منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الحوارات الثقافية العامة (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=4)
-   -   حدائق الايمان فى حرب رمضان (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=1629)

محمد جاد الزغبي 10-22-2010 01:26 AM

خطة تطوير الهجوم وأسبابها :
كانت الخطة المعدة الأساسية لتطوير الهجوم باعتبارها المرحلة الثانية من الخطة بدر , تقتضي عددا من الضوابط التي غابت عن التنفيذ الفعلى لهذا التطوير ,
فبعكس المرحلة الأولى التي جرى فيها التطبيق مطابقا تماما للخطة الموضوعة وبحرفية بالغة , فقد تعرضت خطة التطوير لتعديلات جوهرية أملتها ظروف القتال السياسية مما كان له أثر كبير في تعطيلها ,
وبدأت الأحداث يوم 12 أكتوبر عندما فاتح المشير أحمد إسماعيل وزير الدفاع المصري رئيس أركانه الفريق الشاذلى في أمر تطوير الهجوم نحو الشرق ,
واعترض الفريق سعد الشاذلى ـ وكان له حق في اعتراضه ـ باعتبار التوقيت الغير المناسب الذى يطلبه الوزير حيث لم تستكمل قواتنا بعد استعدادها لتنفيذ التطوير وفق توافر عناصر نجاح الخطة والتى كان أهمها ضمان الحماية الجوية للقوات خارج حائط الصواريخ المصري عن طريق تأمين القوات بالدفاع الجوى المتحرك ,
كذلك لم تكن معلومات الإستطلاع كافية عن مواقع العدو ولم تتوافر أى صور جوية لجبهة القتال وهو ما يعنى أن تقدم القوات سيكون نحو المجهول , فى مواجهة عدو يمتلك كافة المعلومات

وفى اليوم التالى ـ ورغم اقتناع الوزير بوجهة نظر رئيس الأركان ـ إلا أنه عاد ففاتحه في نفس الموضوع وأبلغه أنها تعليمات سياسية بضرورة التطوير لتخفيف الضغط على الجبهة السورية التي كانت تعانى من تركيز في طيران العدو سبب لها خسائر ضخمة ,
ففي تلك المرحلة وجهت القيادة السورية رسائل عاجلة متواصلة عن طريق اللواء بهى الدين نوفل رئيس الأركان للقوات المشتركة كى تقوم مصر بتطوير الهجوم الشرق بأسرع ما يمكن كى تخفف الضغط على السوريين ,
وتحت هذا العامل الحساس لم يستطع الرئيس السادات أن يطلب مزيدا من الوقت فأصدر قراره السياسي الإلزامى للقوات المسلحة أن تقوم بتطوير عملياتها نحو الشرق يوم 13 أكتوبر ,
وكان اعتراض الشاذلى مبنيا على الخط الإستراتيجى الذى تقرر في مؤتمر الدفاع العربي المشترك عام 1971 م عندما أعلن وبوضوح أن مصر وسوريا إذا دخلا الحرب معا فلن يكون باستطاعة أحدهما أن تخفف الضغط عن الأخرى إذا تطلب الموقف ذلك الأمر , وأنه يجب عمل الحسابات على ذلك الأساس ,
فسوريا لا تستطيع تخفيف الضغط على مصر لأنها لن تستطيع أن تعبئ في مواجهة العدو طاقة أكبر من إمكانياتها ومصر لن تستطيع لأن الخروج من حائط الصواريخ أمام طيران متفوق للعدو لن يخفف الضغط
وقد اقتنع المؤتمر العسكري العربي بهذا الأمر في وقته [1]
ويضاف على ذلك حقيقة هامة للغاية كان الشاذلى يؤيد بها موقفه وهى أن العدو يحشد أمام الجيش المصري 8 ألوية مدرعة كاملة بينما يحشد على الجبهة السورية ست ألوية مدرعة ,
وليس متصورا أصلا أن يقوم العدو بسحب أى لواء مدرع من الجبهة السورية للمصرية لأنه لا يحتاج ذلك مهما كان ضغط المصريين لأن قوة الجيش المصري المواجه كانت أربعة ألوية مدرعة فقط أى أن العدو يتفوق عليه بالضعف ولا يحتاج أى إضافة ,
( ولفائدة القارئ فإن أمر تفوق العدو في المدرعات لم يقتصر فقط على أنه يحشد أمام المصريين 8 ألوية في مواجهة أربعة ألوية بل إن التفوق العددى يميل للعدو أكثر لأن اللواء المدرع العربي قوته 90 دبابة فقط بينما اللواء المدرع الإسرائيلي قوته 120 دبابة )
فأى تخفيف يتوقعه السادات من جراء تطوير الهجوم في هذه الحالة ؟!

غير أن وجهة نظر السادات كانت تستند إلى أن القوة التي يهدف لسحبها من العدو هى القوة الجوية حيث يهدف إلى جذب القوة الجوية للعدو إلى الجبهة المصرية لأن طيران العدو كان السبب الرئيسي في الخسائر الجسيمة التي تلقتها القوات السورية
بعد اندفاعها وخروجها من نطاق حائط الصواريخ ,
وتحت ضغط الأمر الواقع قام الفريق الشاذلى بإصدار الأوامر بإتمام أمر الهجوم صباح يوم 13 أكتوبر ,
وقام اللواء محمد غنيم بحمل التعليمات إلى قائد الجيش الثانى اللواء سعد مأمون , وقام اللواء طه المجدوب بحمل التعليمات إلى اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث ,
ودون ترتيب مسبق اتصل قائدا الجيشين وفى نفس الوقت تقريبا بالفريق الشاذلى معترضين على تنفيذ الأوامر بتطوير الهجوم بنبرة غاضبة مستنكرة لعدم جاهزية القوات في هذا الوقت ,
وإثر اعتراض قادة الجيوش تقرر أن يتم استدعاء قائدى الجيشين إلى المركز رقم 10 للوصول إلى حل , في ضوء سماع اعتراضاتهما المبنية على موقف الجيوش ميدانيا ,


الهوامش :
[1]ـ برنامج شاهد على العصر ـ شهادة الفريق الشاذلى ـ تقديم أحمد منصور ـ قناة الجزيرة

محمد جاد الزغبي 10-22-2010 01:28 AM

وتلخصت اعتراضات قائدى الجيشين في نفس المبررات التي سبق أن اعترض بها الشاذلى وأضافوا إليها صورة الموقف الميدانى المتمثلة فيما يلي :
أولا : العدو حشد ثمانية ألوية مدرعة بقوة 800 دبابة في مواجهة أربعة ألوية مصرية 400 دبابة فقط
ثانيا : الإفتقار الشديد للمعلومات حول مواقع العدو والتى لا غنى عنها لتنفيذ أى هجوم ناجح حيث أن عناصر الإستطلاع المصرية التي كان لها دور كبير في عمليات صد الهجوم قام الإسرائيليون باكتشاف أماكنهم والتخلص منهم بعد أن رصدوا وجودهم نتيجة دقة المدفعية المصرية في إصابة أهدافها مما استنتج معه العدو ضرورة وجود عناصر توجيه
ثالثا : لدى العدو رصد كامل وصور دقيقة عن أوضاع القوات المصرية بسبب طائرات التجسس التي عبرت فوق الجبهة واستكمل بها العدو معلوماته
رابعا : عدم جاهزية سلاح الطيران المصري لحماية القوات المتقدمة والتى ستخرج من نطاق حائط الصواريخ المصري والذي وقف سابقا خلف نجاح قواتنا خلال الفترة السابقة بعد أن تم تحييد الطيران الإسرائيلي ,
خامسا : عدم جاهزية كتائب الدفاع الجوى المحمولة لأخذ أماكنها لتحل محل حائط الصواريخ لأن هذه الكتائب في حاجة لمزيد من الوقت كى يتم تنظيمها ودفعها , وطلب تطوير الهجوم في التوقيت الحالى لا يفي أبدا بالوقت المناسب ,

وأصر السادات على موقفه ولم يستجب للقادة إلا بشكل جزئي عندما قام بتأجيل الهجوم من 13 أكتوبر إلى 14 أكتوبر أى لمدة أربع وعشرين ساعة فقط في أول تدخل سياسي في سير المعارك الحربية مما كان له الأثر السلبي بكل تأكيد على التفوق الكاسح الذى تمت به مراحل الحرب الأولى دون تدخل ,

وكانت الخطة التي تم إعدادها بغرض جذب المجهود الجوى للعدو إلى الجبهة المصرية تتمثل في أن يتم التطوير اعتبارا من أول ضوء يوم 14 أكتوبر ( أول ضوء وآخر ضوء تعبيرات عسكرية تفيد الغروب والشروق وتحديد القتال النهارى والليلي ) على أن يسبقه تمهيد بالمدفعية لمدة 15 دقيقة مع ضربة جوية مركزة ضد الأهداف المعادية في العمق ,[1]
بينما تركز قوات الدفاع الجوى مجهودها في تأمين قوات الإشتباك في اندفاعها إلى المحاور الأربع الرئيسية للهجوم , وهى :
محور ممر متلا : لواء مدرع من الفرقة 4 المدرعة للإستيلاء على الممر الغربي وتأمينه , وتعاونه كتيبة مشاة ميكانيكى من الفرقة 6 مشاة ميكانيكى تعمل كمفرزة أمامية ( المفرزة هى قوات متقدمة كدفعة أولى للهجوم )
محور ممر الجدى : لواء مشاة ميكانيكى من الفرقة 7 مشاة يتقدم شرقا بمعاونة اللواء 25 مدرع مستقل ( اللواء المستقل هو اللواء الذى لا يتبع فى قيادته فرقة معينة بل يتم تكليفه بمهام منفردا أو ملحقا بإحدى الفرق عند الحاجة )
محور الطاسة : ونظرا لخطورة هذا المحور باعتباره أكثر المحاور حيوية بالنسبة لقوات العدو فقد تقرر له فرقة كاملة مدرعة هى الفرقة 21 مدرعة
محور بالوظة : اللواء 15 مدرع المستقل

غير أن تطبيق الخطة شابه بعض القصور نتيجة العجلة ,
وسنتعرض لإحدى معارك التطوير كمثال على بقية المعارك وهى معركة اللواء 3 المدرع , فقد تمت جميعها بنفس الكيفية من الهجوم وجذب المجهود ثم الإرتداد لرءوس الكباري
ففي البداية لم يتمكن اللواء من الإستفادة بالضربة الجوية المعاونة له لعدم جاهزية الطيران
فضلا على ذلك أن اللواء 3 المدرع لم يستطع أن يحصل على وحدات الدعم المخصصة له مثل سرية المقذوفات المضادة للدبابات وسرية مدفعية 57 مم مضادة للطائرات وفصيلة مهندسين عسكريين ,
مما اضطره إلى أن يقوم بالهجوم بدون هذه الوحدات , واكتفي بالتمهيد النيرانى بالمدفعية لمدة 15 دقيقة , لم يكن لها أثر كاف أو قوى نتيجة لأن ضرب المدفعية تم بطريقة الضرب الحسابي لعدم وجود عناصر توجيه فى المقدمة تكفل للمدفعية تصحيح أهدافها لتدخل فى نطاق التأثير ,
ورغم هذا فقد نجح اللواء 3 المدرع فى تحقيق المفاجأة الوحيدة فى خطة تطوير الهجوم ـ حيث أن الخطة بأكملها كانت مكشوفة للعدو كما سبق القول ـ وذلك أنه عندما بدأ اللواء المدرع طريقه إلى هدفه لم يأت بالطريق المتوقع للعدو وقام بحركة التفاف للإفلات من الستائر المضادة للدبابات التى نشرها العدو أمام مواقعه ,
فاتجه اللواء المدرع محاذيا للجناح الأيسر للعدو من خلال وادى مبعوق ووادى المر ووصل إلى أبعد عمق بلغته وحدة مصرية فى حرب أكتوبر حيث وصل إلى الكيلو 25 فى عمق سيناء ,
وقد اعترفت المراجع الإسرائيلية أن المفاجأة الوحيدة التى جرت فى تطوير الهجوم المصري كانت طريقة الهجوم التى اتبعها اللواء 3 المدرع

وبدأت اشتباكات اللواء عندما تعرض لقصف الطيران المكثف بالإضافة لصواريخ إس إس 11 المضادة للدبابات ورغم الخسائر التى منى بها اللواء فقد استطاع الصمود واحتلال خطوط فتح مناسبة واشتبك بشدة مع قوات العدو ودمر له 13 دبابة , وخسر اللواء مجموعة مدفعيته نتيجة للقصف الجوى واستشهد فى المعركة قائد اللواء العقيد نور الدين عبد العزيز وتولى رئيس أركان اللواء المسئولية ونجح اللواء فى تأمين الخط المكتسب وطلب تدعيمه لاستكمال الهجوم نحو ممر متلا
وبعد أن أتم اللواء مهمته ونظرا للسيطرة الجوية للعدو وعدم وجود مدفعية مضادة صدر أمر قائد الجيش الثالث بارتداد اللواء إلى منطقة رأس الكوبري وتم ارتدادها إلى رأس كوبري الفرقة 19 مشاة دون خسائر إضافية , لتتم عملية إعادة كفاءة اللواء وتجديد خسائره بسرعة ,
وبمثل هذا النسق من الهجوم واستنزاف قوات العدو والإرتداد إلى رءوس الكباري تمت عملية التطوير على بقية نطاق الجيش الثالث ثم الجيش الثانى وساعدتها هذه المرة طلعات الطيران المركزة بعد إتمام استعدادها بالإضافة إلى قوة المدفعية المتمثلة فى 500 مدفع ضد أهداف العمق للعدو[2]



الهوامش :
[1]ـ المعارك الحربية على الجبهة المصرية ـ جمال حماد ـ مصدر سابق
[2]ـ حرب رمضان ـ اللواء حسن البدرى وآخرون ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-22-2010 01:29 AM

وفى أول أيام التطوير وقبل وصول النتائج حدثت مفاجأة غير سارة فى نطاق الجيش الثانى إذ أصيب اللواء سعد مأمون بأزمة قلبية مفاجئة نتيجة المجهود الخرافي المبذول وتولى مكانه اللواء تيسير العقاد رئيس أركان الجيش الثانى ثم تولى بعده بأيام اللواء عبد المنعم خليل مما كان له أثر سلبي فى كفاءة المتابعة نظرا لخبرة اللواء سعد مأمون فى أوضاع جيشه , ولم يكن هناك بد من تغيير القيادة للحالة الحرجة التى مر بها قائد الجيش واستدعت إخلاءه إلى مستشفي القصاصين ثم إلى مستشفي المعادى العسكري بالقاهرة رغم الإلحاح والإصرار الذى قام به اللواء سعد مأمون حتى لا يتم إخلاؤه ,
وهى فدائية عظيمة ضرب بها هذا القائد مثلا فى الإخلاص والبطولة ,
ويجدر بنا هنا أن نؤكد أن ما تردد حول أسباب الأزمة التى ألمت باللواء سعد مأمون غير صحيح , حيث تناولت بعض الأخبار أنه أصيب بالأزمة نتيجة فشل التطوير وهذا غير صحيح لأن الأزمة واكبته قبل وصول أى نتيجة فعلية لعملية التطوير وهو ما أكده اللواء سعد مأمون نفسه فى رسالته بهذا الشأن للمؤرخ العسكري جمال حماد
هذا فضلا على أن الأمر لم يكن فيه صدمة لهذه الدرجة التى تؤدى لانهيار قائد الجيش ! ولو أننا تأملنا الظروف التى أحاطت بقواد الجيوش والمقاتلين لأدركنا أن احتمالية إصابة أيا منهم بهذه الأعراض أمر طبيعى وغير مستغرب فى جو قتال مستمر لأكثر من عشرة أيام بلا نوم أو راحة تقريبا !

وعودة إلى أجواء القتال ,
فنتيجة للضغط الذى مثلته القوات المصرية ازدادت المعارك ضراوة في الأيام التالية واتسعت مساحة القتال لتشمل مساحة 15 ـ 18 كيلومتر شرقا ,
وفور أن اتخذ العدو الخطوة المطلوبة بتحويل قوته الجوية إلى الجبهة المصرية صدرت أوامر القيادة العامة للقوات بعودة المفارز المتقدمة إلى رءوس الكباري والإستعداد لصد الضربة المضادة المتوقعة من العدو خلال يوم 15 أكتوبر
وشهدت تلك المعركة أعنف معارك الدبابات فى التاريخ الحديث ,
فلم يحدث أن تكاثفت فى معركة واحدة مثل هذه الأعداد الهائلة من الدبابات على الطرفين ولا حتى خلال معارك الحرب العالمية الثانية , ولا حتى فى طريقة قتالها حيث وُجدت بعض الدبابات من الطرفين فى مواجهة مع بعضهما البعض ولا يفصلهما إلا متر أو مترين !
لا سيما وأن نطاق الأرض الذى جرت عليه المعركة كان ضيقا بالنسبة لحشد الدبابات الهائل الذى زاد عن 2000 دبابة من الجانبين فى مراحل متعددة كانت لإسرائيل وحدها 1200دبابة
وانطلقت هذه الدبابات فى مفارز متعددة استهدفت رءوس الكباري خلال 15أكتوبر بغرض تصفيتها والإستيلاء عليها , ومركزا هجماته على الجانب الأيمن للجيش الثانى الميدانى , واستخدم فى هذا الهجوم المروع فيض الدبابات الأمريكية الحديثة والأسلحة الجديدة المضادة للدبابات والمجهزة لمواجهة طريقة الهجوم المصرية فى استخدام المشاة ,
وفشلت جميع محاولات العدو لتصفية رءوس الكباري لترتد جميع قواته بعد أن فشلت فى تحقيق الهدف

وقامت القوات الجوية بدور جبار في تلك العملية حيث شهدت ساحة المعارك أروع إنجازات الطيران المصري خلال فترة عملية التطوير حيث نفذت القوات الجوية 500 طلعة وأسقطت للعدو 17 طائرة خلال معارك 14 أكتوبر الذى تقرر اتخاذه عيدا للقوات الجوية فيما بعد ,

وعند تقييمنا لعملية تطوير الهجوم شرقا ينبغي أن نعرف أولا الهدف الإستراتيجى منها وهو ــ كما يقول اللواء عبد المنعم واصل [1] ـ ليس الهدف الأصلي للخطة فى الوصول للمضايق بل هو تخفيف الضغط عن القوات السورية , ولهذا وفور أن تأكد للقيادة المصرية حدوث ذلك صدرت الأوامر بالتمسك من جديد برءوس الكباري واحتواء الهجمات المضادة ,
ولا شك أن عملية التطوير حازت اعتراض القادة للأسباب الوجيهة المتقدمة إلا أن الخطأ لم يستمر طويلا وتتخذ القيادة قرار استمرار الهجوم بغرض تنفيذ الجزء الثانى من الخطة باحتلال المضايق , بعد أن تداركت نفسها وعادت القوات من جديد فى حماية حائط الصواريخ ونجحت فى صد كافة هجمات العدو وتكبيده خسائر مروعة

إلا أن التأثير السلبي الكبير الذى أحدثته عملية تطوير الهجوم شرقا فى غير وقته المناسب لم يكن فى تنفيذ العملية ذاتها بقدر ما كان فى قرار القيادة دفع الفرقة 4 المدرعة التى كانت خلف الجيش الثالث والفرقة 21 المدرعة التى كانت خلف الجيش الثانى إلى الضفة الشرقية للمشاركة فى عملية تطوير الهجوم ,
فهاتان الفرقتان كانتا هما الضمان الإستراتيجى الموجود خلف الجيشين الميدانيين لمنع أى عملية تسلل يقوم بها العدو , ووجود هاتين الفرقتين ـ بعد أن رصدهما العدو ـ كان هو السبب الرئيسي الذى منع الجيش الإسرائيلي من تنفيذ عملية الإختراق والعبور إلى الضفة الغربية من ثغرة الدفرسوار ,
ومجرد وجودهما فى حد ذاته كان شهادة تفوق للتخطيط المصري بلا جدال حيث توقع القادة بدقة أن النقطة الوحيدة الصالحة للإختراق هى منطقة الفصل بين قوات الجيش الثانى والثالث عند منطقة الدفرسوار , رغم وجود نقاط أخرى عند أطراف القناة ,
وحددت القيادة هذه النقطة كنقطة محتملة يقوم من خلالها العدو بالنفاذ إلى الضفة الغربية وتهديد مؤخرة الجيشين وعمل البلبلة المطلوبة لكى يخفف من ضغط قواتنا عليه فى الشرق فنضطر لسحبها ونتخلى عن كل مكاسب الحرب فى الشرق لكى نواجهه فى الغرب بعد أن نجح فى الإختراق ,
أى أن التخطيط الإسرائيلي كان متوقعا بالكامل لدى القيادة المصرية التى اتخذت التدابير لمنعه بوضع فرقتين مدرعتين عند نقطة المفصل كفيلتان بتدمير أى قوة للعدو تحاول العبور
وفور أن أخطأت القيادة المصرية بسحب الفرقتين ودفعهما للعبور للشرق بغرض المعاونة فى تطوير الهجوم رصدت الأقمار الصناعية هذا التغير الجوهرى ليصدر قرار رئيس الأركان الإسرائيلي بتنفيذ خطة ( الغزالة ) أو ( القلب الشجاع ) كما يسمونها أيضا والتى شارك فيها شارون وكلمان ماجن وإبراهام أدان قواد المدرعات ووضعوا عليها كافة آمالهم فى الحرب لتتحطم تلك الآمال تحطيما على صخرة الدفاع المصري فيما بعد وتفشل إلى الأبد محاولة إسرائيل بتغيير مجرى الحرب كما سنرى



الهوامش :
[1]ـ مذكرات عبد المنعم واصل ـ دار الشروق ـ

محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:05 PM


قــصة الــثــغــرة




ونأتى لواحدة من أهم معارك حرب أكتوبر والتى بدأت كفرصة إسرائيلية وانتهت كفرصة مصرية للإطاحة بنصف الجيش الإسرائيلي على الجبهة الجنوبية .. وفى ضربة واحدة !
لولا أن سريان وقف إطلاق النار وعدم تصعيد الموقف بين الدولتين العظميين هو الذى أنقذ الفرق الثلاث الإسرائيلية التي نفذت الثغرة على مراحل , بعد أن قررت القيادة المصرية بالفعل تنفيذ الخطة ( شامل ) لإبادة الثغرة أيا كانت الخسائر
ولكى نفهم الثغرة وأحداثها وما أثير حولها من انتقادات للجانب المصري كانت أغلبها في الواقع آثار اختلاف القيادات وبالتحديد الخلاف الواسع الذى وقع بين السادات والفريق الشاذلى وتطور إلى عداء مستحكم ونجم عنه الكثير من الإتهامات المتبادلة بين الطرفين كان أغلبها لا علاقة له بالواقع ,
فتحول اختلاف الرأى إلى تراشق بالإتهامات وكان السادات هو البادئ بهذا العدوان وهو ما دفع الشاذلى إلى تصعيد الخلاف ودخل في منعطف خطير دون أن يدرى ,
لأنه في غمرة هجومه على السادات وفى محاولة بيان صحة رأيه انزلق إلى محاولة تضخيم حجم النجاح الإسرائيلي رغم أن هذا النجاح المزعوم لم يكن له أثر من الواقع الفعلى ولم تستفد إسرائيل شيئا في موقفها واضطرت لتنفيذ الإنسحاب على المراحل التالية لوقف إطلاق النار بعد أن خرقته مرارا للوصول إلى أهدافها دون نجاح
هذا مع الإحتفاظ الكامل بتقديرنا العظيم لأسد حرب أكتوبر سعد الشاذلى واعتراف الجميع أن السادات ترصد له واتهمه بما لم يكن فيه لمجرد إبداء رأى مخالف له في كيفية معالجة الثغرة

فلكى نفهم أحداث الثغرة يجب النظر إليها بعيدا عن وجهات نظر الأشخاص والإعتداد بالحقائق الواقعية على الأرض ونتائج المعارك وآراء المحللين المحايدين وآراء الإسرائيليين أيضا
وكل تلك الآراء جزمت بأن الثغرة تحولت من فخ دبره الجيش الإسرائيلي إلى فخ وقع فيه هذا الأخير وكانت خسائره الضخمة علامة أخرى إضافية على سلسلة الفشل التي منى بها في تلك الحرب ,
فضلا على أن تحديد الهزيمة والنصر في أى معركة مرهون بتحقيق الأهداف , وقد حددت القيادة الإسرائيلية أهدافها من الثغرة ولم تنجح ـ رغم اختراقها وقف إطلاق النار ثلاث مرات ـ في تنفيذ أى هدف من هذه الأهداف
يقول ديان عن معركة المزرعة الصينية إحدى معارك الثغرة :
( إن الخسائر التي تكبدناها في الثغرة لم تكن متوقعة على الإطلاق ولما تفقدت منطقة المزرعة الصينية رأيت ما لم أشاهده في حياتى كلها مئات الدبابات المحطمة تتناثر في كل مكان وعشرات الجثث الممزقة من التي ترتدى زى جنود جيش الدفاع )
وديان تفقد المعركة في صحبة أحد القادة المشاركين فيها الذى لفت نظره أثر المنظر على ديان فقال له
( هل تأملت وادى الموت هذا ! ) [1]
وخسرت إسرائيل فى الثغرة 127 طائرة وخسرت 400 دبابة على مراحل أيام القتال فيها أمام قوات صاعقة ومظلات فقط بدون قوات مدرعة ليتكرر للمرة الثانية مسلسل السقوط المدرع الإسرائيلي أمام المشاة المصريين وحرب العصابات التى نفذتها قوات الصاعقة بجدارة ,
وإذا كانت القيادة الإسرائيلية لديها الإستعداد لخسارة المعدات بلا حدود , فقد قابلت الجانب المصري الذى لديه استعداد أكبر لتحمل الخسائر البشرية وفى المعدات نظير منعها من الوصول إلى هدفها باحتلال السويس والإسماعيلية

ويقول الخبير الإستراتيجى الأمريكى ( ديوبويه ) فى كتابه ( النصر المراوغ ـ وهى تسمية تعبر عن المحتوى ) :
( إن ما فعلته إسرائيل بنفسها من خلال هذه العملية التليفزيونية أنها وضعت نفسها فى موضع من يحقق غرض المصريين بتطويل الحرب وزادت خسائرها لدرجة مروعة ولم ينقذها إلا الولايات المتحدة عن طريق اتفاقية فض الإشتباك )
وكان هذا المحلل هو الذى أطلق على معركة الثغرة اسم المعركة التليفزيونية وهو الإسم الذى اشتهر فيما بعد وظن البعض أن المصريين هم من أطلقوه ,
وانتقد بعض المحللين المصريين هذا المسمى دون أن يعلموا أنها شهادة من خبير أمريكى


الهوامش :
[1]ـ المعارك على الجبهة المصرية ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:06 PM

ولكن لماذا تم اعتبار الثغرة معركة تليفزيونية مظهرية فى نظر الخبراء العسكريين ,
رغم أن الثغرة ـ كخطة ـ تعتبر إحدى الخطط البارعة التي كان بإمكانها لو نجحت أن تغير موازين القتال
إجابة هذا السؤال هى المدخل لفهم موضوع الثغرة من خلال فهم طبيعة التفكير الإسرائيلي الذى خبرته مصر بعد أن عركتها التجربة وأدركت أبعاده ولهذا لم تفلح معها إسرائيل فى هذه المرة ,
فالإستراتيجية الإسرائيلية تعتمد اعتمادا مطلقا فى تأمين نفسها على عناصر معينة لا يمكن أن تغيرها ,
أولها : الإعتماد على الحرب الخاطفة التى لا تكلف جهدا أو ضحايا بطريقة الصدمة المربكة للخصم
ثانيها : استخدام الإعلام استخداما أسطوريا كسلاح فى حرب نفسية تحقق لها من الأهداف ما تعجز عنه القوة العسكرية بحيث يجنح للإستسلام ولا يكلف الجيش الإسرائيلي عائقا بالمقاومة

وقد طبقت هذا الأمر بنجاح فى حرب يونيو عندما نفذت ضربة الطيران فأفقدت القيادات المهتزة اتزانها وصدر قرار الإنسحاب الغريب الذى فتح سيناء بكل سهولة أمام العدو وبلا معارك ,
وعندما فوجئ العدو بحرب أكتوبر اعتمد نفس الإستراتيجية كحل أخير ينقذ الوضع ويرد مصر عن كل مكاسبها وهو حل توجيه ضربة إعلامية فى المقام الأول تسبب إرتباكا وقلقا وحيرة يدفع مصر للتخلى طواعية عن مكاسبها ,
وكانت الفكرة من تجهيز وإعداد الجنرال إريل شارون وتتلخص فى أن تقوم قوة إسرائيلية بعبور الضفة الغربية لقناة السويس بحيث تقبع فى مؤخرة الجيوش الميدانية حيث لا توجد قوات مقاتلة بالطبع ,
وتقوم القوة الإسرائيلية ـ حسب إمكانياتها ـ باحتلال السويس أو الإسماعيلية أو المدينتين معا نظرا لشهرتهما العالمية الواسعة بسبب قناة السويس التى ارتبط اسمها بالسويس المدينة , والإسماعيلية باعتبار أنها مقر شركة قناة السويس وكلتا المدينتين معروفتين للعالم أجمع منذ حرب العدوان الثلاثي المعروفة باسم ( حرب السويس )
فإذا سقطت السويس والإسماعيلية بما لهما من الشهرة الواسعة سيكون لهذا النصر دوى فى العالم يمحو بعضا من العار الإسرائيلي , لا سيما إن تم التخطيط له بإتقان بحيث يتم فرض وقف إطلاق النار بعده مباشرة قبل أن تأتى الفرصة لمصر لترد الهجوم ,
وبالتالى عندما يجلس الإسرائيليون للمفاوضات فى فض الإشتباك بعد وقف إطلاق النار سيكون التفاوض من موقف قوة حيث يقبع الإسرائيليون باحتلال أهم مدينتين فى القناة
هذا فضلا على تهديد مؤخرات الجيوش الميدانية والتسبب فى إرتباكها , فتكون القوات المصرية مضطرة إلى أن تقبل بهذا الوضع دون مقاومة ـ لعدم وجود احتياطى فى الخلف ـ أو أنها تقوم بسحب قواتها من الشرق للغرب بهدف مقاومة الإختراق وهذا يحقق للإسرائيليين ما يتمنونه وهو تخلى مصر عن مكاسبها على الأرض قبل وقف إطلاق النار

وألح شارون فى عرض خطته منذ الثامن من أكتوبر ,
واجتمع مجلس الأركان لدراسة الموقف ودراسة نقاط الإختراق واختاروا بين الثلاث نقاط المرشحة منطقة الدفرسوار بالذات لكونها المفصل بين قوات الجيش الثانى والجيش الثالث ,
ولكى نعرف ما هو مفهوم الثغرة عسكريا ,
نتعرف أولا إلى تقسيم الجيوش فى المفاهيم العسكرية , بشكل مبسط
فالقوات المسلحة تتكون من وحدات صغري تكبر شيئا فشيئا إلى أن تكّون جيشا أو جيشين أو ثلاث حسب إمكانية الدولة
ومفهوم كلمة جيش فى العلم العسكري ليس معناها كما هى عند العامة حيث يعتبر هذا المفهوم مقصودا به القوات المسلحة فى مجموعها , فجيش الدولة هو قواتها المسلحة
أما كلمة الجيش فى العلم العسكري فهى أكبر التصنيفات التى تتكون منها القوات المسلحة لأى دولة , أى أن مفهوم القوات المسلحة مفهوم عام يضم تحته مفهوم الجيش
فتقسيم القوات يبدأ وينتهى كالتالى :
الفصيلة : وهى مجموعة صغيرة من الأفراد يقودهم ضابط صغير الرتبة كالملازم والملازم أول وهما أول سلم الرتب العسكرية
السرية : وهى مجموعة أكبر وحدتها الفصيلة فالسرية تتكون من مجموعة فصائل وقوادها بين رتبة النقيب والرائد
الكتيبة : وهى الوحدة الأعلى حيث تتكون من مجموعة كتائب ويكون قائدها غالبا فى رتبة المقدم
اللواء : وهو أول التقسيمات الكبري حيث يتكون من مجموعة كتائب وقائد اللواء غالبا يكون فى رتبة العقيد , والألوية هى الوحدات التى تعتبر صراعاتها مع العدو معركة من معارك الحرب
فالحرب فى العلم العسكري مجموعة معارك , والمعركة الواحدة يتم إطلاقها على الصراع الذى يتقاتل فيه من الجانبين مجموعة تكون على الأقل بحجم لواء فما أعلى , فأى اشتباك يتم بين لواءين أو أكثر هو معركة كاملة من معارك الحرب
الفرقة : وتتكون من مجموعة ألوية وقائدها يكون فى رتبة العميد
الجيش : ويتكون من فرقتين أو أكثر حيث تكوّن الفرق فى الميدان جيوشا ميدانية يتولى قيادتها من هم فى رتبة اللواء فأعلى وهى واحدة من الرتب القيادية الكبري فى الجيوش ,
ولا يعلوها إلا ثلاث رتب وهى الفريق والفريق أول ثم أخيرا رتبة المشير ( الماريشال ) وهى أعلى درجات السلم العسكري ولا يجوز منحها إلا لمن تقدم بإضافة جديدة غير مسبوقة في العلوم العسكرية أو التطبيقات الميدانية
وليس متصورا أن يكون في القوات المسلحة لأى دولة أكثر من شخص واحد في تلك الرتبة الحساسة وقد لا يوجد أصلا من يحملها حيث يكون الفريق أول رتبة من رتب وزارة الدفاع لأى دولة عادية ,
أما في الدول العظمى فالأمر يختلف قليلا نظرا لحجم الجيوش فيجوز أن يتوافر في رتبة الماريشال أكثر من شخص وقد كان في الإتحاد السوفياتى السابق بعد الحرب العالمية الثانية 12 ماريشالا حازوا هذه الرتبة بعد نصرهم في أكثر من ثلاث معارك ميدانية كبري في ميدان القتال
وأشهر من حمل رتبة الماريشال عالميا هو الماريشال أدوين روميل قائد الفيلق الألمانى والماريشال مونتجمرى قائد القوات البريطانية الذى تمكن من رد هجوم قوات روميل قبل استيلائها على العلمين

محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:07 PM

أما في الدول العادية لا سيما بمنطقة الشرق الأوسط فهذه الرتب تكون غالبا رتبا سياسية وهى أحد أوجه السلب الكبري في الواقع , فالمشير عبد الحكيم عامر عندما تولى قيادة القوات المسلحة تمت ترقيته من رتبة الرائد إلى رتبة اللواء دفعة واحدة ثم تمت ترقيته لرتبة المشير دون أن يضيف لثقافته العسكرية شيئا يذكر عن معارفه في رتبة الرائد !!
واختلف الأمر في حرب أكتوبر بالطبع حيث تمت إعادة تنظيم الجيش المصري وأصبحت قيادته عسكرية محترفة على أعلى المستويات العلمية ,

وكان المشير أحمد إسماعيل هو أول ضابط مصري يحمل هذه الرتبة عن استحقاق وجدارة بعد معارك حرب أكتوبر التي لم تكتف بالإضافة إلى العلوم العسكرية بل غيرت مفاهيم العلوم العسكرية أصلا وألغت نظريات عريقة في قتال المدرعات سادت وانتشرت بعد الحرب العالمية الثانية

وبالإضافة إلى التقسيمات النوعية السابقة للقوات المسلحة توجد فى القوات المسلحة مجموعات مستقلة ,
وهى المجموعات التى يتم تشكليها بحيث لا تتبع فرقة معينة , مثل اللواءات المستقلة والفرق المستقلة فى بعض الدول
وهذه اللواءات لا تتبع قيادة أى جيش ميدانى بل تتبع القيادة العامة وهى التى تخصص لها المهام
والدولة من الممكن أن يكون لها جيش واحد فقط أى فرقتان أو ثلاث , حسب إمكانياتها , ومن الممكن أن يرتفع عدد الجيوش حسب قدرة الدولة ,
ولهذا فالدول العظمى لها ست جيوش أو أكثر تصاحبها مجموعة من الأساطيل التى تعجز الدول الصغري عن مضاهاتها ,
وأرقام الجيوش الميدانية تبدأ من رقم 2 , ولا يوجد جيش رقم 1 لأن الجيش الأول له اصطلاح آخر وهو المنطقة المركزية التى تضم قوات احتياط القيادة العامة ومركزها العاصمة

أيضا هناك ملاحظة هامة ,
وهى أن الجيوش المكونة من فرق إنما تنطبق على قوات المشاة والمدرعات فقط أى القوات البرية التى تسمى سادة المعارك , أما الأسلحة الأخرى فتقع خارج نطاق قيادة الجيوش الميدانية ويكون لها قيادات مستقلة تتبع القيادة العامة وهيئة الأركان فى القوات المسلحة ,
وهذه الأسلحة هى القوات الجوية والبحرية وقوات الصاعقة والمظلات وسلاح المخابرات الحربية والإستطلاع وسلاح حرس الحدود والمدفعية والدفاع الجوى
فهذه الأسلحة تعمل كجيوش مستقلة تتلقي أوامرها من القيادة العامة للقيام بمهام منفصلة عن مهمة الجيوش الميدانية أو تتدخل لمعاونة الجيوش بناء على طلب قادتها من القيادة العامة

وبالنسبة للجيش المصري أثناء حرب أكتوبر
فيتكون من المنطقة المركزية فى القاهرة بقيادة اللواء عبد المنعم خليل وجيشين ميدانيين هما الجيش الثانى الميدانى ومقره السويس والجيش الثالث ومقره الإسماعيلية ,
وكان الجيشان فى حرب أكتوبر تحت قيادة اللواء عبد المنعم واصل واللواء سعد مأمون وقوامهما خمس فرق مشاة بتعداد حوالى مائة ألف جندى وفرقتان مشاة ميكانيكية وفرقتان مدرعتان احتياطى للقيادة العامة بالإضافة إلى ألوية الحرس الجمهورى التي عملت أيضا كاحتياطى وتم التخطيط لتدخلها في الثغرة
وقد عبرت هذه القوات للضفة الشرقية أثناء الحرب , بينما عبرت الفرقتان الإحتياطى أثناء تطوير الهجوم ,
وباقي تشكيل القوات المسلحة فى حرب أكتوبر كان يتكون من وزير الدفاع أحمد إسماعيل ورئيس الأركان سعد الدين الشاذلى ورئيس هيئة العمليات محمد عبد الغنى الجمسي وقائد القوات الجوية حسنى مبارك وقائد البحرية فؤاد أبو ذكرى وقائد الدفاع الجوى محمد على فهمى وقائد المخابرات الحربية فؤاد نصار ومدير سلاح المدفعية اللواء محمد سعيد الماحى والعميد نبيل شكرى قائد قوات الصاعقة والعميد محمود عبد الله قائد المظلات واللواء كمال حسن على مدير سلاح المدفعية

ومن مبادئ العلم العسكري أن أضعف النقاط التى من الممكن أن يخترقها العدو أثناء القتال فى أى معركة هى نقاط الفصل بين الوحدات المختلفة ,
فكل وحدة من وحدات الجيوش تجاورها وحدة مماثلة , وتتوزع مسئولية المناطق بينهما , ومن هنا فإن أضعف نقطة ليس عليها التركيز هى النقطة التى تفصل بين لواء ولواء آخر أو بين فرقة وأخرى أو بين جيش وآخر ,
وكانت نقطة الفصل بين الجيشين المصريين تقع فى منطقة الدفرسوار وهى منطقة ضيقة لا تقع تحت مسئولية أى جيش من الجيشين بل هى فراغ جزئي طبيعى بين قوات الجيشين ,
ومن عوامل التفوق فى أى قيادة عسكرية أن تسد ثغرات الإختراق المتوقعة للعدو أثناء الإشتباك لكونها نقاط تفوق يستطيع العدو من خلالها النفاذ والقيام بحركة إلتفاف وتطويق قوات الخصم من الخلف حيث تقع أضعف المراكز وهى الخطوط الخلفية التى لا تقاتل وتقع بها الوحدات الإدارية والطبية ومراكز القيادة



محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:08 PM

وكان من عوامل تفوق التخطيط المصري فى حرب أكتوبر أنه توقع خطط العدو للقيام بهذا الإختراق ,
ولم يكتف بتوقع الفعل وإنما قامت هيئة العمليات بدراسة مواقع الإختراق المتوقعة وتخير نقطة الدفرسوار تحديدا كنقطة وحيدة للنجاح ,
ولا شك أن الخبرة التى وقفت خلف هذا الإختيار تستحق الإشادة فى ظل ضعف الإمكانيات التى كانت تعمل بها القوات المسلحة ,
واتخذت القيادة المصرية التدابير لمنع العدو من هذه المحاولة وكانت التدابير حاسمة تمثلت فى وضع فرقتين مدرعتين كاملتين هما الفرقة 2 المدرعة والفرقة 21 المدرعة خلف الجيشين ,
ولا شك أن وضع فرقتين مدرعتين بحجمهما الهائل وتسليحهما الهائل ( الفرقة المدرعة تختلف عن فرقة المشاة لأن تسليحها الرئيسي هو الدبابات ) كان يقضي على أدنى أمل فى تنفيذ محاولة الإختراق , ولهذا فقد قوبل اقتراح شارون بالرفض القاطع نظرا لعدم خلو موضع الثغرة وصعوبة النجاح فى النقاط المقترحة الأخرى ,
ولكن تخلت القيادة المصرية عن حرصها عندما اتخذت قرار تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر ,
ونظرا لأن التطوير سيتم فى ظل تفوق جوى للعدو وبلا غطاء من حائط الصواريخ فقد استلزم الأمر معاونة ضرورية من المدرعات وتمثلت هذه المعاونة فى دفع الفرقتين 2 , 21 المدرعتين إلى الشرق وتخليهما عن مكانهما لمشاركة قوات الهجوم ,


والتقطت الأقمار الصناعية الأمريكية تحرك الفرقتين ,
وفورا بلغ النبأ للقيادة الإسرائيلية لتعود خطة شارون إلى المائدة مرة أخرى ويتم اتخاذ التدابير لاستثمار هذه الفرصة التى فتحت الطريق أمام المحاولة ,
وهى أول مرة تتخلى فيها القيادة المصرية عن حصافتها وبراعتها , وعن هدوئها الذى استفز العدو استفزازا مميتا كونها قابلت الهجمات المضادة بأعصاب هادئة وتنفيذ تكتيكى لا مزيد عليه , فإذا بها تستجيب لضغط قرار التطوير الذى طلبته القيادة السورية , تحت الضرورة الملحة وفى عجلة لم تكن على مستوى التخطيط المبدئي الفذ
ولم يكن متوقعا من التطوير أن يحقق أهدافه إلا فى جذب الجهد الجوى الذى كلف القوات المصرية خسائرها فى الدبابات فضلا على انفراد الجبهة المصرية بمواجهة الأسلحة الأمريكية الجديدة والتى لم تحتاجها إسرائيل فى الجبهة السورية بعد أن استغل الطيران الإسرائيلي اندفاع القوات السورية خارج مظلتها الدفاعية ليتمكن من استخدام الطيران المتفوق ضد المدرعات بشكل بالغ التأثير , رغم أنه تكبد خسائر فادحة في مواجهة البطولات السورية الخارقة
ولكن قَـبـِل العدو التضحيات بالطائرات والمدرعات في سبيل رد الهجوم السورى لخطورته على المستوطنات حيث تشرف الجولان على مستوطنات العدو مما جعل الجيش السورى يهدد العمق السكانى للعدو مباشرة ,
لهذا ركز العدو في هجماته المضادة باستخدام الطيران والمدرعات وأصبحت المعركة سجالا بينه وبين القوات السورية وتكبد الطرفان خسائر مروعة في عدد من أعنف معارك القرن العشرين , وكان نجاح القوات الإسرائيلية الجزئي على جبهة الجولان في هجماتها المضادة معتمدا باستمرار على التفوق الجوى وخروج السوريين من نطاق حائط الصواريخ
وهو الأمر الذى لم يتكرر مع الجبهة المصرية إلى الحد الذى دفع ديفيد إليعازر رئيس الأركان الإسرائيلي إلى التعبير عن ذلك بقوله :
( قد اتضح لنا أن مصر برغم القتال الشرس والضاري والشديد تسير فى هدوء عجيب فى تنفيذ خطتها ... فعلى الرغم من الكثافة الكبيرة لمعداتها وأسلحتها الثقيلة وعلى الرغم من وجود 60000 جندي عبروا إلى الضفة الشرقية للقناة فإنها لا تحرك قواتها شبرا واحدا .. إلا بعد أن تحقق قواتها تمركز مضمون أو ما نسميه نحن فى العسكرية تمركز جزري أي أنها قبل أن تحرك أسلحتها الثقيلة شبرا واحدا تضمن لها أيضا تغطية جوية وحماية كبيرة .
إذا ما معني كل هذا ؟ إن له معني واحدا أن مصر لاتتحرك عشوائيا كما كان الحال فى الحروب السابقة ...
ولا تتقدم لمجرد أن الطريق أمامها مفتوح للتقدم !!! إنها أولا تقدم صواريخ ارض جو لضمان الحماية الجوية .... ثم تزيد من تعميق وتحصين رؤوس الكباري ثم تقدم بقية الأسلحة الأخري ..) انتهى كلام إليعازر

محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:09 PM

بداية الثغرة وتطورها :[1]
بعد المعارضة الشديدة التي كانت تلقاها خطة الثغرة من القيادات الإسرائيلية مثل ديان نفسه ونائب رئيس الأركان إسرائيل تال اتخذ مجلس الوزراء الإسرائيلي قراره بالتنفيذ على تردد ,
وكانت الخطة المعدة للتنفيذ كالتالى ,
* فرقة الجنرال شارون والتى يطلق عليها اسم المجموعة 139 المدرعة وتتكون من ثلاثة ألوية مدرعة ومهمتها إنشاء رأس كوبري في منطقة الدفرسوار ليلة 15 /16 أكتوبر وجسرين للعبور أحدهما من الكباري السابقة التجهيز والآخر يتكون من المعديات المتلاحمة على أن يكون أحدهما على الأقل جاهزا للإستخدام صباح 16 أكتوبر ,
والمهمة الثانية هى تأمين قوات العبور من الجانب الأيمن حيث أن الجانب الأيسر مؤمن بمياه البحيرات المرة أما مهمة التأمين غرب القناة فقد تم إسنادها إلى لواء مظلات معزز بكتيبة دبابات
* فرقة الجنرال إبراهام أدان وهى المجموعة رقم 162 المدرعة ومهمتها تدمير القوات المصرية بين ترعة الإسماعيلية وقناة السوس شرقا وتدمير كتائب الصواريخ المصرية لإتاحة الفرصة أمام الطيران الإسرائيلي للتدخل بحرية في العمليات ثم حصار وعزل الجيش الثالث المصري من الخلف وتدميره وإبادته
* فرقة الجنرال كلمان ماجن وهى مجموعة العمليات رقم 252 وكانت مهمتها التعضيد والحماية للفرقتين السابقتين ,

وبمجرد نجاح العمليات الأولى يتم اختراق مدينتى الإسماعيلية والسويس واحتلالهما والسيطرة على مؤخرة الجيش الثالث وإبادته وبهذا يتمكن الإسرائيليون من قلب المعركة لصالحهم في الأيام الأخيرة ,

غير أن التخطيط على الورق لم يكن بنفس السهولة واليسر الذى توقعه الإسرائيليون فقد تعثرت مراحل تنفيذ الخطة من البداية واختلت التوقيتات المحددة لكل فرقة وبدلا من أن تواجه مقاومة ضعيفة ـ كما كانوا يتصورون ـ واجهوا مقاومة شرسة عنيدة وخسائر كبيرة دعتهم للتفكير في مساء 16 أكتوبر لإلغاء العملية برمتها وإصدار الأوامر لقوات المظلات التي عبرت للضفة الغربية أن تخلى مواقعها وتنسحب لشرق القناة مرة أخرى
فقد انعزلت هذه القوة كجيب محاصر حتى مساء 16 أكتوبر ولم تقم فرقة شارون بمهمتها في إنشاء رأس الكوبري وإنشاء الجسور في صباح ذلك اليوم كما كان مخططا ولا حتى بعد مرور 24 ساعة من الموعد مما جعل قوات المظلات الإسرائيلية رهن الكشف في أية لحظة ,
وما يهمنا في تلك النقطة أن نلفت النظر إلى نظرة القيادة الإسرائيلية لعملية الثغرة على أنها باب للدعاية والتأثير النفسي , فقد كانت الفرق الإسرائيلية الثلاث يوم 16 أكتوبر لم تنجح في إبرار أية قوة مدرعة شرق القناة كما كان مخططا ولم تفلح أيضا في إقامة أى جسر للعبور فضلا على أن لواء المظلات الإسرائيلي العابر كان مختبئا بين الأشجار والمزروعات لحين إتمام عملية العبور المتوقعة ,
ورغم ذلك فإن جولدا مائير في خطابها مساء يوم 16 أكتوبر أعلنت أن لها قوات تقاتل بشجاعة على الضفة الغربية للقناة ! وهذا في محاولة منها لإبطال تأثير خطاب الرئيس السادات التي أذيع في نفس اليوم سابقا على خطاب جولدا مائير ولم يكن هناك أثر واقعى لما أعلنته أو تاجرت به , في أول ظهور إعلامى لها منذ بدء الحرب
بل ساهم خطابها في انتباه القيادة المصرية بشكل نسبي إلى محاولة الإختراق وإن لم تستوعب القيادة المصرية أبعاد العملية برمتها وأنها عملية إختراق واسعة النطاق وظنت أنها عملية تخريب تقوم بها مجموعة صغيرة , وهو ما تسبب في تأخير تصرفها بشأنها إلى يوم 18 أكتوبر حيث أدركت أبعادها كاملة

أما ظروف عبور لواء المظلات الإسرائيلي المعاون بكتيبة دبابات فقد خرج بقيادة دانى مات التابع لفرقة شارون لاختيار الموقع الأول للعبور في منطقة تم انتخابها على اعتبار خلوها من القوات المصرية ,
وأرسل قائد اللواء سرية دبابات لتكون بمثابة حاجز أمام أى تدخل للقوات المصرية من الشمال والشرق , ولكن هذه القوة دخلت في فخ محكم أعدته قوة تابعة للواء المصري 16 مشاة وتم إبادتها بالكامل ,
ووصل بقية اللواء المدرع الإسرائيلي إلى منطقتى الإنزال المنتخبتين وفوجئ اللواء بأن إحدى النقاط طينية لزجة مما أعاق استخدامها فاقتصر العبور على نقطة واحدة فقط ,
وقبل عملية الإنزال مباشرة أمر قائد اللواء بفتح المدفعية على المنطقة المنتخبة في الضفة الغربية لتطهيرها من أى قوة مصرية قد توجد بها , وصبت المدفعية الإسرائيلية 70 طنا من المتفجرات والقنابل كلها ذهبت هباء لخلو الموقع من أى قوة مصرية !
ووصل اللواء أخيرا إلى الضفة الغربية في منطقة خالية من القوات المصرية وعلى الفور بدأت وحدات اللواء في تنظيف المنطقة وتعرض بعض أفراد القوات المصرية المتحركين على أبعاد مختلفة لنيران غير متوقعة لهم من هذا اللواء نظرا لأن العبور الإسرائيلي كان حتى هذه اللحظة غير معلوم بالنسبة للقيادة المصرية ,
وبدأ الإعداد صباح 16 أكتوبر للعبور المنتظر للمدرعات ووصلت معدات العبور للمنطقة ,
وأصبح للإسرائيليين قوة لواء مظلات على الضفة الغربية مدعم بقوة 30 دبابة ولكن بدون أى اتصال بينها وبينها قيادتها في الشرق ولم يتم حتى تلك اللحظة تأمين رأس الكوبري على الضفة الشرقية أو إنشاء أى جسر مما جعل قوة المظلات معزولة عن قيادتها ومعرضة للكشف المبكر وهنا كادت عملية العبور تفشل نظرا لتأخر معدات العبور وتجاوز المدة الزمنية المقررة لعبور فرق المدرعات ,

وكانت المنطقة المختارة للإنزال غرب القناة هى منطقة حصن مستميد الذى كان أحد النقط الحصينة لخط بارليف ووقع في يد القوات المصرية ,
وكان هذا الموقع خاليا بعد تطهيره ولم تضع فيه القوات المصرية أى نوع من الحماية وتركته خاليا مما جعله نقطة اختيار مثلي للتحرك الإسرائيلي ,
ولكى تصرف القيادة الإسرائيلية أنظار المصريين عما يجرى غرب القناة قامت القوات الإسرائيلية بهجوم مركز عن طريق الغارات الجوية المكثفة على رءوس كباري الجيش الثانى الميدانى بالإضافة للهجوم المدرع على الفرقة 16 مشاة والفرقة 21 مدرعة
حتى يعتقد المصريون أن الهدف الرئيسي للهجوم الإسرائيلي هو طى جناح الجيش الثانى المصري ,
ونجحت خطة الخداع لمدة 24 ساعة وتمكن الإسرائيليون من السيطرة على نقطة الإنزال في حصن مستميد السابق ذكره وكذلك حصن تل سلام وكلاهما كان قد سقط في يد الجيش المصري في بداية الحرب وغفلت القيادة المصرية عن وضع مراقبة في هذه الحصون أو حتى القيام بتدميرها ,
وعلى إثر النجاح الإسرائيلي في الإستيلاء على الحصنين سادت بعض أجواء التفاؤل في القيادة الإسرائيلية كما كان لتقدم أحد الألوية المدرعة بقيادة آمنون دون مواجهة مقاومة تذكر أثر في زيادة مساحة هذا التفاؤل ,
وتقدم لواء آمنون أكثر وأرسل كتيبتى دبابات في طلائعه لكنها واجهت مقاومة عنيفة ونيران مكثفة عند منطقة تقاطع الطرق التي دارت فيها معركة مدرعة عرفت بنفس الإسم ( تقاطع الطرق ) عندما فتحت قوات اللواء 16 مشاة نيرانها على الكتيبتين فتم تدمير 27 دبابة إسرائيلية في أول فاتحة خسائر للمدرعات الإسرائيلية ,
فاضطر لواء آمنون إلى محاولة الفرار من الإشتباك مع لواء 16 مشاة واندفع نحو الشمال وهناك وجد آمنون نفسه بمحض الصدفة في قلب الوحدات الإدارية الخلفية التابعة للجيش الثانى ,


الهوامش :
[1]ـ المعارك على الجبهة المصرية ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:10 PM

وكانت مواضع الوحدات الإدارية الخلفية موضوعة في هذا المكان على اعتبار أمانها الكامل من قوات العدو وكانت بها الوحدات الإدارية بالإضافة إلى اللوريات والمركبات ومنصات الإطلاق لصواريخ الدفاع الجوى ,
ورغم الفرصة التي سنحت للواء المدرع الإسرائيلي باعتبار أن نقطة هجومه كانت في أضعف المناطق الدفاعية بالنسبة للجيش الثانى بالإضافة إلى أن هجومها كان سيستهدف المناطق الحساسة إلا أن النيران التي فتحتها كتيبتى المدرعات التابعتان للفرقة 21 المدرعة على اللواء الإسرائيلي نجحت في رد القوات الإسرائيلية إلى الجنوب بعد تكبدها خسائر فادحة ,

ولكن كل هذه الخسائر الإسرائيلية في المعركتين السابقتين كانت أقل كثيرا من المعركة الكبري التي جرت بعد ارتداد اللواء المدرع الإسرائيلي أمام دفاعات كتائب الفرقة 21 وهى المعركة المعروفة باسم ( معركة المزرعة الصينية ) وقد أوضح المؤرخ العسكري جماد حماد في كتابه ( المعارك الحربية على الجبهة المصرية ) أن مسمى المزرعة الصينية هو المسمى للإسرائيلي لمنطقة قرية الجلاء ,
ونظرا لأن المعركة تعتبر من عيون الإنتصارات المصرية فقد نقل المؤرخ جماد حماد وصف المعركة من المراجع الإسرائيلية والذي ننقله بدورنا هنا منعا لأى تحيز أو مبالغة ,
فعقب فشل لواء آمنون المدرع في مهمته وهى تأمين نقطة العبور بالإستيلاء على النقطة الحيوية ( تقاطع طريق طرطور مع الطريق العرضي رقم 1 )
صدر الأمر إلى الماجور ناثان قائد كتيبة مشاة ميكانيكى مدعمة بسرية دبابات لمهاجمة نقطة تقاطع الطرق ,
وتقدمت سرية الدبابات في المقدمة كمفرزة أمامية وتبعتها العربات المدرعة , ولم تلبث العربات أن فوجئت بأن سرية الدبابات تم تدميرها عن آخرها وحطامها تملأ الطريق ,
وقبل أن يفيق رتل العربات المدرعة من المفاجأة انهالت عليه النيران من حيث لا يدرى مما أرغمها على التوقف وأفاد قائدها هاليفي أنه لا يستطيع التحرك وأنه أصيب بخسائر جسيمة ,
وعندما تقدمت باقي العربات المدرعة لنجدة هاليفي تعرضت لنفس التدمير بعد أن باتت المنطقة مركزا لضربات النيران المصرية شديدة التأثير ,
وهكذا سقطت كتيبة المشاة الميكانيكى المدعمة بسرية دبابات في فخ محكم في قطاع اللواء 16 مشاة واضطر الجنود إلى الفرار من عرباتهم تاركينها لمصيرها وهرب قائد الكتيبة بنفسه وتم إنقاذه بأعجوبة

وبعد هذه النتيجة المخزية فكر آمنون قائد اللواء المدرع في وسيلة لإنقاذ العربات المدرعة المتورطة في الأمام وهكذا خصص سرية دبابات أخرى اندفعت تجاه العربات المدرعة المتورطة عند قرية الجلاء ولم تكد الدبابات الإسرائيلية تتقدم إلىالمنطقة حتى انهالت عليها قذائف البازوكا والآر بي جى 7 مما أرغمها على الإنسحاب دون أن تنجح في إنقاذ أحد , رغم أن ناثان قائد الكتيبة المشاة الميكانيكية أخذ يناشد قائده آمنون التدخل لإنقاذ باقي كتيبته ,
ولم يكن ناثان يدرك أن قائده آمنون نفسه قد تورط في فخ آخر وأنه يصارع الموت مع بقية وحدات لوائه الذى مُنى بخسائر فادحة ,
وعندما شعر قائد الكتيبة باليأس قرر حمل جرحاه والفرار بنفسه بعيدا عن المعركة وعندما أخذ في التحرك البطيئ وراء خطوطهم فوجئ بقوة من الفرقة 21 المدرعة أمامهم ولم تلبث تلك القوة أن أبادتهم جميعا عن آخرهم ,
ورغم الخسائر العنيفة التي حاقت بالقوات الإسرائيلية
فإن آمنون حاول مجددا الإستيلاء على موقع تقاطع الطرق وأمر أحد ضباطه بأن يقوم بتكرار الهجوم باستخدام كتيبة دبابات من ناحية الغرب لعله يفلت من المقاومة المصرية العنيفة ,
ولكن قائد الكتيبة الجديدة نفسه الماجور بروم قتل على مسافة 30 مترا من المواقع المصرية ومنيت دباباته بخسائر جسيمة فقام آمنون بإرسال سرية دبابات أخرى بقيادة الماجور إيتان للهجوم من ناحية الجنوب فلم تلبث أن لحقت هذه السرية بمن سبقها
وفشل الهجوم للمرة الثالثة
هذا الوصف السابق كله لمعركة المزرعة الصينية هو وصف إسرائيلي صرف لأحداث المعركة وهو يكفي فخرا لوحدات الفرقة 21 المدرعة واللواء 16 مشاة ,

وهكذا فشل شارون الذى يتبعه اللواء المدرع بقيادة آمنون في مهمته الرئيسية لتأمين معبر الدفرسوار ,
وكان ثمن الفشل باهظا بكل المقاييس حتى أن آمنون نفسه قائد اللواء عندما صعد إلى تبة مرتفعة تطل على أرض المعركة أفزعه منظر الأرض وهى مغطاة بأشلاء الدبابات والعربات المدرعة وجثث القتلى من جنوده ,
وعندما وصلت الأنباء للقيادة الإسرائيلية كادت تلغي العملية كلها للمرة الثانية واقترح موشي ديان أن يسحبوا لواء المظلات العابر قبل أن يذبحه المصريون إذا اكتشفوا موقعه غير أن جونين وإليعازر ـ رغم الخسائر ـ أصروا على الإستمرار ,
ولما كان الإستمرار لا يعنى شيئا دون الإستيلاء على موقع تقاطر الطرق فقد أصدر شارون أوامره لآمنون بتكرار الهجوم بطريقة جديدة على نفس المنطقة بعد أن قام بدعمه بكتيبتى دبابات عقب الخسائر التي دمرت لواء آمنون ولم يتبق له إلا 27 دبابة بعد القتال البطولى الذى قامت به الوحدات المصرية المتمركزة في منطقة تقاطع الطرق ,
وآثر آمنون ألا يتقدم للهجوم مباشرة كما في المرات الثلاث السابقة والتى خسر فيها معظم دباباته والنسبة الأكبر من ضباطه وجنوده ولهذا لجأ إلى معركة استنزاف عن طريق الضرب المباشر من بعيد مستغلا التعب الذى حاق بالقوة المصرية المدافعة ونقص الذخيرة الفادح بها ,
فانسحبت القوة المصرية من أماكنها بعد وصول تعزيزات آمنون للمعركة غير المتكافئة وبعد أن نجحت في الليلة السابقة في إبطال هدف آمنون بفتح طريق طرطور , ولم ينجح آمنون في الإستيلاء على موقع تقاطع الطرق ـ رغم إخلاء القوات المصرية ودخول آمنون إليه ـ فلم يلبث أن انسحب أيضا منه بعد أن اضطر لذلك نظرا لحاجته الشديدة لإعادة تنظيم اللواء عقب الخسائر الكارثية التي حلت به , وعدم كفاية التعزيزات ..

محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:11 PM

ونظرا لفشل شارون في مهمته لتأمين معبر الدفرسوار ودبت الخلافات بين القادة وبين شارون الذى كان يري عدم انتظار جسور العبور والتأمين والإنطلاق للعبور مباشرة على المعديات والأطواف بحجة أن لواء المظلات الذى عبر منطقة الدفرسوار لم يواجه أى قوات مصرية في نقطة الإنزال ومن ثم فإن مهمة التأمين التي فشل فيها وكلفته لواءه المدرع ليس لها داع ,
وعبر الجنرال جونين عن شعوره تجاه شارون بقوله :
( لقد خيب آمالنا جميعا , أنا لست أدرى ماذا أصابه في هذه الحرب ؟! )
وفى منتصف نهار 16 أكتوبر تم إجراء تعديلات جوهرية في الخطة بعد النتائج التي منيت بها قوات شارون وصدرت الأوامر لفرقة إبراهام آدان بمهمة التطهير والتأمين بينما تتولى فرقة شارون منطقة المزرعة الصينية بعد منحه الفرصة لتجديد الكفاءة القتالية لفرقته عقب الخسائر الجسيمة التي تكبدتها قواته في ليلة أمس وزادت عن 70 دبابة و300 قتيل بخلاف المصابين

وتقدمت فرقة إبراهام آدان المدرعة والتى تم تزويدها بلواء مظلات كامل لتصبح قوة جبارة , إلى أداء المهمة التي فشل فيها شارون , وكان لواء المظلات بقيادة الكولونيل عوزى الذى وضع نفسه تحت قيادة الجنرال آدان والذي كلفه بمهمة التقدم على محورين لتطهير محورى أكافيش وأبو طرطور على أن تصحب المظليين قوة كتيبة مدرعة للإضافة ,
وبنفس السيناريو السابق تقريبا ما إن تقدمت كتيبة الدبابات كطليعة لقوة المظلات حتى تعرضت لنيران كتيبة اليسار في قطاع اللواء 16 مشاة وخرجت رسميا من المعركة ,
وخلفها هذه القوة نحو المزرعة الصينية الذين تقدموا إلى المنطقة وفوجئوا بعشرة رشاشات ( جرينوف ) تطلق رصاصاتها بغزارة شديدة لتحيل المنطقة إلى جحيم ,
وتناثرت حطام كتيبة الدبابات وإلى جوارها عشرات من جثث المظليين على طول خط الدفاعات المصرية بعد أن تمكن المصريون من اصطيادهم وهم من مواقع حصينة ,
وحاول باقي المظليين الإنسحاب من طريق طرطور إلى طريق أكافيش لكنهم فشلوا حتى في مجرد رفع رءوسهم من وضع الإنبطاح بعد أن تكفلت الرشاشات المصرية بحصارهم من كافة الإتجاهات
وأصيب إبراهام آدان بالإحباط وهو يري نفسه عاجزا في نفس موقف شارون السابق ,
فضلا على أنه في ضوء هذا الموقف كان سيفقد يوما آخر كاملا دون أن يتم إنشاء أى جسر للعبور فيه مما كان يعرض القوة التي عبرت القناة من المظلات إلى خطر الإبادة بعد أن انعزلت تماما ليومين كاملين ,

ولكنه تلقي برقية مشجعة من قائد سرية الإستطلاع التي دفعها من فرقته بإتجاه محور أكافيش واكتشفت سرية الإستطلاع خلال عبورها إلى معبر الدفرسوار أن الطريق خال تماما ,
واكتشف برن أن قوة المظلات التي تتعرض للإبادة في طريق طرطور كانت قد شغلت المقاومة المصرية تماما عن الطريق الآخر وبالتالى أصبح طريق أكافيش مفتوحا ولكن على جثث المظليين الذين تم إبادتهم إلا قليلا وتدمير سائر معداتهم
وتمكنت فرقة إبراهام آدان من إقامة أول جسر للعبور صباح يوم 17 أكتوبر

محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:12 PM

رد الفعل المصري على عملية الثغرة :
جرت كل المعارك السابق شرحها في إطار ظن القوات المصرية أن العدو يقوم بمحاولة لتدمير رءوس كباري الجيش الثانى ولم تنم إلى معلومات القيادة حقيقة الخطة التي أعدها العدو بغرض عبور القناة إلى الجانب الغربي بقوة ثلاث فرق كاملة ,

ولهذا فقد ظلت القيادة في معزل عن هذه الأنباء طيلة يوم 16 أكتوبر وهو اليوم الذى عبرت فيه قوة المظلات المدعمة بسرية دبابات ,
وعندما تم اكتشاف بوادر وجود هذه القوة ظل الظن أنها قوة صغيرة للعدو لا تزيد عن سبعة دبابات وهدفها هو التخريب وإشاعة الفوضي في الخطوط الخلفية ,
ولهذا قام قائد الجيش الثانى بالنيابة اللواء تيسير العقاد والذي تولى القيادة خلفا للواء سعد مأمون بإصدار أوامره لكتيبة دبابات بتدمير هذه القوة التي ظنها قوة صغيرة مما تسبب في عجز الكتيبة عن أداء مهمتها ,
ولا شك أن تغيير قيادة الجيش الثانى الميدانى في هذا التوقيت ساهمت في أن تكون بيانات قيادة الجيش الثانى عن مدى قوة العدو في الضفة الغربية بيانات غير دقيقة ,
وعزا الخبراء هذا الخلل في المعلومات إلى تقصير في مهمات المخابرات الحربية والإستطلاع التي عجزت عن استطلاع القوة الحقيقية للعدو في الوقت المناسب , فضلا على خطأ التصور من القيادة وعجزها خلال يومى 16 و17 أكتوبر من إدراك الهدف الحقيقي للعملية وأنها عملية عبور كبيرة ,
ولهذا ظلت القيادة المصرية مطمئنة إلى الأنباء التي وصلتها باعتبار القوة العابرة قوة هينة لم تلبث أن تتعرض للإبادة ,
وهو ما ثبت خطؤه فيما بعد ولم يتم استغلال انعزال قوة المظلات المدعمة بالدبابات عن قيادتها ليومين كاملين , ولو وصلت معلومات صحيحة عنها إلى القيادة في الوقت المناسب لتحققت مخاوف الإسرائيليين من إبادة لواء المظلات العابر بالكامل مع دباباته بنفس الطريقة التي واجهت بها قوات اللواء 16 مشاة والفرقة 21 المدرعة قوات فرقة شارون شرق القناة وقوات إبراهام آدان التي حاولت تأمين منطقة العبور ,

وفى تلك الظروف أيضا تم تعيين اللواء عبد المنعم خليل والذي كان قائدا للمنطقة المركزية قائدا للجيش الثانى الميدانى بدلا من اللواء تيسير العقاد ريس أركان حرب الجيش !
ولا شك أن هذا القرار خدم العملية الإسرائيلية من حيث لا يتوقعون حيث أن اللواء عبد المنعم خليل كان بعيدا عن الجبهة ولم يحتك بأحوال الجيش الثانى وعندما طلب القائد الجديد المعلومات التفصيلية عن أحوال المعارك أحاله الفريق الشاذلى إلى اللواء محمد غنيم نائب رئيس هيئة العمليات والذي أحاطه علما بالأوضاع وفق ما وصلت للقيادة من معلومات مغلوطة ,
فلم يعلم القائد الجديد عبد المنعم خليل شيئا عن عمق الإختراق وتلقي المعلومات على أساس أنها قوة صغيرة لا تزيد عن سبع دبابات لا أكثر !
وكان قرار تغيير القيادة بعبد المنعم خليل قرارا غير موفق نظرا لأن اللواء تيسير العقاد كان رئيسا لأركان الجيش وهو الأكثر احتكاكا بأحواله والأقدر من غيره في تلك الظروف , وهذا دون الإقلال من قيمة وكفاءة كليهما , لا سيما وأن الأسباب التي دعت القيادة لهذا الإختيار أن اللواء عبد المنعم خليل كان قائدا سابقا للجيش الثانى لمدة ثلاث سنوات قبل الحرب ,
ولكن القيادة السابقة لا تعنى بالضرورة لزوم القيادة أثناء المعارك والعمليات لا سيما في ظل ظرف كالإختراق الحادث , وهذه هى وجهة نظر اللواء جمال حماد وكثير من المحللين وهى وجهة نظر صحيحة , إذ أن القيادة في الجبهة وأثناء العمليات أقدر من غيرها ـ حتى لو فاقتها كفاءة ـ في حسن إدارة المواقف الطارئة

وقد وصل اللواء عبد المنعم خليل لمركز قيادته مساء 16 أكتوبر وهو الموعد الذى علم فيه المشير أحمد إسماعيل والرئيس السادات بأمر القوات الإسرائيلية في الغرب من خلال خطاب جولدا مائير في مساء نفس اليوم ,
وعندما طلبا المعلومات حول هذا الخصوص جاءتهما المعلومات المنقوصة بأن القوات العابرة قوة صغيرة فقط , وعليه أكد المشير إسماعيل للواء عبد المنعم خليل أن يقوم بتدمير هذه القوة عقب انتهائه من دراسة موقف جيشه في العمليات ,
وللأسف استمرت وجهة نظر القيادة المصرية في الإستهانة بأمر القوة الإسرائيلية العابرة للغرب
وكان داعى الإستهانة هو قوة الهجوم الإسرائيلي المكثف على الفرقة 16 مشاة والذي كانت تهدف منه القيادة الإسرائيلية إلى شغل القوات المصرية عن نيتها الأصلية وهى فتح الفرصة أمام الفرق الثلاث المعدة للعبور للغرب
ولهذا ظلت القيادة المصرية تعتقد أن مهمة القوة الإسرائيلية التي عبرت كطليعة لبقية الفرق ما هى إلا مهمة نفسية وتخريبية هدفها إشاعة الفوضي في خلفية الجيش الثانى وإحداث أثر نفسي يمكنها من نجاح الهجوم في الشرق ,
ولهذا ركزت قيادة الجيش الثانى على ضرب الهجوم الإسرائيلي في الشرق وتمكنت من إلحاق الخسائر الفادحة المتوالية بالقوات الإسرائيلية والتى تعجب المصريون من تكرار هجومها رغم الخسائر ,
ولكن كان رهان القوات الإسرائيلية قائما على أن تتم عملية العبور إلى الغرب في غفلة من القوات المصرية عن هدفها الرئيسي وفى سبيل ذلك الهدف ضحت القوات الإسرائيلية بهذه الخسائر على أمل تحقيق النجاح المطلوب ,


محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:13 PM

وكانت النقطة الخطرة التي وقعت فيها القيادة المصرية هى ضآلة معلومات الإستطلاع وظروف تغيير القيادات التي جاءت بمصادفة قدرية لكى تمنح الخطة الإسرائيلية دماء الحياة بعد أن كانت محاولتها تُمنى بفشل ذريع يتمثل في خسارتها لجميع قواتها المشاركة في العملية شرق وغرب القناة ,
فمن شرق القناة كانت الفرقة 16 مشاة قد تكفلت بكل القوات الإسرائيلية المهاجمة وفى غرب القناة في يوم 16 لو كانت المعلومات التي وصلت عن القوة الإسرائيلية صحيحة لتم القضاء عليها قضاء مبرما عن طريق القوة المناسبة ,

وقد استمر غياب المعلومات الدقيقة قائما حتى بعد يوم 17 أكتوبر وعليه كانت معالجة ثغرة الإختراق من وجهة نظر المصرية لا زالت تتركز على المعالجة من شرق القناة لا غربها ,
ونظرا لأن المعلومات كانت تشير لمحدودية القوة العابرة فقد صدرت الأوامر بالقضاء على ثغرة الإختراق عن طريق تكليف اللواء 25 المدرع المستقل بهذه المهمة , على أن تتم في مواجهة ثغرة الإختراق من الشرق لا الغرب وكان اللواء 25 المدرع المستقل قد عبر من الغرب إلى الشرق ليكون ملحقا بالفرقة 7 مشاة أثناء تطوير الهجوم ,
وتم تعويض الفرقة 7مشاة بكتيبة دبابات من الفرقة 4 المدرعة ,
وكانت الخطة التي أعدتها القيادة سليمة نظريا ـ على حد تعبير اللواء جمال حماد ـ ولكنها كانت مخالفة للواقع حيث أن قوة الإختراق في الشرق عند معبر الدفرسوار كانت بقوة ثلاثة ألوية مدرعة أى ثلاثة أمثال قوة اللواء 25 المدرع بينما القوات الإسرائيلية في الغرب كانت لا تتعدى كتيبة دبابات ملحقة بلواء مظلات ,
ولو تم دفع اللواء 25 المستقل إلى غرب القناة بدلا من شرقها لتمكن من القضاء على الثغرة بسهولة عن طريق تدميرها من الغرب , وهو ما عارضه الرئيس السادات وأصر على عدم سحب هذا اللواء وأن يقوم بمهاجمة قوات الثغرة وتدميرها في شرق القناة , متأثرا بمعلومات صغر القوة الإسرائيلية في الغرب
وكان اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث الميدانى قد استقرأ الأحداث وعارض المهمة التي تم تكليف اللواء 25 المدرع مستقل بها وحاول تعطيلها بكل السبل إلا أوامر القيادة فى المركز رقم 10 كانت صارمة بوجوب تنفيذها وثبت أن اللوا واصل كان على حق تماما في توقعاته من أن اللواء 25 المدرع سيواجه خطر التدمير نظرا لفارق القوة بينه وبين فرقة المدرعات الإسرائيلية التي تواجهه بقيادة إبراهام أدان عند معبر الدفرسوار
واندفع اللواء إلى مهمته الإنتحارية لمواجهة فرقة إبراهام المتأهبة والتى تزيد على ثلاثة أمثاله في القوة وهو يواجهها منفردا فضلا على تسلح فرقة إبراهام بعدد كثيف من صواريخ تاو المضادة للدبابات والتى وصلت مع الجسر الجوى الأمريكى ,
واشتبك اللواء 25 المدرع مع الفرقة دون أى معاونة متوقعة من الفرقة 21 المدرعة والتى كان من المفروض أن تعاون اللواء في مهمته غير أن خسائرها في حروبها السابقة ضد قوات العدو منعتها من المعاونة المطلوبة ,
وهكذا تم تدمير ثلثي دبابات قوة اللواء 25 المدرع المستقل في هذه المواجهة مع فرقة إبراهام أدان نظرا لقصور المعلومات الشديد وعدم إدراك اللواء لحقيقة حجم قوات العدو عند معبر الدفرسوار ,
وتم سحب باقي الدبابات وارتداد اللواء إلى الخلف عقب خسائره الكبيرة واتخاذ الأمر بإعادة تأهيله وتنظيمه وتجديده ,

وكان هذا الخطأ ـ خطأ دفع اللواء 25 المدرع المستقل منفردا ـ لهذه المهمة هو الخطأ السياسي الثانى الذى ترتكبه القيادة المصرية بعد عملية قرار تطوير الهجوم للشرق بالمخالفة لرأى رئيس الأركان وقادة الجيوش ,
وأثبتت التجربة أن إهمال آراء قادة الميدان والقيادة العسكرية المحترفة أمر بالغ الخطورة وأثبت التاريخ عدة حوادث لها شأن في هذا المجال لا سيما في ظل معركة يونيو 67 والتى ساهمت القيادة السياسية فيها بقرارات لم يكن للقيادة العسكرية القدرة على تحمل نتائجها , وأهمها فتح حرب في جبهتين فضلا على صدور الأوامر بتلقي الضربة الأولى ,
وكان السادات عقب توليه الرياسة حريصا على ألا يتدخل في سير المعركة عسكريا , وطبق ذلك بنجاح حتى يوم 13 أكتوبر الذى أصدر فيه الأوامر بتطوير الهجوم بالمخالفة لرأى القادة الميدانيين وأيضا بمخالفة رأى عبد المنعم واصل في دفع اللواء 25 المدرع لخوض مهمة انتحارية دون تزويده بالمعلومات الضرورية عن حجم قوة العدو المتوقع مواجهتها والتى نجم عنها مواجهة غير متكافئة بين اللواء 25 المدرع وفرقة كاملة من القوة الإسرائيلية ,
وقد عبر اللواء عبد المنعم واصل في مذكراته عن أسفه الشديد لقرار القيادة المخالفة لوجهة نظره وهو يصف معركة هذا اللواء وكانت هذه هى المحاولة الأولى للقضاء على الثغرة ولكن دون الإستناد لمعلومات حقيقية مما تسبب في فشلها ,


محمد جاد الزغبي 10-28-2010 03:14 PM

وعقب تدارك القيادة المصرية لخطأ معركة اللواء 25 المدرع تمكنت القوات المصرية في يوم 17 أكتوبر في إفشال معظم الهجمات التي شنتها فرقة إبراهام أدان بمعاونة فرقة شارون لكى تتمكن من توسيع ثغرة الإختراق في معبر الدفرسوار وخطرت للقيادة فكرة إغراق منطقة شمال قرية الجلاء بالمياه ليستحيل على العدو العبور بدباباته فيها ,
ولكن الخطة لم تتم نظرا لعيوب فنية أصابت محركات الضخ مما جعل الفكرة غير ممكنة رغم أنها كانت كافية لإفشال العبور الإسرائيلي المدرع غرب القناة ,
واشتبك العدو من جديد مع القوات المصرية وكانت الإشتباكات سجالا تحمل فيها الإسرائيليون خسائرهم في سبيل توسيع الثغرة ليتمكنوا من العبور ولكن المقاومة المصرية العنيفة ثبتت الدبابات الإسرائيلية بقرية الجلاء طيلة هذه الفترة بفضل الفرقة 16 مشاة واللواء 16 مشاة الذى أدى دورا بطوليا في قتال مستمر مما عرضه للخسائر الفادحة في وحداته فصدرت الأوامر إليه بالإخلاء لإعادة تجميعه وتنظيمه ,
واستغل العدو هذا الإخلاء ليسيطر على موقعى أكافيش وطرطور بعد أن دفع ثمنا باهظا في كليهما ,


وقامت وحدات المهندسين العسكريين بأول محاولة لإقامة جسر للعبور في مساء 17 أكتوبر
وتمكنت المدفعية المصرية وغارات الطيران المصري بطائرات الميج التي اشتكبت مع الطائرات الإسرائيلية في معارك عنيفة من تعطيل إقامة الجسر عدة مرات وتعطلت معدات العبور نتيجة القصف المكثف وكثر الضحايا من وحدات المهندسين ,
ورغم الخسائر تم إخلاء الضحايا بقوة وسرعة وإحلال المعديات والأجزاء المحطمة بأخرى سليمة لإقامة الجسر الأول وأتيح لطيران العدو لأول مرة منذ بدء العمليات أن يتدخل بفاعلية بعد أن تدمير بعض بطاريات سام التابعة للقوات المصرية وذلك بهدف حماية عملية إقامة الجسر الذى أخذ يتعرض للتدمير مرة تلو الأخرى بعد أن استمرت المدفعية المصرية في تكثيف ضرباتها
ولم تتوقف منذ يوم 17 أكتوبر وحتى نهاية الحرب مما رفع معدل الخسائر الإسرائيلية إلى حد مفزع ,
وتحت هذا الجو من المعارك المشتعلة وصل طابور مدرعات الجنرال إبراهام أدان إلى أول جسر المعديات الذى تمت إقامته بعد فشل الإسرائيليين في جسر دائم متصل وذلك في الساعة العاشرة مساء 17 أكتوبر ,
وعبرت أول الدبابات الإسرائيلية التابعة لفرقة إبراهام وقابلته كتيبة الدبابات التي عبرت من قبل برفقة لواء المظلات بالترحاب مع قائدها الكولونيل حاييم ,
لكن فرحة إبراهام أدان لم تكتمل إذ تسببت المدفعية المصرية في إصابة منتصف الجسر الإسرائيلي وأحدثت به فجوة كبيرة تسببت في إعاقة عبور دبابات إبراهام مما تسبب في حالة ذعر بين القوات الإسرائيلية نظرا لتكدس الدبابات على الكوبري الذى لم يكمل عمره ساعة واحدة بعد ,
وأصدر إبراهام أدان أوامره عبور الدبابات على المعديات للخلاص من الموقف وتسبب هذا في تعقيد موقف الدبابات الخلفية التي كانت تنتظر دورها في العبور بعد دبابات المقدمة مما أدى إلى تعطل معظمها على الطريق مع المركبات المحملة بالذخيرة والعتاد وبقية معدات الجسور الإحتياطية الكافية لإصلاح الجسر ,
وأثناء إتمام عملية العبور على المعديات ريثما يتم إصلاح الجسر أصابت قذائف المدفعية المصرية إحدى مركبات العبور بكل ما تحمله من دبابات وأفراد فتركها الإسرائيليون للغرق وهربوا للنجاة بأنفسهم في مياه القناة وغرقوا جميعا عدا ثلاثة أفراد !
( ولنا هنا أن نتوقف عند ملحوظة شديدة الأهمية عندما نتأمل فشل الإسرائيليين الذريع في إقامة جسر واحد مؤمن تعبر عليه مدرعاتهم خلال هذه الفترة التي تزيد عن 48 ساعة رغم كمية التضحيات الهائلة التي تكبدتها هذه القوات , ونقارنها بحجم الإنجاز المصري في إقامة كافة كباري العبور مع بداية الحرب وفى زمن قياسي وبعدد لا يذكر من الضحايا )


وتحت هذه الظروف العصيبة كادت أعصاب الجنرال إبراهام أدان تفلت وهو يري محاولة العبور تتعثر للمرة الألف حتى تفتق ذهن أحد ضباطه عن فكرة ذكية لإصلاح الجسر سريعا دون انتظار للمعدات الإحتياطية القابعة في الخلف وسط الزحام ,
وهى أن تعبر دبابة من الفرقة إلى موضع الفجوة وتمد الجسر المتحرك المتصل بها ليصل للجانب الآخر , وتمكنت القوات الإسرائيلية من إتمام تنفيذ الفكرة في الرابعة فجر 18 أكتوبر ,
وهكذا عبرت بقية فرقة إبراهام أدان ولحقها بقية فرقة شارون في صباح اليوم نفسه ليصبح للعدو غرب القناة فرقتان مدرعتان مع لواء المظلات الذى عبر قبل يومين ,
يتبع ..

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:21 PM

وبعد أن تمت هذه المهمة ونظرا لأن القوات الإسرائيلية لم تنشئ إلا جسر المعديات فقط ,
فقد دعت الحاجة إلى ضرورة التصرف لإنشاء الجسر الثانى وهو الجسر الثابت السابق التركيب والذي تعطل وصوله مع المعارك في الأيام السابقة ,
وفى صباح 18 أكتوبر أصدر شارون أوامره باستقدام الجسر عبر المنطقة التي سيطرت عليها قوات إبراهام أدان , وتم استقدام الجسر عن طريق طرطور وتجره 12 دبابة إسرائيلية بطوله البالغ 18 مترا , وتعطلت عملية استقدام الجسر عدة مرات نظرا لتهتك الحبال التي تجر معداته فضلا على القصف المدفعى المستمر من القوات المصرية مما كبد القوات الإسرائيلية مزيدا من الخسائر في الأفراد والمعدات ,
وهكذا استمرت عملية نقل الجسر طوال اليوم تقريبا واستهلكت النهار ,
وعند قرب معدات الجسر من منطقة العبور تعرضت القافلة لغارة جوية عنيفة من الطيران المصري تكبد فيها الإسرائيليون مزيدا من الخسائر إلا أن الخسارة الفادحة التي قصمت ظهر العملية كانت في مقتل كبير المهندسين العسكريين الماجور جونى تان , الذى كان واحدا من أكبر خبراء إقامة الجسور فضلا على درايته التامة في مجال دراسة التربة التي يتحرك فوقها الجسر فيحدد المناطق الصالحة للسير وتلك التي لا تصلح
وكان مقتله يهدد عملية إنشاء الجسر كلها بالفشل لأن العملية لن تحتمل أى خطأ ناجم عن انعدام الخبرة في هذا المجال الحساس لا سيما مع انفراد المهندس القتيل في مجاله وعدم وجود من يسد مكانه
واضطر قائد المجموعة الكولونيل جاكى إلى استكشاف التربة بنفسه معتمدا على الحظ وحده مغامرا بغرس الجسر الثقيل في أى لحظة أثناء عملية النقل ,
ونجح قائد المجموعة أخيرا في الوصول إلى نقطة الإنزال وتمت إقامة الجسر على بعد 200متر من جسر المعديات وأقام الإسرائيليون الجسر وأضافوا جسرا ثالثا من المعديات
وبدأت عملية إخلاء المنطقة من المصابين والجرحى من أثر القصف المصري وتمت أيضا عملية حصر لقوات الكولونيل جاكى الذى خسر نحو 41 ضابطا وجنديا خلال ليلة واحدة فقط !
بينما خسرت إسرائيل في عملية العبور قبل تمامها 100 قتيل من الضباط والجنود بخلاف عدة مئات من الجرحى والمصابين وفقا للإحصائيات الرسمية الإسرائيلية ,

وكانت المعلومات قد توفرت في نفس اليوم 18 أكتوبر عن مدى اتساع ثغرة الإختراق وأهداف العملية الأصلية للقيادة المصرية عقب تجربة اللواء 25 المدرع المستقل
وفى نفس اليوم وضعت القيادة أول خطة لتصفية ثغرة الإختراق في شرق القناة وغربها وتقتضي بقيام اللواء 23 المدرع بهجوم مضاد على رأس الكوبري الإسرائيلي في منطقة الدفرسوار غرب القناة بمعاونة من اللواء 116 ميكانيكى , على أن تقوم في نفس الوقت وحدات من الفرقتين 16 مشاة و21 المدرعة بعملية مهاجمة النقطة القوية للعدو شرق القناة وإغلاق الطريق المؤدى إلى نقطة العبور واستعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه ,

وتحددت ساعة الصفر لتنفيذ الهجوم في الثانية عشرة من ظهر 18 أكتوبر قبل تمكن الإسرائيليين من تنفيذ إقامة الجسر الثانى غير أن ساعة الصفر تأخرت بسبب قيام العدو بقصف عنيف للطيران فوق رأس الكوبري الموحد للجيش الثانى مما أربك تحضيرات الهجوم وأصيب فيه قائد الفرقة 16 مشاة العميد عبد رب النبي حافظ ,
وبالطبع استغل العدو تفوقه الجوى بعد أن تمكن من تدمير بعض بطاريات الدفاع الجوى المصري في منطقة العبور وتسبب هذا التفوق الجوى أيضا في تعطيل مهمة كتيبة المشاة الميكانيكى المكلفة بالهجوم على منطقة قرية الجلاء مما أدى إلى ارتدادها والإنضمام إلى بقية القوات المصرية في الخط الدفاعى شمال القرية ,
في نفس الوقت الذى واجه فيه اللواء الأول المدرع اشتباكا جانبيا أثناء تقدمه لأداء مهمته وتمكن من تدمير 13 دبابة إسرائيلية رغم تعرضه للهجوم من ثلاثة جوانب وقيام بعض دبابات العدو غرب القناة بتهديد جانبه الأيمن ,
ونظرا لكثافة الهجوم ارتد اللواء للخلف بخسائر كبيرة في دباباته رغم أدائه البطولى ,
وركز العدو هجماته على رأس الكوبري الموحد من الطريق الأيمن نظرا لقلة عدد الدبابات فيه مما استدعى قائد الجيش الثانى بإصدار أوامره إلى اللواء 24 المدرع بأن يتقدم إلى منطقة شمال غرب الطالية لتعزيز رأس الكوبري الموحد
غير أن اللواء تعرض للقصف الجوى والمدفعى المكثف وعجز عن الإنضمام لا سيما مع سحب بعض كتائبه للمشاركة في الهجوم المضاد
ونظرا لهذه الهجمات التي أتت في توقيت تحضير الهجوم المضاد على الثغرة شرق وغرب القناة تعطلت المهمة التي كانت مكلفة بها هذه القوات واضطرت إلى العمل على صد الهجوم الواقع على رأس الكوبري الموحد ونجحت القوات المصرية في رد الهجوم فضلا على نجاح الفرقة 21 المدرعة التي تحملت أكبر المهام في ردع هجمات العدو طيلة الأيام السابقة في تحقيق إنجاز آخر عندما أظهرت الصور الجوية التي التقطت لمنطقة الدفرسوار أن قوات الفرقة تمكنت من تدمير عدد قياسي من دبابات العدو في منطقة شرق وجنوب الدفرسوار حيث تتركز المدرعات الإسرائيلية ,
ونتيجة لهذا فقد أعد اللواء عبد المنعم خليل خطته على تنفيذ الهجوم في اليوم التالى 19 أكتوبر مع إسناد قيادة رأس الكوبري الموحد للعميد إبراهيم العرابي قائد الفرقة 21 المدرعة ,
وفى نفس الوقت طلب قائد الجيش الثانى استمرار ضرب المدفعية على رأس الكوبري الإسرائيلي وهو القصف الذى تواصل منذ بداية معارك الثغرة , وطلب قائد الجيش الثانى إمداده بعدد من قواذف الصواريخ المضادة للدبابات للحاجة الشديدة إليها لتكوين أطقم اقتناص للدبابات في مواجهة مدافع تاو الأمريكية التي تكثف القوات الإسرائيلية استخدامها ,
وفى نفس اليوم مساء وصل الفريق سعد الدين الشاذلى إلى مقر قيادة الجيش الثانى الميدانى قادما من مركز القيادة رقم 10 بناء على تكليف من الرئيس السادات لمعالجة موضوع الثغرة , وقضي في مقر قيادة الجيش الثانى نحو أربعين ساعة قائما بأعمال القيادة مع اللواء عبد المنعم خليل ومشرفا على العمليات خلال تلك الفترة ,

وقبيل وصول الفريق الشاذلى تم البدء في عمليات مقاومة الإختراق عن طريق الإعداد للهجوم المضاد المدرع صباح يوم 19 وتم أيضا إبرار مجموعات الصاعقة والمظلات لمهاجمة لواء المظلات الذى عبر في بداية الأحداث غرب القناة وقضي الفترة البينية دون أى اشتباك مع القوات المصرية ,
وقام لواء مظلات مصري ومجموعة من الصاعقة بمهاجمة القوات الإسرائيلية بغرض منع العدو من توسيع ثغرة الإختراق وتطهير المنطقة من قواته , والإستعداد لتكوين مجموعات اقتناص للدبابات والسيطرة على المنطقة ما بين الإسماعيلية حتى مطار الدفرسوار شرقا ,
وتمكنت قوات المظليين من تكبيد العدو خسائر فادحة بعدد من العمليات البطولية التي أشادت بها القيادة العامة والفريق الشاذلى كما خسرت في العمليات 11 ضابطا و74 من الجنود والأفراد ,
ولأن قوات الصاعقة في مهماتها الأصلية عبارة عن قوات مجهزة لعمل الإغارات والكمائن وليست مجهزة لاحتلال المواقع والسيطرة على المناطق باعتبار أن طبيعة عمل الصاعقة تعتمد على الحركة , لذا فقد أدت مجموعات الصاعقة والمظلات مهمتها وانسحبت تحت ستر الظلام يوم 19 أكتوبر إلى منطقة سرابيوم وأبو سلطان بأمر قائد المجموعة ,
وصباح يوم 19 دخلت القوات المدرعة المعدة لمواجهة الثغرة في معركة مع قوات الجنرال إبراهام أدان وخاض اللواء 23 المدرع معركة ناجحة ضد تفوق واضح لقوات العدو ونجح في تشتيت قوة العدو وإن لم ينجح بالطبع في مهمة تصفية وجود العدو بعد أن استقر بقوات كبيرة في منطقة العمليات ,
وتم سحب اللواء وإعادة تجميعه وتعويض خسائره ,

وهكذا كان الوضع يوم 19 أكتوبر ناجحا في زعزعة مركز العدو وتكبيده خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات ولم تنجح مهمة التصفية النهائية لقوات العدو لأنها كانت فوق طاقة القوات المهاجمة , ولهذا تعدلت المهمة بناء على أوامر القيادة العامة إلى ثلاثة أهداف جديدة وهى ,
الأول : التمسك برأس الكوبري شرق القناة ومنع تآكل الجانب الأيمن من الجيش الثانى ,
الثانى : منع العدو من الوصول إلى مدينة الإسماعيلية والإستيلاء عليها
الثالث : منع العدو من السيطرة على طريق الإسماعيلية ـ مصر الصحراوى وكذلك منعه من تحقيق أى أهداف في مدينة السويس سواء بالإحتلال أو السيطرة
وكانت هذه الأهداف التي وضعتها القيادة العامة في تلك المرحلة كفيلة بضرب عملية الثغرة من خلال ضرب أهدافها في مقتل ثم التفرغ لحصار العدو غرب القناة بحجم قواته تمهيدا لإبادتها ,
وكانت أهداف العدو من عبور الفرقتين المدرعتين واللتين لحقت بهما فرقة ثالثة هى محاولة الإستيلاء على الإسماعيلية والسويس والسيطرة على طريق القاهرة وقطعه , بالإضافة إلى تطويق الجيش الثالث والتهميد لإبادته لتوجيه ضربة قاصمة للقوات المصرية ,
وهى الأهداف التي عجز العدو عن تحقيقها حتى بعد اختراقه لوقف إطلاق النار وتوقف القتال يوم 28 أكتوبر

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:28 PM

المرحلة الثانية من معارك الثغرة

في تلك المرحلة اكتمل للعدو سبعة ألوية مدرعة غرب القناة ( 3 ألوية من فرقة إبراهام و2 من فرقة شارون و2 فرقة كلمان ماجن ) وذلك بعد حصر خسائر الفرق الثلاث خلال معارك المرحلة الأولى من معارك الثغرة ,
ولم يكن للقوات المصرية سوى لواءين مدرعين من الفرقة الرابعة المدرعة بخلاف الإحتياطى الإستراتيجى التابع للقيادة العامة
وفى شرق القناة عجزت قوات العدو عن إنجاح أى هجوم مضاد أو تهديد رأس كوبري الجيش الثانى المصري تهديدا فعليا يؤدى إلى سقوطه بعد أن نجحت القوات المصرية في رد جميع الهجمات والإحتفاظ برأس الكوبري وفق تعليمات القيادة العامة كأول أهداف معارك تلك المرحلة ,
وهكذا تحول معظم نشاط العدو إلى غرب القناة وركزت القوات الموجودة بقوة ثلاث فرق في محاولة إنجاز أهداف القيادة الإسرائيلية في عملية تطويق أحد الجيشين وتهديد مدن القناة ,
وتمثلت خطة العدو في تنفيذ المهمات على النحو التالى ,
فرقة شارون : وتختص بالمحور الشمالى محور الإسماعيلية وكان هدفه الإستيلاء على مدينة الإسماعيلية بعد عبور ترعة الإسماعيلية وكانت القوات المصرية التي تواجه قوات شارون المدرعة هى اللواء 182 مظلات بقيادة إسماعيل عزمى وكتيبتين من الصاعقة دون أى قوات مدرعة ,
فرقتى كلمان ماجن وإبراهام أدان : وتعمل على المحور الجنوبي محور السويس وهدفها هو أحد أهداف العملية الرئيسية وهو إسقاط مدينة السويس والتى كان منتظرا أن يحدث سقوطها دويا هائلا , بالإضافة إلى استكمال حلقة حصار الجيش الثالث تمهيدا بإبادته ,

مع الوضع في الإعتبار أن التحركات الدولية للقوتين العظميين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى توافقتا على ضرورة وقف إطلاق النار بناء على قرار مجلس الأمن ,
وكانت الإتصالات والتحركات الدولية من القوتين العظميين وغيرهما تضاهى سخونة المعارك نظرا لامتداد تأثير الحرب في الشرق الأوسط على مجريات الأمور السياسية بعد العالم , وحسن استخدام العرب لسلاح البترول الذى تدخلت به دول الخليج العربي إلى جوار دول المواجهة ,
وكان الإتحاد السوفياتى والولايات المتحدة حاولا وقف إطلاق النار منذ اليوم الثانى الحرب ورفضت مصر وأخذت الأمور في شد وجذب حتى أعلن الرئيس السادات في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر شروطه لوقف إطلاق النار ورؤاه حول التسوية ,
ثم تقدمت الإقتراحات لمجلس الأمن بضرورة فرض وقف إطلاق النار وتم عرض موعد يوم 22 أكتوبر لوقف إطلاق النار وقبلته الأطراف المعنية وإن تأخرت سوريا في قبوله بعض الوقت , وقبلته مصر
لكن إسرائيل أعلنت موافقتها وهى تضع بذهنها ضرورة استغلال وقف إطلاق النار للإسراع بتنفيذ أهدافها بتغطية من الولايات المتحدة أو بمعنى أصح بتغطية من هنرى كيسنجر الذى حرض إسرائيل رسميا على قبول وقف إطلاق النار وخرقه بعد ذلك كوسيلة مضمونة لتحقيق أهداف عملية الثغرة
وبالتالى كانت أمام الفرق الإسرائيلية الثلاث مدة كافية لوضع جدول زمنى سريع لانجاز المهام المطلوبة ,

و عليه تحركت قوة لواء تابعة إلى فرقة إبراهام بقيادة الكولونيل جابي في اتجاه مطار فايد وواجه خلال تقدمه مقاومة مصرية عنيفة فتم إمداده بكتيبة مشاة إضافية فضلا على كتيبة مهندسين ومع ذلك نجحت القوة المصرية الصغيرة التي تدافع عن منطقة فايد وعن المطار بقيادة العقيد حسين حسنى في وقف تقدم اللواء المدرع المدعم طيلة نهار يوم 19 أكتوبر واضطرت المقاومة المصرية التي كان معظمها مشكلا من الوحدات الإدارية الضعيفة وبعض مجموعات المخابرات الحربية إلى الإنسحاب صباح يوم 20 أكتوبر ,
وبسقوط مطار فايد في يد العدو تمكن من إنشاء جسر رأس كوبري جوى على الضفة الغربية للقناة تمتد منه الإمدادات من الضفة الشرقية
وخلال تلك الفترة تقدم لواءان مدرعان من فرقة إبراهام أيضا في اتجاه جبل جنيفة وتمكن اللواءان من الإستيلاء على تلك النقطة الحيوية في 21 أكتوبر رغم المقاومة المصرية من اللواء 113 ميكانيكى ولكنه لم ينجح لتأخره في الإستيلاء على تلك النقطة قبل قوات العدو مما تسبب في سقوطها
وقبيل فجر يوم 22 أكتوبر تلقي الجنرال إبراهام أدان برقية تفيد بالموعد المحدد لوقف إطلاق النار في الساعة السادسة مساء نفس اليوم ,
ولهذا وضع الجنرال إبراهام خطته على أساس تنفيذ الإستيلاء على مدينة السويس قبل وقف إطلاق النار حتى لو كانت أمامه فرصة لخرق وقف إطلاق النار فينبغي استخدام تلك الفرصة لتثبيت الوصول للهدف ,
واندفع الجنرال إبراهام بقوته الضاربة المكونة من ثلاثة ألوية مدرعة اندفاعا سريعا يهدف إلى تحقيق قدر من الفزع للقوات المصرية التي تواجهه فتترك أماكنها نتيجة لانعدام قدرتها أمام الدبابات والتفوق الجوى
وهو الأمر الذى نجح في معارك 67 لكنه فشل فشلا تاما في معارك أكتوبر في ظل استراتيجية القتال المصرية ( الرجل ضد الدبابة ) ولهذا انتفي عنصر الفزع من هجوم الدبابات ولم ينجح ,
وذلك بسبب التدريبات المذهلة التي تلقاها فرد المشاة المصري لتأهيله لاعتياد منظر انقضاض الدبابات الذى يثير الفزع في قلوب أعتى الرجال , لكنه مع رجال المشاة المصريين كان أمرا اعتادوه طيلة ست سنوات من التدريب كانت الدبابات تعبر فوق رءوسهم على الخنادق حتى أصبح هديرها المرعب أشبه بالموسيقا الكلاسيكية لا ينام فرد المشاة إلا على صوته !
فقام الجنرال إبراهام باستغلال تفوقه في التسليح باعتبار سلاحه الرئيسي هو الدبابات واندفع بسرعة وبتركيز ملتفا ومتفاديا للمقاومة التي كان يواجهها وهى مقاومة أفراد وبقية الوحدات الإدارية في الأساس ,
ورغم تيسر الأمر أمامه إلا أنه عجز عن الوصول إلى منطقة مجرى قناة السويس ومدينة السويس عندما حل موعد وقف
إطلاق النار في السادسة من مساء يوم 19 أكتوبر ,


أما فرقة الجنرال كلمان ماجن ,
فقد اندفعت ـ كما هو متفق عليه ـ لمعاونة فرقة إبراهام على احتلال السويس من يوم 20 أكتوبر في محاولة محمومة قبل وقف إطلاق النار ونجحت في الإستيلاء على بعض النقاط الحيوية مستغلة غياب المقاومة وخلو تلك المواقع من القوات المصرية , وكان حدها الأقصي عندما حل وقف إطلاق النار على بعد 5 كيلومتر من طريق القاهرة ـ السويس ,

وكان مجلس الأمن قد أصدر قراره المتفق عليه بين الأطراف المعنية وبرعاية الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتى على وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر وهو القرار رقم 338 مكونا من ثلاثة بنود ,
الأول : دعوة الأطراف المعنية لوقف إطلاق النار وإلى إنهاء النشاط العسكري في وقت لا يتعدى 12 ساعة من ساعة صدور القرار وهى السابعة من صباح يوم 22 أكتوبر
الثانى : دعوة الأطراف المعنية إلى البدء فورا بعد وقف إطلاق النار في تنفيذ القرار 242 بجميع أجزائه وهو القرار الذى صدر عن مجلس الأمن في مرحلة سابقة ويشجب ضم أراضي الغير بالقوة ,
الثالث : البدء في مفاوضات فورية بين الأطراف المعنية ,

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:34 PM

وكان القرار محصلة الإتصالات السياسية التي تمت خلال أيام الحرب ,
والتى تكثفت بشكل كبير بعد دخول الحرب أسبوعها الثانى واشتعال المعارك السياسية في العالم أجمع من جراء الصراع في الشرق الأوسط
ولذا قام الإتحاد السوفياتى بدعوة هنرى كيسنجر لمفاوضات مباشرة في موسكو توفيرا لوقت كى يبحث الطرفان سبل إلزام أطراف القتال بقرار اقترحه الإتحاد السوفياتى وهو القرار 238 ,
وذهب هنرى كيسنجر إلى موسكو وأجرى اتصالات سياسية مع ليونيد بريجنيف زعيم الإتحاد السوفيتى وقتها وسكرتير عام الحزب الشيوعى وتم الإتفاق على أن التقدم بمشروع القرار وفق الموعد المتفق عليه وهو السادسة من مساء يوم 22 أكتوبر ,
وفى تل أبيب دعت جولدا مائير أعضاء حكومتها يوم 21 أكتوبر للنظر في الأمر وانتهت إلى قبول وقف إطلاق النار في الموعد المحدد وبالتالى وافق مجلس الأمن على القرار بالإجماع ,
ولكن جولدا مائير كانت قد أضمرت خرق وقف إطلاق النار حتى تنفذ خطتها التي تكبدت بسببها خسائر فادحة ,
ولهذا أرسلت لهنرى كيسنجر أن يمر على تل أبيب في طريق عودته من موسكو , [1]
ودارت بينهما مناقشات حول هذا الأمر وانتهت إلى نصيحة كيسنجر أن تمضي في تنفيذ خطتها كما هى وتمنح جنرالاتها الفرصة لخرق وقف إطلاق النار والسعى لإكمال حصار الجيش الثالث واحتلال مدينتى الإسماعيلية والسويس , ولكن في فترة أقصاها المدة التي تستغرقها طائرة هنرى كيسنجر للعودة إلى واشنطن ,
وأصرت جولدا مائير على أن تأخذ من هنرى كيسنجر ضمانا كاملا بمنحها الوقت الكاف حتى لو تجاوز ما حدده كيسنجر لأن أوضاع القوات الإسرائيلية الآن ليست في صالحها , وطلبت جولدا مائير مساندة كيسنجر لإيقاف ضغط الإتحاد السوفياتى حتى تتم القوات الإسرائيلية مهمتها
ومن الطائرة استخدم هنرى كيسنجر ألاعيبه السياسية وأرسل عددا من البرقيات إلى سفير الإتحاد السوفياتى في الولايات المتحدة ولم يكن الغرض من تلك البرقيات إلا تضييع الوقت والوعود بعقد مؤتمرات متابعة لقرار وقف إطلاق النار ,
وفى نفس الوقت مارس نفس اللعبة مع القاهرة من خلال برقيات تفتح موضوعات للمفاوضات مع الرئيس السادات كان هذا الأخير يتبادلها معه وكان الغرض أيضا هو تضييع الوقت ومنح إسرائيل الفرصة الكاملة لتعديل أوضاعها المزرية على الجبهة لا سيما بعد فشل الإسرائيليين في تحقيق أى هدف تكتيكى من عملية الثغرة , وأصبحت معرضة للحصار بدلا من أن تصبح القوة الإسرائيلية هى قوة الحصار للجيشين الثانى والثالث

وكان الفريق الشاذلى قد عاد من الجبهة يوم 20 أكتوبر بعد أربعين ساعة قضاها في مقر قيادة الجيش الثانى , وطلب الفريق الشاذلى حضور الرئيس السادات لمركز القيادة رقم 10 حتى يتم حسم الخلاف في الطريقة المثلي لمعالجة الثغرة بعد أن رفض الوزير اقتراح الشاذلى بسحب أربعة ألوية مدرعة من القوات المصرية في الشرق إلى الغرب حيث تعمل على مواجهة العدو هناك وتقوم بتصفيته أو تحجيمه ,
وكان هذا الخلاف هو أول خلاف عنيف يتم بين الرئيس السادات والفريق الشاذلى حيث جاء السادات لمقر القيادة واستمع لشرح الموقف من القادة ومن الوزير وعلم أيضا باقتراح الفريق الشاذلى وكان قراره الرفض القاطع لسحب أى جندى من الشرق إلى الغرب لسببين هامين :
الأول : أن سحب الألوية الأربعة لن يمكن من القضاء على الثغرة التي يوجد بها للعدو سبعة ألوية مدرعة كاملة واستقرار الأوضاع شرق القناة أمر لا مفر منه ولا يجوز التلاعب به وتهديده بسحب أى قوة منه
الثانى : أن الحاجة ليست ملحة لأن الوضع ليس من الخطورة الشديدة التي تستدعى التخلى عن مكاسب القوات شرق القناة والمغامرة بمنح الفرصة للعدو من تدمير أحد الكباري المصرية أو الإستيلاء عليها ,

وهذا حسبما أجاد في شرحه الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه ( السلاح والسياسة ) من أن أوضاع القوات الإسرائيلية غرب القناة في تلك الفترة لم تكن في موقف قوة بل كانت في موقف أضعف كثيرا من موقف القوات المصرية لعدة أسباب
الأول : أن جميع هذه القوات لم تنجح في الوصول إلى أهدافها ولم تمتلك ورقة تهديد حقيقية واحدة يمكنها الإستفادة منها فضلا على أن وضعها غرب القناة على أرض لم تعتدها وفى ظل حرب استنزاف مستمرة تقوم بها القوات الخاصة من المظلات والصاعقة كان يضعها جميعا تحت استمرار الخسارة دون تحقيق أى مكاسب
الثانى : أن أرتال الدبابات والمدرعات كانت تلاقي عنتا شديدا في الحركة وتصطدم بشتى أنواع المعوقات وفى ظل انهيار معنوى للقوات الإسرائيلية بعد حلول موعد وقف إطلاق النار وهم في هذا الحصار
الثالث : كان الوضع نفسه يمثل استنزافا شديدا للجيش الإسرائيلي كله دون أن تقوم بمصر بإجراء واحد , ذلك أن خطوط الجيش الإسرائيلي كانت قد طالت بأكثر مما يحتمله أكبر جيش في العالم حيث امتدت خطوط مواصلاته إلى أكثر من خمسمائة كيلومتر وبلا عمق يساند هذا الطول مما يجعله عرضة للقطع في أية لحظة ,
فضلا على أن حالة التعبئة العامة بدأت تأتى آثارها بعد أسبوعين من العمليات واستمرار الجيش الإسرائيلي في تلك الحالة غير محتمل بعكس القوات المصرية التي يمكنها احتمال التعبئة حتى ستة أشهر بالأوضاع الحالية ,
الرابع : كان استمرار الموقف كما هو عليه في صالح القوات المصرية على طول الخط ووقف إطلاق النار في صالح إسرائيل مهما كانت خسائرها , لأن عدم توقف العمليات في ظل بقاء السيطرة المصرية على باب المندب وفى ظل حظر البترول وفى ظل حالة التعبئة العامة كان يعنى الهزيمة الكاملة لإسرائيل
ولهذا السبب كان طلب جولدا مائير ملحا في أن يعاونها كيسنجر على خرق قرار وقف إطلاق النار لتضمن التزام القوات المصرية به بينما تمنح هى لجنرالاتها حرية العمل السريع لانجاز أى مكسب قبل وقف العمليات ,

ولهذا كان القادة في مركز العمليات يتصرفون بهدوء رغم توتر أجواء المركز رقم 10 بسبب التشاحن بين الفريق الشاذلى والرئيس السادات والوزير ,
وجدير بالذكر أن قرار الفريق الشاذلى واقتراحه سحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق لم يكن قرارا موفقا بدليل اتفاق المحللين العسكريين مثل اللواء جمال حماد وبقية قادة الأفرع الرئيسية في القوات المسلحة على صواب قرار السادات بعدم سحب أى قوة من الشرق للغرب ,


الهوامش :
[1]ـ أكتوبر 73 ـ السلاح والسياسة ـ محمد حسنين هيكل ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:40 PM

وقد خالف القادة الفريق الشاذلى في هذا الإقتراح كما عرض اللواء جماد ,
وتبادل مع الفريق الشاذلى ـ عبر الصحف ـ حوارا علميا ممتعا حول هذا القرار تم نشره في كتاب ( المعارك الحربية على الجبهة المصرية ) وأثبت فيه اللواء جمال حماد أن القرار لم يكن على الصواب من الناحية العسكرية ومن الناحية التكتيكية كما أثبت فيه أن الشاذلى انفرد بهذا الإقتراح بين بقية القادة الذين لم يشاركوه الحماسة لاقتراحه ,
و هذا الإقتراح لا يمس كفاءة الفريق الشاذلى العسكرية , بل يمكن تفهمه في ظل الأخطاء البشرية المعتادة ,
بالإضافة إلى أن الفريق الشاذلى تعرض لظلم فادح وافتراء بيّن من الرئيس السادات الذى استغل موقعه وانفراده بالإعلام وقام بتشويه صورة الفريق الشاذلى أمام المجتمع بادعاءات كاذبة , ومنها ,
أن الفريق الشاذلى ذهب للجبهة يوم 16 أكتوبر وعجز عن اتخاذ القرار المناسب لتصفية الإختراق وكانت قوات العدو صغيرة يسهل تدميرها في ذلك الوقت
وهذا كذب وافتراء لأن الشاذلى ذهب للجبهة يوم 18 أكتوبر وعاد يوم 20 وكانت الفرق المدرعة الثلاث للعدو قد أتمت عبورها لغرب القناة , وإنما لجأ السادات إلى تقديم موعد ذهاب الشاذلى قبل تفاقم الإختراق كى يحمله المسئولية وهو ما لم يستحقه الشاذلى ولا غيره من القادة ,
أيضا اتهم السادات الفريق الشاذلى بأنه سعى لإنشاء قيادة جديدة في الجبهة ينافس بها غريمه وعدوه وزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل , وهذا أيضا غير صحيح لأن الفريق الشاذلى مارس عمله خلال تلك الفترة من مركز قيادة الجيش الثانى ولم ينشئ أى قيادات جديدة ,
وقد كان الفريق الشاذلى مختلفا بالفعل مع المشير أحمد إسماعيل إثر خلافات قديمة دبت بينهما في الستينيات عندما كانا معا ضمن القوات المصرية في الكونغو ونشأ بينهما سوء تفاهم متبادل
إلا أن الحق يقال أن الظروف عندما جمعت الرجلين في معركة مصير صعدا فوق هذه الخلافات وتعاونا معا تعاونا مثمرا لا يضيره أبدا خلافات وجهات النظر أثناء العمل المجيد الذى حققوه في حرب أكتوبر
والسادات بكلامه هذا كان يحاول تجديد الخلافات التي ساهم في إذكائها بنفسه , وهو أمر غريب من السادات أن يلجأ لاتهام الشاذلى بذلك مع العلم أن السادات هو المسئول الأول عن هذا باعتباره وضع رجلين متناقضين في قيادة معركة واحدة وهو يعلم ما بينهما من جفوة قديمة !

وبسبب الخلافات تحولت وجهات النظر إلى تراشق مؤسف بالإتهامات بين الأطراف ولم يكن هناك داع لهذا كله لأن الموقف على الجبهة لم يكن يستدعى إلا الفخار والإعتزاز ,
ولكن الخلافات الشخصية وتصفية الحسابات هى التي جعلت بعض الأطراف يحاول ضرب بعض منجزات أكتوبر وتضخيم المشكلات الطبيعية سعيا للدفاع عن وجهات نظر متعارضة وفى سبيل البرهنة على أن هذا الطرف أو ذاك تسبب فى مآزق للقوات المصرية ,
وهو أمر بالغ الغرابة عندما نتأمل أوضاع القوات المصرية يوم 29 أكتوبر وهى تسيطر على مواقعها سيطرة كاملة وبنجاح فاق التوقعات ليكون خير ختام لحرب أكتوبر

وعودة إلى سير المعارك ,
حيث قبل الرئيس السادات قرار وقف إطلاق النار ولكن بعد أمر قواته على الجبهة بإطلاق صاروخين سكود على قوات الثغرة قبل قرار وقف إطلاق النار ,
وهذه الصواريخ التكتيكية هى التي هدف السادات منها إلى إرسال رسالة إنذار لإسرائيل أنه جاد في قراره بتصفية القوات الإسرائيلية في هذا الجيب المحاصر غرب القناة , لا سيما وأن أوضاع القوات الإسرائيلية الأخيرة دفعتها لتجميع قواتها فتشمل سائر قوتها حتى يمكنها استخدام مدرعاتها بالقوة النافذة ,
ولكن هذا التجميع كان يسهل المهمة على القوات المصرية من جانب آخر حيث أن استخدام الصواريخ التكتيكية ذات القوة التدميرية العالية سكود وصواريخ سام المعدلة (أرض / أرض ) كان سينجم عنه تدمير تجمعات القوات الإسرائيلية تدميرا شاملا من خلال الخطة شامل وهى الخطة التي انتهت إليها القيادة في المركز رقم 10,
وكانت هذه الصواريخ تتكون من نوعين لهما قدرة تدميرية عالية الفتك ,
النوع الأول : صاروخ سكود r17e والذي ورد إلى مصر قبيل الحرب وكان في وقتها من أحدث الصواريخ في مجاله ,
النوع الثانى : وهو صاروخ سام 2 الذى تم تحويله إلى صاروخ ( أرض / أرض ) بتعديل مصري فذ من سلاح المهندسين وتم استغلال كميات منه للعمل في مجال الصواريخ الأرضية لقوته التدميرية العالية ,
وبناء على أوامر القيادة تم استقدام الصواريخ من مرابضها في إحدى ضواحى القاهرة ودفعها للجبهة وتجهيزها من خلال الخطة المعتمدة للفتك بالقوة الضاربة للجيش الإسرائيلي ,

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:43 PM

اختراق إسرائيل لوقف إطلاق النار :

في كل المعارك الحربية التي خاضتها إسرائيل قامت بخرق وقف إطلاق النار بعد تعدها بالإلتزام ,
ولم تشذ عن هذا الأسلوب في أى معركة لما يحققه لها من مكاسب على الأرض إذا التزم الطرف المقابل لها بقرار الوقف أو الهدنة ,
ففي معركة 48 قامت بخرق الهدنة عقب قبولها , وفى حرب 56 أثناء العدوان الثلاثي , وحتى في حرب 67 رغم المكاسب التي حققتها فقد قامت بخرق وقف إطلاق النار واجتاحت هضبة الجولان السورية يوم 9 يونيو ,
وفى أثناء معارك حرب أكتوبر ورغم إعلانها الرسمى بقبول قرار وقف إطلاق النار كان النية مبيتة هذه المرة ومتفق عليها بين جولدا مائير وبين هنرى كيسنجر الذى تعهد تماما بتغطية خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار بعد هذا الإنهيار الذى كان يهدد موقف جيشها عقب فشله في استغلال الوقت لتحقيق أى هدف تكتيكى من عملية الإختراق ,


وقد أصيب الإسرائيليون بخيبة أمل شديدة عندما حل وقف إطلاق النار لأن الفرق الثلاث جميعا لم تنجح في مجرد الوصول إلى المناطق التي تم تكليفها باحتلالها ,
فضلا على أنها لم تكن تحكم قبضتها على الأراضي التي استولت عليها بمساحة عرضية 20 كيلومتر غرب القناة بسبب التسرع في الإنطلاق والإندفاع الذى كان يحكم القوات الإسرائيلية مما دعاها لتفادى المقاومة المصرية من خلال نقاط المرور وعدم الإصطدام بها ,
وهكذا كان الوضع خطيرا أمام القوات الإسرائيلية مساء يوم 22 أكتوبر حيث تداخلت خطوط مواصلات القوات الإسرائيلية مع الخطوط المصرية وأصبح كل منهما يهدد خطوط الآخر
إلا أن التهديد من الجانب المصري كان أفدح تأثيرا لأن الإرتباك كان يسود سائر خطوط العدو غرب القناة وهو الأمر الذى يسر شن حرب استنزاف ثانية ـ على حد تعبير المحللين العسكريين ـ ضد القوات الإسرائيلية غرب القناة ,


وكان هنرى كيسنجر لا يزال يعيش في أوهامه ,
ففي البداية كان يظن أن إسرائيل ستأخذ المبادأة بعد 48 ساعة من الحرب وستقوم خلال هجومها المضاد الأول بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل يوم السادس من أكتوبر ,
ولهذا أفرط في استخدام الجسر الجوى الذى مد إسرائيل بأسلحة متفوقة كما وكيفا ,
فلما فشلت جميع الهجمات المضادة الإسرائيلية ووصلت الخسائر الإسرائيلية إلى حد مفزع ,
أعطى كيسنجر أمله وطموحاته إلى موقف الثغرة باعتبار أن نجاح إسرائيل في تصفية القوة المصرية غرب القناة سيتيح لها تصفية الكباري في الشرق وبالتالى تحطيم الجيش المصري أو دفعه للإستسلام ,
لهذا كان هو البادئ باقتراح خرق وقف إطلاق النار قبل حتى أن تطلبه إسرائيل عندما أرسل لجولدا مائير برقية يخبرها فيها أن الولايات المتحدة ستتفهم الوضع إذا قامت إسرائيل بخرق إطلاق النار لعدة ساعات إضافية ,
ولكن كيسنجر فوجئ بأن إسرائيل لا تطلب بضع ساعات كما توقع بل تطلب أياما , وهو ما دفعه إلى محاولة تعطيل الإتحاد السوفياتى عن القيام بأى احتجاج أو التصرف في هذا الأمر وفى نفس الوقت استخدم مع الرئيس السادات أسلوب الحقن المخدرة حتى يستطيع أن يكسب لإسرائيل يومين إضافيين
ونجح هذا الأسلوب مؤقتا إلا أن يوم 24 أكتوبر كان يوما حافلا في السياسة العالمية حيث أن إسرائيل استمرت في محاولاتها لإكمال مهمتها غير عابئة بالموقف الدولى اعتمادا على كيسنجر
لكن كيسنجر تعرض لموقف صعب بعد أن أدرك السوفيات لعبة كيسنجر وعليه أرسلوا إليه بصور الأقمار الصناعية التي توضح اختراق القوات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار عمدا وأن القوات المصرية التزمت بالقرار بعكس ادعاء إسرائيل أن قوات الجيش الثالث كانت هى البادئة بالخرق !


وحاول كيسنجر تهدئة أعصاب برينجنيف إلا أن هذا الأخير كان قد أدرك أن كيسنجر يستمر في التلاعب به , وعليه أرسل ثلاث رسائل متوالية شديدة اللهجة إلى ريتشارد نيكسون الذى كان قد أعطى كيسنجر سائر الصلاحيات , وهدد بريجنيف في رسالته الأخيرة بالتصرف مفردا وبالقوة المسلحة لوقف تجاوزات إسرائيل
واستدعى كيسنجر السفير الإسرائيلي وحمله رسالة عاجلة لجولدا مائير بأن الموقف الدولى أصبح في وضع بالغ الخطورة وليس من مصلحة إسرائيل الإستمرار في تحدى القرار الدولى إلى هذا الحد ,
لا سيما وأن الرئيس السادات أيضا أرسل إليه يسحب جميع تعهداته السابقة ويهدد بتصفية الثغرة عسكريا ,
ورغم هذا كان رد فعل جولدا مائير يوضح مدى الإستخفاف الذى تتعامل به إسرائيل مع الأوضاع الدولية حتى لو أدت إلى مواجهة نووية بين القوتين العظميين في العالم ,
فقد ردت على كيسنجر بعد يومين كاملين من اختراق وقف إطلاق النار بأن جنرالاتها رجوها في بضع ساعات إضافية وأنها لم تستطع أن ترفض رجاءهم ,
وهكذا قرر كيسنجر أن يقبل التحدى السوفياتى ,
وكما استعدت الفرق الجوية السوفياتية المحمولة جوا للعمل بناء على قرار برينجنيف قبيل إرسال رسالته الأخيرة إلى نيكسون , قرر كيسنجر في اجتماع مجموعة العمل المصغرة أن يرفع درجة التأهب النووى في سائر القواعد الأمريكية في أنحاء العالم ورفع درجة استعداد القوات الأمريكية في تلك القواعد والاستعداد للعمل في منطقة الشرق الأوسط ضد مصر إذا أرسل السوفيات قواتهم إليها ,
ووقف العالم أجمع على شفا حرب نووية بين الدولتين بسبب معارك الشرق الأوسط
واستمر خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار حتى يوم 28 أكتوبر أى أنها استمرت في ذلك لمدة ستة أيام كاملة حتى تم فرض وقف إطلاق على خطوط جديدة مخالفة لخطوط 22 أكتوبر عن طريق استخدام قوات الأمم المتحدة في مراقبة وقف إطلاق النار بين الجانبين ,
ورغم كل هذه الإنتهاكات فقد انتهت المحاولات الإسرائيلية إلى الفشل الذريع بعد فشل خطة تصفية رءوس الكباري المصرية بالإضافة لفشل شارون في السويس وفشل إبراهام أدان وكلمان ماجن في الإسماعيلية رغم أنهم نجحوا في الحصار الجزئي للجيش الثالث الميدانى إلا أن القوات المصرية كانت تحاصر الجيب الإسرائيلي تماما ,
وقد رد كيسنجر على رسالة السادات التي هدده فيها بنسف الثغرة بما عليها ومن عليها بأنه لن يرضيه أن يدمر فيلقا إسرائيليا كاملا بكل ما يحمله من أسلحة أمريكية , وهدده تهديدا مبطنا ووعده بأن إسرائيل ستلتزم بالإنسحاب من مواقعها في الغرب عقب المحادثات التي تمت فيما بعد تحت اسم محادثات الكيلو 101 ,
وعلى إثرها انسحبت القوات الإسرائيلية دون أى مكسب من غرب القناة ونفذت الإنسحاب الكلى من سيناء على مراحل متفاوتة ,

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:47 PM

المواجهات بعد وقف إطلاق النار :
بعد اختراق إسرائيل لوقف إطلاق النار وجهت قواتها إلى الإستيلاء على مدينتى السويس والإسماعيلية وهى المحاولات التي انتهت بالفشل وظهرت فيها عدة بطولات مصرية فردية قامت بها قوات الصاعقة والمظلات بالإضافة إلى مجموعات المقاومة الشعبية التي تمكنت من ضرب أروع الأمثلة على صلابتها ,
فقد اندفعت قوات فرقتى كلمان ماجن وإبراهام أدان في محاولة عزل مدينة السويس لمحاصرتها وفى أول أيام الإندفاع تكبدت الفرق الإسرائيلية 80 دبابة من المقاومة الفردية للوحدات المصرية رغم مفاجأة المصريين بخرق العدو لإطلاق النار
وهنا تحركت الفرقة الرابعة المدرعة التي تم تكليفها بمهمة تأمين النطاق التعبوى للجيشين الثانى والثالث , ومع مفاجأة اندفاع الإسرائيليين تمكن قائد الجيش الثالث اللواء عبد المنعم واصل من تغيير مركز القيادة المتقدم ومواصلة مهمته لتأمين طريق القاهرة ـ السويس , بعد أن اخترق الإسرائيليون موقع مركز قيادته الأول
وأكملت وحدات العدو تقدمها في اتجاه مدينة السويس بغرض الإستيلاء عليها , وتم تقسيم قواتها يوم 24 أكتوبر لتقوم الوحدات المدرعة بمهاجمة المدينة من ثلاث اتجاهات ,
وكانت هناك ثقة كاملة من العدو من سهولة تنفيذ المهمة نظرا لأن المدينة كانت خالية من شعبها تقريبا إلا القليل فضلا على أن المقاومة المصرية تفتقر إلى أى قوات مدرعة ,
ورغم أن السويس كانت خالية من الوحدات العسكرية وليس هناك توقع من استهداف العدو لها فلم يتم اتخاذ خطط لتأمينها ضد هجوم مدرع على هذا النحو ,


إلا أن انكشاف خطة الثغرة أمام القيادة المصرية وإدراكها بأهداف العدو كان هو السبب في تلاحم قوات الصاعقة والمظلات وبعض الجنود والإداريين مع أفراد المقاومة الشعبية لتغيير الموقف في السويس تغييرا كليا
حيث تم توزيع الأسلحة المضادة للدبابات والقنابل والمفرقعات اليدوية والأسلحة الخفيفة على قوات المقاومة وتم تجهيز مدينة السويس كفخ للقوات الإسرائيلية المدرعة ,
وبدأت الدبابات الإسرائيلية في التقدم وفق الخطة وتركها أفراد المقاومة تدخل للمدينة التي بدت لهم خالية تماما من سكانها ومن المقاومة ,
وعندما توغلت الدبابات الإسرائيلية انفتحت أبواب الجحيم على المدرعات الإسرائيلية وناقلات الجنود عبر نوافذ العمارات التي ظنها الإسرائيليون خالية
ومع المفاجأة وحسن توزيع النيران تكرر المشهد الخالد في بداية الحرب مرة أخرى وقفز الجنود الإسرائيليون من الدبابات تاركينها لمصيرها بعد الفزع الذى لاقوه من صيحة ( الله أكبر )
رغم أنه فزع غير مبرر من الناحية المنطقية فلم تكن في مواجهة الإسرائيليين المسلحين بالمدرعات إلا قوات شعبية في معظمها ومسلحة بالأسلحة الخفيفة ,
إلا أن هذا النصر الساحق كان ـ كما كررنا دائما ـ وعدا إلهيا في القرآن الكريم حيث يقول عز وجل :
[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] {الأنفال:12}
وهذا ما تحقق في ملحمة المقاومة الشعبية المطعمة بأفراد القوات المسلحة في السويس وتسببت في تدمير أرتال من دبابات العدو فضلا على خسائره العنيفة في الأفراد الذين وقعوا في يد الأهالى بين قتيل وجريح وأسير ,
وتراجعت بقية القوات المدرعة للفرقتين إلى خارج المدينة كما تمكنت المقاومة الشعبية من حصار قوة المظلات الإسرائيلية التي احتلت قسم الشرطة بعملية إنزال , لكن العملية فشلت بعد أن ضربت المقاومة الحصار حول القسم واقتحمته وحررته ,
وهكذا قبعت دبابات العدو وبقية قواته خارج مدينة السويس في نفس الوقت الذى نجحت فيه قوات الجيش الثالث في منع العدو من أى تهديد لطريق القاهرة ـ السويس


ولا شك أن ملحمة السويس في حرب أكتوبر كانت ملحمة بطولية تعرضت لها المراجع الإسرائيلية نفسها بشيئ كبير من الرهبة والندم على محاولة اقتحام المدينة ,
وبعد أن وصفت المراجع الإسرائيلية الفخ الذى وقعت فيه قوات الفرقتين المدرعتين خلصت إلى نتيجة أن محاولة اقتحم مدينة السويس كانت خطيئة مميتة دفعت إسرائيل ثمنها غاليا [1]


ولم يكن حظ قوات الجنرال شارون أفضل ,
حيث مضي في طريقه يحدوه أمل تحقيق مجد شخصي عن طريق احتلال مدينة الإسماعيلية , وهناك تجهزت قوات الصاعقة والمظلات المصرية من الكتيبة 89 مظلات والكتيبة 81 مظلات والكتيبة 85 مظلات للتصدى لألوية المدرعات والمظلات الإسرائيلية ,
وفشلت أولى محاولات لواء الماجور دانى مات للاستيلاء على موقع سرابيوم الحيوى وتراجعت قوته بخسائر كبيرة ولما حاول إعادة الهجوم جنوب سرابيوم تصدت له الكتيبة 81 مظلات مما أفشل الهجوم مرة ثانية وزاد من خسائره ,
وقام شارون بمد لواء دانى مات بكتيبة مدرعات التي اخترقت موقع سرابيوم فما كان من قوة الكتيبة 81 إلا أن نسفت الكوبري القائم على الترعة الحلوة والإرتداد شمالا ,
وأصدرت القيادة المصرية أوامرها إلى اللواء 118 مشاة باحتلال الخط الدفاعى بمحاذاة ترعة الإسماعيلية في نفس الوقت الذى تقوم به قوات اللواء 182 مظلات بالتمسك بموقع طوسون الدفاعى ,
ورغم نجاح العدو في تأمين ساحة العبور إلا أن هذا التأمين تهدد بعمليات الصاعقة التي تم إعدادها من القيادة لمواجهة العدو جنوب ترعة الإسماعيلية ,
وفى هذه الفترة استشهد العميد إبراهيم الرفاعى وهو يقاتل وحدات العدو المدرعة وكان رحمه الله أبرز أبطال حرب أكتوبر والرجل الذى دوى اسمه في إسرائيل مقرونا بعملياته الفدائية الرهيبة أثناء حرب الإستنزاف بسبب قيادته لمجموعة المخابرات التي عرفت باسم ( المجموعة 39 )
وقد استشهد بطلقة دبابة كاملة ومن الغريب أن وجدوا جسده وعلى وجهه إشراقة نورانية مصحوبة بابتسامة ليست مستغربة على من قدم حياته في هذا الجهاد ,


وقامت الصاعقة والمظلات بعمليات مكثفة هدفها تهديد أى استقرار للعدو في تلك المنطقة ومنع تقدمه فقامت بنسف الجسر الشرقي لترعة السويس وهى الترعة التي تغذى مدينة السويس بالمياه , وغرقت منطقة المزروعات مما جعل الدبابات الإسرائيلية التي تهاجم موقع الكتيبة 89 مظلات تغرق في الأرض الموحلة ويتوقف تقدمها تماما ,
في نفس الوقت التي قامت فيه مجموعات الصاعقة بتأمين واحتلال ثلاث قواعد للكمائن في طريق تقدم العدو نحو الإسماعيلية في مناطق جنوب غرب الكوبري العلوى وجنوب أبو صوير وجنوب المحسمة ,


الهوامش :
[1]ـ المعارك على الجبهة المصرية ـ جمال حماد ـ دار الشروق ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:48 PM

وكان شارون قد بدأ الإتجاه بأقصي سرعته نحو الشمال بعد حلول وقف إطلاق النار على أن يكون اقتحامه الإسماعيلية من خلال عبوره ترعة الإسماعيلية وقطع الإمدادات الرئيسية القادمة من القاهرة وشرق الدلتا إلى قوات الجيش الثانى الميدانى ,
ولكن أحلام شارون بالإستيلاء على الإسماعيلية والسيطرة على طريق الإمدادات لم تلبث أن تبخرت بسبب طبيعة الأرض الزراعية التي أعاقت تقدم قواته من ناحية ,

ومن ناحية أخرى وقوف المقاومة المصرية كحائط صد فولاذى أمام قوات شارون التي تحاول عبور الترعة , ومن ثم توقفت قوات شارون المدرعة جنوب الترعة دون أن تتمكن من العبور إلى الأرض الشمالية
وفى نفس الوقت قامت قوات الجيش الثانى الميدانى بالدفاع عن مدينة الإسماعيلية وشنت الهجمات المضادة على قوات شارون باستخدام عدة جبهات للهجوم ,
كان أولها استخدام مدفعية الجيش الثانى والتى كان يتولاها العميد عبد الحليم أبو غزالة ـ وزير الدفاع فيما بعد ـ وقامت المدفعية بجهود جبارة وموفقة في وقف العدو ومنعه من عبور ترعة الإسماعيلية بقوة نيران ضخمة تجاوزت 10 كتائب مدفعية
في نفس الوقت الذى تم تكليف اللواء 118 ميكانيكى بمهمة الدفاع أمام ترعة الإسماعيلية بالتنسيق مع مدفعية الجيش الثانى
كما أصدر اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثانى أوامره إلى اللواء 182 مظلات باحتلال موقع جبل مريم وكانت أوامر قائد الجيش الثانى لقائد قوة المظلات بالتمسك بموقع جبل مريم حتى آخر طلقة وآخر رجل
ونفذت قوة المظلات مهمتها بكفاءة ونجحت في الدفاع عن موقع جبل مريم الذى يعتبر مفتاح مدينة الإسماعيلية كما تم تلغيم طرق تقدم العدو ووضع الكمائن في طريق اقتراب العدو , إضافة إلى تكوين قوة احتياط تكون مهمتها استرداد موقع جبل مريم لو نجح العدو في اختراقه ,
كما قامت المجموعة (139) صاعقة بمهمة عمل الإغارات والكمائن واستنزاف قوة العدو وبعدها تم تكليفها بمهمة التمركز أيضا على طول خط المواجهة وعمل الكمائن في طريق جنوب ترعة الإسماعيلية ,

وقام شارون بالهجوم المتعدد الجوانب على كل الطرق التي فرشها أمامه الجيش الثانى بالفخاخ والكمائن واشتعلت معركة من أقوى المعارك على أبواب الإسماعيلية تكبدت فيها قوات شارون خسائر فادحة دعته إلى طلب النجدة السريعة من الجنرال حاييم بارليف رئيس الأركان الإسرائيلي ,
ولكن بارليف رفض طلبه فقد كانت الليلة مظلمة تماما وعبور طائرات الهليكوبتر لإنقاذ الجرحى وإخلائهم أمر مستحيل فضلا على أن الطائرات ستقع في الكمائن المصرية ,
وأمر بارليف شارون بأن تتولى قواته إخلاء جرحاه وفق إمكانياته ,
ونفذ شارون الأمر طيلة أربع ساعات كاملة حتى طلوع النهار استهلكها في إخلاء جرحاه من ميدان المعركة حتى بزغ الفجر ووجد رجال المظلات الإسرائيليين القائمين بمهمة إخلاء الجرحى على بعد 20 مترا من مواقع قوات المظلات المصرية , فتراجعوا للخلف
وبهذا فشلت إلى الأبد مهمة شارون بالإستيلاء على الإسماعيلية أو تطويق طريق الإمدادات وتبخرت أحلام المجد التي راودته منذ بدء العمليات ,



محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:50 PM

الخطة ( شامل ) المعدة لنسف الثغرة :


بعد جنوح العدو وإصراره على خرق وقف إطلاق النار وتفجر الخلافات بين الفريق الشاذلى والرئيس السادات حول الحل الأمثل في تصفية الثغرة ,
رفض السادات خطة الشاذلى وأمر بإعداد خطة سريعة لتصفية الجيب الإسرائيلي دون الحاجة لسحب أى قوة من الشرق ,
وعليه تم إعداد الخطة ( شامل ) لتصفية الموقع الإسرائيلي غرب القناة بعد إتمام حصاره ,
وكانت الخطة جاهزة للإعداد يوم 29 أكتوبر بعد أن امتثلت القوات الإسرائيلية بالفعل لوقف إطلاق النار وذلك بناء على الضغط الأمريكى الذى مارسه هنرى كيسنجر على جولدا مائير عقب وصول رسالة السادات إليه , والتى رد عليها بتهديد مبطن ولكنه عرض في نفس الوقت انسحاب القوات الإسرائيلية من مواقعها غرب القناة للحيلولة دون تدميرها , بعد التعهد بالتزام إسرائيل بإيقاف العمليات فورا
وكانت رسالة السادات الخفية بإطلاق صاروخين ( سكود ) قد أتت ثمارها دون شك , حيث عكست إصرار مصر على توقف النشاط الإسرائيلي والتعهد بسحب كافة القوات وفك الحصار عن الجيش الثالث ومدينة السويس وإما تصفية هذه القوات وإبادتها ,
وكانت أهداف تلك المرحلة هى اتخاذ الإجراءات اللازمة لو لم تستجب القوات الإسرائيلية للتهديد المصري وكان ترتكز على النقاط التالية :
أولا : إحداث أكبر خسائر ممكنة في قوات العدو وأسلحته ومعداته عن طريق عمليات الصاعقة والمظلات وهو ما تم تنفيذه بالفعل منذ بدء المواجهات حتى تم تسمية المعارك بحرب الإستنزاف الثانية
ثانيا : القيام بعمليات إزعاج مستمرة على أوسع نطاق حتى يصبح بقاء قوات العدو في غرب القناة جحيما لا يطاق
ثالثا : إرغام إسرائيل على الإستمرار في تعبئة قواتها الإحتياطية مما يهدد الحياة العامة فيها بالشلل الكامل وهو ما لا تحتمله إسرائيل بينما كان فى طاقة الجيش الثالث والسويس احتمال الحصار لعدة أشهر
رابعا : بعد إتمام هذه التمهيدات يتم تنفيذ الخطة شامل بقيادة اللواء سعد مأمون ـ والذى تعافي من إصابته ـ وتولى قيادة الجيش الذى تم إعداده من الإحتياطى المصري والحرس الجمهورى لتصفية الثغرة



وقد تم في تلك الفترة حوالى 1500 إشتباك بالنيران اشتمل على 439 عملية فقط هى ما تم الإعلان عنه من الجانب الإسرائيلي والباقي تم التعتيم عليه ,
ووفقا للبيانات الإسرائيلية تكلفت القوات الإسرائيلية الخسائر التالية [1] فى المرحلة الأخيرة فقط :
أولا : تدمير 11 طائرة و41 دبابة وعربة مدرعة وعشر رشاشات ثقيلة
ثانيا : تدمير 36 بلدوزر ومعدة هندسية ومعدة ركوب
ثالثا : إصابة ناقلة البترول الإسرائيلية ( سيرينا ) وتوقف خدمتها بأعطاب جسيمة
رابعا : إغراق قارب إنزال بحرى
خامسا : قتل 187 فردا من ضباط وجنود العدو بالإضافة لمئات الجرحى والأسري



وبهذا الشكل تمكنت القوات المصرية من تمهيد الطريق أمام تنفيذ الخطة ( شامل ) والتى تم إعداد قواتها وتكليف قيادتها للواء سعد مأمون وكانت تحتوى على فرقتين مدرعتين هما الفرقة 4 والفرقة 21 بالإضافة إلى ثلاث فرق مشاة ميكانيكى دفعة واحدة وهى الفرق الثالثة والسادسة والثالثة والعشرين ,
فضلا على مجموعات مختلفة من الصاعقة والمظلات جاهزة من قوات الإحتياطى العام ,
وقبل بدء مهمة هذا الجيش العرمرم كان موقف القوات الإسرائيلية غرب القناة كما يلي :
أولا : زال التهديد العسكري تماما غرب القناة سواء فى طريق القاهرة أو الدلتا بعد أن تم حشد القوات المصرية الإحتياطية غرب القناة وإعادة التوازن الإستراتيجى للقوات المصرية فى شرق القناة ليصبح الجيب الإسرائيلي بين المطرقة والسندان
ثانيا : تفوقت القوات المصرية غرب القناة على قوات العدو بمعدل 2 : 1 ونجحت عملية حصار قوات العدو فى غرب القناة بحيث لم يستطع أن يتجاوز الجيب المحصور بمتر واحد
ثالثا : تحصن الإسرائيليون داخل الجيب المحاصر عن طريق حفر الخنادق وبث الألغام على طول المواجهة مع القوات المصرية بعد أن نجحت قوات الصاعقة والمظلات المصرية فى تنفيذ 439 عملية عسكرية لاستنزاف قوات العدو المحاصرة مما كان له أبلغ الأثر فى انخفاض الروح المعنوية لهذه القوات ,
رابعا : فشل العدو فشلا ذريعا فى تحقيق أى هدف من أهداف عملية الثغرة رغم الخسائر الهائلة التى تعرض لها فلم تنجح المحاولات لاحتلال السويس أو الإسماعيلية ولم تنجح محاولة القضاء على الجيش الثالث أو تصفية رأس كوبري الجيش الثانى وبقيت رءوس كباري الجيش الثالث فى شرق القناة قوية كما هى منذ بدء العمليات رغم خضوع مؤخرة الجيش للحصار فى غرب القناة مما جعل الحصار الإسرائيلي معدوم الهدف ,
خامسا : ارتفعت الروح المعنوية للقوات المصرية فى تلك الفترة إلى عنان السماء بعكس ما أرادت القوات الإسرائيلية من عملية الثغرة وذلك بعد أن أدركت القوات المصرية حقيقة وضع العدو وهو محصور بين القوات المصرية التى تحاصر قواته غرب القناة من جهة وتحاصره قناة السويس من الجهة المقابلة وخلف القناة قوات الفرق المصرية الخمس شرق القناة
هذا فضلا على عجز قوات العدو غرب القناة من رد أى عملية هجوم على القوات المصرية بعد أن عادت شبكة الدفاع الجوى المصري إلى نفس كفاءتها السابقة وردع طيران العدو ـ وهو عامل تفوقه الوحيد ـ عن التدخل تماما
سادسا : اضطرت القوات الإسرائيلية إلى اتخاذ أوضاع دفاعية فى غرب القناة رغم أنها بصدد عملية هجومية وذلك بعد أن اضطرتها القوات المصرية إلى حفر خندق مضاد للدبابات قبعت خلفه القوات الإسرائيلية ترقبا للهجوم المصري عليها مما أفقدها أى ميزة للمبادأة وجعلتها فى حالة حصار بعكس ما كان متوقعا من مهمتها الأصلية
سابعا : أصبحت القوات الإسرائيلية فى غرب القناة رهينة فى قبضة الجيش المصري بعد أن تحقق المحظور الذى كانت تخشاه القيادة الإسرائيلية وهو انقطاع القوات الإسرائيلية فى الغرب عن القوات القابعة فى الشرق ما عدا طريق ضيق عرضه عشرة كيلومترات يسهل قطعه من القوات المصرية فور اتخاذها القرار بذلك


بنود الخطة شامل :
بعد حالة الحصار الكامل التى مهدتها القوات المصرية كانت بنود الخطة شامل كما يلي :
أولا : تقوم القوات المصرية شرق القناة من اتجاه رأس كوبري الفرقة 16 مشاة لإغلاق ثغرة الإختراق من المنبع فى الشرق وفصل القوات الإسرائيلية عن خطوط مواصلاتها فى الغرب وإحكام دائرة الغلق والحصار حولها ,
ثانيا : تقوم القوات المصرية بتوجيه ضربة أخرى فى اتجاه محور أبو سلطان باتجاه الدفرسوار غرب القناة
ثالثا : تقوم القوات المصرية بتوجيه ضربة ثالثة على محور طريق السويس فى اتجاه مدينة السويس للوصول بأقصي سرعة إلى المدينة وفك حصارها وفك الحصار عن الفرقتين 7 و19 مشاة التابعتين للجيش الثالث
وتكون الضربة الرابعة على محور طريق جنيفة فى اتجاه البحيرات المرة الصغري ,
والضربة الخامسة والأخيرة موازية لخليج السويس فى اتجاه ميناء الأدبية ,

ولم يتح القدر للخطة شامل أن يتم تنفيذها بعد أن تم تحقيق الفصل الفعلى بين القوات وفك حصار القوات الإسرائيلية غرب القناة يوم 17 يناير 1974 تحت إشراف الأمم المتحدة وبدأت إسرائيل فى سحب كافة قواتها غرب القناة وصدر القرار السياسي عند ذلك بتجميد الخطة شامل بعد إتمام القوات الإسرائيلية انسحابها ,
وذلك بعد أن ظلت القوات الإسرائيلية رهينة الحصار ورهينة الإبادة بالخطة شامل طيلة الفترة من 28 أكتوبر وحتى موعد فض الإشتباك في 17 يناير 1974 م
وبهذا انتهت عمليا آخر معارك حرب السادس من أكتوبر بفشل ذريع لعملية الغزالة أو عملية القلب الشجاع والذى حولها المصريون إلى عملية القلب المذعور ,


الهوامش:
[1]ـ المعارك على الجبهة المصرية ـ مصدر سابق

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:51 PM

المعالجات الإعلامية لمعارك الثغرة ,

كما قلنا من البداية كانت عملية الثغرة عملية تليفزيونية الهدف الرئيسي منها إعلامى بنشر البلبلة وخفض الروح المعنوية للقوات المصرية , ومحاولة إدراك ما تبقي من سمعة الجيش الإسرائيلي فى العالم
والهدف الثانى تحقيق مكاسب على الأرض تجبر القوات المصرية على التخلى عن مكاسبها في الشرق ,
ولهذا شهدت تلك الفترة عمليات تزوير إعلامى واسعة النطاق قام بها الإعلام الإسرائيلي بمعاونة أبواقه في سائر أنحاء العالم في مواجهة غير متكافئة مع الإعلام العربي والمصري الذى يفتقر إلى إمكانيات المواجهة ,
هذا رغم أن عملية التزوير كان عمرها قصيرا جدا لم يتعد الأشهر حيث أن الصورة الحقيقية للأحداث لم يتم تزييفها طويلا لا سيما بعد وقف إطلاق النار الفعلى وبدء محادثات فض الإشتباك حيث فوجئ العالم أجمع بأن الطنطنة الإسرائيلية حول ما حققته قواتها غرب القناة ليس لها أثر فعلى على الأرض , وأن هذه القوات تم سحبها تدريجيا بعد فض الإشتباك دون أن تكسب إسرائيل من هذا الإجراء مترا واحدا في الشرق حيث قبعت القوات المصرية العابرة على خطوطها التي استولت عليها دون تغيير , ودون أن تستبقي تحت سيطرتها مترا واحدا فى الغرب !
أى أن العالم فوجئ بالنهاية الفعلية لمعارك حرب أكتوبر على نفس صورة التفوق العربي الذى ظلت قائمة منذ اجتياح القناة واحتلال القوات المصرية للمواقع التي كان يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي قبل 6 أكتوبر بعمق 20 كيلومترا ,
هذا فضلا على الإنسحاب الكامل غير المشروط لقوات غرب القناة مرة أخرى وبقاء قوات الجيش الثالث ورءوس الكباري الخاصة به كما هى دون أن يتم الإلتفاف حوله وتدميره أو حصاره وتصفية رءوس الكباري في الشرق !
بالإضافة إلى قبول إسرائيل الإنسحاب التدريجى بعد ذلك حتى خط المضايق عام 1975 م , ثم تتويج هذا كله بالإنسحاب من سيناء وإتمامه في عام 1982 م ,

لذلك كان السؤال القائم في العالم كله ,
أين هى المكاسب الطبيعية التي حققتها إسرائيل من عملية الإختراق في الثغرة , وأين ما كانت تردده جولدا مائير من أن أوضاع قواتها في الحرب مطمئنة شرق وغرب القناة ولا تدفعها للعجلة في قبول وقف إطلاق النار ؟!
وبالطبع كان الخبراء العسكريون هم أقدر الناس على فهم الإشكالية واكتشاف الخداع الإعلامى الإسرائيلي بمنتهى البساطة لأن مبادئ الإختراق في العلم العسكري لها هدف واضح محدد وهى القيام بحركة التفاف حول القوات المعادية من الخلف وحصارها وخنقها واستخدام الحصار لتحقيق مكاسب إقليمية أو إبادة هذه القوات ,
وهذا ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه على المستويين وغادرت قواتها مواقعها كما لو كانت هى التي كانت في الحصار دون أى مكسب يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل يوم 6 أكتوبر
وبالتالى كان من السهل على الخبراء أمثال الجنرال بوفر أو المحلل العسكري ديبويه أو قادة الجيش المصري إدراك الفشل التام للقوات الإسرائيلية ,

ليس هذا فقط ..
بل ضاعت فرصة من أعظم الفرص أمام الجيش المصري لتدمير فيلق إسرائيلي كامل بكل ما يعنيه هذا الأمر من هزيمة ساحقة لوجود الدولة اليهودية وهو ما منعته الولايات المتحدة بالتدخل المباشر من هنرى كيسنجر
ومن أغرب الغرائب أن جولدا مائير خرجت بعد ذلك تقول أن الفرصة أفلتت من الجيش الإسرائيلي لتدمير القوات المصرية بسبب تدخل القوى الكبري وفرضها لإطلاق النار ,
وهو إدعاء لا يخدع طفلا بالطبع لأنه لا يصمد أمام عدة أسئلة بديهية منها :
أولا : قبلت إسرائيل علنا وطواعية قرار وقف إطلاق النار في يوم 22 أكتوبر وأعلنت للعالم هذا القبول دون أى ضغط أمريكى لأن الضغط الأمريكى جاء بعد ذلك بأيام بعد تفاقم الأزمة
وأنكرت إسرائيل أنها قامت بخرق وقف إطلاق النار وادعت أنها واصلت إطلاق النار بسبب خرق القوات المصرية لقرار الأمم المتحدة ,
والسؤال هنا :
لو كان كلام جولدا مائير منطقيا فهذا معناه أن قواتها في الغرب قامت بأداء مهمتها كاملة وإلا ما هو الداعى لإعلانها قبول وقف إطلاق النار طواعية دون ضغط في 22 أكتوبر ؟!
فهل نجحت إسرائيل في تحقيق أى هدف يوم 22 أكتوبر وحتى يوم 28 أكتوبر عندما استمرت في خرق وقف إطلاق النار متعمدة طمعا في تحقيق أى مكسب أو على حد اعترافها بنفسها في محادثتها لهنرى كيسنجر أن جنرالتها رجوها في ساعات إضافية لتحسين وضع هذه القوات !
وبالطبع كانت جولدا مائير تعتمد في تصريحاتها الرنانة على سرية هذه الإعترافات التي دارت بينها وبين هنرى كيسنجر وهى السرية التي رُفعت بعد ثلاثين عاما من الحرب

ثانيا : لو كانت القوات الإسرائيلية أوضاعها مطمئنة كما ادعت جولدا مائير فما هو الدافع الذى دعاها لقبول سحب قواتها جميعا في الغرب دون أن تفاوض على مكاسب أرضية في الشرق فتشترط انسحاب القوات المصرية عن شرق القناة وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 6 أكتوبر كمقابل للانسحاب الإسرائيلي من غرب القناة ؟!
وهو الأمر الذى لم يحدث ولم تتخل القوات المصرية عن أى أرض اكتسبتها خلال العمليات وظلت يدها على أرضها المحررة حتى تمام تحرير سيناء جميعها


ثالثا : ادعت جولدا مائير أن القوى العظمى منعتها من تحقيق أهدافها وهى تشير صراحة بهذا الكلام إلى أن كلامها السابق كله كان عبارة عن افتراء مكشوف لأنها وقعت في تناقض بادعائها أن قواتها حققت أهدافها تارة وتارة أخرى تدعى أن قواتها لم تسنح لها الفرصة لتحقيق مكاسبها في الغرب !
بالإضافة إلى حقيقة هامة يعلمها كل من له علاقة بالشئون السياسية والعسكرية في العالم وهى أن إسرائيل تفعل ما تشاء وقتما تشاء دون أن تلقي بالا للقوى العظمى , حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ,
وهذا إذا سنحت لها فرصة تحقيق أى مكسب مهما بلغت ضآلته , فما بالنا بهدف رهيب كهذا الذى كانت تطمح إليه إسرائيل ألا وهو رد الهزيمة إلى القوات المصرية واستعادة سمعة الجيش الإسرائيلي والإحتفاظ بسيناء
والتاريخ خير دليل على أن إسرائيل عجزت عجزا كاملا عن تحقيق أى هدف من هذه الأهداف وأنها قبلت الإنسحاب لهذا السبب وليس بسبب الضغوط الأمريكية والسوفياتية
فبداية :
فمسألة عدم اكتراثها بالإتحاد السوفياتى أمر ثابت لا جدال فيه ثبت في معارك عام 1967 م عندما أقدمت على خرق وقف إطلاق النار بعد قبول جميع الأطراف له ـ بمن فيهم إسرائيل ـ يوم 9 يونيو واجتاحت الجولان السورية وأتمت إحتلالها دون أن تخشي وقف إطلاق النار أو تدخل الإتحاد السوفياتى ,
هذا فضلا على إقدام موشي ديان على احتلال بورفؤاد المصرية بعد قرار وقف إطلاق النار وهى المحاولة التي فشلت فيما بعد عندما نجحت وحدة خفيفة من الصاعقة المصرية لا تزيد عن ثلاثين رجلا في رد كتيبة المدرعات الإسرائيلية بخسائر فادحة في معركة رأس العش الشهيرة
وهددها الإتحاد السوفياتى في معارك حرب أكتوبر ولم تحفل للتهديد واعتمدت على الحماية الأمريكية وبالفعل لم يستطع الإتحاد السوفياتى أن يفعل شيئا ونفذت إسرائيل هدفها بخرق وقف إطلاق النار لمدة ستة أيام في تحد مبالغ فيه ,
وعندما هددت إسرائيل العاصمة السورية دمشق ولم يكن في نيتها احتلالها بطبيعة الحال خرجت التصريحات السوفياتية تشير إلى أن وقوع عاصمة عربية في يد إسرائيل هو خط أحمر لن يسكت عليه الإتحاد السوفياتى
ونحن نؤكد أن إسرائيل لو كان باستطاعتها أو من أهدافها تحقيق ذلك لما حفلت بالإتحاد السوفياتى لأنه سكت وغض الطرف عن سقوط عاصمة عربية أخرى بعد ذلك وهى بيروت في يد الإسرائيليين عام 1982 م ,
فأين هو خوف إسرائيل أو خشيتها أو تراجعها أمام الإتحاد السوفياتى ؟!


محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:53 PM

وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ورغم أنها الأم الرءوم لإسرائيل ,
فقد أثبت التاريخ أيضا أن أهداف إسرائيل التوسعية لا تملك الولايات المتحدة عليها سلطانا فيها بدليل أن موشي ديان في حرب يونيو 67 م اعتزم نقض اتفاقه مع الرئيس الأمريكى ليندون جونسون بعدم اجتياح الضفة الغربية والقدس , ولكن موشي ديان قام بدم بارد وأعصاب هادئة بضرب سفينة المراقبة ( ليبرتى ) في البحر المتوسط حتى لا تكشف أنه اجتاح الضفة الغربية دون أن يحاول الملك حسين التدخل ابتداء في المعارك ,
وحتى لا تكشف السفينة أن القوات الإسرائيلية دخلت الضفة الغربية من تلقاء نفسها دون مبادرة هجوم من الجيش الأردنى كان قرار ديان بإغراق السفينة الأمريكية بأوامر مباشرة منه ثم قدم اعتذارا لجونسون على اعتبار أنه خطأ عسكري[1]
وفى أثناء أزمة وقف إطلاق النار أنذر هنرى كيسنجر السفير الإسرائيلي سيمحا دونتز بأن الوضع لم يعد يحتمل والمواجهة السوفياتية الأمريكية على وشك الوقوع بسبب تحدى إسرائيل للإرادة الدولية وعدم التزامها بوقف إطلاق النار ,
قامت جولدا مائير بتجاهل تحذير كيسنجر وأبلغته بحاجتها لهذا الخرق الذى استمر أياما ولم تحفل بما قاله فما كان منه إلا أن عاد لمجموعة العمل في البيت الأبيض واتخذ قراره بتصعيد المواجهة مع الإتحاد السوفياتى ولم يستمر في الضغط على جولدا مائير حتى أعلنت جولدا مائير قبولها الفعلى للقرارين 239 و240 بالوقف الفعلى لإطلاق النار

فكيف يمكن أن نتصور إسرائيل تترك الفرصة تفلت من يدها إذا كانت تملك حقا تحقيق أى انتصار من عملية الثغرة يعيد لها بعضا من الخسائر الفادحة التي تكبدتها ؟!
وكيف يمكن أن نقتنع بأن جولدا مائير قبلت سحب قواتها من غرب القناة دون تحقيق أية مكاسب من العملية على الأرض لولا أنها كانت بالفعل قوات مهددة بالإبادة كما توعدها المصريون ؟!

رابعا : الإعترافات الإسرائيلية والأمريكية بفشل إسرائيل في عملية الثغرة تسربت من بين الإدعاءات بنجاحها , فى مزيج غريب يبين كم أن حبل الكذب قصير !
فمثلا هنرى كيسنجر الذى يذكر في مذكراته أنه تدخل لدى جولدا مائير كى يقنعها بألا تحقق إنتصارا ساحقا على العرب حتى يمكن لهم قبول المفاوضات من مركز مشرف !
كان هو نفسه القائل لموشي ديان أثناء مؤتمر السلام الدولى بجنيف عام 1974 م بألا يطمح فوق ما يتصور وذلك ردا على إدعاء ديان أنهم يملكون أوراق للتفاوض والضغط بوضع القوات الإسرائيلية في غرب القناة وأنه لولا كيسنجر لتمكنت القوات من تحقيق المكاسب المطلوبة ! وهو ما نفاه كيسنجر وسخر من ديان سخرية مبطنة وقال له ما معناه أن القوات كانت معرضة للإبادة لولا تدخله الشخصي[2]
مما يشي بوضوح بحقيقة اقتناع كيسنجر ومخالفته لما قال فى مذكراته حول النصر الإسرائيلي وهو الأمر الذى اتضح فى جلاء من ممارسات كيسنجر العملية سواء بتدخله لدى السادات لمنعه من تدمير قوات الثغرة أو تعهده الشخصي للسادات أنه يضمن له استجابة إسرائيل لشروطه كلها بعد أن استجاب له السادات ومنعه من تحقيق إنتصار كامل على إسرائيل ,
وتعبير تحقيق انتصار كامل على إسرائيل كان هو تعبير كيسنجر نفسه [3]
ويضاف إلى ذلك شهادة كيسنجر الصريحة أن إسرائيل هى من توسلت لوقف إطلاق النار بغرض استغلاله وخرقه فيما بعد لمحاولة تحقيق أى مكسب وهى الشهادة التي نقلناها من مذكرات كيسنجر في الفصول السابقة عندما تحدث عن زيارته لإسرائيل يوم 22 أكتوبر واكتشف حالة الإنهيار البادية على جولدا مائير نفسها ووزرائها بل وأفراد الشعب الذين صفقوا له في الطريق انتظارا لما سيبذله من جهد لتحقيق وقف إطلاق النار [4]
فمن نصدق يا ترى ؟!
حديث كيسنجر الأول الذى كان يوحى فيه بالنصر الإسرائيلي أم حديثه الفعلى عن زيارته يوم 22 أكتوبر أى في نفس الوقت الذى يدعى فيه أن إسرائيل كادت أن تحقق مكسبا ,
فضلا على أن أشار ـ عن غير قصد ـ لحالة الإنهيار التي كانت تعيشها جولدا مائير رغم أنها في نفس الوقت كانت تطلق تصريحاتها للإعلام حول نجاح قواتها في غرب القناة ؟!

فضلا على ذلك شهادة موشي ديان نفسه والذي انتابه الرعب طيلة مراحل تنفيذ عملية الثغرة وصرح للمجلس العسكري بإلغاء العملية حتى لا يذبح المصريون رجالهم على الشاطئ الآخر , وهو الأمر الذى رفضه دافيد إليعازر وأصر على الإستمرار رغم الخسائر ولم يتدخل ديان على عادته في تلك الحرب , تهربا من مسئولية الحساب السياسي
ثم عاد ديان ووضع شهادته على الصورة المرعبة التي رآها في آثار معركة المزرعة الصينية والتى سماها له أحد ضباطه بمزرعة الموت أو وادى الموت وقال فيها ديان :
( وأنا أتأمل الأشلاء والدماء والحطام أخذت أتحسس العلامات على المعدات والأفراد لعلى لا أجد علامة الجيش الإسرائيلي غير أنى وجدت الكثير منها , ورغم أنى شاهدت أبشع مناظر الحروب من قبل إلا أننى لم أقع على مثل هذا المنظر المرعب )
وفى حديث صحفي لموشي ديان بعد الحرب قال ما نصه بالحرف :
( في الواقع كانت الأمور على غير ما نتوقعه فلم نستطع بناء الجسور على القناة وكانت الخسائر بالنسبة لنا غير متوقعة )
وشهد المفكر العسكري الأمريكى ديبويه في كتابه ( النصر المراوغ ) أن إسرائيل أوقعت نفسها في مأزق عنيف بعملية الثغرة وأنها منحت المصريين فرصة تطويل الحرب على حسابها وخاضت إسرائيل معركة خاسرة بكل المقاييس واضطرت للإنسحاب بعد أن أنقذها تدخل الولايات المتحدة الأمريكية ,


الهوامش :
[1]ـ سر ليبرتى ـ جيمس أنس ـ المعهد الدولى للأبحاث
[2]ـ محاورات هنرى كيسنجر مع وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمى أثناء مؤتمر جنيف ـ كتاب المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل ـ محمد حسنين هيكل ـ الجزء الثانى ـ دار الشروق
[3] ـ المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل ـ الجزء الثانى ـ مصدر سابق
[4] ـ مذكرات هنرى كيسنجر ( سنوات الفوران ) ـ الجزء الثانى ـ الطبعة العربية

محمد جاد الزغبي 10-30-2010 09:54 PM

خامسا : كان من الغريب جدا أن تتزامن الدعاية الإسرائيلية والأمريكية حول عملية الثغرة مع المحاكمات التي جرت لجميع القادة العسكريين أمام لجنة الكنيست الإسرائيلي المعروفة باسم ( لجنة أجرانات ) والتى خرج تقريرها يدين جميع القادة العسكريين الإسرائيليين في حرب أكتوبر ابتداء من رئيس الأركان وحتى باقي قادة الأفرع الرئيسية دون أن يحتوى تقرير أجرانات على أى تنويه يوحى بأن هؤلاء القادة حققوا أدنى انتصار في أى معركة من معارك حرب أكتوبر !
بل خرج التقرير بالإدانة الكاملة لكافة هؤلاء القادة والتوصية بتقاعدهم جميعا !
فأين هو الأثر العملى للنصر الإفتراضي الذى حققوه في وسائل الإعلام وبرهنوا على عكسه بتصرفاتهم بعد الحرب
وحتى عندما خرج تقرير لجنة أجرانات يرفع المسئولية عن القادة السياسيين ويتهم العسكريين وحدهم كان هذا غريبا لأن قرار عملية الثغرة كان قرارا عسكريا محضا وعندما تدخلت القيادة السياسية ممثلة في وزير الدفاع موشي ديان رفض رئيس الأركان وباقي القادة الأخذ برأيه وأصروا على الإستمرار رغم الخسائر ,
فهذا معناه أن تقرير لجنة الكنيست يشهد بأن الفشل العسكري لهؤلاء القادة كان فشلا كاملا وإلا ما أوصي بتقاعدهم
وفى مذكراته برهن إيلي زاعيرا مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية ( أمان ) على أن التقصير والفشل كان سياسيا وعسكريا وأن خروج تقرير لجنة أجرانات بقصر المسئولية على القادة العسكريين تم بضغوط سياسية على اللجنة
ولهذا عندما خرج تقرير اللجنة بعدم إدانة جولدا مائير وموشي ديان قامت المظاهرات والإحتجاجات حتى اضطر كلاهما إلى الإستقالة والدعوة لانتخابات جديدة فاز فيها حزب العمل برياسة اسحق رابين ,
فلماذا استقالت جولدا مائير وموشي ديان وهما ـ طبقا للدعاية الإسرائيلية ـ قادا إحدى المعارك الناجحة في حرب أكتوبر وهى معركة الثغرة ؟!
ولماذا لم يضع صانع القرار الإسرائيلي هذا النصر في اعتباره يا ترى ؟!
وأين هو الواقع العملى للدعاية الإسرائيلية التي انتشرت في العالم أجمع وقالت بأن معركة الثغرة غيرت محور الحرب وغيرت نتيجتها في نهاية القتال ؟!
أليس من المفترض ـ طبقا للدعاية ـ أن يكون النصر الأخير لإسرائيل مغيرا وفاعلا في نتيجة المكاسب السياسية على الأرض بعد وقف القتال ؟!
فلماذا فر الإسرائيليون من مواقعهم وأخلوا الضفة الغربية وقبلوا الدخول في مفاوضات الكيلو 101 ثم مؤتمر جنيف والذي أفضي إلى انسحاب كافة القوات الإسرائيلية غرب القناة , ثم توالى الإنسحاب بعدم ذلك وأخذ الضمانات على الطرفين بعدم تجدد القتال
وكانت كل الضمانات المطلوبة تصب في الجانب المصري , فألح كيسنجر في اتخاذ السادات ضرورة منح إسرائيل ما يطمئنها إلى أن القوات المصرية لن تبادر بتجديد القتال مرة أخرى !!
وهل هذا الذعر والخوف من تجدد الإشتباكات يتناسب مع روح المنتصر التي ادعتها إسرائيل ؟!
الأكثر من ذلك أن إسرائيل جندت جميع عملائها في مصر كى يأتوا لها بخبر تجدد القتال قبل وقوعه
وكان توقعهم يقارب الفزع إلى درجة أنهم رصدوا مليون دولار لأحد أشهر عملائهم في مصر إذا نجح في إنذار الإسرائيليين قبل الهجوم المصري الجديد [1]


سادسا : تقوم الإستراتيجية العسكرية على أن مفاهيم النصر والهزيمة مرهونة بتحقيق الأهداف بالنسبة للطرف الإيجابي ومنع تحقيق هذه الأهداف بالنسبة للطرف المدافع ,
كما تقوم مفاهيم النصر والخسارة على تغير الواقع العملى على الأرض فيتم تحديد المنتصر من المهزوم بدراسة الأوضاع قبل اشتعال المعارك والنظر إليها بعد وقف القتال ,
ولهذا كانت إسرائيل منتصرة فى حرب يونيو 67 م لأن خريطة المنطقة تغيرت وتمكن الجيش الإسرائيلي من بسط نفوذه على أرض سيناء ,
وأيضا بدراسة الوضع بعد حرب أكتوبر مباشرة نجد أن الخريطة تغيرت لصالح الجيش المصري حيث سيطر على سيناء من القناة حتى منطقة الممرات وكل هذه الأراضي كانت خاضعة للإسرائيليين ,
وبالتأمل فى أهداف معركة الثغرة الإسرائيلية نجد أنها فشلت فى تحقيق جميع أهدافها دون استثناء وبالتالى انسحبت دون مكاسب فى نفس الوقت الذى ظلت فيه القوات المصرية مسيطرة على الجزء المحرر من سيناء ,
وإذا تأملنا أهداف معركة أكتوبر من الجانب المصري نجد أن التوجيه الإستراتيجى الذى وجهه الرئيس السادات إلى المشير أحمد إسماعيل يوم 5 أكتوبر قد تحقق بكل بنوده ,
فقد أصدر الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة الأمر إلى قواته بكسر وقف إطلاق النار وتكبيد العدو أكبر الخسائر الممكنة فى الأفراد والأسلحة والمعدات والعمل على اقتحام خط بارليف والإستيلاء على مواقع العدو فى سيناء على مراحل وفق إمكانيات القوات المسلحة المصرية ,
وكل هذا تحقق بفضل الله إلى أبعد مدى ممكن , فضلا على تحقيق الهدف الإستراتيجى الأول ـ طبقا للتوجيه ـ وهو كسر نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على نظرية الحدود الآمنة وخط الدفاع الثابت ,
وقد ولت إلى الأبد أسطورة الأمن الإسرائيلي والجيش الذى لا يقهر بعد حرب أكتوبر , ولم يجرؤ قائد إسرائيلي واحد على ترديد نغمة الجيش الذى لا يقهر بعد حرب أكتوبر ولم نسمعها ولو لمرة واحدة رغم أنها كانت سائدة ليل نهار فى وسائل الإعلام منذ حرب يونيو 67 وحتى بداية معارك أكتوبر 73 م ,


فضلا على أن العدو نفسه اعترف بجلاء ووضوح بهزيمته الفادحة , وذلك بعد زوال أثر شائعات الثغرة سريعا مع الإجراءات التى تم اتخاذها فى إسرائيل سواء بمحاكمة القادة المهزومين أو تخلى إسرائيل عن مكاسب حرب يونيو أو فى كمية الإعترافات المذهلة من هؤلاء القادة بالهزيمة والتى عرضنا أغلبها خلال الفصول السابقة ,
هذا فى نفس الوقت الذى كان فيه الرئيس السادات يقلد أبطال أكتوبر نياشين النصر ,
ولأن الحقيقة لابد لها من فرض قوتها فى النهاية فقد أثبتت السنوات السابقة كلها أن إسرائيل لم تتجرع فقط هزيمة عسكرية يسهل نسيانها مع السنوات , بل تجرعت هزيمة ساحقة وقياسية لا زالت تمضغ آثارها حتى يومنا هذا رغم مرور ستة وثلاثين عاما على معارك حرب أكتوبر ,
ولا زالت تظهر كل عام الوثائق والتقارير التى تفيد مدى انتصار العرب فى تلك الحرب المجيدة , وكان آخرها تقارير جريدة ( يديعوت أحرونوت ) الذى كشفته فى السادس من أكتوبر لهذا العام وحمل الصورة الكاملة للانهيار الإسرائيلي من الداخل بين القادة السياسيين والعسكريين على حد سواء
كما نقلت تصريحات رئيس الوزراء الحالى بنيامين نتناياهو حول هذا الأمر وحملت تصريحاته مرارة الذكرى التى لم تمحها الأيام وتكشف فى وضوح عن عجز الدعاية الإسرائيلية حتى فى مجرد إقناع نفسها بما رددته أيام حرب أكتوبر !
هذا بالإضافة إلى ما أعطته حرب أكتوبر من المعارف فى مجال العلوم العسكرية وتم اعتبارها أكثر المعارك قوة بعد الحرب العالمية الثانية , والمعركة التى أضافت نظريات جديدة فى مجال القتال وهدمت نظريات أخرى سادت ميادين القتال طيلة الفترة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وبين معارك حرب أكتوبر ,
وكما قلنا وكررنا دائما أن الحق كل الحق فيما شهدت به الخصوم والأعداء , وقد طالعنا ما اعترف به العدو من انتصار مذهل إلى درجة تثير الإستغراب الشديد من ظهور بعض الأقلام العربية التى تروج لدحض هذا الإنتصار أو تقليل قيمته !!
وكأن هذه الأطراف أصبحت ملكية أكثر من الملك فتشهد لأعدائها بتفوق هم أنفسهم غير معترفين به !
فإن لم يكن اعتراف الخصم بالهزيمة واعترافه بأن وجوده ذاته كان محل شك فى تلك الحرب , فما هى الهزيمة الكاملة إذا ؟!
وإن لم يكن انتصارنا فى حرب أكتوبر هو الإنتصار الكامل فما هو الإنتصار الساحق إذا ؟!
تم الفصل الثانى بحمد الله , ويليه الفصل الثالث ويختص بمعالجة بعض الكتابات التى تناولت معارك أكتوبر




الهوامش :
[1]ـ كل شيئ هادئ فى تل أبيب ـ حسنى أبو اليزيد ـ الدار المصرية للطبع والنشر

محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:03 PM

كيف نقرأ أكتوبر قراءة جديدة ؟


حديثي هنا في هذا الفصل شديد الخصوصية ..
لأنه حديث قراءة لأكتوبر , وذلك بعد أتممنا القراءة ـ في الفصول السابقة ـ عن أكتوبر ,
والقراءة عن التاريخ شيئ .. وقراءة التاريخ شيئ آخر
فالأولى وسيلة .. والثانية هى الغاية ,
ذلك أن القراءة عن التاريخ معناها معرفة الأحداث والوقائع , وقراءة التاريخ معناها أخذ العبرة والتجربة وتطبيق النتائج على الحاضر وفى التحضير للمستقبل ,
ومن مشكلاتنا الكبري ـ إن لم تكن هى أكبر مشكلة ـ أننا لا نقرأ عن التاريخ أو نقرؤه , وإذا فعلنا وقرأنا عن التاريخ فلا نطبق النتيجة التي توصلنا للغاية وهى قراءة التاريخ ,
فكان أن تعودنا على النظر إلى التاريخ باعتباره قصصا مسلية لا نلبث أن نطوي صفحاتها ونطفئ الأنوار .. ونذهب للنوم !

وحديثي هنا إلى ذلك الجيل المستقل الذى وُلد في السبعينيات من القرن العشرين , أى أن ولادته كانت في معمعة الأحداث المجيدة التي نفذها جيل الشباب في السبعينيات ,
ذلك أن العلاقة بينهما وثيقة ,
فالجيل المستقل الذى أصبح شبابه اليوم بين أعمار الثلاثين والأربعين من المفروض أن وعيهم قد إكتمل , ومضي زمن التقليد وحان وقت العطاء الفكرى ,
ولابد لهذا الجيل أن يعيد قراءة التاريخ المعاصر قراءة جديدة تبتعد تماما عن قراءات جيل المفكرين الذين عاصروا أبطال أكتوبر وكتبوا عنهم ولهم ,
ذلك أن جيل السبعينيات بقدر ما كان عظيما في بطولات شبابه الذين بذلوا الدم وحققوا المعجزة , بقدر ما كان الجيل السياسي والفكرى أصغر من هذا الحدث , وتسبب بكتاباته في تشويه الصورة الحقيقية لأكتوبر تحت مبرر الصراعات والإنتماءات الأيديولوجية ,
وانقسم الناس في عصورهم إلى ناصريين قوميين وساداتيين ,
واشتعلت المعارك بينهما وكل منهما يهاجم الطرف الآخر عن طريق مهاجمة رموزه , فعمد أنصار السادات إلى تشويه دعاة القومية والمرحلة الناصرية وعمد أنصار القومية إلى اتهام السادات بخيانة الثورة والقضية العربية ,
وفى ظل التراشق المتبادل والعداء المستحكم تورط مفكرو الجانبين في خطايا أعمت الأجيال المعاصرة لهم وقسمتهم إلى فريقين متصارعين تحت تأثير الأهواء بغض النظر عن الرسالة والهدف
أما الجيل الذى نتحدث عنه وإليه اليوم , فهو الجيل المستقل الذى تشكل وعيه في فترة لم تشهد هذه الصراعات الفارغة وأصبح هذا الجيل ومفكروه في حاجة إلى النظرة الواقعية البعيدة عن التمييز إلى نظرية ( ضد أو مع )
وبالتالى أصبحوا في أمس الحاجة إلى تحليل جديد للوقائع والأحداث
تحليل يبتعد تماما عن تحليلات الجبهات المتصارعة التي شوهت النصر وجمّلت الهزيمة في سبيل الإنتصار للأشخاص

ويكفي أن كبار مفكرينا من الجيل المتصارع في السبعينات أورثوا الأمة تناقضات بلا نهاية , كما ضربوا عرض الحائط بمنجزات لابد للأمة أن تقف عليها وعندها لأنها منجزات للأمة لا للرؤساء ,
فحرب أكتوبر لم يصنعها السادات أو حافظ الأسد ,
بل صنعها شباب القوات المسلحة على الجسور وحققوا بها الإنتصار المذهل الذى أعاد للأمة كرامتها , وأثبت قدرتها على الدخول في مواجهة عسكرية مع قوة باطشة .. والإنتصار عليها أيضا
وتلك في حد ذاتها أكبر هدف جاءت به معركة أكتوبر وحققته

لكن الناصريون شنعوا على انتصار أكتوبر لمجرد أن السادات كان قائده , والساداتيون شوهوا صورة عبد الناصر واتهموا الثورة الوطنية بأنها عميلة للمخابرات المركزية ,
دون أن ينتبه الطرفان لحقيقة مضحكة ,
أن منتقدى السادات المتبرئين منه من الناصريين , ينسون أن السادات إفراز طبيعى لتجربة عبد الناصر وهو الذى جعل من السادات نائبا وحيدا له ,
بل وكان محمد حسنين هيكل ـ أشرس منتقدى السادات فيما بعد ـ هو الذى ثبّت أقدام السادات في الحكم في عملية مراكز القوى عندما تفجر الصراع بينه وبين رموز عهد عبد الناصر ,
وينسي الساداتيون أن السادات كان رمزا من رموز الحكم أيام عبد الناصر , وأحد كبار المنافقين له في كتبه التي نشرها في حياة عبد الناصر وتبرأ منها فيما بعد , مثل كتاب ( قصة الثورة ) أو كتاب ( يا ولدى .. هذا عمك جمال ) !!
وأى انتقادات ساقها أنصار السادات لعبد الناصر فللسادات نصيب وكفل منها دون شك لأنه كان رئيسا للمجلس التشريعى في عهد عبد الناصر ونائبا ـ فيما بعد ـ لرئيس الجمهورية ,
فأصبح حال الطرفين ينطبق عليه المثل القائل ( إذا اختلف اللصوص .. ظهر المسروق )
وقد اختلف لصوص القومية فظهرت فضائح العهدين بأيديهم لا بأيدينا نحن الأجيال المعاصرة !

فالتيار القومى يحاول أن يتبرأ من السادات باعتبار أنه عدو المنهج القومى والناصري !
ويطالبون الأجيال التالية لهم بترديد هذه المقولة بلا عقل ! وكأنه نحن الذين أتينا بالسادات فوضعناه رئيسا لمصر قبل حتى أن نُولد !
السادات كان وسيظل ابنا شرعيا لثورة يوليو ولتيار القومية , وقد نسي القوميون أنهم هم الذين منحوا السادات خيوط الغزل التي غزل بها سياسته ,
وذلك أنهم ابتدعوا النظم القومية ونقلوها عن النظم الشيوعية بمسمى عربي وهو الإشتراكية وأهملوا ثوابت الأمة وتاريخها واعتبروا التاريخ الإسلامى كهفا من الماضي ونادوا بالجنس العربي منهجا بدلا من الدين الإسلامى رابطا ,
فمشي السادات على نفس الدرب واختار القومية ,
غير أنه اختارها بمفهومها الضيق وجعل من مصر مبدأ ومنتهى سياسته وفصل نفسه عن تيار القومية العربي بعد أن دفعت ثمنه غاليا من دماء شبابها ومن أراضيها ثم وُصمت بالخيانة في نهاية الأمر وهى التي ما خاضت حربا في الصراع العربي الإسرائيلي إلا لأجل الدافع القومى !
فسياسة السادات إفراز طبيعى للقومية العنصرية التي تخالف ما نشأت عليه أمة الإسلام , ولأنها أهملت الدين ووضعته في بوتقة المتاحف , فقد غاب عنها أهم ما كان يميز المسلمين ويعطيهم التفوق ألا وهو الإخلاص لله في كل قول وفعل , والصدق مع النفس والتصرف وفق الإمكانيات المتاحة
فجاء القوميون ليبحثوا عن الزعامة الشخصية , وغاب الإخلاص نهائيا مع الحرب التي أعلنوها على التوجه الإسلامى وازدحمت ساحة القوميين في الستينات والخمسينات بالرجولة المظهرية التي نراها في شعارات تلك الفترة والتى لم تكن مبنية على أساس واقعى , والتى أدت في النهاية إلى هزيمة يونيو 67


محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:04 PM

وعندما لمعت في ذاكرة الشعوب العربية حقيقة إنتمائها الإسلامى وخاضت حرب أكتوبر بكلمة ( الله أكبر ) والسعى خلف المبدأ الإسلامى العتيد ( النصر أو الشهادة ) لم يعجب القوميون هذا الإنتصار ولا هذه النتيجة لأنها خالفت ما درجوا على تضليل الأمة به ردحا طويلا من الزمن ,
ووقف بعضهم يعيب مقولة ( أن نصر أكتوبر من الله ) باعتبار أنه إنجاز حضاري إنسانى !!
ثم اختلقوا العيوب في نصر أكتوبر من عند أنفسهم بينما الأعداء الذين تلقوا الهزيمة أشادوا بالنصر !

وهكذا كان الصراع كله مبنيا على الأهواء ودفعت ثمنه الأوطان التي تشوهت أحداث تاريخها تحت ذريعة الإنتصار لعبد الناصر أو الإنتصار للسادات ,

وبالمثل في سائر العالم العربي ..
لعبت القومية العنصرية لعبتها في النفوس وأصبحت الدول العربية ـ على حد تعبير المفكر الكويتى د. عبد الله النفيسي ـ شظايا جغرافية محتلة بالكامل وتدعى أنها دولة ولها كيان وسيادة على أرضها وشعبها !
وكما انقسم جيل السبعينات والثمانينات حول عبد الناصر والسادات ,
توزع العالم العربي زمرا حول الزعامات المظهرية , وكرسوا المنطق القبلي , ودافعوا عن الحكام العرب ـ رغم سياستهم المعروفة ـ دفاعا مريرا , ليس له هدف إلا التعصب العرقي وحده !
وكما اعتبر الناصريون عبد الناصر نبي آخر الزمان ,
وكما اعتبر الساداتيون أنور السادات بطل الحرب والسلام ,
اعتبرت الشعوب العربية حكامها المنبطحين من سلالة الخلفاء الراشدين !!
وأصبح المصري يهاجم السورى والسعودى يهاجم الإماراتى والمغربي يهاجم الجزائري , وكل هذه الخلافات بسبب التعصب لجنسية الحكام وعدم الإنتباه لحظة واحدة إلى طبيعة سياسة هؤلاء الحكام الذين يقول عنهم المفكر الكبير عبد الله النفيسي أنهم يضاجعون الشيطان منذ مطلع الخمسينيات !
والدفاع عن أى نظام عربي اليوم خطيئة لا تغتفر لأنها تكرس لسياسة الإستقطاب والتعصب العرقي وتساهم دون وعى في أن يصبح الجيل الثالث ـ جيل مواليد السبعينات ـ والذي عليه أملٌ معقود في الإستقلال والإنتماء الحر للإسلام وحده , أصبح هذا الجيل معرضا لأن يصبح صورة مشوهة واستنساخ مريض من نفس صورة جيل الستينات والسبعينات الذين كان زعماؤهم وجماهيرهم يتراشقون العداء والحروب فيما بينهم بدلا من أن يطبقوا مبادئ القومية والوحدة التي اعتادوا ترديد شعاراتها دون العمل بمضامينها !

فأين هى القومية العربية وتجربتها على أرض الواقع ,
وهى التى تعتبر الآن السبب الرئيسي في اضمحلال العرب بعد أن تعبدوا بالشعارات والوحدة بينما كان عصر الخمسينيات والستينات عصر الحروب العربية ـ العربية , وتفننت الأنظمة من مصر إلى الخليج في تبادل أقذع الشتائم والتهم والمؤامرات ,
واستعانوا بتحالفات مع إسرائيل نفسها لتحقيق مكاسب إقليمية !
ويكفينا مثال واحد فقط تحدث عنه واعترف به أحد أكبر دعاة الناصرية الأستاذ محمد حسنين هيكل , في كتابه ( المفاوضات السرية ـ الجزء الثالث ) عندما كشف عن كنه حرب التوريط وهى مؤامرة حرب 67 , والتى ساهمت في إشعالها فصائل عربية رأت أنه من مصلحتها العليا توريط مصر في حرب بأى شكل مع إسرائيل بغض النظر عن النتيجة
لأن مصر في نظرهم كانت في ذلك الوقت تعطى أولوية للتنمية الداخلية وبناء مؤسسات الدولة , ونسيت القضية الفلسطينية , فشاركت بعض هذه الفصائل في إشعال الأمور على الحدود السورية ـ الإسرائيلية , والحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية حتى ترد إسرائيل ويصبح اشتراك مصر في الدفاع عن سوريا ولبنان أمرا مؤكدا !
فاكتفت إسرائيل بالتهديد الكلامى لسوريا , ورد عبد الناصر بتهديدات فعلية رغم أنه أوفد الفريق محمد فوزى رئيس الأركان إلى الجبهة السورية لتقصي خبر الحشود الإسرائيلية هناك , واكتشف فوزى كذب هذه الأخبار !
ورغم هذا تمادى عبد الناصر ـ طبقا لمقتضيات زعامته التي رفضت اتهامات الصحف اللبنانية بأنه يختبئ خلف قوات الطوارئ الدولية ـ فأعلن سحب قوات الطوارئ وغلق خليج العقبة وحشد قوات الجيش المصري حشدا علنيا في سيناء , ولم تكن إسرائيل تتمنى أكثر من ذلك
انطلق الإعلام اليهودى كالطوفان الهادر يستصرخ العالم أن يتعاطف مع إسرائيل التي يهددها العرب المتوحشون !
واستجاب الغرب لهذا النداء لأنه رأى أمامه واقعا يصعب تكذيبه , ولهذا التمسوا العذر لإسرائيل في الهجوم الذى نفذته في يونيو باعتباره دفاعا عن النفس
واقتنعت القوى العظمى في العالم بهذا المبرر الذى أحسنت إسرائيل إخراجه بمسرحية لعبت فيها النظم العربية دور قطع الشطرنج , ولم تتحرك القوى الكبري لترد اعتداء إسرائيل كما حدث في عام 1956 م , والذي كان العالم فيه شاهدا على عدوان ثلاثي صريح بينما مصر تدافع دفاعا شرعيا عن أرضها

أما في عام 1967 م ,
فالعالم أجمع كان شاهدا على أن مصر والعرب هم البادئون بالعدوان !!
وكل هذا بسبب الزعامة العنترية والإستجابة للاستفزاز الطفولى الذى ربته تيارات القومية في العالم العربي ,

وجاء السادات ,
وحاول أن يفتح صفحة جديدة بعد أكتوبر تتسم بالعقلانية والتحرك السياسي المحسوب للفخاخ , لكنه وقع رهن مجده الشخصي أيضا وعندما رفض العرب الإنضمام إليه استدعى إلى ذاكرته تجربة مصر القومية التي كانت في نظره سببا في خراب مصر بالزعامات الصوتية ,
لأنها كانت تقتضي عمل مصر بإستنزاف سياسي واقتصادى مستمر لحدود تفوق إمكانياتها الفعلية لمجرد تأكيد الزعامة القومية
وبدلا من أن يصلح هذه السياسة بسياسة متوازنة لا تتنازل عن دور مصر المحورى أعلن التمرد وأخرج نفسه وبلده من معادلة الصراع لاعنا القومية ودعاتها !!
وهو بتصرفه هذا لم يخرج عن كونه نتيجة طبيعية لتيار القومية , لأنه تيار عنصري ضيق بطبيعته , جعل لكل قطعة جغرافية استقلال قومى منفرد بينما كانت المنطقة العربية كلها متوحدة أساسا بفعل التاريخ والواقع حتى جاء الإستعمار ,
وبدلا من أن يأتى الثوار لإعادة الوضع القديم نابذين الخلافات فيما بينهم , ومتبرئين من حدود اتفاقية ( سايكس بيكو ) انطلق الثوار بالتيار القومى يكرسون هذه الحدود كنتيجة طبيعية للنداء بالوحدة بين أوطان مختلفة !

واليوم , وبعد انتهاء عصر عبد الناصر والسادات ..
آن الوقت اليوم لجيل مستقل في الثقافة العربية لينظر بعين الواقعية والحياد للتجربتين , لا ليصدر الأحكام , بل ليطلق الأقلام في معالجة التجارب المختلفة والإستفادة من التاريخ في التنظير للمستقبل ,
ويكفي أن إنتصار أكتوبر الخالد في تاريخ الأمة , لم يخرج إلى اليوم عنه فيلم وثائقي عربي ناجح ومحايد وخالى من الأغراض , ولم يخرج كتاب واحد عنه يقيّم التجربة تقييما حقيقيا ويروى الأحداث ويصحبها بتحليل محايد مستعينا بموقف الأعداء والأصدقاء , ومنزها نفسه عن صراعات جيل السبعينات ,

وسنتعرض لبعض كتابات أصحاب التيار القومى والناصري ,
والذين أساءوا لأنفسهم قبل أن يسيئوا للأمة عندما انتقصوا وانتقدوا بمكيالين في تجربة أكتوبر وحاولوا بشتى الوسائل أن يدمروا الصورة الأسطورية لملحمة أكتوبر لمجرد تصفية الحسابات !
في نفس الوقت الذى خرج فيه الغرب بمئات ـ وليس عشرات ـ المؤلفات والدراسات تحلل وتدرس إنتصارات أكتوبر وتؤرخ لها فضلا على عشرات الأفلام الوثائقية التي تتناول حرب أكتوبر كأحد الأحداث المفصلية في القرن العشرين



محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:05 PM

أزمة التيار القومى ..

مأزق أمة الإسلام اليوم , لا يتعلق إلا ببند واحد تتقافز الأسباب حوله وتتجمع عليه ,
ألا وهو مأزق التاريخ ,
فالتاريخ لأى أمة هو الموجه والمعلم والأساس الذى ينبنى عليه المستقبل ,
وهو أمر لا تتخلى عنه الأمم إلا بعد هوانها على نفسها قبل أن تهون على العالم من حولها , بينما سائر الأمم حتى في التقدم المادى وغلواء الواقعية نجد أنها تحفر بأظافرها لتتشبث بتاريخها مهما كان بسيطا أو عارضا , بل وتجنح لاختراع التاريخ إذا لم تتوافر لها أسباب الحضارة والجذور ,
وتتمسك بالخيال وقصص الأساطير أحيانا وتبالغ في تمجيدها إذا خلا تاريخها من غيرها , أو تجنح إلى أعمق أعماق التاريخ البعيد لتتمسك بشظايا مجد كان !
ولعل المتأمل في ممارسات الغرب سواء في أوربا أو الولايات المتحدة يلحظ هذا بوضوح , فلم تكتف الأمة الأوربية بأنها وصلت نفسها بالحضارة الرومانية واليونانية التي يفصلها عنها مئات السنين والقرون ,
بل جنحت إلى كتب الأساطير وجعلت منها واجهة ثقافية , ولا زالت السينما الأوربية والغربية عموما تتشبث بأسطورة ( أخيل ) وتصنع لها الأفلام المثيرة , أو أسطورة هرقل ( هركليز ) أو ( زينا ) المحاربة القديمة !
بينما إذا ذهبنا نحن مثقفو العالم الإسلامى إلى تاريخنا البديع الذى شهد عشرات الآلاف من الأساطير الملهمة الحقيقية , خرج علينا نفر الكُتاب والمحللين المتأثرين بالغرب ليستنكروا إغراقنا في كهوف الماضي كما يسمونها !
ولست أدرى كيف يطالبون بتجاهل ثوابت الأمة التي لا زالت آثار تاريخها ناصعة بالأحداث والمؤثرات , بينما يمتدحون موقف الغرب المغرق في الخيالات !


لكن هكذا جاءت ضربة الغرب
فعندما عجز عن انتزاع قوة العقيدة الإسلامية بقوة السلاح , كان لابد من ضربها من داخلها , فقام بنشر فكره أثناء فترة الإستعمار عبر عملاء مكشوفين أحيانا أو عن طريق التجنيد غير المباشر في أحيان أخرى عن طريق تفريغ عقول المثقفين غير المنتبهين من ثوابت حضارتهم ودفعهم لما يسمونه بالفكر الحديث
والقسم الأول من العملاء الذي مارس عمله بشكل مكشوف وعمالة صريحة , مارس عمله من خلال المؤسسات الصحفية التي أنشأتها أموال الغرب بمسميات مختلفة , وقنوات فضائية بإمكانيات هائلة تمكنها من نشر الأهداف الغربية في تجريف الإنتماء الإسلامى والعربي , وأيضا عبر مؤتمرات ومراكز ثقافية مغطاة بغلاف البراءة ودعم الثقافة وكلها تمارس عملها بدعم غربي كامل وهائل أيضا !
وليس سرا أن إحدى المؤسسات الصحفية العملاقة في مصر أنشأتها المخابرات المركزية الأمريكية لمكافحة الشيوعية والإسلام معا والدعوة للنموذج الغربي [1] واشتهر أمرها لدرجة أن بائع الجرائد في الأربعينات وأوائل الخمسينيات كان ينادى عليها بقوله ( إقرأ جريدة السفارة الأمريكية ! )


أما القسم الثانى فهم المفكرون الذين جرفتهم نظرية الإنبهار فانتموا عقلا وقالبا للمذاهب الإنسانية الجديدة التي قامت في القرن العشرين وحاولوا نقلها بعد تعريبها ,
ولئن كان القسم الأول غير ذى بال في التأثير باعتبار أن إنكشاف أمره سهل لذوى العقول ,
فالقسم الثانى له خطورته وتأثيراته الهدامة الفادحة لأنه يقول ويروج لتلك الثقافات عن اقتناع كامل وإيمان عنيف !
ومنها سلسلة مفكرى العلمانية والوجودية والشيوعية ( التي تم نقلها باسم الإشتراكية والقومية ) وغيرها ,


ولم نعان في العالم العربي قدر ما عانينا من حقبة أفكار القومية , والتى تفتحت بشكل كبير في عصر جمال عبد الناصر الذى أشعل جذوتها بوطنية حقيقية ورغبة مخلصة ,
لكن النوايا الحسنة لم تكن بالطبع كافية !
فكان أن وقعنا في تناقضات بلا نهاية وانتهت التجربة إلى فشل ذريع بعد أن استمدت الفكر القومى من الفكر الشيوعى أو الاشتراكى واتخذت الفكر الإسلامى عدوا لها أو في أقل الأحوال صديق يجب إسكاته !


وقضية الإنتماء القومى للأقطار ليست قضية قديمة كما نتصور بل هى قضية معاصرة لا تتعدى المائة عام ونجح الإستعمار فى بثها أثناء الإحتلال عندما تمكن من القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية ومزق أوصالها تمزيقا .. ثم قامت اتفاقية سايكس بيكو بالبقية الباقية حيث تمكنت من تقسيم وترسيم الحدود بين أقطار الخلافة الواحدة والتى ظلت لمدة ثلاثة عشر قرنا عبارة عن وطن واحد وبلد واحد لا يرتفع فيه صوت قومى مطلقا
وقبل الدخول فى صلب القضية يجب علينا التنبيه على حقيقة هامة نغفلها دوما وهى أن الخلافة الإسلامية لم تسقط كما يظن البعض بمضي الخلافة العباسية أو بمجئ التتاربل ظلت الخلافة قائمة حتى سقوط الدولة العثمانية ..
أى أن الحضارة الإسلامية استمرت قائمة حتى بعد سقوط العباسيين أيام المغول وذلك أن جيش مصر والشام تمكن من دحر المغول ورد هجماتهم وأُعيدت الخلافة العباسية مرة أخرى وإن كانت تقسمت إلى عدة دويلات وإمارات إلا أنها جميعا كانت تحت الحكم والإشراف العام للخليفة
وتناوبت الدول الإسلامية فى الحكم حتى ظهرت دولة العثمانيين واتسعت رقعة الخلافة الإسلامية إلى قريب من حدودها القديمة وظلت حاكمة لثمانية قرون ودحرت أوربا دحرا كاملا واستولت على مناطق شاسعة منها , وكان الراكب يمتطى جواده أو جمله سائرا من المغرب حتى يصل لحواف الخليج العربي , دون أن تقابله شرطة حدود ! أو حرس دولة ! حتى جاء وقت انهيار العثمانيين فى بدايات القرن التاسع عشر وسقطت الخلافة سقوطا نهائيا فى هذاالتاريخ




الهوامش :
[1]ـ بين الصحافة والسياسة ـ محمد حسنين هيكل ـ دار المطبوعات للنشر والتوزيع

محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:05 PM

ومن هذا التاريخ فقط ..
ظهرت مسألة القوميات التى ما كانت معروفة أبدا طيلة القرون السابقة حيث أن الدولة الإسلامية كانت واحدة ولم يكن هناك من ينادى بأنه مصري أو حجازى أو نحو ذلك إلا لمجرد التعريف بمقامه فحسب وذلك لأن لواء الإسلام كان يجمع المسلمين فى أقطار الخلافة على وطن واحد ويؤكد هذا المعنى أن دعوى القومية والعصبية للجنس أو القبيلة أو الدولة اعتبرها الإسلام دعوى جاهلية بنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام عندما أثيرت تلك النعرات فقال ( دعوها فإنها منتنة )
فالإنتماء فى الإسلام لا يعرف الأقطار بل هوممتد ليشمل كل أرض فتحها المسلمون وأقاموا عليها شيئا من حضارتهم حتى لو تم احتلال هذا القطر فيما بعد


ولهذا فالمتأمل فى كتب الفقهاء القدامى فى باب الجهاد يجد بعض القواعد التى تشير إلى هذا المعنى بوضوح
ومنها ما أورده بن قدامه فى المغنى وغيره مما اتفق عليه الفقهاء أنه إذا ديس شبر من أرض المسلمين فالجهاد حينئذ فرض عين وإلا عم الإثم الجميع
ولهذا السبب فإنه حتى فى عهد الدويلات التى امتلكت رقعة أرض الخلافة كان أمراء تلك البلاد يتناسون خلافاتهم عندما يتعرض بلد منهم لحملة صليبية أو مغولية .. والتاريخ يحتفظ بعشرات المعارك التى خاضها جيش مصرفى عهد المماليك دفاعا عن الشام
ولم تسقط حملات الغرب الصليبية إلا بسبب هذا التوحد الإسلامى ولهذا كان الغرب عبقريا فى إدراكه لهذه الحقيقة فسعي أولا لبعثرة هذا النداء على المدى الطويل وفق خطة مذهلة ..
وهذه الخطة وضعها نابليون فى حملته على مصر حيث أدرك باستقراء التاريخ أن المفصل الواقع بين مصر والشام والإتصال بينهما هو السبب الرئيسي فى فشل الحملات الغربية دوما فما إن تشتكى الشام حتى تهب مصر والعكس بالعكس ..
فابتكر خطته المعروفة باسم الورقة اليهودية والتى تحدث عنها محمد حسنين هيكل فى كتابه المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل بالجزء الأول
وكان مؤدى الخطة هو زرع جسم غريب بين المنطقتين يجعل التوحد بينهما مستحيلا ..
وسقط نابليون أمام أعدائه فى معركة ووترلوا لكن الإنجليز فطنوا لخطته ومضوا فى تنفيذها بالفعل وبدأت الهجرات اليهودية من أواخر القرن التاسع عشر تتوالى على منطقة المفصل الشامى المصري برعاية المنظمات اليهودية وآل روتشيلد فى بريطانيا حتى تأسست إسرائيل التى قامت بدور الحارس الأمين ومن المعلومات الغائبة عن أذهان الكثيرين أن المناضلين المصريين أيام الإحتلال الإنجليزى لم يكونوا ينادون بتحرر مصر كدولة مستقلة بل كان نداؤهم وجهادهم كله منصب على عودة مصركولاية من ولايات الخلافة العثمانية وكان زعيم هذا التيار هو مصطفي كامل نفسه والذى كان جهاده بالتواصل مع والى مصر آنذاك ومع السلطان العثمانى باعتباره خليفة المسلمين ..


فلم يكن هناك أى فكرة عن مسألة القوميات فى تلك الفترة ولا حتى القومية العربية التى لم تكن معروفة ولم ينادى بها أحد أبدا طيلة هذا التاريخ بل كان النداء مركزا على الخلافة وحدها وضرورة تحرر أراضيها من الإنجليز ,
ولما سقطت الخلافة وتم تعيين فؤاد الأول ملكا على مصر وتغير مسماه من سلطان إلى ملك لدولة مستقلة هى مصر والسودان بدأت خطة الإنجليز تثمر بدفع الكوادر للمطالبة بحركات تحرر قومى مستقلة وهو ما تم بعد ذلك بالفعل فتسللت ثقافة الشيوعية والقومية إلى عالمنا قادمة من دول غرب أوربا وبلغت أوجها فى الخمسينيات والستينات وتخلت مصر طواعية عن السودان والذى كان هو السبب الرئيسي فى فشل مفاوضات الصلح بين الوفد وبين الإنجليزفقبلت الثورة فيما بعد هذا الإنفصال لتستقل مصر وحدها كدولة ..

محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:06 PM

ثم ظهرت نداءات القومية العربية التى تنادى بوحدة العرب وحدهم على أساس الجنس وهى دعوة ما كان لها ذرة وجود قبل تلك الفترة ومع تفعيل اتفاقية سايكس بيكو وتقسيم وترسيم الحدود فى العالم العربي بالشكل الواقع حاليا
أصبح لكل قطر عربي توجه قومى منفرد
أى أن العرب وبمنتهى البساطة أقروا التقسيمات التى تفصل بينهم إلى دول شرذمية رغم أن هذا التقسيم جاء من الغرب المحتل فى اتفاقية سايكس بيكو والأدهى من ذلك أن العرب عندما اختلفوا فيما بينهم على تلك الحدود احتجوا بترسيم انجلترا وفرنسا لتلك الحدود واعتبروها مرجعا للخلاف !
أى أن المفارقة الكبري فى التيار القومى , تتبدى فى أنه تيارا وحدوديا فى مظهره , بينما أساسه عنصري بكل المقاييس لأن التيار القومى اعترف بالفعل والواقع أن المنطقة العربية ليست منطقة واحدة أو أقطار متوحدة , بل هى دول مختلفة لها حدودها وقوميتها الضيقة تسعى فيما بينها للتوحد !!
وهكذا نشأت دول الوطن العربي المعاصر والتى ليس لمعظمها أى أصل مستقل فى التاريخ ..فمثلا كانت الشام بأكملها قطرا واحدا وكذلك المغرب العربي وأيضا الجزيرة العربية .. وكذلك حوض النيل كله من أقاصي الصومال وحتى الإسكندرية بمصر وكل الدول القائمة حاليا بلا استثناء قامت على حدود عمرها من عمر اتفاقية سايكس بيكو وساهم الغرب فى توطين تلك الثقافة بتوطين شهوة الحكم والخلافات بين حكام تلك الأقطار الجديدة , وجاءت نداءات القومية العرقية لتؤكد هذا المعنى
لنصل إلى النتائج التالية :
* اندثار الإنتماءالإسلامى الواحد الذى جمع المسلمين عربا وعجما تحت لواء واحد لثلاثة عشر قرنا
* ظهور مسمى الوحدة العربية كبديل عن الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية
* ظهور الغيرة على القوميات الضيقة بل وظهور العداءات الجارفة بين تلك الأقطار التى تشكلت إلى دول مختلفة بينما كانت قبل مائة عام فقط دولة واحدة متحدة
*ضياع أراضي المسلمين ضياعا نهائيا بسبب نداء القوميات الذى فشل فى مواجهة اليهود فتركوا لهم فلسطين لقمة سائغة
وفى نفس الوقت أجرم أكبر جرم فى استبعاد الوحدة الإسلامية من قضية فلسطين لتصبح فى عهد القوميات مشكلة عربية لا إسلامية .. وبهذا وبجرة قلم أخرج القوميون عشرات الدول الإسلامية من معادلة الصراع فضلا على أن القومية وبطبيعتها كنداء جاهلى أدت إلى التضييق أكثر فأكثر فأصبحت قضية الأقصي قضية دول المواجهة ثم أصبحت قضية فلسطين بعد تشكل دولة فلسطين الورقية ثم أصبحت قضية غزة وحماس والمعابر .. وهكذا !
والتيار القومى ذاته هو الذى أنشأ منظمة التحرير كممثل وحيد للشعب الفلسطينى , فبدلا من أن تصبح قضية القدس قضية أمة , وقضية عقيدة وتاريخ , أصبحت قضية شعب مستقل يحمل اسم الشعب الفلسطينى وله ممثلون رسميون قوميون يتفاوضون فى هذا الحق ويملكون الخروج بتنازلات لا تستطيع الدول الإسلامية قبولها لأن التيار القومى ببساطة جعل القضية قضية إقليمية , رغم أن القدس لا تخص شعب فلسطين ولا حتى الشعب العربي بل هى ملك لأمة الإسلام جميعا ولا يوجد شعب أو عنصر معين له الحق فى الحديث باسمها خارجا عن السياق !
ولو أن التيار القومى لم يرتكب جريمة إلا هذه الجريمة لكفته !
*تخلى العرب بأنفسهم وبمنتهى البساطة عن دورهم المحورى فى الدول الإسلامية التى كانت معهم تحت مظلة واحدة طيلة ثلاثة عشر قرنا ووصل نداء القومية بهم إلى الوقوف على الحياد من قضايا دول إسلامية شقيقة فى إيران وأفغانستان وباكستان والشيشان وأندونسيا وغيرها مما قطع أى حلقة اتصال بين العرب وتلك الشعوب
*كانت واحدة من أكبر الجرائم القومية هى أن القوميون لم يكتفوا بالحياد المخزى بل قاموا بالإنضمام لضفوف الغرب ضد مصالح إخوانهم فى الدين بآسيا ..
فدخلت بعض الدول العربية التى كانت تمثل المرجعية الإسلامية لسائر مسلمى الأرض فى تحالفات مصالح مع الإتحاد السوفياتى ضد الولايات الإسلامية وتحالفوا مع الهند ضد باكستان ثم أخيرا اعتبروا الشيشان مسألة روسية داخلية
كما ساهموا بأعظم جناية عندما نشروا ثقافة القومية الضيقة فأصبح المخلصون من أبناء هذه الأوطان صما وعميانا عن إدراك الحقيقة الراسخة فى دينهم وهى أن تعاطفهم فرض واجب ـ ليس مع فلسطين فحسب ـ بل مع سائر قضايا الأمة الإسلامية وليست هناك أرض إسلامية أغلى من شقيقتها ..
ووصل التغييب اليوم بين المثقفين فضلا عن العامة إلى درجة مفزعة بلغت بالمثقفين أنهم يجهلون حتى مسمى الدول الإسلامية فى آسيا فلا يمكنهم معرفة من هى الدول المسلمة فى العالم من غيرها !


وقد قيل أن القومية لا تعادى الإسلام ,
باعتبار أن القومية هوية وطن والإسلام دين لا علاقة له بالأوطان بل هو علاقة بين العبد وربه ,
وهذا أساس علمانى حاول التيار القومى فرضه على الجماهير قسرا , فالجماهير بطبيعتها تنزع إلى الدين ولهذا يعترف محمد حسنين هيكل أنه في سبيل فرض التغيرات الإجتماعية التي فرضها عبد الناصر على الشعب , كان ضروريا أن يؤمم الإعلام ويراقبه بحيث لا يرتفع صوت واحد يعادى هذا التيار !
وعندما رفض عدد كبير من القضاة الإلتزام في أحكامهم بالقوانين الإشتراكية لم يجد عبد الناصر بدا من أن يقوم بتنحية هؤلاء القضاة جميعا فيما عرف باسم مذبحة القضاة عام 1969 م ,

محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:06 PM

وبهذا وقع زعماء التيار القومى في تناقضات بلا نهاية أدت في النهاية إلى انهيار التيار القومى بعد نكسة 1967 م ,
ومنها :
أولا : من الغريب أن مفكرا في قيمة محمد حسنين هيكل يتخذ من النداء الديمقراطى منهجا ثم يرفض حقيقة أن الشعوب العربية لا تقبل المنهج الإشتراكى , بل ويلتمس العذر لممارسات القمع في عصر الناصر وتأميم الإعلام من أجل ترسيخ العقائد الإجتماعية الجديدة في المجتمع !
فأين هو النداء الديمقراطى ولماذا نصب القوميون أنفسهم أوصياء على الشعوب التي قاموا بالثورة بهدف تحريرها من الطغيان وهدف ترسيخ القيم الديمقراطية ,
ثانيا : ناقض هيكل نفسه ومعه المنادون بالقومية عندما عادوا التوجه الإسلامى ورابط يجمع العرب وغير العرب , ونادوا فقط بالعروبة دون الإسلام !
ولم نجد أحدا من القوميين يجيب عن أسئلتنا الحائرة !
إذا كانت العروبة ـ منهجا وجنسا ـ لم تُخلق إلا بسبب الإسلام الذى كان الرابط الرئيسي الذى جمع أشتات القبائل العربية المتناحرة وجعلها دولة واحدة , ثم رحلت العروبة مع الإسلام إلى الشمال الإفريقي وانتشرت العروبة في تلك البلاد بسبب الدعوة الإسلامية ,
فكيف يفصل القوميون بين الإسلام والعروبة بينما العروبة ما وجدت إلا بالإسلام ؟!
ولم يجبنا أحد من القوميين بشأن قضية القدس وفلسطين , والتى تعتبر من أكبر أدبيات القومية , لم يجيبونا عن مستند ملكيتهم لهذه الأرض ,
ومن أين أتوا بالإثبات التاريخى أن القدس وفلسطين من حق العرب ؟!
لو فتش القوميون إلى يوم الدين عن دليل في مواجهة الغرب على هذه الملكية لما وجدوا إلا الفتح الإسلامى للقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فإذا كان الإسلام هو الذى يمنحنا مستند الملكية لأكثر قضايانا تعقيدا , فكيف تستبعدوه من معادلة الصراع ؟!
وسؤال أخير :
من المعروف أن النظرية تظل في حكم النظرية ولا يتم الحكم عليها بفشل أو نجاح إلا بعد تجربة على الأرض تثبت نجاحها ,
وقد جاءت نظرية القومية في الخمسينات والستينات دون أن تحقق ـ في أزهى عصورها ـ هذه الوحدة العربية التي اتخذوها بديلا للوحدة الإسلامية , بل إن العداء العربي ـ العربي في ظلال القومية كان أشد فتكا عما قبلها من العصور ,
فكيف نترك تجربة الوحدة الإسلامية التي صنعت لنا دولا عظمى على مدى ثلاثة عشر قرنا ونتشبث بنداء قومى أثبت فشله الذريع على الأرض ؟!
ثالثا : يعترف هيكل في كتبه وتجربته ـ على نحو غير مباشرـ أن القومية قامت على أساس هش لم يجمع العرب بقدر ما فرقهم وبعثر شملهم إلى أشلاء منذ الستينيات ,
ومن ذلك أنه ينتقد ممارسات الحكام العرب عندما يواجهون جماهيرهم بشعارات القومية والوطنية للإستهلاك المحلى وفى نفس الوقت لم ينتقد موقف عبد الناصر عندما فعل نفس الشيئ !
فعندما أعلن عبد الناصر أنه لا يمتلك خطة لتحرير القدس ـ كان هذا قبل 67 ـ وقامت قيامة الجماهير العربية وجاءه أنصار القومية من شتى الأقطار متوسلين سحب تصريحه ــ رغم أن الرجل كان بالفعل يتكلم بالواقع ولا يخادع ! ـ ولكنهم أصروا على خداع أنفسهم وعلى سياسة المزايدات العقيمة وقبل عبد الناصر هذه السياسة , وسحب التصريح !
وهذا معناه ترسيخ خداع الشعوب بالشعارات البراقة بغض النظر عن الواقع !
ففي كتاب ( الإنفجار ) لهيكل يروى رواية بالغة الوضوح في هذا الصدد , وهو أن مؤتمر القمة العربي الذى انعقد في منتصف الستينات بالمغرب , اعترض فيه جمال عبد الناصر على مشروع قرار يناقش كيفية الهجوم على إسرائيل والخلاص منها قبل أن ينتبه العالم !! ـ على حد تعبير الرئيس السورى أمين الحافظ ـ بدلا من الإكتفاء بتشكيل قوات عربية تحمى مياه نهر الأردن من الإستغلال الإسرائيلي
وأصر الرئيس السورى على مناقشة الموضوع في جدول الأعمال ووافق عبد الناصر على المناقشة رغم إدراكه التام أنها مزايدات لن تؤدى لشيئ , لكنه استجاب لدواعى القومية التي يجب ألا تهتز في الإعلام
وبالفعل تمت مناقشة القرار الخيالى وأعد الفريق على على عامر قائد القوات العربية المشتركة قائمة بالمطلوب من كل دولة عربية وتم وضع الأمر في وثائق رسمية !

وفى اليوم التالى وصلت نسخة كاملة من وثائق ومحضر إجتماعات القادة العرب في قمة المغرب إلى إسرائيل ! وعبر مصدر لم يتم كشفه إلا في التسعينيات , وكان الذى كشفه هو محمد حسنين هيكل نفسه [1] والمصيبة السوداء أن هذا الصديق الحميم جدا لتل أبيب والذي نقل لها هذه التفاصيل كان هو نفسه رئيس ما يسمى ( المجلس الأعلى للقدس ) والذي أنشأته إحدى القمم العربية للدفاع عن قضية القدس !!
ولا عجب مع العرب
المهم ..
استخدمت إسرائيل هذه الوثائق لتقديمها إلى الإدارة الأمريكية لتفتح هذه الأخيرة باب تعاونها مع إسرائيل إلى مداه الأقصي وتم تجهيز مؤامرة 67 بحيث تبدو إسرائيل فيها كالحمامة فى مواجهة الوحوش الذين يرغبون فى القضاء عليها !
ولم تكن إسرائيل تحتاج جهدا لإثبات ذلك فها هى وثائق القمة العربية الأخيرة تثبت بشكل قاطع أن الحكام العرب مجتمعون للتخطيط على إبادة إسرائيل قبل أن ينتبه العالم !
وعرف عبد الناصر عن طريق الرئيس تيتو رئيس يوغسلافيا أن الوثائق وصلت لإسرائيل وتساءل الرئيس اليوغسلافي عن مدى صدق هذه الوثائق الخطيرة وهل تفكر مصر والعرب جديا فى ذلك !
وصُعق عبد الناصر وسأل تيتو عن كيفية معرفته فأخبره أن ( ناحوم جولدمان ) أحد زعماء الصهيونية الكبار قابله على عجل ونقل إليه هذا الكلام كدليل على نوايا العرب !
وعلى حد تعبير الأستاذ هيكل , حاول عبد الناصر مرارا أن يشرح المعضلة فى أن الوثائق نوقشت بالفعل لكنها ليست واقعية فى نفس الوقت , لكن تيتو كان صعبا عليه جدا استيعاب هذا المنطق العربي الغريب الذى يستجيب لجو من المزايدات يعرفون تماما أنها خيالية ومع ذلك يبرزونها ويعطونها لخصومهم ليغزلوا ما شاءوا من مؤامرات !
كل هذا بسبب الطبع القومى المترسخ في أعماق حكام تلك الفترة ألا وهو الزعامة الصوتية والظهور بمظهر المناضلين في سبيل الأمة العربية , والتنافس بين بعضهم البعض على حديث القوة دون أن يمتلكوا من أسبابها ذرة !


الهوامش :
[1]ـ كلام فى السياسة ( قضايا ورجال ) ـ مجموعة مقالات وجهات نظر ـ محمد حسنين هيكل ـ دار الشروق

محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:07 PM

فكارثة التيار القومى أدت إلى مهزلة يونيو 67 م بسبب هذه المزايدات وعدم الصدق مع النفس وعدم التعامل بواقعية مع قضايا الأمة ,
ولهذا كانت مكاسب إسرائيل في تلك الحرب خرافية ما توقعتها إسرائيل نفسها ولا الولايات المتحدة ,
فقد كانت الأوامر للجيش الإسرائيلي أن يدخل سيناء ويقف عند الممرات , لكنه فوجئ بانهيار الجيش المصري فصدرت الأوامر بإتمام إحتلال سيناء ,
ولم تكن هناك خطة أصلا لاحتلال الجولان , وصدر قرار وقف إطلاق النار يوم 9 يونيو والجولان سورية , ثم فجأة وجد الإسرائيليون الطريق مفتوحا فدخلوا الجولان بعد أن قضموا الضفة الغربية في طريق عودتهم من سيناء
وكانت إسرائيل أول من يدرك أنها لم تنتصر على العرب , بقدر ما هزم العرب أنفسهم قبل أن يواجهوا الجيش الإسرائيلي !
وفى ذلك يقول يوحشفات هركابي ـ أحد مدراء الموساد السابقين والمنسق العام للأجهزة الأمنية ـ في كتابه ( العقل العربي ) أننا لم ننتصر على العرب بفضل قوتنا بل بفضل ضعفهم وهزيمتهم من أنفسهم واحتكارهم للمظهرية , وهذا الأمر الذى يجب أن ترسخه إسرائيل حتى لا تتكرر تجربة أكتوبر والتى كانت نصرا حقيقيا للعرب عندما تركوا الكلام وأقبلوا على العمل

هكذا كان حال العرب قبل أكتوبر 1973 م ,
أصبح كل حاكم عربي تجرفه نداءات القومية فى بلده يلجأ لحل بسيط , وهو أن يواجه شعبه بسياسة عنترية مناسبة وفى نفس الوقت تتواصل فيه علاقاته مع الأطراف الغربية بلا مشاكل
ولو أخذنا الملك حسين ملك الأردن السابق مثالا , لعرفنا مثلا أنه ـ باعترافه شخصيا لمؤرخه الرسمى اليهودى آفي شلايم ـ قابل الإسرائيليين وجلس معهم منذ بداية حكمه ـ أثناء معترك القومية ـ حوالى 4000 ساعة كاملة !
وفى قاعة البيت الأبيض أثناء توقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل في عهد الرئيس الأمريكى ( بيل كلينتون ) لاحظ هذا الأخير مدى التلاطف والحميمية بين الملك حسين ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين ,
فسأل كلينتون ضيفيه قائلا : متى كان أول لقاء بينكما يا ترى ؟!
فرد الملك حسين : منذ عشرين عاما يا فخامة الرئيس !
فصحح رابين التاريخ قائلا : بل منذ واحد وعشرين عاما يا صاحب الجلالة !![1]
ودوره فى نكسة 67 وفى حرب 73 تكفلت بكشفه الوثائق الأمريكية نفسها ,
ومع ذلك فقد كان فى أثناء جنوح التيار القومى قوميا أكثر من القوميين بل وقفت الأردن مع قرار تجميد عضوية مصر بعد معاهدة السلام لأنها اتصلت وتفاوضت علانية مع إسرائيل بينما مؤتمر الخرطوم الذى انعقد عقب النكسة أعلن اللاءات الثلاث الشهيرة وهى :
( لا للتفاوض ـ لا للصلح ـ لا للإعتراف بإسرائيل )

والملك الحسن ملك المغرب كان هو نفسه همزة الوصل بين الرئيس السادات والقيادات الإسرائيلية , وهو الذى رتب اللقاء السري الذى تم بين موشي ديان وحسن التهامى ـ مستشار السادات ـ بعد حرب أكتوبر لبحث سبل الإتصال بين مصر وإسرائيل والتفاوض ,
لكن الغريب أن الملك الحسن بعد إعلان السادات لمبادرته بزيارة القدس والتفاوض العلنى وقف مع الجانب الآخر وكان تعليقه أنه كان يرعى اتصالا سريا وهو ما يمكنه استيعابه أما العلانية فتلك هى التى لا يحتملها أحد !
وعرفات نفسه وفريق منظمة التحرير الفلسطينية كانوا على علاقة بمسئولى المخابرات المركزية الأمريكية في إدارة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون أثناء معمعة حرب أكتوبر !
فقد راسل عرفات المسئولين في الإدارة الأمريكية ببرقية سرية إلى كيسنجر قال فيها عرفات :
( أنه يعتقد أن مصر وسوريا ستهزمان في هذه الحرب في آخر أيامها ولذلك فهو يبتغي إنشاء قناة تواصل بين ومسئولى الإدارة الأمريكية ) !!
وبالفعل توسط الملك الحسن ملك المغرب لهذا الأمر وأرسلت المخابرات المركزية أحد كبار مسئوليها وهو ( هيرمان وولترز ) إلى مدينة فاس بالمغرب ليلتقي مع خالد الحسن وماجد أبو شرارة مبعوثي ياسر عرفات لعمل قناة اتصال سرية بين المنظمة والإدارة الأمريكية ومعرفة الشروط الأمريكية للقبول بالمنظمة !
وقامت المخابرات المركزية باستخدام المنظمة سياسيا أكثر من مرة ,
ويقول كيسنجر في مذكراته المنشورة بعنوان ( سنوات القلاقل ) , أن ميلشيات منظمة التحرير في فترة السبعينيات هى التي كانت تتولى حماية السفير الأمريكى في بيروت لعدة سنوات !
وبذلت المنظمة جهودا خدمية جبارة ثم لم تصل المنظمة لنتيجة , ولهذا عاودت الكرة مرات ومرات حتى تم لها المراد بالرضا الأمريكى في بداية التسعينيات !
وهو الرضا الذى لم يستمر طويلا مع مجئ إدارة بوش الإبن وتولى إرئيل شارون الحكومة في إسرائيل وإعلانه نهاية اتفاقية أوسلو وقام بضرب مقر عرفات بالصواريخ !
ورغم كل هذا أرسل عرفات برقية تهنئة لشارون بمناسبة أحد الأعياد اليهودية , وأثناء معترك انتفاضة الأقصي الثانية !
ثم مد الوساطة حتى آخر مدى لكى يرضي شارون بمقابلته , وأخيرا وافق على مقابلة عومرى شارون , وهو شاب لا علاقة له بالعمل السياسي ولا يمتلك منصبا تنفيذيا !
بخلاف أنه أعلن إدانته الكاملة لما سماه بجريمة الحادى عشر من سبتمبر وأعلن تضمانه مع إدارة بوش الإبن الذى أذاقت العرب الويلات , ثم لم يستح أن يتمدد أمام كاميرات القنوات الفضائية متبرعا بالدم لضحايا 11 سبتمبر !
في نفس الوقت الذى كانت فيه أشلاء الأطفال والعجائز في الضفة والقطاع لم تجف بعد !
فإذا وضعنا هذا التواصل المذهل بين الأطراف التي تدعى الصمود وتتاجر به وبين أعدى أعداء الأمة , وهم الذين أعلنوا وجه الغضب أمام السادات للقيام بمبادرته أمام هذه الحقائق التي تكشف لنا مدى الإستغلال الذى وقعت فيه الجماهير العربية من متاجرة هؤلاء القوم ,
ألسنا نخلص إلى استنتاج منطقي وهو أن هؤلاء المعترضين على السادات أن همهم كان بغرض استمرار القضية ساخنة بلا حل والضحايا متوهجة حتى تتكاثر المكاسب !
ولهذا فإن براءة القوميين من السادات ليس لأجل الخيانة التي يترنمون بها بل لأجل أن السادات أخذ ما كان مخفيا تحت المائدة ورفعه فوقها ! فقامت الدنيا ولم تقعد لأجل هذا الكشف ,
ولم يتساءل أحد أو يهتم بمحتوى الأطباق العفنة ذاتها !

وكان السادات يوقن تماما أن السياسة العربية قائمة على هذا الأمر وأن المحرمات واللاءات والمقدسات إذا جرى اقتحامها عنوة بقوة الأمر الواقع فهذه هى الخيانة أما إذا تمت فى السر وعلى أبشع صور الخيانة فهذه هى السياسة !
لهذا قلنا أن التيار القومى بنى نفسه على الكذب والتضليل فكان من الطبيعى أن يسقط هذا السقوط الذريع لأن ما تبديه القيادات العربية من صلابة ونضال إنما هى مظهرية تخفي ما تحتها من حقائق الواقع ,
وكان السادات قبل أن يتورط فى اتفاقية كامب ديفيد بشكلها الذى خرجت به مؤخرا , كان يلاقي التأييد العربي التام من حكام الدول العربية أو أغلبهم ولكن فى السر أما فى العلن فقد طلبوا إليه أن يراعى موقفهم !!

وعندما أعلنت مصر اتفاقية كامب ديفيد منفردة بعد أن رفضت باقي الدول العربية أن تشارك فى مسيرة التفاوض ورفضت إعطاء السادات حق التفاوض على الحقوق العربية كلها بمقتضي قرار مجلس الأمن 242 , والذى كان يكفل عودة الأراضي العربية المحتلة عام 67 إلى أصحابها الأصليين ,
اجتمعت الجامعة العربية وقررت عدم الدخول فى المفاوضات وقررت قطع العلاقات مع مصر وتكوين جبهة عربية للصمود والتصدى ,
وما كان أسعد العرب والمسلمين لو أن هذه الجبهة فعلا اتخذت طريق الصمود والتصدى بإخلاص , وواصلت المواجهات العسكرية ـ طبقا لما كانت تنادى به وهو الحرب بلا نهاية ـ إذا لكان هذا كفيلا برجعة مصر إلى تيار الجهاد حتما مهما كانت الضغوط السياسية ,
لأن عذر وحجة السادات الوحيدة كان متركزا على أن من ينادون بالحرب المستمرة يكتفون بالنداء ولا يتحركون ,
ولكن لأن أساس جبهة الصمود والتصدى كان هو نفس الأساس الرخو القائم على شعارات القومية , فقد أصبح الصمود مظهريا وأصبحت الحرب بالكلمات كما هى العادة ,
فقبلت سوريا مبدأ التفاوض في ظل مبدأ الأرض مقابل السلام , وهو ذات العرض الذى جاء به السادات فرفضه الرئيس السورى حافظ الأسد وأصر على تحرير الجولان عسكريا ثم عاد فقبله عام 1991 م في مؤتمر مدريد ,
ثم كانت المفاجأة أن الذى رفض العرض هى إسرائيل رغم التنازل السورى وأصر شيمون بيريز على أن تظل إسرائيل محتفظة بقطعة من الجولان وتنسحب بشكل محدود منها دون انسحاب نهائي !
وهكذا ظلت الجولان ليومنا هذا ,
فلا هى تحررت بالقوة العسكرية ولا هى تحررت بالدبلوماسية استثمارا لنتائج حرب أكتوبر !


الهوامش :
[1] ـ المفاوضات السرية ـ الجزء الثالث ـ محمد حسنين هيكل ـ دار الشروق

محمد جاد الزغبي 11-05-2010 08:08 PM

وإذا بدعاة الصمود والتصدى من المتاجرين القوميين بالقضية الفلسطينية يتورطون فى مفاوضات واعترافات متوالية منذ عام 1982 ـ أى بعد أقل من عام من رفضهم للمفاوضات ـ وأعلنوا في قمة فاس الثانية خيار السلام والتفاوض !
فعلام كان الرفض والطنطنة الفارغة إذا ؟!
وكان هذه المفاوضات مهزلة بكل المقاييس حيث أنها لم تتح حتى أدنى المكاسب التى كان السادات يدعو لها فى مفاوضاته , فضلا على ما اتسمت به من ذل ومهانة !
ففي أثناء كامب ديفيد كاد عقل الإسرائيليين يطير من الفرح لاعتراف السادات بهم واصطف أشرس زعماء حزب الليكود ( حزب المتشددين الإسرائيليين ) لاستقبال السادات والإستماع إليه في الكنيست , واعتبروا اعترافه بهم وزيارته فتحا تاريخيا !
مع أن رئيس وزرائها في ذلك الوقت كان مناحم بيجن صقر الصقور
بينما ظلت إسرائيل ترفض هى الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية أو حتى السماح بذكر اسمها مجرد ذكر !
ومشت السياسة الأمريكية على نفس المنهج فأصبح ياسر عرفات يتوسل الإعتراف به نظير أى مقابل ولا يجده !
مع أن عرفات نفسه كان هو القائل بعد تجربة السادات ( تقطع يدى ولا أوقع على القرار 242 ) وهو القرار الذى يعترف بأحقية الدولة الإسرائيلية وشرعية وجودها ,
ثم جاء بعد ذلك فليته وقع القرار فقط ! بل وقعه وبصم عليه بأصابع يديه وقدميه حتى ترضي عنه السياسة الأمريكية !
وعندما اعترفوا به , ومع أول عملية فدائية في القدس سحبت أمريكا اعترافها رغم أن عرفات أدان العملية واعتبرها إرهابا في تصريح رسمى له قبل توقيع اتفاقية أوسلو !
وفى أثناء التوقيع بحضور الرئيس الأمريكى بيل كلينتون , اشترط اسحق رابين وشيمون بيريز على الرئيس الأمريكى ضرورة بعض الشروط على عرفات وهى أنه لا داعى للقبلات والأحضان والممارسات السمجة , ورفض رابين حتى مبدأ المصافحة مع عرفات مراعاة لمشاعر الشعب اليهودى !
وتوسط بيل كلينتون لرابين بشدة حتى يقبل المصافحة بالأيدى دون قبلات وأحضان !!

ولم تعد إسرائيل شيطانا يستعيذ منه القوميون بعبد الناصر !
بل أصبحت مثلا ومثالا للمناضلين أصحاب الصمود والتصدى !
فينقل هيكل في نفس الكتاب حوارا دار بعد توقيع اتفاقية أوسلو بين عرفات وبين المليونير الفلسطينى حسيب صباغ ,
فعاتب عرفات المليونير صباغ قائلا له : إن روتشيلد فلسطين ( يشبه صباغ بالمليونير اليهودى روتشيلد الذى دعم إسرائيل ماليا في بدايتها ) لم يقم بدوره
فرد عليه صباغ قائلا : لأن بن جوريون فلسطين ( يشبه عرفات بابن جوريون مؤسس إسرائيل وأول رئيس لوزرائها ) لم يقم بدوره يا أبو عمار !!

ولم تعد إسرائيل هى العدو الذى يجب مقاطعته ,
بل اشترك وزيران من وزراء عرفات في مشروعات استثمارية ضخمة في إسرائيل وأصبحت لهم أعمال في السوق الإسرائيلية وتكفل أحدهم بتوفير العمالة الفلسطينية الرخيصة لإسرائيل حتى تُبنى بها المستوطنات , وتكفل الآخر بتوفير العمالة لبناء الجدار العازل !!
في نفس الوقت الذى يخرج فيه الإثنان معا في المفاوضات منددين بسياسة بناء المستوطنات وجدار الفصل العنصري !!
وبالمثل قام سائر قيادات منظمة التحرير ـ فور تنفيذ اتفاقية أوسلو ـ بإنشاء المشروعات والمصانع واستثمار الأموال العربية ـ التي جنوها باسم الدعم العربي لفلسطين ـ في دعم الإقتصاد الإسرائيلي والإستفادة المالية فضلا على استثمار أموال السلطة الوطنية في إنشاء شركات تجارية يملكها أعضاء الحكم الذاتى وتحتكر النشاط الإقتصادى داخل غزة , بينما هذه الأموال التي تأسست بها هذه الشركات هى أموال دعم عربي ودولى منحت مجانا للشعب الفلسطينى لا لرؤسائه , لكنهم أخذوها لأنفسهم
لتتراكم ملايين الدولارات في أرصدة هؤلاء المناضلين ,
لدرجة أن هيكل يشرح كيف أن البنك الدولى بعد اتفاقية أوسلو رفض تسليم أموال التبرعات إلى السلطة الوطنية بدون رقابة
وقال رئيس البنك الدولى تعبيرا عن ذلك : نحن لسنا على استعداد لأن نمنح المنظمة أموالا في جيبها , إلا إذا كانت تريد مصروفات شخصية ( بوكت مانى ) فهذا أمر يمكن تدبيره !
وهو ما أثار اعتراض عرفات وفريق السلطة الوطنية وأصروا على تسلم الأموال وصرفها بمعرفتهم , ومن البلايا حقيقة أن شيمون بيريز والقيادات الإسرائيلية توسطوا لتصل هذه التبرعات إلى فريق عرفات بدون رقابة دولية على المشروعات !
وليس هذا غريبا على فريق عرفات ما دام عرفات نفسه كان أول المستثمرين وأول البادئين بهذا المنهج ,
فقد كشف المحلل السياسي البريطانى الكبير ( ديفيد هيرث ) في كتابه عن ثلاثية السلطة الوطنية في فلسطين , بالأرقام والوثائق حجم الأعمال التجارية التي أنشأها فريق السلطة لحسابهم الخاص , كما كشف أرقام الحسابات المليونية التي أودعها أعضاء السلطة في البنوك الكبري بأسماء مستعارة أو بأسماء زوجاتهم
وكان عرفات قد أنشأ شركة باسم ( شركة البحر ) تحتكر تجارة الأسمنت والحديد والطاقة داخل قطاع غزة وأراضي الحكم الذاتى وتديرها زوجته سها الطويل !
وقد نشرت صحيفة ( الديلي تلجراف ) البريطانية ملفات شخصية مختصرة عن أعضاء وفد التفاوض الفلسطينى برياسة عرفات وأعضاء الوفد الإسرائيلي برياسة رابين وأجرت لكلا الفريقين تحقيقات شخصية تشمل مجمل أنشطتهم وسيرهم الذاتية ,
وذكرت صراحة حجم التعاون والتفاهم بين الفريقين , وكشفت عن أسماء المؤسسات التجارية التي يشارك فيها أعضاء السلطة الوطنية , بل وكشفت عن رقم حساب عرفات نفسه في البنك الإسرائيلي الرئيسي ( لائونى ـ فرع حشمو نائين ) في تل أبيب !
ولعلنا لا ننسي التقارير الإخبارية التي طيرتها وكالات الأنباء عقب موت عرفات , حول الخلاف الحاد الذى نشب بين سها عرفات وبين بقية أعضاء السلطة حول الأموال المتراكمة في البنوك باسمها وباسم زوجها الراحل [1]
فضلا على الدور الهدام الذى قامت به السلطة الوطنية بقيادة عرفات في العمل كشرطى إسرائيلي مهمته مطاردة عناصر المقاومة الإسلامية المسلحة , وهو الدور الذى تحدث عنه صراحة إسحق رابين بناء على نصيحة أجهزته الأمنية في استخدام اتفاقية أوسلوا لتحويل الفلسطينيين إلى بوليس يطارد الفلسطينيين وتوفير الجهود الإسرائيلية في ذلك !
لينكشف أمام العالم أجمع أن هؤلاء ما هم إلا مجموعة من المتاجرين بالقضية والحريصين على استمرار معاناة الشعب العربي والفلسطينى لاعتبارات الإستفادة المالية والمادية والنجومية , وقس على ذلك سائر الأطراف العربية !
أليسوا هؤلاء هم تلاميذ مدرسة القومية العربية وأعضاء منظمة التحرير التي دعمها عبد الناصر ورباها في كنفه واعترف لها بأحقية التمثيل المنفرد للشعب الفلسطينى وقضيته ؟!
أليس هؤلاء من أعلنوا أنهم باقية على عهد عبد الناصر وثوابته بعد أن خانها السادات ؟!
ألا تعست المدرسة وتلاميذها !

وينقل أيضا محمد حسنين هيكل فى كتابه ( المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل ـ الجزء الثالث ) ما يمكن تسميته مهزلة بكل المقاييس , لأن اتفاقية أوسلو وما أحاط بها كان السادات قد أتى بها من قبل ورفضتها يومئذ كافة الدول العربية واعتبرتها خيانة للقضية لأنها كانت تتضمن الإعتراف بإسرائيل
فعلام إذا كان صداع الصمود والتصدى ؟!
وحتى هذا الإتفاق ( غزة ـ أريحا ) تنصلت منه إسرائيل وتنازلت منظمة التحرير أكثر وأكثر وزادت إسرائيل فى غيها أكثر , وانتهى الأمر إلى أن ما رفضه العرب بالأمس أصبحوا يتوسلون للحصول عليه اليوم فلا يجدونه !
واعترفت جبهة الصمود والتصدى بإسرائيل وقبلت بكافة شروطها على أمل الإستجابة بلا فائدة , وتمادت الولايات المتحدة وإسرائيل فى إذلال عرفات وقيادة المنظمة ورغم ذلك قبل واستجاب ,
فاعترف بإسرائيل اعترافا صريحا احتوى اعترافا ضمنيا بشرعية استيلائها على الضفة الغربية والقدس , وعندما أعلن اعترافه طلب إليه وزير الخارجية الأمريكى أن يعيد اعترافه بشكل أكثر صراحة , فاستجاب عرفات وكرره , حتى قال وزير الخارجية الأمريكى معلقا بسخرية على ذلك قائلا :
( إن لاءات الخرطوم الثلاثة أصبحت نعم وثلاثة أيضا ! )
وينعى هيكل فى كتابه ممارسات عرفات والتى أفرغت منه قضيته بالكامل , بل ويبدى ذهوله من أن عرفات قبل أوامر الإدارة الأمريكية فى وصف أعمال المقاومة الفلسطينية بالإرهاب !
كل هذا طمعا فى الأموال الطائلة والسيارات الفاخرة ومظهرية رئيس الدولة على غير أساس من الواقع !
ثم تواصل مسلسل المفاوضات والإستجابة لكافة الشروط إلى درجة مهينة للغاية , فاقتتل الصف الفلسطينى على سلطة وزارات ليس لها من مسماها نصيب من الواقع !
وانسكبت مليارات لم يعرف أحد أين ذهبت ؟!
وقدّر هيكل جملة المبالغ التى حصلت عليها المنظمة منذ عام 80 حتى عام 90 بسبعة مليارات وربع المليار دولار !! وهو كم غير مسبوق لحركة نضال وجهاد !!
وتساءل أيضا على السبب فى الصرف والبذخ الذى كانت تمارسه المنظمة على المكاتب الفاخرة فى عواصم العالم الكبري وعلى التنقلات بالطائرات الخاصة والمرتبات الفاخرة وغيرها من ممارسات تتفوق حتى على ممارسات رؤساء الدول ,
ونتساءل نحن معه أيضا عن القومية ونداء النضال وحقيقته !
هذا الأمر الذى جلب لنا سخرية الإسرائيليين أنفسهم عندما سخر رابين قائلا :
( سفارات لمن وباسم من وأين هى الدولة حتى تكون لها سفارات ؟! ) [2]
بل إن شيمون بيريز ـ رئيس الدولة الإسرائيلي الآن ـ عبّر في مذكراته عن فريق المفاوضات من أمثال عرفات وأبو مازن وصائب عريقات قائلا :
( إنى أشعر أنى أتحدث إلى نفسي .. هؤلاء الذين نفاوضهم ليسوا فلسطينيين بل إنهم يهود بالكوفية الفلسطينية ! )[3]

ويثبت هيكل في كتابه بأدلة كثيفة حقيقة هؤلاء المناضلين على مستوى العالم العربي وكيف أنهم لا يعملون لأجل قضية أو مبدأ أو بإيمان حقيقي بالقومية العربية بل للتكسب الشخصي , ونسوق في هذا المقام دليلا واحدا واضحا وهو العداوة المستفزة بين مختلف الفصائل الفلسطينية على السلطة وعلى الظهور الإعلامى !
وتسلط أجهزة الأمن التابعة لعرفات وأبي مازن في تتبع عناصر المقاومة الإسلامية والتنكيل بهم !
وإلى الدرجة التي جعلت ياسر عرفات في زيارته لباريس أثناء رياسة فرانسوا ميتران , يقبل ببساطة شديدة أن يعلن للعالم أجمع إلغاؤه للميثاق الوطنى الفلسطينى بناء على طلب الرئيس ميتران , ووقف أمام عدسات المصورين يعلن هذا الإلغاء للميثاق الذى تعاهد عليه أبطال جبهة الصمود والتصدى وجعلوا بنوده مليئة بالشعارات البراقة واللاءات الشهيرة !
فأين الوطنية القديمة التي رمت السادات بالخيانة لمجرد تفاوضه مع إسرائيل ؟!
وأين القضية يا صاحب القضية ؟!
وكيف تقبل أن تلغي الميثاق الوطنى منفردا بقرارك وحدك ولأجل خاطر الرئيس الفرنسي لمجرد أنه قام باستقبالك استقبالا رسميا في قصر الإليزيه !
نحمد الله تعالى على أن ميتران لم يطلب حذف آيات من القرآن أيضا !

وهكذا قبل العرب قاطبة الإملاءات الإسرائيلية والأمريكية بل وعرضوا التطبيع الكامل في محاولة دفع عملية السلام ـ كما يقال ـ في نفس الوقت الذى كانوا فيه قبل عشرين عاما ينثرون اتهامات الخيانة على القيادة المصرية في مزايدات عقيمة !
وكان حريا علينا فعلا أن نسمى فرصة التفاوض مع السادات لو تمت في إجتماع كامل للكلمة العربية فرصة حقيقية تحقق مكاسب مرحلية هامة باستعادة الأراضي المحتلة في 67 ,
لكنها أصبحت فرصة ضائعة ـ كما سماها وزير الخارجية المصري الأسبق محمد إبراهيم كامل ـ وذلك بسبب المزايدات العقيمة مع السادات وانفراد هذا الأخير بقراره ورحيله منعزلا عن مجتمع القومية العربية مروجا للقومية المصرية !

وليس القصد هنا دفاعا عن سياسة السادات التي أدت به لتوقيع معاهدة كامب ديفيد , بل لا زالت هذه السياسة هى السبب الرئيسي للتراجع العربي , وهو في معيار التاريخ لا يختلف عن أى قائد عربي معاصر خلط العام بالخاص
وقيامه بمبادرة السلام واستعادته لسيناء كلها أمور يستحق التأييد عليها , لكن ما تجاوز فيه هو اعتماده الخيار الإستراتيجى الأمريكى ورهنه سياسات مصر بسياسات الغرب تطرفا منه في عداوة العرب ,
ونسي أن هناك مبادئ وثوابت لا يجب التنازل عنها لأى سبب مهما كان تنازل الآخرين عنها مكشوفا ومعروفا
ولو أن معاهدة السلام كانت معاهدة هدنة , وتبتعد إلى نحو مدروس عن السياسة الأمريكية لكانت سياسة السادات أثبتت أحقيتها كاملة ,

فالقصد كشف وتعرية التيار القومى وعدم الإعتراف له بأحقية نقد السادات لأنه القومى الوحيد الذى فعل شيئا له قيمة وهو اتخاذه قرار أكتوبر
أما نقد السادات وتشريح سياسته فهذا حقنا نحن ـ أصحاب التوجه الإسلامى الصافي ومرجعية القرآن والسنة ـ
وأيضا لإدراك حقيقة أن عداء التيار القومى لمعاهدة كامب وللسادات ليس مبنيا على واقع بل على شعارات كانت هى المحك الرئيسي الذى أدى للهزيمة التي لاموا السادات على استثمار انتصارها والتفاوض من موقف قوة !
نعم إنه قبل بما لا يجب القبول به , ولكن كان من الممكن استيعاب ذلك مرحليا , وعدم النظر إلى معاهدة السلام على أنها معاهدة سلام بالفعل وإنما هى مجرد هدنة لا أكثر ولا أقل
خاصة وأن عقيدة الجيش المصري وعقيدة الجيش الإسرائيلي لا زالت حتى يومنا هذا هى العقيدة المشتركة في العداء وليس للمعاهدة أثر فعلى عليها ,
ويشهد بذلك المشاريع الإستراتيجية للجيشين ,
ولو قبلوا المفاوضات في بدايتها قبل تغير ظروف العالم لحصل العرب على الأراضي التي تم الإستيلاء عليها قبل 67 ولكانت تلك خطوة على الطريق يتلوها ما بعدها لو خلصت النوايا !
لكن من قال إن النوايا كانت مخلصة !

كما أظهرت الوقائع أن نبذ التيار القومى للإسلام والحضارة الإسلامية هى السبب الرئيسي في انهيار أحوال العالم العربي لأن الإخلاص والإيمان إنما هو رهن بيقظة العقيدة الدينية الإسلامية التي اتخذها أهل القرون السابقة دستورا فسادوا بها على العالم ثلاثة عشر قرنا !

ومن الغريب أن دعاة القومية من أمثال الأستاذ هيكل يؤمنون بنظرية فشلت تجربتها فشلا ذريعا على أرض الواقع بينما يهملون التجربة التي أثبتت نفسها كدولة عظمى عشرات المرات ,
والأنكى ..
أنهم تخلوا طواعية عن سلاح فتاك لعدوهم وهو الإسلام , فقد بذل المستشرقون بالفكر والصليبيون بالحرب جهودا استطالت قرونا حتى ينزعوا الفكر الإسلامى من قلوب معتنقيه وفشلوا في ذلك
وجاءت أجيال القرن العشرين لتتخلى عن أقوى أسلحتها طواعية !
والأغرب أن هيكل في كتابه ( المفاوضات السرية ) ينقل عن شيمون بيريز تصريحه بأن الخطر الإسلامى هو أخشي ما يخشاه الإسرائيليون !
وفى نفس الوقت لا ينتبه إلى التناقض عندما يقف مع صف شيمون بيريز ويبرر العداء لأى صحوة إسلامية !

وقد كان هيكل في تجربته الإعلامية واقعا في حيرة من أى شاشة فضائية يطل على جماهير مستمعيه , واختار الجزيرة لسبب واحد وهو أنه سمع تصريحا لجورج دبليو بوش يسب فيه الجزيرة ويعتبرها عدوا إعلاميا فاختارها هيكل تحت منطق أن أى مكان يراه الرئيس الأمريكى غير مناسب له , هو بالتأكيد مكان مناسب أى عربي
جميل جدا هذا المنطق السليم ,
لكن لماذا رفضه الأستاذ هيكل في عداء الإسرائيليين والأمريكيين للإسلام فتشبث بفكر عقيدته التي يعتبرها خصومه أعتى الأسلحة في مواجهتهم ؟!
لا أحد يعلم ؟!
يتبع ..


الهوامش :
[1] ـ د. عبد الله النفيسي ـ برنامج بلا حدود ـ قناة الجزيرة الفضائية ـ حلقة بعنوان ( السلطة الوطنية )
[2]ـ المفاوضات السرية ـ الجزء الثالث ـ محمد حسنين هيكل ـ دار الشروق
[3]ـ نقلا عن ندوة للدكتور عبد الله النفيسي بعنوان ( حال الأمة )

محمد جاد الزغبي 11-18-2010 12:46 AM

قراءة في معالجة القوميين لحرب أكتوبر


يكمن سر العداء الرهيب المتبادل بين القوميين وبين السادات ,
أن هذا الأخير بعد أن استقرت في يده مقاليد الحكم مشي في طريق معاكس لما ينتهجه عبد الناصر وانقلب على مرحلته وسمح للكتابات الحرة المنتقدة للناصرية أن تظهر في الصحف وفى الكتب والتى كان من أوائلها كتاب ( الصامتون يتكلمون ) وهو كتاب محاورات لسامى جوهر حاور فيه عددا من أعضاء مجلس قيادة الثورة ممن أطاح بهم عبد الناصر على مراحل متفاوتة من حكمه
كذلك كتابات المفكر الكبير توفيق الحكيم وأبرزها كتاب ( عودة الوعى ) , وغيرها من الحملات التي كان بعضها صادقا ويتناول ظواهر حقيقية في عهد عبد الناصر والبعض الآخر احتوى على ظواهر مبالغ فيها أو مفتراة مثل كتابات موسي صبري ومصطفي أمين وأنيس منصور وغيرهم من الكُتاب المحسوبين على تيار السادات ,


وتعتبر حرب أكتوبر عقدة العقد بالنسبة للناصريين والقوميين حيث أنها تمت تحت قيادة أعتى خصومهم وهو أنور السادات بينما رحل عبد الناصر ومصر والعالم العربي كله رهن هزيمة ساحقة من إسرائيل ,
والأنكى بالنسبة لهم أن عبد الناصر لم يشن معركة هجومية واحدة على إسرائيل كذلك لم يهزمها في ميدان قتال , فقد انسحب الجيش المصري في حرب 56 وكذلك في حرب 67 م ,
ولهذا جاءت الإنتقادات المبالغ فيها لانتصار أكتوبر والمحاولات المستميتة منهم إلى تقليل حجم إنجازها المبهر دون أن يرتفعوا فوق الخصومة فيركزوا انتقادهم على السادات في فترة حكمه مثلا أو في مسئوليته المشتركة مع عبد الناصر عن الإنتقادات التي يثيرها الساداتيون ,
دون أن يتعرضوا لانجاز مبهر مثل حرب أكتوبر فيعتبرونه نصرا قد تحول لهزيمة !!ّ
وهو الرأى المتطرف الذى لم يصل إليه أعتى الإسرائيليين لا سيما في ظل نتائجه على خريطة الواقع المتمثلة في الإنسحاب الإسرائيلي المتتالى من سيناء ,
وجاءت مجموعة منهم فاعتبرت أن عبد الناصر هو الممهد لانتصار أكتوبر وأنه صاحب الفضل الحقيقي في هذا الإنتصار !!
وكلها بالطبع محاولات تبدو للمتأمل العاقل شديدة التعسف في فرض صورة الرئيس الراحل بأى شكل على الأحداث حتى يمكن أن يكون له نصيب من هذا الإنتصار ,
وزاد الناصريون في التعسف عندما لم يكتفوا بالرأى السابق بل قال محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب أن السادات لا يحمل من الفضل كثيرا في حرب أكتوبر وأن أكتوبر صنعه الجنود البواسل على خطوط النار !
وهى كلمة حق نعم .. لكن يُراد بها باطل ,
ويكفي أن هيكل نفسه أرجع الفضل في الإنجازات الناصرية لشخص عبد الناصر وحده , رغم أن بعض هذه الإنجازات كانت بسبب أدوار لرجال قدموا ما لديهم لأوطانهم مثل دور الدكتور محمود فوزى في أزمة السويس مثلا
كذلك بدا غريبا إشادتهم بدور عبد الناصر فىحرب أكتوبر وهو غائب , وإهمالهم لدور السادات وهو صاحب القرار !


وقد تفاوتت آراء الناصريين في حرب أكتوبر بحسب تطرفهم في الناصرية أو القومية فمنهم ـ كما قلنا ـ من اعتبره هزيمة مثل سامى شرف ـ أحد أعضاء مراكز القوى التي تغلب عليها السادات في بداية حكمه ـ وحسين الشافعى وغيرهم ,
وأصحاب هذا الرأى بالطبع ينطلقون من كراهية عنيفة للسادات نتيجة الخصومات السياسية بينهم ,
ومنهم من اعتبر نصر أكتوبر نصرا عسكريا فائقا لكنه هزيمة سياسية وهى وجهة النظر التي تزعمها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل , وذلك في كتابه ( السلاح والسياسة )
وهذا الرأى ـ كما سنرى في تفصيله ـ كان من الممكن أن يكون رأيا وجيها لولا أن هيكل تعسف في انتقاد سياسة السادات وأخذ عليه بعض الأخطاء السياسية , وهذه الأخطاء كان عبد الناصر يرتكب ما هو أفدح منها دون أن يعلق هيكل عليها بشيئ أو يعتبرها سياسة منحرفة !
ومنهم من اعتبر أن نصر أكتوبر كان نصرا قليل الحجم ضاعت فيه فرص كثيرة كان ينبغي استغلالها , وهى وجهة النظر التي قادها اللواء أمين هويدى مدير المخابرات في أواخر عهد عبد الناصر , وهذا في كتابه ( الفرص الضائعة ) , والفريق محمد فوزى وزير الدفاع السابق الذى خرج في عملية مراكز القوى ,
وهذه الزمرة يمثلها العسكريون الذين خرجوا من الخدمة قبل حرب أكتوبر , ويبدو بالفعل من كتاباتهم أنهم يحاولون البروز بأى شكل في لوحة الإنتصار على اعتبار أنهم لو كانوا في قيادة الحرب لفعلوا أكثر مما فعله القادة الفعليون !
ويظهر ذلك جليا في انتقاد أمين هويدى للضربة الجوية في حرب أكتوبر وانتقاده للسلاح البحرى والتعليق بالسلب على شتى مراحل الحرب بشكل لم يفعله أعتى المتحاملين من الجانب الإسرائيلي !
كما يتضح في مذكرات الفريق فوزى الذى حاول أن يقنع قراءه أن خطة حرب التحرير كانت موضوعة منذ عهده هو في وزارة الدفاع ,
وثبت أن هذا الإدعاء غير صحيح لأن الفريق فوزى لم يسلم للوزارة أى خطة من هذا النوع عند رحيله منها , وقد أكد الفريق الشاذلى أنه عندما تسلم مهمة رياسة الأركان للقوات المسلحة لم تكن هناك أى خطة فعلية تم اعتمادها ولم تكن الخطة بدر أو خطة المآذن العالية قد تم تنفيذها بعد
ناهيك عن أن هذه الخطة كانت خيالية تحت أى مقياس عسكري , كما بين المحللون حيث أن الفريق فوزى يتغنى بها في مذكراته ويزعم أن هذه الخطة كانت معدة لتقوم القوات المسلحة بتحرير سيناء كاملة حتى خط الحدود الدولية في اثنى عشر يوما فقط !
وهذا الكلام لا يتنافي فقط مع قدرات الجيش المصري بعد استكمال استعداده في حرب 73 , بل يتنافي من باب أولى مع قدرات الجيش عام 1970 م وهو تاريخ خروج الفريق فوزى من الوزارة حيث كان الجيش لا زال في مرحلة التسليح والإعداد وتخريج دفعات الضباط التي تحتاجها القوات المسلحة ,
فهذه الخطة كانت عبارة عن تصورات على الأوراق لا أصل لها في الواقع سواء بمشروع تدريبي أو حتى خطة منطقية !


وتلك الكتابات يجمعها عامل واحد مشترك وهو عامل الغرض المسبق من الكتابة والتحليل ,
ووجود الغرض الشخصي في أى قضية يصرفها من الحق إلى الهوى , ولهذا فإننا لا نقبل الحق نفسه إذا جاء على لسان مغرض لأنه حتما يريد استثمار الحق لصالح هدف ما بغض النظر عن الحق المطلق والأمانة العلمية ,
وقد جاءت معظم كتابات القوميين والساداتيين في نقد عبد الناصر والسادات مليئة بالغرض الفاضح وهو الهجوم الأعمى على طول الخط أو الإنحياز الواضح في وجهات النظر ,
ويتناسي القوميون والناصريون حقائق ساطعة كالشمس وهم ينتقدون السياسة المصرية بعد وقف القتال ,
وأهم هذه الحقائق أن النظام في مصر في ذلك الوقت كان نظاما محترفا يدرك حقيقة القوة التي يستند إليها وحجم انتصاره ويستثمر انتصاره وفق طاقته الفعلية لا وفق ما هو مطلوب منه في دعاوى القومية التي كانت تعتمد على القدرات الصوتية ! والتى كانت تتميز بها حقبة الناصرية وتكلف مصر ما لا طاقة لها به في سبيل تأكيد الزعامة بغض النظر عن الإستطاعة
ويتناسي القوميون أيضا أن ما نفذه السادات عندما تمكن من استثمار حرب أكتوبر في تحرير أرضه لم يكن برغبة منه وإنما كان بسبب الرفض العربي القاطع مصاحبته في المفاوضات !

وعندما جاء العرب خلفه بعد ذلك كانت الفرصة قد فاتت , وكان أمل جبهات الرفض أن تستمر مصر ـ كما كانت فى عهد عبد الناصر ـ تستنزف قدراتها السياسية والإقتصادية في سبيل دعاوى الزعامة الفارغة التي أدت إلى نهاية حرب يونيو , فالنتائج التي ينتقدها الناصريون الآن هى نتيجة لمهزلة حرب يونيو التي جعلت من إسرائيل ــ التي كانت شبه دولة ــ
دولة مترامية الأطراف تمكنت في عدة أيام من الإستيلاء على الجولان وسيناء والضفة الغربية في انتصار ساحق عانى منه العرب ولا زالوا يعانون منه حتى اليوم !
ولهذا تبدو دعاواهم ضد حرب أكتوبر في مصر دعاوى بالغة الغرابة لأنهم في المقابل التمسوا كل الأعذار الممكنة لعبد الناصر رغم أنه المسئول الأول والأخير عن معركة النكسة !
وتسببت سياسته في أنها أعطت لإسرائيل ما فاق جميع أحلامها بشهادة الإسرائيليين أنفسهم الذين لم يضعوا في خطة حرب يونيو أنهم سيستطيعون الوصول لقناة السويس وأخذ الضفة الغربية كاملة , وأخذ الجولان أيضا , ولم يكن لديهم من الخطط المسبقة ما يمكنهم من تحقيق كل هذه النتائج لولا الفرص السانحة التي أعطتها سياسة عبد الناصر قبيل الحرب
ولسنا ندرك بالضبط ما الذى كان يريده القوميون من السادات , وهل المطلوب هو استمرار الحروب بلا نهاية وفى ظل تفوق نوعى وكمى كاسح لإسرائيل لا سيما بعد أن انتهى عنصر المفاجأة وانطلق الدعم الأمريكى بلا حدود , على نحو كاد يهدد بخسارة مصر بالفعل لمكاسبها لو تجددت المعارك لأى سبب
وكيف يمكن لعاقل أن يتصور إمكانية الدخول في مواجهات مستمرة بكل تكاليفها البشرية والإقتصادية المتهالكة ضد عدو يتجدد ما لديه من قدرات بدعم أقوى قوة في العالم ؟!

فالقصد ..
أن كتابات القوميين في هذا المجال لم تكن للحقيقة والتاريخ كما يحلو لهم الترديد دائما , وإنما كان منبعها الإنتصار لعهد القومية ولشخص عبد الناصر في مواجهة السادات التي يعتبره الناصريون أعدى أعدائهم ومحاولتهم تبرير فشل التجربة الناصرية في اختبار الواقع فشلا ذريعا بعد أن ضاعفت إسرائيل بسبب السياسة القومية العربية احتلالها للأراضي العربية والتى كان من المستحيل أن تحتلها إسرائيل لولا تلك السياسة القائمة على الحناجر
كما ينسي الناصريون والقوميون أننا حتى إذا انتقدنا التصرفات السياسية المصرية في استثمار نتائج حرب أكتوبر فنحن على الأقل أمام إنجاز عسكري وسياسي يمكننا الإختلاف حول ثماره ونتائجه ,
ولسنا أمام سلسلة طويلة من الهزائم السياسية والعسكرية التي تلونت بشعارات براقة من حقب سابقة قامت على الهتاف بالإنتصار والترويج له دون أى أساس من الواقع !


وسنكتفي بإطلالة على كتاب هيكل ( السلاح والسياسة ) باعتبار أن هيكل هو العقل المفكر للمرحلة القومية ونرى معالجته لحرب أكتوبر التي تلخصت في أنها حرب خذلت السياسة فيها السلاح , ولم يكن الإستثمار السياسي لنتائج الحرب متوافقا مع حجم الإنجاز العسكري لها ,

محمد جاد الزغبي 11-18-2010 12:50 AM

كتاب ( السلاح والسياسة ) لهيكل :


محمد حسنين هيكل لا يختلف اثنان على قدراته الهائلة باعتباره المحلل السياسي الأبرز في المنطقة العربية وكتاباته دائما هى مرجع رئيسي للمهتمين بأى جانب سياسي في التاريخ الحديث ,
ولا يمكن الإختلاف مع هيكل في صحة الوقائع التي يسجلها في كتبه ولا التشكيك في مصداقية كتاباته لا سيما وأنه يراعى التوثيق الكامل لكل معالجة في أى قضية ,
لكن هذا ليس معناه أن كتاباته تخلو من العيوب ,
فالإختلاف حول مصداقية الوقائع وإن كان غير متوفر مع هيكل , إلا أن الإختلاف معه في نظرته إلى تلك الوقائع وتحليلها واستنباطاته منها يظل حقا مشروعا دون شك ,
ولهذا نقول إن هيكل يمكن لأى شخص أن يختلف معه في التحليل أما في صحة الوقائع فهذا أمر مستبعد ,

ولهيكل بعض وجهات النظرـ لا سيما في الناصرية ـ تعتبر وجهات نظر يستغرب منها قراؤه ومؤيدوه , إما لتطرفها الشديد في الإنحياز لعبد الناصر وإما في النتائج التي يطرحها بناء على هذه الآراء ,

وفى كتابه ( السلاح والسياسة ) عالج حرب أكتوبر بطريقة بالغة الغرابة تجعل القارئ موقنا أن يستكثر بشدة أن يقترن هذا النصر باسم الرئيس الراحل أنور السادات ,
كما احتوى على بعض الإنتقادات التي سنرى أنها انتقادات بعيدة عن الواقع , وكان جديرا بهيكل وهو أول المنادين بالقومية أن يعالج أمر حرب أكتوبر بالشكل الذى يستحقه هذا الإنجاز العريض , لا سيما أنه بالغ جدا من قبل في تضخيم الإنتصار السياسي لعبد الناصر في حرب العدوان الثلاثي رغم أنه كان هزيمة عسكرية مريرة !

ويمكننا أن نجمل الملاحظات على معالجة هيكل في الآتى :
أولا : خصص هيكل القسم الأول في كتابه لعرض مشوار السادات في أمر الحل السلمى وسعيه إلى إنهاء الأزمة بشكل سياسي بعيدا عن خيار الحرب ,
وقد أطال هيكل بصورة مبالغة في عرض هذا القسم لا داعى لها لا سيما ونحن بصدد كتاب يعالج وقائع حرب أكتوبر نفسها والتى أثبت فيها السادات أن سعيه للحل السلمى لم يكن أكثر من مناورة سياسية هدفها التعمية على قرار الحرب في الأصل ,
ورغم أن نية الحرب والقتال كانت ثابتة للسادات إلا أن هيكل أوضح أن السادات بالفعل كان بصدد البحث عن حل سلمى , بينما نجد أن شهادات المعاصرين وممارسات السادات تنفي ذلك وتبين أنه في عرضه القضية مرة أخرى على مجلس الأمن وفى عزله للفريق محمد صادق وزير الدفاع أن نيته الحقيقية كانت هى الحرب من أول لحظة تولى فيها المسئولية وأن هذه المناورات السياسية كانت ضرورية لتهيئة العالم أجمع بأن مصر بذلت المساعى السلمية واستنفذتها جميعا وبالتالى سيعذر العالم مصر إن اتخذت القرار باستخدام الحل العسكري وهو ما يضمن التأييد الدولى لمصر .. وهو التأييد الذى افتقدته مصر بشدة في حرب يونيو حيث تسببت سياستها ـ آنذاك ـ في اعتبارها الدولة البادئة بالعدوان والحصار لإسرائيل !
وحتى على فرض أن السادات فكر جديا في الحل السلمى ,
فليس في الأمر ما يشين لأن قرار الحرب ليس بالقرار السهل , وقد قبل عبد الناصر من قبل مبدأ الحل السلمى وقرنه بإزالة آثار العدوان وهو ما رفضته إسرائيل مما جعل عبد الناصر يعتمد سياسة القوة العسكرية لتحرير الأرض ,
وفى جميع الأحوال اختار السادات قرار الحرب وحسم أمره وامتلك شجاعة إصداره وهذا وحده يكفي لكسر أى انتقاد لسياسته فيما قبل اتخاذه هذا القرار ,
لكن هيكل ـ فيما يبدو ـ يتبع نفس أسلوب الناصريين المناوئين للسادات في محاولة إبراز السادات كما لو أنه اتخذ قرار الحرب مجبرا وخائفا !!

ويضاف إلى ذلك أن هيكل ركز أكثر من مرة على موضوع الخطة ( جرانيت ) والتى تم وضعها أيام عبد الناصر للحرب وأن هذه الخطة هى التي تطورت فيما بعد إلى الخطة بدر التي تمت بها المعركة !
وهذا تعسف آخر من هيكل يكذبه واقع شهادات قادة القوات المسلحة المشاركين في الحرب ,
ولم يكن هناك داع لمثل هذا الإدعاء لا سيما وأن جهود عبد الناصر في إعادة بناء القوات المسلحة موجودة ولا تنكر , ولكن ليست هناك أدنى خطة اعتمد عليها منفذو حرب أكتوبر فيما بعد وتم وضعها أيام عبد الناصر وهو أمر نفاه الشاذلى رئيس الأركان في لقائه ببرنامج ( بلا حدود ) وأوضح أن هيكل صدق كلام الفريق فوزى الغير دقيق في معلوماته ,
فالخطة العسكرية لا تعتبر خطة إلا إذا اقترنت بخرائط وتدريبات ومناورات , وما يدعيه الفريق فوزى من وجود هذه الخطة تكذبه الوقائع حيث أنه لم يسلم قيادة الوزارة ورقة واحدة أو يقوم بإجراء مناورة عملية واحدة على هذه الخطة , قبل خروجه
وعندما اقترحت لجنة التاريخ العسكري عقد لقاء بين الفريق فوزى والفريق الشاذلى لحسم أمر هذه الخطة .. وافق الطرفان ,
وسأل الفريق الشاذلى .. الفريق فوزى عمن سلمه هذه الخطة بعد خروجه من الوزارة ,
فكان رد الفريق فوزى أنه لم يسلمها لأحد لدواعى السرية !!!
وانتهى النقاش بالطبع لأن الفريق الشاذلى استنكر هذه الإجابة , فإذا كانت الخطة ظلت مع الفريق فوزى ولم يعلم بها أحد غيره فكيف يمكن القول أن هذه الخطة كانت أساسا للخطة بدر !!

ثانيا : كنت أتوقع أن الأستاذ هيكل مع تقدمه في العمر وقد أصدر كتابه هذا في بداية التسعينات , كنت أظنه قد تراجع عن وجهة النظر العلمانية أو القومية التي كان عليها أثناء كتابته لكتابه السابق عن حرب أكتوبر بعنوان ( الطريق إلى رمضان ) والذي ضمنه انتقادات عنيفة لمنشور الشئون المعنوية للقوات المسلحة الذي بشر المقاتلين برؤيا شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يبشره بالنصر ,
فقد انتقد هيكل في كتابه ( الطريق إلى رمضان ) توجيه هذا المنشور إلى القوات المسلحة , ثم عاد وكرر انتقاده في كتابه ( السلاح والسياسة ) ومؤدى اعتراضه أن هذه الأقاويل ليست مناسبة مع الإنجاز الإنسانى والحضاري الضخم الذى حققه المقاتلون وأن حمل النصر على الجانب الإيمانى والتوفيق الإلهى فيه إغماط لحق المقاتلين وإهمال لعظمة أدائهم !
ولسنا في حاجة بالطبع إلى انتقاد هذا الرأى , فهو يحمل بين طياته أسباب انتقاده , ولا يمكن لأى مقاتل من هؤلاء الذين شاركوا في صنع ملحمة أكتوبر أن يقبل مثل هذا الكلام ,
لا سيما وقد جلجل صوت ( الله أكبر ) بين صفوف المقاتلين واعتمدوا في استراتيجيهم التي أذهلت العالم على إيمانهم بالله فقذف في قلوب أعدائهم العرب ففروا منه من داخل حصونهم مصداقا لقوله تعالى
[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] {الأنفال:12}
ولا توجد أى شهادة من شهادات قادة الجيش المصري أو أفراد القوات المسلحة خالية من إبراز الجو الإيمانى الساطع الذى قادهم , حتى أن قادة الجيوش الميدانية تضمنت أوامر العمليات الخاصة بقواتهم استشهادات متعددة بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتى كان لها أبلغ الأثر في شحذ الهمم لتحقق إحدى الحسنيين .. النصر أو الشهادة ,
ورأى هيكل ـ مع الأسف الشديد ـ يبين إلى أى مدى تعادى القومية الشعور والإنتماء الدينى , رغم أنه التفسير الوحيد لكل معجزات أكتوبر التي فاقت طاقة البشر ولم يستطع العدو استيعابها ,

أيضا قام بهيكل بإفراد عدة صفحات لانتقاد أمر تطوير الهجوم الذى كان وفقا لما يراه هيكل فرصة ضائعة وأن القوات المصرية كان يجب أن تستثمر النجاح فتطور الهجوم ابتداء من يوم التاسع من أكتوبر
وهى وجهة النظر التي انتقدها القادة العسكريون جميعا ـ عدا الفريق الجمسي ـ فقد أصر كل قادة الأسلحة وقادة الجيوش الميدانية ووزير الدفاع ورئيس الأركان على أن يتم صد الهجمات المضادة أولا قبل التطوير وتحت مظلة الصواريخ لأن الخروج من تحت مظلة الصواريخ معناه منح العدو فرصة إيقاع مذبحة بمدرعات الجيش المصري عن طريق طيرانه المتفوق ,
وهذا الأمر تعرضنا له تفصيلا في شرح مبررات الوقفة التعبوية في الفصول السابقة ,


محمد جاد الزغبي 11-18-2010 12:52 AM

ثالثا : أما النقطة الثالثة فقد تمثلت في برقية السادات لهنرى كيسنجر التي أوردها هيكل في كتابه وأقام الدنيا ولم يقعدها وسبق أن قام بنشر البرقية في جريدة الأهالى عقب اغتيال السادات موحيا أن نص البرقية يحمل معانى الخيانة لانجاز أكتوبر !!
وعن هيكل تلقفتها الألسنة والأقلام لتغزل منها ما شاءت رغم أن النتائج المبنية على هذه البرقية تبدو شديدة التعسف مع قائد منتصر تمكن من دحر قوة الجيش الإسرائيلي وإذلاله ,
والبرقية تمت في السابع من أكتوبر وتضمنت عبارة ( أن السادات لا ينوى تعميق المواجهات أو تعميق الإشتباكات ) ,
ولست أدرى من أين استقي هيكل استنتاجه الذى أبرزه في كتابه حول البرقية وأنها كانت برقية مشئومة أفشلت الجهود المصرية في الحرب !
ففي البداية البرقية يمكن فهمها في إطار المناورات السياسية , لا سيما وأن السادات عندما أرسلها في السابع من أكتوبر قام بمخالفة مضمونها أكثر من مرة ,
فالقوات المسلحة لم تكن في ذلك الوقت قد تعمقت بأكثر من ثلاثة كيلومترات في سيناء ولم تتسن لها إقامة الكباري الموحدة ,
هذا فضلا على أن السادات تلقي اقتراحا بقبول وقف إطلاق النار ولم يستجب له سواء في السابع من أكتوبر أو التاسع من أكتوبر ,
والأهم من هذا وذاك أن القوات المصرية عمقت الإشتباكات واستمرت في التقدم حتى أقامت رءوس الكباري الموحدة على مسافة 15 كيلومترا في عمق سيناء بالمخالفة لنص البرقية !
وفضلا على ذلك قام السادات بإصدار أوامره بتطوير الهجوم نحو الممرات يوم 12 أكتوبر بكل ما يحمله هذا من معنى تعميق الإشتباكات وتوسيع مداها ؟!
والسؤال الآن أين هو أثر البرقية فعليا على الأحداث ؟!!
الأمر الآخر الهام ..
كيف يمكن أن نتصور أن هنرى كيسنجر يمكن أن يأخذ أقوال السادات على محمل الجد ؟!
وكيف يمكن إذا اقتنع هو جدلا أن يقنع قادة إسرائيل بذلك؟!
ثم إن فهم مدى البرقية وما تصل إليه يبعث على الحيرة من ردة فعل هيكل ,
ذلك لو أن البرقية كان مقصودا بها التوقف عند عبور القناة وتحطيم خط بارليف دون التعمق لأكثر من ثلاثة كيلومترات , فقد خالف السادات نص البرقية صراحة بل ورفض وقف إطلاق النار عندما اقترحه السوفيات في ثانى أيام الحرب ,
ولو كان الهدف من البرقية هو إبراز النية المصرية في أن الجيش المصري لا ينوى التعمق في الأراضي الإسرائيلية عقب تحرير سيناء , فهذا ليس فيه أدنى كشف للنوايا ,
لأن الولايات المتحدة ومن قبلها إسرائيل تدرك تماما أن قدرات الجيش المصري لن تتعدى مدى حائط الصواريخ , وإذا كانت القوات المصرية ليس في استطاعتها الوصول إلى خط الحدود الدولى وقصاري ما تهدف إليه الخطة بدر هو الوصول للمضايق فقط , فكيف يمكن تصور اختراق القوات المصرية للأراضي الإسرائيلية ,
ولهذا فالفهم الصحيح للبرقية يمكن إدراكه من أنه كان محاولة من السادات لتهدئة الخواطر الأمريكية وطمأنتهم إلى أن المواجهات لن تتوسع بالشكل الذى يستحق التدخل الأمريكى بثقله ,
وهى محاولة لو نجحت لعطلت الجسر الجوى الأمريكى عدة أيام على الأقل ,
فالبرقية لم تكن أكثر من مناورة سياسية تقليدية ووسيلة لدفع الإتصالات بين السادات وهنرى كيسنجر لترتيب الأوضاع فيما بعد وقف إطلاق النار ,

يضاف إلى ذلك :
أن هيكل أوضح لنا أن البرقية تعتبر كارثة كما لو أن نص البرقية عبارة عن دستور لن يستطيع السادات أن يتنصل منه !
بينما البرقية كانت اتصالات سريا عبر دوائر المخابرات ومن المستحيل أن يرتب إلتزاما جبريا على السادات باتباع سياسة معينة في الحرب كتعهد قطعه على نفسه لأنه تعهد معدوم بطبيعته !
والذي لا يعرفه الكثيرون أن تلك البرقية لم تكن فريدة في نوعها فقد تلتها برقيات أخرى عبر قناة اتصال سرية ـ من المفارقات أنها قناة منشأة أصلا أيام عبد الناصر والذي أنشأها هو أمين هويدى ـ وتولاها حافظ إسماعيل في أيام السادات ,
أى أن البرقية لم تكن رسالة منفردة بل كانت هناك قناة اتصال سرية كاملة عرض منها هيكل أكثر من عشرين رسالة متبادلة بين السادات وهنرى كيسنجر ومنها رسائل توضح تماما أهداف السادات من قناة الإتصال ,
بل وفيها برقية تخلى السادات بها عن تعهداته وتوعد أن يطور الصراع إذا استمرت إسرائيل في انتهاكها لوقف إطلاق النار مما استدعى معه تهديد هنرى كيسنجر بالتدخل الأمريكى المباشر في الحرب
وهذا ما يكفي تماما لبيان طبيعة الإتصالات وأنها اتصالات أقران لا اتصالات عملاء كما صورها هيكل !
وإذا كان الإعتراض على كون الإتصال تم مع عدو في وقت الحرب ,
فهذا اعتراض ساذج لا يمكن أن يخطر ببال سياسي ضليع كهيكل , لا سيما وأن واحدا من ألد أعداء السادات وهو الفريق الشاذلى رئيس الأركان انتقد بشدة معالجة هيكل لموضوع البرقية واعتبرها مبالغة من جانب هيكل في تصوير الأمر كما لو كان كارثة قومية رغم أنه مجرد مناورة سياسية

أما عن توجهات السادات إلى الولايات المتحدة عبارة عن خط سياسي اختاره السادات كما اختار سلفه التوجه نحو الإتحاد السوفياتى ,
ولو جاز لهيكل أن ينتقد توجه السادات السياسي فسنحتاج منه أن يبرر السير في فلك السوفيات والذي كانت عليه سياسة عبد الناصر في حقبته على امتداد ثمانية عشر عاما جلب فيها عبد الناصر سائر القوانين الإشتراكية من التجربة السوفياتية وطبقها جبريا على مصر رغم الإختلاف الفادح في العقيدة !
ومن له الحق في انتقاد السادات على التزامه الخط الأمريكى هم أصحاب التوجه المستقل الذين يدعون لترك الشرق والغرب والإلتزام في مقدرات الأمة بماضيها وتاريخها الإسلامى الصرف ,
وليس هذا حقا لأنصار اليسار أو اليمين ,


ومن دواعى الإستغراب الشديدة التي تحضرنا هنا مع اعتراض هيكل على الإتصالات مع كيسنجر في نفس الوقت الذى غض فيه النظر تماما عن اتصال سري أكثر فداحة بمراحل تم على يد الرئيس عبد الناصر أثناء أزمة السويس عام 1956 م ,
وهى المعركة التي يعتبرها هيكل والقوميون انتصارا كاملا رغم أنها كانت انتصارا سياسيا وهزيمة عسكرية تولدت على إثرها أزمة بين عبد الحكيم عامر وبين عبد الناصر ,
ورغم هذا فقد حظيت معركة السويس بالإشادة المبالغ فيها من هيكل ولم يتعرض بحرف واحد من النقد للأداء العسكري الهزيل في الحرب ولم يتعرض لما هو أخطر ,
وهو تعهد الرئيس عبد الناصر السري للرئيس الأمريكى أيزنهاور بضمان حرية الملاحة لإسرائيل في خليج العقبة !!
وهو الأمر الذى ظل سرا مكتوما منذ عام 1956 م حتى تم إعلانه في مايو 1967 م , ولم يكن هناك مخلوق يعلم بأمر هذا التعهد الذى حقق لإسرائيل هدفها من غزو العدوان الثلاثي عندما ضمنت حرية الملاحة في خليج العقبة !
وفرض أيزنهاور على عبد الناصر هذا التعهد مشروطا بوجود قوات دولية في شرم الشيخ وعلى خط الحدود الدولية في سيناء , ومع ذلك لم يعتبر هيكل أن التعهد هزيمة أو انتقاص من السيادة كما فعل مع السادات !

رابعا : نأتى الآن للعنصر الرئيسي الذى دارت حوله انتقادات هيكل في كتابه ـ بل وفى أحاديثه ـ وهو أن السياسة خذلت السلاح في حرب أكتوبر وأن السياسة تسببت في أن تكون بدايات حرب أكتوبر مختلفة عن نهاياتها ,
والأسباب كما ساقها هيكل تتلخص في أن الهدف من الحرب لم يكن هو تحرير سيناء فسيناء كانت معروضة على مصر من قبل في مشروع روجرز مقابل السلام ودون حرب , فكيف يقبل السادات الحل المنفرد والسلام في مقابل سيناء وحدها وقد كانت معروضة دون قتال , وهذا في رأيه إهمال لنتائج حرب أكتوبر وإنجازها الكبير ,
والسبب الثانى يتعلق بأن مطالب إسرائيل أساسا كانت في حرب يونيو 67 هى إخراج القوة المصرية من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي وهو ما تحقق لها كاملا رغم انتصار أكتوبر ,

ولا شك أن هذه الأسباب غير مقبولة وفيها تجنى كبير على الحقائق ,
وهيكل نفسه هو الذى علمنا أن الحكم على أى حرب بالإنتصار أو الهزيمة إنما يقع بالنظر إلى الأهداف التي تحرك الطرف المهاجم وهل نجح في تحقيقها أم لا .. كما أن إنتصار الطرف السلبي يكون مرهونا بنجاحه في منع العدو من تحقيق أهدافه أو فشله في ذلك ,
وبالنظر إلى وقائع حرب أكتوبر يتضح فيما يلي :
* نسي الأستاذ هيكل أن حرب أكتوبر لم تكن وسيلة لتحرير الأرض , بل كانت الحرب غاية في حد ذاتها ,
فقد خاض العرب ثلاثة حروب ضد إسرائيل منذ عام 1948م كانت الهزيمة العسكرية والسياسية من نصيب العرب فيها , على نحو رسخ لأسطورة الجيش الذى لا يقهر ,
وحققت إسرائيل أهدافها كاملة من كل تلك الحروب ,
ففي عام 1948 م تمكنت من بسط نفوذها على المساحة الأكبر من فلسطين بالمخالفة لقرار التقسيم ,
وفى عام 1956 م ورغم نجاح مصر في الإحتفاظ بقناة السويس إلا أن إسرائيل حققت أهدافها بضمان الملاحة في خليج العقبة ووجود قوات الطوارئ الدولية على الحدود المصرية الإسرائيلية ومنع مصر من حشد أى قوات لها في سيناء !
وفى حرب 67 تمكنت إسرائيل من مضاعفة الأرض الواقعة تحت سيطرتها عدة مرات وقامت بتأمين حدودها من جميع الإتجاهات في نفس الوقت الذى ألحقت بالعرب هزيمة ساحقة مريرة كان أفدحها تحطيم الجيش المصري في سيناء
من هنا تولدت لدى القوات المصرية وجهة نظر عبر عنها الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة بعد حرب يونيو 67 حيث صارح الرئيس عبد الناصر بألا يقبل أى حل سياسي حتى لو تضمن إزالة آثار العدوان لأن الجيش المصري يجب أن يحارب في معركة عادلة , ويستحق المقاتل المصري أن يخوض حربا عادلة في مواجهة المقاتل الإسرائيلي لأن كل الحروب السابقة ظُلم فيها الجيش المصري ظلما فادحا ولم تتح لأفراده قدرة القتال ,
بالإضافة إلى أن هذا المطلب ـ مطلب الحرب وضرورتها ـ كان محوريا بالنسبة للعرب وإلا عربدت إسرائيل كما تشاء وعلى نحو أكثر فجورا مما فعلت إذا لم تقاتل ضد العرب في حرب حقيقية , يتمكن فيها العرب من رد الهزيمة ومحوها ونسف أسطورة الجيش الذى لا يقهر , وهى النظرية التي بنت عليها القوات الإسرائيلية نظرية الحدود الآمنة ,
وقد تحققت الحرب وتمكن المقاتلون العرب من دحر أسطورة الجيش الذى لا يقهر وعلى أفضل أداء ممكن ,

* إذا تأملنا التوجيه الإستراتيجى الذى وجهه الرئيس السادات للمشير أحمد إسماعيل يوم 5 أكتوبر سنجد أن الأهداف التي لخصها السادات للحرب تحققت بكاملها غير منقوصة ,
ومن الغرائب أن هيكل نفسه كان هو الذى صاغ هذا التوجيه بناء على تكليف من الرئيس السادات ,
واحتوى التكليف على مطلب تحطيم نظرية الأمن الإسرائيلي , وقد حطمها الجيش المصري بالفعل ,
واحتوى التكليف على مطلب تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والمعدات , وقد تحقق هذا المطلب على أعلى مستوى
واحتوى التكليف على تحرير أرض سيناء على مراحل طبقا لإمكانيات القوات المسلحة , وقد تم هذا على أكمل وجه ,
ومعنى هذا ببساطة أن أهداف حرب أكتوبر لم تكن هى الأهداف التي يتصورها القوميون بل كانت الأهداف الواقعية هى ما حدده الرئيس السادات للقوات المسلحة والتزمت بتنفيذه كاملا ,
وبالتالى فقد كان الإنتصار المصري كاملا لأن جميع أهداف الحرب الموجودة في قرار التوجيه تم تحقيقها ,
أما الأهداف التي كان يراها هيكل وغيره من القوميين فهى أهداف وضعها الناصريون والقوميون ثم طالبوا القيادة السياسية المصرية بالعمل على تنفيذها باعتبار أن هذه الأهداف هى ما اتفقت عليه وجهة النظر القومية !!
ولا شك أن الأهداف التي طالب بها القوميون ـ كعادتهم ـ كانت أهدافا لا تمت بصلة للواقع أو بالإمكانيات الممكنة للقوات المسلحة المصرية والسورية في ظل ظرف دولى يتيح لإسرائيل غطاء لا مثيل له من الدعم في مقابل دعم غير متوافر بنفس القوة أو نصفها للقوات العربية
بل كانت بقاء إسرائيل وحدودها في عام 67 مضمونة لإسرائيل بضمان أمريكى ـ سوفيتى صريح ,
وقد سبق أن عرضنا لردة الفعل الأمريكية عندما قامت القوات السوفياتية بإثارة أزمة خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار لعدة أيام , ورغم وجاهة الإعتراض السوفياتى وتآمر الولايات المتحدة الواضح في خرق إطلاق النار فقد بالغت الولايات المتحدة في تآمرها ووضعت إمكانيات الأسطول السادس جميعها في خدمة الجبهة الإسرائيلية ,
وتراجع السوفيات كالعادة !


محمد جاد الزغبي 11-18-2010 12:54 AM

* روج هيكل كثيرا لنظرية أن إسرائيل حققت أهدافها بعزل مصر وأن إسرائيل لم يكن من أهدافها الإحتفاظ بسيناء وأنها كانت على استعداد لإعادتها لمصر في مقابل اتفاقية سلام معها وهو ما رفضه عبد الناصر
وفى البداية نحب أن نؤكد على أن عبد الناصر ـ وفق اعتراف هيكل نفسه ـ كان على استعداد لقبول هذا الترتيب لو قبلت إسرائيل إزالة آثار العدوان عن الأراضي العربية جميعها ,
وهو ما رفضته إسرائيل أصلا أى أنها لم تكن مستعدة لتنفيذ هذا الأمر الذى عرضه وليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى عام 69 على الطرفين ,
فالرفض كان من الجانب الإسرائيلي لا المصري ,
وما يحسم الأمر تماما في هذه النقطة ,
هو تصريح هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى ومستشار الرئيس نيكسون للأمن القومى والذي عبر فيه تماما عن تلك الحقيقة عندما صرح قائلا فيما ينقله عنه أحمد ماهر وزير الخارجية المصري السابق في إحدى البرامج الفضائية :
( لا ينبغي لكم أيها المصريون أن تتوقعوا أن تحصلوا بالمفاوضات على ما فقدتموه بالحرب )
وكان كيسنجر واحد من أكثر المتشددين في عدم منح السادات أى مغنم مهما كان بسيطا بالوسائل السلمية !
فإسرائيل لم يكن عندها استعداد حقيقي لإعادة شبر واحد من سيناء لمصر ولو حتى في مقابل تسوية سلمية كاملة , وهذا الأمر الذى كانت تردده إسرائيل أو ساستها في هذا الشأن لا يخرج عن كونه ألاعيب معتادة في السياسة الإسرائيلية التي لا تعترف إلا بالقوة ,
بدليل أنها لم تستجب لمبادرة السادات قبل الحرب بالإنسحاب الجزي لعدة كيلومترات غرب القناة لإعادة فتح القناة للملاحة , فضلا على أنها طيلة تاريخها القريب لم تلتزم أبدا بالإنسحاب من شبر واحد قامت بإحتلاله إلا بالقوة المسلحة وحدها على نحو ما تم في اتفاقية السلام التي وقعتها مع مصر ,
ولولا حرب أكتوبر وأثرها ونتائجها لما بادرت إسرائيل بإعادة سيناء كاملة قط ,
وكدليل آخر على اعتماد إسرائيل لسياسة التضليل أنها لم تنسحب من الجولان نهائيا حتى يومنا هذا رغم قبول سوريا للتسوية السلمية في عام 1992 م وأصر شيمون بيريز على الإحتفاظ بأجزاء من الجولان لضمان الأمن الإسرائيلي ,
وهذا رغم أن إسرائيل كانت تعرض الجولان كاملة في بدايات مرحلة التفاوض عقب حرب أكتوبر ,
وإذا قارنا هذا الأمر بما فعلته مصر سنجد أنها استعادت سيناء بالكامل بناء على نتائج حرب أكتوبر ,
لا سيما وأن مقولة أن إسرائيل لم تكن تنوى البقاء بسيناء مقولة تنقصها الدقة ,
فربما كان هذا صحيحا قبل عام 67 , أما بعد حرب يونيو فقد تطورت أهداف إسرائيل كثيرا عما كان يردده بن جوريون قبلها , وأصبحت أرض الضفة الغربية والجولان وسيناء أرضا إسرائيلية في العرف الإسرائيلي ,
ولو أنها كانت لا تنوى البقاء بسيناء وتهدف فقط للضغط على مصر فلماذا بقيت في الجولان رغم أنها ليست لها مطالب تاريخية أو دينية فيها .. تماما كما هو الحال مع أرض سيناء ,
ورغم هذا فلم تنسحب من الجولان ومدت مستوطناتها إلى أراضيها وأقر الكنيست الإسرائيلي هذا الواقع ,
بالإضافة إلى أن إسرائيل قامت بإنشاء مستوطنات على أرض سيناء واستمرت في البناء فيها حتى بعد حرب أكتوبر ومنها مستوطنة ( ياميت ) كما أنها كانت مصرة على عدم الإنسحاب من كامل سيناء وكان من أهدافها الإحتفاظ بشرم الشيخ وطابا كضمان أمنى لدرجة أن موشي ديان صرح في أثناء مفاوضات كامب ديفيد أن الحرب بشرم الشيخ أفضل من السلام بدون شرم الشيخ
وهذا رغم حرب أكتوبر وما أتبعته من تأثير على القيادة الإسرائيلية ,
ورغم هذا فقد دفعت نتائج حرب أكتوبر إسرائيل إلى هدم مستوطناتها والتخلى عن سيناء كاملة وتم الإنسحاب الشامل ,
وكل هذا بسبب حرب أكتوبر ونتائج حرب أكتوبر على الأرض حيث تمكنت السياسة من استثمار نتائج الحرب ودفعت إسرائيل للإنسحاب الكامل رغم أن الجيش المصري لم يكن باسطا نفوذه إلا على عمق 15 كيلومتر فقط من سيناء ,
فكيف يمكن بعد ذلك أن نقول أن السياسة خذلت السلاح في حرب أكتوبر ؟!
وأى إنجاز أكبر من إتمام سيطرة مصر على سيناء كاملة رغم أن قواتها المسلحة لم تحرر أكثر من ثلثها ؟!


* يعتمد هيكل في وجهة نظره على أن السياسة خذلت السلاح في حرب أكتوبر , باعتبار أن السادات قام بحل منفرد مع إسرائيل وكان لزاما أن يقوم بحل شامل ,
وعندما نعود لوقائع الأحداث سنجد أن السادات في خطابه أمام مجلس الشعب في 16 أكتوبر عام 1973 م عرض التسوية الشاملة بضمان كافة الحقوق العربية في الأرض المحتلة عام 1967 م ,
واستمر الخط السياسي المصري قائما على أساس تسوية شاملة تعود بها الجولان والضفة الغربية جنبا إلى جنب مع سيناء كمقابل لفرض عملية السلام وإنهاء حالة الحرب ,
بل قام السادات بالتركيز على الجزئية في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي بعد زيارته للقدس عام 1977 م , ومن يعود للخطاب سيجد أنه ركز على أن مصر لا ولن تبحث عن حل منفرد مع إسرائيل إلا في ظل حل شامل يعيد الحقوق العربية كاملة ويمنح حق الحكم الذاتى للفلسطينيين ,
وفى كل تلك المراحل رفضت الدول العربية السير في طريق المفاوضات رفضا تاما , رغم أن السادات أوضح في سياسته عدم نيته على حل منفرد حتى أجبرته السياسة العربية المصرة على مقاطعة المفاوضات في أن يمضي وحده ويستعيد أرضه ,
ورفضت سوريا مبدأ التفاوض على الجولان ورفض الفلسطينيون حل الحكم الذاتى في غزة وأريحا , وكانت النتيجة أن كلا الطرفين خسرا العرض بعد فوات الأوان وكان السلام في كامب ديفيد ـ على حد تعبير وزير الخارجية المصري إبراهيم كامل ـ فرصة ضائعة كان ينبغي إستثمارها !
لكن نعرة التيار القومى وما خلفته في العقول العربية كانت السبب في ضياعها , وكان يمكن إعادة هذه الأراضي باتفاقية سلام شامل لم تكن أبدا ستقف عائقا أمام إعادة حالة الحرب عند الضرورة ,
لكنها كانت ستعمل كهدنة ـ مسماة سياسيا باتفاقية السلام ـ إلى أن يحين الظرف الدولى لمواصلة النضال ,
وهو ما تمثله بالفعل معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ,
إذ أنها ليست اتفاقية سلام واقعى أو فعلى بل هى مجرد هدنة يعرف الطرفان المصري والإسرائيلي أنها هدنة مؤقتة مهما طال الزمن بها ,
ولا زالت العقيدة العسكرية المصرية والإسرائيلية تحمل العداء المتبادل ويمثله في وضوح أن المشروعات الإستراتيجية للمناورات في الجيش المصري لا تقوم إلا في مواجهة عدو واحد وهو الجيش الإسرائيلي
وهذا رغم انعقاد معاهدة السلام !
فما الذى منع العرب من السير خلف خطا السادات واستثمار نتائج حرب أكتوبر لاتفاقية كاملة تكون القوة العربية معها موحدة على مطالب محددة تعيد الأرض لأصحابها في إنجاز غير مسبوق ؟!


* ثم نسأل الأستاذ هيكل ,
ما هو البديل المتاح والإسثمار الناجح في نظره لحرب أكتوبر ,
من الطبيعى أن هيكل لم يكن يؤيد استمرار القوة العسكرية فاعلة في الصراع عقب وقف إطلاق النار , لأنه يدرك كما ندرك أن هذا الأمر لم يكن مطروحا في ظل الظرف الدولى الذى شهد التنامى المتزايد للقوة الأمريكية وبالتالى الإسرائيلية ,
إذا كان مقصد هيكل من استثمار النتائج هو أن تقوم مصر بقيادة اتفاقية التسوية الشاملة متحدثة باسم العرب جميعا وضامنة لإعادة الحقوق المسلوبة عام 1967 م ,
ونحن لا نختلف معه في أن هذا كان واجبا ,
لكن على من يقع عبء عدم تحقيق هذه الأهداف ؟!
هل يقع العبء على سياسة السادات الذى عرض طيلة خمس سنوات اتفاقية مشتركة مع إسرائيل وطلب التفويض للحديث باسم العرب في المفاوضات مع إسرائيل حتى رفض العرب جميعا ؟!
أم يتحملها القادة العرب الذين رفضوا خيار المفاوضات وفى نفس الوقت عجزوا عن إقرار معادلة القوة في الحرب مع إسرائيل فلم نشهد معركة أو حتى شبه معركة قامت بعد حرب أكتوبر لاسترداد الجولان أو الضفة الغربية ؟!
بل رأينا العكس ,
قبل العرب ما رفضوه بالأمس ـ وكان متاحا أمامهم ـ بعد ضياع الفرصة وكان أداؤهم في المفاوضات مما يرثي له حيث عجزت المفاوضات إلى اليوم في إعادة شبر واحد من الأراضي المحتلة عام 1967 م !!
فمن يتحمل هذه المسئولية ؟!


* آخر نقطة يجدر بنا التنويه عنها في هذا المقام وهى انتقاد هيكل للتوجه الأمريكى للسادات وسبق أن عرضنا عدم امتلاك هيكل أحقية أن ينتقد السادات في هذا الشأن لأنه كان الراعى الأول للتوجه السوفياتى لعبد الناصر , والتوجه للسوفيات ليس فرضا مفروضا أو قرآنا منزلا على السياسة المصرية ,
والذي يمتلك الحق في نقد اتجاه السادات للسياسة الأمريكية هم من ينادون بالنزعة المستقلة التي تعتمد على الحضارة العربية الراسخة في أعماق التاريخ , وليس هذا من حق دعاة القومية الذين رهنوا مصائر الأمة في يد صنم الإشتراكية التي لم تعد كونها تعريب للشيوعية السوفياتية ,
أما انتقاد هيكل وغيره لبنود معاهدة السلام وأخطرها ـ من وجهة نظرهم ـ هو إخلاء سيناء من التواجد العسكري المصري ,
فهذا اعتراض يثير السخرية حقا ,
ليس لأنه اعتراض غير وجيه , بل لأنه يأتى من القوميين بالذات ؟!
فمنذ متى في الحقبة الناصرية كانت مصر تمتلك أى قوات عسكرية في سيناء ؟!
لم يحدث منذ قيام الثورة وحتى رحيل عبد الناصر أن تمكنت مصر من فرض وجود عسكري مصري واحد في سيناء حتى تفجرت الأزمة في مايو 1967 , وهو العام الذى اضطر فيه عبد الناصر لحشد القوات المصرية في سيناء ,
والسؤال للقوميين هنا ..
ما الداعى لحشد القوات في سيناء من الأصل ولماذا لم تحتشد هذه القوات بشكل طبيعى في مواجهة العدو الأول والأخير لمصر ؟!
الأمر الآخر الهام ,
أنه إن قبل السادات وجود قوات الطوارئ الدولية على الحدود المصرية الإسرائيلية عقب انتصار أكتوبر فلماذا لم تلوموا عبد الناصر على دخول قوات الطوارئ إلى قلب سيناء وتمركزها في شرم الشيخ وحمايتها للملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة رغم خروج عبد الناصر منتصرا في عام 1956 م , ؟!
ولماذا قبل عبد الناصر إخلاء سيناء كاملة من أى تواجد عسكري مصري بعد حرب 1956 وفقا لما طالبت به إسرائيل كشرط للإنسحاب من سيناء , وهو الشرط الذى قبله عبد الناصر !!
فلماذا كان قبول عبد الناصر لهذا الأمر نصرا .. وقبول السادات له كفرا ؟!
هذا مع نقطة مفصلية شديدة الأهمية :
وهى الفارق الضخم بين الشرط الذى قبله عبد الناصر والشرط الذى قبله السادات ,
فعبد الناصر لم يكن يمتلك أى سيطرة أو تواجد عسكري حتى في شرم الشيخ رغم وقوعها في قلب سيناء ,
بينما كانت الشرط الذى قبله السادات مختلف إختلافا جذريا حيث أن سيناء تم تقسيمها لمناطق مختلفة تبدأ بالمنطقة الأولى وهى الربع الأول من سيناء وتتمركز فيه قوة عسكرية كاملة مدرعة متمثلة في فرقة من 22 ألف جندى بتسليحها الكامل ,
والمنطقة الثانية وهى الوسطى وتتمركز فيها القوات العسكرية الخفيفة ,
والمنطقة الثالثة هى فقط المنطقة التي تعتبر منزوعة السلاح الثقيل وتتمركز فيها قوات حرس الحدود والشرطة
وعليه فليست سيناء بأكملها منزوعة السلاح كما يروج القوميون , بل ثلثها الأعلى فقط وفى المقابل فإن المنطقة ( د ) والواقعة في الحدود الإسرائيلية هى أيضا منزوعة السلاح بالمثل
وهى الحقيقة التي يتعمد القوميون المرور عليها مرور الكرام !
هذا فضلا على تمركز القوات المسلحة جميعها على أبواب سيناء حيث يتمركز الجيشان الثانى والثالث الميدانيين بكامل تسليحهما في السويس والإسماعيلية على حدود مصر الشرقية ..
بالإضافة إلى أن الإصرار الإسرائيلي والأمريكى على هذه التدابير كان مبنيا أصلا على سياسة مصر الخارجية في حرب يونيو 67 م حيث ظهرت مصر أمام العالم أجمع باعتبارها الدولة المعتدية والمتحفزة للإعتداء مما جعل لإسرائيل مشروعية أمام العالم في اتخاذ التدابير الواجبة بشن حرب استباقية !
والإصرار على اتخاذ التدابير اللازمة لضمان عدم نية مصر بتفجير الحرب مرة أخرى


* أما القول بأن السادات تسبب بسياسته في شق الصف العربي ,
فهذا أمر ينطق به القوميون بينما هو من الخيال العلمى !
فأسطورة التضامن العربي التي رددها القوميون مع بداية حركات التحرر في الخمسينيات بناء على مذهب القومية كانت ولا زالت أسطورة حاول القوميون صبغها بصبغة الحقيقة عن طريق الإعلام المكثف وحده ,
فمصر بعد الثورة بدأت سياسة التصنيف للأوطان العربية على صنفين وهما البلاد التقدمية التي تمثلها مصر الثورة والبلاد الرجعية التي يأتى في مقدمتها البلاد العربية ذات الحكومات الملكية ,
ودخل الطرفان في معركة عربية ـ عربية هائلة وانتهجت فيها مصر سياسة تشجيع الإنقلابات والثورات على أنظمة الحكم العربية واعتبار التقدمية والقومية لا تقوم إلا على هذا الأساس
وأدت هذه السياسة فيما بعد إلى تورط مصر في حرب اليمن ضد السعودية التي تحالفت مع قوات الأمير البدر المعزول بسبب ثورة عبد الله السلال ,
وما حدث في اليمن حدث في العراق وتفجرت الثورة العراقية هناك بقيادة عبد الكريم قاسم الذى دخل في مواجهة على الزعامة مع جمال عبد الناصر استوجبت معارك إعلامية محتدمة بين مصر والعراق
هذا فضلا على الخلاف الأردنى ـ المصري والذي استخدم فيه الطرفان مدفعية الإعلام الثقيلة لتخوين بعضهما البعض
وفى نفس الوقت تقريبا تفجرت الخلافات العقيمة بين مصر وسوريا عقب تجربة الوحدة وممارسات عبد الحكيم عامر في سوريا والتى انتهت بترحيله إلى مصر بطريقة مهينة , عقب انقلاب عسكري دبره عبد الكريم النحلاوى مدير مكتب المشير عامر نفسه في دمشق !
وعندما حاول عبد الناصر التدخل عسكريا في سوريا لقمع الإنقلاب وأصدر أوامره للقوة المتوجهة إلى هناك بالرحيل فعلا , عاد وألغي أوامره عندما وصله تحذير سوفياتى أن يدع سوريا وشأنها !
وبسبب العداءات القومية المتبادلة تفجرت أحداث أيلول الأسود التي شهدت معركة ضارية مسلحة بين المقاومة الفلسطينية والجيش الملكى الأردنى في عام 1970م , كادت أن تنتهى بمذبحة بين الطرفين لولا خروج قوات منظمة التحرير من الأردن
وقام جمال عبد الناصر نفسه بإلغاء إذاعة صوت فلسطين من القاهرة بسبب تهجم هذه الإذاعة عليه شخصيا عقب قبوله لمبادرة روجرز التي أوقفت حرب الإستنزاف !
وقبل كل هذا ,
سقط مذهب القومية في بداياته سقطة غير متوقعة عندما قبلت مصر التضحية بالسودان وهى العمق الإستراتيجى الطبيعى لمصر والذي كان الجنوب الطبيعى للحدود المصرية ,
فدخل نظام جمال عبد الناصر في مواجهة مع إسماعيل الأزهرى زعيم الإئتلاف الحزبي في السودان والذي رفض الوحدة مع مصر مع أن أطاح جمال عبد الناصر بمحمد نجيب من السلطة , وكان محمد نجيب يحظى بشعبية هائلة في السودان كانت تؤهله لضمان استمرار وحدة وادى النيل
وكانت الطامة الكبري عندما نشبت معركة يونيو 67 وساعدت في اشتعالها وجر مصر إلى الفخ العسكري دول عربية وحركات مقاومة وجدت نفسها مغزلا يحيك خيوط المؤامرة جنبا إلى جنب مع الخيوط الأمريكية ـ الإسرائيلية !
حتى في المرة الوحيدة التي حملت شبه فرصة للتضامن العربي وهى تجربة حرب أكتوبر !
كان القادة العرب أصغر من مستوى الحدث فاختلف السادات وحافظ الأسد في ثانى أيام القتال بعد أن اقترح السفير السوفياتى وقف إطلاق النار وادعى أن هذه هى رغبة سوريا !
مما فجر شكوك السادات ودفعه للحركة المتوجسة التي أدت لاختلاف القائدين فيما بعد على وقف إطلاق النار ثم على مفاوضات فك الإشتباك .. وهلم جرا


فأين هو التضامن العربي الذى يرثي هيكل لقطعه وخروج مصر من صفه ووحدته ؟!
وإذا كان العرب لم يجتمعوا على كلمة واحدة متحدة ـ ولو لمرة واحدة ـ في أيام جمال عبد الناصر نفسه , فكيف يمكن تصور اتحادهم على يد السادات ,
رغم أن هذا الأخير وغيره من حكام المنطقة حاولوا بالفعل لكن سياسة المزايدات كانت حاكمة !


وفى النهاية تبقي كلمة ..
أن أمل الأمة اليوم ليس معقودا إلا مفكريها , وشباب مثقفيها ,
وهؤلاء ليس للأمة أمل فيهم إلا إذا أعادوا قراءة التاريخ مرة أخرى قراءة جديدة وبتجرد كامل وفهم عميق لحقيقة الأدوار والأشخاص ومحاولة استقراء عناصر القوة وعناصر الضعف بعيدا عن المزايدات والتورط في سياسة الإستقطاب ومبدأ ( مع أو ضد )
ثم بسط هذه الحقائق للناس ,
وهى المهمة المعقودة على المفكرين والمحللين باعتبارهم رعاة تربية الرأى العام وقادته في جميع العصور
وهى مهمة ينبغي لأهلها التصدى بعيدا عن نوازع اليأس وكلمة ( لا فائدة ) لأن الفائدة لن تتحقق إذا ألقي المفكر قلمه والمعلم عصاه وتركوا مهماتهم تحت زعم اليأس ,
ولو أدى كل منا دوره فحتما سيكون في بناء المستقبل لبنة ,
تم بحمد الله


الساعة الآن 07:54 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team