الطابع اللبناني، أم انها تحوّلت نحو الطابع الغربي؟
ج: موضوع المجلات شائك ومعقد، يخضع الى امكانيات مادية والاعتماد على الاعلان، ونوعية القراء وما يهمهم. وما هو الخيط الواضح الذي يوضح ما هو غربي ام لبناني؟ ان قيمة لبنان الحضارية هي هذا التمازج الفريد بين حضارات متعددة الاصول والاتجاهات. والغرب الذي يؤمن بحريات لم تكن مباحة في اول هذا القرن بلبنان، لديه ايضا من الاصدارات المحافظة، ولكن ضمن مفاهيم هذا العصر.
لبنان منفتح، يعشق الحرية، والجمهور القارئ، او المشاهد للاعلام المرئي، لا سيما بعد وجود "الفضائيات" يستطيع ان يختار ما يناسب ذوقه.
س: اخيرا اشكر تفضلك بلقائي، وتزويدي بما سمعته منك من اراء قيمة، هل من رسالة تودين ارسالها الى اختك اللبنانية المهاجرة في استراليا؟
ج: اتمنى ان تنقل اختي اللبنانية المهاجرة في استراليا صورة مميزة عن لبنان، وان تستفيد من تنوع الاختلاط بين المهاجرين الاخرين، وتقوم بنشاطات فنية وثقافية، فليس مثل الثقافة ما يوحّد بين البشر.
وأقصى ما أتمناه لها ان لا تنسى وطنها الام، وان يتسنى لوطنها الام أن يعطيها نفس فرص الحياة للعودة الى لبنان، فلبنان يعتزّ ويعزّ كل ابنائه وبناته في المهجر.
وسأختم اللقاء بذكر أسماء روايات السيدة عسيران الحافظ العشر وهي:
لن نموت غدا 1962، المدينة الفارغة 1964، الحوار الاخرس 1964، عصافير الفجر 1966، خط الافعى 1972، قلعة الاسطى 1979، جسر الحجر 1986، الاستراحة 1989، شرائط ملوّنة 1994، طائر القمر.





Labels: نجاة فخري مرسي

ايوب صابر 06-01-2012 03:20 PM

رحيل الروائية ليلى عسيران

احمد بزون 16\4\2007 | السفير
رحيل الروائية اللبنانية ليلى عسيران
طمـــوح أوســـع مـــن ســــيرة
السفير
احمد بزون
عندما كتبت ليلى عسيران: «مسح الغروب ألوان الدنيا من أعيننا، وانقض سواد باهر ساطع، وزف إلينا حلول الليل بهيبته وعظمته»، لم تكن تقصد لحظة غارت عيناها أمس، وانخطف الضوء من حياتها إلى الأبد، إنما كانت تصف إحدى الليالي التي قضتها في مخيم للمقاومة الفلسطينية، على ضفاف نهر الأردن، في كتابها «خط الأفعى» الذي كتبته عام ,1972 وأضافته إلى مؤلفاتها التي بلغت سقف الدزينة من الكتب.
ليلى عسيران التي كان لها شرف المساهمة بالقلم والفعل في يوميات المقاومة الفلسطينية منذ نشأتها، وقد عبرت عن ذلك في روايتها الأخرى «عصافير الفجر»، كانت الصوت المدافع عن ثورة عبد الناصر، وكل ثورة عربية ووطنية في عالمنا العربي، وصولاً إلى المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية في جنوب لبنان، خصوصاً أنها ابنة هذا الجنوب، أحبت وجسدت معاناته في كتابها «جسر الحجر»، ولم يسعفها العمر كي تحقق رغبة بقيت دفينة فيها، وهي كتابة رواية عن «معتقل الخيام» ومعاناة الجنوبيين في سجون العدو الاسرائيلي.
إبنة الجنوب المتعاطفة مع قضية العرب الأولى، فلسطين، عاشت عمرها مع ابن قاضي القضاة في فلسطين، أعني ابن طرابلس، الرئيس أمين الحافظ، الذي ضيّق السياسيون الخناق عليه عندما وصل إلى الحكومة، و«أبعدوه» عنها بسبب مواقفه الوطنية والقومية، وقد استمر، هو المثقف، مع زوجته التي شربت
الثقافة مع حليب الطفولة، في فتح بيتهما لاستقبال سياسيين ومنفيين ومثقفين من كل الألوان، متخطين حواجز المناطق والطوائف وكل الحساسيات البغيضة.
تلك المرأة، التي حولت بيتها إلى خلية ثقافة ونضال، لم تهدأ، فقد عملت، منذ البداية، من أجل تحرير المرأة، تبع رؤية خاصة اقتنعت بها، وهي أن تمارس المرأة نضالاً مشتركاً مع الرجل، من أجل القضايا الوطنية العامة. وهذا ما تجلى في أولى رواياتها «لن نموت غداً». ورفضت أن تستسلم لليأس، ووقفت ضد تعميم تعبير «النكسة» على هزيمة عام ,1967 ذلك أن الفعل الفلسطيني، برأيها، من خلال المقاومة، قلب اليأس تفاؤلاً.
هذا ما أكدته في كتابها «شرائط ملونة» الصادر عام ,1994 والذي ضمنته العديد من محطات سيرتها، وجاء كأنه رواية الروايات، أو سيرة السير، أتبعته بسيرة معاناتها مع المرض، في «غيبوبة»، آخر ما خط قلمها، قبل أن ينكسر.
وإذا كانت ليلى عسيران تنتقي فسيفساء السيرة وتشكلها بالألوان التي تريد، تسمي الأشياء بأسمائها مرة وتحاذر أسماء أخرى، أو تغض النظر عن تفصيل محرج هنا وتفصيل مسيء هناك، فلم تكن الكاتبة الراحلة بعيدة عن الجرأة في المواقف والكتابة، لا في وصف المظالم ولا في نقد السلبيات، ولا حتى في الكلام على الحب والجنس. هي جدية حتى اندماجها بالثورة قولاً وفعلاً، وتصدر عن هوى وجنون ومزاج جاهز للانقلاب. رومنسية حتى لتشعر أحياناً أن روايتها أغنية حنين، أو نشيد شعب، أو رسالة حب.
لم تكن الأرض تتسع لليلى عسيران، فعاصمتها بيروت، التي خافت عليها في روايتها «المدينة الفارغة» (1966) وتوقعت أن تملأ حرب ما هذا الفراغ فيها، لم تكن تملأ عينيها، لذلك كان جمال روما يبهرها أكثر. كان الطموح يقتلها، إلى درجة كانت تشعر فيها أن التعبير بالكلمة، عما يجول في النفس، وفي وصف شخصيات الرواية، لم يفها بالغرض، فكانت تشعر أحياناً بأنها تقصّر عما تقدر الصورة الفوتوغرافية أو اللوحة على تصويره أو التعبير عنه.
كانت ليلى عسيران تشعر بأن الحياة يجب أن تتسع لإبداع أكثر، وحب أوسع، وجمال لا ينتهي... لكن الضوء انطفأ في الغرفة، وفارقتها طيور المخيلة، وبقيت رواياتها تكرر سيرتها الفاتنة.

ايوب صابر 06-01-2012 03:21 PM

ليلى عسيران لـ"العهد" سأكتب رواية عن المعتقلين
للحديث عن الروائية ليلى عسيران نكهة خاصة، فهي الملتزمة بقضية الانسان، المشاركة في معاناته، وصاحبة الرؤية الخاصة تجاه قضية المرأة في زمن اختلطت فيه الامور وضاعت البوصلة، معها يتحول الحوار الى مشاركة، في صناعة الفكرة التي تسبق أي عمل أدبي.

ـ نبدأ من روايتك الأولى "لن نموت غداً" التي حملت موقفاً متميزاً من موضوع تحرر المرأة، فما هي الخلفية التي انطلقت منها لصياغة هذا الموقف؟
انطلقت في ذلك من قناعتي بأن المرأة لا تتحرك في فراغ، فالمرأة تتحرر من خلالها اندماجها بالمجتمع وإثبات قدرتها على العطاء في مجالات معينة، وأنا لا اعتقد ان المرأة مثل الرجل، فهما كيانان يختلف كل منهما عن الآخر، أما ما يحكى عن التحرر الجنسي فهو كلام بدائي يفتقر الى النضج، والتحرر بالنسبة لي هو تحرر اقتصادي وفكري.

ـ تناولت في روايتي "عصافير الفجر" و"خط الافعى" موضوع معاناة الفلسطينيين والثورة الفلسطينية، فما هي الظروف التي دفعت بك لكتابة هاتين الروايتين؟
هناك طبقة من الناس في لبنان تقول بأن هؤلاء النازحين هربوا من بلادهم، فأردت ان أذهب بنفسي لمعايشتهم، وبالفعل ذهبت الى "جسر اللبني" الشهير على نهر الاردن وعايشت النازحين، عندها فهمت لب المشكلة، ان الانسان لا يرتضي على نفسه الخروج من وطنه، الا اذا كان يتعرض الى اهانة لا تحتمل، وفي جولاتي في المخيمات التي أقيمت لاستيعاب هذا الدفق من النازحين، لمست مدى غضبهم على العرب، في البداية ظنوا اني أجنبية، ولكن بعد حديثي معهم ومجالستي لهم على الارض، رحبوا بي، وقد رأيت عيون الاطفال لونها رمادي من غبار الصحراء، أفلا يهزني ذلك. وقد كتبت رواية "عصافير الفجر" بسرعة، ثم عايشت المقاتلين في غور الاردن وكتبت رواية "خط الافعى"، وقد كانت هاتان التجربتان من أمتع ما قمت به في حياتي، فقد عشت التجربتين، ونمت معهم على الارض، وسمعت صوت الارض، وفي تلك الظروف لم يكن صوت الارض الا أنينا.

ـ في رواية "المدينة الفارغة" نجد ان الأحداث والوقائع تنبئ بحدث كبير، فهل توقعت فيها الحرب الاهلية في لبنان قبل وقوعها، ام ان ذلك جاء مصادفة؟
قبل كتابة هذه الرواية شعرت بشكل جدي بواقع جديد يحيط بنا، اشد وقعاً في نفسي، ومصدر هذا الشعور التفاوت الكبير في مستويات المعيشة في حياة المقيمين في بيروت، المدينة الصاخبة، التي تعيش حياة بذخ، وانعدام أي من مقومات الحياة الكريمة لأولئك القاطنين حول المدينة فيما عرف بأحزمة البؤس؟، وقد اعتبرت هذا الامر مؤشراً لوضع غير طبيعي قد لا يستمر طويلاً، فطريق الحرية الفوضوية التي لا هدف لها، ولا جذور وغير المنسجمة مع الواقع، لا بد ان تقود بنتائج وخيمة، وهذا ما أشعرني بأن بيروت ليست سوى مدينة فارغة، وعندما جاءت الحرب التي عانيت مرارتها في "حي القلعة" بمنطقة "سن الفيل" كتبت رواية "قلعة الاسطى" التي نقلت فيها معاناتي ضمن معاناة الناس في هذه المنطقة، قبل تهجيري منها مع ما حملته من معاناة كبيرة.

ـ الملاحظ انه في كل رواية من رواياتك يمكن بسهولة ان نتلمس معاناة ليلى عسيران الذاتية، فهل كانت هذه المعاناة جزءاً اساسياً من الروايات، أم ان تداخلاً عفوياً يولد ذلك؟
عند الكتابة أنسى نفسي، فأنا عندما أتفاعل مع تجربة بشر معينين، التصق بهم وبمعاناتهم، وفي بعض المرات كنت ابكي لمعاناتهم وهم لا يبكون، فأجد انهم اصلب مني، وهم نموذجي، وهم من علموني، لأن الانسان البسيط المرتبط بالارض والمتمسك بالكرامة الانسانية، لا يمكن ان يقهره مخلوق، فالقهر الداخلي عنده ينفجر بغير الواقع، وأنا بشكل طبيعي لا أستطيع الفصل بين معاناتي ومعاناة الآخرين، وان كنت قد صورت تجربتي الشخصية مع المرض بكل تفاصيلها في رواية "رواية بلا كلمات في الغيبوبة" فهذا لم يكن الا نقل أمين للأحداث بكل تفاصيلها التي عايشتها اثناء الغيبوبة التي مررت بها.

ـ ولكن ورغم الواقعية البارزة في أعمالك الروائية، يحتل الخيال حيزاً مهماً، فما هو دور الخيال في الرواية الواقعية؟
معظم القراء لا سيما في منطقتنا يظنون ان الروائي عندما ينتقل الى موقع الحدث، يأخذ الصورة، وأنا أؤمن بأن التفاعل مع الحدث ومع بشر الحدث يتطلب اعادة نظر الى الحدث بعين ترى عدة أشخاص، معبر عنهم بشخصية واحدة، والتقاط المزايا في تلك المرحلة وغض النظر عن الاخطاء واجب وطني في حالات الكتابة عن قضية وطنية كبرى، ولكن لصعوبة الكتابة او الرسم بالكتابة لإظهار كل الشخصيات التي تلتقي بها، ولإيصال الفكرة المطلوبة عن مجموع البشر، لا بد من اللجوء الى الخيال، الذي يساعد على ايصال الفكرة ويسلط الضوء عليها من خلال بعض الشخصيات وعلاقتها بالاحداث المحيطة، وبخلاف ذلك تكون الرواية بحثا كلاسيكيا.

ـ تناولت ليلى عسيران معاناة الجنوب وأهله في رواية "جسر الحجر"، والآن وبعد الانتصار الكبير واندحار الاحتلال، هل لديك مشروع لكتابة رواية جديدة عنه؟
في الوقت الحاضر وضعي الصحي يمنعني من البدء في هكذا مشروع، لأني سأحتاج الى حوالى سنة ونصف لانجاز زيارات الى مواقع متعددة، ومع اكباري اللامتناهي للمقاومة والتحرير ودور الاهالي، ودور المقاتلين الذين جاهدوا واستشهدوا من دون ضجة، بتنظيم وكل نموذجية، فإن ما يحز في نفسي ويدفعني للتساؤل، هل ايقظ هذا الفعل الدولة على مسؤولياتها لانعاش الجنوب؟
أما كان يجب ان يهز فعل المقاومة كل اللبنانيين بهذا العمل الخارق، وأنا صراحة لم اشعر ان الناس خارج الجنوب احسوا بالوجع الذي عاشه الجنوب وأهله، وتكفي تجربة الاعتقال، التي تستحق المتابعة، وارجو من الله ان يمنحني المقدرة الصحية، كي أتناول هذا الموضوع روائياً، وعندي الرغبة بكتابة مثل هذا العمل، فهو يستهويني ويلبي النداء في قلبي وفي ضميري، وإذا اعطاني ربي سبحانه وتعالى مزيداً من الحياة ولو بصحة متواضعة، فإني سأعمل بشكل أكيد على المباشرة فيه، فأنا ابنة الجنوب ومن الطبيعي ان احس بطعم الانتصار، وأنا اعتبر ان اجمل ما كتبت هو ما كتبته عن الجنوب.
حوار بلال أحمد

ايوب صابر 06-01-2012 03:25 PM

4- 2007 - 26: 2 (نشرها: )
ليلى عسيران الأرستقراطية التي صارت فدائيّة في الأدب والحياة
هيا زراقط

الصفحة السابقة
آنذاك لم تكن ليلى عسيران انتسبت بعد إلى حزب «البعث العربي الاشتراكي»، ولا بادرت إلى طرق باب مؤسسه «الأستاذ» في مقرّ إقامته الصيفية في برمانا، لتشكو له همومها الإنسانية والوطنية. لكن «بقدر ما كان دخولي إلى الحزب محطةً مهمةً كإحدى أهم ذروات مسيرتي في الحياة، بقدر ما كان قراري بترك الحزب تافهاً وعادياً».
مأساة فلسطين
إحباطها القومي الأول كان مأساة فلسطين التي عاشت قضيتها بكلّ وجدانها، حتى إنها التحقت بالفدائيين في أغوار الأردن ولُقّبت يومها بـ«الأخ ليلى»... وتركت روايتين عن «مقاومي» تلك المرحلة: «عصافير الفجر» التي كتبتها بعد «هزيمة» الـ67 ــــ إذ كانت من القلائل الذين اعتبروا «النكسة» هزيمة! ــــ ثم «خط الأفعى» (1972). وقد سردت فيهما يوميات المقاومة الفلسطينية في الأردن. وكتبت باسم «خضرة» في مجلة «الأرض المحتلة». وتابعت كتابتها عن المقاومة في «جسر الحجر» (1986) الذي أرّخت فيه قصة الجنوبيين من خلال شخصية أم قاسم المرأة التي أحبتها ليلى عسيران، إلى حد أنّها سألت زوجها عنها بعد جولة قتالية «ماذا حلّ بأم قاسم؟»، فأجابها بأن أم قاسم شخصية روائية غير موجودة في الحياة.
تركت الحرب الأهلية اللبنانية أثراً كبيراً في عسيران، ولا سيما بعد وفاة الطباخ السوداني الذي كان يعمل لديها إثر تعرّض منزلها في جسر الباشا للقصف.... فكتبت في «قلعة الأسطة» قصة حبها له ولبيتها الذي «كنت أظن أن مجرد وجودي فيه كاف لحمايته... كان بيتي مثل أبي الذي توفاه القدر». وكتبت في تلك الفترة رواية «الاستراحة» التي تساءلت فيها إن كانت ذكريات الحرب تضمحل بمجرد ركوب الطائرة؟ وهذا ما لم تنجح فيه. إذ تقول البطلة مريم التي سافرت من لبنان إلى روما: «لقد حاولت أن أنزع من نفسي جذور مدينتي التي عشقتها، لكن أجواءها تحولت إلى خيوط من العنكبوت راحت تشد على أنفاسي». لذلك كانت روايتها الأولى بعد انتهاء الحرب الأهلية عن بيروت التي شبّهتها بـ«طائر من القمر» وروت فيها قصة حبّها لهذه «المدينة العجائبية» ولإنسانها «الفريد» الذي يعيش فيها ويصرّ على الاستمرار والحياة.
ليلى عسيران هي زوجة الرئيس السابق أمين الحافظ. الرجل الذي أحبته كثيراً وانتقدت نفسها علناً أكثر من مرة لأنّها ربما لم تحقق له الحياة الزوجية المفترضة بسبب حساسيتها المفرطة وانشغالها بالقضايا القومية. تعرّضت عام 1996 لأزمة قلبية حادة أدخلتها في غيبوبة طويلة، كتبت بعدها معاناتها مع المرض وتجربة مواجهة الموت في «حوار بلا كلمات في الغيبوبة» (1998). وكانت تحلم بكتابة رواية عن «معتقل الخيام»، كما صرّحت في أكثر من مناسبة، لكنّ المرض لم يمهلها الوقت الكافي لإنجاز ذلك المشروع. حتى اللحظة الأخيرة من حياتها بقيت ليلى عسيران وفيّة للصورة التي رسمتها ذات يوم عن نفسها: الإنسانة التي «اتخذت موقفاً من الحياة ولم أمرّ بها مروراً سطحياً، ولم أقبلها على عواهنها، بل حاولت التدخل فيها».

ايوب صابر 06-01-2012 03:28 PM

رحيل الروائية ليلى عسيران مؤرخة الخيبات العربية
http://www.aawsat.com/2007/04/17/ima...ily.415340.jpg
بيروت: سناء الجاك
لم تغير الروائية اللبنانية ليلى عسيران عادتها. بهدوء ولياقة وبأقل قدر من الضوضاء انتقلت الى دار البقاء، وذلك بعد نضال صامت مع المرض، ايضا كعادتها. وعسيران المولودة عام 1934 كانت زوجة رئيس مجلس الوزراء اللبناني الاسبق الدكتور أمين الحافظ ووالدة رمزي الحافظ المهندس وناشر مجلة Lebanon Opportunities. لطالما عرفت كيف تجمع بين نشأتها في كنف عائلة عريقة لها بصماتها في التاريخ اللبناني وارتباطها بأحد أهم رجالات لبنان الذي سجل مواقفه وترك بصماته على الحياة السياسية بأسلوب غير مألوف في مستويات الصراع اللبناني وبين قناعاتها والتزامها بقضايا تتجاوز وطنها الى هموم العالم العربي. تركت ارثا ثقافيا وأدبيا كبيرا في الصحافة والرواية والقصة القصيرة والمقالات. بدأت عسيران مسيرتها الروائية مع «لن نموت غدا» بعد حرب يونيو (حزيران) 1967. ومع هذه البداية حاولت ان تؤسس عمارتها الروائية بمعزل عن مقولة الادب النسائي. لم تكن تؤمن بهذه التسمية. سعت الى تجاوزها باتجاه الادب الانساني الطالع من بيئته والملتزم بها، وذلك خلال فترة محتدمة من تاريخنا العربي.
وهي لم تكتف يوما بالكتابة الصورية بمعناها الوصفي السطحي. عاشت مواضيعها وشخصياتها. ففي رواية «خط الافعى» راحت الى غور الاردن واجتازت النهر وحاربت مع الفدائيين الفلسطينيين. كان لقبها آنذاك «الاخ ليلى». وفي رواية «قلعة الاسطه» عاشت فترة حصار منزلها في أحد ضواحي بيروت يوما بيوم ونقلت معاناة اهل البيت من دون توقف عند الفوارق الاجتماعية التي لطالما أزالتها لتغلب عليها جوهر التعامل الانساني. فـ«الاسطه» صاحب القلعة الصامدة في وجه الحصار والحرب هو الطباخ المصري للعائلة، أي فرد من أفرادها. اما في رواية «جسر الحجر» التي تحكي معاناة الجنوب اللبناني ابان الاحتلال الاسرائيلي فالبطلة «أم قاسم» الطالعة من نسج الخيال اكتسبت حياة وحركة في ذهن الكاتبة، حتى انها سألت زوجها ذات جولة قتالية: ترى ما حل بأم قاسم؟ كيف ستنجو من القصف؟ ليذكرها بأن أم قاسم لا وجود لها الا في الرواية.
وفي كتب ليلى كل تاريخ العرب وخيباتهم وبتسلسل ادبي انيق وصافع في حقيقته. الا ان تأريخها لهذه الخيبات لم يحل دون بقائها في دائرة التفاؤل، تماما كما يمكن ان نلمس في سيرتها التي حملت عنوان «شرائط ملونة»، حيث استعرضت محطات من حياتها التي عرفت لوعة الموت باكرا بفقدانها الاب وهي بالكاد في الرابعة من عمرها، مرورا بسنوات المدرسة الداخلية في القاهرة، وبعدها الدراسة الجامعية في الجامعة الاميركية في بيروت، ثم بدايات العمل الاعلامي في الصحافة المصرية، انتقالا الى مسيرتها الروائية والنضالية ومحطات بارزة في حياتها السياسية ان وفق قناعاتها والتزامها بالقضية الفلسطينية او الى جانب زوجها الذي كان في الندوة البرلمانية لعقود من الزمن.
ولعل عودة بيروت الى السلم الاهلي والانطلاق بإعادة الاعمار شكلا حلقة ساطعة من حلقات التفاؤل فكانت روايتها «طائر من القمر» خير ترجمة للامل بعودة لبنانها الى سابق عهده.
الا ان احوالها الصحية قوضت متابعتها لتلك المرحلة، وهي التي تحمل العياء في قلبها المتعب منذ شبابها. وتناضل لتهزمه. وقد فعلت فتغلبت على ازمة قلبية خطيرة اخذتها الى الغيبوبة طوال اشهر. وعادت لتكتب عن تجربتها هذه. «الغيبوبة» الذي كان آخر رواياتها، لتغرق الكاتبة المرهفة من دون غيبوبة في غياب قسري طوعي.

ايوب صابر 06-01-2012 03:32 PM

ليلى عسيران ..فدائية الكتاب

تجُول الذكريات السوداء في سماء المرء كغيمة تشربت وتكونت من جراح الماضي لكي تسكب غيث دموعها على منبسط الحاضر، من الذاكرة المتيبسة بالأحزان ، لتحدث سيلاً يزحف جارفاً أبواب المآسي، لكي يصب في بحر من اللاوعي من عقل كل طفولة ترى هذه الذكريات من نافذة الانتقاص النفسي بمجرد الوقوف على ملامحها في العقل. هذه هي ذكريات الحرب والقمع والهزيمة وآثار الهرب والنزوح والهجرة، وأطلال الخوف والبؤس والضياع كانت بارِزة في سرديات وقصصيات الكتّاب اللبنانيين، الذين ورثوا وعايشوا مأساة فلسطين ثمانية وأربعين، وتفاصيل تفاصيل الحرب اللبنانية، واجتياح إسرائيل والحرب الأهلية في سنوات بؤس كادت، بل وأثرت في الأدب اللبناني الروائي في مختلف أحقاب حربها، التي جسدت الكثير من المعاني والتأثيرات على النفس من قِبل من استضافت ذكرياتها الغامضة لكي تتمثل في ذروة روائع الكتابة، فجعلها من أصحاب الريادة في الأدب الروائي النسائي، فــ"ليلى عسيران" المرأة التي مرت بالعديد من التجارب الغير العادية في فترة زمنية كانت أكثر ما عليه من أحداث تاريخية شهدتها الأمة العربية والتي انفعلت وتفاعلت معها وكمنت في داخلها شعور وصفته بأنه يفوق عظمة الحب بين الإنسان والآخر.

"ليلى عسيران" ذات رؤيا بمنظار العروبة والوطنية التي أخذت تحكم به من خلال كتاباتها، الذي يجعلنا لا نستغرب من تحورّها من صحفية من صفحات الأزياء والمرآة إلى التغطيات الميدانية السياسية، فكان لشغفها وولعها دور كبير في تميزها في هذا الموقع محققةً من خلاله أكثر من سبق صحفي، وكان من أهمها تغطيتها لمحاولة انقلاب اللواء"أبو نوار" على ملك الأردن عام 1957 ف، وانفرادها بمقابلة معه بعد فشله في هذه المحاولة وفراره إلى سورية، أما حماسها السياسي فكان سبباً في خروجها في العديد من المظاهرات ما بين مؤيدة ومناهضة واشتراكها في العديد من الاتحادات الطلابية، فكان بداية تعمق نشاطها السياسي عند استشهاد أحد زملائها في أول مظاهرة لها لنصرة الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" بعد توقيعه لصفقة السلاح مع "تشيكوسلوفاكيا".

وما كان في حياة هذه الكاتبة يذكرنا مرة أخرى بقصة الغموض، مشبهاً بساحة من الظلماء تتضح شيئاً فشيئاً في ظل وجود بقعة ضوء، فكانت بدايتها من إرساليات الرؤية الغامضة التي توحي بأنها ستصبح عازفة بيانو عالمية أو كاتبة كبيرة، فكانت بداية ظهور هذه الموهبة المكتشفة كأنها تحقق الوعد الإلهي المبشر به، فكانت أول بادِرة من قبل الرسام والصحافي "أحمد بهاء الدين" في الصحافة، وتطورت كما سبق الحديث حتى وصلت إلى منعطف قادها إلى الخوض في غمار الروايات الخيالية كان أهمها "حوار بلا كلمات في غيبوبة"، والتحدث عن تجربة الحرب وذعر سنوات الحرب اللبنانية كما في روايتيها "قلعة الأسطى" و "جسر الحجر" الرواية الأخيرة، التي أمعنت فيها النظر والتي أصفها كنموذج من روايات "نتاج الحروب" تحدثت فيها عن قصة جسر العبور للوطن، ودور المواطن المتمثل في شخصية "رضا" الطامح لإزالة الفقر والظلم، السبب الذي جعله يلتحق بأحد أحزاب الحركة الوطنية فاشتعلت الحرب التي شارك فيها في ظل أمله الملتهب في تحقيق آماله فكانت آثار هذه الحرب تجر الخيبة والهزيمة، فعاش في مجتمعه في صورة الرجل "الميت الحي" ثم يبدأ يتصل بأفراد مجتمعه، ويقرر بناء جسر ليخرج من ظلمة اكتئابه وصراعه النفسي وللعبور لوطنه، ويحدث اتصال بينه وبين قرينته مما يبث في نفسه الأمل للعودة وتنظيم مجموعات مقاومة، حيث تكلفت أحداث هذه القصة الوصول إلى استنتاج وفكرة تحمل في مضمونها أن الاستقلال يأتي لا ريب فيه متمثلاً ذلك في الجسر الذي من الممكن أن يبنى بالصبر والتضحية والاستشهاد للعبور إلى أسمى غايات القتال، وهي الحرية، وفي نهاية هذه اللمحة عن أهم مستأثرات الأدب اللبناني والذي إذا ما حاولت أن أقف في وصفه أجد نفسي في عجز تام وفي وقفة لا تكاد تعبّر عن نفسها، لا أقول أنها وقفة انبهار واستغراب بل وقفة أقل ما توصف به وقفة احترام لكتّاب الحرب الذين جعلت النزعات منهم أكثر العارفين بماهية الحقيقة، فنظرتْ لها ليلى عسيران في روايتها "لن نموت غداً" بأن: "ليس في حياتنا حقيقة واحدة مهما كبرت أو صغرت، نستطيع أن نتأكد من وجودها إلا الموت.. ألسنا شجعاناً إذ نمضي في الحياة كما لو كانت أزلية؟".

ايوب صابر 06-01-2012 03:34 PM

ثنائية الحب والموت في السيرة الذاتية العربية


12. 8. 2010

http://www.mnaabr.com/var/shehrayar/...GB/_1_full.jpg
يقبل الباحث جوزف طانيوس لبّس في كتابه «الحب والموت من منظور السيرة الذاتية بين مصر ولبنان» (دار المشرق) على سِيَر مبدعين اختار دراستهم بشغف، فغاص في ذواتهم وحاول إظهار خفاياها عبر تعمّقه في دراسة موضوعين إنسانيين كبيرين يُمثلان حقيقتين موثقتين ومُختبرتين في الحياة البشرية المُعاشة: «الحبّ والموت».
يرى الكاتب أنّ هاتين المسألتين الوجوديتين تجمعهما، على رغم التباين الذي قد نستشفّه من ظاهر المعنيين، «علاقة خفية»، وهو عمل على كشف تلك العلاقة الملتبسة بين «الحبّ والموت» عبر دمجهما في دراسة أدبية نقدية واحدة تأخذ من السيرة الذاتية الأرضية الأساسية التي تقف عليها بغية الكشف عن الحقيقة الوجدانية لكاتب السيرة.
تتصدّر الكتاب مقدّمة كتبها الناقد أنطوان معلوف ويستهلّها بسؤال عام مفاده: «هل يعثر الإنسان على ذاته حين يكتب سيرته الذاتية، ونحن نعلم أنّ البحث عن الذات سعيٌ دائم على طريق لا نهاية لها؟». ويستشهد في المقدّمة بآراء معلّمي الفلسفة اليونانية مثل سقراط وأرسطوطاليس حول معرفة الذات ومن ثمّ يتطرّق إلى موضوع لبّس البحثي فيقول: «طه حسين وتوفيق الحكيم وعائشة عبدالرحمن وميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عوّاد وليلى عسيران.... تناول لبّس سِيَرَهم بالبحث الجادّ، أدباء وأحياناً شعراء. ننحني عليهم انحناءنا على ذواتنا، لا نطلب منهم إلاّ التمتّع بتلك اللحظات النادرة التي يُخيّل فيها للإنسان أنّه التقى ذاته العميقة ولو لمحة بصر في ما يُشبه الكشف والتجلّي والدخول في الحضرة».
يُعيد المؤلف اختياره أسماء مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عوّاد إلى كونهم يُشكلّون معاً روّاد نهضة السيرة الذاتية الفنية في الأدب العربي الحديث، خصوصاً أنّ تجربة كلّ واحد منهم تعرض «لوناً من ألوان الحبّ ووجهاً من وجوه الموت». ويرى أنّ معاناة الموت تختلف بين شخص وآخر، وبالتالي فإنّ ماهية الموت وأوجهها قابلة للتغيّر والتبدّل. أمّا هدفه من اختيار الأديبتين المصرية عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) واللبنانية ليلى عسيران كنموذجين إلى جانب الكتّاب الأربعة، فينصب في رصد التجربة النسائية العربية في كتابة السيرة، لا سيّما أنّ كتابتهما الذاتية برزت جلياً انطلاقاً من ثيمتي «الحبّ والموت».
وارتأى الكاتب في التمهيد لدراسته الواسعة أن يقوم بتعريف دقيق لـ «السيرة الذاتية» بهدف إزالة الالتباس القائم حول معناها الأساسي. ولأنّ «التعريف عبارة عن شيء تستلزم معرفته معرفة أمر آخر» كما يقول الجرجانيّ، عمد لبّس الى تعريف السيرة من خلال التعريف أيضاً بمصطلحات أخرى شبيهة لها لإظهار الفروق الدقيقة التي تُميّز السيرة الذاتية عن أخواتها مثل الاعترافات Confessions والمذكرّات Memoires والذكريات Souvenirs واليوميات Journal intime، والمقابلات Entretiens... ويرتكز المؤلّف في تحديده لما يُسميه ميثاق السيرة على تعريف الناقد الفرنسي المتخصص في «الأوتوبيوغرافيا» فيليب لوجون الذي يعتبر السيرة الذاتية «سرداً نثرياً يقوم به شخص حقيقي، حين يستعيد وجوده الخاص، مركّزاً على حياته الفردية ولا سيّما على تكوين شخصيته... والأنواع القريبة من السيرة الذاتية - كالمذكرات والسير والرواية الذاتية والقصيدة الوجدانية واليوميات والوصف الذاتي - لا تنطبق عليها شروط هذا التعريف».
أمّا عن أسباب كتابة السيرة الذاتية فيحصرها الكاتب في خمسة أسباب هي: «التعبير عن أزمة روحية ما»، «البحث عن معرفة الذات»، «لذّة التعرّي»، «طلب الوصول إلى الآخرين»، «تحدّي الزمان ومجابهة الموت ونِشدان الخلود». إلاّ أنّ الكاتب لا يتجاهل ندرة السِيَر الذاتية مقابل وفرة السير الغيرية في عالمنا العربي، بل يعمل على تحليل أسبابها والوقوف عندها والإسهاب في شرحها ودراستها، ومن ثمّ يُقدّم رسماً بيانياً يوضح عبر جداوله مسار «السيرة الذاتية» في العالم العربي عبر سِير أشهر أعلامها.
ثم يُقسّم دراسته إلى ستة أبواب ويُخصّص كل باب منها لدراسة ثنائية «الحب والموت» من منظور السيرة الذاتية في أدب كل كاتب. في أدب طه حسين نجد أنّ الحب كان بمثابة القدرة الهائلة التي تبعث الحياة في الأموات، فهو كان يتحدّى موت أحبّائه بالتفكير فيهم والكتابة عنهم لأنّه يرى أن نسيانهم هو الموت الحقيقي. أمّا الموت في سيرة توفيق الحكيم فيقترن بالقلق ولا يُمكن أن يُجابه موته الفعلي أو «قلقه» ذلك إلاّ بحبّه لفنّه وقدرته على الكتابة والإبداع. وكما أنّ الكاتب ولج رحاب شخصية طه حسين عبر «آفة العمى» وتوفيق الحكيم عبر «القلق والصراع»، فإنّ الكاتب ارتأى البحث في موضوع «البيئة» كمفتاح لدخول عالم عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) ونقطة انطلاق لسبر تجاربها في الحبّ والموت. وهي التي يقول عنها لبّس إنّها كتبت سيرتها الشهيرة «على الجسر» تحت وطأة الحب والموت معاً. فعائشة بدأت تدوين سيرتها بعد موت زوجها وحبيبها وأستاذها أمين الذي كانت تعتبره مدرسة إنسانية فائقة الأهمية في حياتها.
ويُلمّح الكاتب في دراسته لسيرة ميخائيل نعيمة من منظور «الحبّ والموت» إلى أنّ الأخير كان يرى في الحب النور وفي المرأة النجم الذي أضاء له دروب الفضيلة، واستطاع أن يندرج من الحبّ إلى المحبّة ولم يتمكّن من تجاوز هول الموت والتهوين من شأنه إلاّ من خلال إيمانه بعقيدة التقمّص. ويُقدّم الكاتب دراسة معمّقة لفلسفة نعيمة في الموت نتيجة تجاربه المتعدّدة التي يأتي على ذكرها في سيرته المعروفة «سبعون»، بدءاً من موت جدّه وجدّته وعمّته وخاله مروراً بموت صديقه جبران خليل جبران وأخيه الأصغر نسيب وصولاً إلى وفاة والديه ومن ثمّ أخيه هيكل.
وفي الباب الخامس يدخل لبّس عالم توفيق يوسف عوّاد عبر مفتاح «الجوع» الذي وسم حياته، فكان جوعه إلى النساء والحبّ والحياة والملذّات سمة شخصيته وحياته. وارتكز لبّس على البحث في سيرة عوّاد الذي لم يعرف غير الحبّ وسيلة يجابه بها الموت وكشف الخوف من فقدان الحياة بعدما ظلّ الموت بالنسبة إليه مشكلة وجودية لا حلّ لها. ويختتم لبّس بحثه عبر دراسة «الموت في سيرة ليلى عسيران» وهي التي «صُبغت طفولتها ودُنياها باللون الأسود، لون السقوط والفراغ والموت». ومن ثمّ يوضح الكاتب عبر الفصل الثاني «الحبّ في سيرة ليلى عسيران» كيف أنّ الحبّ في حياتها جاء نتيجة مباشرة لتجربة الموت المبكرة، بمعنى أنّ معاناة ليلى عسيران في معاركها المتتالية مع «عدوها اللدود» (الموت) دفعتها للبحث عن طريق آخر قد يُبلسم جراحها ويُنسيها مكابدتها ويُلوّن حياتها التي صُبغت بالأسود. ويستخلص الكاتب في خلاصته أنّ ليلى عسيران كتبت سيرتها «شرائط ملوّنة من حياتي» نتيجة فقدان أبيها ورحيل ابنها.
في هذا البحث الأدبي الذي بلغ نحو 466 صفحة، استطاع الكاتب أن يتوصّل إلى حقيقة إنسانية وأدبية في هذا المجال مفادها أنّ ليس من حياة تخلو من حبّ وموت، وبالتالي فليس هناك سيرة تخلو من حبّ وموت. لذا، فإنّ علاقتهما الباطنية عميقة وليس كما يتبيّن لنا في ظاهرهما، هذا فضلاً عن أنّ هناك امتزاجاً - بحسب رأي الكاتب - بين نزوة الحياة ونزوة الموت من خلال ثنائية الساديّة والمازوخيّة. وكما أنّ الحبّ يعيش صراعاً دائماً مع الموت، وهذا ما يُكرّسه نجيب محفوظ في «أصداء السيرة الذاتية» عندما يقول: «أشمل صراع في الوجود هو الصراع بين الحبّ والموت»، فإنّ الحبّ والموت تجمعهما علاقة «تحالف وتكافل» أيضاً لأنّهما الحقيقتان الكبيرتان في هذه الحياة. وهذا ما يؤكدّه محفوظ نفسه في سيرته قائلاً: «جوهران موكلان بالباب الذهبي يقولان للطارق: تقدّم فلا مفرّ، هما الحبّ والموت».

مايا الحاج عن الحياة

ايوب صابر 06-01-2012 04:41 PM

http://www.elrayyesbooks.com/Catalog...raphy/S-1A.GIFشرائط ملونة


ليلى عسيران

ليلى عسيران في «شرائط ملونة» ترتدي أقنعة وتخلع أخرى. وهي قلقة دائماً وحائرة في جميع الأحيان. الحياة، الموت، السعادة، الجنس. محطات في طفولة وشباب ونضج وما يصاحب ذلك من هوى ونزق وجنون وأسى ولوعة.

ايوب صابر 06-01-2012 09:56 PM

غاب طائر القمر .. ليلى عسيران
http://www.mnaabr.com/vb/images/blank/blank.gifhttp://www.mnaabr.com/vb/images/blank/blank.gifhttp://www.mnaabr.com/vb/issues/imag...2587/c1-n4.jpghttp://www.mnaabr.com/vb/images/blank/blank.gif

يقظان التقي
غابت امس ليلى عسيران في تجريب نهائي للموت واغلقت على صومعتها وعزلتها وآلامها القاسية.
رحلت المرأة الشفيفة، المرهفة والملتزمة، امرأة المدينة قاطفة الاحلام والاصرار ومراجعة غموض الاشياء ووجع الاعماق.
مغامرة اخرى في التواري والاختفاء لرائدة نسوية، طليعية حققت منزلة متقدمة في الرؤية اللبنانية في الستينات كما في كتابة القصة، والمقالة، وحفرت عباراتها انيقة في دائرة من اشعاع، وهي تتسلل الى بيروت القديمة، وارتسامات الذاكرة، واسترجاعات الطيور الحالمة، طيور القمر.
رحلت امرأة الآلام والكبرياء والشفق والآلام، رفيقة لحظات بيروت الاستثنائية، مضت في تجربة الموت الى الاقصى، هي التي جعلت من كتاباتها قضية.
هي اكثر من كاتبة وروائية وقاصة، هي توأمة المدينة، عاشتا معاً توأمية المرارات العالية، والغيبات المبكرات وعبث الحرب، ومجهول الغياب وانواع الفواجع، والحزن، والخوف. توأمية متشابهة في مساءلة رافضة للموت.
امرأة المدينة، عاشت في ظل تفتح التجربة الادبية والمسرحية والسياسية في الستينات، وعلى كل ما هو جديد وثوري (القضية الفلسطينية)، ومجهول وكان لها مشروعها المقاوم ثقافياً، وفي الخروج من قيود الواقعية برومانسية وفانتازية. مزجت الادب بالتاريخ والماضي بالمستقبل كبيروتيات تتوالد دائماً من ذاتها.
لها اكثر من عشر روايات، "طائر من القمر" واحدة منها في العودة الى بيروت والالتزام، ولها "حوارات بلا كلمات في الغيبوبة"، في القصة والمقالة، والمقابلات، واللقاءات.
وهي عرفت دائماً كيف تخترق الفجر، وتخترق اعماق عري الليل والموت، وقد عاشت اكثر من مرة ازمة صحية طويلة، وادركتها شتى العذابات، وتبعثر عمرها الادبي رمادياً، وثابرت على الموت مرات ومرات!.
رحلت ليلى عسيران ابنة عائلة كبيرة واصيلة، وزوجة كبيرة ونبيلة بصلة متميزة وبصداقة كبيرة ليست من العاديات مع زوجها الرئيس امين الحافظ ولبيروت الأم بالمشاعر والكلمات.
بغيابها نفتقد طائر القمر، ذلك الشيء الجميل، نفتقد تلك الغمامة الادبية الطويلة ونتحسر على غياب جيل اختصر حيوات مدينة.

ايوب صابر 06-01-2012 10:07 PM


في رده على سؤال من هو الضيف الذي أثر بك ؟ اجاب الاعلامي ريكاردو كرم بما يلي:

كل ضيف صدق وتكلم عن تجربته بصدق وشفافية وتجرد ترك أثر عندي. من بين هؤلاء الضيوف، أذكر بساطة وتواضع الإمبراطورة فرح ديبا ، فلسفة شارل ازنافور ،عمق الأب بيار ،قوة دانيال ميتران ألم ليلى عسيران.

ايوب صابر 06-01-2012 10:21 PM

يتيمة الاب في سن الرابعة

ايوب صابر 06-01-2012 10:55 PM

98- جسر بنات يعقوب حسن حميد فلسطين
قراءة نقدية
رواية (جسر بنات يعقوب) لحسن حميد

١٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٨بقلم نازك ضمرة
خلقها حسن حميد لتنتفخ وتتطور على أجزاء من أمكنة لا مثيل لها على وجه البسيطة، عنق زجاجة فيه نبت وزرع ودفء وماء واختناق، حكاية نمت في غفلة من الزمان ومن أهل الزمان، وكاد الجشع المتلبس بالحلم يحيط بأعناق فئات وأقاليم فتمسخهم أو تنسخهم، وعلى الرغم من محاولات تلك الفئة خلق واقع مدروس على حساب تلك الجماعات الوادعة الآمنة الأصيلة، إلا أن مجريات الأحداث الحبلى بكل المفاجأت تناولتها رواية "جسر بنات يعقوب" لمؤلفها حسن حميد، فتعامل مع دقائق وتفاصيل من حياة يعقوب وبناته، سايرهم ورافقهم في المواقف الصعبة المدعاة، ولمح للمطبات في أحلام شخوص الرواية وأيامهم، وساهم في تمهيد السبيل الصعب اللولبي لتحقيق خطوات ملموسة، وبكل الصبر والأناة معيداً أو حافظاً أو مفنداً لمطالعات متشعبة متضاربة تارة ومتوافقة أحياناً أخرى، اقتبس الكثير من النصوص الدينية من الكتب السماوية كالتوراة والأناجيل والقصص القرآني، وجعل من روايته ميداناً تصول شخوصه فيه وتحوروتتمحور، مستعرضاً كفاءته وثقافته وقدراته وفكره "كان حنا ابناً لعجوزين تقدم بهما العمر كثيراً ، وهما يرجوان الله كثيراً أن يمنّ عليهما بمن يقوم على شيخوختهما في قادم الأيام .. . . " صفحة 17 من الرواية الطبعة الأولى ، ثم مزج ما جاء في القرآن عن قصة مشابهة أو متقاربة على لسان زكريا "قال رب إني يكون لي غلام وقد بلغت من الكبر عتيا"
ثم يسقط قصة التقاط عزيز مصر للطفل موسى على العجوزين وحاجتهما لطفل " لكن العجوزين وفي ذات صباح مبكر استيقظا وهما ممددان في فراشهما على بكاء طفل صغير، هو ابن يوم أو يومين يبكي بصوت عال ومتواصل" صفحة 18 ثم وربما جعل من روايته ليدحض أو يثبت بعض مقولات وحكايات توارثتها أجيال وأتباع أديان تحاول إعادة دورة الزمن وعجلاته آلاف السنين للوراء، فصاغها بأسلوب معاصر يلامس حاجة الإنسان العربي عامة والفلسطيني خاصة سواء العربي المهزوم من الداخل أو من استطاع أن يبقي نور الثقة في نفسه لمستقبل أجل وأسمى مما يرى آلمرء حوله من أوضاع وضياع، وحسبما يبدو لفكر كاتب الرواية، وأتحوط هنا وأدعو الغير لفحص بعض الانبعاجات في ادعاءت لمستها أو مدخلات قد تعني غير ما يظن القارئ العادي، أو أن الكاتب يريد أن يوحي بها، ومنها هل أراد حسن حميد ان يقول لنا أن أماكن استراتيجية في فلسطين كانت محط أنظار أقوام غرباء من غير أهل فلسطين ولا من ديانتهم ولا من جنسهم، وأنهم حاولوا ونجحوا في إقامة تاريخ وتراث لهم، وعلى الأقل قد يستغل بعض المفكرين من مدعي أرض فلسطين أنهم حصلوا على شهادة مجانية من مفكر عربي مرموق بأحقيتهم وإقامتهم وتوطنهم في فلسطين، واستخدموا كل الأساليب الشريرة والعابثة واللاأخلاقية لامتلاك المكان وطرد السكان، او استغلالهم والاستيلاء على موارد رزقهم، خاصة وأن العيون الزرق والشعور الشقراء وردت في مواضع من الرواية، أو لأنهم شعوب مختار من أرباب لا نعرفها، وهم الأولى والأحق بالثروة والجاه والسلطان والقوة وبمساقط المياه وتحديد المسارات كما قد يوى للبعض عبر قراءته للرواية، أو ان كل ذلك إسقاط وصورة مصوغة بعناية وتأن وتحوطات لما جرى ويجري على أرض فلسطين كتبشير مبكر بأن ما جرى وما يزال يجري لهو مرحلة عابرة برغم القوة والجبروت، وأن عنصر الهدم والفناء مترافق مع وجودها وكامن في أحشائها، ويعمل لغير صالح طغمة الفساد، ولحظة توقف زمنهم قادم لا محالة طال الزمن أو قصر.
هذه الظنون تبرز تحدياً لكل قارئ لرواية حسن حميد ولفكره، قد يتشكك البعض سائلاً وماذا بعد؟ بل وماذا أراد حميد أن يقول لنا، وتلك هي المهمة الصعبة الملقاة على الناقد والمفكر والقارئ العتيد، لكنني أستدرك بأن ذلك يعتبر دليلاً على نجاح حميد على إحياء موتى وتوطينهم وانتعاشهم حسبما تهيأ لهم وحسبما أراد كاتب الرواية وخطط، وكلما ظننت وأنت تقرأ الرواية أن حبل السيطرة أفلت من بين يدي حسن حميد، كلما أثبت لك أنه المسير المدبر المحيي والمميت لأمثال هؤلاء الطارئين، وكما يقول نزار قباني (إن من بدأ المأساة ينهيها) فكلمة السر القادرة على تفكيك هذا الصعود والصمود والتحكم والتعالي لدى يعقوب وعطارة لدرجة الثقة بأزمان آتية مزدهرة وباسمة، في الوقت الذي كانت فيه كلمة سر الهدم مهيأة بين أصابع حسن حميد وبين سطور كتبه القديمة وأوراقه وفي رأسه، وعل طريقة (جزاء سنمار)، وحسب لعبة الوعي، يقول البروفسور فرانك كرمود في محاضراته التي جمعها كتاب بعنوان (الإحساس بالنهاية) نشر دار الرشيد-بغداد " أن أثر لعبة الوعي في عملية صنع العقدة، قد تعفينا من ثقل الزمن بتحدي إحساسنا بالواقع، ولكي نتحرر من الزمن حقاً، لعلنا لا بد لنا من أن نفقد الوعي كليا، أو أن لا نبالي، بشكل ما، يقول أحد الفرويديين المحدثين – إن ما أعتبره كنت Kant الخطوط البيانية للواقع فعلاً، إنما هي في الحقيقة الخطوط البيانية للكبت- ويضيف أحد النفسانيين التجريبيين بأن "الإحساس بالزمن لا يوجد إلا حيث يوجد الخضوع للواقع"، والأدب والتاريخ كما نعرفهما، ليسا كذلك، فعليهما يقع الخضوع والكبت، أرى الآن أن المرحلة التي بلغناها تقتضي طرح السؤال عن مدى ما ينبغي أن يبلغه هذا الخضوع،- أو بعبارة أخرى إلى أي مدى يجوز للمرء أن يستغل الأطر التخيلية- وهو سؤال أثار النقاش حوله بأشكال متنوعة الفلاسفة الوجوديون والروائيون واللاروائيون، وكل الذين يدينون أساطير كتبة التاريخ، "
ربما سبق حسن حميد كثيرون في لملمة حكاية تاريخية أو متخيلة بإضافة تذييل أو تعقيب أو توضيح أو حاشية، لكن حسن حميد جمع كل ما استخدم شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً في روايته (جسر بنات يعقوب)، رواية شدتنا كثيراً في أوائلها وأواسطها، تجعلك تقرأ بنهم وتواصل كي تصل إلى نتيجة كل التفاعلات وحاجات الشخوص لتتواءم وتتلاقى وتنسجم لتحقيق غاية يعقوب والد البنات الثلاث، لكننا نرى أن السارد كان يتدخل أحيانا في تقرير حياة الشخوص فيعطي أحكاماً مسبقة ، تأتي على هيئة أحكام من حكماء ومجربين، وهذا يحسب على النص الإبداعي ، ويعطي هدية مجانية للقارئ لتقدير ما سيؤول إليه الأمر مضعفاً روح المفاجأة ، ومخالفاً سنن الحداثة " لكن الدنيا عبوس حرون لاتدوم على حال" صفحة 24 من الرواية، وبالمقابل نحسب لحسن حميد خياله المحلق في تسامي وكأنه بلا حدود مع قدرته على الصبر لدرجة الإعجاز حتى تحين لحظة عرض التفاصيل لتدل على توحده مع المواقف وإخلاصه في عمله " ولم يدر الاثنان، لا بديعة ولا زوجها كيف تواعدا أن يتودعا قرب ذلك الغدير المسيج بنباتات الجرجير وأعواد القصب ، وأشجار الصفصاف الحانية، ومشاتل الطرفا الكثيفة، فتسابقا، خطوة خطوة، وابتسامة تستولد ابتسامة، وأحاديث تتناوب مع أحاديث إلى أن وصلا إلى الغدير، فارتمى أحدهما قرب الآخر بصخب طفولي جميل على مرج من النجيل الأخضر، وماجا معاً فوق الأعشاب الطرية ، فتلامست الأيدي والأقدام وتعانقت الشفاه" صفحة 26.
وتداهمني هاجس قناعة وأنا أقرأ الرواية أو حتى بعد الانتهاء من قراءتها، بأن حسن حميد قصد أن يوقف حركة العالم ونشاطه ليستمعوا لحكاية (جسر بنات يعقوب) وليقرأوها، ولعب على وتر الوعي والتراث والعمق التاريخي حسبما أراد، فالجهد الكبير والعمل الشاق والساعات الطوال التي أمضاها حميد في تجميع هذه الحكاية ولملمتها من أوراقها المهترئة لهو عمل إبداعي فريد ، ولا شك أنها أرهقته وأقضت مضجعه، وظل مرافقاً للسارد يرافقه أو يتوحد معه على مدى السنوات الطوال يحمل أوراقه ، يسطر ما سمع وما جرى ، ويسود الصفحات الطوال أو يقلب ما وقع منها بين يديه، ولشدة حرصه على تأكيد مواضيع معينة يعتبرها دماء تجري باستمرار في جسد الرواية فإنه يعيد ذكر أسماء بعضها ويكررها دون أن يكون بإمكاننا الجزم إن كان ذلك عمداً أو سهواً.
مكانة المكان في الرواية
ودقائق وصف المكان هي إحدي أهم مميزات حسن حميد في هذه الرواية عل الأقل، فهو ينطق الشجر والحجر والشوك والهواء والملابس، "كان حفيف سراويلهم مسموعاً، وصوت تلاهث زفيرهم واضحاً، ودهس أقدامهم للأشواك ضاجاً وموحشاً، فقد كانت خطواتهم سريعة وواسعة، وكانت الأشواك والنباتات اليابسة تغطي مساحة من الأرض الشاسعة الممتدة حولهم، الأمر الذي جعل سليمان عطارة يقول ليعقوب: بلادنا جميلة ، ستراها في الأيام القادمة" صفحة 150 ، ويجب أن لا يغيب عن بالنا أهمية وقوع جسر بنات يعقوب بالقرب من موقعة حطين، ومن موقع التقاء نهر اليرموك بنهر الأردن، ومن موقع مدينة طبريا التاريخية.
ولأن الكثير من المواقف في الرواية متخيلة تتطلب دراسات نفسية لأن الوصف والأمنيات بعيدة عن عالم الممكن، وهنا نشير إلى أثر النظرية النفسية (الفرويدية) في دراسة الظروف المحيطة بالكاتب أو السارد وحاجة المكان والزمان إلى إشغال النفس والعقل ببواطن أمور غير ملموسة ولا مثبتة، بل تتطلب تفهم الموقف والأهداف وما وراء السطور وما يين الكلمات من نوازع وعوالم خفية تؤثر على الشخوص والأحداث ويجب أن نعترف أن رواية حميد هي مجال خصب للنظريات النقدية في معظمها وخاصة النظرية التاريخية والنفسية والواقعية، وحتى الرومانسية، وحتى البنيوية والتحليلية والتركيبية، وبخبرته الواسعة في الكتابة وسيطرة هاجس الكتابة عليه في حياته الطويلة ملتزماً ومواظباً جعل روايته تتلون وتتزين وتجمع معظم مفاهيم المدارس النقدية الحديثة وتمثيلاتها، فدراية حسن حميد وخبرته الطويلة في كتابة القصة والرواية والنقد ومعظم المواضيع الأدبية والسياسية والتراثية جعلته شديد الحرص على توصيل أقصى ما يستطيع من مدخلات وإشارات وترميزات وتفاصيل عما يريد الناس أن يحفظوا عنه أو يعرفونه،
ونذوه إلى أن حسن حميد استعمل الكلمات المحكية وربما العامية في مواقع كثيرة من الرواية، وقد يبدو فهم ما أراده صعباً على غير أهل الشام وفلسطين، مثل (بلعوا ألسنتهم) ص 69 ومثل مفردة (لايطة) وتعني منزوية أو شبه مختبئة صفحة 116 ، و (إسوارة) بدلا من إسورة أو سوار، وكذلك (ودعيني يا بنتي، واشبعي من رؤيتي) فالمفروض أن تكون يا إبنتي، صفحة 32 ثم الاستجداء من الآخر لأن يشبع من رؤيته هو كلام محلي لو ترجم إلى لغة أجنبية أسيئ فهمه.
لكننا نؤكد أن إخلاص حميد في هذا العمل الأدبي الفني، والانعماس فيه لدرجة التوحد، لهو إنجاز حسن من حسن حميد، فالأجواء التي أفلح المؤلف في تخيلها تنقلنا نحن القراء إلى حيث الزمان والمكان التي تتنامى فيه حكاية (جسر بنات يعقوب)، ويتمنى كل قارئ أثناء انغماسه بتفاصيل أحداث الرواية المشاركة والإدلاء برأيه، وبدلاً من أن نحاول الإمساك بدفة قيادة السرد ومسايرته، نجد انفسنا منقادين إلى حيث ينقلنا السارد بعقلانيته وثقافته وشباكه إلى القرن الرابع عشر أو الخامس عشر لنشاركه تفاصيل حياة مخلوقات قصته، وتصدمنا المفاجآت أكثر بكثير مما يبدو بين سطور الكتابة المكرسة، وأكثر مما أثر على نفسيات شخوص الأحداث الغريبة والتي تجعلنا نكاد نصدق مجرياتها الخوارق فيها، مع أننا ندرك قبل البدء بقراءتها أنها من نسج خيال إنسان معاصر في القرن الواحد والعشرين، حيث وسائل الاتصال والرفاه والجريمة والحب والحروب والثراء والغذاء تسابق حدود قدرات المرء على وصفها، ففي اعتراف مرجانة الأول تقول: "أحسست بتلاحم الأكف والأصابع والأذرع والخدود والأنفاس والشفاه والشعر، كان كالحمى، وكنت في هيجان، وشعرت وإياه بأن الدنيا وسعادتها متختزنة بهذه الوقفة، خلف حاكورة الدار، وقرب السياح، وبعيداً عن الناس والكلام والطعام والشراب، بعيداً حتى عن الهواء" صفحة 55 من الرواية نعلم أن كل تلك المبالغات لا يمكن أن تكون حقيقية أو ربما غير ممكنة، لكن أسلوب الكاتب المتصاعد والمتنامي مع حاجة الإلحاح التي يتطلبها الموقف تجعله يستعمل لغة مطولة، ومرادفات ومعاني متقاربة لتوصل شدة التفاعل الذي يحسه السارد بأمانة مع نفسه وموقفه،
أما الأسلوب الجديد الذي أدخله حسن حميد على نمط الرواية المحدّثة فهي كثرة استعمال الحواشي والتذييلات والاعترافات في عناوين منفصلة، لتؤكد للقارئ مرة أخرى تركيز الكاتب على المواضيع التي يريدها أن ترسخ في أذهاننا حتى يشتد تواصلنا معه، وتكون أساساً صلباً لتحمل صدمة النهايات، وربما أراد مثل تلك العناوين الفرعية لفت نظر القارئ لإبقائه ماسكاً بحبل القص والمتابعة بعيداً عن الملل بسبب الإطالة التي كان يلجأ كاتبنا حميد إليها، وفي أماكن عدة من الرواية.، ثم إن تلك العناوين الفرعية تشكل أعمدة قوة لتماسك روايته التي أرادها حسن حميد معقدة وفي نفس الوقت جاذبة ، تلك التفاصيل الكثيرة المنفصلة عن تتابع الفصول العادية ستكون عوناً لكل منتج أو مخرج سينمائي أو مسرحي أن يجسد القصة دون عناء ، فعمد حميد إلى تيسير الأمر ليجد كل ما يلزمه لإظهار عمل فني كاملاً غير منقوص. والكاتب كان موفقاً في إقناعنا بوجهات نظره في الحياة التي تخيلها، وفي الحب والعلاقات عبر تداخل فلسفته ضمن حبكة القص فلا يفرض آراءه بطريقة تعليمية أو توجيهية أو مقحمة أو إخبارية، ففي اعتراف مرجانة الآخر تقول: "لكنني لم ألمح وجه برهومة، ولا روح برهومة، أنفاسهم كانت مختلفة جدا،، أجل الأنفاس، هي من يميز الواحد من الآخر، الأنفاس هي كل شيء، كل شيء " صفحة 56، وسواء قصد الأنفاس اللاهبة او الناطقة او الهامسة أو المعطرة أو الكريهة فكل ما يعبر عنه الإنسان لا بد أن ترافقه الأنفاس.
، ففي لحظة ظنها خلف يعقوب من بنات وأصهار وطامعين وعابثين أن الزمن استقر لهم وأصبح ملك أيديهم، لكن النهايات كانت ملازمة ومنبثقة ومتصاعدة مع البدايات، إذ سرعان ما تهدم كل ما تراكم على وهم وأسس من أحلام وطمع ولا أخلاقية، وأقفر المكان ثانية لتعود طمأنينة البطء والتطور إلى مسارها الطبيعي، وتنفس الناس الصعداء في قرية الشماصنة وفي ما جاورها من الديار "بدا كل شيء مثل الحلم، أوالكابوس الطويل ، حلم له متعه ومخاوفه، منجم واكتشف تماماً، ولم يبق منه سوى الحجارة السوداء والمقبرة ، وآثار الخطى التي مشت تلك الدروب، منجم لم يصرف أهالي الشماصنة عن مواصلة الحياة قرب النهر، وفي السهول والأودية مع الماشية والأرض والطواحين ومعاصر الزيت، وكأن ما حدث لم يكن مطلقاً أو لكأنه لم يحدث أصلاً" صفحة 278 من الرواية. وينتهي تواجد كل من كان له دور في الحكاية إلى العدم ، وبحال أسوأ من البدايات، ودون تحقيق أي مكسب لأي من شخوص الحكاية، بل دلت الدلائل والأحداث أن المشروع وأهله وكل من ساهموا فيه آلوا إلى زوال.
أحيراً لا بد من كلمة منصفة تحسب لحسن حميد، فخياله الجامح يكشف نا عن مدى عمق ثقافته وتنوعها، بل وعلى قدرته على الخلق والإبداع، " فعلى الرواية أن تعدل من الأطر الخيالية وتحورها، بتنظيم أوساط شاملة منسجمة مع الأصول البعيدة والنهايات التي يمكن التكهن بها، بحيث تحافظ على اختلافها عن الاحتلام، أو أية طريقة أخرى لتحقيق الإشباع" وكأن حسن حميد يزرع ويؤسس لخلوده، وخلود الإنسان والمكان وربما لمدينة فاضلة في رأسه، وهذا يضع على كاهل كاتب الرواية حملاً ثقيلاً، وتحدياً جديداً ليتفوق على نفسه في عمل لاحق، وبعد فإننا ننتظر جديد حسن حميد أملاً أن يكون صعوداً

ايوب صابر 06-02-2012 02:39 PM

حسن حميد

كاتب قصة ورواية من فلسطين، يعيش في سورية.
عضو اتحاد الكتاب العرب ـ سورية.
رئيس تحرير جريدة الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في سورية.
إجازة في الآدابـ قسم الفلسفة وعلم الاجتماع 1980.
دبلوم تربية عامة 1981
دبلوم دراسات عليا في التربية 1982
ترجمت بعض قصصه ورواياته إلى اللغات الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والفارسية، والصينية، والأرمنية.

الأعمال الأدبية المطبوعة
اثنا عشر برجاً لبرج البراجنة ـ قصص
زعفران والمداسات المعتمة ـ قصص
ممارسات زيد الغاثي المحروم ـ قصص
طار الحمام ـ قصص
دويّ الموتى ـ قصص
السَّواد ـ رواية
هناك.. قرب شجر الصفصاف ـ قصص
مطر وأحزان وفراش ملوّن ـ قصص
أحزان شاغال السَّاخنة ـ قصص
قرنفل أحمر.. لأجلها ـ قصص
حمّى الكلام ـ قصص
جسر بنات يعقوب ـ رواية
تعالي نطيّر أوراق الخريف ـ رواية
ألف ليلة وليلة ـ دراسة
البقع الأرجوانية ـ دراسة
المصطلحات ـ المرجعيات ـ دراسة الأدب العبري
كائنات الوحشة ـ قصص
الوناس عطية ـ رواية
أنين القصب ـ رواية

ايوب صابر 06-02-2012 02:44 PM

."حسن حميد": الأديب يولد ليكون أديباً

الخميس 17 كانون الأول 2009



خرج منها ليحمل أدبه كل المعاني والدلالات التي تشير إليها، المعاناة التي رافقته منذ الطفولة، حمل تفاصيلها على تقاسيم وجهه، وأظهرها جلياً في أعماله الروائية التي عبرت عن وفاء الابن البار لقضيةٍ أثقلت كاهله، ليكون واحداً من رواد الرواية العربية.
http://esyria.sy/sites/images/damasc...7_12_35_58.jpg
الأديب الدكتور "حسن حميد" في لقاء مع موقع eDamascus تحدث عن مسيرةٍ أدبيةٍ بدأت منذ نعومة أظفاره فكان الحوار التالي:

* بداياتك الأدبية كانت مع الشعر، ثم تحولت إلى القصة القصيرة فالرواية، ما السبب في ذلك؟

** كانت معيشة الطفولة في كنف جدّاي لأنني الولد البكر، ومن جدتي تعلمت فن الحكاية والإصغاء، والقص والوقف والتحييد، والإقصاء والاستدارة وما فات من حدث، البداية كانت شعراً في المخيمات في غياب الآباء الذين أخذوا على عاتقهم العمل الفدائي، كان الظرف ملائماً للكتابة الشعرية في ظل طقوس "الأربعين" الذي يقام تخليداً لذكرى الشهداء لتلقى القصائد والكلمات، حرصت أن أكون أحد شعراء المخيم البارزين، لكن الجانب السردي الأدبي الذي ميز قصائدي جعلني أتنحى عن كتابة الشعر إلى القصة القصيرة، لكن انفجار بركان الويلات والأحزان والطاقات الكامنة جعلني أتحول إلى الرواية، فكانت روايتي الأولى تتحدث عن أهالي الريف الفلسطيني .......... وأسميتها "السواد".

* يرى القارئ في أعمالك تتابعاً لأحداث متسلسلة، كيف عملت على ذلك؟

** كما ذكرت، "السواد" كانت مع خروج الاحتلال البريطاني وبداية تهويد الأرض، كذلك كانت رواية "تعالي نطيّر أوراق الخريف"، قدمت من خلالها أساسيات نشأة المخيمات فصورت المعاناة في مخيم "جرمانا" بوصفه شبيه كل المخيمات، صورت المعاناة واجتماعات الأهل على أحزانهم وآلامهم وحكاياتهم، تتضمن الكثير من الثنائيات والتمازج بين ما هو اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي، ثم جاءت "الوناس عطية" لتشير إلى خمسينيات القرن العشرين والمناخ الفلسطيني الشائع في كل بيت، أخذت تمثيلاً مدينة "دمشق" راعية أهل التصوف، وحالات اجتماعية مثل "القبضاي"، وثنائيتين بين "أبي الحسن" قاطع الطريق و"أبي الحو" المتصوف، ومنهما كونت حالة الضد والضد، وحالة الحب والحب، والحب والكراهية.

* يقال أن كبت المعاناة يفجر الطاقة ليولد الكاتب، فما رأيك؟

** لا أؤمن إلى حدٍ بعيدٍ بهذه المقولة، فالأديب يولد ليكون أديباً، صحيحٌ أن الضغط يولد الانفجار لكن ليست كل معاناةٍ تفجر الطاقات، ولا كل أديبٍ ابن المعاناة، ولو سلمنا بصحة ذلك لكانت ملاجئ الأيتام أهلاً لتخرج الأدباء والتشكيليين والموسيقيين، عشت المعاناة بكل صورها بؤساً وشقاءً، كنا نتبع التعليم في المدرسة في سبيل الخلاص من البؤس وأصبحت معلماً وأنا أعيش في خيمتي، لكن بذور الموهبة الأدبية بدت جليةً منذ الصغر وطورتها حتى أصبحت على ما أنا عليه الآن.

* لكن "أنين القصب" و"دوي الموتى" و"طار الحمام" و"السواد" أسماءٌ لرواياتك تحمل البؤس عنواناً؟

** لم أقل أن هذا القول هو الفصل، لكنني حينما أتحدث عن أي عملٍ فأنا أعالج موضوعاً بعينه، "دوي الموتى" تتطرق إلى حالة المقبرة الفلسطينية التي تتميز عن مثيلاتها في سائر العالم، فعندما كبرت وأصبحت أكبر من المخيم، ولأن تشييع الشهداء يتم كل يومٍ فقد أصبحت سوقاً يستجدي منه الباعة الجوالون رغيف الخبز، كما لو أن المقبرة من تطعم الناس، لذلك كان لها الفضل كونها حالة اقتصادية، لكن عند غياب الشهداء فقدت رونقها وانفض الباعة، وأصبحت مكاناً موحشاً كغيرها من المقابر لا تطأ أرضها قدم، في كل روايةٍ حالةٌ أو حالاتٌ تعالج، وعندما تفكر في إغلاق الرواية فأنت تغلق على أفراد تئن من جروحها، وتصرخ من آلامها، أناس لديهم آلام، فهذه الروايات يقطر منها الدم والحزن والعويل وبكاء الأمهات.

* انتقالاً للجانب النقدي، توصف بعض أعمالك بالمباشرة والتقريرية خاصةً "الوناس عطية" في ظل الغياب الزمني والمكاني، فماذا تقول؟

** على العكس، فأنا أتهم بانتهاج الأسلوب الشعري الشاعري المتعلق بالغموض شديد الصلة بالخيال، وأعمل على فرض الإيهام الواقعي لحيزات قد لا تكون موجودةً لكنني أقوم بإقناع القارئ بوجودها، "الوناس عطية" تتحدث عن مديني "دمشق" و"القدس" كمكانين مدركين بينهما أشواقٌ وتطلعات، حتى إن تلك الفترة كانت تسمح بالتنقل بين المدينتين.

* حدثنا عن دراستك "البقع الأرجوانية في الرواية الغربية"..

** لم يكن لدي شغف البحث في الأدب والتاريخ الأدبي، لكن ومن خلال مطالعاتي لبعض التجارب لعدد من كتّاب الرواية العالميين وجدت أن فخ التقليد يوقع الكاتب العربي في شباكه، فعملت على وقف إطلاق الأحكام والابتعاد عن تقييم هذه الأعمال وإطلاق الحكم كقارئ، لكن المفاجأة الكبرى كانت في الرأي المخالف لما اتفق عليه الأدباء خلال نصف قرنٍ من الزمن في أعمال "كافكا" و"جيمس جويس" و"سرفانتس" و"تولستوي" و"مارسيل بروست"، فما قيل عن "كافكا" بشيوعيته وكرهه للصهاينة كان الرأي الخاطئ من خلال كشف سيرته الذاتية كمفاتيح لبيان مشاعره ودفاعه عن فكرة "هرتزل" بالخروج من أوروبا والبحث عن الوطن الجديد الذي يمثل فلسطين، أما "جيمس جويس" في "فيغوليس" الرواية التي وصفها أدباء الغرب بأنها أهم مفاصل التاريخ الروائي، فوجدت أنها تتحدث عن الصهيونية، ليس لأن أبطالها هم من اليهود، بل لأنها تتحدث عن الحنين للأرض الفلسطينية بصفتها أرض الميعاد، كما أراد الكاتب تمجيد شخصية "بلوم" اليهودي لتكون كشخصية "بوليسيس" البطل الأسطوري اليوناني وهذا شديد الخطورة، كما تناولتُ الأعمال الأخرى على السوية ذاتها.

** الأديب في سطور:

* ولد "حسن حميد" في "كراد البقارة" في فلسطين عام /1955/ وتلقى تعليمه في" القنيطرة" و"دمشق" وتخرج في جامعتها حاملاً الاجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع ودبلوم الدراسات العليا ودبلوم التأهيل التربوي‏، ثم نال الاجازة في اللغة العربية‏ من جامعة "بيروت العربية"‏، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة بيروت العربية بدرجة امتياز شرف .

عمل في الصحافة الأدبية كأمين تحرير في جريدة "الأسبوع"، وهوعضو جمعية "القصة والرواية"، وعضو مكتب تنفيذي في اتحاد الكتاب العرب، ورئيس تحرير مجلة "الموقف الأدبي".‏

من مؤلفاته:‏

- اثنا عشر برجاً لبرج البراجنة - قصص ‏

- السواد أو الخروج من البقارة - رواية ‏

- تعالي .. نطيـّر أوراق الخريف - رواية ‏

- ألف ليلة وليلة - شهوة الكلام - شهوة الجسد

- جسر بنات يعقوب - رواية

- أنين القصب - رواية‏

- البقع الارجوانية في الرواية الغربية.. وغيرها.

ايوب صابر 06-02-2012 02:45 PM

حسن حميد

روائي و قاص

ولد في كراد البقارة (صفد-فلسطين) عام 1955.



تلقى تعليمه في القنيطرة ودمشق، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الاجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع، ودبلوم الدراسات العليا ودبلوم التأهيل التربوي، ثم نال الاجازة في اللغة العربية من جامعة بيروت العربية. عمل معلماً في دمشق، كما عمل في الصحافة الأدبية كأمين لتحرير في جريدة الأسبوع الأدبي.عضو جمعية القصة والرواية.
حاز على جائزة نجيب محفوظ للابداع الروائي العربي عن روايته
تعالي نطيّر أوراق الخريف عام 1995 .
وحاز على الجائزة نفسها عن روايته جسر بنات يعقوب عام 1999

1-اثنا عشر برجاً لبرج البراجنة-قصص- دمشق 1983.

2-ممارسات زيد الغاثي المحروم- قصص- دمشق 1985.

3-زعفران والمداسات المعتمة- قصص- دمشق 1986.

4-دوي الموتى- قصص- دمشق 1987.

5-طار الحمام- قصص- دمشق 1988.

6-السواد أو الخروج من البقارة- رواية- دمشق 1988.

7-أحزان شاغال الساخنة- قصص- دمشق 1989.

8-قرنفل أحمر لأجلها- قصص- دمشق 1990.

9- مطر وأحزان وفراش ملون- قصص- دمشق 1992.

10-تعالي.. نطيّر أوراق الخريف- رواية- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1992.

11-هنالك.. قرب شجر الصفصاف- قصص- دمشق 1995- اتحادالكتاب العرب.

12- جسر بنات يعقوب- رواية - دمشق 1996- اتحاد الكتاب العرب

13- ألف ليلة وليلة - شهوة الكلام - شهوة الجسد - دراسة - دار ماجدة - اللاذقية -1996

14- حمى الكلام - قصص- دمشق 1998 - اتحاد الكتاب العرب

15- البقع الأرجوانية في الرواية الغربية- اتحاد الكتاب العرب- 1999.

ايوب صابر 06-02-2012 02:46 PM

حوار مع الأديب الفلسطيني حسن حميد

مؤلف رواية " أنين القصب"
دمشق ـ وحيد تاجا
حسن حميد كاتب قصة ورواية معروف في الساحة الثقافية, وتثير كتاباته الكثير من الأسئلة والجدل في المشهد الثقافي, صدر له العديد من المجموعات القصصية والأعمال الروائية. حاز على العديد من الجوائز الأدبية في سورية ( جائزة اتحاد الكتاب العرب , وجوائز الصحف , وجائزة البتاني 00الخ ) والوطن العربي ( جائزة محمود تيمور ,وسعاد الصباح 00الخ) وجائزة ثالثة للقصة العربية في ألمانيا 00
التقيناه وحاورناه حول بداياته وحول تعلقه بالمخيم الفلسطيني وتطرق الحديث إلى المشهد الثقافي الفلسطيني بشكل عام.

س1-استطعت خلال فترة وجيزة بناء اسم له خصوصية في الساحة الثقافية السورية؟..
ج1-يظنّ الكثيرون أنني جئت أدبياً مع العاصفة، أو مع المطر الموسمي، أو مع الطائرات النفاثة. وهذا الظنُّ ظنٌّ وحسب، وذلك لأنني عملت عملاً طويلاً على نصي الأدبي في عزلة تعلّمتُ أسرارها من شيوخ الزوايا، والعارفين بصفاء العزلة.. كي لا يخرج هذا النص عبوساً، أو شائهاً، أو ناقصاً.
ساعدتني فضيلة الانتظار والصبر على إنضاج نصوصي تماماً مثلما كانت أمي تنضج الأرغفة في (فرنيتها) الصغيرة، وأنا الذي ساهرتها ليال طوالاً وهي تعجن عجينها، كنت أشفق عليها وهي تدعك العجين وتقلبه، ثم ترشه بالماء، ثم تمدده، وتطويه.. تعيد وتعيد وأنا الذي كنت أظن أن العجين يصير عجيناً حالما يذوب الطحين، وحالما يختفي لونه الأبيض.
أمي علمتني الصبر على العمل، وطرقه، وتقليبه على وجوهه قبل القذف به إلى (الفرنية). دائماً كانت تكرر أمامي من المعيب أن يخرج الخبز (عويصاً).. لذلك من البداية قلت من المعيب أن يخرج النص الأدبي (عويصاً). وقد ازدادت قناعتي أكثر بدور النصوص وأهميتها انطلاقي من إيماني العميق بعدالة قضيتي الفلسطينية، فهذه العدالة الواضحة لا تحتمل أية شائبة أو نقص.
لهذا.. لم أكن في ظهوري نبتاً (شيطانياً) لا سمح الله، وإنما كان نبتاً طبيعياً جداً، فقد أنهيت دراستي الجامعية دون أي سعي في مجال الكتابة والإبداع،مع أنني كنت أقرأ وأكتب وأراقب الحراك الثقافي والإبداعي، كما كنت أقايس نصوصي مع النصوص التي أقرؤها منشورة في الصحف والمجلات والكتب التي كانت تصل إلى يدي (على الرغم من ضيق ذات اليد).
س2- من الذي أخذك إلى الكتابة، من أغراك بها؟!..
ج2-صحف ومجلات المقاومة الفلسطينية هي التي أخذتني إلى الكتابة، هي التي وعتني بأهمية الكتابة ودورها. وذلك لأننا كنا في المخيم، نحن الطلبة القرائين، نهّرب صحف ومجلات المقاومة إلى بعض الأمكنة، وبعض الأشخاص، وبعض الجهات على جلودنا، تحت قمصاننا، تلك السرانية في الحرص على المجلات والصحف بعيداً عن عيون أهلنا، أولاً، والآخرين ثانياً هي التي جعلتني أتنبه إلى أهمية الكلمة ودورها، إلى أهمية الكاتب ودوره في الحياة، وقد تمنيت أن أصبح مستقبلاً كاتباً يظهر اسمه إلى جانب مقالاته على صفحات المجلات والصحف، ويصير من هم أصغر مني يهربون ما أكتبه تحت قمصانهم (العرقانة صيفاً)، والمبللة بالمطر شتاءً). تلك كانت الشرارة التي صارت غبطة لي وأنا أقرأ قصائدي الأولى، وقصصي الأولى على أسماع أبناء مخيم جرمانا. كم كانت تلك الأيام نادرة..
س3-نادرة لماذا؟!.. وأنا أعرف بأنها كانت صعبة وقاسية؟!..
ج3- نادرة.. لأنها كانت احتفالاً. فالمخيم المشغول بغبار الصيف، وريح الصيف التي تقتلع الخيام يومياً، في الليل والنهار، وبوحول الشتاء وأمطاره، والمشغول بالجرحى، والأسرى، والشهداء، والأخبار الجارحة المؤسية.. كان يهبُّ فجأة للاحتفاء بمولد شاعر أو أديب، أو موسيقى، أو أستاذ، الخ.. لذلك كنت تجد في أمسية المخيم الأدبية حضوراً كبيراً من الأميين أو المهمشين الذين لا يعنيهم الشأن الثقافي. كانوا يجلسون بانضباط التلاميذ في المدارس ليسمعوا الشعر. كانت الأمهات يزغردن لأبنائهن الشعراء أو القاصين حين تضج قاعة المخيم الوحيدة بالتصفيق لهم. وقد كانت أمي أمية من بين هؤلاء النسوة.
س4-ألهذا.. كتابتك علوقة بالمخيم وأهله.. وأحداثه؟!..
ج4-المخيم كائن مكاني عجيب غريب، قد لا يشبه كائن مكاني آخر في العالم. فهو مكان استثنائي طارئ وبديل عن المكان الأصلي الطبيعي (الوطن)، لذلك فهو مكان معلون بمعنى من المعاني، ومكان مكروه لأنه بديل عن الوطن، لا يشبهه في شيء. ولكنه من ناحية ثانية هو مكان حميم، مكان حفظ لنا الهوية، حفظَ لنا اجتماعيةَ الناسِ، والحكايات، والتراث،والأحداث، والأخبار، والمساءات، والمسرات القليلة.
المخيم مكان له فضل علينا نحن الفلسطينيين من حيث إنه (انتي بوتيك) المضاد ضد الإذابة، واللا جدوى.. فكل ما فيه يذكرك بالوطن (فلسطين).. وإن كان ذلك على نحو مناقض، فهو مكان لا حدائق فيه، ولا موسيقا، ولا طيور، ولا ساحات، مكان مكتظ كأعشاش العصافير، مكان لا جذور له. هذه القحولة، هذا الجفاف، هذا العبوس.. يذكرنا بقوة.. بفلسطين بلد البساتين، والبيارات، والأنهار، والسواقي، والسهول، والروائح الذكية، والتاريخ المتجذر في أعماق أعماق الأرض.
أنا علوق بالمخيم عشت فيه، وتربيت على مشهدياته، وأخبار أهله، عرفت أزقته وبيوته الواطئة التي يتكئُ بعضها على بعضها الآخر، بيوته التي تبيت وحيدة في هجعات الليل. وعشت طقوسه.. طقوس الولادة، والمرض، والختان، والأفراح، ومشهديات الموت التي اختصت بها مقبرة صارت أكثر اتساعاً من بيوت
المخيم نفسه. لذلك جاءت كتابتي علوقة بالمخيم وأهله ودلالاته الفلسفية.. فالمخيم مكاني الطارئ الذي ما زلت أعيش فيه وأتعلم منه، والمخيم مكاني الذي يأخذني إلى مكاني الأول، مكان أجدادي.. حيث تركنا بيوتنا مكرهين تحت الحراب وهي ملأى بضحكات أطفالنا، ونداءات أمهاتنا، ووقع عصي جداتنا وأجدادنا.. تماماً مثلما هي خوابينا ملأى بالعسل، والزيتون، والزيت، تماماً مثلما هي مساجدنا ملأى بالصلوات، وكنائسنا ملأى بالإيقونات.. ومثلما هي ملأى بالغدران، وتحليق الطيور، ورنين أجراس قطعان الماشية؛ ذلك الغنى الساحر تُذكرنا به جفافيةُ المخيم.
س5-لكأنك تحاول التأريخ للمخيم؟!..
ج5-بلى، المخيم ليس إلا لحظة في تاريخ الشعب الفلسطيني الموغل في القدم. لنا تاريخ عمره 6000 ستة آلاف سنة، وعمر المخيم (وقد صار مديداً) هو خمسون سنة، إنه ليس سوى تلويحة سريعة لا تثير الاهتمام لولا حرارتها، وفداحة الظلم الذي أوقعته الظروف علينا.
أؤرخ للمخيم لقناعتي بأنه زائل. سيصير [عندما نؤوب إلى قرانا ومدننا في فلسطين]، مجرد متحف مكاني يدلل على وجودنا الذي كان في ظل الإرهاب الصهيوني. سيصير المخيم متحفاً يزار من قبل الآخرين، سيأتون إليه ليروا أية حياة صعبة عاشها الفلسطينيون صغاراً وكباراً نساءً ورجالاً، وأية مكابدات تحمّلوها من أجل العودة المنشودة.. كيف أسسوا بيوتهم، ومقابرهم، ومدارسهم، وكيف تناقلوا تاريخهم جيلاً بعد جيل.
س6-وهل ساعدتك الرواية على القيام بمهمة التأريخ؟!..
ج6-الرواية بالنسبة إليّ َهي الجنس الأدبي الذي ساعدني على كتابة ما أريده تاريخياً، حقّبت للجروح الاجتماعية التي خلّفتها علة (الفقد)، وللبيوت البسيطة جداً التي سترت أهالي المخيم كالأثواب، والتي لولا الحياء الاجتماعي لذابت اهتلاكاً. الرواية سمحت لي بالعودة إلى الماضي البعيد لتدوين المشفوه الذي كاد يندثر بموت عارفيه.
س7-في ضوء اهتمامك بالمخيم.. أشعر بأنك لم تهتم بما هو خارج المخيم.. هل هذا صحيح؟!..
ج7-كتبت عن المخيمات باعتبارها مفصلاً أساسياً في حياة الفلسطينيين ومأساتهم في آن معاً، فهي أشبه بالمسافر الذي يقف بمحاذاة الطريق انتظاراً للحافلة التي ستأخذه إلى هدفه الذي نقشه داخل صدره. فالمخيمات كائنات مشدودة إلى موضوعة الانتظار، والانتظار مهما طال يظل انتظاراً ثم يذوب.
.. مع ذلك فأنا لم أقف عند عوالم المخيمات وأحوال أهلها فقط، وإنما كتبت في تجليات عديدة للقضية الفلسطينية، مثل من هو (الآخر)، وأي حوار يدار معه؟! ومن هو (العدو)، وكيف نفهمه؟!.. وهل هو كتلة موحدة في أهدافها وغاياتها؟ ثم إنني كتبتُ في أمور وقضايا إنسانية عديدة تحضّ الفرد في مشاعره وهو يواجه انحدار القيم واهتلاكها، وأحوال الاستهلاكية والهشاشة ورواسبها. الكاتب إنسان يرى، ويشعر، ويدرك، ويتحسس ما يواجهه في الحياة، ولكن من حقه أن يتوجه بكليته نحو المحرق الأساسي الذي يهدد مصيره، وتاريخه، وحياته، ومستقبله.. لهذا كان لابدّ لي من أن أعطي قضيتي الفلسطينية كل ما وهبني إياه ربي من قدرات على الكتابة، وتوظيف ثقافتي ومعارفي لبيان عدالة قضيتي في زمن يصحّ به أن داخل الرأس.. ثم تتم الكتابة على عجل دون معرفة بالخطوات المطلوبة. القصة القصيرة (مثل القصيدة مثل الأنهار) تحفر مجراها دونما تفكير عميق، تبدأ بالاندفاع، وكلما كانت الكتابة قريبة من لحظة التفجر الأولى كانت القصة أقرب إلى الولادة الطبيعية، أو قل أقرب إلى الظهور. والعكس صحيح. فكلما تباطأت الكتابة وابتعدت عن لحظة التفجر انطفأت الرغبة بالكتابة أو العودة إليها أو الشروع بها.
في الكتابة الروائية، الأمر مختلف جداً، هنا لابدّ من التخطيط، والتأمل، وتنسيق الأفكار، والتسلسل المنطقي للأعمار، والأجيال، لابدّ من ضبط الوصف واعتماده، ولابدّ من التقيد بالأوصاف والأنماط السلوكية التي رسمت للشخصيات.. أقول باختصار الكتابة الروائية بحاجة ماسة إلى خريطة معرفية كاملة، ومنها تنبع أو تنتج خرائط عديدة منها خريطة مكانية، وخريطة اجتماعية، وخريطة ميثولوجية، وخريطة تاريخية..الخ.
س9-تزدحم قصصك بالكثير من الشخصيات، وهي في غالبها شخصيات فلسطينية، ترى ألا يجعلك هذا تقع في مطب الانحياز الذي يضرّ بـ "موضوعية العمل الأدبي" على حد قول بعض النقاد؟!..
ج9- أنا ككاتب فلسطيني أرى الجرح الفلسطيني بكل مأساته ونواتجه لذلك لابدّ لي من أن أكون المعبر الأول عنه، وإلا ما قيمة كتابتي حين تدير ظهرها لهذه المأساة التي لا مثيل لها في التاريخ البشري. التعامل مع المأساة الفلسطينية من قبل الكاتب الفلسطيني ليس واجباً فقط، بل هو مسؤولية دائمة، وحرص ضروري على إدامة الحياة، والتاريخ، والذاكرة، والإرادة.
أعرف الكثير من النقاد الذين يتهمون الأدب الفلسطيني بالإيديولوجية في مرحلة زمنية من مراحل الكتابة الفلسطينية، وهم محقون بهذا الاتهام، ولكن الكتاب الفلسطينيين كانوا محقين في تلك الفترة حين أظهروا الإيديولوجية على حساب الأمور الفنية والتقنية.. ذلك لأن القضية الفلسطينية كانت بحاجة (في تلك الفترة) إلى من يعرّف بها. لاشك أن أخطاءً فنية عديدة وقعت، ولكن تلك الأخطاء كان لابدّ من وجودها لتلافيها. اليوم الأدب الفلسطيني في الرواية، والشعر، والقصة القصيرة.. يعيش حالاً من المناددة الرائعة مع الأدب الصافي الذي يكتبه الأدباء العرب وغير العرب لأنه محمول على نجاحه الفني وليس على نبل الموضوع.
..ولكن لابدّ من التنبيه أن بعض النقاد تعبوا من متابعة مايكتبه أدباء فلسطين، فظلوا على قراءاتهم السابقة كما ظلوا على آرائهم السابقة التي توصّف الأدب الفلسطيني.. هنا تكمن المشكلة.
س10-من يقرأ لك يشعر بسلاسة الجمل وعفويتها وقوتها بآن معاً مما يخلق انطباعاً عن مدى تمكنك من اللغة وتطويعها، هل هذا الانطباع صحيح، أو أن وراء ذلك جهداً ومعاناة ومحاولات عديدة قبل ظهور عملك الإبداعي؟!...
ج10-من واجب الكاتب ألا يُغرق قراءه في الغموض أو المعميات، خصوصاً الكاتب الذي يتبنى قضية ما. على الكاتب ألا يشغل وظيفة (الدليل السياحي) كي يشر ح نصوصه وكتاباته، عليه أن يضع الأمور في وضوحها الأبدي، أي الوضوح الذي يشبه وضوح الأنهار، والغابات والنهارات.. أي وضوح الصور الطبيعية التي تحيط بنا حيث لا نفطن إلى جمالية هذا الوضوح وأهميته إلا في أوقات متأخرة جداً.
الكتابة السلسة، الواضحة لا تعني أنها خالية من الجهد وتقليب النظر والوجوه.. إطلاقاً، فالأشجار عانت كثيراً، واجتهدت كثيراً قبل أن تستوي على قاماتها.
بالنسبة إليَّ، أنا أتعب كثيراً على نصي الأدبي.. فأوظّف كل ما أملكه وما لا أملكه لكي يكون النص غنياً ثرياً، واضحاً، ومؤثراً، وذا آثار حقيقية على مرآة الذات.
لذلك أقول، وبكل الصراحة والأمانة، أنا صاحب مقبرة وسيعة لنصوصي التي لم أرضَ عنها، وهي التي لو ظهرت لكانت تسربت بين أعمالي الأخرى دون أن تؤذيها أو تؤذي التجربة في مجملها. لكنني، والحمد لله، أعمل بما قاله المتصوفة "اللهم لا تذقنا حلاوة أنفسنا"!..
س11-أنت معروف بكتاباتك القصصية، فلماذا تحولت إلى الرواية؟!..
ج11-حولي أساتذة كبار من النقاد والمبدعين، قالوا لي حين قرؤوا ما كتبته من روايات (الوقت الذي أنفقته في كتابة القصص كان ضائعاً، ليتك بدأت بكتابة الرواية مباشرة).
ظروف البداية مع القصة أو الرواية أمر لم أتخيّره بنفسي، ولم أتوجه إليه إلاَّ بعد كتابة للشعر استمرت سنوات عديدة..
وحين كتبت الرواية كتبتها بدافع عقلاني، أو قل بتفكير عقلاني.. فحين كتبت رواية (السواد) كتبتها تحت إلحاح قناعتي بأن أكتب وجهاً آخر من وجوه الخروج القسري للفلسطينيين الفلاحين.. فحبّرت ذواتهم المألومة وهم يتركون كل شيء، كل شيء (أؤكد)، ثم وهم يعبرون عن أشواقهم وأحزانهم وقد طال عليهم وقت الانتظار. وحين كتبت رواية (تعالي نطيّر أوراق الخريف)، كتبتها بقرار عقلاني مؤداه أن أؤرخ للمخيم الفلسطيني باعتباره مكاناً مرفوضاً مكروهاً من جهة وباعتباره مكاناً له فضله في جمع اجتماعيتنا في مكان واحد، وحفظ هويتنا وذاكرتنا من جهة ثانية. وحين كتبت رواية (جسر بنات يعقوب) أردت العودة إلى التاريخ القديم، إلى عالم الميثولوجيا.. لأقول للجميع: انظروا إلى أي تاريخ ماجد ينتسب الفلسطينيون، وعلى أية مدونة حضارية هم عاملون.
س12-في روايتك (أنين القصب) لوحظ اعتمادك الكبير على القص الشفهي، ما مدى دقة هذا الأمر؟!..
ج12-أحياناً، وفي مرات قليلة ونادرة، لا أستطيع أن أظل على صراحتي المعهودة في الحديث عن أعمالي كي لا أجرح مشاعر النقاد، والقراء الذين رأوا في عمل من أ عمالي، ومنها (أنين القصب) ما رأوه.. صحيح أنني أضع أسطراً في مقدمة رواياتي عادة أقول فيها إنني فعلت كذا وكذا، وإنني أخذت كذا وكذا ولكن الحقيقة ليست كذلك، فالأمر يظل مجازياً.. وهو لعبة فنية يقتضيها مقام الفن. لا يظن أ حد أن الأمر خدعة وإنما هو محاولة في الإيهام الإبداعي، أو قل مكيدة فنية.. غايتها أخذ القارئ إلى العوالم المكتوبة ظناً منه (وبسبب اقتناعه بما قلته في أسطر التقديم) أن المكتوب هو تاريخ مكتوب سابقاً، وما أنا سوى جامع له. الأمر ليس كذلك إطلاقاً. ففي رواية (أنين القصب) التي بكى معها الكثيرون وهم يقرؤونها.. مكابدات الذات التي احترقت بمصداقية العذابات الفلسطينية (وما أكثرها).. وقد شددت نفسي إلى الإيقاع الواقعي لأجعل،عبر الوصف والتصوير، ما يقرؤه القارئ أمراً طبيعياً لا صنعة فيه ولا تركيب، وأظن أن هذا الأمر من الأمور الملحة في وجودها داخل النص الأدبي، عنيت أن يبدو النص اشتقاقاً طبيعياً. وليس قصة مكتوبة.
(أنين القصب) مدونة تاريخية-اجتماعية-ميثولوجية فيها المعتقدات، والمميزات، والحكايات الشعبية، والطقوس، والأعياد، والمعايشات الفلسطينية التي كانت بمحاذاة النهر العظيم نهر الأردن.. قبل خروجهم القسري... لتدلل على أهمية حياتهم وخصبها أيضاً. أما ماهو الحقيقي وماهو غير فالأمر غير مطروح في الرواية أو الكتابة الأدبية. المطروح هو هل هذا النص ناجح، وفني، وموظف، ومقنع، ومهم.
س13-لفتت انتباهي طريقة كتابة الرواية، وترتيبها،والحواشي والإضافات التي اعتمدها؟!...
ج13-أنا مدين لقراءاتي التراثية التي علمتني الكثير،ومن أفضال تلك القراءات عليَّ هو أنني تعلمت أسرار التدوين وأساليبه وطرائقه العربية الصرف والتي تعتمد الطيّ، والمضايفة، والاستهلال، والإخبار، والتعقيب، والحواشي، والالتفات، والمساررة، هذا ناهيك عن كتلتي: المتن، والهامش.
لقد أدركت، أن كسر الرتابة البصرية داخل النص الروائي أمر مطلوب جداً، وقد قام به أجدادنا كتبة التراث، فالقطع عبر العنوانات، والمضايفات.. هو قطع وظيفي؛ غايته كسر الرتابة البصرية، وليس قطع الوظيفة السردية..
س14-لاحظت أيضاً، في روايتك (أنين القصب) تطرقك إلى الحدث السياسي بجمل قصيرة.. إلا أنها كانت معبرة وكافية.
ج14-داخل الرواية مرآة تاريخية.. لذلك لا يمكن تجاوزها أو تخطيها، ومن المرتسمات التي ظهرت عليها بعض الإشارات الزمنية والمكانية التي لها دلالات سياسية أو فكرية أو عقيدية.
س15- ما مدى اطلاعك على الأدب الفلسطيني في الداخل،وكيف تراه مقارنة مع الأدب الفلسطيني في الخارج؟!..
ج15-قرأت تقريباً كل ما كتب في الداخل، بما في ذلك المترجم من الأدب الإسرائيلي (وهو لا يزال قليلاً). وتوقفت عند أسماء شديدة الأهمية،شديدة الغنى، وعبر أجيال أدبية متعاقبة، من هؤلاء الأدباء: محمد علي طه (ابن كابول في قضاء عكا)، وهو كاتب شديد المراس في إبداع شفيف رائع، وكذلك الروائي والقاص زكي العيلة، والقاص محمد نفّاع، والمرحوم أميل حبيبي الذي كان ولا يزال قلعة أدبية حقيقية، ومن الأجيال الجديدة الروائي أحمد رفيق عوض الذي يتمتع بثقافة كبيرة، وموهبة عالية، والروائي عبد الله تايه الذي يمثل تياراً أدبياً مهماً في مدونة السرد الفلسطينية.
هذا الأدب المكتوب داخل الوطن الفلسطيني المحتل مهم جداً،ومن الصعب الآن الحديث عن كل جوانب هذه الأهمية، وهو أدب منادد للأدب الفلسطيني المكتوب في المنفى، ويحظى بتقدير عال جداً من قبل الأدباء الفلسطينيين في الخارج.
س16-يؤخذ عليك أنك غزير الإنتاج، وسؤالي هنا كيف تكتب، بمعنى آخر هل تكتب بقرار، أم أن الحدث يدفعك للكتابة، أم ماذا؟!..
ج16- من يعرف (الفرن) الفلسطيني، ومن يعرف حرارته يدرك مباشرة أنني لست غزير الإنتاج،وأن ما أكتبه قليل جداً مقارنة مع تشوفاتي، وأحلامي،وأفكاري، ومساهرتي للأحداث، وبحثي عن الأرواح، التي تحترق بكل الرضا والمصداقية.
أنا لا أكتب بقرار خارجي. وإنما أ كتب بسبب إيماني العميق بدوري ككاتب يعيش تاريخياً استثنائياً هو التاريخ المقاوم للشعب الفلسطيني. إن المقاومة وظروفها وغاياتها.. تمنح الكاتب الفلسطيني شرف المشاركة بهذا التاريخ عبر إبداعه.. وهي فرصة غير متاحة للآخرين.. بسبب هذه المقاومة،وبسبب إيماني العميق بعدالة قضيتي.. أكتب، وغزارة الإنتاج ليست تهمة أو سبة.. إن كانت ناجحة فنياً، وستكون كذلك إن كانت هشة ورخوة وباهتة.

ايوب صابر 06-02-2012 02:48 PM

حسن حميد …. أصبح الأدباء الفلسطينيون أيتاماً..!

عندما تتحدث عن فلسطين كأنك تحمل عارك معك» بهذه العبارة الدامية حتى النزيف والعارية حتى الحقيقة والموجعة حتى الألم، والمتزامنة أيضاً مع «الربيع العربي» يصف القاص والروائي الفلسطيني د. حسن حميد حال الكتاب والمثقفين الفلسطينيين حيث «أصبح الأدباء الفلسطينيون أيتاماً» ولا أحد يلتفت إلى نتاجاتهم وإن حدث فعلى «خجل واستحياء» وعليه- يعقب د. حميد- فإن تجد أدباء وكتاباً فلسطينيين مستمرون في الكتابة فهذا يسجل لهم لأن الوضع اليوم وصل إلى «المرمطة» وإلى درجة «الخراب».
تلقف.. و«ريحة فلسطين»!!

كلام صاحب «دوي الموتى» الذي يتداخل فيه «الثقافي» مع «السياسي» جاء ضمن حديث مفتوح عن الأدب الفلسطيني دعت إليه جمعية نادي الإحياء العربي بدمشق وفيه أكد صاحب «تعالي نطيّر أوراق الخريف» أن الكثير من دور النشر التي أُسست في لبنان مثلاً بعد «أيلول الأسود» أسست بسبب القضية الفلسطينية وكان هناك من يتلقف النص الفلسطيني حتى للصغار – مقابل أموال- وتدفع به إلى النشر والترجمة وكانت الصحف والدوريات العربية لا تخلو من الموضوع الفلسطيني الذي كان يعد «رتبة عالية» في مجمل الحراك الثقافي ليبدأ التراجع في مرحلة ما بعد الـ82، وما بعد «الطفرة النفطية» حتى وصل الأمر بالصحف العربية الممولة خليجياً أو «الصحف المهاجرة» أنها «إذا شمت ريحة فلسطين في رواية مثلاً لا تكتب عنها سطرين» ويتساءل صاحب «السواد» ماذا فعلت تلك الصحف للقضية الفلسطينية؟! هي فقط «ترجّع الفلسطيني إلى الوراء» غامزاً من قناة تلك الصحف بالإشارة إلى أنها تفعل ذلك «ربما من باب اعرف عدوك»!!

عشب.. جفاف.. «طبطبة» و«خرمشة»

د. حميد الكاتب الفلسطيني صاحب «قرنفل أحمر.. لأجلها» الذي يعرف نفسه بأنه من بلاد «ترابها تبر وحجرها كحل وماؤها عسل ونساؤها أقمار» يؤكد في الحديث عن «الارتباط بالأرض» أو عن الأدباء والشعراء أنه ما من أحد من العرب فعل للفلسطينيين ما فعلته سورية فالسوري «يعتبر فلسطين حقه الشخصي» ويندر أن تجد فناناً أو كاتباً سورياً إلا و«مرّ» بفلسطين حتى العشاق في الطرق والحدائق العامة فإن فلسطين «تمر بهم» كذلك فإن العشب في فلسطين «يهتز» عندما يشعر أن «جفافاً» يطول بقعة في الجولان أو في الجزيرة أو في أي بقعة سورية، مشيراً إلى أن عرباً كثراً «طبطبت» سورية على أكتافهم حتى «عرضت» ولحاهم «طالت» وكذلك أظفارهم فبدؤوا في «الخرمشة» مضيفاً إن كثيراً ممن «شربوا من مية الشام وأكلوا من خبزها أداروا لها ظهورهم».

«مناددة» و«نهوض»

ويلفت صاحب «مدينة الله» إلى أنه عندما يتحدث عن فلسطين فإنه لا يقصد الحدود «السايكسبيكية» إنما فلسطين «مملكة البر والبحر» فلسطين الشام والعروبة والمدونات والكتابات والأديرة والتكايا والزوايا والجوامع وهنا فإن العقل الفلسطيني كان في حالة «مناددة» و«عصف» مع العقل الشامي والعقل المصري حيث يمكن الحديث على صعيد الحراك والأدب الفلسطيني والثقافة مثلما يمكن الحديث عن هذا الحراك في سورية والعراق ومصر حيث قام نهوض الأدب على ركائز ثلاث: الصحف والمجلات التي كانت تغلي حتى في البلدات، والأحزاب نشوءاً وحراكاً، والحضور اللساني حيث تعددت الألسنة لأسباب وجود الكنيسة الشرقية «الروسية» فنهضت الترجمات من الأدب الروسي (بوشكين، تولستوي، تشيخوف، غوغول، دستويفسكي) وخاصة أيضاً عندما بدأ الحزب السوري الشيوعي بالتحالف مع اللبناني بالسهر على مثل هذه الترجمات.

«ارتجافة».. «جارحة»

ويرى صاحب «بنات جسر يعقوب» أنه لا يصح الاجتزاء لتاريخ الأدب الفلسطيني بالنظر إلى عام 48 ذلك أن الأدب الفلسطيني موجود منذ ثلاثمئة عام وهناك أعلام فلسطينيون كبار في الأدب العربي معتبراً أن الـ48 «ارتجافة» داخل المجتمع لذلك ظهر فيما بعد كتابات عاطفية وأخرى تتحدث عن الهامشي والخيم والمعاشات بمعنى – يوضح حميد- أن الأدب الفلسطيني ليس مربوطاً بكفاح مسلح أو أيلول الأسود أو اجتياح 82 هذه تواريخ فاصلة وجارحة وأن الروح الوطنية تفرض نفسها على الأدب.

تهميش.. تقزيم وإقصاء

ويصف صاحب «أنين القصب» الحالة الفلسطينية بـ«المأزومة» وأن «الجميع بات في جزر معزولة وكل راض بهزيمته»!! إذ لا تجد أنواعاً من «التواصل» أو «المشتركات» بين الأدباء والكتاب سواء أكان في «المهجر» أم حتى على صعيد «الأردن» لافتاً إلى أن هناك «حراسة مشددة على الثقافة» إلى جانب «التهميش» و«الإقصاء» و«التقزيم» ذلك أن أسماء كبيرة في الأدب الفلسطيني لها علاقة بـ«القيمة الإبداعية» ولها وجوه في «النضال وأهمية الحضور» إلا أن نتاجها أقصي وهُمش. ويورد د. حميد الأمثلة: محمد علي طه، أحمد حسين، محمد نفاع، جمال حمدان وغيرهم عشرات الأسماء لا أحد يسمع بها.

جوائز.. محفوظ.. وصيحات الأمهات!

وفي إطار الإهمال الذي يلاقيه الفلسطينيون في جوانب كبيرة من حيواتهم في العقود الأخيرة يقول صاحب «كائنات الوحشة»: إن «أبو نوبل محفوظ لم يكتب حرفاً عن فلسطين وأخذ نوبل في وقت تصل إلى مسامعه صيحات الأمهات الفلسطينيات الثكالى» وحتى جائزة نجيب محفوظ للرواية بات اليوم يُطبَّل ويزمَّر لها بعدما صارت تابعة للجامعة الأميركية مشيراً في هذا الإطار أيضاً إلى «بوكر العربية» ويطالب صاحب «طار الحمام» بأن يكون لبلاد الشام جوائزها الخاصة وإذا كانت «بوكر» بـ50 ألف دولار فلنعمد نحن جائزة بـ50 ألف دولار ونص لافتاً إلى ضرورة أن نوجد آلياتنا بأيدينا ونتعلم الاحتراف بحب الوطن بكل شيء حتى في «شرب القهوة».

بأس.. خزي «عربدة وأفاع»!!

على صعيد تداخل «السياسي» بـ«الثقافي» أو «السياسي» والحالة الفلسطينية عامة فإن د. حميد يقول «إن السياسي يمتلك المال والقرار وبينك وبينه صحراء تعج بالعطشى والأفاعي» كإشارة هنا إلى حالة الشروخات الكبيرة والمأزومة على الصعيد الفلسطيني لدرجة أنك كفلسطيني «ترى سياسياً فلسطينياً يعربد لدرجة تشعرك بالخجل» لافتاً هنا إلى أن السياسيين لن يذكروا وأن الأيدي سوف ترتجف عندما تذكر أسماءهم عندما يتعلق الحديث على مستوى فلسطين مشيراً أيضاً إلى وضع المخيمات التي تعاني على الأصعدة كافة لدرجة الخزي.

ويختم د. حسن حميد صاحب «مطر وأحزان وفراش ملون» بالتأكيد أن «المآلات» ستبقى «لأن حراس الثقافة الفلسطينية أصحاب عصب وحضور وبأس لا يستسلمون وهم ورثة المسيح».

حراس الثقافة لا يستسلمون

أبو «نوبل» محفوظ لم يكتب حرفاً عن فلسطين

لم يقدم أحد لفلسطين ما قدمته سورية

صحف عربية إذا شمت «ريحة» فلسطين في رواية تتجاهلها

ايوب صابر 06-02-2012 10:10 PM

الظروف الحياتية التي اثرت في تكوين الاديب حسن حميد:
- يقول حسن حميد صاحب «دوي الموتى» " عندما تتحدث عن فلسطين كأنك تحمل عارك معك» بهذه العبارة الدامية حتى النزيف والعارية حتى الحقيقة والموجعة حتى الألم، والمتزامنة أيضاً مع «الربيع العربي» يصف القاص والروائي الفلسطيني د. حسن حميد حال الكتاب والمثقفين الفلسطينيين حيث «أصبح الأدباء الفلسطينيون أيتاماً» ولا أحد يلتفت إلى نتاجاتهم وإن حدث فعلى «خجل واستحياء» وعليه- يعقب د. حميد- فإن تجد أدباء وكتاباً فلسطينيين مستمرون في الكتابة فهذا يسجل لهم لأن الوضع اليوم وصل إلى «المرمطة» وإلى درجة «الخراب».
- ويصف صاحب «أنين القصب» الحالة الفلسطينية بـ«المأزومة» وأن «الجميع بات في جزر معزولة وكل راض بهزيمته»!!
- خرج منها ( فلسطين ) ليحمل أدبه كل المعاني والدلالات التي تشير إليها، المعاناة التي رافقته منذ الطفولة، حمل تفاصيلها على تقاسيم وجهه، وأظهرها جلياً في أعماله الروائية التي عبرت عن وفاء الابن البار لقضيةٍ أثقلت كاهله، ليكون واحداً من رواد الرواية العربية.
- كانت معيشة الطفولة في كنف جدّاي لأنني الولد البكر، ومن جدتي تعلمت فن الحكاية والإصغاء، والقص والوقف والتحييد، والإقصاء والاستدارة وما فات من حدث، البداية كانت شعراً في المخيمات في غياب الآباء الذين أخذوا على عاتقهم العمل الفدائي، كان الظرف ملائماً للكتابة الشعرية في ظل طقوس "الأربعين" الذي يقام تخليداً لذكرى الشهداء لتلقى القصائد والكلمات، حرصت أن أكون أحد شعراء المخيم البارزين، لكن الجانب السردي الأدبي الذي ميز قصائدي جعلني أتنحى عن كتابة الشعر إلى القصة القصيرة، لكن انفجار بركان الويلات والأحزان والطاقات الكامنة جعلني أتحول إلى الرواية.
- في رده على سؤال : يقال أن كبت المعاناة يفجر الطاقة ليولد الكاتب، فما رأيك؟ يقول ** لا أؤمن إلى حدٍ بعيدٍ بهذه المقولة، فالأديب يولد ليكون أديباً، صحيحٌ أن الضغط يولد الانفجار لكن ليست كل معاناةٍ تفجر الطاقات، ولا كل أديبٍ ابن المعاناة، ولو سلمنا بصحة ذلك لكانت ملاجئ الأيتام أهلاً لتخرج الأدباء والتشكيليين والموسيقيين، عشت المعاناة بكل صورها بؤساً وشقاءً، كنا نتبع التعليم في المدرسة في سبيل الخلاص من البؤس وأصبحت معلماً وأنا أعيش في خيمتي، لكن بذور الموهبة الأدبية بدت جليةً منذ الصغر وطورتها حتى أصبحت على ما أنا عليه الآن.
- ويرد على التعليق: لكن "أنين القصب" و"دوي الموتى" و"طار الحمام" و"السواد" أسماءٌ لرواياتك تحمل البؤس عنواناً؟ بقوله :** لم أقل أن هذا القول هو الفصل، لكنني حينما أتحدث عن أي عملٍ فأنا أعالج موضوعاً بعينه، "دوي الموتى" تتطرق إلى حالة المقبرة الفلسطينية التي تتميز عن مثيلاتها في سائر العالم، فعندما كبرت وأصبحت أكبر من المخيم، ولأن تشييع الشهداء يتم كل يومٍ فقد أصبحت سوقاً يستجدي منه الباعة الجوالون رغيف الخبز، كما لو أن المقبرة من تطعم الناس، لذلك كان لها الفضل كونها حالة اقتصادية، لكن عند غياب الشهداء فقدت رونقها وانفض الباعة، وأصبحت مكاناً موحشاً كغيرها من المقابر لا تطأ أرضها قدم، في كل روايةٍ حالةٌ أو حالاتٌ تعالج، وعندما تفكر في إغلاق الرواية فأنت تغلق على أفراد تئن من جروحها، وتصرخ من آلامها، أناس لديهم آلام، فهذه الروايات يقطر منها الدم والحزن والعويل وبكاء الأمهات
- ويقول في رده هلى سؤال : من الذي أخذك إلى الكتابة، من أغراك بها؟!.. صحف ومجلات المقاومة الفلسطينية هي التي أخذتني إلى الكتابة، هي التي وعتني بأهمية الكتابة ودورها. وذلك لأننا كنا في المخيم، نحن الطلبة القرائين، نهّرب صحف ومجلات المقاومة إلى بعض الأمكنة، وبعض الأشخاص، وبعض الجهات على جلودنا، تحت قمصاننا، تلك السرانية في الحرص على المجلات والصحف بعيداً عن عيون أهلنا، أولاً، والآخرين ثانياً هي التي جعلتني أتنبه إلى أهمية الكلمة ودورها، إلى أهمية الكاتب ودوره في الحياة، وقد تمنيت أن أصبح مستقبلاً كاتباً يظهر اسمه إلى جانب مقالاته على صفحات المجلات والصحف، ويصير من هم أصغر مني يهربون ما أكتبه تحت قمصانهم (العرقانة صيفاً)، والمبللة بالمطر شتاءً). تلك كانت الشرارة التي صارت غبطة لي وأنا أقرأ قصائدي الأولى، وقصصي الأولى على أسماع أبناء مخيم جرمانا. كم كانت تلك الأيام نادرة..
- يقول في وصف الحياة في المخيم: فالمخيم المشغول بغبار الصيف، وريح الصيف التي تقتلع الخيام يومياً، في الليل والنهار، وبوحول الشتاء وأمطاره، والمشغول بالجرحى، والأسرى، والشهداء، والأخبار الجارحة المؤسية.. كان يهبُّ فجأة للاحتفاء بمولد شاعر أو أديب، أو موسيقى، أو أستاذ، الخ.. لذلك كنت تجد في أمسية المخيم الأدبية حضوراً كبيراً من الأميين أو المهمشين الذين لا يعنيهم الشأن الثقافي. كانوا يجلسون بانضباط التلاميذ في المدارس ليسمعوا الشعر. كانت الأمهات يزغردن لأبنائهن الشعراء أو القاصين حين تضج قاعة المخيم الوحيدة بالتصفيق لهم. وقد كانت أمي أمية من بين هؤلاء النسوة.
- ويقول : أنا علوق بالمخيم عشت فيه، وتربيت على مشهدياته، وأخبار أهله، عرفت أزقته وبيوته الواطئة التي يتكئُ بعضها على بعضها الآخر، بيوته التي تبيت وحيدة في هجعات الليل. وعشت طقوسه.. طقوس الولادة، والمرض، والختان، والأفراح، ومشهديات الموت التي اختصت بها مقبرة صارت أكثر اتساعاً من بيوت المخيم نفسه.
- أنا ككاتب فلسطيني أرى الجرح الفلسطيني بكل مأساته ونواتجه لذلك لابدّ لي من أن أكون المعبر الأول عنه، وإلا ما قيمة كتابتي حين تدير ظهرها لهذه المأساة التي لا مثيل لها في التاريخ البشري. التعامل مع المأساة الفلسطينية من قبل الكاتب الفلسطيني ليس واجباً فقط، بل هو مسؤولية دائمة، وحرص ضروري على إدامة الحياة، والتاريخ، والذاكرة، والإرادة.
- وفي رده على سؤال : كيف تكتب، بمعنى آخر هل تكتب بقرار، أم أن الحدث يدفعك للكتابة، أم ماذا؟!.. يقول **من يعرف (الفرن) الفلسطيني، ومن يعرف حرارته يدرك مباشرة أنني لست غزير الإنتاج،وأن ما أكتبه قليل جداً مقارنة مع تشوفاتي، وأحلامي،وأفكاري، ومساهرتي للأحداث، وبحثي عن الأرواح، التي تحترق بكل الرضا والمصداقية.

واضح ان هذا الكاتب اكتوى بنيران "الفرن الفلسطيني" فكان يتيم الوطن وعاش مأزوما ويتيما اجتماعيا ولا نعرف ان كان يتيم الاب فهو يتحدث عن امه لكنه لا يتحدث عن والده الذي ذكر بأنه كان غائب لانه كان يشارك في العمل الفدائي.

مأزوم ويتيم اجتماعي .

ايوب صابر 06-03-2012 12:32 AM

99- الوسمية عبد العزيز مشري السعودية

قراءة في الوسمية.. لعبد العزيز مشري الوسمية هي باكورة أعمال المبدع الراحل عبد العزيز مشري الروائية وهي إحدى الروايات المتميزة التي صدرت عام 1982 إذ إنها تمثل - مع بعض الروايات الأخرى - التطور الذي ارتقى إليه فن الرواية في المملكة العربية السعودية، فقد تفردت هذه الرواية في أحداثها ولغتها بما يجعل عبد العزيز المشري واحداً من الكتّاب الذين يتفردون في الرؤية.
كتب عنها الدكتور السيد محمد ديب (إن هذه الرواية تسير على درب النهايات من حيث واقعية الحدث، وسلب البطولة من الأشخاص، ومنها للبيئة بكل ما تحمله من عادات وطبائع وإذا كانت (النهايات) تعبّر عن طاقة هائلة من الصراعات المتعددة في علائق القرية بالمدينة، فضلاً عن الخصائص الأخرى التي تجعل من عبد الرحمن منيف واحداً من الرواد في العالم العربي، فإن (الوسمية) بناء متفرد في رسم الحدث وتحريك الشخصوص، وتوظيف الزمن بهدف رسم لوحة أفقية شاملة لقرية الجبل في منطقة الباحة).
وقد استطاع الكاتب في الوسمية أن يصور في ثلاث عشرة لوحة الحياة الشعبية في هذه القرية، وأن يتغافل عن الحدث المتنامي والصراع النابع منه، بحيث يتجه إلى بعث الحكاية الشعبية وسرد هموم الزراعيين ولكن هذه الأقاصيص والحكايات التي امتلأت بها (الوسمية) تتشابك بخيوطٍ تخضع لعلائق أهل القرية، ويبرز بمجموعها وتكوينها البناء الروائي الذي يعرض لعادات المجتمع القروي منذ سبعينيات القرن الهجري السابق (خمسينيات القرن الميلادي الحالي).
ونرى المشري يستمطر من الأحداث بعض الرموز التي تتنقد ذلك الواقع القديم في جرأة مكشوفة كما في الفصل العاشر (أحمد يتعلم أشياء جديدة) ويحرص على نقل الحدث البسيط بما فيه من رؤية فردية أو تحرك جماعي ليعبّر عن الحياة الشعبية بين أهل القرية، ويتلاءم مع انبساط الطبيعة وعمق الوجدان واتساع الذاكرة وضيق الحياة.
لا يتولد الصراع (في الوسمية) من طبيعة الحدث المفرد، وإنما يبرز من الإرادة الجماعية للشخوص في موقفها من الإرادة الفردية كما في قبول الجماعة لشق الخط ورفض البعض له.
تعطي مجموعة الأحداث انطباعات عن العادات والتقاليد المتوارثة في القرية بالإضافة إلى الحكايات الشعبية المنبثقة من الحدث القصير، أو من الشخوص الناهضة به، وأن هذه الحكايات والمواقف المتولدة منها تبرز وتؤكد واقعية الحدث وصدقه وتموجه بالحركة، ومواكبته للأنشطة الجماعية في موسم نزول الأمطار (الوسمية).
ويستكمل الراوي بناء الخلفية بمجموعة أخرى من الأحداث مثل حرص الجماعة في القرية على صلاة الاستسقاء بعد صلاة الجمعة والتصالح في قرية الوادي، رمي الضرس في عين الشمس، والسعادة بنزول المطر وتنتهي الرواية بشق الخط، وقدوم السيارة إلى القرية، وإفساح مكان في الذاكرة لعصر جديد والتحول إلى مرحلة جديدة.
تتميز اللغة عند المشري بالتفرد والخصوصية وعدم التبعية لأحدٍ، فهو يمزج السرد بالحوار، ويورد من خلالها الوصف المنقطع والحكاية البسيطة للتأكيد على واقعية الحدث وعمق التجربة ووعي الذاكرة، ويقدم الوصف اللغوي الدقيق للأشياء من خلال السرد كقوله: (جاءت زوجة سيد الأعمى بدلة القهوة، خلطت تراكيبها ملأتها بالماء وضعتها بهدوء على الكانون النار تشتعل وتنفث دخاناً أزرق يلهب العيون بحرارته حيث استقرت الدلة.. نضح منها قدر ضئيل على الجمر، فقالت: (طش) ويبدي الكاتب اهتماماً كبيراً بالوصف الذي يسوقه من خلال السرد أو الحوار باللغة الفصحى بما فيها من روائح القرية وطعم الريف بالإضافة إلى المواصفات الأخرى كقصر الجمل، والفصل بينهما، والنهوض بكل منها بمعنى جزئي يشبه ما ينهض به البيت الشعري.
ليست للسرد حدود فاصلة، بل ينتقل الكاتب منه إلى الحوار، ويمزج بينهما كطبيعة لغة المعيشة في القرية بما فيها من تعدد في المستويات اللغوية وبساطة الاسترسال والانتقال من موضوع إلى آخر بدون ترتيب، وكأن القاص يجنب نفسه من التدخل، تاركاً الشخوص تصور بنفسها حركتها وحياتها في القرية، وتعبّر باللغة التي تحلو لها، وتتوافق مع قدراتها، ولذلك تقترب لغة الوسمية من العامية ذات النكهة الشعبية ولكن ذلك يتجلى في كلمات معدودة ترد في ثنايا الحوار مثل (بلاش) و(يوه) و(علشان) و(مين) وغيرها، ويوفق المشري في تفصيح الكثير من الكلمات مع احتفاظها بالطابع القروي، ويعتمد على الحكاية الشعبية في إبراز الجوانب المتممة لبقايا الخلفية الزمانية والمكانية، مع عنايته برصد لوازم الحكاية مثل (قالوا) و(قال الفقيه) و(قالت الناس) و(قال الراوي).
(الوسمية) رواية فترة زمنية تتناول النشاط الجماعي لإحدى القرى في (الخمسينيات الميلادية) تلك الفترة التي تنفتح فيها القرية على الحياة خارج حدودها، باستثناء سفرية إلى (مكة) أو أخبار يلتقطونها من جهاز (الراديو) الذي يعد الوسيلة الوحيدة التي تتصل منه القرية بالعالم الخارجي، ولما جاءت السيارة كان ذلك انتقالاً جديداً وتطوراً ملموساً على مستقبل حياتها (الوسمية) زمن نزول المطر، وأن هذا الزمن يؤثر في حركة الجماعة، ولذا تعاظم دوره عندهم، حتى خشي منه بعضهم فقال المؤلف على لسانه.
الله يكفينا شر هذا الزمان.. إلى متى ننتظر؟؟!
وسكت!
ويعطي الكاتب عناية خاصة بدورة الزمن داخل الحدث الروائي لارتباط ذلك بالنشاط الزراعي والتحول الاجتماعي أما الزمن الخارجي فلم تتضح صورته تماماً، وان تمت الإشارة إليه ببعض الرموز المختلفة، التي كشفت عن المرحلة التاريخية المواكبة للزمن الروائي.


المصدر المجلة الثقافية


الطائية

ايوب صابر 06-03-2012 12:35 AM

الوسمية رواية تقترب من العالمية

لا بد من تقديم شكل جديد ليعترف الغرب بنا

عابد خزندار

من سنين عديدة، وبالذات منذ أن قرأت "الطوق والأسورة" ليحيى الطاهر عبد الله، لم يشد انتباهي أي عمل محلي أو عربي، اللهم إلا أعمال رجاء عالم، وقد كتبت عنها غير مرة. وبالطبع لم يكن أمامي سوى أن أتحدث عن أعمال غربية، وبالذات عن شكسبير، وعن تيار ما بعد الحداثة باعتباره تياراً لم يطرح على الساحة العربية، في حين أن الحديث قد فاض واستفاض عن "الحداثة" رغم أنها تيار أدبي انتهى في الغرب، وكنسه التاريخ منذ أكثر من خمسين عاما. وفي نفس الوقت حرصت على أن أطرح على الساحة المحلية قضية ما بعد البنيوية في الوقت الذي ما زالت فيه الآراء تصطرع وتحتدم حول البنيوية بين مؤيد ومعارض، وهي قضية انتقلت كما انتقلت معها الحداثة، من الجدل الموضوعي والعقلاني إلى اللا موضوعية. وهذه بالطبع نهاية مأساوية، ستقودنا حتماً، أو هي قد قادتنا فعلاً إلى الصراع الفكري، بدلاً من أن تفضي بنا إلى نوع من الحوار العقلاني الذي تلتقي فيه الآراء حتى لو كان هذا الالتقاء في منتصف الطريق، ذلك أن هذا يعني أننا قد وصلنا إلى غاية مشتركة.

مهما يكن فإنني - كما قلت - وبالذات بعد عودتي من باريس - لم أجد إلا في القليل النادر أي عمل محلي أو عربي يستحق أن أكتب عنه. وفجأة اكتشفت عبد العزيز مشري، اكتشفته من خلال مشاركتي المحدودة في مهرجان الجنادرية، ومن خلال الندوة التي عقدت لقراءة روايته "الوسمية" وهي قراءة قام بها الأستاذ معجب الزهراني، ومن خلال التعقيب والنقاش الذي قام به الدكتور البازعي وفهد الحارثي، والسريحي، والغذامي، والدكتور الشوش، والدكتور سعدون حمادي.. إلخ وقد اكتشفت المشري من خلال الجدل الذي ثار حوله، رغم أن هذا الجدل كان جدلاً عقيماً، ذلك لأن مقدم الورقة وهو الأستاذ معجب الزهراني اتخذ عنواناً لورقته هذا العنوان "لغة المعيش اليومي في الوسمية"، أو شيئاً من هذا القبيل. وعندما انتهى النقاش احتدم الجدل بين حضور الندوة - وقد ذكرت - فيما سبق بعض أسمائهم - حول قضية الفصحى والعامية، بين نقاد للمشري لاستعماله للعامية في عمله الأدبي، متهمين المشري بأنه يريد القضاء على الفصحى، ثم بين هؤلاء وبين نقاد مؤيدين يقررون أن اللجوء إلى العامية أمر لا بد منه إذا أريد منا أن نصف الواقع وصفاً أميناً وصادقاً..إلخ. وفي وسط هذا النقاش العقيم. ضاعت روعة العمل الأدبي، ولم أتمكن من التعرف عليه واستقرائه.
وبعد العودة من الندوة صاحبني في السيارة في الطريق إلى الفندق الصديق حسين علي حسين، وطلبت منه أن يزودني بنسخة من الوسمية. وفي اليوم التالي وجدت في صندوق البريد الخاص بي هذه الرواية، ووجدت بجانبها العمل الأخير لمشري وهو "أسفار السروي" وكانت النتيجة أن حبست نفسي في غرفتي يوماً كاملاً، بنهاره وليله لقراءة المشري وإعادة قراءته، وكما قلت في بداية المقال لم يشد انتباهي في الأعوام الأخيرة أي عمل محلي أو عربي سوى "الطوق والأسورة" وسوى "الوسمية" وقد أحسست عندما فرغت من قراءتها أنني إزاء عمل أدبي لا يرقى إلى مستوى "الطوق والأسورة" فحسب بل يكاد يرقى إلى مستوى أي عمل أدبي عالمي كرواية "مائة عام من العزلة" لماركيز، والفرق بين هذه الرواية وبين "الوسمية" هي أن الأولى ثرية بالأحداث والوقائع والفانتازيا الأمر الذي يجعلها تبدو وكأنها عمل سحري أو تخييلي ليس بمقدور أي كاتب عادي أو حتى جيد بأن يأتي بمثله، بينما نجد أن الأحداث والوقائع نادرة ومحدودة وتكاد تكون عادية في الوسمية، ولكننا إذا أعدنا قراءة الرواية فسندرك أنها تتحدث عن الحياة والموت وقضية البقاء والنجاة في مجتمع زراعي معزول هو الآخر.
و"الوسمية" تنفذ إلى أعماق هذا المجتمع ودخائله لكي تجسم لنا قضية الصراع مع قوى الموت، ومحاولة قهرها في سبيل المحافظة على نوع بدائي ومحدود من الحياة، حياة ليس فيها أي ترف أو رفاهية، بل حياة لا تؤمّن للإنسان إلا القليل من مطالبه البدائية كالأكل والشرب، وحتى هذا القليل مرهون بدورة الطبيعة وتقلباتها، مما يجعل بقاء الإنسان واستمراره في الحياة معتمداً كل الاعتماد على الطبيعة وعلى قدرته في مقاومة الظروف المعادية له، دون أن يتوقع أي مساعدة من الخارج، من المدينة مثلاً، أو من الدولة، والإنسان في الوسمية يحيا ويعيش ويتغلب على الظروف المعادية بدون أن يحتاج إلى قوى من الخارج تسنده وتساعده على البقاء. إن الخارج غائب تماماً عن مجتمع الوسمية، وأبسط دليل على ذلك أنه لا يوجد أي شرطي فيه... وبالطبع لا يوجد بالمقابل أي هيئة، أي أن مجتمع الوسمية ليس بحاجة إلى الخارج بل بالعكس سنجد أن الخارج عندما يصل إلى المدينة عن طريق السيارة فإن مجتمع الوسمية يتفكك ويتلاشى ولا يصبح له أي وجود ويذوب في النهاية في مجامع المدينة.

وكما قلت فإن مجتمع الوسمية لا يستسلم للظروف المعادية، وفي نفس الوقت لا يعتمد على الخارج، وهو ينجح في البقاء من خلال تلاحم أعضائه، فالمجتمع هنا عائلة واحدة مترابطة ليس فيها مكان لأي شاذ، ومجرد وجود هذا الشاذ يعني تخلخل المجتمع وحرمانه من شروط البقاء. ولهذا فإن الوسمية عندما تتأخر ينصرف الذهن فوراً إلى أنه لا بد أن يكون في القرية خائن أو مخرف لم يعترف بذنبه وحينئذ لا بد من قراءة "الراتب" ونموذج "الراتب" ليس نموذجاً مقصوراً على مجتمع "الوسمية" بل يبدو لي أنه من النماذج العليا التي تحدث عنها يونج والتي يتوارثها الإنسان من إنسان البدايات الأولى، ونحن على أية حال نجد هذا النموذج في المجتمع الإغريقي وبالذات في طيبة، حيث يحدثنا سوفوكليس، أن هذه المدينة تعرضت للجفاف والوباء.. ما يتجلى في حديث الكاهن في هذه المسرحية".

" هذه طيبة كما ترى تُهز هزاً عنيفاً وقد اضطرت إلى هوة عميقة، فهي لا تستطيع أن ترفع رأسها، وقد أحدقت بها الأخطار الدامية من كل مكان، إنها تهلك فيما تحتوي الأرض من البذر. إنها تهلك بما تصيب النساء من إجهاض عقيم..إلخ.." (ترجمة طه حسين) ثم نفهم فيما بعد أن السبب فيما حل بطيبة هو أن هناك جريمة لم يعاقب عليها فاعلها، وأن المجرم هو نفسه ملك طيبة أوديب الذي قتل أباه، وتزوج أمه، دون أن يدري، وتنتهي المسرحية بخروج أوديب من طيبة.. ونجاة المدينة من الجفاف والوباء.

وقد قرأت وأنا أكتب هذا الكلام توصيات مهرجان الجنادرية، وقد شدت انتباهي توصيتان الأولى هي :
ثالثاً: دراسة علاقة المأثور الشعبي العربي بالموروثات الشعبية في مختلف أنحاء العالم، وإبراز دور المأثور الشعبي العربي باعتباره حلقة من حلقات الوصل المهمة في الموروث الشعبي العالمي.

أليس هذا هو ما فعل المشري، وهو حتماً لم يقرأ أوديب، وإنما تحدث عن مجتمعه وموروث هذا المجتمع الشعبي، وبدون أن يقصد لفت نظرنا إلى صلة هذا الموروث بالموروث الشعبي العالمي، أي صلة "الراتب" بما حدث في طيبة ومسرحية أوديب لسوفوكليس..

والتوصية الثانية لمهرجان الجنادرية هي:
سابعاً: المحلية في القصة هي خطوة أولى في تاريخ العالمية، ولن يتأتى للقصة العربية أن تحقق هذا الهدف ما لم تنبع من البيئة التي تكسبها الصدق الإنساني.

ونحن هنا في "الوسمية" إزاء عمل محلي نابع من البيئة المحلية، فهل يمكن أن يتجاوز النطاق المحلي ويحقق العالمية؟ وهو ليس نموذجاً محلياً فحسب بل يكاد يكون في نفس الوقت نموذجاً عالمياً. إذ أن مجتمع "الوسمية" ليس مقصوراً على بلادنا، بل أنه موجودٌ في كل المجتمعات الزراعية في العالم، (وخاصة دول العالم الثالث) التي بقيت معزولة عن المدينة، بل أن مجتمع "الوسمية" لا يختلف كثيراً عن مجتمع ماكوندو، القرية التي تدور فيها أحداث رواية "مائة عام من العزلة" والفرق بينهما أن مجتمع ماكوندو قد اقتحمته شركة الموز، وبذلك خرج من عزلته وتبعثر في أنحاء البلاد في حين أن أسرة بيونديا، الأسرة التي أسست ماكوندو، لم يبق منها أحد وانقرضت إلى الأبد، بينما مجتمع "الوسمية" لم يتعرض لغزو أجنبي، وإنما تعرض لغزو المدينة، ومنتجات المجتمع الاستهلاكي الأوروبي، أي أن الطريق الذي بناه أهل القرية كان وبالاً عليهم، لأنه بدلاً من أن ينقل منتجاتهم الزراعية إلى المدينة أغرقهم بمنتجات الخارج التي لا يستطيعون منافستها في أسعارها. وبذلك تركوا عملهم الزراعي، وتفرقوا في أنحاء البلاد للبحث عن وظائف حكومية، وانتهى بذلك مجتمع الوسمية إلى الأبد.
ولا يقتصر وجه الشبه بين مجتمع "الوسمية" ومجتمع ماكوندو على طريقة أساليب الإنتاج الزراعية، بل الأمر يذهب إلى أبعد من ذلك، فهذان المجتمعان يشبهان المجتمعات البدائية، مجتمعات ما قبل التاريخ، في ارتباط دورة الحياة من زواج وإخصاب وإنجاب وولادة وبلوغ دورة الطبيعة من ربيع ومطر وبذور وإخصاب وإنبات، وهو ما يبدو جلياً في أسطورة برسفونة، (رمز) الربيع عند الإغريق وابنه زوس وديمتير، والتي خطفها هاديس (حارس الجحيم) عندما كانت تجمع بعض الأزهار في صقلية، وأخذها إلى الجحيم أو العالم السفلي واتخذها زوجاً له. ولكن أمها ديميتر استعطفت زوس وطلبت منه أن ينقذ ابنتها من براثن هاديس، فتوصل مع الاثنين إلى حل وسط، وهو أن تبقى برسفونة ثلث العام في العالم السفلي، وثلثيه الباقيين فوق الأرض، وبذلك انقسم العام إلى مواسم الخصب والحصاد وموسم الشتاء. وبذلك ارتبطت دورة الحياة بدورة الطبيعة في حياة الإنسان البدائي وهو الأمر الذي نلمسه بوضوح في الوسمية، ولعل المشري (بحسه الفني) قد قصد إليه قصداً، فالفصل الأول يتحدث عن انتظار الوسمية، والفصل الثاني يتحدث عن هطول المطر، والفصل الثالث يتحدث عن زواج بنت حميدة، أي أن نص المطر يستدعي نص الزواج، ومع بداية نمو النبات وبزوغه نجد حكاية عن زلة فتاة، ونجد حكاية عن بلوغ أحمد... الأمر الذي اعتقد أن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي صوره أيضاً حين قال في قصيدته (كان لي قلب):
وأصوات البهائم تختفي في مدخل القرية.
وفي أنفي روائح خصب.
عبير عناق،
ورغبة كائنين اثنين أن يلدا
ونازعني إليك حنين
وناداني إلى عشك
إلى عشي.
طريق ضم أقدامي ثلاث سنين

أي أننا هنا إزاء مأثور شعبي عالمي آخر غير مأثور "الراتب" وهو ارتباط مراسم دورة الحياة بالمواسم الطبيعية.. وهو ما يؤكد توصية مهرجان الجنادرية بارتباط المأثور الشعبي العربي بالموروث العالمي.

وهذا كله يقودنا إلى أن نطرح سؤالاً يتعلق بالتوصية الثانية لمهرجان الجنادرية وهي انطلاق العمل الأدبي من المحلية إلى العالمية. وهذا السؤال هو: هل وصف البيئة المحلية بأمانة وصدق - كما فعل المشري - يكفي لتجاوز المحلية والانطلاق إلى العالمية خاصة إذا كان النموذج المحلي - كما هو الحال في الوسمية - موجوداً على نطاق عالمي؟
في رأيي - وهو رأي تكوّن نتيجة لما حققته الأعمال العربية المترجمة من انتشار أو لا انتشار - إن ذلك لا يكفي، ولا يحقق العالمية، لأن الذي يحقق العالمية هو الشكل وليس المحتوى. وقد يبدو هذا القول غريباً ولكن هذا هو الذي حدث ويحدث فعلاً في تعامل الغرب مع النماذج الأدبية التي تأتيه من الشرق، ولعل أقرب مثل يرد إلى الخاطر في هذا الصدد هو تعامل الغرب مع ثلاثية نجيب محفوظ عندما ترجمت إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وفيما أعرف لم تحدث الثلاثية أي صدى عند المتلقي الإنجليزي، رغم أننا في عالمنا العربي نعتبرها أعظم عمل روائي عربي حتى الآن، أما في فرنسا فقد تصادف حين ترجمت هذه الرواية إلى الفرنسية أنني كنت أعيش في باريس، وقرأت عنها تعليقاً قصيراً ومبستراً في ملحق صحيفة اللوموند الأدبي الذي يصدر في يوم الجمعة من كل أسبوع، وبعد ذلك لم أقرأ عنها أي شيء في الصحف والمجلات الأدبية الفرنسية، ولعل مقال اللوموند كان حاسماً في الحكم عليها بالإعدام، ذلك لأن نجيب محفوظ استخدم في الثلاثية شكلاً من أشكال الرواية الأوروبية يعرف باسم الرواية النهر - Romam Fleuve والتي يسميها نجيب محفوظ نفسه برواية الأجيال، وهو شكل انتهى ودخل التاريخ منذ أكثر من سبعين عاماً، ولم يعد له وجود على الساحة الأوروبية، وحلت محله بالطبع أشكال أخرى من أشكال الرواية، ولهذا فعندما يفد إليهم عمل من الشرق مستورد منهم وفي نفس الوقت مضى وانقضى من واقعهم، فإن النتيجة المنطقية والطبيعية هو أن لا يعبأ به أحد وهذا ما حدث فعلاً بالنسبة لثلاثية نجيب محفوظ، والعديد من الأعمال الأدبية التي ترجمت إلى لغات الغرب. وعدا ذلك فإن العمل الأدبي الوحيد الذي وفد إلى الغرب من الشرق وبها هو ألف ليلة وليلة.. لماذا؟ لأنه قدم لأوروبا شكلاً من أشكال القصص لم تعرفه من قبل. لقد عرف الأوروبيون الملحمة والدراما والتراجيديا والرواية والقصة وربما الحكاية الشعبية، ولكن ألف ليلة وليلة فاجأتهم بشكل جديد لم يعرفوه من قبل، إنها ليست ملحمة وليست رواية وليست قصة، إنها شيء مختلف عن كل ذلك، وهي بالتأكيد ليست مجرد حكاية، إنها بناء فلسفي معقد ينهض على الحكاية، ولكنه يعدوها ليقدم لنا مجموعة من الحكايات التي تتداخل مع بعضها البعض، وتشكل في نفس الوقت حلقة موصولة ومواصلة من التجارب الإنسانية الثرية وهذا ما يجعلها تختلف عن الرواية بشكلها الأوروبي، فالحكاية كما يقول الناقد الألماني بنجامين شفهية، بينما الرواية عبارة عن كتاب لا يتحقق وجوده إلا بالكتابة، ولهذا فإن ظهور الرواية وانتشارها لم يكن ممكناً إلا بعد اختراع الطباعة، وما يمكن نقله وتداوله من فم إلى فم بكل ما يحوي من ثراء ملحمي يختلف كل الاختلاف عن طبيعة محتوى الرواية.
إن الحكم الشفهية التقليدية ملك مشاع للجميع، وتداولها من فم إلى فم يجعل منها تجربة إنسانية مشتركة، ويشارك فيها الراوي والمستمع... والمستمع عندما يصبح راوياً يحكي الحكاية لمستمع آخر.. وهكذا دواليك بحيث لا يعرف في النهاية اسم المؤلف الأول (كما هو الحال في ألف ليلة وليلة)، أما الرواية فتظل ملكاً خاصاً بالمؤلف، لأن المؤلف معزول عن قارئه، وهي عـين اختيارية، وبمجرد أن يعزل المؤلف نفسه عن الآخرين فإنه لا يستطيع أن ينقل لها تجربته الذاتية، إنه لم يتأثر بالحكمة الجماعية التي يكتسبها الراوي (راوي الحكاية)، ولهذا فإن عمله يخلو من أي حكمة، وإذا أخذنا أول وأعظم رواية وهي دون كيخوته فإننا نجد الثروة الروحية والشجاعة والفداء تتحول إلى أعمال طائشة حمقاء خالية من أي حكمة، وما ينسحب على الرواية ينسحب أيضاً على القصة القصيرة، فهي أيضاً قد انعزلت عن التقليد فهي في القصص الذي يتمثل في نسيج متواصل من الحلقات، تستدعي كل حلقة فيه نقطة جديدة، أو إضافة جديدة، أو غزلاً لا ينتهي، مثلما حدث لشهرزاد التي ما أن تنتهي من حكاية حتى تبدأ في التفكير في حكاية جديدة، تضاف إلى الأولى وتكملها، وما أن تنسج هذه الحكاية الجديدة، فإنها تبادر إلى نسج حكاية أخرى.. وهكذا دواليك حتى تصل إلى مجموعة من الحكايات يربطها خيط واحد، لأنها نسجت على منوال واحد، وهو منوال التجربة الجماعية.

صفوة القول إننا إذا أردنا أن نصل إلى العالمية فلا بد أن نقدم للغرب شكلاً جديداً لم يعرفه من قبل، وهذا لا يتحقق بالطبع بتقليد ألف ليلة لأنها أصبحت معروفة ومستهلكة، وإنما بتطوير هذا الكل واستنباط شكل جديد منه، ومع الأسف فقد سبقنا أدباء ما بعد الحداثة خاصة ايتالو كالفينو إلى ذلك، ولهذا فإننا يجب أن لا نقلدهم لأننا عندما نفعل ذلك فلن نأتي بجديد، ولحسن الحظ فإن ثمة أعمالاً عربية ما بعد حداثية أصيلة ليس فيها تقليد لألف ليلة وليلة، وليس فيها تقليد للآتي من الغرب وخاصة تيار ما بعد الحداثة، وإنما تطوير الاثنين معاً، وهو في رأيي تطوير عفوي لا مقصود نتج عن الصدق في وصف البيئة المحلية والمحافظة على تقاليدها في النص الشعبي الشفهي، ومن هذه الأعمال، بعض أعمال الطيب صالح... وأعمال يحيى الطاهر عبد الله، والوسمية، ولهذا فإنني في نهاية المقال أرشح المشري للعالمية.

ايوب صابر 06-03-2012 12:38 AM


تحولات المكان في روايتي
" الوسمية " والغيوم ومنابت الشجر"
للكاتب السعودي عبد العزيز مشري


ثلاثة محاول نستطيع أن نتتبعها في كتابات عبد العزيز مشري الروائية:

تأثير الطبيعة وتحولات المكان وحلم التغيير الذي يرتبط بالعلم والمستقبل والحركة والحياة .
وتبدو رواية " الغيوم ومنابت الشجر " وكأنها نتمه لروايتة السابقة " الوسمية" التي تصور بدورها الانتقال من مجتمع بدوي إلي مجتمع مدني فبالإضافة إلي أن مكان الأحداث واحد في الروايتين وهو قرية الجل وقرية الوادي فقد تم التحول والتغيير بامتداده في الزمن وفي الأشخاص والمجتمع لعامة عبر مقابلة بين المجتمع القبلي والمجتمع الحضري بين القديم والجديد بين الجمود والتطور الحزافة والعلم القيم الشرقية الأصيلة والتقاليد المستحدثة
وفي رواياتة لا نجد حكاية أساسية أو حبكة أو نمو وتور في الشخصيات وإنما مجموعه من الحوادث المتفرقة في قالب من الحكايات الفرعية المتداخلة نحو التراكم الذي ينتج عنه التحول علي نحو عام
فالعين الراصدة والصوت الناطق في " الغيوم ومنابت الشجر " هي عين وصوت المغني ولهذا يصدر روايتة بهذه الكلمات
" قال المغني : أن الغناء قد اخذ منه بكل ما أخذ فغدا صاحب المثل ويقول القول في الحكم والمثل وكان بقوله يوثق لرقص الزنود السالفة في مدار الأيام الوافدة فماذا قال ؟
عبر نافذة وثلاثة أضلاع " مشاهد" يرصد لنا الكاتب تحولات المكان والتغيرات التي طرأت عليه والمكان في نهاية الأمر هو الذات لكنها ليست الذات الفردية بل الذات الجماعية " الوطن" " والمكان هو الكيان الاجتماعي الذي يحتوي علي خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه ولذا فشأنه شان أي نتاج اجتماعي أخر يحمل جزءا من أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه ومنذ القدم وحتي الوقت الحاضر كان المكان هو القرطاس المرئي والقريب الذي يسحل الإنسان عليه ثقافية وفكره وفنونه ومخاوفة وآماله وأسراره وكل ما يتصل به وما وصل إلية من ماضيه ليورثه إلي المستقبل ومن خلال الأماكن تستطيع قراءة سيكولوجية ساكنيها وطريقة حياتهم وكيفية تعاملهم مع الطبيعة أي المكان من خلال منظور التاريخ (1) .
" الغيوم ومنابت الشجر "

ففي النافذة أو المشهد الافتتاحي:
يحكي لنا المغني الراوي عن طفولتة الفقيرة وأبية الذي يعمل سائقا للتاكسي في موسم الحج وأمه التي تنقل الماء من البئر في قرب جلدية ثم تعليمه في المدرسة ومشاكسات الطفولة وقسوة بعض معلمين حيث كان النظام التعليمي وقتئذ قائما علي الحفظ والتلقين وكان يري في بيتهم بعض الكتب التراثية
المشهد الأول :
يصف الطبيعة الجبلية للطريق بين المنزل والمدرسة والأنهار الصغيرة التي كانت تتكون بفعل المطر والراعي الذي يترك غنمة فتهبط الوادي وتأكل الزرع ويلتقي بحليمة جارتهم وزوجها مطر الذي حضر متأخرا فوجد البلهارسيا قد أتت عليها فيتزوج مطر من فضة وهي امرأة مسترجلة متسلطة رغم تسامحها مع أطفاله وشعوره بالآسي لما ردده جيرانه عن سيطرتها عليه
المشهد الثاني "
يروي لنا شيئا عن صداقة مطر وظافر وأبن زايد وبيت ظافر يطل علي الجبل وهو يعيش مع زوجة مطيعة هي" عفراء" لهما ولدان وبنت أحب أحد الوالدين وهو حمدان " حياة المدينة فتعلق بها وفي مقطع أخر يزور بدوي من الصحراء جد الراوي ويشارك في الترحيب بحمدان حين زيارته لأبيه والبدوي محب للعلم كحمدان الذي يسال عن المستقبل
المشهد الثالث:
نجح الراوي في درا ستة وكانت قد مرت عشرون سنة علي وفاة حليمة زوجة مطر وصارت فضة جدة بعد زواجها من أخر سري الشيب في ملامح ظافر وقطعت رجل مطر فلم يعد لذالك البيت الذي كان يحنو عليه بجدرانه المطبقة علي عكازيه إلا ذكري طفولة مرقت بين عشية وضحاها وبني بيتا واسعا وغدت أصوات الأولاد في الدار ضجيجا يكاد يعمر قلب الجد ينسيه ماضي زوجتة وحاضر رجله المبتورة .

تشابه الشخصيات في الروايتين .

وتدور روايتة الأولي الو سميه حول تعبير طريق يصل ما بين القرية والمدينة وتضم ثلاث عشر حكاية هي :
انتظار , تمر وسميه, بنت حميدة تتزوج, مصلح الدوافير الخال يزور " أبو صالح " الماطور , أبو جمعان مع ضيفه في البئر الزلة, أحمد يتعلم أشياء جديدة حمارة حميدة , أمطرت الحظ
والجد في الروايتين واحد والخال الزائر في الوسمية هو البدوي صديق الجد في الغيوم والشايب الذي أصيبت قدمه وهو يعبر الطريق في الوسمية تقطع ساقه في الغيوم " مطر"

تأثير الطبيعة

في مدي تاريخ كامل من العلاقات بين الطبيعة والإنسان وبينهما وبين المجتمع نجد ثمة بقعة دفينة تتجمع فيها مثل هذه العلاقات هي أشبه ما تكون بالحفرة , الباطن, العمق العين و الرؤية المستبطنة اللا وعي, الفكرة ,العقل, العمل, الإدراك, الحدس بل هي كل ما هو كائن في مكان قصي مجهول وعندما يبدأ انسكابه علي العالم الخارجي بفعل قوي الإنسان والطبيعة يتشكل الوعي به ويبدأ تاريخ الأشياء (2) وتلعب الطبيعة دورا هاما في البيئة الصحراوية فأمامها يصبح الإنسان محدود المقدرة بانتظار المطر , أما المجتمع الحضري فينتقل بالإنسان من الاعتماد المباشر علي الطبيعة إلي تأكيد الإرادة البشرية ودورها " ورغم أن الصحراء تشكل المساحة الأكبر في وطننا العربي كلها تكاد تكون غائبة كمكان فني وفكري في أعمال كثير من الكتاب , باستثناء لوحات إسماعيل الشيخلي الرائعة التي استلهمت قضاء الصحراء وبعد النظركأمكانية زمانية ومكانية لم نجد غيره يولي الخيام وألوان السماء وحيوانات وملابس الناس أمي اهتمام فني متماسك ( باستثناء الكتاب السعوديين ) والصحراء في شعرنا العربي القديم عنصر فاعل تشكيليا وفكريا فيه اكتشف نفسه , إنسان مقذوف ألي عالم اجرد وعليه كي يثبت وجوده لا بد من تحديها فكان أن أثبت جدارة لا مثيل لها هي ذي القيمة التي أسسها الإنسان يوم ذاك متحديا بها حتى نفسه ككائن بشري في إبعاد الصحراء تكمن قيم الطبيعة وسحرها فهي فضاء بكثبان وفضاء بواحات وفضاء بسماء وافن منطبقين قضاء بألوان قوس قزح . فضاء بجفاف ومطر وخيول وجمال , وعيون ماء , قضاء متصل اتصالا مباشرا بالسماء فكانت الأديان وفضاء يعطي لأجزائه تمازجا كليا في لوحة كونية لأحد لامتداداتها
أما عيون الراوي فتستعير من النسر حدتها ومن الحدأة سعتها وفطنتها ومن الجمال صبرها وها هي الجنة الموعودة مؤجلة عن هذا الفراغ الفضائي لتتشكل في خيال سحري وحقيقي مقروء في كتب الأولين وعليها في مدارات الزمن شواهد لأحد لمثيلها في الثقافات الأخرى
في الصحراء يمتزج لون الرمل بالسماء وتنعكس في ذرتها الناعمة حقيقتها الصلبة وعندما يتصور المرءان هذه السعة من الأرض قد تجمعت بتجمع هذه الزرات الصغيرة يصبح العقل في منتهي الترفة من البحث والسعي والاستمرار في مواصلة الحياة
كان الإنسان العربي يجد نفسه في الصحراء كما يجدها في ربوع الماء والزرع ووجوده هنا لا يتحقق بسبيل العيش والتجارة بل في تأكيد الذات إزاء المحيط الواسع المتناهي 000
ولم تمت الصحراء عندما بنيت المدن أو أنتقل الإنسان مهاجرا عنها بل نقل قيم العصر الجديدة وعندئذ لا بد لها من أن تنزوي وتندثر(3) وعناوين روايات الكاتب وموضوعاتها نفسها مستمدة من هذه الطبيعة الصحراوية فروايتة الأولي الصادرة عن دار شهدي بالقاهرة عام 1985 يسميها " الوسمية" وروايتة الثانية الصادرة عن سلسلة فصول بالقاهرة هي الغيوم ومنابت الضجر ( فبراير 89)
جاءت الرياح الموسمية فاستيقظت الفرحة وجهز أحباب الأرض وسائلهم للوسمية 00
منها موسم المطر , وفيها موسم الزرع , وفيها نتاج ما يفلحون وما يعرقون (4)
والوسمية شغلت الناس , زرع ويحتاج للسقي يحتاج للرعاية يحتاج للملاحظة (5) و"أتممنا النشيد الطويل في طابور الصباح جاء المدير وقال لكل التلاميذ هيا توضأوا سنذهب لصلاة الاستسقاء مع أهل القرية 000 فرحنا وخرجنا من المدرسة طابورا طويلا , وصلينا مع الجماعة صلاة الاستسقاء 000 دعونا الله كما تعلمنا في ماده الفقه " اللهم حوالينا ولا علينا 00 اللهم علي الضرام والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر ثم عدنا للمدرسة ننتظر نزول المطر (6) .
"العلم"
فثمة تحول من مجتمع بدوي يعيش علي هامش الزراعة إلي مجتمع حضري يشق طريق المستقبل في رواية الوسمية وتجد السيارات طريقها إلي المدينة ومنها إلي العالم حيث يتعلم الأبناء شتي صنوف المعرفة فالولد في الوسمية يقول للفقيه سعيد الأعمى :
" ما أحب أن أكون فقيه أحب أسافر وأتعلم (7)

تحولات المكان

وإذا كان أبو جمعان في " الوسمية" يستشرف المستقبل إثناء إعداد الطريق الذي سيسهل الانتقال من القرى التابعة في حضن الجبل إلي المدينة علي النحو التالي :
غمض الشيخ عينيه وفتحها فدارت في رأسه ثلاثة أمور اشتبكت وتمازجت في عجله كما يشتبك الغبار بضوء الشمس
( أول باب : الآباء والأجداد كانوا يحضرون أحمالهم علي الحمير والجمال والحمير والجمال تمشي في الطريق التي تطأها القدم والحمي والجمال تصعد وتهبط الوديان وتأكل من الشجر وعلف الحبوب وكل ـخضر في البلاد 000 ولا تحتاج إلي سكة ولا إلي أشياء أخري)
( ثاني باب : يقولون السيارات تنفع وتشيل أحمالا أكبر من أحمال الحمير والجمال تشيل المسافرين من عن\ بيوتهم إلي مكة وتجئ بالجار وتجئ بالحطب وتجئ بالحبوب الأمريكية وبدلا من إحضار هذه الأشياء بالحمير والجمال 000 تجئ السيارات وعلي ظهرها الأحمال
صحيح أن راعي السيارة غريب ويجئ البلد في أيام معدودة من السنة ويأخذ أجرة اغلي من التي يأخذها صاحب الجمل وصحيح أن البعيد أقترب وابتعد القريب وتكلم الحديد وهذه من علامات القيامة وصحيح أن الدولة تقدر تفتح خط لكن جاء الخير وقلت البركة 00 من يوم أصبح الصديق ينسي صديقه والرحيم ينسي رحيمة والقريب يتعادى مع قريبه وأصبحت الفلوس هي التي تسوي الرجال تتحكم في القريب والبعيد خرب الزرع وقلت البركة وجفت الدنيا وأصبح الناس يحبون حنطة أمريكا والشاي السيلاني ويسافرون ويجيئون ومن يوم صار البترول يأخذ الناس وصاروا
يتمسخرون بالبلاد وخيرها كان يجب أن تفتح درب للسيارات ونجئ بمواطير لنزع الماء ورفعه وتشتري الحنطة الأمريكية ونسمع أغاني الراديو وتلبس البنت الأبيض والنا يلو 00 مرة نضيع ومرة نصبح رجالا)
( وثالث باب : بكره تجئ السيارات وتروح وتجئ بكرة نطالب الدولة والدولة غنية تفتح مدرسة لأولادنا يتعلمون ( عجن – خبز) ويتعلمون دينهم ودنياهم بدلا من رواحهم مسيرة نصف يوم علي أرجلهم يدرسون بعضهم يمرض وبعضهم يخطفه السيل وقت الوسمية 00 ما يجئ الأخيرة وبعضهم يسقط كل سنه مره يروح المدرسة ومرة ما يروح امتزجت الأبواب الثلاثة بأصوات الحفر والدق في الأرض عملا اختلاطهم بالغير وسعال الجماعة وتشابكت حركتهم (8) مضي الزمن سريعا شاخ جيل الآباء وكبر الأبناء وأنتقل المجتمع من طور الحياة الرعوية العشائرية ألي حياة جماعية ترتبط فيها مصلحة الفرد بالمجموع وأن شابتها بعض النقائص واجتذبت المدينة والحضارة الشباب الجديد ألي تحولات الأيام وصيرورتها بعد أن غزا العلم كل شئ
فانتشرت السيارات والتلفزيونات والأقمار الصناعية وازداد الثراء وكثر اللهو والعبث والضوضاء وكانت القرية القديمة علي سفح الجبل تنكئ شبه خالية من الساكنين بينما تناثرت بيوت حديثة استبدل بناؤها بالاسمنت ووقفت ألي جانبها سيارات ملونة وكان بداخل هذه البيوت أناس أحبوا أنفسهم كثيرا فانعزلوا وتركوا البقية تركوا أراضيهم خاوية الزرع وقد تهدمت حوانيها وغزتها البنايات القريبة فتراها إلي جانب الأخريات النضرة يابسة كجو اعد للخراف البيضاء (9) .

خصائص عامة

ولعل أفضل مافي هذه الرواية هو تقديم الكاتب لخصوصية البيئة والمجتمع السعودي وهو يستخدم تعبيرات عامية سعودية وتتخلل روايتة نبرة السخرية والتضمينات اللاذعة التي يعبرها بسرعة ولكنها تستلفت نظرك بعمقها وجديتها
ويطعم الكاتب روايتة ببعض الأمثال العربية ( لا تري البدوي طريق بيتك ) والرقصات الشعبية كالمسحباتي ويرينا طرقا من المجالس العرفية والعادات الشعبية في الأفراح والزواج كما تبرز للعيان النظرة إلي المر أه المسلمة باعتبارها تحتل المرتبة الثانية بعد الرجل والإيقاعات الصوتية وأن كان استخدامها فوتوغرافيا وكذا التقاليد الإسلامية
والكاتب يركز علي الوصف والتقرير ويورد كثيرا من التفصيلات الصغيرة التي كنا نود أن يتخفف منها ومع ذلك فقد نجح الكاتب في أن يثير في أعماقنا الشحن لهذا الزمن المنصرم وأن يجعل " للمكان وظيفة في إنهاء النص القصصي بنغمة مسيطرة أو سائدة هي التي تبقي في ذهن القارئ بعد انتهائه (10)

ايوب صابر 06-03-2012 12:39 AM

صدر المجلد الثالث ( الجزء الثاني ) للأعمال الروائية للمشري وضم هذا المجلد ثلاث روايات هي الرواية المشهوره ( الوسميه ) وهي أول عمل روائي للمشري وبعد ذلك رواية في ( عشق حتى ) ثم الرواية الأخيرة (
المغزول ) ..

هذا المجلد معروض حاليا ً بمعرض القاهرة للكتاب والذي بدأ قبل أيام وكذلك سيكون متوفر بمعرض الكتاب القادم بالرياض وهو صادر عن دار فراديس بالبحرين .

مبروك لمحضره ورحم الله عبدالعزيز مشري وشكراً لأصدقاء الأبداع ولكل من يحتفل بالمشري ( حيا ً ... بعد موتنا )

هذا مقال علي الدميني /

ما يشبه التقديم.. للجزء الثاني من روايات عبدالعزيز مشري

بقلم / علي الدميني

تلتقي " البنى الأساسية " للروايات الثلاث المنشورة في هذا المجلد، حول ما يمكن وصفه بمحور " التناص الحياتي " بين السارد وسردياته ، فيتبدى لنا تماهي الروائي مع حياته في أعلى ذرى تتشابكها، من خلال شفافية المكاشفة والتدفق العفوي لسرد الحدث، ورسم المكان والشخصيات ، بحميمية لافتة.
ف "الوسمية "، كأول تجربة روائية للكاتب ، تتسم بوجدانية العلاقة بين الكاتب وموضوع نصه، بما يحفزه على رسمها لغويا وفق " لغة المعيش اليومي " في مجتمع القرى ، التي كانت تشكل " تعاونيات " حياتية طبيعية ، تحكمها وتتجلى عبرها جماليات ومدلولات العلاقات البشرية في أي مجتمع قروي بسيط، يعيش على إنتاج معرفته بذاته، وإنتاج خيراته لنفسه، وإقامة علاقاته المتوازنة بين أفراده، ومع المحيط المجاور.
ولذا يغدو توظيف " لغة المعيش اليومي" – التي سكّ مصطلحها هنا الدكتور معجب الزهراني – كتعبير عن رغبة عاطفية دفينة، في إيجاد معادل فني قادر على الاحتفاظ بالذكرى "الإنسان / المكان" من خلال تكريس البلاغة الخاصة لتلك اللغة اليومية البسيطة، في كتابة النص.
وهذا المنحى المختلف هو ما جعل رواية " الوسمية "تأخذ موقعها في الحقل الروائي المحلي والعربي ( اتفاقا و افتراقا) منذ البدء.
أما رواية " في عشق حتى " فإنها نص إبداعي ، تتشاكل فيه " عذرية عشق قيس وليلى " ولذة الحرمان الذي عاشاه ، مع تأملات العلامة الفقيه " ابن حزم " لحالات الافتتان والتوله في طوق الحمامة"، لتفصح جذور تلك الأمثولات العاطفية عن أشباهها المعاصرة في افتتان العاشق بمعشوقته، فكرةً كانت ، أو حلماً، أو امرأة ، عبر تجليات عشق الروائي ل "حتى" !
وحين نصل إلى الرواية الثالثة "المغزول " فإننا سنقرأ حالة أخرى من إبداع الذات لكتابة حياتها في عمل مختلف، يواجه فيه الروائي موته، بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في رؤية " ما بعد الموت" ، لنمضي معه في هذا النص لمعايشة أشد لحظات الألم ،وفقدان الوعي ، ولقاء الموت وما بعده، ومن ثم عود ة الروائي إلى الحياة، محملاً بنقض تراجيديات الأساطير والواقع التي يحملها الإنسان في حياته.
ولعل من الصدف العجيبة والدالة أيضاً، أن يعيش " عبد العزيز مشري " هذه التجربة ويكتبها روائيا ً في نفس الفترة التي عايش فيها شاعرنا العظيم " محمود درويش" تجربة " مواجهة الموت "، وإبداعه لملحمته الشعرية المتفردة "جدارية محمود درويش" في عام 1999م!!
** ** **
أصدقاءنا
بهذا المجلد الثالث من" الأعمال الكاملة " للراحل الباقي " عبد العزيز مشري" يسعى " أصدقاء الإبداع – أصدقاء عبد العزيز مشري" لتقديم أعماله الخصبة ، والمتعددة الاهتمامات والسمات الإبداعية ، إلى قرائه والمهتمين بإعادة التأمل فيها وقراءتها نقدياً، ليبقى صوته الإنساني والوطني حياً كما يستحق ، في سيرته العطرة، وفي غيابه الحي وحضوره بيننا.
وتبقى كلمات للتاريخ ،ولذكرى الراحل ، ورغباته، تستدعي منا الإشارة إلى أننا قد أجرينا بعض التعديلات الطفيفة على عبارات من رواية " الوسمية " ، و رواية "المغزول" ، تقديراً للضوابط الاجتماعية ( التي نعرف أن سقف حرية التعبير الإبداعي في المملكة ، قد تجاوزها، ولكن!!!) ، آملين – بحنان خالص – أن يسامحنا " عبد العزيز" على ما قمنا به من اجتهاد!!علي الدميني
أحمد مشري
من أعضاء مجموعة
"أصدقاء الإبداع- أصدقاء عبد العزيز مشري

ايوب صابر 06-03-2012 09:26 AM

عبد العزيز مشري
وكيبيديا

روائي وقاص سعودي ولد في قرية محضرة، بمنطقة الباحة الواقعة جنوب منطقة الطائف بحوالي 200 كم، في عام 1954 م. تفرغ للقراءة الذاتية و الرسم والكتابة الإبداعية مبكراً، حيث أعاقته ظروفه الصحية عن استكمال دراسته ، أو الانتظام في عمل وظيفي,تميز بغزارة الإنتاج وتنوع الاهتمامات ( قصة – رواية – شعر – رسم – خط – موسيقى - كتابة اجتماعية وأدبية ). نشر أعماله في الصحف والمجلات السعودية، والعديد من المجلات العربية .
• - وقد أصدر أصدقاء الإبداع – أصدقاء عبد العزيز مشري – وعلى رأسهم علي الدميني كتابا توثيقياً لمسيرة حياته الإبداعية ، بعنوان " ابن السروي .. وذاكرة القرى " في مناسبة تكريمه من قبل "جمعية الثقافة والفنون بالباحة " في عام 1999م، و قد حوى الكتاب عدداً كبيراً من أهم الدراسات النقدية التي تناولت أعماله، كما ضم حواراً شاملاً عن حياته وإبداعه ورؤاه الثقافية والاجتماعية .

مؤلفاته : 1- باقة من أدب العرب ( وهو عبارة عن مختارات تأسيسية من نصوص التراث العربي ) عام 1973م
2 - المجموعات القصصية القصيرة التالية: ( وقد أعيد إصدارها من قبل " أصدقاء الإبداع – أصدقاء عبد العزيز مشري "، ضمن مشروع إعادة نشر أعماله الكاملة ، في المجلد الأول عام 2001م)
أ - موت على الماء ( النادي الأدبي بالرياض – عام 1979م) ب - أسفار السروي ( نادي القصة السعودي – عام 1406- 1986م) ج - الزهور تبحث عن آنية ( نادي جازان الأدبي – عام 1987م) د - بوح السنابل ( نادي الطائف الأدبي – 1408- 1987) هـ - أحوال الديار ( النادي الثقافي الأدبي بجدة – 1993م) و – جاردينيا تتثاءب في النافذة ( إصدار خاص 1998م )
3- كتاب "مكاشفات السيف والوردة " ( سيرة أدبية – نادي أبها الأدبي – عام 1996م)
4- الأعمال الروائية ( الجزء الأول – المجلد الثاني من أعماله الكاملة والصادر في عام 2003م ( وقد تضمن هذا المجلد إعادة نشر كتاب "مكاشفات السيف والوردة " إضافة إلى الروايات التالية :
ا - الغيوم ومنابت الشجر ( مختارات فصول المصرية عام 1989م) ب - ريح الكادي ( المؤسسة العربية للدارسات والنشر – عام 1992م) ج - الحصون ( دار الأرض بالرياض – عام 1992م) د – صالحة ( مختارات فصول المصرية – عام 1996م)
5- الأعمال الروائية ( الجزء الثاني - وسوف تتضمن إعادة نشر الأعمال الروائية التالية):
أ – الوسمية ( دار شهدي – القاهرة – عام 1984م) ب - في عشق حتى ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عام 1996م) ج - المغزول ( وأصدرها أصدقاؤه بعد وفاته – أواخر عام 2005م )
وسوف يعاد إصدار الروايات الثلاث الأخيرة في المجلد الثالث من أعماله الكاملة.
مخطوطات : ترك الراحل لنا المخطوطات التالية:
1 - القصة القصيرة في المملكة " وتضمنت بعض قراءاته النقدية وتأملاته عنها" 2- ترنيمة - نصوص شعرية كما ترك عدداً كبيراً من اللوحات الزيتية والرسومات المخطوطة بالحبر ، ويطمح أصدقاؤه إلى طباعتها في كتاب.
محطات في حياته :
  • - شارك عبد العزيز في تحرير الملحق الأدبي لجريدة اليوم "المربد" من عام 75- 82م ، وأسهم بالكتابة الأدبية والاجتماعية في مختلف الصحف السعودية، وينوي أصدقاؤه اختيار بعض تلك المقالات وإصدارها في كتاب.
  • - تزوج في عام 80م من السيدة "ناهد" ،وهي مواطنة أردنية من أصل فلسطيني، وأهداها مجموعته القصصية الثانية " أسفار السروي"، وحيث لم ينجبا في عام 90م نظراً لظروفه الصحية ، فقد اختار - بطريقة نبيلة لا يباريه فيها أحد - أن ينفصلا بالتراضي بينهما ، ليتيح لها فرصة الزواج والإنجاب .
  • - أصيب بمرض السكري " في وقت مبكر من حياته ، وأدّت مضاعفات المرض ، والعقاقير الطبية مع مرور الزمن إلى التأثير على البصر، واختلال توازن حركة المشي، والفشل الكلوي واضطراره لغسيل الدم" الديلزة " ثلاث مرات في الأسبوع، وكذلك تعرضه لضغط الدم .
  • - أجريت له عملية لزراعة الكلى، في مستشفى الملك فهد بجدة، في النصف الأول من عام 1993م، وساعده نجاحها على استعادة تألقه و إبداعه في السنوات الست الأخيرة من عمره، ولكن " الغرغرينا " بدأت بغزو أطرافه، فتم بتر إصبع من يده اليسرى، ثم بترت القدم اليمنى، وبعدها تفاقم الحال حتى تم بتر ساقه اليسرى كاملة .
وفاته:
توفي رحمه الله في مستشفى الملك فهد بجدة في يوم الأحد في الساعة السادسة إلا ربع مساءً، بتاريخ 7/5/2000م، وكان إلى جانبه شقيقه الوفي أحمد مشري، وصديقه المخلص "سعد الدوسري" ، وقد ووري جثمانه الثرى في مقبرة الفيصلية بجدة، ويقع قبره في الجهة الشرقية من المقبرة على مسافة أربعة أمتار من الجدار الشرقي، وثمانية أمتار من الجدار الشمالي.
مصادر

فحته في موقع القصة العربية
http://www.arabicstory.net/?p=author&aid=111

ايوب صابر 06-03-2012 11:08 AM

عبد العزيز مشري
ولد في قرية محضرة بمنطقة الباحة عام 1374هـ
تفرغللقراءة الذاتية والرسم والكتابة الإبداعية مبكرا ، وحيث أعاقته ظروفه الصحية عناستكمال دراسته أو الانتظام في عمل وظيفي.
ـ تميز بغزارة الإنتاج وتنوعالاهتمامات إذ صدرت له الأعمال التالية:
1ـ باقة من أدب العرب ( مختاراتتأسيسية من نصوص التراث العربي )
2ـ المجموعات القصصية التالية : ( موت على الماء ـ أسفار السروي ـ بوح السنابل ـ الزهور تبحث عن آنية ـ أحوال الديارـ جاردينيا تتثاءب في النافذة )
3ـ الروايات التالية : ( الوسمية ـالغيوم ومنابت الشجر ـ ريح الكادي ـ الحصون ـ في عشق حتى ـ صالحة )
4ـ " مكاشفات السيف والوردة " كتابيضم سيرته الإبداعية والثقافية.
5ـ مخطوطات :
أ ـ المغزول ـ رواية .
ب ـ القصة القصيرة في المملكة ـدراساته وتأملاته فيها.
6ـ عدد من اللوحات الزيتيةوالرسومات والمخطوطة بالحبر .
ـ شارك في تحرير الملحق الدبيلجريدة المربد من عام 75 ـ 85م .
ـ كتب في كافة الصحف السعودية .
ـ أصيببمرض السكري وأدت مضاعفات هذا المرض وعلاجه مع مرور الزمن إلى تأثير على البصرواختلال في التوازن والمشي والفشل الكلوي مما اضطره للغسيل عن طريق ( الديلزة ) ،وكذلك تعرضه لضغط الدم.
ـ زرعت له عملية كلى عام 1993مبجدة وقد تمت العملية بنجاح مما ساعده على السطوع مرة أخرى ، إلا أن ( الغرغرينا ) راحت تأكل أطرافه فبترت إصبع من يده اليسرى ثم بترت قدمه اليمنى وبترت الساق اليسرىكاملة.
ـ توفي رحمة الله عليه بمشفى الملك فهد بجدة يوم الأحد عند الساعة السادسة إلا ربعا مساءً بتاريخ 7/5/2000م بحضور أخيه أحمد مشري وصديقه سعد الدوسري ، ووري جثمانه في مقبرة الفيصلية بجدة

ايوب صابر 06-03-2012 11:11 AM

عن : عبد العزيز مشري
مجموعة مقالات ودراسات ومعلومات:
http://menber-a10z10.info/forum.php?action=list&cat_id=51

ايوب صابر 06-03-2012 11:14 AM

حوار مع عبد العزيز مشري
كنا على الموعد في الخامسة مساءً ، في شتاء دافئ يغمر مدينة جدة ، وحين دخلت الباب الرئيسي جاء على كرسيه - الذي يجيد أخوه أحمد دفعه " وسواقته " عبر الدرج والممرات - ولم يطل عناقنا فقلت له : أتبخل علينا يا عبد العزيز أم أنك تحتفظ بالعناق لغيرنا ؟ ضحك وكان" الشنب " الكثّ المزدان بأولى الشعيرات البيضاء يهتزّ بأناقة .
جلسنا في فناء البيت الصغير حيث تُـقاسمنا شجيرة الكادي وحوض الريحان شطر المكان .
- ماذا تشرب ؟
- شاي ثقيل ورأس معسل بحريني
لم يطل الوقت حتى اكتملت عدة المجالسة وبدأ نقيق "الأرجيلة" يشاركنا حفاوة اللقاء .
قلت له : يا عبد العزيز .. أنت من عائلة كريمة تحظى بمحبة واحترام غالبية أهل قرية "محضرة " ( وليس 99% ) منهم ، وقد توارث أجدادك ثم والدك هذا التقدير الذي أهلهم للحصول على لقب "شيخ القرية"، فهل تعد نفسك لهذا اللقب بعد عمر طويل إن شاء الله؟
- قال يكفي ما احتمله جدي وأبي من تبعاته .
- قلت، وهو يعبّ من " لي " الأرجيلة : سأكون أول الرافضين لتعيينك في هذا المنصب لأنه لا يليق بقرية مثل "محضرة" أن يكون شيخها روائياً يكشف المستور والمسكوت عنه أو كاتباً مشاغباً وعنيداً مثلك، لا يثنيه عن رأيه " سبعة سيوف " .
غرق في الضحك وقال :
هذا رأيك باعتبارك أحد المناوئين لزعامتي ، ولكنني أعرف أنك قد عايشت تلك القرية التي كانت برلماناً تلقائياً شديد الإنصاف ؛ في ساحة مسجدها – يوم الجمعة - .. حيث كان الجماعة بعد أداء صلاة الجمعة .. يخرجون من باب المسجد، يتسابق كل منهم إلى مقعد أو متكأ على " الحجيرة " المحيطة بتلك الساحة، يستمع للجديد والمطروح .. واحد يشتكي من التعديات البهائمية ، وآخر يشكو من مظلمة في مزرعته ، وثالث يدعو الجماعة لعزيمة زواج ابنه أو ابنتــه، أو دعـوة لـ" طينة " سقف البيت الحجري الذي بني ونما بين عيون الكل .. هل رأيت كيف كانت تأتي المرأة ملفوفة بالبياض ملثمة وفي يدها بنتها أو ولدها الذي مات أبوه وتركهم في أمانة الجماعة دون وصية كالعادة .. سيقف الكل مع حقها في البيت والوادي وسبيل الطريق ومجرى ماء المطر إلى مزرعتها .. فمن مد يده أو زهقت رجله أو لسانه .. فإن "الحق " يجري عليهم جميعاً !
شيخ القرية هو واحد مثلهم لا يتميز بأية ميزة سلطوية أو امتلاكية .. سوى أنه معروف بحب الخير والعدالة والرأي المسموع الذي لا يخالف رأي الأغلبية الصادقة والمحقة ( صغيراً أو كبيراً .. امرأة أو رجل ).. لم يكن فقيه الجماعة ولا قاضيهم أو إمامهم .. لكن لكل شخص وظيفته واختصاصه الملائم له حسب قدراته الإمكانية والتقديرية المعروفة .. مع احترام الكبير من قبل الأصغر سنا، حسب العرف القروي !
لم يعد اليوم هناك وحدة إنتاجية تجمعهم ولم يعودوا يلتقون في حوش المسجد بعد الصلاة ليناقشوا أموراً مشتركة، ولم يعد يجمعهم شاعر أو رقصة ، أو مشرب ما، أو مواشي . بقي أفراد من جيل آبائنا يرددون ما قاله شاعرهم القديم عن شباب يهزؤون بالماضي .
" يتهزا بلون الشيب والشيب يتهزا بنا "

(1) - يا عبد العزيز
حين أتصل بك هاتفياً يجيبني صوتك الأجشّ معلناً عن قسوته وكأنه صوت "الجعري "، بينما حين يقابلك الآخرون يجدون اللطف والوداعة فهل تحتمي خلف صوتك الهاتفي ؟ وهل تخشى أن يلتهمك شيء ما ؟ إنسان مثلاً أو حيوان ما، من خلال التليفون ؟

* - كلا لم تأت ببالي هذه التفصيلة التي أوردتها .. ولا تخفّيت خلف صوتي خوفاً أو طمعاً .. ربما يشبه صوت الضبع " الجعري " كما وصفه الصديق المازح دوماً " د. سعيد بن فالح " والذي ينوي به إخافة الحمير من الضباع - سامحه الله - متناسياً أن الحمير هي التي كانت تقدم عملاً عظيماً في نقل " التوار " التي تصنعها قريتهم التي تصنعها من الفخّار المحروق إلى الأسواق !

(2) - في نصوصك الغنية التي اشتغلت فيها على عالم القرية استثمـــرت الكثير من الشخصيات (كأنماط ودلالات ) وجسدت جوانب عديدة من منظومة العادات والتقاليد والقيم والمكونات الثقافية لمناخ العالم القروي، وقد أبرزت من خلاله المعنى الرمزي والأسطوري للعديد من هذه الكائنات مثل الديك ، والكلب والحمار والثور " أبو قرون " والبقرة .. إلخ
وسؤالي هنا يتفرع إلى شقين الأول :
بحكم معايشتك لعالم القرية الجنوبية ومكوناتها الثقافية فيما يخص مفهوم " الجد " الأسطوري لكل قرية.. لماذا لم تلتفت إلى هذا التكوين أو لماذا أغفلته في أعمالك؟ وهل تنوي استثماره مستقبلاً ؟
أما السؤال الثاني فهو : ما تفسيرك لتلك الفكرة " للجد " التي ما زالت تستخدم بشيء من السخرية حتى اليوم في لحظات المرح والتندر والغضب، ما بين سكان قرية وأخرى فيما يخص ذلك" الجد" ؟

* - حين أكتب الرواية عن عالم القرية في الجنوب .. فهذا لا يعني أنني "أنثروبولوجياً " ولا دارس أساطير ولا محقق أو كاتب خطاب اجتماعي بالتقارير .. مع أنني اعتقد أحياناً أن الكاتب المبدع هو كل هذا وغيره .. لكنه يصوغ الواقع وربما أعاد تركيبه حسب رؤيته الفكرية والفنية .
النقطة التي ذكرتها .. هامة وجميلة وتؤكد أن أهل القرى ، لا يزالون الوحيدين الذين يمضون في سياق الشعوب القديمة .. فمسألة الجد الأسطوري " المرمز"، موجودة لدى الشعوب القديمة في كل العالم الشعبي تقريباً .. غير أن البعض - للأسف - لديهم مفهوم السخرية .. بل راحوا ينظرون إلى مسالة تطبيع الوحدة الاجتماعية القروية أو القبيلة بطباع " الجد " الرمز .
إنها لم تغب عني .. غير أن المناسبة فقط لم تتهيأ فيما سبق من كتاباتي . ربما كان ذلك فيما يأتي .. فالتفاصيل المهمة كثيرة في حياة العالم القروي، والكاتب لا يستطيع أن يطرق كل الشئون، ولا يستطيع إلا أن يمر ببعضها مرور التلويحة باليد فقط.

• إذن ما هو الجد الذي ستختاره لقريتك محضرة بعد أن طلع العالم القروي -الذي كتبته في ملحمة القرى - من جذور حياة تلك القرية ؟

* - كتبت لكي أحافظ على الذاكرة، لا لتغييرها، لذلك أرى أنه ليس من حقي تغيير ما استقر في أعماقها بالنسبة لذلك "الجد" الذي تعرفه، فهو لنا معاً .

(3) - في بداياتك في كتابة القصة القصيرة كنت مهموماً بكتابة الرواية، وكنت تشير لي في معرض أحاديثنا آنذاك إلى رغبتك في كتابة الرواية بالاستفادة من تجربة الغربة في الدمام وحياة الصعلكة البسيطة التي كان يعيشها بعض الأصدقاء حولك، ثم كتبت جزءاً من عمل روائي أسررت لي بخطة سرديته عن رحلة يقوم بها شاب من أعلى الجزيرة حتى جنوبها عبر جبال السروات، وبعد ذلك فاجأتنا بعد عودتك من القاهرة بإنجاز عملك الأول " الوسمية " عن عالم القرية ؟
ترى هل هي الغربة وقد أحيت الحنين في قلبك ؟ هل هو عالم القاهرة، أم الوعي الذي وقف على قدميه في تلك المرحلة قد دفعك للعودة للذاكرة وتجسيد عوالم القرى ؟

* - نعم حدث هذا في فترة صدور مجموعة " موت على الماء " وهذه القصص تمثل الفترة المعيشية الثقافية التي تكونت بعد سفري من القرية إلى المدنية "الدمام"، ولعلك قد لمست البنية القروية البريئة والتي صدمت بصخب المدينة وإيقاعها مع أنها – بعد عقدين من إعادة قراءتها - وجدت أن القرية وعالمها متجذر في ذهنية القلم الذي سرد قصصها .. لكنها كانت ذهنية شاب متحمس لم يتلمس طريق خطواته الفكرية تجاه العالم والكون والإنسانية .. بحيث طغت الشكلية اللغوية "والمفردة المنحوتة " وزخرفة الصورة - حسبما جاء فعلاً في مقدمة الأستاذ " علي الدميني" وكان يسبقتي بخطوات واسعة ثقافياً وكتابياً .. طبعاً المقدمة كتبها في أول المجموعة، والحقيقة أنني قد كتبت ما سميته آنذاك بالكتابة الروائية الناقصة شكلاً ووعياً، وأذكر أن صديقاً كان يعمل معنا في جريدة " اليوم " كان متشجعاً لها " نبيه الشعار " من سوريا وكان يقرأ مقاطعها ويسجلها بصوته ( روى لي أنه كان مذيعا في الإذاعة السورية ) وهو شاعر جيد .. ولكن هذا لا يبرر أن أكتب الرواية وقتها لعدة أسباب أقولها فيما بعد زمانها .. منها : العمر . التجربة الواعية بمسئولية كتابة الرواية خاصة وأنها شهادة اجتماعية مرتبطة بموروث عالم له خصوصيته وممارساته داخل محيط مؤسسي معلوم.
الحماس المناقض للتقليدية الكتابية الصورية الشكلية للحياة الاجتماعية لا يكتب الرواية : الوعي والإدراك بوظائف الكتابة هو الذي يكتب كتابة ذات قيمة.. الذاكرة.. المعايشة.. الطفولة ..المسئولية.. الموهبة.. وعدة مقومات .. هي التي تجعلك كاتباً على مستوى الرواية .. قد ترغب في أن تكون كاتباً روائياً .. لكنك لا تملك المقومات .. فهل يعني أنك أصبحت كاتباً روائياً .. لا اعتقد أبداً ما لم تعلم جيداً أنك تحمل في صدرك قولاً كبيرا ً وطويلاً يستحق أن يوضع على الورق .
" القاهرة " أو غيرها من العواصم العربية ذات مساحة تستوعب الكاتب والكتابة والقارىء والمستقصي .. لكنها جميعاً لا تمنحك الهم الخاص الذي تكون فيه مع هويتك وانتمائك الخاص.. هي تمنحك عالماً غير منقسم في إنسانيته .. فالإنسان الكامل برجولته وأنوثته موجود. وهذا ما افتقدته في واقعنا، لذلك ربما فتحت القاهرة عيني على هذا الوجود الطبيعي للمرأة في الحياة والذي يشبه زمن الطفولة القروي لدى كل إنسان ، وربما حفزني ذلك على العودة إلى العالم الطبيعي .. العالم السوي.. حيث يقف الرجل والمرأة على قدم الإنتاج المشترك والمساواة الإنسانية في كل مناحي الحياة .

( 4) - هل يمكن لنا أن نقف عند أهم الروايات التي قرأتها وما هي العناصر المميزة فيها التي بقيت في الذاكرة والمخزون الفني لديك، وكيف استفدت من بعضها ؟

* - كأني أفهم من سؤالك أن ثمة تأثيرات قرائية للرواية .. بل لأعمال روائية معينة .. استطاعت أن تقدم لك نحتاً نمطياً على صعيدي الفن والموضوع !
اعتقد أن هذا لا يمكن أن يحدث بهذه الصورة .. إذ أن كتابة الرواية وفي عالم خاص بتاريخ صراعاته الطويلة عبر أداة إنتاجية محددة، وضمن مكانية معروفة ومن خلال معايشة منذ الطفولة، عجنت وخبزت الكاتب، وشرب من مواردها الثقافية الحياتية على هيئة فتافيت تربوية ومعيشية يومية مروراً بالتفاصيل والمناسبات والفصول .. أقول إن هذا لا يمكن أن يحدث لمجرد قراءة أعمال روائية تتماثل مع مثل خصوصية العالم القروي الذي كتبت عنه .
القراءات الروائية باختلاف صورها وعوالمها القصصية والشعرية والتراثية وكل ما يمكن أن يقال عنها.. المحصلة التي لا تنتهي عند نقطة محدودة في الحياة وآنذاك - وقت إذ بدأت بكتابة الرواية الأولى " الوسمية " في القاهرة عام 1982م ( وكنت اعتبرتها تجربة روائية ) كنت قد أعجبت بكثير من الأعمال وكانت جديدة علي منها أعمال " هنري ميللر " وشينمو انشيبي " وتراثية كـ" أحمد بن إياس " و " أبو حيان التوحيدي " وأشياء أخرى .. جميعها وسابقاتها وبعد توقف طويل - بعد إصدار مجموعتي القصصية الأولى " موت على الماء " عام 1979م .. توقفاً منلوجياً تأملياً .. رأيت أن الكتابة وقتها .. لا تحتاج إلى التغريب والبحث عن مادتها وعالمها من خارج ما يقع في الذهن من حكايا وأحاديث طويلة تكمن عند أصبع القدم وليست في جزر " الهونولولو " أو وديان " واق الواق " ، يضاف إلى هذا الشعور بالغربة القاسية والمرهونة بظرفها الذي لم أجد معه إمكانية لكسرها أو النفاذ منها بمجرد خاطر العودة .. وما سببته من حميمية إنسانية قوية تجاه عالمي القروي الأول .
لقد رأيت أن الكتابة لا يمكن أن تصيب وجدان وذهنية كاتبها - الروائية تحديداً - إلا إذا كانت تغمس سن قلمها في دم كاتبها خزينة معيشته أو تجاربه وطريق رؤيته واستراتيجية .. قل محصلته الثقافية. لقد وجدت عالماً خاصاً وجديراً جداً بالكتابة .. فكتبت وكنت كلما انجزت مشروعاً اكتشفت أن ثمة تفتحات جديدة وعالم وجزئيات لا يمكن أن تنضب أو حتى يشوب مشوبها النقصان ..و هكذا.

( 5) - الذين يعرفونك عن قرب يلمسون اهتمامك الدقيق بهندامك والمكان الذي تعيش فيه وانشغالك الجميل بنوع الساعة والقلم والولاعة والعقال و الغترة ونوعية العطر حتى وأنت في ساعاتك العصبية مع المرض، وسيدهش الداخل إلى منزلك يا عبد العزيز بشجيرة " الكادي " وهي تحييه خضراء مبتسمة مشيرة إلى نبتاتها المتوالدة وبياض زهرة " الكادي " على تاجها رغم أنها تعيش في بيئة لم تكن معدة لها وسيدهش زائرك حين يجول ببصره على محتويات مكتبتك وستشده دقة تنسيقها وترتيب كتبها, ورغم أنك تنام في نفس المكتبة إلا أن كل شيء يبدو دائماً في قمة الإنسجام !
فما هذه القدرة على تنظيم ما يبدو عصياً على الانتظام واستنبات ما يبدو مخالفاً لمناخه؟ وماذا أفادك به هذا الذوق المميز في حياتك وكتابتك ولماذا تسلل " ريح الكادي " كعنوان لتلك الرواية ؟ وما دلالة تحوله إلى " جاردينينا " كعنوان لمجموعتك القصصية الجديدة؟ هل يعني ذلك تحولاً للذائقة الموروثة من القرية إلى الذائقة المعاصرة في المدينة ؟

* - تعلم أن نبته الكادي المميزة الرائحة والخضرة لا تزرع في قرانا الجبلية - مع إننا نحبها وتتزين بها رؤوس الصبايا - فهي نبته تهامية النشأة هي و" الحناء " والقطران " الخاص برائحته في قرب الماء وطلاء الأبواب وأشياء كثيرة ومميزة تتميز بها المنطقة التهامية الجميلة بأهلها وخصائصها ومناخها الدافئ .. لذا فريما كانت منطقة " جدة " المدينة الساحلية الحارة قريبة من مناخ تلك النباتات الواردة. نحن لا نستطيع أن نستزرع نبته الورد المشهور بذكاء لونه ورائحته وبتواجده الموسمي الربيعي في الجبال القروية بالجنوب .وهكذا وللمختصين في شأن الزراعة علم دقيق في هذا الأمر ليس ثمة سر ولا كشف إنما هو الرجوع الحميمي لتفاصيل المكان الطفولي وجماليات معيشته وذكرياته، وبرغم بعد المكان على الإنسان يبقى يحن للأشياء التي ارتبطت باندها شيته ومعيشته الأولى .. أذكر عندما كنت في إحدى الولايات في " أمريكا " وفي ظرف صحي يصعب وصفه تمنيت - وقت إذ امتنعت عن تناول أي نوع من الطعام والشراب - تمنيت كسرة خبز ناشفة من حب " البلسن " العدس البني الصافي - مع قهوة البن أو مع اللبن الحامض بالريحان، وبالمناسبة فإن اسمه في قاموس اللغة بـ" الحقين والحقينة " كما يسميه أهل القرى بالسراة والمهم أقول :
وعندما خرجــت بعد زمــن من المستشفى للفسحة دخـلت حديقة منبسطة بالخضرة العشبية " النجمة " - أيضاً هذا اسمها القاموسي في العربية - فشممت رائحة الطين الواقع بين الجبال في تلك الولاية. لقد عدت آلاف الأميال في فينة زمن لا تقدر بجزء من الثانية إلى رائحة طين القرى والأودية، و لا أظن أن المسألة مرتبطة بي أو بفلان من البشر بل بكل الناس في كل المناطق ليس في أمر كهذا فقط .. بل في اللغة ولهجاتها وأنواع الملابس والروائح والألوان وكل ما يخاطب الحواس .. يقول العلماء إن الإنسان في لحظة خطرة مباغتة .. يصرخ منفعلاً بلغته التي تعلمها في بيئة وطفولته، ولحادثة تحدث في عمر كبير وفي منطقة بعيدة جداً وغربية اللغة والحياة عن بلده .
في الحياة الاستهلاكية المدينية التي نعيشها في هذا المرحلة ببلدنا .. أصبحت الخصوصيات في طريقها المختصر السريع نحو الإلغاء والاستبدال المدني الشكلي المستعين في تفاصيل استهلاكاته على عالميه الاستيراد الورقي الخفيف - قبل العولمة - التي أخذناها في عالمنا النامي من بابها الضيق - قبل وصولها .
من ملايين الأشياء الشكلية ومن الزهور - اللازهور - المؤطرة خلف زجاج محلات بيع الزهور حيث تردنا من كل بلدان العالم وبصور وهيئات لا تمت إلى بلدنا بصلة ومنها نبته خضراء يانعة وغضة لها زهور بيضاء نقية اسمها "جاردينيا" ، في إحدى الظروف العلاجية التنويمية بمدينة " جدة " صحوت على هذه النبتة المزهرة من صديقة ما .. لكنها مع الأيام القليلة وبعدم عناية .. تحولت إلى ضمور قليل يشبه التثاؤب .. فكان منه عنوان المجموعة الأخيرة التي تدور أجواؤها في المستشفى وليس في القرية .. فكان عنوانها " جارينيا تتثاءب في النافذة "
في شأن الذائقة القروية والمدنية فالذائقة هي واحدة .. لا يمكن تجزئتها أو تقطيعها إلى مناسبات وأحوال.. إنها لا تأتي حسب ذائقيات يرغبها الآخرون مثلاً، لأن لكل بيئة ومجتمع خصوصية منشأة وذائقته التربوية التي عاشها في حضن ثقافة الموقع الأول.
كنت في الطفولة مفتونا بالنجوم وبعدها وكنت أحلم بنجم أخضر مضيء.. لم تكن الكهرباء قد وردت القرية .. فكنا نراها آنذاك عبر مسافة بعيدة في الليل - بعد صلاة المغرب - نراها في قرية مركزية أخرى، وكان من بين الأنوار نور أخضر جميل يقتحم العين والقلب.. بالطبع لا أعرف مصدره الحقيقي ولا سببه .. لكنني أعلم أن الضوء الهامس البعيد لا يظهر إلا بعد انفصال النهار عن بداية الليل .. لو سألتني لماذا أحببت اللون الأخضر ؟ لما استطعت الجواب لأسباب أقلها أنني كبرت وكبر معي وربما إلى النهاية ! .
الذائقة الفنية أيضاً - ومع علاقتها بالثقافة - لا يمكن فصلها عن زمن الطفولة والنشأة .

ايوب صابر 06-03-2012 11:14 AM

تابع الجزء الاول:
(6) - بديهي أن الكتابة الواعية التي تقصد موضوعهاالمكتمل كالمناخ الاجتماعي في المجتمعات القروية مثلاً لا يمكن أن تحيط بكل عناصرهوتفاصيله المهمة وأنها في أحسن حالاتها ستتشكل من عناصر انتقائية يتم إعادة بنائهامن منظور رؤية الكاتب.
وفي رواياتك وقصصك عن القرية لم تتطرق للعلاقات العاطفيةأو حالات الحب والعشق الحارق الذي يتأجج في أحشاء كل تجمع بشري ولا سيما في القرىالتي تتداخل حياتها بالطبيعة وبالأحلام العاشقة . فما تفسيرك لذلك ؟
ومن جهةأخرى فكما عشنا في المجتمع القروي رأينا أن ثقافته تعبر عن مذخور الثقافة الشفاهيةوالتي لم تكن تتحرج في الحديث اليومي عن استخدام المثل المسكوك والقصة العابرة التيتتعامل مع مفردات الجسد الأنثوي والرجولي وبطريقة عادية وصريحة عن كل مستوياته، فهلتعمدت إغفال تلك الخاصية الأسلوبية أم أنك تدخرها للمستقبل ؟

* - سأبدي لكما كنت تجهله فأنا لا أصنع هيكلة تفصيلية للرواية قبل كتابتها وإنما أحدد إطاراًأكتب في حدوده ولا أقول " أفقه " ينسج البناء الروائي، وعادة ما أكون قد اعتمدت علىرموز إيحائية كالمثل أو الحكمة الشيخية أو المسمى أو الذكرى المرتبطة دون تأثرمباشر بالذات وإنما بالمخزون الاجتماعي وما ألم به من ثقافات حكائية مروية ممنسبقوا زمن المعايشة، هذا ليس نفياً للذات وإنما لاستراتيجية مرجعية اجتماعية كتابيةبمنظوري العصري .
إن كثيراً جداً من الحقائق التي تحتاج إلى تفاصيل وتوظيفات لمانظر لها في كتاباتي - قصة أو رواية - وذلك لأن هذا غير ممكن على الصعيد الإبداعيالكتابي الذي أعوم فيه وإلا لكنت كاتباً منوعاً كـ" الجاحظ " مثلاً و لوضعت كل شأنفي كتاب وهكذا .
الكتابة في خصوصيات المجتمعات " إبداعاً " هي من أصعبالكتابات - في نظري - لأنك تحتاج إلى الموازنة بين انتقائيتك لزاوية الإلتقاط وبينالحرص على حقيقية الانتمائية الخاصة، وكان بداخلي رغبة كبرى في اعتبار الزمنالمرحلي هو خط سفري في الكتابة عن هذه المكاتبة الاجتماعية تحديداً .. لكنني اكتشفتأنني لست كاتباً تاريخياً لذلك وجبت علي الانتقائية فأنا محدود بزمن يتحدد فيهالعمر والقدرات الذاتية والموانع المؤسساتية والاجتماعية التقليدية وأمور أخرى. أنتتعلم أنالروائي يحمل كشفاً وتفصيلاً .. لكنك لا تستطيع أن تنفصل عنه - بأي حال - رؤيتك الخاصة وإدارتك لبناء عملك الروائي في إمكانية الواقع الذي لا يمكن تزويرهولا صبغه بما ترغب.. نعم ..
لقد سألني أحد القراء هذا السؤال تحديداً :
- أين عاطفة الحب والعشق في رواياتك ؟
لا أجد جواباً شافياً وربما كان هذا عيباًفي أعمالي القصصية والروائية عن القرية الجنوبية .. رأيت أن المزارع الذي يخبط فيطرف الخبزة ليزيح رماد " الملة " عنها .. ويسرح بعد صلاة الفجر إلى الوادي ولا يعودإلا بقدمين مبلولتين بالطين ثم يتعشى ما قسم له لينام منهكاً .. لا وقت عنده للحبوالمغازلة .. بالطبع حبه وهبه لزوجته وعائلته وأرضه .. أو ربما هكذا كان نفسياً .

* كأنك بهذا تجرد القروى من عاطفة الحب و ما نعرفه من قصص العشق وما نحفظهمن قصائد الغزل ولعل الذي يذكر أو يطلع على ما دون من شعر شعبي ل "أحمد بن جبران" و"أبو سحاب" مثلاً سيرى مرموز الحب وصريح عباراته في كل ما قالوه !
- واستطردعبدالعزيز : ربما كان ذلك صحيحاً ولكنني أتحدث عن الغالبيةً من الناس غير الشعراءويمكنني القول أيضاً بأن هذا لا يعفيني من اعتبار هذه المسألة موجودة في كل إنسانوكل المجتمعات .. فلو نظرنا لفصل في " البئر " في رواية "الوسمية " لوجدت أن سببرمي المرأةلنفسها في البئر .. كان بسبب علاقة - عاطفية - غير مشروعة وفي وقتها ..
وأنت تعلم أن مجتمعنا محافظ ونحن نحترم هذه المحافظة !
إن هذا سيسببإشكالية في مفهوم القارئ القروي والشعبي عموماً ..وقد جاء لي رد الفعل القاسي تجاهفصل في رواية " الوسمية " بعنوان " أحمد يتعلم أشياء جديدة " باعتباره فصلاً غيرملائم أو شبه ذلك ..و في مجموعة قصص " أسفار السروي " بقيت ولم يعلم أحد زمناًأعاني فيه الإحباط من أحد القراء .. اسمه " ابن السروي " ظاناً أنني قد تعمدت إسباغصفات كل أهل جبال " السراة " في شخصيته والتشهير به .
الأسماء الموجودة فيأعمالي هي أسماء تقريبية لا لشخوص الأعمال بالطبع .. أحرص على أن تكون من واقعالبيئة لكنها بعيدة عن الحدث بذاته أو شخصية بعينها.. تصور كم من صالحة بنت أحمدستسأل عن رواية " صالحة " وكم من "أبو جمعان " وكم من " مليحة " و"عزيزة " و" عطرة " وغيرهم .. نحن في واقع اجتماعي شديد المحافظة إلى درجة كبيرة وأنا أحمل على عاتقيقلماً وليس بندقية.

(7) - ما سر ولعك بالمرأة وغنى وتعدد علاقاتك بها فيحاضرك حتى لتعد من ذوي الثروة في هذه العلاقات ( ثقافية / صداقية / عاطفية ) معالمرأة سواء من داخل المملكة أو خارجها ؟
أيعود ذلك إلى فقر العلاقات العاطفيةأو انعدامها في صباك في القرية أو يعود إلى حالات العشق والتوله التي تصيب الرجلبعد الأربعين؟

* - يا سيدي .. مع أن صيغة سؤالك قد تكون مستفزة وخاصة، وربما لا تفيد أو تضر أو تهم أحداً، لكن دعني أسأل متى قد تراني قد نظرت إلى المرأة ( النساء ) كقناص يوجه سهام قوسه العربي القديم إليهن ليحظى بأكبر عدد ممكن منالغزلان والظباء .. لا يلبث أن يهبهن للسكن والنار والافتراس!
هل المرأة صيدةأو مسلاة أو مركز لذةاقتناصية ؟ دعنا .. تقول " عاطفية " لكن وفي مجتمع قام علىمفاهيم معينة تجاه المرأة .. حيث ينشأ المجتمع بكليته راكضاً خلفها في تستر ومن خلفخباء شديد الكثافة .. إنه يعتقد أن سبب شوقه العاطفي الجسدي يكمن فيها وهذا خطأبالطبع .. فالسبب موجود في مفهوم التربية غير المتوازن .. فقدان التوازن العاطفي هوالسبب في دواخل الناس .
عندما نشأنا في عالم قروي واضح الملامح لم نكن نعرف معنىالحرمان العاطفي ولا نظرنا للمرأة بعين الافتراس الجسدي .. لم نعرف الواقع غيرالمنصف إلا بعد أن كبرنا وغادرنا قرانا .. بعد أن اندثرت معــالم الخصائص القروية .. لقد كنا بالبـديهة نحيـا حيـاة حضـارية القيم وليس ( الوصاية ).. الناس وقتهاكلهم يعملون ويشتركون في جهد الحياة وألمها وفرحتها .. المرأة لم تكن كائناً غريباًوبعيداً عن التعامل والمكاشفة المعيشية اليومية .. لم يأكل الرجل المرأة ولا حدثالعكس .. كان الإنسان القروي كاملاً لا تجزئة ولا انفصال ولا تربص أو مفارقة . جاءت " المدينة " البعيدة عما يسمونه خطأ بـ" الحضارة "، فالقيم الإنسانية التي تشكلدواخل الناس وبالتالي سلوكهم بعيدة عن المفهوم الحضاري .. نعيش ونتحرك والغربة تسكندواخلنا كنفق العتمة المعبأ بالظلام والخوف والتردد .
أن الأمر لا يقتصر علىالرجل فقط فالمرأة أيضاً تعاني وبشدة من الغربة والغربة العاطفية ثمتصبح زوجة دونمعرفة أو اختيار ثم أماً محتضنة فمربية هذا إن تم لها التواؤم الزوجي .
لم أكنأعاني في صباي عاطفياً ( من يقرأ " المكاشفات " يجد الجواب ) ولا أدري إن كانللصدفة التي لم أجد خلفها دورافي المسألة بعد الأربعين ولو أفترضناه .. فهوالتعقل والمفهموم العميق لإنسانيتها ودورها الحياتي - الضروري الطبيعي - العظيم .
كثيراً ما نتخفى خلف العورات ليس أمام الآخرين فقط وإنما لعدم مواجهة أنفسنالكي لا نتواجه مع قيمنا التي أملتها علينا ثقافاتنا وذلك في نظرتنا وعلاقتنابالمرأة .. فالترسبات المتراكمة في داخل الإنسان تبقى تنزعه من إنضباطاته وتوازنهبصورة حادة .. لكنها لا تكون فالتة بحيث تصبح على نفقة الآخرين في سبيل غنيمة الذات .. ذلك يعود للدوافع الاجتماعية التي نشأت عليها تلك الترسبات.. والحقيقة ( التيأراها ) أنه لا خيانة للذات بالمفهوم الثقافي الإنساني وبالذات في مسائل العواطفالتي تتحول بصورة أو أخرى إلى الغراميات أو العشق وهذا لا يحدث إلا نادراً لكنك حينتدخل في هدأة الحوار الذاتي الخفي .. لا تجد الأمر اختيارياً بحتاً .. العشق لايصلح لأن تزنه دوماً بالعقل والحساب الرياضي وإذا ما فعلت فقد تساهم في قتل أجملمساحة في حياة وساحة قلبك .

دعني ..
فأنا لا أحب أن يوصف وجه الحبيببالقمر أو الشمس أو حتى الشمعة ولا أن يكون الحبيب مصدراً للسهر والهيام والعذابفهذا لا يختلف كثيراً عن طريقة حفر القلب أو رسمه بالطبشور كنصف تفاحة مفرغةيخترقها سهم !!

(8) - هناك تجربة حب رائعة ومعقدة تجلت في روايتك " في عشقحتى " التي تعد واحدة من الروايات المتميزة محلياً وعربياً، وسؤالنا يتجاوز الروايةإلى بطلة الرواية .. حول ما الذي يميز هذه البطلة لتأخذ موقعها الحارق في الرواية ( هل هو الجمال / الثقافة / الحنان / الشخصية .. إلخ ) ولماذا لم تستحضر جزءاً أوبعضاً من تجاربك الوجدانية هنا لتكتب نصها المحلي ؟

* - رواية ( في عشق " حتى " ) هي حكاية مختصرة لامرأة عشت ولا أزال - بعيداً - هائماً في عشقها مع تعددالتجارب وأشكالها .. لقد تعذبت بها ولم تتعذب بي لكنني على ما يبدو وقعت فيما قالعنه الكاتب الفيلسوفشو " عندما تجد نفسك في مسار ضد مصلحتك تجاه امرأة ما .. فأعلم أنك تحبها " أنا شخصياً لا أستطيع أن أحيا بلا امرأة - حبيبة - تحديدا ولمأسأل ذاتي إن كان هذا مطلب خاطئ أو مصيب .. لا اتخذها كملهمة .. ولا أوظفها كتابياًبالضرورة .. لكنها حاجة ضرورية إنسانية ودافع حي جميل للإبداعوالحياة .. قد تظنونأنني رجل بشوارب وعقلانية لكنني لا أنبذ عني صفة الجنون .. وأقل ما فيها العاطفيةالمحرقة والبساطة والألفة تجاه كل الناس.. إنني أحزن لقتل بعوضة أو ذباب .. بالرغممن أذيتهما .. وفي ذات الحال أنا شديد الصعوبة تجاه الحق الذي أؤمن فيه وبه إنني معالحياة والفرح والأمل، و" حتي " قد لا تكون رواية محددة بكل عواطفها عن " حتى " ذاتها والتي أحيا ما حييت أحبها .. لقد كانت رواية دون قصد مبيت .. تدخل بصورة أوبأخرى في عالم القرية وما يحكمها من .. استشهاداتها .. الخ كانت قروية لأننياستيقنت ذلك من حب صبياني قروي .. إينما أذهب يظل مرجعيتي في الذاكرة : غير أنالوعي الرجولي في سن ما أعتقد أنواعاً أخرى وصياغات أخرى .
" وحتى " كما تعلمكلمة عذبت " الأصمعي " والنحويين لدرجة أن دارساً قضى وقتاً لنيل درجة " الدكتوراه " في " حتى " !.. أنا لا أحب المواقف الانهزامية على ألا تكون على حساب الغير .


( 9 ) - تميزت شخصيتك في سنوات الطفولة والصبا وحتى السنوات الأولىالتي قضيتها معنا في الدمام بالتأمل والأناقة مع ميل للانطواء،ولم تكن ترتاح أوتشارك في الأحاديث التي تخوضها مجموعة كبيرة من الأصدقاء، فاتخذت شخصيتك ملامحهاالجادة المبكرة والزاهدة في الآخرين، وفجأة وجدناك تحيل كل شيء إلى سخرية مرة أوهازلة،ثم ما لبث هذا التحول أن تغلغل داخل تكوينك الكتابي واليومي فأفدت منهالكثير في حياتك وأعمالك الكتابية حتى أصبح الحديث معك متعة خاصة يتعشقها الكثيرونوالكثيرات .
هل يمكن أن تضع أيدينا على جذور ذلك التحول الهائل في تكوينك منالانطواء إلى الهزل وإلى السخرية وحب الدعابة ؟

* - جزاك الله خيراً .. ربما نشأت على أن استمع أكثر مما اعتدت على يد جدي المرحوم .. لكنني أرى أننيثرثاراً أحياناً وطويل الحكاية والتفاصيل المملة .. لقد لاحظت هذا في أحايين كثيرةولم أجد لي - ربما نوعاً من المجاملة أو الاحترام .. لا أدري - ! .
ثم لماذا لايكون صمتي نوعاً من الخجل أو عدم القدرة على المشاركة في أمور لا أرغب الخوض فيها . أما السخرية فأنا لا أسخر من الآخرين بل أحملهم في عمق قلبي .. و ..
- يا عبدالعزيز .. الله يوفقك ويزوجك واحدة ما تسمع ! .. لذلك أرجو أن تجيبني على هذهالتفريعات بشأن السخرية المقصودة هنا.. هي روح النكتة والمفارقة والدعابة وليسالمقصود بها السخرية من الآخرين،فأنا أعرف أنك تمقتها ولكنني أسألك عن السخريةالتي تحول المأساة إلى ملهاة لتستطيع التغلب على قسوتها .
هل كانت النكتةتستهويك وأنت طفل ؟
* - أنت تعلم أن الثقافة القروية العامة مشبعة بروح التهكموالمفارقة لكنني كنت استمتع بها كمستمع ولم أكن أشارك آنذاك في إنتاجها .
- هلكنت ترويها للآخرين في طفولتك ؟
* - نعم ولكنها لم تكن أحد مشاغلي الرئيسية .
- اذن كيف حدث هذا التحول في تكوين التعبير عن شخصيتك وعن آرائك عبر استخدامآلية السخرية ؟
* - ربما اسميه تطوراً وليس تحولاًً فالبذور الأولى التيتستمتع بالنكتة والمفارقة موجودة ولكنني بعد أن تزودت ببعض المعرفة ومارست الكتابةوأصبحت لدي اسئلتي المقلقة حيال العالم الخاص والعام وجدتني مدفوعاً لهذه الطريقةالتي رأيتها تساعد الإنسان على التخفيف من المرارة في كافة ظروف الحياة .. ثم أضفإلى ذلك القراءات الهامة التي عشقتها للجاحظ وابي حيان التوحيدي الذي كان يهتم " بالملح " وكذلك في قراءاتي لابن إياس .. هذه القراءات جعلتني أتلمس فعالية الكتابةالساخرة أو المفارقة وقدرتها على التأثير الهائل في القارئ . ولذا يمكن القول بأننيحاولت استخدام هذا الأسلوب - أحياناً - لإيصال الرسالة الفنية لكتاباتي عبر الدعابةالتي أتوقع أن يستقبلها القارئ بنفس روح الدعابة والمرح فتقيم بيننا جسوراً منالتواصل وقبول بعضننا البعض .

ايوب صابر 06-03-2012 11:16 AM

الجزء الثاني من الحوار
( 10) - كرست في كل أعمالك العديد من القيم الإنسانية النبيلة التي تتجلى في جوانب من حياة المجتمعات القروية ( التعاون ، البساطة ، الارتباط بالأرض ، الوقوف في وجه الظلم ) وكان من ضمنها وأهمها انتصارك للمرأة في كل هذه الأعمال، ولكن القرية الآن قد تحولت إلى شبه مدينة في مرتكزاتها الاقتصادية وفي أنماط حياتها الاجتماعية وقد قال والدك الشيخ صالح بن مشري في حوار نشر بجريدة البلاد " لم يعد في كل القرية ديك واحد " كدلالة على عمق التغير الذي طال حياة القرى.. لقد أسدلت الستائر الرمادية الآن على فعل ووجود المرأة الاقتصادي والاجتماعي في القرى كما أسدل على أختها في المدينة فمتى نجد امرأة القرية وزميلتها المدينية في إبداعاتك القادمة ؟

* - نعم هذا صحيح فالتحول الاقتصادي الطفراوي في كافة مناطق الوطن "السعودية " قد خلق أنماطاً مغايرة لطبيعتها الإنتاجية - السلوكية - التراثية - وكذلك في العلاقات والروابط وفي شكل الحياة وضد بنيتها المعيشية. لقد أصبحت "البلاد " وهي البقع الزراعية المحدودة والتي عرفت لدى الفلاح بأحلى الأسماء .. فتلك " عيون الحمام " والأخرى " خيره " والثالثة " سعادة " وغيرها مما أختير كأجمل الأسماء والكنيات باعتبارها وبصورة متوارثة منذ القدم مزارع يبذر فيها "الذرو" ويبقي لينمو ويشد ساقه ثم يثري تحت عين وقلب مالكها الفلاح .. إلى موسم الحصاد .. لقد أصبحت بعد انفراط الإيقاع الإنتاجي - الفلاحة اليوم - مكاناً مناسباً دون أدنى تردد إلى مكان ممهد لبناء بيت من الاسمنت ! .
سأذكرك .. هناك وعلى حافة المكان الذي يزرع " العثري " – وهو مصطلح عربي جيد لبقعة الأرض التي تعتمد في مائها على أمطار الموسم سواء كان قمحاً أو ذرة أو غيره .. هذه القطع المعروفة عند الفلاح بمحدودية محصولها .. تقع في العادة إلى جانب سفح صغير غير مزروع لعدم صلاحيته وربما كانت إلى جانب صفح كبير ( المساحة المنحدرة نسبياً يسمى بـ" الوسيفة " أو " السفح " بتحويل السين إلى صاد ) وقد تكون بلا حدود .. فتكون أكبر مساحة إلى وسط أو قمة الجبل .. باعتبار أن المنطقة جبلية وعلى جنباتها مدرجات متعاقبة للزراعة، فأصبحت اليوم في مكانتها المعنوية والواقعية الإيقاعية الكاسحة .. أغلى قيمة من الأراضي الزراعية " المسقوي " التي تساق بالماء من البئر بالسواني حيث كانت أكثر حصاداً وأينع رواءً!!.
القروي اليوم في هذه المرحلة الاقتصادية المعيشية .. لم يعد بقروي والحياة المصلحية العامة أصبحت فردية انتهازية .. لا مكان للأب أو الابن ولا للأخ والعم وبالتالي لا للجار والجماعة والقرية أو العشيرة والقبيلة، وعليه فإن الوسيلة الإنتاجية التي كانت تصيغ للقرويين نمطاً محترماً ونافعاً بحكم الضرورة المتبادلة وفي مناخ اجتماعي واحد .. قد تغيرت ألا تتغير معها المرأة ؟ .
بالطبع ودون إرادة أو تكلف أو عدم تكلف وهذا دليل على عدم صحة النظرة التي تفرق بين المرأة والرجل كإنسانين متكاملين .. لا يمكن أن يحيا أحدهما دون الحاجة إلى الآخر ( سنة الله في خلقه(.
الوثبات الرهيبة والذهول " الفانتازي " الذي صبغ أنماط الحياة وشخصياتها وانتمائها بألوان مغامرة لم يكن على الرجل دون المرأة ولا على الطفل دون العجوز ولا على القروي دون البدوي أو أهل الساحل أو الحارة في المدينة القديمة .. لقد أصبح وبصورة ترفع وسامات التقدم الإنساني وتعود إلى التخلف الاجتماعي مئات الخطوات بل آلافها إلى الخلف دون وعي بالحياة .. تحولت الإنسانية في المجتمع بشتى صنوف معيشتها إلى تخلف خطير وتاريخي بحيث أصبح الإنسان بلا فاعلية ولا مرجعية ولا مستقبلية .. فقط إنما هو استهلاكي زمني ومعيشي جاهز عديم النشاط يعد أيام عمره الباقية ويصارعه في المعايشة النفسية والجسدية و.. " الله يحسن الخاتمة "!.
الحياة لا تقف عند نمط معيشي معين .. لكن هل علم أهل القرى لماذا ؟ لماذا انتقلنا فجأة بقفزة غير استيعابية من " الثور ، والحمارة " إلى الطائرة والسيارة والأوتوماتيك ولم يتم إعدادنا اجتماعياً لهذا الاستيعاب بصورة مرحلية ؟ ! .
هذا ما يشغلني ويعذب قلمي .. ليس في القرية فقط .. و إنما في المدينة التي تكونت من حارات ونزل معروفة ومحددة .. إلى مدينة ثلاثة أرباع سكانها من القرى والهجر والبوادي ولا يجمعهم شيء .. الجامع فقط هو ما تملك .
لكن هل هذا المستضاف الاستهلاكي المدني – وليس الحضاري – استطاع أن يقتلع الآدميين من جذورهم ؟
لا .. إن في المدن الكثير ممن سكنوها بعاداتهم وشعبيات مجتمعاتهم وربما حتى شكليتهم أو شكلياتهم في الملابس واللهجات !.
أتسالني عن المرأة الأم والزوجة الأخت والحبيبة وكيف أن الستائر الرمادية أسدلت عليها وعلى أختها في المدينة ؟!.
إن الستائر الآن أصبحت بنية داكنة .. لم يظلمها المولى الكريم ولا الرسالة الإسلامية الحنفية وإنما ظلمناها نحن بمفاهيمنا الجديدة والمتخلفة .. بحيث نظرنا إلى الطير .. إنه يطير بجناح واحد في الفضاء .. لقد فرضت علينا المفاهيم دون حوار ونظرنا إلى المرأة نظرة أخرى .
لقد ولدت – قبل أن أكون كاتباً – مسلماً وتربيت في بيت ومجتمع قروي مسلم وأموت مسلماً انكح مسلماً وأذري مسلماً .. اعيش أحب السلام وأنبذ الاستسلام وقد أوصانا رسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم باحترام ومعايشة الأم والأخت وذات القربى والحميلة والجارة وكل المؤمنات .. بالخير والإيمان والرعاية والوصاية الحميدة وكامل التعامل الإنساني.
لقد سئلت عن العنصر الإنساني المغيب في واقعنا وكيف أن هذا يقف كحد واضح المعالم في عدم كتابة الرواية المحلية ؟ .. غير أن هذا السبب الحيوي الهام لم يكن مغيباً في رواياتي المكتوبة عن عالم القرية .. المرأة موجودة في حياة الفلاح جنباً إلى جنب في البيت والمزرعة .. ترى من كان يحصد و" يدرس " المحصول ويحضر الماء من البئر ويصنع الخبز ويشارك في " طينة " سقف البيت ويطبخ للمناسبات ويحلب البقرة ويجني الثمار و .. و .. إلخ .. أليست المرأة بل وتحمل وتنجب – بحكم طبيعتها – وتربي الطفل وتحمله في (" الميزب "/ المهد ) وتأخذه معها إلى المزرعة ثم تلقمه نهدها لينام حتى تتفرغ للعمل .
اعتقد أن غياب المرأة لا يؤثر على الكتابة الروائية تحديداً وإنما هو الغياب الإنساني في الحياة والنهوض بها .. ألم يقل رسول الأمة عليه الصلاة والسلام لابنته " فاطمة " وهو يخاطبها " نعم يا أم أبيك " .. أية إنسانية عظيمة هذه .. " خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء " يعني " عائشة " رضي الله عنها .. يجب ألا نخلط في حقائق الأشياء.. المرأة هي عين الإنسان الأولى ويده وكليته وأذنه وكل شيء في حياته وليس فقط معاونه الأساسي في الحياة ! .
كلنا لم نأت من الفراغ ولا من بطون الرجال .. لذلك أنا لم أخترع المرأة في الرواية التي أكتبها .. لقد كتبت من الواقع .
لا تظن يا مسائلي .. بأنني متعصب أو متغاف بجهالة .. للمرأة في كتاباتي حقيقة وجودها ومعايشتها وقبل كل هذا إنسانيتها لكنني أبتليت بالكتابة القصصية الروائية الكاشفة لحقيقة الواقع الإنساني كما هو .
إنني أكتب بدمي ومشاعري وكياني .. ولم أقل كل ما في الحياة القروية والمدينية بإنصاف، المستقبل آت والناس معلقة في رقبة قلبي ولن أكتب إلا بمفهومي ونظرتي وقناعتي ولست كل الكتاب ولا كل الأقلام .. لكنني شاهد بقدر الأمانة الإنسانية في هذا الشأن وغيره .

(11) - نعرف أن طبيعة التكوين الثقافي لأي مجتمع مرتبطة بطبيعة النشاط الاقتصادي والذي يزاوله أفراده ولذا فإن للبيئة القروية ثقافتها المرتبطة بنشاطها الحياتي، وكما نعلم فإن تلك الثقافة تكرست لمئات السنين، وحين دخلت المدينة في عجلة التطور المادي والتقني كان لا بد أن يطال التطور / التغير حياة البشر في المدينة والقرية ويؤثر على منظومة الأفكار والقيم لينتقل المجتمع من تشكيلة اجتماعية / اقتصادية إلى أخرى أو هكذا لا بد أن تمضي الأمور .
سؤالنا هو : لماذا يبدي الكثيرون من أبطال أعمالك موقفاً مضاداً للأخذ بأسباب التطور ( الموقف من " ماطور " الماء الذي قتل صاحبه، صالحة ترفض هدم منزلها رغم التعويض من أجل إيصال الاسفلت للقرية، السخرية من " سلام " راكب السيارة " الونيت " على الجالسين أمام منازلهم بزمار السيارة ) .. إلخ.
هل كل ما قامت عليه القرية من عادات وقيم يمثل الخير كله بحيث تقف المدينة "كمرموز " شقي ضده ؟
وهل يفسر هذا إغفالك أو عم اشتغالك إلى الآن عل عالم المدينة في سردياتك ؟

* - نعم التكوين الثقافي الاجتماعي المرتبط بوسيلة الانتاج ( نستثني الحرفة) لأنها لا تشكل صيغة اجتماعية ذات ملامح ملتحمة بأداة الإنتاج في القرى .. كأن نرى " الجزار " الصانع " وغيرهم وهم في العادة يكونون تحت إدارة أب العائلة ولا يملكون في العادة أراض زراعية بحيث يستطيعون العيش منها، لذلك فهم مرتبطون بثقافة القرية من نافذة الالتئام الاجتماعي، أقول هذا باعتبار أن أهل القرى مثلهم مثل كل المجتمعات الإنسانية في المعمورة .. ليسوا ملائكة ولا يجوز الأخذ بخيرهم دون أخطائهم .. لكنهم في مفهومي من أفضل القلائد الاجتماعية التي تحافظ على منظومة كبيرة وحضارية في قوانينها وعاداتها وتماسكها .. مما نحتاج إليه في عدد من فروع العدل والتعامل فعندما نرى كيفية توزيع مياه العيون ومسايل المياه في مواسمها أو مقاطعة من شذ عن الاحتكام للجماعة – وهذا صعب جداً – أو طريقة توزيع لحم الماشية – سواء كانت للبيع أو لما يسمونه بـ" الصدقة " حيث ينال الكل حسب البيوت والعائلات قطعة من كل عنصر ولحمة من الذبيحة بما فيها أطراف البهيمة وكرشها .. وعندما يكون هناك حاجة لمساعدة الجماعة في أي شأن لـ" طينة البيت " أو وقوع أمر مشين على أحد منهم أو وقوع أحد المواشي في البئر أو تجميع مقدار من كل فرد في وقت الحصاد وبذله للفقير وعادة ما يكون لمن لا أرض زراعية كافية لمعيشته .. أو لا يملكها البتة كالحرفي وعندما بدأت معطيات الحضارة الآلية كالسيارة وموتور الماء وغيره .. لم يكونوا ضدها فهم بيد واحدة يشقون طريقاً للسيارة لكي ترد القرية ( الوسمية ) ويتناقلون مضخة الماء ايجاراً أو مساهمة " صالحة " .
المسالة لا تعني أنهم ضد المعطيات الجديدة .. إنما هم فقط يجهلون التعامل معها وفي الغالب عدم قدرة على امتلاكها فأنت ترى في رواية " الوسمية " كيف أن "أحمد بن صالح " كان يهون عليه أي أمر صعب .. سوى أن يمر طريق السيارة الذي يمهده كل الجماعة للوصول إلى عمق القرية من أرضه الزراعية .. لكنه في آخر الأمر وافق بعد أن رأى أن الخير للجميع وأن رأيه شاذ ولو أن موافقته على المرور من أرضه الزراعية سيعتمد عليها موافقة آخرين قادمين في امتداد الخط .
إنهم صعبون في التنازل عما ثقفوه في بيئتهم خاصة ما يتعلق بمواطن معيشتهم .. مضخة الماء التي تنزع الماء من عمق البئر تعمل بـ" البانزين " وتنفث غيوماً في داخل البئر العميقة من الكربون وعادة ما تكون هذه " الماكينة " قريبة من موقع الماء .. حافته في القاع فكان النازل، بالسلالم الحبالية إليها لإسكاتها بعد عملها، كثيراً ما يتعرض لكمية الدخان وبالتالي الاختناق فالموت.. كانوا يخافونها .. و بالتالي توالد الكره لها .. القروي والإنسان الذي لم يتعرض لأي تلوث .. يصاب بالدوار والغثيان أثناء اضطراره للتعامل معه .. لعلك تتذكر كيف كنا نتأثر لمجرد ركوبنا السيارات وهي قليلة جداً في ورودها للقرية .
قبلاً وفي المعنى السابق لحرص الفلاح على بقرته ومزرعته .. فليس غريباً أن تكون " صالحة " في آخر الرواية " صالحة " .. شديدة التمسك والإصرار على عدم هدم بيتها " الحجر طيني " لقضية طريق " الإسفلت " برغم التعويض المالي الذي ستناله !.
موقف هذه المرأة – مع معرفة شخصها قبل نهاية الرواية - .. هو موقف إنساني تلقائي حميمي معيشي تاريخي أولاً ؟ وليس موقفا ضديا من حداثة التطورات وإلا لقالت يبقى ولدي بقربي ولا يذهب إلى المدرسة ليعمل ، وهي أشد حاجة له ) وهي لا تؤاخذ في هذه الحالة لأنها محصلة ظروف اجتماعية اقتصادية وثقافية معيشيه يومية ضمن حياة القرية .. وهي لا يمكن أن تنظر إلى التعويض المالي مقابل ثقافتها الاجتماعية القروية المعيشية والحميمية في البيت الذي آواها زوجها معها قبل وفاته ..( لايجب أن ننظر إلى البيت كمجموعة مترابطة من الحجر والطين .. بل كملجأ ومسكن إنساني له جدران وباب تستطيع أن تأمن إليه وتقفله على نفسها وفرخها . سيكولوجياً وتاريخياً وتربية متوارثة طويلة .. قامت على نظم العلاقة التلقائية بين الإنسان وأنسنة الأشياء التي يمنحها جمالية ألفته وحميميته ولا نستطيع أن نعتبر الحجر والطين وصخور الجبال واختلاف الشجر بأنواع شوكه و .. و .. إلخ لا نستطيع أن نعتبرها خارج ضلوعه وحناياها الدافئة .
أنا لا اعتقد أن المسألة " مادية " كما تفضلت في سؤالك – اقتصادية – بحتة بقدر ما هي ارتباط حميمي نفسي متراكم.. لعلك تعلم أنهم يعيبون جداً على من يفكر في بيع أراضيه الزراعية .. أعني شيئاً منها .
أذكر وأنا طفل – بحكم الواقع المعاش – أن المرحوم جدي عيرني بكلام جارح – لا أنساه – حين طلبت بإلحاح وبكاء حبتين من التمر – بالطبع ليس هناك شيٌ حلوٌ لإرضاء الأطفال سواه – قال رادعاً – لعدم وفرتها :
" أخاف بكرة .. إذا كبرت تبيع البلاد من أجل تمرة ". لاحظ أمر الطفل وقتها لم يستوعب القول .. لكنني أذكرها اليوم للمرة الأولى وبكامل الوعي .
الدم والرقبة تمنح مسافة شبر واحد بين جارين في الأرض الزراعية وهذه الاستعدادية متأهبة جماعياً ضد أي طارئ على القرية ككل .
عن جوابي الاستراتيجي الكتابي في مسالة وقوفي فيما سبق وكتبت عند منطقة الرفض للجديد عندهم أو كما يبدو في سؤالكم .. فإن قلمي وقف – تقريباً – في نقطة مهمة وخطيرة تجاه هذا العالم الذي احتاج لسفر طويل من السنين حتى أعطيه بعض حقه الكتابي مما أحمل وأفهم عنه .. تلك مرحلة أو نقطة " القبض على القرص " التمثال الإغريقي القديم فبعد أن التقطته في يدي ودخلت في مرحلة التهيئة لقذفه فعلي أن أرصد هذه المرحلة تحديداً وهي مرحلة الوقوع القروي في منطقة التحول – اللااستيعابي – الذي جعلهم يثبون دون تدرج مرحلي من الزراعة كنمط إنتاجي معرفي متراكم .. إلى منطقة المفاجآت الاقتصادية المغرية والتي لا خيار دونها ولا معنى فيها لأي أمر له ارتباط بالواقع المتوارث البتة، لأنها أتت فمحت خصوصية السحنة الاجتماعية دون استيعاب أو حتى ذكرى أو تقدير لما مضى .
ليس أمام ذلك الإنسان وربما ليس أمامي – ككاتب – استقراءً لوجه معلوم ويمكن السعي نحوه مستقبلاً بحيث نحس بالانتمائية الاجتماعية ..إنه منزلق خطير وذو هم كتابي استراتيجي كبير في هذا الشأن .



ايوب صابر 06-03-2012 11:17 AM

تابع الجزء الثاني من الحوار مع عبد العزيز مشري
(12) - تقوم التقنية الكتابية لمعظم أعمالك السردية على دور الكاتب العليم بكل شيء فتحاول إخفاء شخصيتك ككاتب لتعطي الإنطباع بالحيادية لكننا كقراء نستطيع أن نبصر دهاءك الفني ونراك في هذه الشخصية أو تلك.. لماذا اخترت هذا الأسلوب ولم تجعل بطل النص راوياً إلا في بعض أجزاء الغيوم ومنابت الشجر " ؟
وفي " ريح الكادي " التي تعد من أعمالك المتميزة يبرز الصراع الدرامي في القرية بين ثلاثة أجيال تتعرض حياتهم لعملية التغيير.. ترى لماذا نراك تختفي خلف الشايب " عطية " وأي دلالة عميقة تود أن تطرحها بهدوء من خلال ذلك الموقف ؟

* - لا أعرف كيف يقرأ القارئ أعمالي لكنني أواجه بمثل هذا السؤال وغالباً ما يكون عن شخصية الكاتب وأين هو طفلاً وصبياً ورجلاً ؟!
إن مسألة البطل الفرد لا تحظى باهتمامي ولا عنايتي في كتاباتي عموماً، ثم إن الكاتب هنا هو جزء من كيانات متآلفة وتحمل صفات المجتمعات البشرية في خيرها وشرها والكاتب يتفاعل مع شخصية أولى وشخصية ثانية وهكذا .. غير أن شخصية الكاتب لا تدير النسيج السردي حسبماً تريد مما لا يتعامل مع الواقع أو يجعل الشخوص أبواقاً مدجنة تنفخ بما يملؤها به الكاتب ..لقد حاذرت دائماً على ألا تأتي هذه الشخصية – الكتابية – كأنا مثقفة تدير من أعلى الجبل الناس والبهائم والأشياء المؤنسنة حسب رغبتها أو ميولها الشخصية المزاجية.. لا شك أبداً ودن أدنى التبريرات أن الكاتب لا يكتب خارج وعيه وبالتالي فإنه قد يكون في مناطق الصيد و الإلتقاط، وليس بالضرورة أن يكون مجمعاً في شخص بعينه في النص .
أما عن " عطية " أو " عاطي " .. فقد كان يحتل الرمز القروي في كتاباتي القصصية الأولى وما لبث الكاتب أن أكتشف أن هذا الرمز يمكن أن يتوفر في أغلب الشخصيات المُعَانيَة الوفية الكاملة بكل صدقها العفوي مع عالمها ومعايشتها له ودون أن يكون ثمة ميزة محددة، وهذا هو الغالب وإلا فكيف تأتي برواية تحشد فيها كل أهل القرية .. أنت في حالة شبه انتقائية لعدد من الشخصيات المتوافقة مع درامية العمل ومتناغمة حسب الضرورة مع" بانوراما" ذلك العالم الذي تكتب عنه في إطار خصوصيته الاجتماعية و المكانية .

** ** **

كان الوقت يجلدنا والكلام يأخذ منا مآخذ المجابهة منتصف الليل وقلت : يا عبد العزيز سأذكرك بطرفة من طرائف الحوادث التي تحدث في القرى : روى آباؤنا أن مجموعة منهم ذهبت إلى قرية أخرى لتطلب منهم المساعدة في جمع " دية " شخص غريب قتل خطأ في نواحيها، وحين التقوا بشيخ تلك القرية وبعض وجهائها لاحظوا عدم حماسهم للمساهمة، فقام أحد أفراد المجموعة وحلف على أهل القرية الأخرى بأن يخرجوا إلى ساحة الدار للتشاور في أمرهم، (لأن التشاور سينبثق عنه شيء وإن كان قليلاً، كمساهمة مالية من قيمة الدية المطلوبة وقد نجحت الفكرة( !
الوقت الآن منتصف الليل يا عبد العزيز ألا تأكل ؟
قال : لم آكل ولن .. فهذه اعتبرها فترات مائية.. أنا آكل الماء فقط ! قلت له وقد بلغ العناء مني ومن بعض الأصدقاء المرافقين مبلغه: حلفت عليك أن تتشاور مع "أخوك " أحمد في أمرنا !
تشاورا همساً .. وخرج أحمد من صالة اللقاء وأخذتنا الأحاديث الجانبية ثم عاد أحمد بإبريق الشاي وبعدد من السندويتشات .
قلت لأحمد : كنت اختلس السمع لثغاء الشاة أو التيس تحت حد السكين ؟ فضحك أحمد وقال الله يرحم أيامها ، قال زميلي : نحن نعذركم فإذا لم يتوفر الخروف فليس أقل من " ديك الشيبة " الذي تحدث عنه " الصاحب " في رواية الحصون .
أجابه أحمد : أنت في جدة يا صاحبي ولست في قرى الجبال .
تشاوروا فينا يا عبدا لعزيز!!
ضحك وقال لقد بلغت المشورة سندويتش الجبنة .. فهنيئاً مريئاً ما تأكلون !

( 13) - للأمكنة كمين كما تقول فوزية أبو خالد ، وهذه الأمكنة تتغلغل فينا حباً وكرهاً ..شجناً وأسى ، وأنت قد تنقلت من قريتك في منطقة الباحة إلى الدمام وأقمت بها لسنوات طويلة ورحلت إلى القاهرة وقضيت أوقاتٍ متباعدة في الرياض ثم استقر بك ريح " الجاردينيا " في جدة .
حدثنا عن رائحة المدن وعن المناخ الذي اندمجت به اختياراً أو قسراً وما هو انطباعك الثقافي والاجتماعي عن هذه الأمكنة .

* - المكان كما تقول الشاعرة " فوزية أبو خالد " كمين .. لكنه ليس كمين يبث في الداخل رائحته وإنما يترك أيضاً نوعاً من الحوار يخاطب فيها جميع جوارح الإنسان .
لو افترضنا تجريد المكان من هذه الخاصية الإنسانية الكبيرة والمنظومة من عدة تراكيب دقيقة وجزئيات .. فإنه لن يختلف عن أي موقع للحياة أو المصادفة .. بحراً أو صحراء أو صندوقاً من الخشب لا مكان له .. ستصبح الحالة أشبه بزمن " مكتسب " ففيه عمر يقضى بأية صورة بلا حس حتى تنتهي .
قد لا أتحدث هنا عن إيجابية المكان – كمحور ارتكازي – في العمل الإبداعي بقدر ما أعنى منطقية ضرورية في حياة الإنسان برغم الرضى والمصالحة معه من عدمها .
عندما كنت أعيش في القرية إلى سن أول العشرين .. لم أكن لأعرف العالم بمحيطاته وأناسه واختلاطات إيقاعاته وسهوله و جباله .. سوى بحدود طلوع الشمس من مشرقها خلف الجبل الكبير المقابل للبيت من بعيد، وللحصن القديم الذي تلتف حوله برتقاله الشمس النحاسية في الغروب .. هذه حدودي التي التقطت في تفاصيلها عالمي الأليف والحبيب والشقي أيضاً بآلامه وحرمانه، لكنه كان حميمياً ومتغلغلاً في انسجتي وخلايا ذاكرتي وجوارحي .. للحجر – مثلاً – معنى واحد ملتصق بقساوته وصخريته الصلبة وهندسته ووزنه الذي يعني لك تفصيله شبه مدركة الثقل والنوع واللون، لكنه يبقى صخراً في ثنايا ذاكرتك أينما ذهبت ما لم تضف إلى معرفتك معارف إضافية جديدة .. تختلف باختلاف درجات استيعابها ومكانها وزمانها .
دخلت المدينة فرأيت الصخر غير الصخر والحجر يأخذ خاماً آخر تعرف مكوناته ولا تعرف حميميته المجهولة التي ارتبطت بها في ثقافتك القروية الأولى .. رأيت حجراً يستخدم للبناء من الأسمنت والرمل المقولب ومساكن تقام في عز الصحاري والبحار .. دفعة واحدة انتقلت من آخر حدود الجنوب الغربي إلى آخر حدود الشمال الشرقي .. من الجبل إلى البحر ومن الوديان إلى الصحاري بالطبع كان عليك أن تتعايش مع بيئات جديدة .. كذلك مهما جاهدت في تلوين وتغيير الحجارة .. لن تستطيع أن تغير ما في داخلي.. لقد أخذت الصخر الذي تقطع منه الحجارة في النشأة الأولى معنى محدداً تلمسه وتحسه بكامل قنواتك المعرفية ولكنك تكتشف أن الحجارة ليست سواء .. هذا صحيح تجاه كل الجوانب الحياتية الأخرى التي تقابل الشخص باختلاف المكان، وفي مدينة " الدمام " على بحر الخليج العربي بشمال شرق المملكة .. كنا نبحث عن شكل الصخر أو الجبل أو الحجر .. يقولون ثمة جبل في المنطقة الشرقية اسمه " جبل الظهران " وسمعنا عنه من آبائنا الذين التحقوا عمالاً أميين بشركة الزيت .. منذ قبل مجيئنا للحياة رأينا حيزاً صخرياً تشقه عدة طرقات للسيارات ثم ما لبث بعد أن التصقنا به .. أن انطمس .. فُـتك به حتى ُسوي به الأرض.. فكنا في مواسم الصيوف نقطع آلاف الأميال بالسيارة إلى الجنوب وأول ما يبهجنا نحو الجنوب منظر الجبال وأشجار الطلح و"القرض " والسدر ورائحة الفضاء الواسع النقي .
بالطبع أنا لا أعني أن الأمكنة يجب أن تساير مطالبي .. لكنني وجدت قلمي يسعى لإعادة تراكيب الأشياء بحكم مرجعية ذائقية ودون الوعي بهندسة الأمكنة الجديدة وملابسات ضرورياتها وبيئات أنسانها. في " القاهرة " حيث البعد الشديد اجتماعياً وبيئة ومعيشة وفي عمق الليالي الموغلة في الغربة ولأسباب غير اختيارية .. كتبت رواية " الوسمية " بحميمية ومرجعية معيشية دقيقة لكنه يبقى المكان "القاهرة" كمين آخر له مواصفاته ونماء ثقافته وأناسه و.. إلخ .
في " لندن " الضبابية .. عرفت طعماً آخر للضباب الذي عرفته في الجبال السروية وبطبيعة الحال والمكان والزمان .. رأيت ضباباً يعايش الإنسان ويختلط بيئته وشارعه ومكان عمله وملبسه ومأكله ومشربه وكان الضباب يعني لي دائماً – يعود للمرجعية البيئة القروية – وجود البرد والعواصف والمطر وانتظار تصريح الأهل بعدم الذهاب إلى المدرسة .. جميل هذا وقبيح في مكانه وزمانه البعيدين .. فقد اتخذ لغة أخرى وسلوكاً آخر .. بمعنى صورة وذائقة أخرى وبقيت له صفة المكان لكل معانيه وأشكاله .. وهكذا .
وفي ولاية " فلوريدا بأمريكا .. عشت أياماً بالغة القسوة ألقيت بكل حديث حضاري عن أمريكا .. هناك خلف سواحل الأطلسي لقد رأيت الخضرة والجبال كأنما صنعها الإنسان بمادة بلاستيكية لكنه لم يستطيع أو لم يفكر في تغيير رائحة الطين الذي كنت أنزل إليه في الحدائق كعصفور ينحت بمنقاره بحثاً عن ألفة عظيمة مفقودة .
ما لمسته هنا أو هناك تجاه الأمكنة .. لا يعتمد عليه كقانون، فهذا قانوني أنا أو تلقائيتي الشخصية مرتبطة بحالتي وظروفي وذائقتي وإنسانيتي .. لكنني لا أستطيع أن أجعل من المكان رداءاً أخلعه متى شئت وكيفما أتفق .
هل المكان هو الجغرافيا أم أنه شيء آخر ؟
بالطبع يا صديقي .. المكان ليس مجرداً عن التقائك في الحياة المعاشية أو النفسية مع الآخرين .. المكان يتأنسن بعلاقتك مع الإنسان الذي يشغل ويغير ويؤثر في هذا المكان.
لذلك تأخذ الأمكنة حميمية الإلتصاق بالنفس والذائقة والذاكرة .
لم أفكر ذات لحظة في العيش خارج مدينة " الدمام " فقد ألفتها إلى درجة العشق.. احببتها حباً إنسانياً تفصيلياً.. فيها تعرفت على الأصدقاء ..على الانفتاح نحو ثقافة جديدة .. الثقافة المعرفية بالذات وصياغات التعامل الذاتي مع الحياة والأشياء.. المعرفة الحقيقية لمعنى التجربة الانتقالية من براءة القرية إلى ترس الطاحون المدني .. كنت أمام امتحان يومي في كفاءة الذات وفي كيفية التعامل مع العالم القريب والبعيد .. مع الغذاء والماء ونوع الخبز ومعايشة الدواء، و إقامة سلوك جديد مع وسيلة جديدة اسمها " قيادة السيارة " والعمل اليومي حسب اشتراطات الوظيفة .. لم أكن اعتمد على جرس الساعة ولم أخل بالتزام مع الآخر .. كنت دقيق الالتزام وفي مرحلة عنفوانية فكراً وممارسة ولم تكن مآسي الحياة مرة كما هي كسباً ثقافياً ودروساً .
فجأة أخذتني أقدار الصحة إلى " الرياض " .. فكنت أهرب من المستشفى في السابعة مساءاً لكي أعود إلى بيتي في مدينة " الدمام " اقضي نصف الوقت في الطريق ( 3-4 ) ساعات وأعود إلى غرفتي بالمستشفى قبل السابعة صباحاً ..لا تقل إنني كنت مجنوناً .. لقد كان هذا يحدث وفي حالة إغماء فالظرف الصحي كان صعباً. عرض علي الأصدقاء بـ" الرياض " رعاية صحية وعملاً ملائماً بالصحافة مثلاً ومسكناً .. لم أوافق.. كان اليوم يمضي كشهر .. أرغب في النفاذ بأية صفة إلى " الدمام "
الأطباء يتعاملون مع المريض كحالة جسدية فقط فيسقطون ضلعين من مثلث الصحة النفسية والاجتماعية.. لم أعد من الرياض بنتائج إيجابية .. برغم العناية .. عدت مريضاً – كجورب محموم إلى الدمام .. لكنني كنت سعيداً ودخلت في تصالح جديد مع الحالة وهنئت قليلاً قليلاً .
هل يمكن اعتبار المكان " الدمام " معطفاً تلقيه عن كتفك لمجرد دخول موسم الصيف .. لا اعتقد أبداً ولكنك أيضاً لست مخلوقاً لموسم واحد بصفاته وحواشيه في الحياة ! فجأة .. أيضاً وبصورة غير متوقعة أبداً رأيت أن المعيشة في الساحل الغربي بمدينة " جدة " .. تتصالح مع الظرف الصحي المكتسب تجربة، فقد أحسست بتحسن ملحوظ وبأصدقاء جدد وبألفة قديمة مفقودة تجاه شجرة " الحناء " وبقرب المدينة من الجبال السروية.. أما المسألة الصعبة حقيقة .. فقد كانت تقليدية التعامل – خاصة الأقرباء – لقد كانت امتحانا جديداً مراً .. كانت ضريبته كبيرة في أوائل الأمر .. ربما وبحكم العذر الصحي الذي استخدمه بإيغال شديد أحياناً .. استطعت أن أتأقلم أو يتأقلمون مع " هذا المريض " المسكين .. اسكنهم الله واسكن المسلمين واسع جناته .. آمين .

اطلَّ أحمد من الباب وقال : تفضلوا حياكم الله .
انتقلنا إلى غرفة أخرى وكان تراث الأجداد يعلن عن حضوره، حيث أعلن رأس الخروف المفتوح بلسان مائل إلى اليمين عن وليمة تليق بتراث العائلة . إنهمكنا في الأكل ونسيت عبد العزيز ولكنني فوجئت به يشمر عن أكمامه ويستبدل أكل الماء بالمائدة الدسمة ، تبادلنا الأحاديث القصيرة ولكن عبدا لعزيز كان يأكل بلذة ما ألفتها منه بل أنه لم يشاركنا التعليقات العابرة .
- هل تظن الخروف ماء يا آكل الماء ؟
أجاب باقتضاب: هذا خروف ما بعد الحداثة والخدماتية والاستهلاكية .
- لكنه لذيذ وسريع والتجهيز .
صحتين على قلبك
فرغنا من الأكل وخرجنا إلى الحديقة الصغيرة بجوار الكادي وحوض الريحان وبين ارتشافات كاسات الشاي وصوت قرقرة الأرجلية أردت استعادة حيوية الحوار فسألت عبد العزيز :
لماذا تأثرت باللهجة الشامية التي تستخدمها في سياق حديثك أكثر من تأثرك باللهجة المصرية التي كانت هي لهجة زوجتك الأولى والأخيرة والتي كانت تناديك "عب عزيز"..؟
تنحنح قليلاً وقال : أولاً ..فال الله ولا فالك .. وثانياً .. الله يمسيها بالخير .. وتاسعاً شو بدك في هالسيره ..
- كيف قفزت من ثانياً إلى تاسعاً
أمرك سيدي .. والسبب في رأينا يعود إلى أن الأمور متشابهة أو متماثلة أو بليدة فالأول والآخر سواء أما بالنسبة لاستخدامي اللهجة الشامية أكثر من المصرية فيعود إلى ذوق شخصي بحت أرى أن الشامية تعطيك المعنى بصيغة أكثر حضوراً أو تجديدية، أما المصرية فإنها تستخدم نفس الكلام لمئات الحالات.
كانت الطائرات تحط في مطار الملك عبد العزيز وكأنما وضعت علامة على بيت عبد العزيز ابن مشري لتبدأ إنزال العجلات فوق سطحه فانقطع الكلام مراراً . وحين أردت معاودة طرح الأسئلة كان صاحبنا قد ملّ الحديث واستلم للخدر الذي يعقب الأكلة الدسمة. وسألته هل تريد مواصلة الحوار قال بحدة: اشغلتني يا ولد بهذي الأسئلة " ما معك ضيعة ولا بيعة تشغلك عني ! "
أدركت أن الوقت قد أسلم مقاليده للتوقف وأعطيته ما تبقى من أسئلة ليجيب عليها بطريقته .


ايوب صابر 06-03-2012 11:17 AM

الجزء الثالث من الحوار
( 10) - كرست في كل أعمالك العديد من القيم الإنسانية النبيلة التي تتجلى في جوانب من حياة المجتمعات القروية ( التعاون ، البساطة ، الارتباط بالأرض ، الوقوف في وجه الظلم ) وكان من ضمنها وأهمها انتصارك للمرأة في كل هذه الأعمال، ولكن القرية الآن قد تحولت إلى شبه مدينة في مرتكزاتها الاقتصادية وفي أنماط حياتها الاجتماعية وقد قال والدك الشيخ صالح بن مشري في حوار نشر بجريدة البلاد " لم يعد في كل القرية ديك واحد " كدلالة على عمق التغير الذي طال حياة القرى.. لقد أسدلت الستائر الرمادية الآن على فعل ووجود المرأة الاقتصادي والاجتماعي في القرى كما أسدل على أختها في المدينة فمتى نجد امرأة القرية وزميلتها المدينية في إبداعاتك القادمة ؟

* - نعم هذا صحيح فالتحول الاقتصادي الطفراوي في كافة مناطق الوطن "السعودية " قد خلق أنماطاً مغايرة لطبيعتها الإنتاجية - السلوكية - التراثية - وكذلك في العلاقات والروابط وفي شكل الحياة وضد بنيتها المعيشية. لقد أصبحت "البلاد " وهي البقع الزراعية المحدودة والتي عرفت لدى الفلاح بأحلى الأسماء .. فتلك " عيون الحمام " والأخرى " خيره " والثالثة " سعادة " وغيرها مما أختير كأجمل الأسماء والكنيات باعتبارها وبصورة متوارثة منذ القدم مزارع يبذر فيها "الذرو" ويبقي لينمو ويشد ساقه ثم يثري تحت عين وقلب مالكها الفلاح .. إلى موسم الحصاد .. لقد أصبحت بعد انفراط الإيقاع الإنتاجي - الفلاحة اليوم - مكاناً مناسباً دون أدنى تردد إلى مكان ممهد لبناء بيت من الاسمنت ! .
سأذكرك .. هناك وعلى حافة المكان الذي يزرع " العثري " – وهو مصطلح عربي جيد لبقعة الأرض التي تعتمد في مائها على أمطار الموسم سواء كان قمحاً أو ذرة أو غيره .. هذه القطع المعروفة عند الفلاح بمحدودية محصولها .. تقع في العادة إلى جانب سفح صغير غير مزروع لعدم صلاحيته وربما كانت إلى جانب صفح كبير ( المساحة المنحدرة نسبياً يسمى بـ" الوسيفة " أو " السفح " بتحويل السين إلى صاد ) وقد تكون بلا حدود .. فتكون أكبر مساحة إلى وسط أو قمة الجبل .. باعتبار أن المنطقة جبلية وعلى جنباتها مدرجات متعاقبة للزراعة، فأصبحت اليوم في مكانتها المعنوية والواقعية الإيقاعية الكاسحة .. أغلى قيمة من الأراضي الزراعية " المسقوي " التي تساق بالماء من البئر بالسواني حيث كانت أكثر حصاداً وأينع رواءً!!.
القروي اليوم في هذه المرحلة الاقتصادية المعيشية .. لم يعد بقروي والحياة المصلحية العامة أصبحت فردية انتهازية .. لا مكان للأب أو الابن ولا للأخ والعم وبالتالي لا للجار والجماعة والقرية أو العشيرة والقبيلة، وعليه فإن الوسيلة الإنتاجية التي كانت تصيغ للقرويين نمطاً محترماً ونافعاً بحكم الضرورة المتبادلة وفي مناخ اجتماعي واحد .. قد تغيرت ألا تتغير معها المرأة ؟ .
بالطبع ودون إرادة أو تكلف أو عدم تكلف وهذا دليل على عدم صحة النظرة التي تفرق بين المرأة والرجل كإنسانين متكاملين .. لا يمكن أن يحيا أحدهما دون الحاجة إلى الآخر ( سنة الله في خلقه(.
الوثبات الرهيبة والذهول " الفانتازي " الذي صبغ أنماط الحياة وشخصياتها وانتمائها بألوان مغامرة لم يكن على الرجل دون المرأة ولا على الطفل دون العجوز ولا على القروي دون البدوي أو أهل الساحل أو الحارة في المدينة القديمة .. لقد أصبح وبصورة ترفع وسامات التقدم الإنساني وتعود إلى التخلف الاجتماعي مئات الخطوات بل آلافها إلى الخلف دون وعي بالحياة .. تحولت الإنسانية في المجتمع بشتى صنوف معيشتها إلى تخلف خطير وتاريخي بحيث أصبح الإنسان بلا فاعلية ولا مرجعية ولا مستقبلية .. فقط إنما هو استهلاكي زمني ومعيشي جاهز عديم النشاط يعد أيام عمره الباقية ويصارعه في المعايشة النفسية والجسدية و.. " الله يحسن الخاتمة "!.
الحياة لا تقف عند نمط معيشي معين .. لكن هل علم أهل القرى لماذا ؟ لماذا انتقلنا فجأة بقفزة غير استيعابية من " الثور ، والحمارة " إلى الطائرة والسيارة والأوتوماتيك ولم يتم إعدادنا اجتماعياً لهذا الاستيعاب بصورة مرحلية ؟ ! .
هذا ما يشغلني ويعذب قلمي .. ليس في القرية فقط .. و إنما في المدينة التي تكونت من حارات ونزل معروفة ومحددة .. إلى مدينة ثلاثة أرباع سكانها من القرى والهجر والبوادي ولا يجمعهم شيء .. الجامع فقط هو ما تملك .
لكن هل هذا المستضاف الاستهلاكي المدني – وليس الحضاري – استطاع أن يقتلع الآدميين من جذورهم ؟
لا .. إن في المدن الكثير ممن سكنوها بعاداتهم وشعبيات مجتمعاتهم وربما حتى شكليتهم أو شكلياتهم في الملابس واللهجات !.
أتسالني عن المرأة الأم والزوجة الأخت والحبيبة وكيف أن الستائر الرمادية أسدلت عليها وعلى أختها في المدينة ؟!.
إن الستائر الآن أصبحت بنية داكنة .. لم يظلمها المولى الكريم ولا الرسالة الإسلامية الحنفية وإنما ظلمناها نحن بمفاهيمنا الجديدة والمتخلفة .. بحيث نظرنا إلى الطير .. إنه يطير بجناح واحد في الفضاء .. لقد فرضت علينا المفاهيم دون حوار ونظرنا إلى المرأة نظرة أخرى .
لقد ولدت – قبل أن أكون كاتباً – مسلماً وتربيت في بيت ومجتمع قروي مسلم وأموت مسلماً انكح مسلماً وأذري مسلماً .. اعيش أحب السلام وأنبذ الاستسلام وقد أوصانا رسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم باحترام ومعايشة الأم والأخت وذات القربى والحميلة والجارة وكل المؤمنات .. بالخير والإيمان والرعاية والوصاية الحميدة وكامل التعامل الإنساني.
لقد سئلت عن العنصر الإنساني المغيب في واقعنا وكيف أن هذا يقف كحد واضح المعالم في عدم كتابة الرواية المحلية ؟ .. غير أن هذا السبب الحيوي الهام لم يكن مغيباً في رواياتي المكتوبة عن عالم القرية .. المرأة موجودة في حياة الفلاح جنباً إلى جنب في البيت والمزرعة .. ترى من كان يحصد و" يدرس " المحصول ويحضر الماء من البئر ويصنع الخبز ويشارك في " طينة " سقف البيت ويطبخ للمناسبات ويحلب البقرة ويجني الثمار و .. و .. إلخ .. أليست المرأة بل وتحمل وتنجب – بحكم طبيعتها – وتربي الطفل وتحمله في (" الميزب "/ المهد ) وتأخذه معها إلى المزرعة ثم تلقمه نهدها لينام حتى تتفرغ للعمل .
اعتقد أن غياب المرأة لا يؤثر على الكتابة الروائية تحديداً وإنما هو الغياب الإنساني في الحياة والنهوض بها .. ألم يقل رسول الأمة عليه الصلاة والسلام لابنته " فاطمة " وهو يخاطبها " نعم يا أم أبيك " .. أية إنسانية عظيمة هذه .. " خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء " يعني " عائشة " رضي الله عنها .. يجب ألا نخلط في حقائق الأشياء.. المرأة هي عين الإنسان الأولى ويده وكليته وأذنه وكل شيء في حياته وليس فقط معاونه الأساسي في الحياة ! .
كلنا لم نأت من الفراغ ولا من بطون الرجال .. لذلك أنا لم أخترع المرأة في الرواية التي أكتبها .. لقد كتبت من الواقع .
لا تظن يا مسائلي .. بأنني متعصب أو متغاف بجهالة .. للمرأة في كتاباتي حقيقة وجودها ومعايشتها وقبل كل هذا إنسانيتها لكنني أبتليت بالكتابة القصصية الروائية الكاشفة لحقيقة الواقع الإنساني كما هو .
إنني أكتب بدمي ومشاعري وكياني .. ولم أقل كل ما في الحياة القروية والمدينية بإنصاف، المستقبل آت والناس معلقة في رقبة قلبي ولن أكتب إلا بمفهومي ونظرتي وقناعتي ولست كل الكتاب ولا كل الأقلام .. لكنني شاهد بقدر الأمانة الإنسانية في هذا الشأن وغيره .

(11) - نعرف أن طبيعة التكوين الثقافي لأي مجتمع مرتبطة بطبيعة النشاط الاقتصادي والذي يزاوله أفراده ولذا فإن للبيئة القروية ثقافتها المرتبطة بنشاطها الحياتي، وكما نعلم فإن تلك الثقافة تكرست لمئات السنين، وحين دخلت المدينة في عجلة التطور المادي والتقني كان لا بد أن يطال التطور / التغير حياة البشر في المدينة والقرية ويؤثر على منظومة الأفكار والقيم لينتقل المجتمع من تشكيلة اجتماعية / اقتصادية إلى أخرى أو هكذا لا بد أن تمضي الأمور .
سؤالنا هو : لماذا يبدي الكثيرون من أبطال أعمالك موقفاً مضاداً للأخذ بأسباب التطور ( الموقف من " ماطور " الماء الذي قتل صاحبه، صالحة ترفض هدم منزلها رغم التعويض من أجل إيصال الاسفلت للقرية، السخرية من " سلام " راكب السيارة " الونيت " على الجالسين أمام منازلهم بزمار السيارة ) .. إلخ.
هل كل ما قامت عليه القرية من عادات وقيم يمثل الخير كله بحيث تقف المدينة "كمرموز " شقي ضده ؟
وهل يفسر هذا إغفالك أو عم اشتغالك إلى الآن عل عالم المدينة في سردياتك ؟

* - نعم التكوين الثقافي الاجتماعي المرتبط بوسيلة الانتاج ( نستثني الحرفة) لأنها لا تشكل صيغة اجتماعية ذات ملامح ملتحمة بأداة الإنتاج في القرى .. كأن نرى " الجزار " الصانع " وغيرهم وهم في العادة يكونون تحت إدارة أب العائلة ولا يملكون في العادة أراض زراعية بحيث يستطيعون العيش منها، لذلك فهم مرتبطون بثقافة القرية من نافذة الالتئام الاجتماعي، أقول هذا باعتبار أن أهل القرى مثلهم مثل كل المجتمعات الإنسانية في المعمورة .. ليسوا ملائكة ولا يجوز الأخذ بخيرهم دون أخطائهم .. لكنهم في مفهومي من أفضل القلائد الاجتماعية التي تحافظ على منظومة كبيرة وحضارية في قوانينها وعاداتها وتماسكها .. مما نحتاج إليه في عدد من فروع العدل والتعامل فعندما نرى كيفية توزيع مياه العيون ومسايل المياه في مواسمها أو مقاطعة من شذ عن الاحتكام للجماعة – وهذا صعب جداً – أو طريقة توزيع لحم الماشية – سواء كانت للبيع أو لما يسمونه بـ" الصدقة " حيث ينال الكل حسب البيوت والعائلات قطعة من كل عنصر ولحمة من الذبيحة بما فيها أطراف البهيمة وكرشها .. وعندما يكون هناك حاجة لمساعدة الجماعة في أي شأن لـ" طينة البيت " أو وقوع أمر مشين على أحد منهم أو وقوع أحد المواشي في البئر أو تجميع مقدار من كل فرد في وقت الحصاد وبذله للفقير وعادة ما يكون لمن لا أرض زراعية كافية لمعيشته .. أو لا يملكها البتة كالحرفي وعندما بدأت معطيات الحضارة الآلية كالسيارة وموتور الماء وغيره .. لم يكونوا ضدها فهم بيد واحدة يشقون طريقاً للسيارة لكي ترد القرية ( الوسمية ) ويتناقلون مضخة الماء ايجاراً أو مساهمة " صالحة " .
المسالة لا تعني أنهم ضد المعطيات الجديدة .. إنما هم فقط يجهلون التعامل معها وفي الغالب عدم قدرة على امتلاكها فأنت ترى في رواية " الوسمية " كيف أن "أحمد بن صالح " كان يهون عليه أي أمر صعب .. سوى أن يمر طريق السيارة الذي يمهده كل الجماعة للوصول إلى عمق القرية من أرضه الزراعية .. لكنه في آخر الأمر وافق بعد أن رأى أن الخير للجميع وأن رأيه شاذ ولو أن موافقته على المرور من أرضه الزراعية سيعتمد عليها موافقة آخرين قادمين في امتداد الخط .
إنهم صعبون في التنازل عما ثقفوه في بيئتهم خاصة ما يتعلق بمواطن معيشتهم .. مضخة الماء التي تنزع الماء من عمق البئر تعمل بـ" البانزين " وتنفث غيوماً في داخل البئر العميقة من الكربون وعادة ما تكون هذه " الماكينة " قريبة من موقع الماء .. حافته في القاع فكان النازل، بالسلالم الحبالية إليها لإسكاتها بعد عملها، كثيراً ما يتعرض لكمية الدخان وبالتالي الاختناق فالموت.. كانوا يخافونها .. و بالتالي توالد الكره لها .. القروي والإنسان الذي لم يتعرض لأي تلوث .. يصاب بالدوار والغثيان أثناء اضطراره للتعامل معه .. لعلك تتذكر كيف كنا نتأثر لمجرد ركوبنا السيارات وهي قليلة جداً في ورودها للقرية .
قبلاً وفي المعنى السابق لحرص الفلاح على بقرته ومزرعته .. فليس غريباً أن تكون " صالحة " في آخر الرواية " صالحة " .. شديدة التمسك والإصرار على عدم هدم بيتها " الحجر طيني " لقضية طريق " الإسفلت " برغم التعويض المالي الذي ستناله !.
موقف هذه المرأة – مع معرفة شخصها قبل نهاية الرواية - .. هو موقف إنساني تلقائي حميمي معيشي تاريخي أولاً ؟ وليس موقفا ضديا من حداثة التطورات وإلا لقالت يبقى ولدي بقربي ولا يذهب إلى المدرسة ليعمل ، وهي أشد حاجة له ) وهي لا تؤاخذ في هذه الحالة لأنها محصلة ظروف اجتماعية اقتصادية وثقافية معيشيه يومية ضمن حياة القرية .. وهي لا يمكن أن تنظر إلى التعويض المالي مقابل ثقافتها الاجتماعية القروية المعيشية والحميمية في البيت الذي آواها زوجها معها قبل وفاته ..( لايجب أن ننظر إلى البيت كمجموعة مترابطة من الحجر والطين .. بل كملجأ ومسكن إنساني له جدران وباب تستطيع أن تأمن إليه وتقفله على نفسها وفرخها . سيكولوجياً وتاريخياً وتربية متوارثة طويلة .. قامت على نظم العلاقة التلقائية بين الإنسان وأنسنة الأشياء التي يمنحها جمالية ألفته وحميميته ولا نستطيع أن نعتبر الحجر والطين وصخور الجبال واختلاف الشجر بأنواع شوكه و .. و .. إلخ لا نستطيع أن نعتبرها خارج ضلوعه وحناياها الدافئة .
أنا لا اعتقد أن المسألة " مادية " كما تفضلت في سؤالك – اقتصادية – بحتة بقدر ما هي ارتباط حميمي نفسي متراكم.. لعلك تعلم أنهم يعيبون جداً على من يفكر في بيع أراضيه الزراعية .. أعني شيئاً منها .
أذكر وأنا طفل – بحكم الواقع المعاش – أن المرحوم جدي عيرني بكلام جارح – لا أنساه – حين طلبت بإلحاح وبكاء حبتين من التمر – بالطبع ليس هناك شيٌ حلوٌ لإرضاء الأطفال سواه – قال رادعاً – لعدم وفرتها :
" أخاف بكرة .. إذا كبرت تبيع البلاد من أجل تمرة ". لاحظ أمر الطفل وقتها لم يستوعب القول .. لكنني أذكرها اليوم للمرة الأولى وبكامل الوعي .
الدم والرقبة تمنح مسافة شبر واحد بين جارين في الأرض الزراعية وهذه الاستعدادية متأهبة جماعياً ضد أي طارئ على القرية ككل .
عن جوابي الاستراتيجي الكتابي في مسالة وقوفي فيما سبق وكتبت عند منطقة الرفض للجديد عندهم أو كما يبدو في سؤالكم .. فإن قلمي وقف – تقريباً – في نقطة مهمة وخطيرة تجاه هذا العالم الذي احتاج لسفر طويل من السنين حتى أعطيه بعض حقه الكتابي مما أحمل وأفهم عنه .. تلك مرحلة أو نقطة " القبض على القرص " التمثال الإغريقي القديم فبعد أن التقطته في يدي ودخلت في مرحلة التهيئة لقذفه فعلي أن أرصد هذه المرحلة تحديداً وهي مرحلة الوقوع القروي في منطقة التحول – اللااستيعابي – الذي جعلهم يثبون دون تدرج مرحلي من الزراعة كنمط إنتاجي معرفي متراكم .. إلى منطقة المفاجآت الاقتصادية المغرية والتي لا خيار دونها ولا معنى فيها لأي أمر له ارتباط بالواقع المتوارث البتة، لأنها أتت فمحت خصوصية السحنة الاجتماعية دون استيعاب أو حتى ذكرى أو تقدير لما مضى .
ليس أمام ذلك الإنسان وربما ليس أمامي – ككاتب – استقراءً لوجه معلوم ويمكن السعي نحوه مستقبلاً بحيث نحس بالانتمائية الاجتماعية ..إنه منزلق خطير وذو هم كتابي استراتيجي كبير في هذا الشأن .

(12) - تقوم التقنية الكتابية لمعظم أعمالك السردية على دور الكاتب العليم بكل شيء فتحاول إخفاء شخصيتك ككاتب لتعطي الإنطباع بالحيادية لكننا كقراء نستطيع أن نبصر دهاءك الفني ونراك في هذه الشخصية أو تلك.. لماذا اخترت هذا الأسلوب ولم تجعل بطل النص راوياً إلا في بعض أجزاء الغيوم ومنابت الشجر " ؟
وفي " ريح الكادي " التي تعد من أعمالك المتميزة يبرز الصراع الدرامي في القرية بين ثلاثة أجيال تتعرض حياتهم لعملية التغيير.. ترى لماذا نراك تختفي خلف الشايب " عطية " وأي دلالة عميقة تود أن تطرحها بهدوء من خلال ذلك الموقف ؟

* - لا أعرف كيف يقرأ القارئ أعمالي لكنني أواجه بمثل هذا السؤال وغالباً ما يكون عن شخصية الكاتب وأين هو طفلاً وصبياً ورجلاً ؟!
إن مسألة البطل الفرد لا تحظى باهتمامي ولا عنايتي في كتاباتي عموماً، ثم إن الكاتب هنا هو جزء من كيانات متآلفة وتحمل صفات المجتمعات البشرية في خيرها وشرها والكاتب يتفاعل مع شخصية أولى وشخصية ثانية وهكذا .. غير أن شخصية الكاتب لا تدير النسيج السردي حسبماً تريد مما لا يتعامل مع الواقع أو يجعل الشخوص أبواقاً مدجنة تنفخ بما يملؤها به الكاتب ..لقد حاذرت دائماً على ألا تأتي هذه الشخصية – الكتابية – كأنا مثقفة تدير من أعلى الجبل الناس والبهائم والأشياء المؤنسنة حسب رغبتها أو ميولها الشخصية المزاجية.. لا شك أبداً ودن أدنى التبريرات أن الكاتب لا يكتب خارج وعيه وبالتالي فإنه قد يكون في مناطق الصيد و الإلتقاط، وليس بالضرورة أن يكون مجمعاً في شخص بعينه في النص .
أما عن " عطية " أو " عاطي " .. فقد كان يحتل الرمز القروي في كتاباتي القصصية الأولى وما لبث الكاتب أن أكتشف أن هذا الرمز يمكن أن يتوفر في أغلب الشخصيات المُعَانيَة الوفية الكاملة بكل صدقها العفوي مع عالمها ومعايشتها له ودون أن يكون ثمة ميزة محددة، وهذا هو الغالب وإلا فكيف تأتي برواية تحشد فيها كل أهل القرية .. أنت في حالة شبه انتقائية لعدد من الشخصيات المتوافقة مع درامية العمل ومتناغمة حسب الضرورة مع" بانوراما" ذلك العالم الذي تكتب عنه في إطار خصوصيته الاجتماعية و المكانية .



ايوب صابر 06-03-2012 11:18 AM

كان الوقت يجلدنا والكلام يأخذ منا مآخذ المجابهة منتصف الليل وقلت : ياعبد العزيز سأذكرك بطرفة من طرائف الحوادث التي تحدث في القرى : روى آباؤنا أنمجموعة منهم ذهبت إلى قرية أخرى لتطلب منهم المساعدة في جمع " دية " شخص غريب قتلخطأ في نواحيها، وحين التقوا بشيخ تلك القرية وبعض وجهائها لاحظوا عدم حماسهمللمساهمة، فقام أحد أفراد المجموعة وحلف على أهل القرية الأخرى بأن يخرجوا إلى ساحةالدار للتشاور في أمرهم، (لأن التشاور سينبثق عنه شيء وإن كان قليلاً، كمساهمةمالية من قيمة الدية المطلوبة وقد نجحت الفكرة( !
الوقت الآن منتصف الليل ياعبد العزيز ألا تأكل ؟
قال : لم آكل ولن .. فهذه اعتبرها فترات مائية.. أنا آكلالماء فقط ! قلت له وقد بلغ العناء مني ومن بعض الأصدقاء المرافقين مبلغه: حلفتعليك أن تتشاور مع "أخوك " أحمد في أمرنا !
تشاورا همساً .. وخرج أحمد من صالةاللقاء وأخذتنا الأحاديث الجانبية ثم عاد أحمد بإبريق الشاي وبعدد من السندويتشات .
قلت لأحمد : كنت اختلس السمع لثغاء الشاة أو التيس تحت حد السكين ؟ فضحك أحمدوقال الله يرحم أيامها ، قال زميلي : نحن نعذركم فإذا لم يتوفر الخروف فليس أقل من " ديك الشيبة " الذي تحدث عنه " الصاحب " في رواية الحصون .
أجابه أحمد : أنتفي جدة يا صاحبي ولست في قرى الجبال .
تشاوروا فينا يا عبدا لعزيز!!
ضحك وقاللقد بلغت المشورة سندويتش الجبنة .. فهنيئاً مريئاً ما تأكلون !

( 13) -
للأمكنة كمين كما تقول فوزية أبو خالد ، وهذه الأمكنة تتغلغل فينا حباً وكرهاً ..شجناً وأسى ، وأنت قد تنقلت من قريتك في منطقة الباحة إلى الدمام وأقمت بهالسنوات طويلة ورحلت إلى القاهرة وقضيت أوقاتٍ متباعدة في الرياض ثم استقر بك ريح " الجاردينيا " في جدة .
حدثنا عن رائحة المدن وعن المناخ الذي اندمجت بهاختياراً أو قسراً وما هو انطباعك الثقافي والاجتماعي عن هذه الأمكنة .

* -
المكان كما تقول الشاعرة " فوزية أبو خالد " كمين .. لكنه ليس كمين يبث في الداخلرائحته وإنما يترك أيضاً نوعاً من الحوار يخاطب فيها جميع جوارح الإنسان .
لوافترضنا تجريد المكان من هذه الخاصية الإنسانية الكبيرة والمنظومة من عدة تراكيبدقيقة وجزئيات .. فإنه لن يختلف عن أي موقع للحياة أو المصادفة .. بحراً أو صحراءأو صندوقاً من الخشب لا مكان له .. ستصبح الحالة أشبه بزمن " مكتسب " ففيه عمر يقضىبأية صورة بلا حس حتى تنتهي .
قد لا أتحدث هنا عن إيجابية المكان – كمحورارتكازي – في العمل الإبداعي بقدر ما أعنى منطقية ضرورية في حياة الإنسان برغمالرضى والمصالحة معه من عدمها .
عندما كنت أعيش في القرية إلى سن أول العشرين .. لم أكن لأعرف العالم بمحيطاته وأناسه واختلاطات إيقاعاته وسهوله و جباله .. سوىبحدود طلوع الشمس من مشرقها خلف الجبل الكبير المقابل للبيت من بعيد،وللحصنالقديم الذي تلتف حوله برتقاله الشمس النحاسية في الغروب .. هذه حدودي التي التقطتفي تفاصيلها عالمي الأليف والحبيب والشقي أيضاً بآلامه وحرمانه، لكنه كان حميمياًومتغلغلاً في انسجتي وخلايا ذاكرتي وجوارحي .. للحجر – مثلاً – معنى واحد ملتصقبقساوته وصخريته الصلبة وهندسته ووزنه الذي يعني لك تفصيله شبه مدركة الثقل والنوعواللون، لكنه يبقى صخراً في ثنايا ذاكرتك أينما ذهبت ما لم تضف إلى معرفتك معارفإضافية جديدة .. تختلف باختلاف درجات استيعابها ومكانها وزمانها .
دخلت المدينةفرأيت الصخر غير الصخر والحجر يأخذ خاماً آخر تعرف مكوناته ولا تعرف حميميتهالمجهولة التي ارتبطت بها في ثقافتك القروية الأولى .. رأيت حجراً يستخدم للبناء منالأسمنت والرمل المقولب ومساكن تقام في عز الصحاري والبحار .. دفعة واحدة انتقلت منآخر حدود الجنوب الغربي إلى آخر حدود الشمال الشرقي .. من الجبل إلى البحر ومنالوديان إلى الصحاري بالطبع كان عليك أن تتعايش مع بيئات جديدة .. كذلك مهما جاهدتفي تلوين وتغيير الحجارة .. لن تستطيع أن تغير ما في داخلي.. لقد أخذت الصخر الذيتقطع منه الحجارة في النشأة الأولى معنى محدداً تلمسه وتحسه بكامل قنواتك المعرفيةولكنك تكتشف أن الحجارة ليست سواء .. هذا صحيح تجاه كل الجوانب الحياتية الأخرىالتي تقابل الشخص باختلاف المكان،وفي مدينة " الدمام " على بحر الخليج العربيبشمال شرق المملكة .. كنا نبحث عن شكل الصخر أو الجبل أو الحجر .. يقولون ثمة جبلفي المنطقة الشرقية اسمه " جبل الظهران " وسمعنا عنه من آبائنا الذين التحقواعمالاً أميين بشركة الزيت .. منذ قبل مجيئنا للحياة رأينا حيزاً صخرياً تشقه عدةطرقات للسيارات ثم ما لبث بعد أن التصقنا به .. أن انطمس .. فُـتك به حتى ُسوي بهالأرض.. فكنا في مواسم الصيوف نقطع آلاف الأميال بالسيارة إلى الجنوب وأول مايبهجنا نحو الجنوب منظر الجبال وأشجار الطلح و"القرض " والسدر ورائحة الفضاء الواسعالنقي .
بالطبع أنا لا أعني أن الأمكنة يجب أن تساير مطالبي .. لكنني وجدت قلمييسعى لإعادة تراكيب الأشياء بحكم مرجعية ذائقية ودون الوعي بهندسة الأمكنة الجديدةوملابسات ضرورياتها وبيئات أنسانها. في " القاهرة " حيثالبعد الشديد اجتماعياًوبيئة ومعيشة وفي عمق الليالي الموغلة في الغربة ولأسباب غير اختيارية .. كتبترواية " الوسمية " بحميمية ومرجعية معيشية دقيقة لكنه يبقى المكان "القاهرة" كمينآخر له مواصفاته ونماء ثقافته وأناسه و.. إلخ .
في " لندن " الضبابية .. عرفتطعماً آخر للضباب الذي عرفته في الجبال السروية وبطبيعة الحال والمكان والزمان .. رأيت ضباباً يعايش الإنسان ويختلط بيئته وشارعه ومكان عمله وملبسه ومأكله ومشربهوكان الضباب يعني لي دائماً – يعود للمرجعية البيئة القروية – وجود البرد والعواصفوالمطر وانتظار تصريح الأهل بعدم الذهاب إلى المدرسة .. جميل هذا وقبيح في مكانهوزمانه البعيدين .. فقد اتخذ لغة أخرى وسلوكاً آخر .. بمعنى صورة وذائقة أخرى وبقيتله صفة المكان لكل معانيه وأشكاله .. وهكذا .
وفي ولاية " فلوريدا بأمريكا .. عشت أياماً بالغة القسوة ألقيت بكل حديث حضاري عن أمريكا .. هناك خلف سواحل الأطلسيلقد رأيت الخضرة والجبال كأنما صنعها الإنسان بمادة بلاستيكية لكنه لم يستطيع أو لميفكر في تغيير رائحة الطين الذي كنت أنزل إليه في الحدائق كعصفور ينحت بمنقارهبحثاً عن ألفة عظيمة مفقودة .
ما لمسته هنا أو هناك تجاه الأمكنة .. لا يعتمدعليه كقانون،فهذا قانوني أنا أو تلقائيتي الشخصية مرتبطة بحالتي وظروفي وذائقتيوإنسانيتي .. لكنني لا أستطيع أن أجعل من المكان رداءاً أخلعه متى شئت وكيفما أتفق .
هل المكان هو الجغرافيا أم أنه شيء آخر ؟
بالطبع يا صديقي .. المكان ليسمجرداً عن التقائك في الحياة المعاشية أو النفسية مع الآخرين .. المكان يتأنسنبعلاقتك مع الإنسان الذي يشغل ويغير ويؤثر في هذا المكان.
لذلك تأخذ الأمكنةحميمية الإلتصاق بالنفس والذائقة والذاكرة .
لم أفكر ذات لحظة في العيش خارجمدينة " الدمام " فقد ألفتها إلى درجة العشق.. احببتها حباً إنسانياً تفصيلياً.. فيها تعرفت على الأصدقاء ..على الانفتاح نحو ثقافة جديدة .. الثقافة المعرفيةبالذات وصياغات التعامل الذاتي مع الحياة والأشياء.. المعرفة الحقيقية لمعنىالتجربة الانتقالية من براءة القرية إلى ترس الطاحون المدني .. كنت أمام امتحانيومي في كفاءة الذات وفي كيفية التعامل مع العالم القريب والبعيد .. مع الغذاءوالماء ونوع الخبز ومعايشة الدواء، و إقامة سلوك جديد مع وسيلة جديدة اسمها " قيادةالسيارة " والعمل اليومي حسب اشتراطات الوظيفة .. لم أكن اعتمد على جرس الساعة ولمأخل بالتزام مع الآخر .. كنت دقيق الالتزام وفي مرحلة عنفوانية فكراً وممارسة ولمتكن مآسي الحياة مرة كما هي كسباً ثقافياً ودروساً .
فجأة أخذتني أقدار الصحةإلى " الرياض " .. فكنت أهرب من المستشفى في السابعة مساءاً لكي أعود إلى بيتي فيمدينة " الدمام " اقضي نصف الوقت في الطريق ( 3-4 ) ساعاتوأعود إلى غرفتيبالمستشفى قبل السابعة صباحاً ..لا تقل إنني كنت مجنوناً .. لقد كان هذا يحدث وفيحالة إغماء فالظرف الصحي كان صعباً. عرض علي الأصدقاء بـ" الرياض " رعاية صحيةوعملاً ملائماً بالصحافة مثلاً ومسكناً .. لم أوافق.. كان اليوم يمضي كشهر .. أرغبفي النفاذ بأية صفة إلى " الدمام "
الأطباء يتعاملون مع المريض كحالة جسدية فقطفيسقطون ضلعين من مثلث الصحة النفسية والاجتماعية.. لم أعد من الرياض بنتائجإيجابية .. برغم العناية .. عدت مريضاً – كجورب محموم إلى الدمام .. لكنني كنتسعيداً ودخلت في تصالح جديد مع الحالة وهنئت قليلاً قليلاً .
هل يمكن اعتبارالمكان " الدمام " معطفاً تلقيه عن كتفك لمجرد دخول موسم الصيف .. لا اعتقد أبداًولكنك أيضاً لست مخلوقاً لموسم واحد بصفاته وحواشيه في الحياة ! فجأة .. أيضاًوبصورة غير متوقعة أبداً رأيت أن المعيشة في الساحل الغربي بمدينة " جدة " .. تتصالح مع الظرف الصحي المكتسب تجربة، فقد أحسست بتحسن ملحوظ وبأصدقاء جدد وبألفةقديمة مفقودة تجاه شجرة " الحناء " وبقرب المدينة من الجبال السروية.. أما المسألةالصعبة حقيقة .. فقد كانت تقليدية التعامل – خاصة الأقرباء – لقد كانت امتحاناجديداً مراً .. كانت ضريبته كبيرة في أوائل الأمر .. ربما وبحكم العذر الصحي الذياستخدمه بإيغال شديد أحياناً .. استطعت أن أتأقلم أو يتأقلمون مع " هذا المريض " المسكين .. اسكنهم الله واسكن المسلمين واسع جناته .. آمين .

اطلَّ أحمد منالباب وقال : تفضلوا حياكم الله .
انتقلنا إلى غرفة أخرى وكان تراث الأجداديعلن عن حضوره، حيث أعلن رأس الخروف المفتوح بلسان مائل إلى اليمين عن وليمة تليقبتراث العائلة . إنهمكنا في الأكل ونسيت عبد العزيز ولكنني فوجئت به يشمر عن أكمامهويستبدل أكل الماءبالمائدة الدسمة ،تبادلنا الأحاديث القصيرة ولكن عبدا لعزيزكان يأكل بلذة ما ألفتها منه بل أنه لم يشاركنا التعليقات العابرة .
-
هل تظنالخروف ماء يا آكل الماء ؟
أجاب باقتضاب: هذا خروف ما بعد الحداثة والخدماتيةوالاستهلاكية .
-
لكنه لذيذ وسريع والتجهيز .
صحتين على قلبك
فرغنا منالأكل وخرجنا إلى الحديقة الصغيرة بجوار الكادي وحوض الريحان وبين ارتشافات كاساتالشاي وصوت قرقرة الأرجلية أردت استعادة حيوية الحوارفسألت عبد العزيز :
لماذا تأثرت باللهجة الشامية التي تستخدمها في سياق حديثك أكثر من تأثركباللهجة المصرية التي كانت هي لهجة زوجتك الأولى والأخيرة والتي كانت تناديك "عبعزيز"..؟
تنحنح قليلاً وقال : أولاً ..فال الله ولا فالك .. وثانياً .. اللهيمسيها بالخير .. وتاسعاً شو بدك في هالسيره ..
-
كيف قفزت من ثانياً إلىتاسعاً
أمرك سيدي .. والسبب في رأينا يعود إلى أن الأمور متشابهة أو متماثلة أوبليدة فالأول والآخر سواء أما بالنسبة لاستخدامي اللهجة الشامية أكثر من المصريةفيعود إلى ذوق شخصي بحت أرى أن الشامية تعطيك المعنى بصيغة أكثر حضوراً أو تجديدية،أما المصرية فإنها تستخدم نفس الكلام لمئات الحالات.
كانت الطائرات تحط في مطارالملك عبد العزيز وكأنما وضعت علامة على بيت عبد العزيز ابن مشري لتبدأ إنزالالعجلات فوق سطحه فانقطع الكلام مراراً . وحين أردت معاودة طرح الأسئلة كان صاحبناقد ملّ الحديث واستلم للخدر الذي يعقب الأكلة الدسمة. وسألته هل تريد مواصلة الحوارقال بحدة: اشغلتني يا ولد بهذي الأسئلة " ما معك ضيعة ولا بيعة تشغلك عني ! "
أدركت أن الوقت قد أسلم مقاليده للتوقف وأعطيته ما تبقى من أسئلة ليجيب عليهابطريقته .




الساعة الآن 04:01 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team