منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   المقهى (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=19)
-   -   لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=19267)

ايوب صابر 02-21-2016 12:47 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ذهب ذلك الجراد الي غير رجعة...لكن صنفا اخر من الجراد، كان اشد فتكا، وأعظم خطرا، بعد ان اتقن لعبة النجاة عبر السنيين في معركة صراع البقاء، وتكاثر بصمت في حصونه وصياصيه لعدة قرون مضت، وفي أماكن كثيرة...في الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب...في الاصقاع الباردة، والصحاري الحارة...حتى ان بعضه هاجر الى الاراضي الجديدة، واستحكم مع الزمن في مفاصلها، وصار له هناك نفوذ عظيم..

وظل اثناء ذلك كله، ولسنوات عديدة يحلم في السيطرة على بلاد السمن والعسل، بدلانا فلسطين...وأصبح مع الأيام صاحب شكيمة، ونفوذ، وامتلك وعلى عكس الجراد الصحراوي، أدوات بقاء، واستمرار، وانتصار...فقد أصبح مدرعا، وله يد طويلة، وعيون كثيرة، وأدوات خبيثة، وأساليب ماكرة...

وبينما كان ذلك الجراد الصحراوي من صنف واحد، ولون واحد أقرب الي لون الرمال الصحراوية، الا ان هذا الجراد الاخر استفاد من سعة رقعة انتشاره في البلاد والاصقاع، فأنتمى اليه أناس كثر من عدة اجناس والوان...منهم الأبيض كبياض الاسكندنافيين ومنهم الأسود كسواد الاثيوبيين...منهم له عيون زرقاء بزرقة السماء ومنهم من ظلت عيونهم على أصولها اسود، وبني، وعسلي...وهو ما يشي باصول شرق اوسطية...

وكان بعضه قد استوطن منذ سنوات في الساحل الفلسطيني، وبعد ان نجح في استقدام المزيد من بني جنسه الي الأرض التي نسج حولها حلمه وحلمهم في العودة والرخاء، استجمع قوته، وعاود الانتشار من جديد في هجمة توسعية، شرسة، وكان ذلك بعد سبع سنوات تقريبا من هجوم الجراد الصحراوي الكاسح...

وما لبث هذا الجراد ان استحكم بكل قوة، وجبروت، واستوطن في رؤوس الجبال، وبدأ يقضم بمخالبه الأرض، والشجر، والحجر، ووضع يده على عيون الماء...الذي هو مصدر لكل حياة...وظن البعض حينها انها موجة عابرة، او هي سحابة صيف لا بد زائلة...لكنه هذا الجراد استوطن في حقولنا، وجبالنا، واستفحل في اذاه...ومرت السنين تلو السنين وهو ما يزال يستحكم في ربوع ارض فلسطين، ويجثم بصلافة، واستهتار واستكبار على صدور اهلها...ولا يوجد في الأفق ما يشير الى متى سيرحل هذا الجراد...

وان كانت كل تلك الحشرات والجرادات التي حدثتكم عنها فيما سبق قد تسببت بأذى عظيم لأهل فلسطين فذلك الأذى لا يعدو نقطة من بحور الأذى والالم والقهر والعذاب والترويع التي صنعها، وتسبب بها هذا الصنف الاخر من الجراد...وتلك اوديسا الم أخرى يطول سردها وتتعدد فصولها...وسوف نعود لقصها عليكم بتفاصيلها المؤلمة، والمروعة، والمرعبة، لكننا نعود لنستكمل أولا مصادر الألم والخوف الاهون في حدة ترويعها والتي عصفت بفلسطين كما اذكرها في طفولتي المبكرة فما يزال في جعبتي ويعصف بذاكرتي مصادر الم أخرى حفرت لها مكان في الذاكرة...

وكان بعض هذه المصادر حشرة صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة... وكانت تسكن في رؤوسنا...ذلك هو القمل اللعين ...الذي كان يسرح ويمرح في غفلة منا ويتغذى على دمائنا، ويتكاثر هناك بين بصلات شعر رؤوسنا دون رادع، وكأنه في غابة استوائية، واظنه كان يفضل ان يختفي في المساحات الكائنة خلف اذاننا، او ربما انه كان يجد في تلك الأماكن اقصر الطرق لما يشبع نهمه من المغذيات والملذات...

وكان انتشاره آفة رهيبة من افات ذلك الزمن...وكان القضاء على هذا الصنف من الحشرات تحديدا من اشد اهتمامات والدي...ومن ضمن أولوياته...واظنه كان يخشى ان يكون القمل من آيات الله المرسلات على الناس في ذلك الزمان...كما سبق وان ارسلت هي والطوفان، والضفادع على قوم فرعون...اعداء موسى وهارون...

واذكر تماما كيف انه كان يشرف شخصيا ومباشرة ونحن صغار على قص شعورنا وبحضوره الدائم...وقد وظف لذلك الغرض حلاقا، وكان البعض يسمونه، مزينا وكان اسمه جميل عبيد...وكان والدي يدفع له في تلك السنوات، اجرة سنوية عبارة عن صاع واحد من القمح تضاعف مع مرور السنين مرات ومرات الى ان اصبح الدفع نقدا هو المستحب، وذلك مقابل خدماته في تزين كل رأس من رؤوسنا...وذلك بحلقها وتنظيفها تماما من أي شعر بماكنته شبه المعطلة بشكل دائم...والتي كانت كثيرا ما تخلع الشعر خلعا بدل قصه، وتتسبب لنا في كثير من الألم...بينما كانت ردة فعل المزين جميل عبيد حينما كنا نتوجع ونعبر عن ذلك بصيحة اخ...اخ...اخ...كانت ردة فعله ابتسامة بعرض الأفق...واحيانا قهقه تزيد المتألم المسكين الما اشبه بطعنة سكين...او كأنه كان يرش ملحا على الجرح...فقد كانت اسنان ماكنته بالية...

وكانت النمرة المفضلة لطول الشعر عند والدي، هي النمرة صفر دائما وكأن الحلاقة طقوس دينية، بينما كنا نحن الصغار نقاوم الصلعة والنمرة صفر باستماته، وبكل ما اوتينا من قوة وحيلة واساليب...وكنا نظن النمرة صفر نوع من العقاب الفردي والجماعي احيانا...وكنا نخجل من أنفسنا إذا ما اجبرنا عليها امام الاخرين ...وكنا نحن نستهين بذلك العدو اللعين ونفضل ان يظل شعرنا مرسلا...طويلا مسترسلا...كاشجار غابة استوائية...وان كان لا بد من قصه، فلتكن القصة على النمرة أربعة...وان لم يكن فالنمرة اثنان...لكنا كنا دائما نخسر المعركة مع والدنا ونستسلم لإرادته ورغبته في استباحة شعورنا حتى لا تصبح مرتعا لتلك الحشرة المخيفة...التي ارتبط وجودها في وجدان الناس وعقولهم بالغضب الالهي والعذاب المبين...

وقد استمرت حرب والدي على حشرة القمل التي كانت تعشش في رؤوسنا حتى أصبحنا في الصفوف الدراسية العليا...لان المدارس الابتدائية كانت أحد أسباب انتشار تلك الافة بصورة وبائية احيانا...وقد اشتركت المدارس في تلك الحرب الفتاكة على القمل...فكانت الماردس تمارس رقابة شديدة على طول شعورنا وتجبرنا على قص شعورنا على النمرة صفر في محاولة للسيطرة على ذلك الوباء، وكان اذا صدف وطال شعر احدنا بمقياس يزيد على مقاييس المدرسة، يرسلوننا الي المنزل وعلى ان لا نعود حتى نجتث الخطر...واستمر الامر على ذلك المنوال الى ان تبدلت الأحوال وهزم القمل شر هزيمة واظن ان ذلك حدث بفضل المبيدات الحشرية التي لم تكن موجودة في ذلك الزمن... وبفضل وفرة الماء الذي اصبح يُصب صبا من الصنابر والدشات التي صارت منتشرة في كل مكان...بينما كان الماء في بداية الستينيات ينز نزا بالقطرات من الجرار والاباريق...او من تلك الاوعية المتطورة قياسا بما كان متوفرا وهي عبارة عن براميل يركب في اسفلها حنفيات تفتح وتغلق حسب الطلب ولا يكون هناك حاجة لمساعدة شخص آخر في كل مرة تريد فيها صب الماء للتنظيف وما اشبهه.. كانت تلك الباميل تملا بالماء كلما تيسر ذلك فالحصول على الماء في تلك الايام لم يكن سهلا...فقد كان الامر يتطلب جهدا كبيرا حيث يؤتى بالماء من الابار...التي كانت احيانا بعيدة ومخيفه ...بل وقد تستغربون حين اقول انها واحدة من اهم مصادر الخوف في تلك الايام... وللماء والابار عندي حكاية ورواية سوف اقصها عليكم فيما يلي...

هزم القمل شر هزيمة منذ زمن بعيد ولو انه ما يزال يظهر بين حين وآخر، هنا وهناك، لكنه ما يلبث ان تشن عليه حروب شرسة فيقضى عليه ويزال من الوجود اذا ما ظهر...وقد اصبح الامر سهلا لان ادوات مقاومته تطورت مع الايام واهمها وفرة الماء الذي صار يصلنا عبر الانابيب والصنابر دون اي عناء من الينابيع والابار الارتوازية، وكذلك وفرة الصابون، والشامبوهات...والمبيدات الحشرية....

والمفارقة ان شريحة الشباب اصبحت هذه الأيام تعتبر حلق شعر الرأس على النمرة صفر، تلك التي كان يفضلها والدي اختيار مميز، وموضة محببة، تشي بصلابة، ورجولة وجمال... يسعى اليها الشباب بأيديها وأرجلها...وكأن ابي كان يستشرف المستقبل ربما...ولو ان اهدافه التي سعى اليها في ذلك الزمان كانت التخلص المطلق من ذلك البلاء العظيم...

يتبع ...

ايوب صابر 02-23-2016 02:38 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ويمكن الجزم بأنه أينما وجد القمل وجد أيضا البق والبراغيث، فهذه الحشرات تشارك الناس في مساكنهم...صحيح اننا قليلا ما نراها لكننا نحس بها، ونستشعر بوجودها...احيانا من خلال حركتها المتسللة على اجسدنا...حيث تترك احمرارا، وأثرا لامعا ومؤلما ولو كان بسيطا...فتتحرك على أثره أصابع ايدينا بصورة غريزية، وتلقائية لحك المنطقة المصابة او المقروصة والتي تكون قد تعرضت للعض، والقرص والحفر، بحيث تتمكن تلك الكائنات من امتصاص ما تستطيع سحبه من الدماء...

وأحيانا نعرف بوجودها من خلال قفزها امام ناظرينا، إذا أمعنا النظر ودقننا في تفاصيل ما يدور حولنا...والقفز طريقة بعضها في الانتقال من مكان الي مكان...ولولا هذه القدرة العجيبة التي وضعت فيها لاحتاجت ربما لسنوات حتى تتمكن من الانتقال من مكان الي آخر ...

وأحيانا أخرى كنا نعرف بوجودها من خلال الحركات البهلوانية التي تقوم بها القطط في محاولة للتخلص منها...حيث تأخذ تتلوى وهي تحاول الوصول اليها بمخالبها ولسانها وكأنها أصيبت بحالة صرع...او شي من هذا القبيل...

والمخيف ان أجهزة الميكروسكوب الدقيقة أظهرت حديثا بأن تلك الحشرات الدقيقة ونقصد هنا البق، والبراغيث ليست سوى بعض المخلوقات العديدة غير المرئية التي تشارك الناس في مساكنهم...فهناك العشرات من المخلوقات الأخرى التي تم رصدها حديثا بالنواظير قد يصل عددها الي الخمسين حسب ما نشر من معلومات حولها موثقة بالصور والادلة القطعية...وهي أيضا تشارك الناس مساكنهم وتتخذ منها بيوتا لها...وهذه كائنات دقيقة جدا وصغيرة في حجومها...لكنها كبيرة حتما في حضورها وضخمه في مفعولها وأثرها المؤذي، والمخيف، والمزعج، فهي أيضا من مصاصات الدماء، وتتغذى على دمائنا...وتنقل لنا حتما الكثير من الامراض...وتتسبب بالعدوى وانتشار الامراض...

واذكر تماما اننا كنا في تلك السنوات نعاني من الدمامل، وهي أكياس من الدم والقيح الصديد، والتي كانت تظهر بكثرة على ارجلنا...وأحيانا على وجوهنا وباقي نواحي اجسادنا...وبعضها كان يتسبب لنا بشديد الألم خاصة إذا ما ظهر في أماكن حساسة...وكانت هذه الأورام والانتفاخات تعالج بصورة شعبية وذلك بتغطيتها بدهون أسود، او بالبصل المشوي قليلا والذي كان يوضع على الدمل حتى ينضج وينفجر ثم تبدأ عملية تفريغ الدمل من محتوياته القذرة بالشد والعصر بالأيدي وما الي ذلك من طقوس...وحتى يختفي محتواها ويندمل مكانها تماما...لكن اثرها يظل قائما لسنوات عديدة قادمة، وكأنها اصبحت وشما يميز صاحبه... لكنه حتما وشم يذكر صاحبه بماضي مؤلم ورهيب...وما تزال بعض الوشوم من هذا الصنف ظاهرة عندي، وابرزها هذا الذي في وجهي وعلى مسافة قصيرة جدا من عيني اليسرى...ولا بد انني كنت محظوظا انها ظلت سليمة...

والحمد لله ان الله مسخ تلك المخلوقات بتلك الحجوم الضئيلة جدا، حتى ان بعضها لا يتجاوز حجمه حجم الذرة، ولا يرى بالعين المجردة، وبذلك جلعنا لا نرى منها اية ملامح او تفاصيل...بينما جعلنا نرى بعضها وكأنها مجرد نقطة سوداء...بينما حجب أخرى عنا تماما...ولولا ما حدث من تطور في وسائل الرصد والتصوير والمناظير ربما لم نعرف بوجودها بعضها ابدا...

فقد تبين اليوم...وبعد كل تلك الطفرات التي حدثت في أدوات التصوير والمناظير، بأنها كائنات بشعة في شكلها، وبعضها شديد البشاعة، وبغيظة ومخيفة، ولها خراطيم مرعبة، وهي اشبه بأبطال مشهد من مشاهد أفلام حرب النجوم التي ما ان نراها حتى ترتعد فرائصنا ونرتجف من شدة الخوف...

كما تبين انها متعدد الالوان وبعضها مزركش، وجميل، وحتما مثير للاهتمام والدهشة...فهي بمنتهى الاعجاز، والدقة في الخلق والتركيب... وذلك ما أظهرته الصور التي تمكن العلماء من تصويرها لهذه المخلوقات والتي احتاجت لتكنولوجيا متطورة بشكل كبير لرصدها ...وتطلبت عملا لعدة ساعات حتى يتمكن المصور من تصويرها واظهرها على حقيقتها وتجسيد ملامحها...

ولو ان هذه المخلوقات كانت بحجم أكبر قليلا، أي بحجم الفأر او الارنب مثلا ...وبانت لنا على حقيقتها وبحيث تبرز لنا اشكالها المخيفة، وملامحها، وافواهها، وانيابها، وقواطعها، وخراطيمها وعيونها التي يبرز بعضها بشكل مرعب على اجسادها لتسبب لنا كل ذلك بذعر شديد ربما لا مثيل له الأرض حتما، وتعجز عن ان تتسبب به حتى اي واحدة من الحشرات السامة والحيوانات المفترسة المخيفة....

والصحيح انه كان لي تجربة مريرة مع حشرات البراغيث المرعبة، لكن ذلك لم يحدث في طفولتي ولا في الريف الفلسطيني، وانما حدث في وقت لاحق من حياتي وفي اجواء صحراوية، ولو ان تلك التجربة المريرة وفي مفارقة عجيبة ساهمت بشكل إيجابي في تغيير موقفي من الزواج، ودفعتني اليه دفعا للتخلص من حياة العزوبية الاشد مرارة والتي اختبرت مرارتها واكتويت بلهيبها في الكويت...في ثمانينيات القرن الماضي ....حيث كنت حينها اسكن مع مجموعة من شباب العزوبية، في شقة جميلة في مظهرها الخارجي، وكانت تلك الشقة الحلم بالنسبة لحياة الشباب قريبة من الشاطيء ومطلة على مياه الخليج العربي، وفي واحدة من أجمل مناطق الكويت، وهي منطقة السالمية، وكان لا يفصلها عن شاطئ البحر سوى اذرع قليلة هي عرض شارع البحر الذي يعتبر واحد من أجمل شوارع الكويت واحد اهم المعالم الرئيسية فيها...

وكانت تلك البراغيث التي روعتني بحجوم كبيرة جدا مقارنة مع اختبرته في طفولتي، وحين اكتشفتها فجأة تشاركني السرير اصبت بصدمة ورعب، ولا بد ان حجومها الكبيرة تعود الي الأجواء شديدة الحرارة في الاراضي الصحراوية...وصدق المثل بحق ذلك السكن اذ يقول "من برا رخام ومن جوا سخام"...وقد كان كذلك فعلا...ولحياة العزوبية شديدة المرارة في الكويت معي قصة مريرة وربما اشد مرارة من قصة العزوبية التي راواها السعدون في روايته ساق البامبو وسأرويها لكم في حينه...ولا شك ان السنوات القليلة التي قضيتها في الكويت كانت عاصفة، ومؤلمة احيانا، وحتما شديدة الدرامية في جوانب منها...وقد لا تصدقون ان الذي حسم امري وجلعني اغادر الكويت رغم حبي لها وتمسكي بالبقاء فيها رغم الزلزال بمقياس عشر درجات الذي هزها وزلزلني وزلزل الكون معها كان لذباب...ولكن تلك قصة اخرى سارويها في حينه...

ولا يمكنني ان انسى الذباب في ريف فلسطين ايضا، تلك الحشرة المنزلية، البغيضة، والمزعجة، والمسببة بالاذى والعدوى بامتياز...ففي طفولتي كان الذباب في ريفنا جزء من حياتنا اليومية، وكان له حضور كبير...وهو بعدة الوان اشرسها الذباب الازرق الذي اكتسب شهرته بانه يستطيع الوصول الي اماكن يصعب على المرء تخيلها، ومن هنا كان الناس يضربون بقدرته المثل بقولهم انه مكان لا يستطيع حتى الذباب الازرق الوصول اليه...والصحيح ان الذباب بكل الوانه واحجامه كان ينغص علينا عيشتنا ويتسبب لنا باذى كبير وقد يكون هو المسؤول عن العدوى التي كانت تصيبنا وليس تلك الحشرات المنزلية الصغيرة...وكان اذا وقع على طعام كنا نرفع ايدينا عنه ولو كان قليلا ولذيذا وشهيا...ولا اظن ان احدا منا لم يكن يحفظ بيت الشعر القائل :
اذا وقع الذباب على طعام........ رفعت يدي ونفسي تشتهه .

ولا زلت اذكر ان والدي كان قد طور وسيلة لطرد الذباب وقتله اذا امكن، وتلك الوسيلة عبارة عن ادة اشبه بتلك التي كنا نستخدمها لقتل الدبابير مصنوعة من الخشب وهي اشبه بمضرب كرة التنس...ولكنه كثيرا ما كان يفضل استخدام اغصان الشجر في طردها من خلال التلويح بها كلما اقترب الذباب...واحب اغصان الاشجار اليه كان شجرة الكينيا ذات الرائحة العطرية، وكان كثيرا ما يحث الناس على زراعة هذه الشجرة الحرجية، نظرا لغنى ازهارها بريحق العسل...وهي تتفتح في موسم الصيف، مما يوفر للنحل رحيقا على مدرا اشهر الصيف التي تجف فيه الازهار الجبلية والبرية...واظنه كان يفضل عسل تلك الفترة والذي كان يسميه عسل الصليب وهو خلاصة رحيق عدد من الازهار التي تتفتح في موسم الصيف مثل الكينيا والصبر والرمان ....

وكان اكثر ما يمارس تلك الطقوس المتمثلة في طرد الذباب، والتي هي اسلوب دفاع عن النفس اكثر منها هواية ، في اشهر الصيف وهو يجلس وقت القيلولة الي جوار ركن من اركان البيت القديم، وبجانب الحديقة المنزلية...في زاوية تلتقي فيها الرياح الشمالية والغربية المنعشه...حيث كنا كثيرا ما نلتقي معه هناك نتسامر ونشرب الشاي...

ولا شك ان اسباب انتشار تلك الحشرات بكثرة ...في تلك السنوات وعلى راسها الذباب يعود الي الاجواء الريفية وكثرة الاشجار المثمرة وروث الحيوانات وندرة المبيدات الحشرية، وقلة النظافة العامة في ظل شح الماء... الذي هو مصدر لكل حياة... لكنه في الريف الفلسطين في تلك الايام كان مصدرا رئيسيا للتعاسة والشقاء...


يتبع ... ذكريات الطفولة المبكرة :

ايوب صابر 02-28-2016 02:58 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


كان الماء مصدرا للتعاسة والشقاء في الريف الفلسطيني في خمسينيات، وستينيات القرن الماضي...وكان الناس في قريتنا يعتمدون في معظمهم على مياه الامطار، التي كانوا يجمعونها بشق الانفس في الابار الرأسية المحفورة في باطن الأرض، وكانوا يسمونها بئر النجاصة لأنها بعد حفرها تكون على شكل حبة الاجاص، رفيعة من ناحية القمة والرأس وعلى سطح الارض، وواسعة من الأسفل والقاع وفي باطن الأرض...

وكانت هذه الابار منتشرة في كل مكان بعضها في البراري ومنها بئر بادي وهذا الرجل صاحب البئر واسمه بادي كان حجارا وحفار آبار استغل مهارته في حفر الابار فحفر في ارضة البعيدة بئرا كان الناس يلجؤون اليه في مواسم الشلتوني قليلة المطر، وعندما تنضب الابار القريبة، والكثير منها كانت تحفر في ساحات المنازل، وبعضها داخل البيوت...حتى ان عددها في محيط منزلنا القريب فقط، وفي مساحة لا تتجاوز الدنم الواحد او الاثنين على اقصى حد كان يتجاوز العشرين بئر...

وحتما كانت هذه الابار تتسبب في الكثير من الرعب، والخوف للناس، فقد كانت مثل فخاخ قاتلة منصوبة ومنتشرة هنا وهناك جاهزة للقتل، وكثيرا ما كانت تصطاد الناس وتقتل بعضهم...وغالبا ما كان يسقط فيها الأطفال وتؤدي ببعضهم الى الموت البشع...حيث يختنق الطفل غرقا إذا ما كانت ممتلئة بالماء الذي هو مصدر لكل حياة...ويموت بصورة أبشع إذا ما كانت فارغة...

ولقد شكلت هذه الابار مصدرا للخوف الرهيب لي اثناء طفولتي المبكرة وما تزال، ولا بد ان الابتعاد عنها كان واحدا من الوصايا العشرة، التي ظل الاهل يكررونها علينا حتى أصبح الخوف منها محفورا في الصدور والقلوب والعقول...

والبعض الاخر من الناس كان يعتمد على مياه الينابيع البعيدة عن القرية، والتي كان يتطلب احضارها الي المنازل جهدا كبيرا...وفي أحيان كثيرة كان الناس يفضلون الذهاب الي عين الماء لغسل ملابسهم بمياه الينابيع بدلا من احضار الماء الى المنازل بوسائل بدائية شاقة وذلك إما بحملها على الرأس في جرار فخارية مخصصة لذلك الغرض، وكانت هذه المهمة للنساء، او بنقلها على ظهور الحمير، والخيل، والبغال وبحيث توضع في براميل حديدية كان الجيش يستخدمها في تلك الأيام...ولكنها كانت تجد طريقها الى الناس...وكانت تنقل الي المنازل في رحلات مكوكية عديدة تستغرق وقتا طويلا من حياة الناس، وتستهلك الكثير من طاقاتهم...وكانت هذه في الغالب مهمة الرجال في التحميل والتنزيل بينما يلعب الأطفال دور السايس للحيوانات التي تستخدم للنقل...

واحد هذه الينابيع التي كان يؤمها الناس أيام الجمع والعطل الرسمية او كلما كان ذلك ممكنا...ويسمى بئر حارس وهذا النبع يبعد عن القرية ما لا يقل على ثلاثة كيلومترات، لكن الوصول اليه كان يتطلب المسير في طرق جبلية وعرة وخطيرة...يقال انها في مرة تسببت بسقوط جمل تزحلق على صخورها الملساء واضطر صاحبه لذبحه وبيع لحمه في القرية...

ولهذا النبع معي قصة محفورة في الذاكرة وهي اشبه بقصص أفلام الرعب، ففيه تعرضت لاحد الزلازل التي هي من مقياس عشر درجات على مقياس رختر...وقد مرتت فيه بتجربة مرعبة اقتربت فيها من الموت المحقق...ولم يكن يفصلني عنه الا ثواني معدودات...لينطبع أثر تلك التجربة المرعبة في أعماق ذاكرتي...وما تلبث ان تطفو على السطح في كل مرة اجد فيها نفسي في حوض ماء مثل بركة السباحة او البحر...فقد أصبح الماء بالنسبة لي بعد ذلك الزلزال بعبعا مرعبا، ومصدرا للخوف الرهيب على أثر تلك التجربة المريرة... والصحيح انه وعلى الرغم من كل محاولاتي للتخلص من ذلك الشعور المخيف الا انني فشلت فشلا ذريعا في هذا الخصوص... وظل الماء وما يزال مصدرا للخوف والموت بالنسبة لي...وسوف اعود لتفاصيل تلك القصة لاحقا وفي حينه...وضمن ذكريات فترة المراهقة والشباب...

ولم يكن أحد يدرك في تلك الأيام على ما يبدو بأننا كنا نعيش فوق بحر واسع، شاسع عميق من المياه الباطنية العذبة، على الرغم من وجود مؤشرات على ذلك، كانت تتمثل في كثرة عيون الماء والينابيع المنتشرة في منطقتنا، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى...منها عشرات الينابيع الجارية في وادي قانا، وعشرات أخرى في وادي المطوي...وكنا نعثر في مجاريها على اسماك صغيرة وهو ما يوحي بأنها كانت ممتدة ربما لتصل الي البحر الأبيض المتوسط...او ربما تأتي من بحر من لون اخر مظلم ربما، ويقبع في باطن الأرض، ويلفظ ما يزيد عن حاجته من الماء في مواسم الشتاء فتتفجر الينابيع وتتدفق ماء سلسبيلا...وتحمل معها بعضا من تلك الكائنات العجيبة التي لا بد انها تعيش في العتمة هناك في الأعماق!؟

وكانت هذه الاودية غنية بالمياه الجوفية تجري مياهها على مدار السنة...وهي لا تبعد عن قريتنا سوى ثلاثة، وخمسة كيلومترات، أحدها في الشمال، ويتبع أراضي قرية ديراستيا وهو وادي قانا، والأخر في الجنوب ويتبع أراضي قرية سلفيت وهو وادي المطوي، اما الأراضي التي تحيط بهذه الينابيع الجارية فهي من أجمل مناطق فلسطين الخضراء، وهي غنية بالبيارات وأشجار الحمضيات...حدائق بهية ذات بهجة، وكأنها جنان تسلب الالباب...

وهناك أيضا ينابيع تكون ساكنة في فصل الصيف، ولكنها ما تلبث ان تتفجر في مواسم الشتاء، وهي منتشرة في أماكن كثيرة ومنها بئر حارس والذي اختبرت فيه تجربة القرب من الموت، وبئر قرية مردا المجاورة، وعين سميتا، وغيرها الكثير من الينابيع التي كانت تتفجر، وتجرى في مواسم الخير والمطر، وما تلبث ان تختفي في بداية موسم الصيف...

وهناك ينابيع كانت تتفجر في مواسم الخير لكن أصحاب الأراضي التي كانت تتفجر فيها تلك الينابيع كانوا يحاولون إخفاء امرها حتى لا تتحول تلك الأراضي الي أملاك عامة...والمهم انه لو ان واحدا فكر في استخدام يديه لحفر الأرض في مكان مناسب حيث العيون التي كانت تتفجر منه تلك الينابيع في فصل الشتاء فلربما كان سيتفجر منها ينبوعا يجرى نهرا فياضا، رقراقا يغنى الناس ويوفر لهم حاجتهم من الماء، ويجنبهم كل تلك التعاسة، والشقاء، والجهد اللانهائي للحصول عليه...

ولقد ظل الناس على ذلك الحال يعانون شق الانفس للحصول على الماء، الي ان جاء الجراد فحفر الأرض وأستخرج الماء من باطنها بأدواته الثقيلة وادواته الحفارة فتفجر منها الماء رقراقا صافيا سلسبيلا وافرا عذبا نقيا...فشرب واسقى لكنها كانت قسمة ضيزى يحصل هو منها على تسعة اعشار وسكان الأرض الأصليين على اقل من العشر لكنهم لا يحصلون عليه الا بعد دفع ثمنه...



يتبع...

ايوب صابر 02-29-2016 02:53 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


والصحيح ان الابار كانت من اول مصادر الرعب التي عرفتها في حياتي على الاطلاق، حتى قبل ان اعي الأشياء من حولي وادرك مخاطرها...ولم يكن اول بئر عرفته وخفته حقيقيا، ولا هو محفورا في الارض، ولكنه كان بئرا في تلك القصة اللعينة التي يسقط فيها البطل، بطل القصة المشؤومة، ولا يجد من ينتشله الا فأر يمد له ذيله لينقذه حسب الرواية، وأحيانا كانت اختي تحرف القصة وتضيف لها بعض المحسنات، وتقول حمامته بدلا من ذيله لكي نضحك...

وفعلا كانت ترتسم الابتسامات على شفاهنا، وأحيانا كنا نضحك من أعماق قلوبنا وبأصوات مرتفعة، لكننا وفي حقيقة الامر كنا حين نسمع تلك الحكايات نرتعد خوفا وتتراقص قلوبنا رعبا، ولطالما ترجم ذلك الخوف الي كوابيس ليلة مرعبة عندي، منها واحد ظل يتكرر لسنوات عديدة في طفولتي ولا اعرف تحديدا متى توقف، وكنت اجد نفسي في ذلك الكابوس اسقط من على ظهر السقيفة التي كنا ننام فهيا، اهوي الي الأرض بقوة ويطول زمن سقوطي يطول وكأن الأرض غارت وابتعدت، وما البث ان أفز من نومي مرتعدا مرتجفا اتحسس رجلي استكشف ان كانت كسرت من هول السقوط، واستكشف ان كان ما رأيته حقيقيا ام هو مجرد كابوسا واضغاث أحلام مرعبة؟ واسم ذلك البئر اللعين، بئر خنيفسه وهو نفس اسم القصة اللعينة تلك...

والمصيبة ان اختي وبسبب اميتها، وضحالة ثقافتها، ومحدودية معرفتها بالقصص، والحكايات، كانت تروي لنا نفس القصص نحن الصغار مرارا وتكرار، ومنها تلك القصة، وكانت ترويها لنا في الليل والنهار...ذلك إذا كان في النهار متسعا لرواية القصص، ولم تكن هي مشغولة في الطبخ، والنفخ، والكنس، والغسل، والتنظيف، وبقية الاعمال الشاقة التي تقوم فيها بنت الريف في خدمة الاسرة...

والذي فاقم الأمور سوءا هو انها في كل مرة كانت تقول لنا تلك القصة اللعينة كانت تشير الي بئر حقيقي مملوك لعائلة سمارة يقع الى جانب ارض لنا اسمها المسمد، لتجسد الحدث لنا وتجعله أقرب الي الواقع نتلمسه نحن بأعيننا وكافة جوارحنا، وقد رأيت ذلك البئر في سنواتي اللاحقة، وقد أطلقنا عليه اسم بئر خنيفسه كما في القصة، وكان مهدوما، مهشما من أحد جوانبه وكأنه وحش كبير يرقد هناك فاغرا فاهه لضحاياه، او كأنه مصيدة ضخمة معدة للصيد، ونصبت خصيصا للأطفال مثلي...

وظل ذلك البئر في صورته المخيفة المهشمة فاغرا فاهه الواسع وكانه فاه حيوان اسطوري سنوات طويلة لاحقه، وظل فيها يشكل مصدرا للرعب عندي...وفي كل مرة كنت امر فيها من ذلك الطريق المجاورة له في سنواتي اللاحقة، كان يقتلني الفضول لكي اقترب وانظر في قعره، وظني انني كنت مدفوعا برغبة شديدة للتأكد من عدم وجود بطل قصة اختي في قعره او ربما أحد اخر سقط في غفلة من الجميع، ولم يستطع الخروج فأحاول مساعدته...فاقترب منه ببطء شديد، وحرص لا يماثله حرص ابدا...اتسلق الى هناك منحدرا قصيرا غالبا ما كان مغطى بالأعشاب واغصان شجرة زيتون برية قزمة نمت على سطحه وترك لها الحبل على الغارب، واستمر في الاقتراب لكي اصل الى تلك الفتحة المخيفة، انظر في قعر البئر بوجل وخوف، بل وانا ارتعد وتتراقص قدماي ربما خشية ان يحصل معي ما حصل مع بطل قصة بئر خنيفسه، فلا اجد ربما الا فأرا يمد لي ذيله او ربما حمامته لكي ينقذني...

ثم أصبحت الابار الحقيقة المحفورة في باطن الأرض، وليس ذلك البئر اللعين المتخيل الذي حفرت اختي له مكان في أعماق ذاكرتي، اصبحت تلك الابار الحقيقة والمنتشرة في فناء المنزل وفي المساحة الصغيرة حوله بل وفي كل مكان هي المشكلة، وكأنها فخاخ معدة للصيد أصبحت هي مصدرا للرعب الحقيقي عندي، وكنت أخاف الاقتراب منها، واتجنبها، ولا اعرف متى كسرت حاجز الخوف ذلك وكيف...

لكنني حتى حتما فعلت في سن مبكرة وفي مرحلة ما، وعندما اصبحت قادرا على العمل وانتشال الماء منها بأستخدام الدلو او (الركوة) وهي غالبا علبة حديدية تخزق من طرفين متقابلين ويوضع في الفتحات قضيب حديد او سلك مقوى على شكل نصف دائرة ويربط هذا السلك بحبل بعمق البئر والذي قد يصل الى خمسة او ستة او سبع أمتار او أكثر من ذلك في بعض الأحيان والأماكن...

وكنت إذا ما كلفت بتلك المهمة والتي طالما كلفت بها حتى وانا صغير السن، فالحياة في الريف تتطلب الكثير من الجهد والايدي العاملة...كنت دائما اشيح بوجهي وانا اسحب الحبل وادفع بالدلو الي الأعلى محملا بالماء من الأعماق التي تبدو سحيقة ومخيفة...وكنت شديد الحرص على ان اتجنب النظر في قعر البئر او في الماء خاصة إذا ما كان قريبا من السطح...وكان يلازمني شعورا مخيفا بأن في البئر قوة جذب هائلة لديها القدرة على سحب الأطفال، وكنت أكثر ما استشعر بذلك الشعور إذا ما كنت على البئر وحدي وليس برفقة أحد...

كان ذلك العمل مصدر شقاء لي في طفولتي وحتما لبقية افراد اسرتي...فقد كانت الحاجة الي الماء كبيرة جدا وملحة، لري المزروعات او سقي الحيوانات او للغسيل والتنظيف وتطهير الثياب والاشياء...وهذه وحسب طقوس والدي كانت مهمة مقدسة...تتطلب الكثير من الماء، فقد كان والدي حنبليا متطرفا في ممارسة طقوس التطهير بحرفية تامة، ويصر على ان يتم تسبيع الملابس بعد تنظيفها فالطاهرة عنده التسبيع وليس فقط النظافة، وهذا يعني ان يتم صب الماء بسخاء عليها سبعة مرات كي تطهر، ويشمل ذلك كل قطعة قماش، او ملابس او أداة يشك انها ربما تعرضت للنجاسة، ولكي تصبح طاهرة وقابلة للاستعمال من جديد...
واذكر انه كان يعتبر من يطهر الملابس بغير تلك الطقوس، أي ان يقتصر على ثلاث مرات بدل من سبعة مثلا، بانه آثم قلبه، ولم يقم بما هو واجب، ومقدس...وكان يشير بهذا الخصوص الى احدى العائلات في القرية، والتي كانت تطهر على الطريقة الشافعية، أي انها تكتفي بثلاث عدات بدل من سبعة، على انه لا يطهر لها شيء وربما اخرجها من الملة...

وظل البئر بشكل عام مصدر خوف لي أحاول ان اتجنبه، واحرص كل الحرص على ان يظل مقفلا، وانظر اليه وكأنه مسكون بالجن او بقوى خفية تترقب الناس لكي تزل اقدامهم فتسقطهم وتفترسهم...وقد تعودت لاحقا وطوال حياتي ان أقوم على تفحص مدى احكام اغلاق غطاء أي بئر اصدفه في طريقي، وان لم يكن مقفلا بصورة محكمة وبقفل حديدي او على الأقل بسلك حديد يصعب على الأطفال الصغار العبث فيه، أقوم على وضع الحجارة الثقيلة عليه كي لا يسقط فيه الأطفال الصغار...



.

يتبع...

ايوب صابر 03-02-2016 03:47 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


وبئر خنيفسه ليس البئر الوحيد الذي خفته طوال حياتي الي تلك الدرجة الحادة والمروعة...بل ان هناك بئر اخر له سمات اسطورية ما ورائية طالما أرعبني وبث الخوف في فرائصي، وقد تجنبت الاقتراب الشديد منه طوال حياتي واسمه بئر النخرور...

وكنا ونحن أطفال كثيرا ما نمر الى جانب بئر النخرور هذا، وعلى مسافة بضعة أمتار فقط منه، وكان ذلك ونحن نسير في طريقنا الى بئر حارس، ذلك النبع الذي كنا نحج اليه سنويا بعد ان تتفجر الينابيع، ويمتلئ بئر حارس بالماء فيصبح كأنه بركة سباحة في وسط جنة من الأعشاب البرية وكانت قريتنا محظوظة بمثل هذه الميزة من بين القرى الاخرى...

وكنا نسير الي بئر حارس نحن الأطفال ونحن نحمل زوادتنا غالبا في مجموعات وكأننا قطعان من الغزلان او اسراب من النوارس مهاجره، وذلك إذا ما حل الموسم، وهو غالبا ما يحل في بدايات شهر اذار من كل عام، وبعد ان تبدأ غيوم الشتاء التي جاءت بالخير والمطر والتي ظلت متلبدة في السماء طوال اشهر الشتاء في التلاشي شيئا فشيئا، وتسطع على اثر ذلك شمس اذار ، وتتألق في كبد السماء، ولو على استحياء ، وتستفيق الكائنات ذات الدماء الباردة من بياتها الشتوي ومنها الحية والعقرب طبعا، وينطلق موسم التزاوج والتكاثر للعديد من الكائنات سكان تلك الأرض البرية، وفي وقت تكون الجبال والوديان قد اكتست بالخضرة وارتدت رداء سحريا ربيعيا مبهجا، من الازهار البرية متعددة الاشكال والالوان...وبدأت براعم الأشجار تنمو من جديد ففي شهر اذار موسم سعد السعود الذي تدور فيه الماء في العود كما يقول الفلاحين عندنا...

وكنا نحن الصغار نؤم ذلك البئر النبع، بئر حارس، بقصد السباحة والاستجمام...ولا اظن ان أحدا ما أبناء القرية الذكور لم يتعلم السباحة في ذلك المكان، وكان يمارسها باستمرار وعلى مدار السنين ما دام يعيش في محيط المكان...الي ان تلوث البئر بمياه المجاري لأحدى المستوطنات التي أقامها الجراد على رأس جبل قريب فصارت السباحة في ذلك البئر النبعة صوفة للموت والمرض... وأحيانا كثيرة أخرى كنت أمر الي جوار تلك الحفرة العميقة المرعبة، التي اسموها بئر النخرور، برفقة العائلة التي كانت تمتلك ارضا شاسعة على مسافة قصيرة منه، صودرت لاحقا بأمر عسكري بعد الاحتلال بسنوات قليلة، تلك الأرض التي تمتد على مساحة سفوح ثلاثة جبال متقابلة، يفصل بينها وادي تجري فيه مياه الامطار في مواسم الشتاء، او مياه النبع حينما تتشبع الأرض من ماء المطر، فيتفجر نبع بئر حارس القابع بين بئر النخرور، وبين ارضنا التي كان يحلو لابي ان يسميها بارض وادي حمد...وهو الوادي الذي يصل حينما يمتلأ بالماء والحياة الي وادي المطوي في أراضي سلفيت المجاورة، واظن ان المياه المندفعة من هناك كانت تتجه بعد ان تختلط بمياه عيون الينابيع في وادي المطوي نحو الساحل باحثة لها عن مصب على شاطئ البحر الأبيض المتوسط...

وكنا نذهب الي تلك الأرض لان ابي كان يداوم كان على زراعتها، قمحا، وشعيرا، واصناف أخرى من حبوب القطاني، وذلك قبل وصول قطعان الجراد، حيث توقفت الحياة في كثير من المرافق، ولم تعد الأرض مثل الأرض التي كنا نعرفها قبل وصول الجراد...ولم يعد الناس يلتصقون بها كما كانوا يفعلون قبل تلك النكبة المزلزلة، التي خلفت اثارا كثيرة من بينها انها زعزعت التصاق الناس بأرضهم...
ولطالما رافقت ابي وعائلتي ومن كان يشتغل معنا في اعمال الحراثة والحصاد الي هناك، حتى وانا صغير لا اقوى على المسير، وكان ذلك اثناء مواسم الخير الجميلة تلك، ومشاهد تواجدي الي جانب اغمار القمح المحصود ما تزال جلية واضحة في ذاكرتي...اولا لأنها تجربة فريدة من نوعها وجميلة وثانيا لأنها مرتبطة ال يحد كبير بمخاوف من تلك الاغمار التي كانت تتحول الي فخ حينما تختبئ اسفله الافاعي والعقارب إذا ما تركت لبعض الوقت وحتى يستكمل الحصاد...

وفي شبابي كنت اذهب الي هناك وحدي، وبتكليف من والدي، وغالبا ما كانت تلك الرحلة تتم على ظهر حمارة كنا نقتنيها لنركب عليها، ونحمل عليها اثقالنا...وكان الخيار دائما على الحمارة الانثى وليس الحمار الذكر ذلك لان الحمار الذكر شرس ومؤذي يمكن ان يؤدي بحياة الانسان خاصة ما تحركت رجولته في لحظة يرى او يشتم فيها عطر حمارة مارة في المكان...كما ان منظره وهو يمرن جهازه التناسلي الأطول على الاطلاق يخدش الحياء...وكان ابي يرفض فكرة تواجد مثل هذا الحيوان في بيت تتواجد فيه النساء...

وما كان ابي ليقبل اقتناء الخيل أيضا ابدا فقد كان يردد بأن قبر الفارس دائما مفتوح، واظنه فجع في طفولته بأحد الناس الذين سقطوا من على ظهر حصان، او شاهد ذلك بأم عينه، وربما كان هو الذي سقط عن أحدها في طفولته او شبابه ان كان والده قد اقتنى واحدا منها، او ربما اثناء مهرجانات سباق الخيل، والتي كنت انا شاهد علي بعضها في طفولتي المبكرة...واذكر انه حدثنا عن قصة طريفة ولكنها أيضا مخيفة حدثت معه في احد الأيام وهو يركب فرسه وكان اثناءها عائدا من قرية سلفيت المجاورة ووصل قريتنا متأخرا وبعد ان ارخى الليل سدوله فكان ما كان وسوف اقص عليكم تلك القصة في حينه...

وفميا يخص مهرجانات سباق الخيل، تلك المهرجانات التي كانت تقام غالبا اثناء الاعراس في ارض تقع على الجانب الغربي للقرية واسمها الخله، وقد أعطيت ذلك الاسم لوسعها، وانبساطها، فكانت المكان الأنسب لإقامة مثل تلك المناسبات الشعبية...وكان بطلها الذي لا ينازع في طفولتي احد أبناء القرية واسمه عيسى الخليل، وقد كان ذلك الشخص يبهرني بحسن اداءه ورشاقته حينما كان يميل بجسده من على ظهر الحصان ليلقط أشياء كانوا يضعونها على الأرض...ولكن وللأسف ما لبثت تلك الطقوس الجميلة ان تلاشت تماما بعد وصول الجراد الذي خطف الفرحة من العيون، وجمد الدماء في العروق والقلوب...

ولا بد ان والدي كان يشارك في تلك المهرجانات، لان ما وصلني من اخبار عنه في سنوات الشباب، انه كان يعيش حياة الفارس، المغامر، المقدام، عاش الحياة بطولها وعرضها، وكان يسير وهو يمتشق سلاحه الفردي الي جانبه، وقدت شاهدته بأم عيني يستخدم السلاح مرتين في طفولتي وفي مناسبتين مختلفتين، ولا اظنه كان سيتردد في ركوب الخيل والمشاركة في مثل تلك المهرجانات مهما كانت حدة الخطر فيها...ولا اظنه كان سيتردد حتى في ركوب موج بحر عاصف هائج مائج مهما علا وارتفع...
لكن ابي كان يرفض في طفولتي رفضا باتا اقتناء الخيول، تلك الحيوانات الاليفة الجميلة المذهلة في تكوينها وقدراتها الاعجازية، والتي كان والدي يعرف حتما بأن الخير معقود في نواصيها الي يوم القيامة... بل لقد كانت تلك الكائنات الجميلة شبه محرمه علينا...ولا اذكر انني ركبتها الا مرة واحدة في غيابه طبعا، وكانت تلك فرسا اليفا لونها احمر كان يقتنيها قريب لنا...ولكم ان تتصورا ماذا كان شعوري وانا امتطي تلك الفرس وهي تسابق الريح في ميدان واسع، فلا بد انني كنت اترقب موتي او ان يبتلعني قبري المفتوح على رأي والدي... ولم اكرر تلك التجربة بعدها ابدا، ولو ان اخي الثاني في الترتيب، وبعد ان سافر الأول الي الكويت للعمل هناك، قام على شراء فرس في أحدى السنين لاستخدامها في حراثة الأرض بدل البقر، لكنه ما لبث ان تراجع عن قراره واظنه فعل ذلك تحت وطأة ضغط والحاح والدي، فما لبث ان باع الفرس... والتي ذكرى وجودها في حياتي باهتا جدا ولا تكاد تذكر...
والصحيح ان والدي كان يفضل حراثة الأرض بواسطة البقر، ويتمسك بذلك الأسلوب التقليدي القديم كثيرا، على الرغم ان معظم الناس كانوا قد هجروه واستبدلوه بالخيل، والحمير، واستخدموا عليها معدات أكثر حداثة، واخف وزنا، ومصنوعة من الحديد، ولا تتطلب الكثير من الجهد للتعامل معها، ويمكن استخدامها باقتناء حيوان واحد بدلا من الحاجة لاثنين كما في حالة الحراثة على البقر...وهذه العدة الحديدة استبدلت بالخشبية التي كانت تستخدم مع محاريث البقر فيما عدا السكة الحديد التي كانت تركب على الخشب لشق الأرض بعمق لا يماثله محراث الحديد...

وكانت حجة والدي غير القابلة للنقاش انها أقدر على قلب الأرض، وجعل سافلها عاليها، وباطنها على ظهرها...واظنه كان محقا في ذلك فقد تدهور انتاج أشجار الزيتون لدينا بشكل كبير بعد ان هجرنا حراثة الأرض بواسطة البقر بسنوات قليلة، ثم استبدلنا الحراثة وجريا على متطلبات العصر البائسة، وربما بمخطط مدروس جرى تسويقه للناس بوسائل خبيثة، فاستبدل الناس حراثة الأرض برش الأعشاب بالمبيدات السامة نظرا لارتفاع تكاليف كلفة الأرض وحراثتها...فارتفعت مع الأيام نسبة الامراض السرطانية الخبيثة بين الناس...ولا بد ان هذا كان واحدا من الأسباب العديدة الأخرى التي جاء بها الجراد ملك الموت...وتسببت بأمراض لا حصر لها لم تكن معروفة قبل ان هجر الناس الأرض وتبدلت اطباعهم، ومأكلهم ومشربهم واساليب حياتهم..

وكنت اذهب الي تلك الأرض البعيدة تنفيذا لأمره وحبا مني في المغامرة، وبهدف قطف بعضا من ثمار أشجار الخروب التي كانت منتشرة في ارضنا بشكل ملفت ونجني منها اطنانا من الثمار التي تأتي على شكل قرون تصنع منها حلوى الخبيصة ايضا...ولم يعد لها هذه الأيام وجود ابدا في ارض واد حمد وكأن تلك الأرض أصبحت قطعة من الصحراء القاحلة لولا ان الأعشاب الشوكية فيها ترفض ان تموت، وما لبثت ان انتشرت في كل مكان، وتغولت بشكل أصبح من الصعب القضاء عليها...

واعود لاستكمل حديثي لكم عن ذلك البئر المرعب والذي اسمه بئر النخرور، وطبعا لا احد يعرف اصل التسمية الغرائبية تلك، وتتعدد الروايات في الذاكرة الشعبية عن أصل هذا البئر...فمن الناس من يعتقد ان الجن هي التي حفرته، ومنهم من يعتقد ان جنود سيدنا سليمان هم الذين حفروه، والبعض الاخر يعتقد ان الذي حفره لا بد ان يكون هو الذي حفر بئر حارس وبئر مردة القريبة منه والذي هو نسخة طبق الأصل عنه، لكنه أهمل بئر النخرور بعد ان فشل في الوصول الى الماء، وانتقل الي حفر بئر اخر لا يبعد عنه الا مسافة قليلة، وفي ارض أكثر انخفاضا...ويرجح أصحاب هذا الرأي ان قائدا عسكريا من قادة الجيوش الغازية الكثيرة التي سبق ان غزت فلسطين هو الذي حفرها ليسقي جيشه...واظن شخصيا بان هذه الحفرة البئر ربما تسبب بها نيزك سقط على الأرض منذ ملايين السنين الغابرة...او ربما هي مجرد ظاهرة جيولوجية تشكلت هناك بعوامل طبيعية، ولا دخل لأيدي الانسان بصناعتها...فما كان لكائن ارضي ان يستطيع انجاز مثل تلك المهمة...

المهم ان هذا البئر الذي لا أحد يعرف عمقه ولا أحد يعرف ما بداخله سوى الخفافيش التي تسمع أصواتها وتشاهد اثارها، إضافة الي الافاعي والحشرات الأخرى...ولا اظن ان أحدا تجرأ للنزول فيه خاصة ان فتحة بابه صغيرة ولا تكاد تتسع لجسم انسان بالغ ممتلئ...لكنهم يلقون فيه الحجارة ويطرقون اذانهم ليستمعوا متى يصل الحجر لكن صوت الوصول لا يأتي ابدا...

في كل الأحوال ظل هذا البئر، الذي مثل مصدرا للخوف بالنسبة لي وحتى اسمه، النخرور، له رنة مرعبة، اظن ان ما ان يسمعه الانسان حتى تخترق تردداته اللحم، وتصل الى العظم، ومن ثم تسافر عبر النخاع الشوكي الى كل خلية من خلايا الجسد، فيحدث فيه زلزالا ترتجف على أثره القلوب، ذلك البئر ظل مصدر خوف شديد بالنسبة لي طوال حياتي، واظن انني لو عشت مئة سنه أخرى سأظل اخشاه ولن أقترب منه ابدا...
تابع ...

ناريمان الشريف 03-04-2016 09:01 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 203982)
استاذة ناريمان

اشكرك على هذا التفاعل والحضور ...واشكرك خاصة على هذه الدفعة المعنوية التي ستساهم في دفعي للمتابعة في سرد مخزون الذكريات....

امقاقات الشنار : في وقت التزاوج وعندما تبدأ انثى الشنار وهو طائر الحجل وهو اشبه بالدجاجة البرية لكن له الوان رائعة ومخضب بالحناء في قدمية اي محجل وربما كان هذا سبب التسيمة، عندما تبدا الانثى في وضع البيض يتخذ الذكر من مكان مرتفع قريب مقرا له ويبدأ يغرد بصوت يطمئن الانثى بان الامور على خير وانه لا يوجد خطر في المكان هذه التغريدات تسمى مقاقات باللغة المحلية وهي مؤشر على حلول شهر التزاوج ( شهر اذار ) للطيور والحيوانات والحشرات في فلسطين.



جيد جداً
افدتني ... الله يسعدك
أكمل

ايوب صابر 03-06-2016 04:03 PM

استاذة ناريمان
اشكرك على دعمك المتواصل وتشجيعك على الاستمرار...

ايوب صابر 03-06-2016 04:05 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


ولا تقل القصص المرتبطة ببئر حارس، الذي لا يبعد عن بئر النخرور سوى خمسمائة متر فقط، لا تقل اسطورية عن تلك التي تتحدث عن بئر النخرور...

فهذا البئر النبع، بئر حارس، عميق ومخيف، ولكن قاعه معروفا لكل من نزل اليه، ويحتاج الانسان ان يهبط عدد 42 درجة مصنوعة من الحجارة الملساء في معظمها حتى يصل الى قعره حيث يوجد حوض الماء مصدر النبع، والذي تظل مياهه راكدة على مدى الأيام التي لا يكون النبع قد تفجر فيها، ويضطر الذي يبحث عن الماء وعلى رأسهم رعاة الماشية الباحثين عن سقيا لماشيتهم أيام الصيف ان يحملوا الماء من تلك المسافة العميقة المنخفضة الي السطح...

وما تلبث ان تتفجر عين الماء الساكنة في الأعماق تلك، ومن ثم تصعد المياه الى الأعلى في مواسم المطر، وتجرى بعد ان يمتلئ البئر الذي هو بشكل بركة سباحة، طولها عشرة أمتار وعرضا لا يزيد عن خمسة أمتار، لكن جدرانها مصنوعة من الحجارة والصخور، وتظل المياه كذلك الى ان تعود نسبة المياه المتفجرة من باطن الأرض الى الانخفاض فيهبط الماء من جديد الى تلك النقطة وهي عين النبع في قعر البئر...

وبئر حارس هذا مخيف وهو فارغ وانا شخصيا لم اجرؤ ابدا على نزول تلك الدرجات الي قعره لأرى مصدر النبع على الرغم من شدة فضولي وشوقي لفعل ذلك، ورغم انني لطالما مررت بالمكان وشاهدت البئر وهو فارغ...

ولكنه يصبح مرعبا أكثر وهو ممتلئ بالماء، ذلك لان الناس ارتبط في ذاكراتهم وساد بينهم قصة اسطورية بأن رصدا يسكن الماء، وهذا الرصد الذي يعتقد الناس انه على شكل خاروف ولا اظن ان أحدا شاهده ابدا، لكنه ليس خاروف كما يدعون، اعتاد ان يأخذ في مواسم عديدة ضحايا له من بين الأطفال الذين يقصدون النبع للسباحة والاستجمام...وكان هذا هو تفسيرهم الوحيد لحوادث الغرق المتكررة للأطفال الذين كانوا يقفزون للسباحة في ذلك البئر المخيف دون رقيب او منقذ كما هو الحال في برك السباحة هذه الأيام...

كما ان الطريقة غير المنسقة او المستوية التي حفر فيها البئر كانت تتسبب في احتجاز بعض من يقصدونه للسباحة حتى يختنقوا...وفي مرة كنت هناك وشاهدت بأم عيني حينما قام أبو زياد وهو من السبيحة المهرة بالقفز الى أعماق البركة، النبع، وكانت قفزة راسية وكان مثل تلك القفزة الأكثر شعبيه ومجال للمنافسة عند زوار النبع...وصرنا نعد له الثواني انتظارا لخروجه من الاعماق، ولكنه وهو السباح الماهر لم يخرج وطال غيابه عن المعتاد...فقفز يومها الى البئر سبيح اخر معروف بمهارته، وهو حسن الصدقي ليبحث عنه في الأعماق في محاولة لإنقاذه... وما لبث ان ظهر وهو يمسك به، ويدفع فيه الى الأعلى، وقد امتقع وجه أبو زياد وصارا ازرقا، داكنا، في مؤشر انه كان على وشك الاختناق، ولولا تدخل حسن الصدقي يومها في اللحظة المناسبة، لاختنق ومات ولربما ظن الناس ان الرصد هو الذي اخذه الى حيث يسكن في الأعماق كما اخذ غيره من قبل...ليتبين بعد ذلك ان أبو زياد المذكور كان قد وصل الى نقطة مظلمة، في الجهة الغربية من البئر، النبع، والتي هي عبارة عن تجويف على شكل مغارة داخلية، ممتدة اسفل صخره كبيرة تظهر بارزة في صدر البئر وهو فارغ، وفقد قدرته على تحديد الاتجاه عندما وجد نفسه في ذلك المكان المظلم، فارتبك ولم يعرف طريق الخلاص من ذلك المأزق وقد اوشك الاكسجين على النفاذ فامتقع وجهه وكاد ان يستسلم للموت المحتم...

وعلى الرغم من كل تلك المخاوف والمخاطر وتلك القصص الأسطورية عن البئر وما يحتويه ويحيط به، كنا إذا ما شاع الخبر بأن نبع بئر حارس قد تفجر، وجرت مياهه...نندفع اليه نحن الصغار مثل جيش أعلن حالة الاستنفار، ونجري اليه بدون رقيب او حسيب او حتى تفكير...وكان الأطفال ما أن يصلوا النبع حتى يأخذون بالقفز في الماء متناسين خطر الغرق والموت حتى ان بعضهم كان يبدأ بخلع ملابسه في الطريق وقبل وصوله للمكان...وقد كانت الحوادث التي اقترب فيها العديد من الأطفال من الموت في ذلك النبع عديدة لا تكاد تعد ولا تحصى...وكان الخطر يظل ماثلا الا إذا ما صدف وجود شخص كبير في السن اتقن مع الأيام والسنوات مهارة السباحة، فيكون هو المنقذ لنا نحن الصغار، ويعمل دون اجر على ذلك ما دام موجودا في المكان...فما كان لطفل ان يستطيع ان يتخلف عن المجموع او مقاومة المشاركة في تلك الطقوس الموسمية السنوية التي هي غاية في الاثارة والمتعة، في أجواء غاية في الروعة والجمال رغم المخاطر المتعددة والكثيرة ...وكانت تتم تلك الطقوس تتم في أجواء احتفالية، بهيجة، وكأن الأطفال في رحلة مدرسية ممتعة وممتدة، تدوم على مدى أيام الموسم الذي يظل فيه النبع جاريا وتظل الامكانية للسباحة في حوض الماء ذلك قائمة...

وما كان والدي ليمنعني من المشاركة في تلك الطقوس رغم حرصه الشديد بأن لا يصيبني الاذى...فما كنت لاحتمل سخرية اقراني وقد اخترت ان اكون من الخوالف...لكنه كان قد صنع لي قربة مثل تلك التي يستخدمها البدو في حمل الماء او الحليب وكان يصر على ان استخدمها في كل مرة انزل فيها الي البئر الى حين اتقان مهارة السباحة...وكنت إذا ما نزلت الماء اضعها بعد نفخها واحكام ربط فمها، كنت اضعها على ظهري واربطها بحبل على بطني، حبل قصير ورفيع ربطه والدي خصيصا لذلك الغرض...وكنت الوحيد من بين الاطفال الذي يستخدم مثل تلك الوسيلة العجيبة المصنوعة من جلد الشاة والتي كانت تشعرني بالامان من الغرق....ولكني وكما اذكر كنت في كل مرة انزل فيها الماء أتصور انها ربما تكون هذه اخر مرة...فماذا عساني ان افعل إذا ما اختارني ذلك الرصد اللعين الساكن في أعماق البئر لكي أكون ضحيته لذلك العام كي يشبع جوعه ويملأ بجسدي النحيل بطنه؟؟؟

وكنت إذا ما ارتطمت صدفة اثناء السباحة بقدم أحدهم، او ربما ببعض الأعشاب التي كان بعض الأطفال يلقونها في الماء، او تلك التي تنبت على جدران البئر وحواف حوض النبع، كنت إذا ما شعرت بشيء يرتطم بقدمي، ارتعب خوفا واصير اقفز في المكان مثل الحبة في المقلى، كما يقول المثل الشعبي، من شدة الخوف والارتباك طبعا، ويذهب ذهني بعيدا بأنني لا بد أصبحت فريسة ذلك الحيوان الأسطوري اللعين الذي يسكن عقولنا ويثر فيها الفزع وان لم يكن يسكن الماء حقا...

كنت اخشى ان أكون ضحيته لذلك العام كما تقول الأسطورة المحلية...ولطالما فزعت لأتفه الاسباب فالمكان ضيق بالنسبة لعدد الأطفال الذين كانوا يحتشدون فيه في لحظة واحدة، واظنهم كانوا يفعلون ذلك بدافع الخوف، لان لا احد كان يجرؤ ربما على النزول الي الحوض لوحده...وبحيث يصبح المكان وكأنه على ضيقه عشا لصغار طير ترتطم ببعضها البعض حينما تتحرك وهي تحاول الانتقال من الجهة الشرقية من الحوض الي الجهة الغربية او من الجهة الشمالية الي الجنوبية، الأطول، والتي تنتهي بصخرة ممتدة يمكن للطفل ان يقف عليها ليستريح قليلا ثم ما يلبث ان ينطلق في مغامرته من جديد...

يتبع...

عبدالحكيم مصلح 03-06-2016 04:27 PM

أخي الفاضل أيوب صابر حفظه الله

متابع لك بإنصات ،

تحيتي وأحترامي لشخصكم الكريم ،

ايوب صابر 03-08-2016 12:42 PM

ليتك تعرف مدى سعادتي بمرورك... ولتعلم ان متابعتك منحتني مزيد من الطاقة التي احتاجها لاكمال هذا المشروع الضخم والارث المتعب...

لك جزيل شكري وتقديري....

ايوب صابر 03-08-2016 12:45 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



قد يكون الرصد الذي أرعبني واظنه أرعب كل من نزل بئر حارس من قبلي ومن بعدي للشرب او السباحة، في الليل او النهار، وسواء كان راكدا هابطا ام كان جاريا متفجرا...وما يزال ذلك البئر مصدر للرعب والخوف حتى هذه اللحظة...قد يكون ذلك الرصد مجرد خرافة، وقصة اسطورية لا أكثر ولا اقل، فتلك البيئة الريفية كانت تنغل بالخرافات، لكن الصحيح لا أحد يستطيع ان يجزم بأن ذلك البئر لا يحتوي رصدا مخيفا، بشعا، كاسرا، مفترسا، كما تقول الحكايات وتردد الذاكرة الشعبية، وبالصورة التي ارتسمت في العقول والقلوب، ولو ان أحدا لم يره رؤيا العين ابدا ولم يصوره أيضا، بعد انتشار أدوات التصوير الفوري والي يومنا هذا...

فان كان السمك الصغير الحجم يخرج الي السطح مع ماء النبع حينما يتفجر، وكنا نشاهده بأم اعيننا يسبح جيئة وذهابا، وننصب له شباكنا البدائية في مجرى النبع، قاصدين اصطياده، والامساك به، وان لم يكن من ذلك فائدة سوى اللهو...والشعور بلذة الانتصار التي تمثلها لحظة الإمساك بواحدة على ضآلتها...فما الغريب ان يخرج أيضا الي السطح كائنات أخرى ضخمة، بشعة، ومخيفة، ومفترسة؟ فربما تكون هذه الكائنات تسكن البحار الباطنية أيضا؟!...تلك البحار التي يكون انفجار النبع نقطة تنفيس لها عندما تمتلئ بماء المطر المنهمر في أشهر الشتاء، فتتفجر قاذفة ما يزيد عن طاقتها، وقدرتها على الاستيعاب والتحمل، فتحمل المياه الصاعدة الى السطح معها ما تحمل من تلك الكائنات الأسطورية التي تسكن في أعماق تلك البحار حتما؟

ثم ما الغريب في ان يكون ذلك الكائن على شكل خاروف، او نعجة، او كلب او حتى وحش اسطوري لا يوجد له مثيل الا في مخيلة الناس الذين ربما شاهدوه في كوابيسهم؟ الا تمتلئ البحار الأرضية السبعة المعروفة للناس بمثل تلك الكائنات؟ ومنها ما هو أضخم، وأبشع، واشد فتكا، من ذلك الرصد اللعين؟! ملقي الرعب في قلوب الأطفال؟ بل وربما يسكن في اعماقها السحيقة المعتمة كائنات أخرى مشوهة، وبشعة ما تزال محجوبة عنا لا يمكن لمخيلتنا ان تتصور شكلها وحجمها وبشاعتها؟ الا تشاركنا مثل تلك الكائنات البشعة سكننا وان كانت بأحجام صغيرة جدا لا تكاد ترى بالعين المجردة؟ اليس الماء مصدر لكل حياة؟ فهل يمكن لاحد ان يجزم إذا بعدم وجود مثل ذلك الكائن الأسطوري حتى وان كان الماء مختزن في باطن الأرض منذ ملايين السنين حيث العتمة المطبقة، والظلام الدامس، ولا شمس ولا نور يبدد الظلمة؟ ومن يدري فلعل الكائنات التي تعيش في ظلام دامس ولا ترى عين الشمس تكون أكثر بشاعة من ان يتخيلها عقلنا؟؟!!

لكن الذين شاهدوا عين النبع في قعر البئر يشككون في رواية الرصد تلك، ويؤكدون بأنه لا مجال لخروج كائنات بأحجام كبيرة من مكان ضيق بحجم عين النبع الضئيلة تلك، خاصة عندما يكون الحديث عن كائن بحجم ذلك الرصد اللعين الذي ارتسم في خيال الناس مع مرور السنين بان له حجم وشكل الخاروف...
بل ويجزم البعض ان الرصد ما هو في الواقع الا صنيعة خيال من كان يصاب بمصيبة فقد طفل صغير له او اخ حبيب في ذلك البئر...وذلك لتبرير تقصيرهم في حماية أطفالهم واحبتهم من الموت غرقا...قصص صنعوها ليواسوا أنفسهم في سردها ويجابروا بعضهم بعضا من الم الفقد ومصيبة الموت...ويبررون فشلهم وعجزهم امام ذلك الكائن الأسطوري مفترس احبتهم...

واظن شخصيا انه لا بد ان ذلك الرصد مجرد خرافة صنعها عقل مزارع، او راعي ماشية او عابر سبيل كان يوما يؤم البئر لوحده...فالمكان الذي يوجد فيه البئر ناء، وبعيد عن الناس، ولا تكاد حين تقف في محيطه في ذلك الزمن، ان تسمع صوتا سوى خرير المياه الجارية، ونقيق الضفادع، وربما أصوات بعض العصافير التي تصدح في المكان وقد وردت الماء لتشرب...وهو حتما مكان موحش، وانت تشعر بتلك الوحشة القاتلة حتى وانت على السطح، فما بالك ان كنت مضطرا للنزول الي اعماق البئر عدد اثنين واربعون درجة لتصل الى حوض ضيق معتم، وكأنك أصبحت في باطن الارض؟ وتصبح هناك وحيدا وكأنك بين دفتي قبر عميق، عميق...الا يشعرك ذلك وكأنك في احشاء وحش ضخم؟ واظن ان الرصد لا بد ان يكون وليد مثل تلك اللحظة الموحشة المرعبة...مجرد مخاوف انسان عبر عنها في لحظة صدق وهو يصف احاسيسه في لحظة مرعبة موحشة من تلك اللحظات...ولكنها كبرت مثل كرة الثلج...تبدأ بحجم صغير، لكنها تكبر كلما تدحرجت وتحولت مع الزمن الى خرافة اسطورية، تناقلتها الذاكرة الشعبية جيلا بعد جيل...وسوف اروي لكم قصة لحظة خوف كان والدي قد مر فيها ورواها لنا...وكان يمكن ان تتحول هي ايضا الي خرافة أخرى وربما اشد رعبا لان بطلها كائن ما ورائي...

لكن حتى وان كان ذلك البئر النبع خالي من ذلك الرصد الأسطوري المخيف، وهو فعلا خرافة ومن صنيعة خيال الناس، ولا يوجد الا في الحكايات الشعبية المتوارثة جيلا بعد جيل، فلا شك ابدا ان ذلك البئر كان يحتوي على رصد مرعب من نوع آخر...

وعلى عكس ذلك الرصد الذي لم يشاهده أحد... شاهد الناس هذا الرصد الاخر المرعب واصابهم اذاه وآلمهم بل وامتص دمائهم...وعلى الرغم من صغر حجمه حتى لا يكاد يرى بالعين المجردة في مرحلة التكوين والولادة، ما يلبث هذا الكائن ان يزداد حجمه ويكبر، ويتضخم، ليصبح بحجم إصبع اليد، ذلك إذا ما تمكن من إيجاد ضحية له يلتصق بها، يمتص دمائها، ويسمن عليها...فهو أيضا من مصاصي الدماء...الذين يفضلون امتصاص دم البشر...

وهذا الكائن ما هو الا دودة مجهرية صغيرة الحجم لا يتجاوز طولها الميليمتر الواحد عند ولادتها، لونها اسود، ولها أرجل عديدة، وربما هي خراطيم امتصاص، ولها قدرة هائلة على الالتصاق، والاستحكام، وهي من الصغر بحيث لا تكاد ترى بالعين المجردة في مراحل حياتها الاولى، وهي تسكن مياه بئر حارس، ولا بد انها تأتي الى الحوض بنفس الطريقة التي تأتي بها تلك الأسمال الصغيرة...

وتسمى هذه الدودة المرعبة بدودة العلق، وربما انهم منحوها ذلك الاسم لأنها تعلق في حلق الانسان إذا ما شرب الماء دون تصفية، وهناك تبدأ بافتراس ضحيتها بامتصاص دمه الذي يسمنها، ويجعل حجمها اضعاف مضاعفة...ويبدو ان هذه الدودة اللعينة تفضل دم البشر الاحمر القاني ليكون على رأس قائمة وجباتها هي أيضا ولو انها اعجز ان تسابق الناموس في ذلك...وما الماء عندها الا وسيلة نقل تصل بها الى جوف الانسان...حيث تستقر الى ما شاء الله اذا لم يتمكن من نزعها...ولذلك كان الناس يحرصون عند شرب الماء على تصفيته باستخدام خرقة قماش تكون عادة شفافة وبمسامات دقيقة جدا، وافضلها كان قماش اليانس الأبيض، الذي كانت ترديده النساء على روسهن، او أي قطعة قماش أخرى متوفرة وباي لون كانت، فاللون هنا ليس مهما انما المهم هو ان تكون قطعة القماش قادرة على احتجاز الشوائب...ومنها تلك الدودة اللعينة مصاصة الدماء...

وأحيانا كثيرة كانت تلك الدودة اللعينة تتمكن من الوصول الى حلق من يغترف غرفة بيده من مجرى النبع، متجاهلا وجودها في الماء او غاضا البصر، او ظانا ان الماء نقي خالي من الشوائب، وهو يراه كذلك في يده وبين اصابعه...وربما تمكنت في أحيان أخرى من تجاوز كل وسائل التصفية، وتسلسلت بمهارتها الغريزية، وبحثها المستديم عن البقاء، والتكاثر، وحفظ النوع الى حلق انسان...ولا بد انها كانت في أحيان كثيرة تتمكن من الولوج الى حلق العديد من السبيحة الذي ينزلون ماء الحوض، وذلك حينما يفرغون افواههم في الماء وهو يسبحون...وذلك امر يستحيل تجنبه...

هذا الانسان يصبح ضحية تلك الدودة الشرسة مصاصة الدماء في لحظة، وفي غفلة من الزمن...وما تلبث ان تظهر على وجهه ملامح الهزال، والضعف، وفقر الدم...فتبدأ رحلة البحث عن السر، ومحاولة كشف السبب...ولا يطول البحث كثيرا حيث يتم العثور على إحداها، وقد علقت في حلقه، وكمنت هناك بهدوء مطبق...ولولا لونها الأسود، وحجمها الذي يصبح ملموسا في الحلق، ومظاهر الضعف والهزال الأخرى، لربما ظلت هناك كامنة دون ملاحظة...وظني ان الناس طورت مهاراتها في ذلك الزمن للتعامل مع المخاطر، ومعالجتها، ولو بطرق بدائية لكنها كثيرا ما كانت ناجعة...

وما ان يتم العثور عليها حتى يسارع الشخص الضحية الى الطبيب الشعبي الذي كان يستخدم أدوات بدائية في نزعها...وكان هذا الطبيب الشعبي في قريتنا اسمه أبو هارون رشيد جبر، وهو رجل ضخم الجثة، نبيه، ويتقن عدة مهارات، وكان يشاع عنه انه يستطيع التعامل مع أي قضية ميكانيكية او حتى طبية...واظنه كان كذلك فقد كنت ارقبه وهو يعمل امام مطحنته المجاورة لبيت جدي صالح، وفي مرة شاهدته وهو ينزع علقه من فم ضحية من ضحايا دودة العلق...

وكان الى جانب تخليص الناس من مصائب العلق يقوم بعمل طبيب الاسنان...حيث يستخدم كماشته في خلع الضرس الذي نخره السوس او ذلك الذي يبدو متآكلا ومسببا للألم...وأحيانا أخرى كان يربط الضرس بخيط يشده بعزم فينخلع الضرس...وللمفارقة أصبح ابنه البكر هارون اول طبيب اسنان من أبناء القرية يتخرج من الجامعات ويمارس مهنة طب الاسنان لاحقا...

اما وسيلته لنزع العلق من الحلوق، تلك الدودة البغيضة، فكانت شوكة طويلة، يأخذها من نبته اسمها نبتة العليق...واظن انها اخذت اسمها من دودة العلق ونسبة لها، لأنها كانت أداة ناجعة لإزالتها...ان لم تكن الوحيدة في غياب الأدوات الطبية الحديثة...حيث يقوم الطبيب الشعبي على غرز الشوكة في جسد العلقة العالقة هناك في حلق الضحية، ومن ثم سحبها، ربما بعد ان يفرغ ما امتصته من دماء حتى يتمكن من الإمساك بها وربما ان وسيلته الوحيدة لدفعها التخلي عن ضحيتها هو قتلها ...ولكم ان تتخيلوا فظاعة ذلك المشهد ومخاطره...

واذكر ان أكثر الادوية شعبية في تلك الأيام كان شربة الخروع التي يقال انها شديدة المرارة ولها مذاق سيئ، واظن ان السبب لذلك كان حرص الناس على تخليص الجهاز الهضمي من الدود الذي يعلق فيه...سواء كان مصدر ذلك الدود بئر حارس، او البرك المفتوحة في الجبال والوديان، وما يعرف (بالمقر) وهو عبارة عن حفرة صغيرة في الصخر تمتلئ بماء المطر، وكانت هذه المقور منتشرة بكثرة في البراري، واذكر انني شربت منها وانا صغير اكثر من مرة، وكان اشهرها في براري قريتنا مقر اسمه مقر الشقرمين، ولا اعرف اصل التسمية هذا من اين جاء، لكن هذا المقر كان مصدرا مهما للماء خاصة للرعاة او من تنقطع فيهم السبل ويضطر للشرب... وكان هذا المقر في قمة جبل الكرك في الجهة القبلية من القرية....وقد ازله الجراد لاحقا عن الخريطة وشيد مكانة مسبحا واسعا...

ولم يكن أحد يتحرج من الشرب من تلك الاحواض المائية الصغيرة، رغم علمه انه يتشارك في ذلك مع بعض الحيوانات البرية غير الاليفة والاخرى المدجنة الاليفة، وكثيرا من الكائنات الأخرى الدقيقة التي كان بعضها يظهر في الماء على شكل دود احمر واسود...وقد اعتاد الناس على غرف أيديهم في الماء الاحواض تلك بعد إزاحة الدود الظاهر امام اعينهم ثم شرب ما يتيسر لهم وما تحمله راحة ايديهم...

حتى الابار الحلقية التي كان الناس يحفرنها في المنازل والبراري المجاورة، وكانوا يغطوها ويحاولون تصفية ماء المطر المتجهة نحوها باستخدام عشبة النتش، وهي نبتة شوكية او اغصان اشجار أخرى يضعونها في المصرف وهي فتحة جانبية يعبر ماء المطر من خلالها، ويحاولون قد الإمكان المحافظة على نظافة الماء فيها، بتنظيفها من الترسبات...كثيرا ما كانت هذه مرتعا لأصناف عديدة من الدود أشهرها دودة بلون احمر كان والدي يحاربها بصب كمية من الكاز في البئر...حيث يصبح مذاق الماء سيئا لمدة أيام قد تطويل ويعتمد ذلك على كمية الكاز المصبوب في البئر...

وانا لا اعرف حقيقة كيف ان الناس لم يموتوا جميعا من شرب مثل ذلك الماء...وكيف كانت أجسادهم قادرة على احتمال ومقاومة كل تلك الحشرات والكائنات المرئية منها وغير المرئية...واذكر ان دكتور علوم الاحياء قام واثناء دراستي الجامعية في جامعة بيت لحم بعرض ما يوجد في ماء الابار الحلقية تحت المجهر الميكروسكوبي، بعد ان انتشل شيئا منها من بئر كان محفورا في ارض مجاورة لمبنى المختبر، وكان ذلك في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وقد زلزلني ما شاهدته بأم عيني من كائنات حية تعيش في الماء لا يمكن ملاحظتها بالعين المجردة...

يتبع...

ايوب صابر 03-10-2016 02:00 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


اما الخرافة والخزعبلات الذهنية المحضة التي مصدرها النفوس، فربما كانت اشد وقعا، وأثرا، والما، على الناس من تلك البيئة الريفية وما تحتويه من مخاطر، وأدوات قتل، بما فيها ذلك الرصد الأسطوري المرعب حتى وان كان حقيقيا او متخيلا...

ولا بد ان الخرافة كانت نتيجة تراكمات جمة، خلفها الاستعمار وادواته، والفقر ومآسيه، والجهل وبلاويه، في مثل تلك البيئة المنعزلة عن باقي العالم على مدى قرون مضت، لكنها استفحلت، واحتدت في القرن التاسع عشر بعد وصول الجراد الشرس المحتل الذي استوطن الأراضي الغنية، والساحلية، وتسبب بسلسلة طويلة وممتدة من الهزائم والانكسارات، ولا بد ان ذلك انعكس على صحة الناس النفسية، والقدرات العقلية، والتي صارت أقرب الي الذهانية منها الي المنطق والواقعية...

وقد كانت الخرافة في ذلك الزمن الصعب أداة تخويف مرعبة، تتسبب بالكثير من الرعب والخوف خاصة لنا نحن الاطفال...واظنها ازدهرت في ذلك الزمن لأنها وجدت البيئة المناسبة، والأرض الخصبة، فنبتت مثل الفطر تحت شجرة بلوط اغصانها وارفة، وارضها خصبة في احراش قرية ديراستيا المجاورة، والمشهورة بغزارة انتاجها إذا ما ابرقت وارعدت، وامطرت وارتوت الأرض من خير السماء...

فمن ناحية كانت القرية شبه منقطعة عن العالم الخارجي...فلا وجود لوسائل الاتصال أي كان نوعها، وحتى الترانزستور جالب الاخبار فأظنه كان عملة نادرة، ان لم تكن نادرة جدا...واظن ان الرجال كانوا يتجمعون فيما ندر عند من اقتنى واحد لسماع نشرات الاخبار...وكان الترانزستور في تلك السنوات ضخما ومكلفا يأتي على شكل صندوق خشبي...يشغل مساحة تعادل مساحة التلفزيونات الحديث من صنف اثنان وثلاثون بوصة...

كان نهار ذلك الريف موشحا جدا...وكان ليله مظلما بل هو شديد الظلمة والوحشة... فلا وجود لأدوات الإضاءة الا تلك البسيطة منها، مثل القنديل والسراج، واللوكس اليدوي...والتي لا يكاد نورها يبدد عتمة المكان وظلمة النفوس...وكان التعليم نادرا ووسيلته الكُتاب...وكان الجهل مطبقا...وكانت النفوس منكسرة بعد سلسلة من الهزائم المزلزلة ...فتراكم ظلام المكان والزمان على ظلام النفوس...ظلمات فوقها ظلمات...لكل ذلك صار الريف الفلسطيني في ذلك الزمن ينغل بالخرافة...وتعصف به الخزعبلات...

وتعددت الحكايات الخرافية...منها ما لجأ اليه الناس كادة تريبة وتعليم، تقوم على التخويف وبث الرعب في النفوس خاصة لنا نحن الاطفال...فمثلا كنا نرتعب إذا سقطت منا حبة ملح على الأرض...فلقد كانت الخرافة تقول بأن من اسقطها سيقوم يوم القيامة بالتقاطها برموش عينيه...ولكم ان تتخيلوا مدى الرعب الذي كان صيبنا كأطفال وقدر زرعوا في عقولنا اننا سنعاقب يوم القيامة على إضاعة فصوص الملح وليس اكثر ، اذا ما سقطت منا على الأرض عن عمد او من غير عمد ودون قصد... ولطالما سألت اختي الكبرى والتي كانت مصدر هذه الخرافة بالنسبة لي ان كان هناك مجال ان اجمعها بأصابع يدي بدلا من روموش عياني؟ فكان الجواب دائما يأتي قطعيا وكما ورد في الخرافة...بل برموش العينين...ولطالما حرصنا على حبات الملح وبذلنا جهدنا كي لا تسقط منا، وبحثنا عنها اذا ما سقطت حتى نتجنب العقاب الاخروي قبل الدنيوي...

ولا اعرف لماذا كانت هذه القاعدة الخرافية تنطبق على الملح فقط ودون السكر مثلا وقد شابهه في كل شيء الا الطعم والمذاق...او حتى أي صنف آخر من أصناف النعم الكثيرة...من أصناف الطعام الذي كان متوفرا حولنا؟

ثم لماذا يكون عقاب إضاعة فصوص الملح بتلك الفظاعة بينما اسقاط الخبز وهو الأهم بالنسبة لبقاء الانسان، اقل حدة فكان المطلوب منا إذا ما سقط الخبز رفعه عن الأرض ثم تقبيله ووضعه جانبا في مكان لا تدوسه الارجل...اما الرز، والعدس، والبصل، والثوم فلم يكن أحد على ما اظن ليحتج او يلومنا لو دسنا عليها بأقدامنا...فليس لها تلك القدسية التي للملح والخبز...

اما خرافة حبة الرمان التي قالوا لنا بأنها تحتوي على حبة بركة...فقد كانت اقل تخويفا وتعذيبا للنفوس ربما ولو انها كانت تسبب الحسرة والندامة...ولكننا كنا نحرص كل الحرص على ان لا تقع منا أي حبة على الأرض...وان وقعت كنا نسارع للبحث عنها واكلها كي لا نفقد البركة...وطمعا في الحصول عليها، لعلها تكون تلك الحبة هي بعينها دون غيرها حاملة البركة...وان فقدنا حبة للسوس او الدود اصابتنا الحسرة على إضاعة البركة ربما...

ولا يقاس الرعب المتأتي من هذه القصص الخرافية، مع ذلك الذي كان يخرج علينا من حكايات الجن المرعبة...فقد زرعوا في نفوسنا اننا في كل مرة نرشق فيها الماء على الأرض علينا ان نتوقع ان يلبسنا الجن إذا نسينا التسمية...وإذا ما دخلنا المنزل دون ان نسمي ونسلم ركبتنا الشياطين، ونامت الي جوارنا، وأكلت اكلنا...وعلينا الحذر من القط باللون الأسود لأنه شيطان، اما الأبيض، والاحمر والرمادي، والاخضر فهي جالبة للحظ ربما، او على الأقل محصنة ضد الجن والشياطين...

كانت بيئة مليئة بحكايات العفاريت والجن...حتى ان الناس كانت تخاف الوصول الي مناطق بعينها لما اشيع عنها من حكايات الجن...والتي تؤكد بأنها مسكونة بالجن، وان بعض الناس شاهدوهم في تلك الأراضي المنخفضة والمنعزلة عادة...فلم يكن أحد ربما يجرؤ على الوصول الي منطقة (لقنة) خاصة في ساعات الليل، وهي الأرض الواقعة بين قريتنا وقرية ديراستيا...فقد كانت الحكايات تؤكد بأن الجن قد ظهر لكثير من الناس في تلك البقعة...وان ذهب احد الناس الي هناك فأظن ان هاجس تجلي الجن وظهوره له كان يظل حاضرا ومؤرقا ومرعبا...ولا اعرف اين ذهب ذلك الجن، والعافريت هذه الأيام بعد ان تمددت منازل القرية، ووصلت الى ارضهم المزعومة تلك، فقد أصبحت تلك الأرض الان معمورة، ومسكونة لكن بالبشر وليس بالجن ولم يعد احد يتحدث عن رؤية الجن في تلك الناحية، وكأنهم فص ملح وذاب كما يقول المثل...

في مثل تلك الأجواء المرعبة والتي عصفت بالناس فيها الاحاديث الخرافية وقصص الجن والعافريت يقال ان رجالا من القرية تراهنوا على من يجرؤ على زراعة وتد في بيت مهدوم من عزبة مجاورة اسمها عزبة الخربة، كان سكان قرية أخرى مجاورة تسمى قرية مردة وكانوا أصحاب نفوذ قد هاجموها فما سبق وقتلوا أهلها، وهجروا من نجا منهم، واستولوا على ارضهم، ولم يبق من بيوتهم الا الاطلال...ويبدو ان شخص اسمه ذيب القره قبل التحدي...وابدى قدرته على فعل ذلك...ولا بد انه سار الى هناك في احد الليالي المظلمة...وعندما وصل داخل المنزل المهدوم، في العزبة التي تبعد ما لا يقل عن ثلاثة كيلومترات عن قريتنا، دخل المنزل المهدوم واخذ يدق الوتد في الأرض بحجر كما تقول الحكاية...وعندما انجز المهمة، وهم بالخروج والعودة شعر بأن رداءه كان عالقا وكأن شيئا يمسك به ويشد به اليه...ولا بد انه في تلك اللحظة ظن بان جنيا او عفريتا من الجن قد خرج له، وقد عكر صفوه، واقلق راحته، وافسد عليه ليله، فامسك بطرف رداءه...ولا بد انه ارتاع من الخوف وحاول الهرب مسرعا ولم يتسنى له حتى خلع رداءه المشدود، وعاد الى اقارنه بملابسه الداخلية...وفي اليوم التالي وجدوا انه كان قد دق طرف رداءه مع الوتد وان الجن براءة مما كانوا يدعون...

ولا عجب والحال كذلك ان ينسج الناس من خيالهم الواسع مثل تلك الحكايات المرعبة، وان يجعلوا ابطالها من الجن والعفاريت...او ان يرى الناس الأشياء على غير حقيقتها...حيث تصور لهم هزائمهم النفسية، ومخاوفهم الأشياء على غير حقيقتها...والصاق التهم بكائنات ما ورائية يظنون انهم رأوها رؤي العين...واذكر ان الناس تداولت بعد زلزال وهزيمة عام 1967 بعض القصص الخرافية، وكنت انا شاهدا على ذلك هذه المرة...فالبعض اكد ان القنفذ وهو حيوان له شوك قد نطق في مخيم بلاطة واخبر الناس بأن الجراد سوف ينحسر عن البلاد وان النصر ات...ولن يطول الانتظار...والبعض الاخر اكد ان الهزيمة أدت الى ان اصبح اللون الأخضر من ورق شجرة الزيتون الى الأسفل وخرج اللون الرمادي الى الخارج...ربما حزنا والما على الهزيمة...فكانت تكل تصورات ذهانية تعبر عن مرارة الهزيمة وقساوة ضياع الحلم بالعودة القريبة الي الجنة المفقودة...الي الأراضي الساحلية، ما دامت الأراضي الداخلية قد ضاعت هي أيضا...واظن ان ذلك يفسر سبب خروج تلك القصة عن القنفذ الذي نطق وتكلم من قلب مخيم لاجئين، وليس من أي مكان آخر...

ولا عجب ان يستشعر الناس الخوف من الزوال او الظلال او أي صغيرة وكبيرة وقد تراءت لهم انها كائنا ما ورائيا...في مثل ذلك الزمن وتلك الظروف...ويبدو ان هذا ما حصل مع والدي في أحد الليالي المظلمة في زمن الشباب...حيث كان عادا من قرية سلفيت المجاورة...وكان يمتطي فرسا...وفي نقطة معينة لا تبعد عن القرية كثيرا...ظن انه رأى شبحا في الأرض المجاورة من الطريق المؤدية الي القرية... وكان إذا سار الى الامام سار ذلك الشبح معه الي الامام...وإذا عاد الي الخلف تحرك ذلك الشبح بالاتجاه المعاكس...والله فقط يعلم مدى الرعب الذي أصابه في تلك اللحظة ومدى السرعة التي انهزم فيها من ذلك المكان...وقد شك أن عفريتا من الجن قد برز له في تلك الناحية واخذ يطاره...

والله اعلم كيف امضى ليله ليعود في اليوم التالي الى الموقع، وقد انارت الشمس بأشعتها المكان وازالت الاوهام والزوال...فوجد ان صاحب الأرض كان قد قطع اغصان شجرة زيتون وترك جذعها امردا...وان ما ظنه كائنا ما ورائيا في تلك اللحظة، انما هو عرق تلك الشجرة لا اكثر ولا اقل...بقايا شجرة ثابتة بثبات جذورها في الأرض لكن خوفه من حكايات الجن جعله يظن بأنه التقى مع عفريت وتصوره يتحرك معه أينما اتجه...ولو انه لم يعد الي الموقع في اليوم التالي ليتأكد مما رأى، ومن ثم نسج حول تجربته حكاية من حكايات الجن والعفاريت لأصبحت تلك الحكاية خرافة أخرى من الخرافات الكثيرة التي كانت تعصف بالعقول والقلوب...ولربما اصبح المكان شبه محرم على الناس لشدة خوفهم ان يتلبسهم الجن الساكن في تلك الناحية ايضا...

يتبع ...

ايوب صابر 03-13-2016 02:58 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



تخيلوا معي كيف لو ان كائنا أشعثا، اغبرا، يبدو ما ورائيا، بمظهر اقل ما يقال عنه انه مخيف، ظهر فجأة لأحدهم في ليلة صماء، بكماء كالحة الظلام، وكأنه برز من تحت الأرض، او هبط من السماء، في مثل تلك الأجواء المرعبة التي كانت تعصف بالمكان، وتنغل فيها حكايات العفاريت والجان؟!...هذا ما قيل لي انه حصل مع والدتي، قبل ان أتي الي هذه الدنيا ربما بسنوات...وربما كنت حينها اتشكل ملتصقا بها وفي رحمها...

وما ذلك الكائن الاشعث، الاغبر، الا تلك العجوز التي كنت قد حدثتكم عنها، آكلة الجراد ذي الاجنحة، والذي هاجم قريتنا في احدى السنين، ووجدت من دون الناس في هجومه فرصة لتعويض النقص في البروتين...

ويبدو انه في أحدى الليالي كالحة الظلام، كانت تلك العجوز قد وضعت على وجهها سخام القدور، مثل ذلك الذي يضعه هذه الأيام الجنود على وجوههم قبل دخول المعارك، ليصبحوا بمظهر بشع واشد شراسه مما هم فعلا عليه... ولعلهم بذلك يلقون الرعب في قلوب الاعداء...كما وشقت ثيابها، وعفرت على رأسها من تراب الطابون، والذي يسمونه محليا (السكن) وهو الرماد الذي تتحول اليه الأشياء عند احتراقها، وربما اضافت اليه القليل من الطحين...وحلت غطاء رأسها وبعثرت شعرها او ما تبقى منه في تلك الاثناء، وبدت في مظهرها وكأنها كائن ما ورائي...او كأنها خرجت من تحت انقاض ركام زلزال مدمر فشوه منظرها، وبدت في منظرها مرعبة، انسانة في صورة كائن خرافي...

وربما ان صورتها كانت اشد سوء وبشاعة مما أستطيع ان أصف هنا في هذه العبارات ...إذا كانت في تلك اللحظة غاضبة، مزمجره لأمر لا بد أصابها، ودفعها لتتصرف بمثل ذلك الجنون...

وتلك الطقوس البائسة من العادات المرعبة التي كانت تفعلها النساء في حالات الحزن والحداد والغضب... فبدت وكأنها خرجت لتوها من أحد القبور، دفنوها فيه بعد ان فقدت وعيها، ظنا منهم انها ماتت وانقلت الي الدار الاخرة...فاستيقظت في ساعة متأخرة من الليل فوجدت نفسها فيه فنبشت التراب من حولها بأظافر يديها...وخرجت بعد جهد جهيد بوجهها الشاحب ومنظرها المرعب تسير على غير هدى...

وبدلا من ان تعود تلك العجوز الي منزلها وهي على ذلك الحال، اتجهت لغرض في نفسها، صوب بيتنا، الذي لا يبعد عن مكان سكناها سوى أمتار قليلة، مسافة قصيرة قد لا تتجاوز الثلاثون مترا...ودخلت على امي الباب مسرعة، دون اذن، او احم، او دستور...وكأنها عفريت من الجان، خرج لتوه بصورته المخيفة من الحكايات...وداهمتها على حين غرة في فناء الدار...فكان الذي كان...

وكأن زلزالا من قياس عشر درجات على مقياس رختر قد ضرب الأرض وحرك الاشياء...فاهتزت اركان المكان...واهتز قلب امي بشدة غير مسبوقة...وقفز نبضه على سلم الدرجات...وتسارع الى ارقام فلكية...وكاد ان يحدث فيه انفجار بركاني عنيف...

حاولت امي الهرب وهي فزعة وقد ظنتها عفريت من الجان...لكن تلك العجوز الشمطاء وبدلا من ان تتراجع الي الوراء...سارعت الي الامام باتجاه امي الخائفة، المفزعة، المرتجفة...لتضمها الى صدرها...ولكم ان تتخيلوا وقع تلك الضمة القاتلة...ووقع ذلك الزلزال العنيف على قلب امي، وعقلها، وقد أصابها الفزع والذهول لما جرى...حينما تمثلت لها تلك العجوز عفريت من الجان...

زلزال مدمر لا بد انه ساهم في موتها ولو بعد حين...لا بل إن لم يكن هو السبب الذي أدى الي قتلها في نهاية المطاف...وان كتبوا في شهادة الوفاة بأنها ماتت بالسكتة القلبية...او ربما لأسباب أخرى طبيعية...

زلزال عنيف لا بد ان تبعه تسونامي من الاثار والاحداث...ستظل حتما باقية، وقد انطبع في البصمة الوراثية...ما بقي الزمان والمكان...

يتبع..

ايوب صابر 03-15-2016 04:07 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



امرأة أخرى من الحي، وبيتها لا يبعد سوى بضعة أمتار عن بيتنا، وهي من صنف آخر مختلف من النساء، ومصدر اشد قسوة، وأبشع من البلاء...عيناها الجميلة تقطر شرار مستطيرا، وحتما هي لم تكن اقل شرا وتدميرا...وكان سلاح هذه المرأة العيون، وليس السخام، والرماد، والجنون...

امرأة أخرى فتية بعيون زرقاوية، او ربما هي خضراوية او بين هذا وذاك...المهم انها عيون بألوان سحرية، وبقدرات جهنمية، وشيطانية فوق عادية...واسنانها فرق بكل تأكيد وبصورة ظاهرة وجلية...

وقد تأكدت من ذلك شخصيا حين دنوت منها الى حد كبير، مخاطرا بكل شيء لأقطع الشك باليقين ولأعرف ان كان فيها فعلا ما يقال عن الحساد...وأنتم حتما تعرفون ماذا يقولون في الامثال الشعبية عن اصحاب العيون الزرق، والاسنان الفرق؟

نعم...انهم اشخاص يمتلكون عيون بقدرات سحرية فوق طبيعية...واشعة ليزارية فوق بنفسجية...إذا ما سلطت هذ الاشعة على الجمل ادخلته القدر...وإذا ما سلطت على الانسان ادخلته القبر...

انه الحسد...آفة رهيبة اظنها تعصف بالمجتمعات الصغيرة، المنفتحة على بعضها البعض، حيث لا خصوصية ولا اسرار...والابواب مشرعة مفتوحة امام الجميع وفي كل الأوقات...

وقد ابتلينا بهذا المرض في قريتنا في ذلك الزمان، وعصف في بيئتنا المحيطة، وأقلق راحتنا...واظنه في أحيان كثيرة كان يسقطنا ارضا، ويهشم أيدينا، وارجلنا، وروسنا، ويشوه وجوهنا...ويطرحنا أحيانا أخرى مرضى لأيام واسابيع...وربما ادخل البعض القبر...كما ادخل الجمل القدر...

حيث يشاع ان ذلك الجمل الذي كنت قد حدثتكم عنه، والذي قلت لكم انه تزحلق على صخور بئر حارس الملساء، وذبحه صاحبه على إثر ذلك، وفرق لحمه على سكان القرى المحيطة والمجاورة... لم يكن في حقيقة الامر قد تزحلق، وان الصخور من تلك التهمة براء، وانما كان ذلك الجمل ضحية من ضحايا الحسد من النوع الفتاك...وان زحلقته كانت بفعل فاعل...جريمة ارتكبها صاحبها مع سبق الإصرار والترصد، رجل حسود...وتهمة عليها شهود...

حيث يقال ان رجلا ممن عرف عنهم امتلاك مثل تلك القدرة السحرية، الشيطانية، سأل الرجال وهم مجتمعين في المضافة...ان كانوا يرغبون بالأكل من لحم ذلك الجمل الذي كان قد مر بالقرية في ظهيرة ذلك اليوم وشاهده الناس؟

فقالوا له نعم...وربما قالوها له، وقد اتخذوه سخريا...فما كان منه الا ان جمع امامه كومة من التراب، وجعله على شكل سنام الجمل...وقال بصوت مرتفع وهم يستمعون" يقطعك يا ذلك الجمل ما اجملك!!!"...

وما هي الا ساعات قليلة حتى وصل لحم ذلك الجمل الي القرية، حيث كان ذلك الرجل الحسود قد رماه بساهم عيونه الحاسدة القاتلة، فطرحه ارضا، وكسر قوائمه فما عاد ينفع معه الا السكين لترحيه من الكسر والوجع والانين...قتله واوصل لحمه القدر بشر حسده المستطير اللعين...

وان كنت لا أستطيع تأكيد تلك الرواية، واجزم بمدى دقتها وصحتها...وهل فعلا كانت رواية واقعية، وحدثت كما قيل ويقال...ام هي قصة من نسج الخيال...وان ذلك الرجل لم يكن قاتلا، بل هو ضحية من ضحايا القيل والقال...لكنني أستطيع ان أؤكد أثر الحسد الذي شاهدته بعيني...وامام ناظري...

وما تلك المرأة الحسودة التي خفتها طوال سنوات طفولتي وخاف الناس من حولي، وقد شاء القدر ان يكون بيتها قريب من بيتنا...وكانت كثيرا ما تعبر فناء دارنا متخذة منه طريقا مختصرا تعبر من خلاله لقضاء بعض شؤونها...ما تلك المرأة الا نموذج للحساد واظنهم كانوا كثر في ذلك الزمان...

فقد كنا نعجب نحن سكان ذلك الحي من قدرة تلك المرأة اشد العجب...ومن واقع ما سمعنا، وعرفنا عنها، ولمسنا وشاهدنا بأم اعيننا ما تستطيع فعله بقدرات عيونها السحرية...الشيطانية الجهنمية...

رغم اننا كنا حريصين اشد الحرص على تجنبها بكل الوسائل، والحيل...حتى أننا كنا إذا شاهدنا زوالها ات من بعيد...عدنا من فورنا...ندير لها ظهورنا ونرجع من حيث اتينا...سالكين طريقا اخر ومحاولين تجنب شرها وشر عيونها الفتاكة بك الاساليب...وإذا ما استشعرنا وجودها في مكان نفر منه هاربين بسرعة ريح عاصفة، ونحن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم...

فلم يكن لدينا شك بقدراتها السحرية، وقد شاهدنا آثرها مرارا وتكرارا، على الانسان والحيوان فينا وفي بيتنا وفي الأشياء حولنا...
وفي زمن لاحق اذكر انني وفي أحد الأيام، وانا ما أزال اذكر تلك الحادثة تماما، وكأنها حدثت بالأمس القريب، وما تزال غضة، طرية...وكنت اجلس انا وأخي محمود الأكبر سنا، على الصخور الكائنة على جانب الطريق الواصل الي بيتنا، تلك الصخور التي كان الناس يضعونها للجلوس عليها امام المنازل وفي الطرقات يتسامرون خاصة في ساعات المساء...ومر من امامنا طفل من أبناء الجيران ويبدو انه كان عائدا من الدكان...وكان مهندما، نظيفا، جميلا، يحمل في يده لعبة، او بعضا من الطعام، وكان يسير وهو يشع بهجة وحيوية وسرور...وكأنه فرخ حمام...

وقد انتبهنا حين ظهرت تلك المرأة الحسود فجأة...وما هي الا لحظات حتى سلطت سهام عينيها عليه...واخذت تحدق فيه، واستنفرنا من الخطر الزاحف ونحن نحاول الانزواء بعيدا عن عينيها ونتمتم بآيات قل اعوذ برب الفلق...

واستشعرنا بأن كارثة على وشك الحدوث، وعرفنا بانها لا بد واقعة، من واقع التجارب الماضية...فصرنا نرقب الموقف بعيون فاحصة، ومتأملة، وخائفة على مصير ذلك الغلام المحتوم الذي كان يتقافز مثل طائر الريكزان ...

وصرنا نتهامس ونعد لسقوطه عدا تنازليا، ونحن متأكدين اننا على وشك مشاهدة تلك المرأة وهي تمارس سحرها، وتنفث حسدها...منتظرين الكارثة التي على وشك الحصول...عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد...

وسقط ذلك الغلام على الأرض كما توقعنا...فأسهم عيون تلك المرأة الحاسدة تصيب دائما ولا تخيب ابدا...

يتبع...

ايوب صابر 03-17-2016 02:49 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ولم تكن عيونها لتصيب البشر من دون الحيوانات، والشجر، والحجر ايضا...فقد كانت بقرتنا والتي كنا نسميها (العسله)، من الأهداف التي ابتليت بشر حسدها المستطير، وهي بقرة جميلة من أصول هولندية بألوان جذابة، أرضية بيضاء، وبقع سوداء، ودرة حليب كبيرة، ربما هي الأكبر من بين الابقار التي كانت في القرية، وكانت تعمل اعمال شاقة واهمها حراثة الأرض ودرس القش بعد الحصاد، وكانت تنجب كل عام، وتعطي حليب بسخاء وكرم، كان يكفينا ونبيع ما يزيد عن حاجتنا منه ومن مشتقاته، البان واجبان لذيذة وشهية...

وفي أكثر من مرة كانت تتوعك فيها صحة تلك البقرة الودود، الولود، الحلوب، وتصبح غير قادرة على السير والنهوض، خاصة بعد ان يشيع خبر انجابها وانا شاهد على ذلك ورايته بأم عيني...

ويشهد اخى احمد بأنه شاهد بأم عينه ما جرى من اثر للحسد على تلك البقرة في مرتين على الاقل والذي جرى كما يرويه بأنه شاهد اخي الاكبر وهو يحلب البقرة العسله، وكان الحليب ينزل من بين اصابع يديه بغزارته المعتادة، حارا، شهيا، واثناء عملية الحلب تلك، مرت تلك المرأة الحسود من فناء الدار دون استئذان وشاهدت ما كان يجري، وفورا كان الحليب ينقطع، ويتوقف عن النزول، وكان درة الحليب جفت فجأة...

وكانت عمتي حليمة هي المنقذ في مثل تلك الحالات، نستنجد بها ونسارع اليها في طلب المساعدة بدلا من الذهاب الي الطبيب البيطري، والاهل على قناعة بأن المكروه الذي أصابه البقرة نتج عن سهام الحسد القاتلة...حيث كانت عمتي تقوم بممارسة طقوسها الشعبية لرد العين وإزالة الحسد...

وكنت ارقب تلك الطقوس وانا غير مصدق على قدرتها تحديد ما أصاب البقرة، وغير مصدق بأن فيها الشفاء...حيث تأتي عمتي بجمرات من نار متقدة تضعها في مكان قريب من البقرة الضحية، وتأخذ في قراءة بعض الآيات القرآنية عليها، وربما بعض الادعية الأخرى التي كانت تبدو مثل طلاسم بالنسبة لي وانا في تلك السن المبكرة، ثم تقوم على رمي حجارة من الشبة البيضاء اللون في النار ...وتتابع القراءة والدعاء على ما اظن...وما هي الا لحظات حتى يحدث صوت في النار هو اشبه بصوت انفجار صغير...فتنظر في النار صوب حجارة الشبة التي تنطق على ما يبدو بسر الوعكة الصحية التي اصابت البقرة...فان كان سبب مرض تلك البقرة وتوعكها هو الحسد كانت الشبة تتشكل بعد انفجارها على شكل عين بشرية واضحة جلية، واذا ما حصل ذلك تكمل طقوسها بالقراءات والادعية المخصصة لرد سهام العيون الحاسدة...

والعجيب انها كانت على ما يبدو تصيب في كل مرة، وما ان تنتهي من طقوسها حتى يحدث تغيير فوري على صحة البقرة، إذا جزمت بأن البقرة أصيبت بالعين من واقع ما يحدث لحجر الشبة في النار... ثم ما تلبث البقرة ان تتماثل للشفاء التام وكأن شيئا لم يكن...وكأن عمتي كانت تمارس نوع من الطقوس السحرية ذات الأثر العلاجي السحري الفوري...وللأسف لم يعد الناس يمارسون مثل تلك الطقوس التراثية الشعبية الجميلة...ولا اظن ان أحد حتى يعرف ما طبيعة تلك الادعية التي كانت تقال في مثل تلك المناسبة...

وقد شاهدت هذه الطقوس بأم عيني أكثر من مرة وانا شاهد عليها...كما انني كنت اترقب على أحر من جمر تلك النار ما سيحدث لكتل الشبة التي كانت تلقيها عمتي في النار، وشاهدت كيف كانت تتحول بعض حجارة الشبة الى جسم على شاكلة عين الانسان...مما جعلني اقتنع بالمطلق بقوة العيون الحاسدة وسهامها الفتاكة وقد عرفت واختبرت ما يمكنها ان تفعل...وصرت اخشاه اشد الخشية واستمر ذلك طوال حياتي وحتى هذه اللحظة...

وما هذه المرأة الا مثال واحد على امتلاك البعض لقدرة الحسد، وما يستطيع فعله الحساد واظنهم كانوا كثر، وكأن في كل حارة حاسدها...ودرويشها...

وكنت إذا اشيع عن شخص انه حسود اتجنبه بكل الوسائل ولو كان اتهامه بالحسد من باب الحقد والغيرة والقيل والقال وتحت قاعدة ألف جبان ولا الله يرحمه...حتى انني كنت امتنع عن المرور في الأماكن التي يحتمل ان يكون فيها مثل ذلك الحاسد حتى لا التقيه صدفة...

وكان الناس يمارسون طقوس عديدة في سبيل حماية أنفسهم من كيد الحاسدين وسهام عيونهم الشريرة...ومن تلك الطقوس ارتداء الاحجبة، والتعاويذ، والطلاسم ومنها الخزرة الزرقاء...وفي أحيان كثيرة كنت انا شخصيا ارتدي طلسما عبارة عن عقد تبرز فيه حبة زرقاء كان يقال لنا انها ترد تلك الطاقة الفتاكة التي تنبعث من العيون الحاسدة الي صاحبها او على الأقل تغير اتجاهها وتشتتها فلا تعود قادرة على الفتك بنا...

والصحيح ان خوفي من الحسد ظل معي طوال عمري...رغم انني لم اعد استخدم تلك الطلاسم منذ وقت بعيد...بل طورت من أدوات حماية نفسي من اخطار الحساد بترديد المعوذات وقول الادعية الشرعية الأخرى المعروفة، ولو انني كنت اضطر أحيانا للجوء الي الطقوس التراثية، والتي كانت منتشرة على النطاق الشعبي، إذا ما تفوه شخص امامي بما يؤشر الي حسده، وبحيث استشعر خطورة تلك الطاقة المنبعثة من عيونه، او حتى من كلماته وان لم يكن بعيون زرق واسنان فرق...ومنها الرقيات الشعبية التي يمارسها بعض الدراويش وان كانت ثقافتهم تعادل الصفر...

وحتى انني عندما أصبحت رجلا متعلما، واسع الثقافة على ما اظن...ظل خوفي من الحسد قائما، وكنت الجأ أحيانا للعلاج بالطريقة الشعبية...وكنت ابحث عمن يتقن تلك الرقيات ليمارس طقوسها علي...حيث أسلم الدرويش رأسي ليقرأ عليه...وكنت احيانا اذهب لمثل تلك الغاية عند قريبة لنا درويشه اسمها امنة الشريف...والتي كان يشاع عن قدرتها على رد الحسد وازالته... فرغم انها كانت امية، لا تقرأ ولا تكتب، لكنها كانت تتقن ادعية عجيبة غريبة، بكلمات مسجوعه، وموزونة، ومنمقة، ولها وقع شديد على النفس...وظني انني ما كنت لأحفظها حتى لو جربت، ولكني لم أحاول حتى معرفة تفاصيل ما تقوله...والمهم عندي كان دائما تلك الهالة من الطاقة الإيجابية التي كنت استشعر بأنها أصبحت تغمرني وتلفني وترد عني كيد الحاسدين وسهام عيونهم الفتاكة...

لقد كان الحسد في طفولتي مصدر خوف بالنسبة لي وكان حتما آفة خطيرة، ومرض اجتماعي فتاك...وقد طور الناس للوقاية منه وعلاجه طقوس عديدة وادعية عجيبة ومؤثرة...وعلى الرغم من ان نور المعرفة والعلم تمكنا مع الزمن من إزالة الخوف من الكثير من الخرافات...ظل الحسد وما يزال مصدر خوف للكثيرين ...

واشد ما أمقته هذه الأيام هو ذلك الطبع من أحد الأشخاص الذي سبق ان تعرفت عليه بحكم الزمالة في العمل ثم افترقنا كل في سبيله،وهو صاحب عيون زرق وعيون فرق،، وما ان يراني في الطريق صدفة حتى يسأل سؤاله المعهود كيف: الأولاد؟ ويكون هذا دائما فاتحة كلامه وعتبة حديثه، وكأنه جهاز كمبيوتر مبرمج على ذلك الطبع بشكل مطلق لا فكاك منه، حيث يحرص عليه ويقدمه على كل الكلام الاخر...سؤال متعب بالنسبة لي أحس في نبرته بانه ينم عن حسد بين، وما ان اسمعه من جديد حتى يزلزل كياني وابدأ في قراءة كل الآيات والتعاويذ التي امل ان تحميني وتحمي اهلي واولادي وان كانوا على سفر وبعيدين بعد المشرقين والمغربين...

والصحيح ان قصصي مع الحسد كثيرة ومتعددة...وبعضها واضح، ومذهل في طبيعته، ووقعه، واثره، وكأنه ينفذ حتى من اسوار النور التي يعتقد الانسان انها يبنيها حول نفسه، وتصبح تحيط به، وتلفه، بقراءة التعاويذ والاحراز...ولا عجب اذا ان يكون سلاح العيون الفتاك هذا سببا في دخول كثيرين القبور...

يتبع...

ناريمان الشريف 03-20-2016 06:52 AM

لقد كان الحسد في طفولتي مصدر خوف بالنسبة لي وكان حتما آفة خطيرة، ومرض اجتماعي فتاك...وقد طور الناس للوقاية منه وعلاجه طقوس عديدة وادعية عجيبة ومؤثرة...

وعلى الرغم من ان نور المعرفة والعلم تمكنا مع الزمن من إزالة الخوف من الكثير من الخرافات...ظل الحسد وما يزال مصدر خوف للكثيرين ...
أسعد الله أوقاتك أخي أيوب
من الواضح من السرد أن طفولتك كانت مليئة بالرعب والخوف ..
وجميل جداً أن يكون نور العلم والمعرفة هو العلاج الناجع لتلك المخاوف التي تسببت لك بالحسد والعين
علماً بأنه كما يقال - ثلث القبور من العيون -
الحمد لله أنه الله سلمك وتسلحت بسلاح العلم للقضاء على هذه المخاوف
بارك الله فيك ...
الآن سؤال أراه مهماً ..
ما الذي جعلك تفكر كثيراً في موضوع الأيتام ؟؟
هل سبب ذلك كونك يتيماً أم أن هناك ظروفاً أخرى ساهمت في ذلك التفكير ..
لأني أرى أن معظم موضوعاتك لها علاقة بهذا الجانب .. حتى تعليقاتك على أي موضوع تربطه بذلك
ويسعد أوقاتك



تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 03-21-2016 02:18 PM

اشكرك استاذة ناريمان

صحيح ان مخاوفي تكاد تكون تلاشت من كثير من مصادر الخوف التي عيشت في ظلها لاسبب عديدة من الوعي والمعرفة لكنني اميل الي تأيد ما جئت به حول الحسد وقولك من ان ثلث من في المقابر من الحسد، وحقيقة لا اظن ان الحسد ينتهي ما دامت الدنيا قائمة، حتى انني لاظن بأنني ما ازال بشكل او بأخر ضحية من ضحاياه والله المستعان على الحسد والحساد..


اما بخصوص سوالك
"ما الذي جعلك تفكر كثيراً في موضوع الأيتام ؟؟ هل سبب ذلك كونك يتيماً أم أن هناك ظروفاً أخرى ساهمت في ذلك التفكير ..؟ لأني أرى أن معظم موضوعاتك لها علاقة بهذا الجانب .. حتى تعليقاتك على أي موضوع تربطه بذلك ؟

- حتما كوني يتيم واحدة من اهم العوامل، ثم ان الطريقة التي توصلت فيها الى احتمال وجود علاقة بين اليتم والابداع الادبي جعلتني اهتم بالبحث في هذه القضية وهي حينما كنت اطلع على سيرة حياة الاديب الروسي تولستوي فوجدته فقد الام في سن مشابهه لسني اي في الثانية ولم ير صورة لها وانا كذلك من هنا تولد لدي فضول شديد حول القضية وكرست لها الكثير من الوقت ثم ركزت عليها من خلال دراستي الادب الانجليزي في البكالوريوس ثم خصصت بحثي في الدراسات العليا في محاولة لأثبات الفرضية ان هناك علاقة بين اليتم والابداع الادبي...ولكني وجدت حينما انجزت رسالة الماجستير بأن الاجابات التي حصلت عليها غير كافية وعلى الرغم ان رسالة الماجستير اعتمدت ووافقت اللجنة على الفرضية اي ان هناك علاقة بين الابداع وتجربة فقد من نوع ما...
لذلك استمريت في البحث وكان هدفي تقديم دليل احصائي على اقل تقدير ومن هنا صار همي ان اختار عينه موضوعية حتى احصل على نتائج علمية باستخدام الاسلوب الاحصائي في الدراسة وبالصدفة وقع تحت يدي كتاب اعظم 100 شخصية في التاريخ لمايكل هارت وبعد ان تبين بأن 54% من المشمولين في الكتاب ايتام مسجل يتمهم على الانترنت وان الباقي مجهولي الطفولة الا اثنان من المئة عاشوا في احضان والديهم لذلك صارت قناعتي بتلك العلاقة شبه مطلقة بانتظار اجراء دراسات علمية مخبرية تؤكد ما توصلت اليه في الدراسات الاحصائية.

هذا التراث البحثي اوصلني الى قناعة بأن القضية وهي " وجود علاقة بين اليتم والعبقرية" غاية في الاهمية ولا بد ان يهتم بها المجتمع...وهذه الاهمية تكمن في ان على الناس ان تعي بأن اليتيم هو مشروع انسان عظيم فاهم القادة والعلماء والادباء واي مجموعة من المجموعات التي تتصف في العبقرية في مجالها جاءت من بين الايتام حتى ان الانبياء اولى العزم كلهم عاشوا طفولة في غياب الاب وفي ذلك ما يؤشر الى اهمية اليتم في صناعة الشخصية الانسانية.

وعلى الرغم انني كرست كل حياتي لهذه القضية لا اعتقد انني اوفيتها حقها ولا بد من الاستمرار في التركيز عليها حتى تصبح جزء من المواد الدراسية على المستويات الجامعية وحتى تعم الثقافة التي تؤشر الى وجود تلك العلاقة فينعكس ذلك على اسلوب تعامل الناس مع شريحة الايتام خاصة في دور الايتام التي ارى بأنه يجب ان يبدل اسمها بدور الابداع وتلعب دور التأهيل المعرفي لمشاريع العظماء...وربما تقام مدن للابداع عند توسع القناعات وبهدف لتأهيل الايتام ولغاية الاستفادة القصوى من طاقات اذهانهم اللامحدودة...

اتصور ان يد واحدة لا تصفق ولذلك اسعى دائما لخلق الوعي بالموضوع والاهتمام به ايضا وانا بصدد التنسيق مع كلية علم النفس في جامعة النجاح من اجل اجراء دراسات حول الموضوع وعلى امل ان نخلص الي وضع كتاب دراسي على المستوى الجامعي في علم سيكولوجية الايتام...

لقد كتب من دون شريعة حمورابي على الحجر بأن تلك الشريعة وضعت من اجل حماية اليتيم والارملة ولكن بعد كل هذه القرون ما يزال اليتيم والارملة يعانون الامرين، وأملي ان أسهم في تأسيس تراث يؤدي الى حماية اليتيم والارملة، ويوفر لهم الوعي المجتمعي بأهمية دورهم في المجتمع وبالتالي التعامل معهم من منطلق الدور المهم الابداعي يوالعبقري الذي يمكن لليتيم ان يلعبه في المجتمع...فعقول الايتام اداة التطور الحضاري الاهم...

ثم اظن بأن كل انسان يعيش من اجل قضية مركزية ما ويكرس كل حياته وجهده لها، وانا اخترت هذه القضية لأنني وكما أقول في آخر جملة من كتابي " الايتام مشاريع العظماء" ان اهم استثمار يمكن ان يقوم به الانسان هو الاستثمار في ذهن يتيم...

ولعل الفائدة تكون دنيوية واخروية....
ولك التحية ،،،

ايوب صابر 03-23-2016 03:08 PM

لا اعرف ان كان نشري لمذكراتي بهذا الاسهاب ما يزال يروق للمتلقين الاحبة هنا زوار منابر... ولا اجد غضاضة في ان اجيب على اي سؤال يمكن ان يطرح اثناء استمراري في نشر مذكراتي وعلى شاكلة سؤال الاستاذة نريمان السابق.
لانني وجدت في نشر هذه المذكرات هنا حافزا يعينني على استكمال هذا المشروع الذي آمل ان يتحول الي نص سردي جميل في صيغته النهائية وفي نهاية المطاف...
اهلا وسهلا بكم وشكرا لكم على الدعم والمساندة ...

ايوب صابر 03-23-2016 03:10 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


وكانت عمتي حليمة هذه واحدة من مجموعة نساء أحاطت بي في سنوات طفولتي الأولى، نساء ربطني فيهن صلة القرابة، جلبن لي الكثير من البهجة والسعادة على الرغم من حياة البؤس والشقاء التي كن يعشن بها والتي كانت بائنة وواضحة في حياتهن وملامحهن...وعلى الرغم من المآسي التي عصفت بهن، وحولت حياتهن الي كرب ومعاناة...

وكانت تلك العمة حليمة، صلبة، قوية الشخصية، صاحبة عزيمة، وشكيمة، وحكمة، وكرم، حتى انهم كانوا يلقبونها بأخت الرجال بسبب سمات شخصيتها القيادية، وكانت بالنسبة لوالدي الحصن الحصين في الدفاع عنه والوقوف الي جانبه في ازماته، وهو الذي لم يكن له اخوة او اخوات سواها، مما جعلها عزوته الوحيدة خاصة انه لم يكن له اعمام او عمات، وكان له خال واحد كفيف مات مبكرا...

فكانت هذه العمة حليمة، ام نايف، السند والداعم والمدافع الشرس عنه خاصة في المواقف الصعبة التي كانت تتمثل في الحجز على املاكه كنتيجة لعدم قدرته على تسديد الديون الربوية التي كان مضطرا لأخذها لعلاج والدتي حينما مرضت، تلك الديون التي سلبته في نهاية المطاف جزءا عزيزا غاليا من ارضه المزروعة بأشجار الزيتون...

وقد كنت في طفولتي المبكرة شاهدا على احد عمليات الحجز هذه حيث حضرت الجهات الرسمية، وقامت بعملية جرد لكل شيء كان له قيمة في البيت وتم الحجز عليه بما في ذلك خزانة الملابس ولو انها كانت شبه بالية، ولم يكن الهدف طبعا تلك الأشياء ذات القيمة المادية المتدنية ولكن الغاية كانت اجباره على التنازل عن الأرض مقابل ما عليه من دين ربوي ارتفعت قيمته في سنوات قليلة اضعاف مضاعفة...وهي تجربة لو تعلمون شديدة الوقع والالم على النفس لا يمحى اثرها ابدا خاصة على طفل صغير في السن شاهد قوة امنية وهي تنتهك بيت والده وتحجز على ممتلكاته وتهدده بالحجز والسجن...
ولا بد ان عمتي هذه كانت قد اكتسبت قوة الشخصية تلك من الواقع العام الصعب بل المرير الذي مر به العالم ككل في القرن العشرين، وانعكس على فلسطين كونها مركز العالم القديم، والأرض المقدسة، التي ظلت محط أطماع الكثيرين على مر السنين...

فقد شهد القرن العشرين حربين عالميتين جلبتا الدمار والقتل والمآسي والفقر والعوز...ومن حكايات العوز التي رواها لنا والدي عن فترة الحرب العالمية الاولي والمعروفة لأبناء فلسطين (بسفر برلك) ان الناس أصابها جوع فظيع حتى ان الناس كانوا يبحثون عن حبات الشعير في براز البقر لكي يجمعوه ويجعلوه خبزا يعتاشون عليه...

ثم شهدت فلسطين تنفيذا لوعد بلفور المشؤوم، والذي احتل الجراد من الصنف البشري على أثره المناطق الخصبة من فلسطين الساحلية كمرحلة أولى وبصورة تدريجية خبيثة، ثم وبعد سنوات استكمل الجراد السيطرة على باقي الأرض الفلسطينية الداخلية، والجبلية والمزروع اغلبها بأشجار الزيتون... وكانت محصلة ذلك كله بؤس وشقاء والم للإنسان الفلسطيني بشكل عام والذي عانى من الهزيمة والتشرد...ولا بد ان ذلك أصاب حياة الانسان الفلسطيني في الريف بمقتل وحول حياته الى ما يشبه الجحيم..

ولكن الوضع العام لم يكن هو مصدر الألم الوحيد لعمتي حلمية فقد قيل لي بأنها واجهت تجربة فقد مريرة في بداية حياتها الزوجية الأولى وكانت حينها صبية في مقتبل العمر، حيث كانت قد تزوجت من رجل من قرية مجاورة، يبدو انه كان مغرورا بقوته البدنية، او ربما خانه ذكاءه في لحظة غفلة قاسية، او ان عيون حاسده فتكت به...

حيث قام على ما يبدو بربط حبل الرسن لثور قوي على وسطه كان يجره وهو ينقله من مكان الي اخر...وما لبث ذلك الثور ان هاج وماج بعد ان هاجمته حشرة صغيرة تشبه النحلة، لكنها لا تهاجم الا الحيوانات وخاصة البقر منها، وتصدر هذه الحشرة الطائرة والتي تسمى محليا (الكيكوبة) صوت زنة اشبه بالرنين وهي تطير، وتحلق باحثة عن ضحاياها من البقر، وتظهر أكثر ما تظهر في موسمي الربيع والصيف...

وفر ذلك الثور القوي من حشرة الكيكوبه بطبعه الغريزي محاولا النجاة بنفسه، فسقط ذلك الرجل قوي البنيان على الأرض، واخذ الثور يجره وهو هارب من ملاحقة تلك الحشرة وصار الجار مجرورا...ولم يتوقف الثور حتى كان ذلك الرجل قد فارق الحياة من شدة ما أصابه من ارتطام وكدمات وكسور في انحاء جسمه...لتصبح عمتي حليمة الصبية الوحيدة عند والديها ارملة في مقتبل العمر، ولم يمض على زواجها سوى بضعة أشهر فقط، فهي حتى لم تكن قد انجبت من زواجها الأول...لتعود من توها وعلى أثر مقتل زوجها الأول الي منزل والديها وهي ارملة مكسورة الخاطر...

ولكم ان تتخيلوا صعوبة ان تكون المرأة ارملة في ذلك الزمن المر...حيث كانت المرأة تتحول في مثل تلك الحالة الي عبء اجتماعي يسعى الاهل الي التخلص منه مهما كلف الامر لقطع السنة الناس، ووقفهم عند حدهم في مسألة القيل والقال...فكانت زيجتها الثانية مرتبة من شخص بسيط وفقير الحال ما كان ليقوى على زواج من صبة بكر...حيث قام جدي على شراء ارض قريبة من منزلنا من مختار القرية خليل اليونس بقيمة ستة دنانير كما هو مدون في حجة الارض، وبنى لها بيتا ملتصقا ببيت والدي، وكان ذلك البيت عبارة عن غرفتين من الحجر والطين وساحة وطابون خبيز وبئر ماء محفور في الارض...ثم اشترى لهما بقرتين ليعتاشا من كدهما وانتاجهما... وعاشت هي مع زوجها الثاني حياة الفلاح البسيط...حياة بؤس وشقاء مليئة بالفقر والمعاناة...وكان يعينها على تلك الحياة وتلبية متطلباتها المادية جدي ووالدي، وكأنها ما زالت عزباء تسكن في بيت اهلها...

ومن النوادر التي تؤشر الى وحدة الحال في ذلك الزمن بين عمتي ووالدي ما أخبرني به أحد أبناؤها، ابن عمتي صالح، حيث أعلمني بان جدي كان اذا اصطاد العصافير في موسم التين يقوم على قسمة حصيلة صيده والذي كان يصل في أحيان كثيرة الى 300 عصفور في المرة الواحدة وفي اليوم الاحد بين الاسرتين...نصفها لأحفاده من الابن ونصفها الاخر لأحفاده من البنت الوحيدة...

ولكن ذلك لم يكن الشيء الوحيد الذي يؤشر الى وحدة الحال فقد كان روزنة القمح، وخوابي الحبوب والطعام وبراميل الزيت، وانية العسل مفتوحة لها على مدار الساعة، ولو ان ذلك لم يعد يحظى بموافقة خالتي زوجة ابي الثانية، والتي حلت محل امي بعد موت جدي بعامين وبعد موت امي بأيام...وكانت خالتي تقاومه ضمن حدود لا تتسبب بالقطيعة، لتتمكن في نهاية المطاف من وضع حد له خاصة بعد ان تغيرت ظروف عمتي الي الاحسن، واصحبت في بحبوة من العيش بمساعدة أبنائها الذين اصبحوا مقاولين فاعلين ومنتجين يعملون في مجال المقاولات...حتى ان ابنها الثاني صالح، اصبح مع الأيام واحدا من اغني أبناء المنطقة قاطبة يدير مجموعة مشاريع تشغل مئات العمال وتدر أرباحا طائلة...

عاشت عمتي حليمة حياة بؤس وشقاء وفقر مرير معظم حياتها...الى ان تبدل حال اسرتها في زمن لاحق وبعد ان شاخت تقريبا، لكنها حتى في ذلك الزمن ظلت تعيش حياة الفلاحة الصعبة بكل ما فيها من ظلف العيش، وسقطت في أحد الأيام وقد تجاوزت السبعين...وانا ما ازال في المدرسة الثانوية على أثر جلطة دماغية اصابتها وهي تعمل في ساحة الدار تحت اشعة الشمس الحارقة تدق القش لتوفير مونة طابون الخبز...

وظلت على أثر ذلك مطروحة الفراش، في حالة شلل شبه تام لسنوات طويلة لاحقة كنت أجد في اثناءها صعوبة في زيارتها، وهي طريحة الفراش وأسيرة المرض الذي اقعدها وشل حركتها وجعل لسانها يتحرك بصعوبة، وكلامها لا يكاد يكون مفهوما...وذلك لعدم قدرتي على تقبل ما أصابها وجرى لها وعدم استطاعتي مشاهدتها وهي طريحة الفراش، ضعيفة مسكينة وقد عرفتها في طفولتي المبكرة تلك المرأة القوية، المقدامة، الحانية، الحنون، صاحبة الكبرياء، وعزة النفس، ذات الإرادة والعزيمة قل شبيهها...لتصبح كسيحة، مسلوبة القوى تنتظر الموت لعله يخلصها مما أصابها...

واذكر تماما انني كنت اشعر بدفء خاص جدا وانا بقربها، على الرغم امن فارق العمر حينما أصبحت أدرك الأشياء من حولي...وكان الوقت الذي كنت امضيه في منزلها من أجمل الأوقات وأكثرها دفئا وحنانا وسعادة...وكانت كريمة معي معطاءة لا تبخل علي بشيء ابدا...حتى انني كنت اذهب اليها لتعيرني دراجة ابنها الأستاذ صايل خلسة، وما كانت لتمنعها عني ابدا رغم انني لم أكن طويلا بما يكفي لركوبها حسب الأصول المتعارف عليها، ومن خلال الجلوس على كرسي السائق، وانما اكتفي بركوبها وانا أقف على البدالات او اجلس على المساورة التي نسميها جحش الدراجة لكي أتمكن من الوصول الي البدالات وتحركيها لتندفع العجلات...

لقد ملأت عمتي حليمة طفولتي بهجة وسعادة وسرور لا اظن انها اختبرتها هي بنفسها طوال عمرها لان ظروف حياتها كانت أصعب من ان يحتملها انسان...وماتت عمتي حليمة اثناء دراستي الجامعية...وحزنت لموتها لكنني لم احضر دفنتها لأنني لم أكن لأستطيع احتمال ان ارها وهي تدفن تحت التراب...



يتبع..

ايوب صابر 03-30-2016 02:12 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



اما المرأة الثانية من ضمن قائمة النساء اللواتي منحنني البهجة والسعادة والمسرة في طفولتي المبكرة وعوضنني قليلا عن فقدان الام، وكن بالنسبة لي بمثابة الام البديلة، ولو ان لا امرأة تستطيع ان تكون بديلة للام، حتى لو كانت كاملة الاوصاف...كانت هذه المرأة ابنة عمتي حليمة واسمها نوفه ام ماجد، وكانت أكبر سنا من أكبر اخوتي، وكانت تبدو لي عجوزا حيث كانت متزوجة ولها أولاد وبنات اكبر مني وهم آمنة وماجد ومسعدة ووسيلة من نفس سني وحسن وهو اصغر مني سنا...وكنت اظن قبل ان ادرك الأشياء حولي بأنها عمتي واخت ابي كما هي عمتي حليمة وليست ابنة لها...حتى ان اخوتي كانوا ينادوها بلقب عمتي احتراما وتقديرا لسنها ولمعاملتها الحسنة لنا...وبقينا على ذلك الحال نناديها عمتي حتى ماتت قبل ثلاثة سنوات تقريبا وبعد ان طال بها العمر واقتربت من المائة الا قليل...

ويبدو ان هذه العمة قد تزوجت في ظروف بالغة الصعوبة...فقد زوجوها وهي صبية بكر لرجل مسن من أبناء عمومتها، واسمه ذيب القره، وكان حينما تزوجها بعمر والدها او ربما أكبر، كما كان أرملا... حيث كانت زوجته الاولى قد ماتت وقد أنجبت له خمسة، او ستة أبناء وبنات...وكانوا جميعا أكبر منها سنا الا احدى بناته وتسمى مريم وكانت آخر العنقود فكانت أصغر منها...

وما كان لتلك الزيجة ان تتم في ظني لولا حالة الفقر المدقع التي كان يعيشها الناس، والظلم الذي كانت تعاني منه النساء في ذلك الزمن، واظنها ما تزال تعاني منه على نطاق واسع خاصة في مناطق الأرياف والمناطق الأقل حظا ليس فقط في فلسطين بل في كافة انحاء العالم...ظروف كانت زيجة البنت فيها تعتبر خلاص بالنسبة لأهلها، يخفف من معاناتهم، ولو ان عش الزوجية كان بالنسبة للبنت في مثل تلك الظروف أقرب الي الجحيم او السجن والقبر...

وكانت عمتي نوفه هذه تسكن في منزل مكون من غرفتين من الحجارة والطين اقيمتا على ظهر بيت قديم، شاهق الارتفاع ويزيد ارتفاعه على خمسة أمتار...وكان على من يريد ان يصل الي تلك الغرفتين ان يتسلق درجا صعبا، لزجا خاصة في أيام المطر والشتاء، وكان مكشوفا من جوانبه، ويطل على الشارع الرئيسي دون ساتر يذكر، وهو مشيد من الحجارة غير المستوية التي تتطلب انتباه شديد حين الحركة عليها خشية من التزحلق...وقد كان صعود ذلك الدرج بالنسبة لي في طفولتي المبكرة عملية مخيفة، اما هبوطه فكان أشبه بمهمة مستحيلة ...

وكان يتبع ذلك البيت القديم وامامه مباشرة ساحة واسعة أقيم الحمام في أحد أطرافها أسفل شجرة توت ضخمة، وكان الوصول اليه عند قضاء الحاجة مغامرة، ويتطلب الكثير من الجهد والانتباه...بينما أقيم الطابون في طرف آخر، كما كانت هناك سقيفة مجاورة للبيت تستخدم لإيواء الخيل الذي كان يمتلكه زوجها، فقد اشتهر بتربية الخيل والاتجار بها...

ثم الحق زوجها الي كل ذلك وفي وقت لاحق غرفة من الطراز الحديث شيدت من الباطون المسلح، كان بابها يفتح على ساحة الدار وغرفة أخرى فوقها أي طابق ثاني، وكان بابها يفتح على الشارع الرئيسي المار من وسط القرية...وكان يستخدمها زوجها لعمله التجاري حيث كان يعمل جزارا إضافة الي استقبال الضيوف، ولعب طاولة النرد مع اصدقاؤه في حالة الانتهاء من بيع الذبائح التي كانت نادرة في ذلك الزمن، ولا تزيد عن ذبيحة واحدة في أيام الجمع...واظنه كان يمضي معظم وقته في تلك الغرفة الخارجية...وقلما كنت اراه في المنزل الرئيسي اثناء النهار...ولا اظنه كان يبقى فيه الا لقضاء حاجاته او عند المبيت وفي ساعات الليل وحينما تحين ساعة النوم...

وكان زوجها من اعيان القرية، ومن كبار ملاك الأرض المزروعة بالزيتون، كما ان أبناؤه الكبار من الزوجة الأولى كانوا من بين اول من سافر الي الكويت للعمل هناك في مطلع الستينيات من القرن الماضي ان لم يكن في الخمسينيات...وفي تقديري كان من اغنى اغنياء القرية، لكن ذلك الغنى لم يكن ينعكس على حياة عائلته، التي اذكر انها كانت تعيش في ذلك الزمن على الكفاف واظنه كان مقترا...ومؤشر ذلك عندي وانا الطفل الصغير وهو الامر الذي انطبع في ذاكرتي ان عائلته كانت تفعل شيئا لم نكن نفعله نحن في بيتنا، ولا اظن انني شاهدت أحدا اخر يفعله سوى بيت عمتي نوفه...فقد كانت عمتي نوفه تقوم بعد غلي الشاي على فرش حثالة الشاي الحلل الذي استخدم للتو في الشمس على صينية من القش لتجفيفه ثم لتقوم على إعادة غليه واستخدامه من جديد مرة أخرى وربما مرات وحتى تتوقف حثالة الشاي عن صبغ الماء باللون الأسود...

كانت ظروف معيشة عمتي نوفه صعبة للغاية، وكانت عمتي نوفه امرأة مكافحة، صبورة، لا تكف عن العمل ابدا...وكانت على الرغم من الشقاء الظاهر لا تغيب عن وجهها الابتسامة ابدا وان غضبت صمتت وربما تأففت قليلا بصوت مكتوم...وكانت كريمة، مضيافة، شديدة الحنان، حسنة المنطق، تبدو اما رؤوما لكل من حولها، وكأنها نبع حنان لا ينضب ابدا...وكانت حريصة كل الحرص على الرغم انها امية على تعليم ابناءها وبناتها...فكانت ابنتها امنة واحدة من أولى البنات القليلات اللواتي التحقن بالمدرسة على الرغم انها كانت مختلطة في ذلك الزمن أي في اربعينيات القرن الماضي، وأنهت المرحلة الابتدائية بنجاح قبل ان تتزوج... بينما تخرج باقي الأبناء والبنات من الجامعات وعملوا جميعا مدرسين...

وعلى الرغم من بيئة العيش الصعبة تلك والظروف القاسية، والاعمال الشاقة كانت عمتي نوفة تبدو سعيدة في حياتها، ولا يظهر عليها أي أثر لذلك الحريق الذي اظنه كان مضطرما في داخلها...بل على العكس اظنها كانت مصدرا ملهما للتفاؤل والحنان، وكنت أحس بدفء ذلك الحنان الذي كان يغمرني حينما اراها...وقد ظل ذلك الشعور معي طوال حياتي حتى ماتت...وكانت دائما ملجأ في لحظات الكآبة...فمجرد الجلوس معها والحديث اليها يهون من اصعب الأمور وأكثرها تعقيدا...واظنها كانت تمتلك حلا بسيط سحريا لأي مشكلة مهما تعقدت واستحكمت حلقاتها...

كانت زيارة منزل عمتي نوفه بالنسبة لي في طفولتي المبكرة شيء جميل ومصدر للسعادة والبهجة، وقد حرصت على تكرارها كثيرا وانا طفل صغير، وكأنني كنت اعوض بلقائها بعضا من حنان الام المفقود...رغم ان صعود الدرج الحجري الواصل الى منزلها كان يعتبر بالنسبة لي مغامرة خطيرة، ومهمة صعبة إن لم تكن شبه مستحيلة...وكذلك كان السطوح المفتوح من الجهة الغربية، والشبابيك الشرقية من غرفة النوم الرئيسية التي لم تكن محمية سوى بأباجور خشبي وكانت هذه ايضا مصدر خوف مستديم ولا ينقطع ما دمت في الجوار...وقد كانت نتيجة أي تزحلق او سقوط من تلك المواقع الموت المحقق حتما...

يتبع...

ايوب صابر 04-03-2016 01:07 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة
:


اما المرأة الثالثة من ضمن قائمة النساء اللواتي منحنني البهجة والسعادة والمسرة في طفولتي المبكرة، وعوضنني قليلا عن حنان الام المفقودة على الرغم من حياة البؤس والشقاء التي كن يعشنها فكانت خالتي فاطمة، وهي الأقرب الي من ناحية الام، وهي الأخت الشقيقة الوحيدة لأمي، والدليل المادي الوحيد على انني اتيت من رحم امرأة، ولم أكن مقطوعا من شجرة، وهي المصدر الوحيد الذي شكل لدي تصورا عن صورة امي وما كانت عليه من حيث الشكل، لأنني لم اشاهدها ولم اشاهد لها حتى صورة، فقد ماتت امي ولم تترك واحدة، فكانت هيئة خالتي فاطمة اقرب شيء الي صورة امي في نظري، رغم انهم كانوا يؤكدون لي بأن خالتي فاطمة لم تكن تشبهها بشيء من ناحية الشكل..

وكانت هذه الخالة الأكثر حنانا، والاقرب الي نفسي، وكأنها الام البديلة بحق، لكنها كانت غارقة في مشاكلها حتى الثمالة وأحيانا كانت تبدو وكأنها في عالم آخر...

واذكر ان من بين اول الصور التي انطبعت في ذاكرتي عندما بدأت اعي ما يدور حولي في طفولتي المبكرة كانت صورة مؤلمة من احدى صور المعاناة الشديدة التي اختبرتها خالتي فاطمة هذه، والتي اظن ان حياتها التي عرفتها فيها كانت بمثابة صفحات من الألم المتواصل، ولا يبدو ان حياتها التي عاشتها قبلي كانت اقل الما، سواء كان ذلك في طفولتها المبكرة حيث أصبحت يتيمة الام في وقت مبكر ثم في حياتها زوجها الأول التي يبدو انها كانت اقرب الى شقاء مستديم يغيب عنه البسمة والامل كونها حياة ظلت خالية من الأطفال، لان زواجهما لم يكن مثمرا، وربما ظن زوجها انها كانت عاقرا، ففي تلك الأيام كانت المرأة تتحمل المسؤولية عن عدم القدرة على الانجاب حتى لو كان العيب في الرجل، كما اتضح لاحقا بفضل الاكتشافات الطبية والتي شطبت كثير من الاساطير، ومنها اسطورة مسؤولية المرأة عن انجاب البنات ليتبين لاحقا بأن المسؤول هو الحيوانات المنوية للرجل، وان المرأة بريئة من تلك التهمة التي الحقت بالنساء العار على مدى أجيال واجيال عديدة وكانت تتسبب لهن بكثير من الألم والمعاناة، كما تبين بأن أسباب العقم عند الرجال لا تقل في عددها عن تلك التي عند المرأة، لكن المرأة كانت تتحمل المسؤولية في كل الأحوال، وغالبا ما كانت تدفع هي ثما غاليا قد ينتهي بزواج ثاني وثالث ورابع، وقد ينتهي بانفصال وطلاق بائن في ظل محاولة الذكر المستميتة انجاب ذرية تحمل اسمه من بعده ...

لقد كان ذلك الحدث المؤلم هو حدث طلاقها من زوجها الأول حسن الذهيبة، وهو واحد من أبكر الاحداث المؤلمة التي سجلتها ذاكرتي على الاطلاق، وأول موقف اذكر فيه خالتي فاطمة، فلا اذكر مثلا انني زرتها في بيت طليقها الأول ابدا، وكأن الم طلاقها أيقظ الوعي لدي، فكانت تلك اللحظات شديدة الألم من اول الاحداث المسجلة في ذاكرتي وصندوقي الاسود...

وما أزال اذكر حينما عادت الي بيت جدي صالح، وهي طليقة طلقة بائنة، وقد احضروا لها صندوقها البني والذي كان يعد جهاز المرأة في ذلك الزمن، وبديل عن الخزائن الحديثة التي كانت تضع المرأة فيه اشيائها الخاصة...والدموع والتعاسة والحزن كانت تلفها وتلف من حولها على ما الت اليه حالها...
عادت خالتي فاطمة طليقة بعد ان افنت زهرة شبابها في خدمة ذلك الرجل الجاحد، لأنها لم تنجب فتزوج غيرها لعله ينجب من الثانية، وكانت هذه الثانية فتاة أصغر سنا، واسمها ذيبة وهي ابنة ذيب القره زوج عمتي نوفه من زوجته الأولى، ويبدو ان عيشة خالتي فاطمة عنده أصبحت لا تطاق مع قدوم ضرة مرشحة للإنجاب، ولكن حسن الذهيبة هذا مات بعد ذلك بسنوات، ولم ينجب ذرية تذكر، وما تزال زوجته الثانية تسكن في بيته القديم وحيدة كشجرة في صحراء قاحلة...

وكانت حياة خالتي فاطمة في بيت جدي صالح بعد الطلاق الأول صعبة، وقاسية، واظنها كانت قد تعرضت لصدمة عصبية طاحنة، نتيجة لما حصل لها من جفاء وجحود، وحزنا على شبابها المفقود الذي افنته في خدمة ذلك الرجل، وبسبب غياب الولد، وهول صدمة الطلاق مما استدعى تدخلا طبيا لتهدئة اعصابها وإعادة الاتزان لها...

ولم تمر سوى سنوات قليلة بعد حادثة طلاقها الأول حتى أصيب جدي صالح بجلطة دماغية اقعدته لعدة أشهر، وما لبث ان فارق الحياة لتبقى خالتي فاطمة، انيسة ارملة جدي الثانية آمنة السالم، تسكن معها، وتواسي بعضهما البعض على ما آلت اليه حالهما، خاصة بعد ان تزوج كافة أبناء وبنات زوجة جدي الثانية آمنة السالم، وبقيت هي وخالتي فاطمة في بيت جدي يعشن في دائرة من الألم بانتظار الموت ليس أكثر والذي كنت اسمع زوجة جدي ترحب بقدومه باستمرار...

لكن الامل ابتسم فجأة من جديد لخالتي فاطمة بعد ذلك بسنوات قليلة ولو على استحياء، حيث تقدم للزواج منها اخ زوجة ابيها آمنة السالم، واسمه الحاج احمد السالم، وكان عجوزا مسنا بل كان أصغر أبناؤه أكبر منها سنا، وقد أراد من زواجه منها امرأة تخدمه وتغسل ملابسه، لعله يمضي شيخوخة صالحه كما قالوا، لا يحتاج فيها الى زوجة ابنه، ولا خدمة بناته ولا أحد غيرها...وظني ان ذلك الزواج قد رتب على عجل بسبب العلاقة العائلية المتشابكة والتي سهلت الأمور وجعلته واقعا ملموسا، فكان زواج خالتي فاطمة الثاني والذي انتقلت على أثره الي بيت زوجها الثاني العجوز احمد السالم...

لكن هذا الزواج الثاني لم يدم طويلا ولو انه اثمر زيارة الى بيت الله الحرام في رحلة حج بصحبة زوجها الثاني وما لبثت الأمور ان تفاقمت فحصل الطلاق الثاني لتعود خالتي فاطمة من جديد الي بيت ابيها وهي مكسورة الخاطر من جديد...وعلى الرغم انني لا اعرف على وجه التأكيد سر هذا الطلاق الثاني لكنه اشيع حينها بأن الحاج احمد السالم أراد الذهاب الى الحج من جديد بعد ذلك بعام او عامين على ابعد حد فطلقها بطلب من ورثته، وكي لا ترث من رزقه شيئا إذا مات في الحج خاصة انه عند سفره للحج في تلك المرة كان أقرب الي الموت منه الي الحياة...فعادت خالتي فاطمة طليقة للمرة الثانية لتكمل ما تبقى لها من سنوات عمرها المريرة الى جوار زوجة ابيها اخت طليقها الثاني آمنة السالم، والتي ما لبثت ان ماتت لتبقى خالتي وحيدة في منزل جدي لسنوات أخرى قليلة اضافية...

كانت حياة خالتي فاطمة سفر من اسفار الألم، والتعاسة، والشقاء، لكنها كانت بالنسبة لي ام بديلة، ونبع حنان متدفق تحسه وتلمسه وتراه في كل شيء يصدر عنها، على الرغم من ظروفها الصعبة، والتي ما كان لجبل قاسيون ان يحتملها...

حتى انني كنت أحس بحاجتها الي وانا طفل صغير أكثر من حاجتي اليها...واذكر انها حاولت في وقت لاحق وهي على ما يبدو تستشعر دنو اجلها ان تمنحني خاتم ذهب هدية منها لي تعبيرا عن مدى حبها، وقد كنت في حينها ما ازل طالبا في الجامعة، لكنني رفضت بشدة اخذ هدية منها على أساس انها هي الاشد حاجة اليه والى غيره من الدعم والمساندة...وطلبت منها ان تبيعه إذا احتاجت المال لتقتات بثمنه بدلا من ذلك...

سنوات قليلة لاحقة مضت بعد ذلك انقطعت فيها عن الاتصال والتواصل معها وانا في بلاد الغربة لتموت خالتي فاطمة وحيدة وهي في منزل جدي...ورغم حزني وألمي على موت أقرب الناس لي من ناحية الام سرني انني لم أكن مضطرا لحضور دفنتها، فما كنت لاحتمل رؤيتها وهي تدفن، وقد فارقت الحياة، وسكنت سكنة الموت الابدي الذي كنت اخشاه واتجنبه في كل موقف، حتى انني لم اشاهد بشريا ميتا الا بعد ان تجاوزت الأربعين من العمر، وكان اول انسان ميت اقترب منه مضطرا وانظر الي وجهه وقد فاضت روحه الي بارئها اخي الكبير حمد والذي رافقت لحظات انهياره في المستشفى لحظة بلحظة ولما يزيد على أربعة اشهر اثر اصابته بانفجار دامي في البنكرياس مات على اثره شيئا فشيئا حتى فاضت روحه على اثر ذلك وبعد ان ضاق جسده بروحه الوثابة... فاسلم الروح كارها ولم يكن بد عندها من مواجهة الموت وجها لوجه في تلك اللحظة المريرة الصعبة التي زلزلت كياني...

ماتت خالتي فاطمة وانقطع أثرها في هذه الدنيا...ولا اعرف كيف كانت عليه حالها قبل موتها تفصيلا، لكنني سمعت بأنها كانت قد اشتكت من التهاب حاد في أحد اصابعها من شوكة صبر كانت قد دخلت فيه وتسببت في التهاب حاد تطلب على ما يبدو علاجا او تدخلا جراحيا... فاستشارت من حولها فأشار عليها بعضهم ان تضع يدها في فم جمل او ان تغرق اصابعها في لعاب جمل...لكن انى لها ذلك ونحن نتحدث عن ثمانينيات القرن الماضي حيث لم يكن يوجد جمل لا في القرية او حتى المناطق المجاورة...ويبدو انها استشارت أيضا جارهم الطبيب الشعبي المعروف أبو هارون فأخبرها بانها إذا لم تعالج الالتهاب فسوف تصاب بالغرغرينة ويضطروا لقطع اصبعها، وربما أراد ان يدفعها دفعا لمراجعة الأطباء، وقد انتشر الطب في ذلك العهد على نطاق واسع...لكنها خافت مما الت اليه حالها وحال يدها، وهالها ما سمعته من جارها الخبير الشعبي...ويقال ان ذلك تسبب في ارتفاع مفاجئ في ضغط دمها، اصيبت على اثره بجلطة دماغية فنقلت الى المستشفى لكنها ما لبثت ان فارقت الحياة ...تلك الحياة المريرة التي كان الموت ربما اهون حدث فيها...

يتبع،،

ايوب صابر 04-05-2016 02:54 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

اما المرأة الرابعة التي كنت استشعر بكثير من الانس والأمان بقربها في طفولتي المبكرة، وكانت مصدرا آخر من مصادر الحنان والسعادة، فقد كانت زوجة جدي صالح الثانية، آمنة السالم، حيث كان جدي قد تزوج بها بعد وفاة زوجته الأولى جدتي حليمة، التي انجبت امي زينب وخالتي فاطمة فقط قبل ان تتوفى، فكانت آمنة السالم الزوجة الثانية لجدي صالح، وهي التي انجبت ثلاثة خالات هن حلوة زوجة ابي الثانية بعد وفاة امي، وعائشة، ولمياء، وأربعة اخوال وهم احمد، ومحمود، ومحمد، ويوسف آخر العنقود وهو يكبرني بعام واحد فكانوا اخوة واخوات غير اشقاء لأمي وخالتي فاطمة...

واذكر ان اول معرفتي وصلتي بالحجة آمنة السالم جاءت بعد وفاة جدي صالح، حيث بقيت هي وخالتي فاطمة في منزل جدي الذي كنت استمتع بزيارته وكثيرا ما اتردد عليه، فقد كان بيتا جميلا حديث البناء مقارنة بما حوله من مباني، وتحيط به حديقة شاسعة مزروعة بأشجار المشمش من الأصناف الحموي بألوانه الأبيض الشفاف والاحمر ومذاقه الحلو اللذيذ، والبلدي بلونه الأصفر ومذاقه اللاذع المائل الى الحموضة، واشجار الرمان، واللوز، والبرتقال، وكان فيها شجرة خروب ضخمة يحلو للإنسان ان يمضي جل وقته في ظلها، وشجرة كينيا شاهقة الارتفاع وظليلة، والي جوارها أشجار تين من الصنف المعروف بالخرتماني لذيذ الطعم...

وكانت الحاجة آمنة تعيش حياة غاية في البساطة، وتمضي وقتها في الصلاة، والذكر والتسبيح، وانتظار الموت، بعد ان كبر أبناؤها وتزوجوا جميعا وترملت هي وبقيت وحيدة لولا وجود خالتي فاطمة التي عادت لمنزل والدها بعد طلاقها الاول...

واذكر انني كنت قريب منها جدا واعاملها على انها جدتي وليست مجرد زوجة جدي، وكنت كثيرا ما امازحها فأقول لها انها شاخت وربما انها خائفة من الموت فترد بالقول "يا مرحبا بالموت" مؤكدة بانها ترحب فيه ولا تخشاه ابدا...

وقد أسعدها جدا ان سافرت في وقت لاحق الى الكويت حيث لبت برفقة أبنها الأصغر خالي يوسف النداء، فحجت الي بيت الله الحرام لتزداد نفسها راحة واطمئنانا تجلى في أسلوب حياتها البسيط واستعدادها لمقابلة الموت وهي مطمئنة النفس راضية...

ولم يطل بها المقام كثيرا بعد ذلك فقد توفيت بعد ان عادت لتستقر في القرية ولسانها لا يكاد ينطق الا بالذكر والتسبيح وتمضي جل وقتها في الصلاة والصيام ولا اذكر انني رأيتها غاضبة ابدا رغم انني كنت كثيرا ما كنت استفزها بقطف الثمار خاصة ثمرة شجرة المشمش الحموي الكائنة امام المنزل مباشرة وعند حمرة البئر ...

ولا أنسى ابدا تلك الساعات الجميلة التي كنت امضيها في منزل جدي وهو عامر بوجودها، ولا أنسي ابدا ذلك الشعور الدافئ الذي كنت احسه في ظلها، فكان موتها بالنسبة لي خسارة فادحة لا تعوض خاصة انها الوحيدة من بين الأجداد التي ظلت حية حتى أصبحت اعي ما يدور حولي ...


يتبع،،

ايوب صابر 04-07-2016 01:53 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:
ومن النساء الاخريات اللواتي غمرنني بعطفهن وحبهن وعوضنني ولو بالقليل من الحب المفقود بفقد الام كانت خالتي عائشة، وهي اخت لامي غير شقيقة، واخت شقيقة لخالتي حلوة زوجة ابي الثانية، وكانت خالتي عائشة متزوجة من يوسف الرضا من عائلة شقور، وهو رجل كما عرفته لاحقا طيب الى ابعد الحدود، كريم، ومضياف، مقل في الحديث، لا يكاد يتحدث الا إذا سؤل فيأتي جوابه مختصرا ومصحوبا بابتسامة وعلى استحياء، وقد ظل على طبعه الكريم الودود المضياف حتى شاخ...

ويبدو ان خالتي عائشة كانت قد تزوجت قبل وفاة امي فلديها ابنتان أكبر مني سنا واحدة اسمها رحاب وهي أكبر بناتها ورائدة وهي الثانية في الترتيب، وظني ان هذا هو السبب الذي جعل جدي يدفع بخالتي حلوة لتكون الزوجة الثانية لابي بعد وفاة امي وليس هذه الخالة...

واتصور ان خالتي عائشة كانت الأقل تعاسة من بين النساء اللواتي عرفتهن في طفولتي المبكرة فقد كانت تعيش حياة هانئة لولا غياب زوجها شبه الدائم للعمل في الكويت، وكانت تعيش في بحبوحة مالية لان زوجها كان قد سافر الي الكويت مبكرا، وربما في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وكانت تسكن في منزل واسع، جميل مبني على الطراز الحديث من الاسمنت والحجارة، وتلفه من كافة الجوانب حديقة واسعة مزروعة بأشجار مثمرة من كل الأصناف...

ثم انجبت أبنا ذكرا أسمته رضا على اسم جده رضا الشقور، وكان أصغر مني ببضعة أشهر، وهو قريب الشبه بي، وله مثلي شعر أشقر، ووجه مستدير، وهو بشوش يبدو مرحا سعيدا في كل الأحوال...

وربما ان وجوده وغياب الزوج في الكويت بشكل شبه دائم كان سببا في كثرة ترددي على منزلها، خاصة انني لطالما وجدتها امرأة مدهشة، تفكر بصورة عبقرية، وتجد عندها حل لكل مشكلة، وظني انه كان يمكن ان تكون مخترعة، لو سنحت لها فرصة التعليم، وتوفرت لها الوسائل اللازمة للاختراع، فلطالما اخترعت أشياء بسيطة كنت الاحظها حولها حيث كانت تستخدمها في بيتها المحيطة، او اقترحت حلول لمشاكل لا تخطر على بال....

وكانت تفكر بطريقة استراتيجية عجيبة، وتناقش في السياسة، والاقتصاد رغم انها امية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت تتخذ مواقف سياسية حازمة، فكانت مثلا من اشد أنصار الرئيس العراقي صدام حسين، في فترة الحرب العراقية الإيرانية...

واذكر من المواقف الصعبة التي ربطتني بها وبابنها رضا في طفولتي المبكرة وانحفرت في ذاكرتي، وربما كان عمري عندها خمس سنوات لا أكثر، وكان ذلك الموقف حادثة مروعة، حصلت لابنها رضا، حيث كانت في زيارة لنا في أحد المرات، وكان برفقتها ابنها رضا، واذكر يومها اننا كنا وبرفقة والدي وخالتي حلوة في ارض لنا قريبة اسمها جنانة الرما، وهي ارض كانت مزروعة بأشجار المشمش، واللوز، والاجاص، والتين، والكرمة، واتصور ان الموسم كان ربيعيا فقد احضر والدي يومها الي تلك الأرض البقرات لتأكل من حشاش الارض...

وكنت انا ورضا نلعب سويا وتلفنا سعادة غامرة...وكنا في لحظة معينة نقطف ثمار اللوز من شجرة لوز تقع على جانب ارض أبو الراضي المنخفضة مسافة لا تقل عن ثلاثة أمتار في الموقع الذي كنا فيه، وتفصل ارضنا عن ارضه سلسلة من الحجارة أقيمت على صخرة صلبة، وكان اي سقوط من ذلك الارتفاع يشكل خطرا حتميا وربما مميتا...

وكان في تلك الاثناء عجل لنا يرعى على مقربة منا، ولم نكن نستشعر منه خطرا، فلم نألفه شرسا، عدوانيا او انه يمكن ان يقوم بحركات مفاجئة ومؤذية... وكان ذلك العجل صغيرا في السن لكنه ضخم البنيان، وهو حتما ابن احدى الابقار الاليفة التي كان يملكها والدي...ولكن في لحظة ما اقترب ذلك العجل من ابن خالتي رضا، ولا اعرف إذا كان رضا قد استفزه بحركة منه ام لا؟ لكن ما كان من ذلك العجل الا ان نطحه برأسه، ودفعه بقوة شديدة، جعلته يطير من على فوق الأرض، ويسقط في الأرض المنخفضة المجاورة كل تلك المسافة الخطرة...

وطبعا قامت الدنيا ولم تقعد على إثر ذلك السقوط المروع، وخوفا على رضا، وما يمكن ان يكون قد أصابه...لكنه قام من وقعته المروعة تلك دون أي كسر او خدش ولم يبق من تلك الحادثة الان الا الخوف الذي انحفر في ذاكرته، وذاكرة كل من تواجد في تلك اللحظة هناك، إضافة الي ذكرى الواقعة المروعة التي ما نلبث ان نسترجعها وتحدث عنها بين فينة وأخرى عندما نلتقي...

وظلت هذه الخالة عائشة مصدرا من السعادة والهناء والعطف والحنان، واستمرت حياتها سعيدة هنية لا ينغصها شيء ربما سوى غياب زوجها في بلاد الغربة، وكانت قد انجبت طفلا آخر اسمته رضوان هذه المرة، وظل الحال على ذلك حتى أصبحت انا في الثالثة عشرة من عمري، حينما وقع زلزال العام 1967 والذي وضع حدا لتلك الحياة السعيدة التي كانت تنعم بها خالتي، حيث جرفت أمواج التسونامي الهائلة التي تسبب بها ذلك الزلزال عالمها الجميل وحياتها الهانئة، لينقطع فجأة ذلك المصدر من مصادر السعادة والحنين بالنسبة لي ومن دون مقدمات، وذلك حينما اتخذت خالتي عائشة قرارا عاطفيا، وانفعاليا، متسرعا، وعلى غير عادتها، اذكر ان والدي لم يقرها ولم يوافقها عليه، حينما استشارته في امره، محذرا إياها من عواقبه الوخيمة، وبأن موت الانسان في ارضه اهون عليه من اللجوء وعواقبه...لكنها ضربت برأيه عرض الحائط، وقررت الهجرة مع من هاجر من فلسطين على إثر ذلك الزلزال الهائل في رحلة لجوء الي الأردن اثبت الزمن صحة رأي والدي فيها...فقد كانت سنوات ما تلا الزلزال سنوات عجاف عانت فيها خالتي وعائلتها اشد المعاناة في ارض اللجوء والتشرد...وتحولت حياتها الهنية الي جحيم لا يكاد يطاق...

وكان مبررها انها ارادت اللحاق بزوجها في الكويت، ولكن زوجها عجز عن استخراج اذونات الدخول لها الي الكويت ربما بسبب الاحداث المتفاقمة، فما كان منه الا ان ترك عمله هناك، وانضم اليها في الأردن، حيث قاما على شراء ارض صغيرة في منطقة عوجان القريبة من مدينة الزرقاء، وأقاما عليها منزلا صغيرا متواضعا بما لديهم من مدخرات، والتي ما لبثت ان طارت جميعها ليعشوا بعد ذلك سنوات طويلة من الحرمان والالم بسبب الفقر، والعوز، وغياب الدخل، فقد تبع ذلك الزلزال موجات تسونامي هائلة اثرت على كافة مناحي الحياة في الشرق الأوسط ككل لكن الضرر الأكبر أصاب من هاجر وترك ارضه لتنقطع مصادر رزقه ويعاني الامرين في سبيل تحصيل لقمة العيش...

وفي تلك الاثناء ما لبثت خالتي ان وضعت طفلا جديدا ذكرا بعد أيام من رحلة لجوئها الى الأردن، وفي ظروف غاية في الصعوبة، أسمته فرج لعل الله كما كانت تقول يفرج عليهم الهم، والكرب الذي الم بهم على أثر اللجوء، ويعيدهم الى جنتها في ارض فلسطين...لكن الفرج طال انتظاره لتعيش هي وعائلتها سنوات طويلة من العذاب والحرمان...

وعدت انا لألتقيها من جديد بعد ذلك بسنوات، في منزلها هناك في جبل عوجان، الذي تحول الي مخيم جديد جل سكانه ممن هاجر على إثر ذلك الزلزال، مخيم غابت عنه المساعدات الاغاثية المعهودة...
وكانت تلك زيارات عابرة بعد ان انتهيت من دراستي الثانوية... فوجدتها ما تزال تعيش حالة البؤس والفقر الشديد...لكنها كانت هي وزوجها مضيافة، كريمة، حنونة كما عهدتها، بل هي نبع من الحنان...فتحت هي وزوجها لكل عابر سبيل من الأقارب أبواب بيتهم الصغير على مصارعه للإقامة فيه لحين انقضاء الحاجة، مثل المرور من والى الكويت او انجاز المعاملات التي كانت تتطلب البقاء في الأردن بضعة أيام...

وكانت هي بعبقرتيها المعهودة قد سعت الى تدبير شؤون الاسرة، فلم تستسلم لليأس والاحباط ابدا على الرغم من واقعها المرير وفقدانها لفردوسها منزلها الجميل في فلسطين... ودفعت بأبنائها الي بيع الترمس، والبليلة، الذي كانت تصنعه بنفسها، وقامت على تشجيع زوجها بفتح دكان صغير لبيع المواد التموينية، رغم غياب الجدوى، لان الظروف كانت صعبة على الجميع في تلك المنطقة السكنية التي أقيمت على عجل، بحيث غابت القوة الشرائية وظل الناس يعانون من غياب العمل وسطوة الفقر لسنوات طويلة لاحقة...

لكن خالتي تمكنت من تجاوز المحنة بصبرها وعقلها المدبر العجيب ورغم الألم نجحت في تحسين ظروفها عائلته المعيشية وحرصت على تعليم ابناءها وظل على ذلك الحال تكافح من اجل البقاء الي ان تبدلت الأحوال وانهي رضا دراسة في كلية المعلمين، وبدأ العمل موظفا في البنك العربي فرع الرصيفة، بينما تحسنت ظروف العائلة أكثر فأكثر عندما سافر ابنها الاخر رضوان الى أمريكا، والتحق الأصغر سنا في الجيش فعادت الحياة تبتسم لهم من جديد، لكن الم فقدان الوطن وفردوسها الجميل ظل ينغص عليها حياتها وكثيرا ما كانت تحاول ان تصنع بيئة كمثل تلك التي فقدتها في فلسطين، فزرعت أشجار تين، وعنب، ولوز، وشجرة كينايا، لكن حلمها بالعودة الي فلسطين ظل شغلها الشاغل وحلمها الذي ظل يراودها الي ان تحقق ذلك عن طريق تصريح زيارة بعد سنوات طويلة من الغربة والالم، تعادلت الحياة فيها مع الموت، وربما كان الموت فيها ارحم...

وحكاية خالتي عائشة هذه ربما تستحق ان افرد لها رواية كاملة بذاتها فهي حكاية شديدة الدرامية...حكاية امرأة عقلانية كانت تعيش في هناء وسعادة لتتخذ في موقف ضعف انساني قرارا انفعاليا خاطئا دفعت هي وعائلتها ثما غاليا له، فقد انهارت حياتها الجميلة المستقرة على أثر ذلك القرار الانفعالي، وكان نتيجته خروجها من فلسطين، جنة الله على الأرض، اشبه بخروج ستنا حواء من الجنة، وكانت الغربة اشد عليها وعلى عائلتها من نار جهنم لكن خالتي كانت تلاحق زوجها ولا ترافقه في ذلك الخروج ...وفي الغربة عاشت سنوات طويلة من الحرمان والفقر والتعاسة، واتخذت بيتا في مكان قريب من سيل الزرقاء المطل على بساتين غناء من المشمش والفاكهة الأخرى لعله يعوضها عن بعض الذي فقدته وهي عاشقة الارض والاشجار والازهار، لكن هذا السيل ما لبث ان جف واصبح مجرى للمياه العادمة الملوثة بمخرجات المصانع، لتموت الأشجار التي كانت تحف السيل جميعها ولم يبق لها اثر، وصار المكان اقرب الي الصحراء القاحلة، وملوثا على الأرض بالمياه العادمة وفي السماء بالغازات والاتربة المنبعثة من مناجم الفوسفات القريبة...

لكن الحياة اشرقت من جديد وتحقق حلم العودة ولو انه كان ناقصا، اعرجا، ومتاخرا بعد ان كانت عجلة الزمن قد دارت وطحنت تحت اسنانها سنوات عديدة... فلم يعد الاهتمام ينصب على العيش في فردوسها الجميل المفقود وانما اصبحت الغاية تجنب الدفن في بلاد الغربة...


يتبع،،،

ايوب صابر 04-10-2016 12:27 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

كما كان هناك في طفولتي ثلاثة نساء رائعات، على الرغم انني ظننتهن غريبات ولا تربطني فيهن صلة قرابة كباقي النساء الاخريات من خالاتي وعماتي، وكانت هذه النساء الثلاثة تغمرنني بالحب، والعطف، والحنان إذا ما حدث والتقيت بهن بمحض الصدفة، وغالبا ما كان ذلك يحدث في الطريق العام، فلم أكن اذهب الي منزلهم بهدف الزيارة او لرابط القرابة ابدا وكما كنت افعل مع خالاتي وعماتي، وهؤلاء النشوة من عائلة واحدة، ام كبيرة في السن لها هيئة الجدات، واسمها الحاجة عفيفة، وكانت متزوجة من شخص من عائلة البوزية، وابنتاها الكبرى وهي ايضا متزوجة من شخص من عائلة البوزية ام نعيم، وابنة أخرى واسمها عقول، ظلت عزباء ووحيدة بعد وفاة ابويها لفترة طويلة لتصبح، لاحقا وبعد ان فاتها قطار الزواج المثمر والمبكر، أصبحت فجأة الزوجة الثالثة لرجل عجوز طلب يدها بعد ان ماتت زوجته الثانية...لكن زواجها هذا أثمر ابنة وحيدة رغم عاديات الزمن...

ولم أكن في البدايات اعرف طبيعة ذلك الرابط القوي الذي كان يجعل تلك النسوة يندفع نحوي بكل ذلك الحنان، ويبدأن بضمي، وتقبيلي وانا طفل صغير، وكان ذلك تصرفا نادرا ومستغربا، ومحرجا بالنسبة لي، وقد ظللن على تلك العادة حتى بعد ان تجاوزت مرحلة الطفولة المبكرة، لأعرف بعد ان أصبحت اعي ما يدور حولي بان تلك المرأة الحاجة عفيفة انما هي في الواقع خالة امي... واخت جدتي من ناحية الام، والاخريات ابنتيها، وان تصرفهما كان يأتي من حبهما لأمي، ومن دافع الحنان، والشفقة على انا، ابنها اليتم الذي فقد امه وهو صغير والذي يبدو انه كان يذكرهن بأيام خوالي...

وفي وقت لاحق وخلال سنوات الطفولة المتأخرة اذكر انني زرت بيت الحاجة عفيفة بضعة مرات وكانت تلك زيارات عابرة لدقائق قليلة فقط في أيام الأعياد برفقة بعضا من اخوتي الذين كانوا يحرصون على عيادتها في مثل تلك الأيام المباركة وضمن طقوس صلة الرحم وتبادل التهاني بالعيد...

وما لبثت تلك الحاجة ان ماتت ولو انني لا اذكر متى وما ظروف موتها، وانقطعت صلتي بابنتيها، ولو انني إذا ما صادفتهما نتبادل أطراف الحديث المجامل...لكن ذلك الحنان الذي منحني إياه في طفولتي مطبوع في أعماق الذاكرة واظنه ظل طوال سنوات حياتي مصدرا من مصادر السعادة والهناء ولو انه كان في جانب منه محرجا بالنسبة لي...


يتبع،،

ناريمان الشريف 04-14-2016 10:27 PM


بعد السلام عليك والشكر على الاستجابة
والمعذرة على التأخير ..

لا أخفيك ...
أطلت الإجابات .. ولكنها رغم طولها
ورغم أنك أسهبت جداً في الاجابة
إلا أنني أجد أن سيرتك وذكرياتك أيام الطفولة كنوزاً
فلم تكن حكاية تحكى
إنما كانت دروساً في التراث الفلسطيني
فلم تترك لا الحيوانات ولا الحشرات ولا الجان
وكذلك المياه
والآبار ومسمياتها ... الخ
أما ما لفت انتباهي بعد استعراض ما كتبت ..
تلك النسوة الأربعة اللواتي تركن فيك أثراً
ويبدو أن غياب الأم هو الذي جعل من وجودهن تأثيراً على حياتك
على أية حال...
لي طلب ..
وهو ..
الرجاء .. أكتب ما تراه هاماً في حياتك وتعتقد أنه جدير بالكتابة ..
مع الشكر والتقدير
ووافر الاحترام

تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 04-14-2016 11:32 PM

اشكرك استاذة ناريمان

كنت قد حزمت امري بان اتوقف عن الكتابة التفصيلية وسوف أتوقف عن نشر باقي السيرة هنا وسأفتح المجال للأسئلة ان وجدت وسوف أجيب باختصار حتما ، لكني لن أتوقف عن كتابة سيرتي وقد قطعت هذا الشوط ، واشكرك واشكر كل من تفاعل معها مما أعانني على إنجاز هذا القدر، وهو امر ليس سهلا ويتطلب الدعم والمساندة وسأحاول استكمال وإعادة كتابة ما دونته حتى الان، ولعلي انشره ان وجدته مجديا في نهاية المطاف ويستحق النشر في رواية من نمط السيرة .

اشكرك جزيل الشكر واعتذر عن الإطالة *

ناريمان الشريف 04-20-2016 07:55 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 207757)
اشكرك استاذة ناريمان

كنت قد حزمت امري بان اتوقف عن الكتابة التفصيلية وسوف أتوقف عن نشر باقي السيرة هنا وسأفتح المجال للأسئلة ان وجدت وسوف أجيب باختصار حتما ، لكني لن أتوقف عن كتابة سيرتي وقد قطعت هذا الشوط ، واشكرك واشكر كل من تفاعل معها مما أعانني على إنجاز هذا القدر، وهو امر ليس سهلا ويتطلب الدعم والمساندة وسأحاول استكمال وإعادة كتابة ما دونته حتى الان، ولعلي انشره ان وجدته مجديا في نهاية المطاف ويستحق النشر في رواية من نمط السيرة .

اشكرك جزيل الشكر واعتذر عن الإطالة *


طبعاً لا داعي للاعتذار فقد أسلفت ُ أن ما كتبته هو تاريخ وجغرافيا وتراث
سلمت يداك والله يعطيك العافية ..
ولكن ملاحظتي لكي لا يمل القراء من الاطالة وأنت تعي جيداً أن الناس هذه الأيام لا تحب كثيراً
مواصلة القراءة للمواضيع الطويلة
والآن ..
كلنا نعرف أن أي كاتب يكتب سطراً في حياته يكون قد تعرض لأمر دفعه لذلك
ولكل كاتب حافز ودافع ومسبب لكي يكتب
فما هي الأمور التي تدفعك للكتابة ؟؟
وبأي موضوع تجد نفسك كاتباً ؟
تقبل احترامي

تحية ... ناريمان الشريف

ايوب صابر 05-11-2016 01:00 PM

شكرا استاذة ناريمان على مساعدتك لي بدفعي للكتابة حول سيرتي الذاتية.
اتصور انني سوف احصل في النهاية على رواية جميلة من نمط السيرة الذاتية ولك الفضل في ذلك، لكن بعد اعادة الكتابة واخذ ملاحظات بعض المطلعين والخبراء في المجال.
قرأت خلال الايام القليلة الماضية السيرة الذاتية لكل من فدوى طوقان ووجدتها ملخصة جميلة رشيقة وجريئة جدا تخوض في قضايا ما كنت اتوقع ان تخوض فيها انثى عاشت في مثل ذلك الزمن واظن ان هذا ما اعطاها قيمة مضافة، وروايتها تعالج اهم الاحداث في حياتها وتغطي فترة زمنية طويلة من 1917 وحتى حرب ال 67.
وبدأت اقرأ السيرة للكاتب التلحمي جبرا ابراهيم جبرا ووجدته يطيل الشرح والتفصيل ووجدت رواية فدوى طوقان اكثر رشاقة وتشويق رغم ان في تفصايل روايته شي جميل ايضا لكنني شعرت ببعض الملل وانا اقرأ ولم اكن مندفعا كما حصل معي وانا اقرأ سيرة فدوى طوقان حتى انني ككنت افضل القراءة على النوم..
ساحاول الاستفادة مما كتباه حول السيرة الذاتية في مقدمتي روايتيهما وآخذ بملاحظاتك المهمة اضفى الى التغذية الراجعة من كل من يطلع عليها لاتمكن من اخراج نسخة مكثفة ومؤثرة تعالج قضايا الالم والمعاناة على رأيك والجوانب المهمة في حياتي والاحداث الفاصلة ، اضافة الي تلك الجوانب التي تضفي على النص الجو السردي الجميل، وتجعله مشوقا مؤثرا...


س- كلنا نعرف أن أي كاتب يكتب سطراً في حياته يكون قد تعرض لأمر دفعه لذلك ولكل كاتب حافز ودافع ومسبب لكي يكتب فما هي الأمور التي تدفعك للكتابة ؟؟ وبأي موضوع تجد نفسك كاتباً ؟


-بعيدا عن النظريات التي تحاول تقديم تفسير للحافز الابداعي اتصور ان مصدر رغبتي في الكتابة له علاقة بيتمي واظن ان اليتم يتسبب في ارتفاع منسوب الطاقة الذهنية وعندما تترتفع هذه الطاقة تبدأ تتفلت وتخرج على شكل ابداع اذا ما امتلك الانسان ادوات الابداع التي لا بد ان يمتلكها من خلال التجربة والتكرار والمطالعة والتقليد بداية ثم يكتشف طريقه ليعبر عن نفسه باسلوبه الخاص ونهجه المميز.

كنت اظن بداية ان الكتابة الابداعية بحث عن الاكتمال Search for fulfillment , وهذا يعني ان شعورا بالنقص يؤدي بالانسان ان يتحرك في بحثه عن الاكتمال ويملأ النقص الذي يشعر به لكنني عدلت عن هذه الفكرة لاحقا وملت الي الاعتقاد بأن الموضوع مرتبط بنسبة الطاقة التي تتفاعال في الدماغ فكلما زادت الطاقة كلما وجدت الحاجة للتعبر الابداعي...

اما ما هي الدوافع المباشرة فاظن ان محاولاتي في مجال الكتابة الشعرية والتي صبغت بداياتي الابداعية كانت نتيجة للحظات انفعال تترجم عقليا الى منتج ابداعي...لكن في مرحلة لاحقة يبدأ الانسان وبعد ان يمتليء بالمعرفة يدفع نفسه للكتابة بصورة عقلية واعية، ولو ان العقل الباطن ما يلبث ان يتولى العمل ومتابعة عملية توليد النص الابداعي.

واميل كثيرا الى الاعتقاد بأن الابداع يحقق نوع من التوازن من خلال تفريغ المنسوب العالي للطاقة في الدماغ فيكون العمل الابداعي مثل الولادة، ويجد الانسان نفسه مرهقا بعد كل عملية ابداعية وكان طاقته نضبت ، لكن الطاقة تعود فيرتفع منسوبها من جديد وكأن في الدماغ مولد للطاقة الدماغية ويتسارع عمل هذا المولد بالاحداث المؤلمة والمأسي والمواقف الصعبة والمؤثرة فترتفع نسبة الطاقة من جديد وهكذا تصبح العملية الابداعية عملية مستمرة وتحقق نوع من الرضا والتوازن خاصة اذا ما لقيت من يرحب بها ويصفق لها...


ايوب صابر 05-24-2016 02:42 PM

منذ توقفت عن نشر مذكراتي هنا توقفت عن الكتابة واسكمال ما كنت قد بدأته هنا من مشورع لانجاز رواية من نمط السيرة الذاتية..حيث يبدو ان النشر والتفاعل مع ما ينشر ادوات تحفيز مهمة..لذلك قررت ان اعود للكتابة ونشر فصول اخرى من سيرتي الذاتية خاصة انني اثناء هذا التجربة تعلمت الكثير عن هذا النمط من الكتابة ولعلني في نهاية المطاف احصل على رواية من هذا النمط ذات قيمة عالية...
عسى ان تشجع هذه الخطوة الزملاء في منابر من كتابة ونشر سيرتهم الذاتية خاصة لمرحلة الطفولة وهي كما علمنا من احد اوائل كتاب السيرة الذاتية عملة نادرة..لكنها مهمة للغاية نظرا لما تلقيه من ضوء على الشخصية الانسانية والعلاقة بين فترة الطفولة وما يكون عليه الانسان لاحقا ...

عسى ان يحظى ما انشره هنا بالبقول والتفاعل...فالتغذية الراجعة وسيلة مهمة لتطوير العمل الادبي وتحسينه..

وكل الشكر والتقدير لكل من يمر هنا ليقرأ ما اكتبه او يضع تعليقه ونقده بحرية تامة ودون مجاملات..


ايوب صابر 05-24-2016 02:45 PM

تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



وعلى الرغم من اتساع دائرة الألم والخوف والتعاسة والشقاء ورائحة الموت في زمن الطفولة المبكرة لكن الحياة كانت في جميلة، ولذيذة، في جوانب كثيرة منها، فلم تكن الحياة شريط متواصل من الألم، وانما كانت تتخلل كل تلك الظروف أوقات سعادة عارمة كنت اعيشها انا الطفل، ولو ان نسبة السعادة الي الشقاء هي أقرب الي نسبة اليابسة الى الماء في كرتنا الأرضية...او هي بضعة صفحات في موسوعة الم طويلة، ويصدق عليها وصف الشاعر:
كتاب حياتي يا عين ...ما شفت زي كتاب
الفرح فيه سطرين..... والباقي كله عذاب
وقد انطبعت تلك الجوانب السعيدة ولحظات الفرح من حياة الطفولة عندي على شكل صور لا تمحى ابدا في ذاكرتي...

ومن ذلك تلك الأوقات التي كنت امضيها في اللعب مع الأطفال حولي، من الاخوة، والاقارب، او أبناء الجيران، وبعضهم كانوا قريبين جدا منا، يعيشون معنا معظم الوقت، وكأنهم من افراد العائلة...
وكانت العابنا في ذلك الزمن مختلفة تماما عما تطورت اليه الألعاب في أؤخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن الحادي والعشرين...كانت العابنا بدائية مصنوعة محليا وبأدوات بسيطة لا تكلف شيئا...بل كنا نحصل على معظم مكوناتها في الاغلب من النفايات...

وربما كانت المرجوحة المعلقة في اغصان شجرة التوت في ساحة الدار الامامية هي اهم تلك الألعاب على الاطلاق، فقد كنا نتمرجح فيها طوال الوقت تقريبا، خاصة عندما تكون شجرة التوت مكسوة بالأوراق الخضراء الكثيفة والتي تصنع ظلا ظليلا يجعل المكان ربيعيا ممتلئا بهجة وجمالا خلابا، او حتى لو كانت جرداء عارية من الأوراق في ايام الخريف وبداية موسم الشتاء حيث تختفي تلك اللمسة السحرية والظل الوارف الظليل في المحيط كنتيجة لتساقط الأوراق، لكن المرجوحة تظل معلقة هناك لمن يريد ان يتمرجح...حيث ما تلبث رحلة بروز تلك البراعم ان تنطلق من جديد لتتحول في وقت قصير الى اوراق خضراء عريضة معلنة عودة موسم الربيع وبالتالي عودة موسم الخير والفرح واللعب والسعادة الغامرة...

وكنا نلعب الاوكزة وهي عبارة عن رسم على الأرض بالخط الأبيض الطباشيري ان وجدت الطباشير او أي لون اخر يمكن ان يتوفر مثل لون الفحم الأسود من موقد النار، ويكون الرسم مكون من ستة مربعات متساوية ترسم على الأرض حيث يقفز فيها اللاعب ضمن طقوس معينة للعبة تلك...
كذلك كانت لعبة طاق، طاق، طاقية واحدة من أشهر الألعاب الجماعية، حيث يجلس الأطفال على شكل دائرة ويقزم أحد الأطفال بالدوران حول الحلقة وهو يحمل منديل يضعه خلف شخص وهو ينشد طاق، طاق طقية، والمجموعة ترد عليه رن رن يا جرس...

كذلك كنا نلعب البنانيير او الجلول وهي تلك الكرات الزجاجية الملونة الجميلة، وكان الأطفال يستخدمونها في العاب مختلفة منها الجورة ...وقليلا ما كنا نلعب بالكرة لندرة الكرات على اختلاف أنواعها وخاصة كرة القدم، والمكان الوحيد الذي كنا نمارس فيه العاب الكرة ونستخدم فيه كرة حقيقية كانت ساحات المدرسة، وبعد ان يكون الطفل قد تجاوز مرحلة الطفولة المبكرة ودخل المدرسة، على الرغم اننا كنا أحيانا نصنع كرات من بقايا الثياب والاقمشة وبعض المواد الأخرى اللينة حيث نلفها ونجعلها على شكل الكرة الدائرية ونستخدمها وكأنها كرة حقيقة مع الفرق الشاسع في حركتها...
كذلك كنا نصنع من الاسلاك ان توفرت عجلات دائرية نوصلها بعصي طويلة او قضيب حديد وقد كانت هذه الصناعة اليدوية البدائية تشهد منافسة غير معلنة بين الاطفال حيث كان أكثر الأطفال ابداعا في صناعة تلك العجلات وأحيانا السيارات السلكية هو محمود العبد القادر الشقور الذي كان يتفنن في اشكال واحجام السيارات السلكية التي كان يصنعها، حيث ما نلبث ان نحاول تقليدها في اشكالها وأسلوب حركتها...

ومن الصفحات الأخرى الجميلة التي ما تزال مطبوعة بروعتها وجمالها في ذاكرتي كان انتظار موسم الشتاء، وسقوط حبات المطر الذي كان يبدو غزيرا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مقارنة بما يسقط الان، وكانت تلك بحق من الصفحات الجميلة التي كنت انتظرها بشوق، واستمتع بها اشد الاستمتاع. وكانت حبات المطر الساقطة من السماء تبعث في سعادة عارمة لاسباب خفية لا ادرك كنهها، وكنت انطلق حينما تتجمع المياه للعلب فيها، وكانت اللعبة المفضلة في مثل تلك الأوقات هي صنع القوارب الورقية التي كنا نضعها في تجمعات المياه تلك وندفعها ونحن في غاية السعادة والمرح...
وكنا أحيانا نذهب الي الاودية حينما تمتلئ بمياه الامطار...على الرغم من المخاطر الكبيرة التي كانت تمثلها المياه الجارية...

كما ان غزارة المطر في بداية الموسم كان يعني فقس الفطر في جبال قرية ديراستيا المجاورة وتحت أشجار البلوط وهو الذي كان يندفع الناس لجمعه في طقوس جماعية احتفالية وهم في غاية السعادة والمرح خاصة لمن يمتلئ دلوه بالفطر الجبلي البري اللذيذ ... وكانت الجلسة حول كانون النار، فاكهة الشتاء، من أروع الأوقات حتما، وكنا نستمتع ونحن نتسابق على وضع الحطب في الكانون، وكانت هذه طقوس يوميه نمارسها مع ساعات الغروب طوال فصل الشتاء...

كما كنا ننتظر الربيع موسم الخير على أحر من الجمر...الذي ما ان يحل حتى تكثر رحلاتنا الي البر، احيانا من اجل التقاط بعض الحشائش البرية التي تؤكل مثل الخس البري، والفقيس وهي نباتات اشبه بالبطاطا لكنها برية وكنا اكثر ما نجدها في الحقول المزروعة قمحا...وأحيانا للبحث عن اعشاش الطيور خاصة اعشاش طائر الحجل (الشنار) الذي تضع انثاه البيض في بداية شهر اذار وهي أيضا طقوس تمارس بشكل جماعي حيث تجد عددا كبيرا من الناس تروم الأرض تبحث عن تلك الاعشاش...
وكثيرا ما كنت ارافق والدي في هذا الموسم الي البرية، وهو موسم كان يشهد أيضا طقوس حراثة الأرض، وتنظيفها من الأعشاب، وتقليم الشجر، وكنت أجهد انا اثناء ذلك في البحث عن اعشاش الطيور في الأماكن المجاورة رغم المخاوف من الافاعي...

ثم كان موسم نضوج الثمار المشمش والتوت والدراق وغيرها من الثمار الصيفية أيام احتفالية جميلة، ومصدر سعادة وهناء...وبالإضافة الي اكل ثمار التوت الشهية كنا نترقب وصول العصافير أبو طبعة حمراء وأبو طبعة سوداء من اجل اصطيادها من على شجر التوت سواء بالنقافة او بالقوس المصنوع من خشب السويد...اما انتظار موسم التين والعنب مع اشتداد حرارة الصيف فتلك احتفالية أخرى هي الاجمل حتما وكنا أيضا نمارس صيد العصافير من صنف التويني هذه المرة، والذي يحبذ اكل ثمرة التين، وكان الصيد من على شجرة التين أسهل بكثير حيث كنا نقوم على قطع كل الثمار الناضجة ولا نبقي الا تلك المغروسة في رأس القوس فلا يكون امام العصفور الجائع الا القفز على العود الذي نجعله فخا منصوبا لاصطياده من اجل ان يأكل من تلك الثمرة الناضجة فيتحرك ذلك العود ( الكرزم ) من مكانه فيسقط العصفور في الشرك وهو عبارة عن خيط من القنب يربط به طرفي القوس فيصبح العصفور اسيرا من رجليه التي كنا نجدها مكسورة في أحيان كثيرة من شدة القوس او من شدة الحركة التي يقوم بها العصفور وهو يحاول التملص من القوس بعد وقوعه في الاسر...

وكانت أيام جني ثمار الزيتون من أجمل أيام السنة، وهو أيضا موسم جماعي وعلى الرغم من مشقة جني ثمار الزيتون لكنه موسم كان يبعث على سعادة عارمة عند الجميع خاصة إذا كان الموسم ماسية أي ان الشجر غزير الإنتاج...ولا اظن ان هناك ما هو الذ من الطعام أسفل شجرة زيتون، ولو كان طعاما بسيطا مكون من الخبز والزيت وحبات البندورة ...واذكر انني كنت استمتع بسماع اغاني النساء اللواتي كن يعملن معنا في جمع الحب، ومنهن واحدة اسمها حلوة سليمان حينما يبدأن بالغناء الشعبي للتسلية وشحذ الهمم. ومن تلك الأغاني اغنية "عاونيني يا يدي حتى اروح بلدي" وهي طريقة كانت تبعث الحماس في العالمين وتحثهم على الصبر في عملية التقاط حب الزيتون المضنية...وكانت لحظات المساء في موسم الزيتون خاصة رائعة في نكهتها وجمالها وشعبيتها وطقوسها وكأن القرية تظل في عرس مستمر باستمرار موسم الزيتون ولم يكن هناك الذ من طعم الحمص والفلافل الطازجة في امسيات ذلك الموسم حيث كانت دكاكين القرية تقدم خدمات إضافية لا تقدمها عادة في غير موسم الزيتون...

كما كانت أيام درس ثمار الزيتون بمثابة ايام عيد حقيقية...وكان كل ما يتعلق بأيام درس الزيتون جميل ولذيذ وباعث على الفرح والسعادة، وكنا نذهب الي معصرة الزيت مع ساعات المساء غالبا نلهو ونحرس الثمار التي نضعها في احواض خاصة توفرها المعصرة لوقت عصرها. فقد كانت معدات عصر الزيت بدائية وبطيئة، حيث كان الثمر يوضع تحت حجارة ضخمة تدور فوقها بقوة ماتور كهربائي مصمم لتلك الغاية، ثم يتم وضع المسحوق في اوعية مصنوعة من خيوط القنب، وتوضع هذه الاوعية بعد ملئها على مكابس تعمل بالضغط الهيدروليكي، حيث يتم ضغطها فينزل منها السائل بلونه الأسود القاتم، حيث يتم فرزه بفرازة خاصة تقوم على فصل الزيت فيتدفق من مكان خاص بلونه الأخضر الجميل المائل الي اللون الأصفر...بينما يسيل الزيبار اسود اللون من الفرازة باتجاه بئر مجاور...

وكان وصول الزيت الجديد الى البيت يعني حفلة موسمية يتم خلالها عمل حلويات المطبق وهي عبارة عن خبز طحين عادي لكنه يخبز بطريقة خاصة وبحيث يتم خلط الخبز بالكثير من الزيت ويضاف الى الخبز السكر الأبيض ومسحوق ثمار اللوز، وهي اكلة لذيذة ينتظرها الناس من موسم الي اخر...
ومن الصفحات الأخرى التي كانت باعثه على السعادة والبهجة في نفسي، كانت لحظات انتظار الخبز امام الطابون حيث كنت كثيرا ما انتظر الرغيف الساخن لأضيف اليه بعض الزيت والملح وأحيانا عصير او رب البندورة وكانت هذه، وما تزال من الذ الاكلات الشعبية التي كثيرا ما كنت أفضلها على الوجبات الساخنة حتى في افطارات رمضان...

وكان انتظار غياب الشمس وترقب صعود الخطيب في شهر رمضان على سطح منزله الواقع في غرب القرية لحظات لذيذة لا تنسى ابدا، حيث كنا ننتظره نحن الأطفال ونحن نلعب على ظهر منزل يقع في الجهة الشرقية المقابلة من القرية ...وكنا كثيرا ما ننشد ونحن في انتظار موعد الإفطار بشكل جماعي أناشيد شعبية فنقول مثلا " اذن يا خطيب قبل الشمس اتغيب..." ومنها يا مفطر في رمضان...

وكان الوقت الذي كنت اقضيه مع والدي رغم فرق السن حتى عند بلوغي مرحلة الوعي الأولى فبينما كنت انا في السادسة كان هو والدي في الثانية والستين، رغم ذلك كان ذلك الوقت الذي كنت اقضيه بجواره خارج المنزل وسواء في باحة الجامع عند صلاة المغرب، او اثناء جلوسه مع بعض اصدقاؤه، وقتا جميلا ومفيدا فقد كنت استرق السمع لبعض أحاديث الكبار وظني انني تعلمت منه أشياء كثيرة عن الحياة والناس اثناء تلك الجلسات...

وكان وقت قطاف العسل ومن ثم عصر أقراص العسل في ظل شجرة التوت في ساحة الدار من اجمل اللحظات والتي كانت اشبه بطقوس احتفالية حيث كانت تتم هذه العملية بصورة يدوية تتطلب الكثير من الجهد...

وكانت رفقتي لوالدي اثناء الزيارات الي مدينة نابلس القريبة من أجمل الأوقات في طفولتي المبكرة، ومثل تلك الزيارات كانت نادرة في زمن طفولتي نظرا لغياب وسائل النقل وربما بسبب حالة الفقر التي كانت سائدة...

واذكر ان والدي كان يبدو وهو خارج المنزل مرحا مبتسما، ومنطلقا، منشرحا خفيف الظل وهو يتبادل الحديث مع اصدقاؤه والاخرين، بينما كنت اجده وهو في المنزل جديا متجهما في الغالب لا يكاد يبتسم ابدا، رغم اننا في بعض الأحيان وخاصة اثناء سهرات العائلة، كنا ندفعه للضحك... وغالبا ما كان ضحكه إذا ما نجحنا في التحايل عليه ودفعه للضحك يأتي خارج عن السيطرة، حتى اننا كنا نخشى عليه من شدة تلك الضحكة النادرة، لكنه إذا ما اصابته نوبة الضحك تلك ما يلبث ان يظهر تشاؤما، ويبدأ في التحسب لوقوع شر ما؟ ويبدأ في الدعاء بأن يكفيه الله شر ذلك الضحك. فقد كان والدي يخشى الضحك الشديد ويعتبره مؤشر لوقوع شر ما؟! واظنه كام متشائما في سنه تلك، وكثيرا ما كان يردد بصوت جميل مرتفع بضع ابيات شعر من تغريبة بين زيد، ابيات حزينة ما ان تسمعها حتى تصاب بنوع من الكآبة والحزن... فكثيرا ما كان والدي يردد ابيات شعر تتقول :
لا تفرحوا للطير ان أجا ابلادكم ...ما جاب هالطير الا أمور عجايبة.

والغريب انه كان يصيب في توقعه في كل مرة...وكنا شهود على ذلك حتى اننا أصبحنا في كل مرة كان يضحك فيها بعمق نتوجس مثله من شر منتظر... وغالبا ما كان يطول انتظارانا حتى يحصل امر يقلب جو الفرح والمرح الى جو من النكد والكآبة...


ناريمان الشريف 12-29-2017 08:17 AM

أشكرك أخي أيوب على المتابعة على الرغم من تقصيري في الرد
أحداث طفولتك أعتقد أنها لا تختلف كثيراً عما كان يعيشه الطفل الفلسطيني
فلعبة ( البنانير والحجلة وو غيرها ) كلها عشناها وشاهدناها في حاراتنا الضيقة والمكتظة بالصغار
أما طقوس رمضان وانتظار الأذان فهي الأخرى عشتها انا شخصياً حيث كنا ننتظر أذان المغرب بفارغ الصبر .. ننتظر أن يقول المؤذن : الله أكبر لنأكل ما خبأناه خلال نهار الصيام من حلوى اشتهتها المعدة
وقبل اكتمال الأذان نكون قد أودعناها المعدة .. ثم نسرع إلى البيت لنستكمل الأكل مما أعدته الأم للإفطار ...
إيه ما أجملها من أيام .. رغم الفقر وبساطة الأحداث إلا أنها كانت جميلة
استمر ... وأنا سأواصل المتابعة
تحية ... ناريمان

ناريمان الشريف 04-23-2018 10:02 PM

أين أنت أستاذ أيوب
السلام عليكم
نحن بانتظارك ..
أود منذ فترة أن أسأل سؤالاً يخطر على بالي :
أرى من خلال كتاباتك أنك من القارئين وأنك تميل إلى الكتابات الطويلة
علماً بأننا في عصر الاختصار .. وقلما تجد أناساً يحبون الإطالة
ألا تشعر بالملل من الكتابات الطويلة
وإن حصل كيف تقوى عليه وتبدده ؟
وسؤال آخر ملح جداً وهو : ألاحظ أنك تميل أيضاً للكتابة عن تأثير اليتم وعلاقته بالإبداع
فكيف بدأت عندك فكرة الميل للكتابة عن الأيتام وإبداعهم
مع الشكر الجزيل
تحية

صبا حبوش 06-29-2018 06:25 AM

استمتعت في قراءة تلك الذكريات ..
ما أتمناه حقاً أن تكمل مشروع الرواية وتكون سيرة ذاتية مليئة بالفقد تارة والحب تارة
والحنين والغربة و مشاعر تشابكت بشكل غير مألوف تارات أخرى..

عبدالله الشمراني 02-14-2019 10:59 AM

تشرفت بالاطلاع على اغلب أجزاء هذا الحوار الجميل مع استاذنا أيوب صابر ( خليل ) ..
كان حوارا شيقا وجميلا وفيه من العبر ما نحن احوج اليه منه ..
شكرا للسيدة الكريمة ناريمان التي اجادت إدارة هذا الحوار ..

ايوب صابر 03-06-2019 10:07 AM

ربنا يسعدك شكرًا الك.

ايوب صابر 03-06-2019 10:09 AM

طب شو رايك نعمل معك حوار دكتور عبد الله الشمراني لعل مثل هذا الحوار يساهم في تنشيط تفاعل الاعضاء أيضاً مع هذا الصرح ؟

العنود العلي 06-07-2019 03:49 PM

رد: لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
 
لقاء مشوق وحوار أكثر من رائع

للأديب الرائع خليل حمد

شكرآ للأستاذة الفاضلة ناريمان

تقبلوا إحترامي وتقديري

ناريمان الشريف 09-22-2019 10:00 PM

رد: لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
 
سعيدة بتفاعلكم من جديد مع هذا الموضوع
اهلا بك أخي أيوب صابر
لك ولكل من شارك أزكى تحية


الساعة الآن 03:58 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team