![]() |
وكانت النتيجة أن ترسخت منذ عهد عبد الناصر وحتى اليوم ظواهر في العالم العربي أطاحت به من معادلة القوة العالمية تماما وهذه الظواهر لم يكن العالم العربي يعرفها حتى في عهد الإحتلال الغربي نفسه ! وهذه الظواهر هى محصلة الأسباب الحقيقية لما جرى في نكسة عام 1967 , ومن التسطيح بمكان أن نظن بالنكسة أسبابا فرعية كحالة الجيش المصري وقتها أو التفوق النوعى الإسرائيلي أو الدعم الأمريكى , فهذه العناصر جميعا تمكن الجيش المصري في أكتوبر من دحرها كاملة ! رغم أن الجيش الإسرائيلي في أكتوبر كان أقوى بمراحل عن حالته في يونيو 67 ويكفي أن إسرائيل لم تحصل على طائرات الفانتوم الأمريكية إلا بعد نكسة 67 وليس قبلها , وإسرائيل لم تستخدم السلاح الأمريكى المتفوق في النكسة بل استخدمته فقط في أكتوبر , والظرف الدولى أيام أكتوبر كان لصالح إسرائيل بأفضل مما كان لها عام 67 , لتزايد النفوذ الأمريكى في العالم ومعاناة الإتحاد السوفياتى من حالته الإقتصادية التي أثرت سلبا على مكانته في معادلة الصراع العالمى ومع هذا تفوق الجيش المصري باكتساح ولم تعطله هذه العوامل ومن هنا نخلص إلى أن كل ما قيل عن تلك الأسباب الفرعية ليس في حقيقته أسبابا بل هو محض نتائج للأسباب الحقيقية التي أدت إلى كارثة يونيو 67 , فالتقصير العسكري الحاصل في يونيو على الجانب المصري لم يكن سببا في النكسة بقدر ما كان نتيجة طبيعية للأسباب التي وقفت خلف حالة المجتمع المصري والعربي في تلك الفترة .. وبداية ترسيخ ظواهر جديدة نسفت روح الإرادة والجدية في المجتمع العربي ومسخته وأبعدته عن خطى التطور .. وفى حديثنا عن هذه الظواهر لن نعتمد إلا على المصادر الناصرية نفسها , ولن نأت بأى واقعة إلا إذا كان الناصريون هم رواتها وموثقيها عبر كتابات مفكريهم ومذكرات قادتهم ومن هذه الظواهر : أولا : ظهور وتنامى ظاهرة الحكم العسكري وحكم الفرد عقب استقلال أغلب الأوطان العربية بحركات جيوش لا ثورة شعوب , وخطورة الانقلابات العسكرية تكمن في أنها تستبعد من ذهنها صورة الإرادة الشعبية تماما لأن العقلية العسكرية قائمة على إصدار الأوامر وطاعتها المطلقة , مما أدى لترسيخ هذه الظاهرة ـ حتى في الدول الملكية ـ وعاش العالم العربي منذ ذلك الحين وحتى اليوم رهنا لقبضة حكم حديدية فعلت بشعوبها أعتى مما فعلت به جيوش الإحتلال الأجنبي , مثل أفاعيل نظام عبد الناصر بمعارضيه ـ بالذات من الإخوان المسلمين ـ كذلك أفاعيل نظام حافظ الأسد بالإخوان المسلمين في سوريا لدرجة أنه قام بضرب معقل الإخوان في مدينة حماة بالدبابات في مجزرة لم ترتكبها حتى قوات الإحتلال البريطانى ! ثانيا : ظهرت إلى السطح طموحات الزعامة لدى كل حاكم عربي بمجرد ظهور زعامة عبد الناصر التي أثارت الغيرة مما أدى إلى اتباع معظم الحكام سياسة التظاهر بالنضال لمحاولة حصد الشعبية , مما جعل الفوارق هائلة بين الشعوب ومعاناتها والحكام وأحلامهم , ولم يعد الحكام في العالم العربي يلقون أهمية إلى شعور الجماهير مهما تسرب للإعلام بعض تصرفاتهم , بل استمرت بطانة كل حاكم تصور له أنه يسكن في قلوب الشعب بمقعد دائم شبيه بمقعد الولايات المتحدة في مجلس الأمن ! هذا فضلا على أن ظاهرة الغيرة والتنافس على الزعامة المظهرية أفرزت ظاهرة التبادل السوقي للشتائم بين الحكام العرب وبين بعضهم البعض لدرجة لا يمكن أن تجدها حتى في أحط المناطق الشعبية ! ومن يعود إلى أرشيف الصحف وإذاعة صوت العرب في تلك الفترة ويتابع الصراعات الإعلامية بين مصر والسعودية أو بين مصر والأردن أو بين مصر والعراق أو بين مصر وسوريا يجد شتائم بالأم والأب ومعايرات بالأصول العائلية على ألسنة حكام المنطقة في خطابات إذاعية معلنة !! ثم بعد هذا تعزف الإذاعات ألحان القومية العربية وأحلام الوحدة !! ثالثا : ظهرت إلى الوجود في العالم العربي ظاهرة الإعلام الموجه , بعد أن قام عبد الناصر بتسخير الإعلام له بأعتى مما فعله جوبلز وزير الدعاية النازية لهتلر , وبالتالى صار من المسلم به أن الإعلام الرسمى وظيفته الرئيسية هى تجميل صورة الحاكم وتصويره على أنبغ عصره .. بغض النظر عن حقيقة حكمه أو نظامه , وقد تم هذا بعد تأميم الصحف وانتزاع ملكيتها من أصحابها الأصليين وإحالة الملكية إلى الدولة ممثلة في الإتحاد الإشتراكى , وعليه أصبح الصحفيون ورجال الإعلام مجرد موظفين يخضعون لرقابة عسكرية معلنة يقوم بها مكتب الرقيب لا يسمح بشاردة أو واردة حتى لو كانت كلمة عادية عابرة أو نكتة !! وقد تم اعتقال عدد لا محدود من الكتاب والصحفيين وفُصل بعضهم الآخر وتشريدهم نتيجة لنكتة عابرة قالها أحدهم في جلسة خاصة ـ تم تسجيلها قطعا ـ أو بسبب مقال يَــشْـتم فيه الرقيب معارضة لظاهرة من ظواهر الفساد في الحكم , ويكفينا أن نمثل لحادثة واحدة تخص محمد حسنين هيكل وهو زعيم الناصرين المبرّز , فقد وجدناه يروى واقعة اعتقال الدكتور جمال العطيفي وهو أستاذ جامعى وقانونى بارز وعالم فذ , كان يعمل في الأهرام مع هيكل , وجمعته جلسة خاصة مع بعض رفاقه وتناولوا في هذه الجلسة الخاصة تحليلا لملابسات قرار عبد الناصر بتعيين هيكل وزيرا للإعلام , وثار النقاش حول ما إذا كان هذا القرار تمهيدا لنزعه من فوق عرش الأهرام الذى يشغل فيه منصب رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير , وبالطبع احتوت الجلسة على بعض الإنتقادات لعبد الناصر وللإتحاد الإشتراكى , وتم تسجيل الجلسة بأجهزة التصنت التي تبثها المباحث في كل مكان وتم رفعها لعبد الناصر ليصدر قراره باعتقال الثلاثة فورا !! وهنا ثار هيكل وقاطع عبد الناصر حتى تدخل السادات بينهما بالصلح وذهب هيكل لمقابلة عبد الناصر وتحدثا حديثا طويلا يصفه هيكل بكل معانى الإجلال والإكبار ثم يثنى على عبد الناصر في أنه أصدر قراره بالإفراج عن العطيفي ورفاقه ! والسؤال هنا : كيف فات على هيكل أنه لم يعترض على مبدأ الإعتقال ومبدأ التصنت على الحياة الخاصة التي كان النظام يتوسع فيها في ذلك العهد ويفرض الرقابة على الشعب بأكمله ! وكيف فاته أن يعترض على مبدأ كتم الحريات لهذه الدرجة المهينة التي تسمح باعتقال أستاذ جامعى في قامة العطيفي لمجرد أنه أبدى اعتراضا سياسيا عابرا على إحدى قرارات الرئيس ! والأهم من ذلك .. كيف يعتبر هيكل تدخله لإنقاذ العطيفي أمرا محمودا في نفس الوقت الذى عاش فيه صحفيو مصر ومفكروها حقبة إرهاب مستمرة ودخلوا المعتقلات دون أن يجد أيا منهم هيكل آخر يتدخل بنفوذه فينقذهم !! رابعا : صدّرت مصر للعالم العربي أسلوب السيطرة البوليسية على الجمهور وضغط المعارضين أو الخلاص منهم مما كثف من ثقافة الخوف الجماهيري , وأصبحت الجماهير المصرية ـ ومن بعدها الجماهير العربية ـ أسيرة لعقدة الخوف من القتل أو الإعتقال بعد أن كانت هذه الجماهير ـ تحت نير الإحتلال ـ تملك إرادتها وتملك فرضها عبر زعمائها الشعبيين , ولعلنا نذكر تجربة عرابي وتجربة مصطفي كامل وتجربة سعد زغلول وغيرها من التجارب التي أحيت يقظة الحركة الوطنية الشعبية على أساس حقيقي لا أساس موجه ومبرمج من الإعلام خامسا : كانت مصر في ظل نظام عبد الناصر هى صاحبة السبق في اختراع نسبة 99.99 % , مما جلب لنا سخرية العالم أجمع على هذه الشعوب التي يقبل حكامها هذا النفاق الفج من السلطة ويصورون أنفسهم آلهة تحظى بالإجماع المطلق من شعوبها ! بينما خلق الله البشر على الأرض وفى طبيعتهم سنة الإختلاف ولم يحدث أن أجمعت أمة من الأمم بمثل هذه النسبة على شيئ ! بل إنهم لم يجمعوا على توحيد الله سبحانه وتعالى وهو خالقهم , وظل هناك في كل أمة من يكفر به وكان هيكل ـ وهو على رأس تحرير الأهرام ـ هو الذى روج لهذه النسبة الخيالية في أول انتخابات خاضها جمال عبد الناصر على مقعد رئيس الجمهورية , واعتبرها إنجازا غير مسبوق في التاريخ !! ولم يستح النظام أن يعلنها رغم أن قطاعات عريضة من الشعب كان مؤكدا أنها ستقول لا , وأقلها جماهير ملاك الأراضي مثلا وجماهير الإخوان المسلمين وحزب الوفد صاحب الشعبية الكاسحة , الذى تم حله وتحديد إقامة زعيمه النحاس باشا فكيف ساغ لهيكل أن يمرر هذه النسبة وهو يعلم علم اليقين أن هذه القطاعات لابد لها من أصوات !! سادسا : كانت مصر عبد الناصر هى التي اخترعت أيضا ظاهرة المجالس النيابية الموقرة التي لا تكف عن تكرار الموافقة على أى إشارة تصدر من أصغر اصبع للحاكم , وظهرت للوجود معارضة فريدة في تلك المجالس وهى المعارضة المستأنسة , وشهدت البرلمانات العربية أعضاء في مجلس الشعب يبدو على سيماهم أنهم في الأصل من رجال المباحث ! وبالطبع كانت جلسات البرلمان المصري ( مجلس الأمة ) تشهد التسبيح بحمد النظام ولو كانوا بصدد مناقشة كارثة حقيقية , ولهذا كان طبيعيا أن يجتمع مجلس الأمة بقيادة أنور السادات لمناشدة الرئيس عبد الناصر بالعدول عن قرار التنحى عقب كارثة 67 م .. وعندما قبل الرئيس هذه المناشدة نقلت عدسات الإعلام صورة لأحد أعضاء المجلس الموقر وهو يرقص فرحا على تراجع الرئيس عن قرار التنحى !! |
سابعا : ظهرت فى العالم العربي لأول مرة ظاهرة الإنتخابات لمدد متكررة للمناصب الرئيسية في الدولة وعلى رأسها منصب رئيس الجمهورية , وانتهت إلى الأبد ظاهرة تبادل السلطة السلمى وأصبح العالم العربي يعرف رئيس الجمهورية الراحل لكنه لم يعرف أبدا رئيس الجمهورية السابق ( إلا إذا كان الرئيس السابق ترك منصبه بناء على انقلاب عسكري ) كما ظهرت تبعا لهذه الظاهرة ظاهرة أخرى أشد سخرية وهى ظاهرة الجمهوريات الملكية , فحكم سوريا بشار الأسد نجل حافظ الأسد بعد أن قاموا بتغيير الدستور خلال ساعات ليسمحوا لبشار الأسد بالترشيح لمنصب الرئيس ! وعلى إثر ذلك يسعى جمال مبارك في مصر والقذافي الإبن في ليبيا وبوتفليقه شقيق الرئيس الجزائري الحالى عبد العزيز بوتفليقة وهذه الظاهرة ـ كما قلت ـ أسس لها عبد الناصر , فهيكل يذكر في كتابه ( خريف الغضب ) ملابسات تعيين السادات نائبا في نهاية عصر عبد الناصر فيحكى عن طريقة تعيين عبد الناصر للسادات فيقول , إن عبد الناصر اختار السادات نائبا قبيل رحلته للمغرب بعد النكسة وكانت مبررات هذا القرار كما حكاها عبد الناصر لهيكل أنه آن الأوان لأنور السادات أن يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية لأنه الوحيد في مجلس قيادة الثورة الذى لم ينل نصيبه من هذا المنصب !! أى أن هيكل يروى ـ ببساطة مذهلة ـ كيف أن عبد الناصر ورفاقه في مجلس قيادة الثورة اعتبروا مصر إقطاعية كبري لهم ـ وهم الذين أقاموا الدنيا على الإقطاع ـ وقسموها فيما بينهم وأصبحت السلطة على الدولة مرهونة بسياسة الدور ! لا بالكفاءة ولا بالقانون ! ما الذى يمكن أن يعلق به المرء على هذا الكلام ؟! الواقع أنه يحضرنى الآن واقعة حدثت في أثناء تولى النحاس باشا لرياسة الوزارة , وقام الملك بتعيين أحد كبار الموظفين ـ دون علم النحاس ـ ككبير لموظفي القصر الملكى نفسه أى أن هذا الموظف في الأصل يخص القصر الملكى وإن كان القانون يحتم تعيينه عن طريق الحكومة فأقام النحاس باشا الدنيا ولم يقعدها حتى تم له ما أراد والتزم الملك بالقانون ! ثامنا : ظهر على الساحة السياسية العربية لأول مرة ظاهرة ارتباط سياسة الدولة بمزاج الحاكم وتوجهاته ! ففرض عبد الناصر النظام الإشتراكى في مصر وتغنت الجماهير المأجورة والمغيبة ببستان الإشتراكية ومحاربة الإمبريالية والإستعمار .. إلى غير ذلك من تعبيرات المرحلة !! ولما جاء السادات , ولكونه صاحب توجه غربي آخر يختلف عن الإشتراكية واختار الرأسمالية , انقلبت الساحة في الحال للعزف على بستان الرأسمالية ومهاجمة السوفيات الملحدين !! ولنا أن نتحسر على النظام البرلمانى المصري في ظل الإحتلال الإنجليزى نفسه , والذي كان مقياسا لحرية الرأى والعمل رغم كل مساوئ العهد الملكى لكن الملك نفسه لم يكن يجرؤ على مخالفة الدستور ! .. صراحة على الأقل وكانت ظاهرة استقالة الوزارات من الظواهر المعروفة في مصر إذا مس أداء أى وزارة أى تقصير أو إهمال ! وعندما انقلب مكرم عبيد باشا على الوفد وصنف كتابه ( الكتاب الأسود ) وذكر فيه ما اعتبره عشرات من جرائم استغلال النفوذ ارتكبتها حكومة الوفد ! أثار الكتاب أزمة كبري عصفت بالحكومة رغم الشعبية الساحقة للنحاس ! ولو أننا فتحنا الكتاب الأسود اليوم وطالعنا ما اعتبره مكرم عبيد جرائم كبري , لوجدنا أن الكتاب الأسود ينقلب إلى كتاب ناصع شديد البياض إذا قارناه بأفعال أصغر موظف حكومى منذ عصر الثورة وحتى يوم الناس هذا !! وكان الشعب هو أساس الحياة السياسية , لم يكن الشعب مشاركا فحسب , بل كان يملك حكومته ولا تملكه , ويكفي للتدليل على ذلك أن الوفد ظل غصة في حلق الملك فاروق والإحتلال الإنجليزى بسبب أن يستند إلى شعبيته الحقيقية بين الجماهير فحسب ! فلم يكن الوفد يمتلك قوة عسكرية أو أى نوع من ألوان القهر لكنه كان يملك مشاعر الناس , فالجماهير في تلك الفترة كانت ترزخ تحت الإحتلال , لكن إرادتها الحرة أبدا لم تكن تحت سيف القهر والإذلال ! وكان الوزراء في الحكومات , وزراء بمعنى الكلمة , لا كما هم الآن منذ عصر القومية مجرد سكرتارية لرئيس الجمهورية مهمتها العمل بناء على توجيهات السيد الرئيس !! كان كل وزير شديد الإعتزاز بمكانه ومكانته لا يقبل تدخل أحد في محيط اختصاصه أيا كانت الظروف , وكانت المعارضة عبارة عن ميزان العدل الذى يضبط الأداء , فكان من المستحيل أن يتخذ أى سياسي قرارا يخص أمته لمجرد الرغبة أو لمجرد القرار ! ومضي الزمان وجاء القوميون لتخرج المظاهرات الموجهة في أحداث 15 مارس في مصر تنادى بسقوط الديمقراطية ! هل يمكن لأى عاقل أن يستوعب خروج مظاهرات شعبية تهتف بسقوط الديمقراطية والحياة النيابية ! وهى المظاهرات الموجهة ـ كما سبق القول ـ والتى أخرجها مجلس قيادة الثورة ردا على المظاهرات التي خرجت لتأييد محمد نجيب في نيته إعلان عودة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته ! تاسعا : أما أخطر الظواهر التي نجمت عن النظام القومى الإشتراكى بشكله القمعى الذى تم تطبيقه في مصر وصدرته إلى العالم العربي , فكان ظاهرة الحاكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !! والتى استتبعت اختصار الأوطان في شخص الحاكم , فمصر كانت صاحبة السبق أيضا في هذا , والذين يعيبون على منافقي عصر الرئيس مبارك الذين يهتفون الآن أن مصر ليس فيها من يصلح للرياسة إلا الرئيس مبارك ! عليهم أن يعودوا للتاريخ ليعرفوا أنها ظاهرة قومية في الأصل , فقد دشن الإعلام الناصري لظاهرة اعتبار عبد الناصر نصف إله , وبأن وجوده هو سبب الحياة لهذا الوطن , وأن غيابه يعنى أن الأمة كلها ستعانى الضلال بعده ! وقد عبر أحد عوام الجمهور السورى عن هذا الأمر بقوله :[1] ( عبد الناصر .. أبو خالد .. يا سلام .. هذا هو الذى أعبده بعد الله ! ) وسبحان الله .. أمة الإسلام التي لم تتوقف فيها الحياة لوفاة النبي عليه الصلاة والسلام نفسه ! جاءنا في آخر الزمان من يقول أن مصر بلا عبد الناصر لن تكون مصر باعتباره الزعيم الملهم ! وقد ظهر هذا جليا واضحا في عشرات الظواهر لعل أبرزها ما حدث عندما استشار عبد الناصر وزير خارجيته الشهير د. محمود فوزى عن الطريقة المناسبة التي تتبعها مصر إذا قامت القوات الأمريكية بالتدخل في لبنان , فرد الدكتور فوزى : إن هذا أمر فوق حدود الإختصاص وأنه يحتاج إلى رؤية قائد ملهم لا إلى رؤية وزير !! ومن العجيب أن هيكل بعد هذا عاب على السادات قوله أنه يفضل اللجوء للاستراحات البعيدة كى ينفرد بنفسه كلما أراد اتخاذ قرار هام أو مصيري للبلاد وعلق هيكل ساخرا على هذا القول بأن السادات كان ينتظر الوحى وكأن قرارات الدولة تأتى بالوحى لا باستشارة المسئولين ومناقشة الوزراء والمستشارين ! ونسي هيكل ـ وكثيرا ما ينسي ـ أن عبد الناصر نفسه هو مبتكر هذا الأسلوب الذى أخذه السادات منه , فكيف يعيب على التلميذ ما لم يعبه على الأستاذ المبتكر ! وهل نسي هيكل أنه حضر جلسة محادثات الوحدة بين مصر وسوريا والتى رواها في كتابه ( سنوات الغليان ) واجتمع فيها عبد الناصر منفردا مع الوفد السورى المطالب بالوحدة , وفى نفس الجلسة ودون أن يناقش عبد الناصر مستشارا أو غفيرا , أصدر قراره بقبول الوحدة وفرض شروطه على الوفد السورى الذى قبل الشروط وانعقدت الوحدة فعلا !! بالإضافة إلى كلمات عبد الناصر نفسه في خطاب التنحى الذى كتبه له محمد حسنين هيكل وفيه من الإيحاءات بهذا المعنى ما فيه ! وخرجت الجماهير التي خضعت لغسيل المخ الإعلامى طيلة الفترة من عام 1956 حتى 1967 م تهتف ببقاء عبد الناصر بينما دماء شهدائنا التي راحت هدرا في سيناء لم تجف بعد ! وقد كانت المظاهرات حقيقية لا كما ردد البعض أنها مظاهرات مصنوعة من الإتحاد الإشتراكى , أى نعم قام الإتحاد الإشتراكى بتنظيمها وصدر قرار وزير النقل بإتاحة السفر بالمجان للجماهير إلى القاهرة من مختلف المحافظات لكى يشاركوا في مناشدة الرئيس العدول عن قراره ! إلا أن أصل المظاهرات كان حقيقيا وجماهيريا , والذين ظنوا ـ من منتقدى الناصرية ـ أن القول بمظهرية وتدبير هذه المظاهرات يمكن أن يعيب النظام في ذلك الوقت , فهذا قصور في التفكير , لأن الإدانة الحقيقية للنظام تتمثل في قيام الشعب بهذه المظاهرات بإرادته فعلا , لأنها تحمل الدلالة القاطعة على ما صنعه الإعلام الناصري من تجريف لوعى الأمة عبر هذه السنوات , حتى استجابت الجماهير لغسيل المخ واقتنعت بالفعل أنها بدون عبد الناصر لا تساوى شيئا !! وقيام المظاهرات المليونية بهذا الشكل لكى تتمسك بقادة الهزيمة , وتهتف الهتافات الحارة لهم وتناشدهم عدم ترك مواقعهم ـ رغم الكارثة التي حلت بالبلاد ـ هى في رأيي أكبر إدانة للعصر الناصري كله ! إذ كيف يمكن أن يقبل عاقل هذه النتيجة من الجماهير المصرية التي كانت تحرك الحياة السياسية وتقتلع الحكومات وتنصبها وتشارك في الحياة السياسية مشاركة فاعلة عن وعى وإدراك رغم الأمية ! كيف يمكن أن نقبل من هذه الجماهير أن تعترف علانية بأنها أمة خاوية لم تستطع أن تنجب قيادة بديلة لقيادة مهزومة ! لكنه أمر طبيعى أن تخرج هذه الجماهير بهذا الشكل بعد تجريف الوعى السياسي وربطه بشخص الحاكم على هذا النحو , ولو كان الناصريون يعقلون حقا لتدخلوا لمنع هذه المظاهرات التي فضحت أمة العرب في وسائل الإعلام العالمى عندما كتبت الصحف العالمية ( الشعب يتمسك بقادة الهزيمة ويهتف للقائد المهزوم ! )[2] ولست أدرى ما الذى كان متوقعا أن تفعله هذه الجماهير لو أن عبد الناصر انتصر في يونيو 67 , ما داموا في ظل الهزيمة قد قاموا بكل هذا التأييد الجارف والهتاف بحياة من قذفوا بالأمة إلى مهاوى الضياع فصارت الجماهير المصرية على حد قول أمير الشعراء .. اسمع الشعب يغنى .. بحياتىْ قاتليه ! أثّر البهتان فيه .. وانطلى الزور عليه ياله من ببغاء .. عقله في أذنيه !! عاشرا : تسبب هذا العصر في ظاهرة عمت أرجاء العالم العربي , وهذه الظاهرة وحدها كفيلة بأنها تمحو أى أمة من على خريطة الوجود الحضاري ! ألا وهى ظاهرة تجريف مواهب الأمة ومفكريها وعلمائها وهى لازم طبيعى من لوازم الحكم الأتوقراطى , وعندما تسلم عبد الناصر حكم مصر , كانت مصر تعج بالعباقرة في شتى المجالات , لا سيما في عالم الفكر السياسي والإجتماعى والإسلامى , ولو أردنا أن نذكر أمثلة عنهم فقط لضاق بنا المقام ! ونظرا لأن وجود هذا الكم من المفكرين والعلماء من أساتذة الجامعات والكتاب والأدباء , يمثل خطورة تقليدية على النظم الشمولية , فقد طبق عبد الناصر مبدأ جوبلز ـ وزير الدعاية النازى ـ والذي صاغ الحل بقوله : ( كلما سمعت كلمة مثقف .. تحسست مسدسي ! ) فتم تجريف المفكرين والعلماء الأحرار لصالح الضباط الأحرار , واكتست مصر كلها , وفى كافة المؤسسات واللجان والوزارات باللون الكاكى ـ على حد قول محمد نجيب في مذكراته ـ إذ تولى الضباط كل شيئ حتى المجلس الأعلى للثقافة الذى كان من أعضائه العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم , ورأس مجلسهم ضابط شاب برتبة ملازم أو نقيب ! وتم تصنيف كبار المفكرين المصريين في ذلك الوقت إلى ثلاثة أقسام , قسم تولاه الله برحمته الواسعة ! ـ وقسم آخر تكفلت به المعتقلات ـ وقسم ثالث فر بجلده للهجرة الخارجية ولم يتبق إلا القسم الأخير الذى سمحت به الحكومة وهو قسم المفكرين الصامتين أو المستأنسين , فإما أن يكتبوا في تأييد النظام وإما أن يقنعوا من الغنيمة بالإياب فيعتزلوا الكتابة في الشأن العام ولعل أبرز مثال على القسم الأخير كان عباس محمود العقاد المفكر العريق الذى كان له حضور سياسي هائل في عهد الملكية , قام بالإعتكاف في بيته حتى وفاته وغير وجهة كتابته إلى قضايا التاريخ الإسلامى ولم يكتب حرفا في المجال السياسي العام رغم أن مؤلفاته في سابق العهد كان أغلبها مؤلفات في الفكر السياسي لدرجة أن الألمان ـ وهم على مشارف مصر في الحرب العالمية الثانية ـ أعلنوا أنهم سيعدمون العقاد في ميدان عام إذا انتصروا ودخلوا مصر فعلا , بسبب كتابات العقاد التي كانت تحفز الجماهير على عدم التعاطف مع الألمان واعتبارهم كالإنجليز دول محتلة وغاصبة ولسنا في حاجة إلى بيان مدى خطورة هذه الظاهرة التي صدرتها مصر أيضا إلى بقية الدول العربية , ولو أنها خفت في عالمنا المعاصر بمصر إلا أنها لا زالت على نفس الأسلوب القديم في أغلب الأوطان العربية , ويعود السبب الرئيسي إلى العداء المستحكم بين النظم الشمولية والمثقفين والعلماء إلى خطورة دور المثقفين كرعاة لتربية الرأى العام وهم قادة التغيير السياسي الحقيقي في كل العصور , فصحوة الحركة الوطنية المعاصرة قامت على أكتاف المثقفين في مصر وزعمائهم مثل الرافعى والمازنى والعقاد وسعد زغلول ومصطفي كامل وغيرهم , [3] والتصدى للإحتلال قام في الأصل على أكتاف العلماء البارزين , بالذات علماء الأزهر الشريف الذين كانوا دائما غصة في حلق مستعمر , ويكفيهم أنهم تصدوا لخدعة نابليون بونابرت عندما جاء إلى مصر وهو يردد أنه يهدف إلى تحرير مصر وتعمد التقرب والتزلف إلى جماعات الجماهير بأساليب مختلفة , وكان من الطبيعى جدا أن تنساق الجماهير خلفه نظرا لما يعانونه على يد المماليك , لكن هذا لم يحدث بعد أن قام علماء الأزهر بدورهم التاريخى في تنمية الوعى وكشف حقيقة نابليون , وقاد العلماء ثورة القاهرة الأولى والثانية وحفزوا الناس على الجهاد حتى خرج الفرنسيون بخفي حنين لكن مصر في فترة التجريف المتعمد لعلماء والمثقفين لم تجد من يعيد لها وعيها أو يعلى فيها قيم الفكر والعلم , فكان من الطبيعى أن تستسلم الأغلبية لغسيل المخ الإشتراكى وتصدق أن الأمة المصرية الولادة لم تعرف تاريخا حقيقيا إلا مع بداية ثورة يوليو , وأصبح من قبيل الثقافة المنتشرة أن يظن الجمهور بأن ثورة يوليو هى بداية التاريخ الحقيقي وما خلفها هو العهد البائد !! وتعبير ( العهد البائد ) هذا كان من أدبيات الثورة الشهيرة , حتى أن النظام كان يضع ستارة على أى لوحة تذكارية لأى إنجاز تم في العهود السابقة على الثورة باعتباره من العهد البائد ! وتم إهمال ثورة 1919 م , الثورة الوطنية الكبري التي قال عنها المهاتما غاندى وهو في طريقه للهند مارا بقناة السويس , أنه ـ وشعب الهند ـ تعلموا كيف تكون ثورة التحرر من جماهير ثورة 1919 م , في خطبة شهيرة بحضور النحاس باشا , وكل هذا لمحاولة تقليص شعبية حزب الوفد الجارفة , فضلا على أن التاريخ المدرسي الرسمى في تلك الفترة يمكن اعتباره كارثة قومية حقيقية لمدى ما فيه من إهمال وتشويه لعهد ما قبل ثورة يوليو , وهكذا نجح النظام في أن يجعل من مصر رهينة لهذه الثورة وهذه المرحلة , |
حادى عشر : كانت مصر في ذلك العهد أيضا هى صاحبة السبق في صك تعبير ( أهل الثقة وأهل الخبرة ) .. ولهذا صعد إلى سدة الحكم أشباه البشر من أمثال عبد الحكيم عامر وشمس بدران وسامى شرف وعلى شفيق وغيرهم من أذاقوا الشعب الويلات , ولأن النظام الإشتراكى بطبيعته ضد العقل الإنسانى على طول الخط , ولأنه نظام قائم على تحييد المبادئ الدينية , فقد صدرت من هؤلاء الثوار تصرفات أثناء توليهم المسئولية تجعل المرء في حيرة كيف تمكنت هذه العصابة من السيطرة على مقدرات مصر والشعب العربي ! ولأن مجموعة السلطة بطبيعتها مجموعة طفيلية منعدمة الفكر والتفكير , فقد كانوا ظلالا للنظام ممثلا في عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر , وأصبح لكل منهما مجموعته ونفوذه , وهما المجموعتان اللتان دخلتا في صراع مرير على السلطة والنفوذ عانى منه الجيش والشعب معا , وتم إبعاد أهل الخبرة في جميع المجالات لصالح أصحاب الوساطة والمحسوبية , على النحو الذى أدى إلى مهزلة يونيو 67 عندما دخلت مصر الحرب وعلى رأس قيادة الجيش فيها مجموعة أقل ما يقال عنها أنهم من خريجى مستشفي الأمراض النفسية ! واستغل عبد الناصر واقعة النكسة ليتمكن أخيرا من إزاحة عبد الحكيم عامر ومجموعته بعد أن استعصت عليه طويلا منذ عام 1962 م نظرا لقوتها واستنادها إلى الجيش وهكذا جنت مجموعة عبد الناصر المتمثلة في ( سامى شرف ـ شعراوى جمعة ـ محمد فائق ـ على صبري ـ محمد فوزى ) أكبر المكاسب بوقوع النكسة , إذ تضاعف نفوذهم وسيطروا على أجهزة الدولة سيطرة تامة , لا سيما بعد أن تكفل عبد الناصر بفضح عبد الحكيم عامر ومجموعته وسماهم ( دولة المخابرات ) وحملهم مسئولية النكسة ليخرج منها سالما , وكأنى بعبد الناصر كان يخاطب قطيعا من الغنم لن يسأل فيه أحد سؤال منطقي مؤداه , إذا كان هؤلاء هم رموز دولة المخابرات فأين كنت أنت يا زعيم الأمة ! وإذا كان هؤلاء جميعا ـ بحكم الوظيفة ـ تحت رياستك , فكيف ساغ لك تحمليهم المسئولية دونك ! ولأن النظام الإشتراكى ـ كما قلنا ـ نظام ضد العقل , فكان من الطبيعى أن تكون المجموعات قرينة السلطة منعدمة الموهبة والكفاءة في أى مجال , إلا أن مجموعة عبد الناصر التي كانت تحكم مصر فاقت جميع التوقعات في هذا الصدد ! وظهر هذا واضحا عندما اختلفوا , وعندما يختلف اللصوص يظهر المسروق على الفور , ولهذا ما كان لنا ولا لغيرنا أن يعرف شيئا من فضائح هذا العهد ـ بسبب التكتم الشديد والسيطرة المطلقة ـ لولا أن تكفل أصحاب هذا العهد نفسه بفضح بعضهم البعض في مراحل صراعاتهم على السلطة فقد تولى عبد الناصر كشف حكومة المخابرات التي حكم بها عبد الحكيم عامر البلاد وأشاع فيها الفساد في كل مكان , وتولت صراعات مراكز القوى في كشف بعضهم البعض فتسببت مجموعة شعراوى جمعة وسامى شرف ومحمد فوزى بكشف على صبري , ثم جاء السادات ففضح ممارسات مجموعة الثلاثي المرح ! ثم تكفل السادت نفسه بإتاحة الفرصة لكشف عصر عبد الناصر كله عبر كتابات الضحايا ثم جاء محمد حسنين هيكل فكشف فضائح عهد السادات بكتابه ( خريف الغضب ) .. وهكذا مضت الدائرة الجهنمية لتظهر الصورة الكاملة لنظام ثورة يوليو .. ورغم ظهورها إلا أن الناس لا تقرأ ولا تستوعب ! وعودة إلى مجموعة على صبري ورفاقه من أباطرة الحكم الناصري والذي قلنا أنها تفوقت على نفسها في حماقة الأداء وتسرعه فعندما دخلت المجموعة صراعا مع السادات على السلطة تآمرت عليه بهدف إزاحته , فإنها لم تستطع الإستفادة من عوامل القوة الرهيبة التي كانت تتيح لها الإطاحة بالسادات بغمضة عين , ومنحت الفرصة للسادات على طبق من ذهب لكى يطيح بهم دفعة واحدة إلى غياهب السجون جنبا إلى جنب مع ضحايا العهد الناصري فقد كانت المجموعة ـ للغرابة ـ تمتلك الجيش ممثلا في الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع , وتمتلك التنظيم السياسي الوحيد في البلاد ممثلا في على صبري أمين اللجنة المركزية , وتمتلك الشرطة ممثلة في وزير الداخلية شعراوى جمعة , وتمتلك الحرس الجمهورى وشئون معلومات الرياسة ممثلة في سامى شرف وزير الدولة لشئون الرياسة , وتمتلك وزارة الإعلام ممثلة في محمد فائق وزير الإعلام , وتمتلك جهاز المخابرات العامة ممثلا في اللواء أحمد كامل مدير المخابرات ! أى أن السادات ببساطة لم يكن يمتلك من السلطة أو يمارسها في الدولة إلى على زوجته ! ورغم هذا وعندما فكرت المجموعة في الإنقلاب على السادات , وبدلا من اعتقاله أو عزله ـ وكان هذا متاحا ـ دخلوا مع السادات في مواجهة شعبية وأرادوا أن يحرجوه بطريقة ساذجة عندما قدموا جميعا استقالاتهم في وقت واحد , وكانوا يهدفون من وراء ذلك إلى إحداث انقلاب دستورى في البلاد ينجم عنه ثورة للجماهير !!! وبالقطع كانت عقول هؤلاء الزمرة في إجازة دائمة ! فقد صدقوا أنفسهم وظنوا أنهم بالفعل في دولة دستورية يمكن أن تهتز باستقالة كبار المسئولين , لكن دافعهم إلى هذا التصرف كان بسبب محدودية التفكير المطلقة التي كانت تتحكم فيها , فجميعهم تعود أن يعيش في ظل عبد الناصر ولهذا لجئوا إلى تكرار ما ظنوه الطريقة المجربة , وقدموا استقالاتهم على أمل أن الشعب سيخرج للهتاف بعودتهم كما فعل مع عبد الناصر في خطاب التنحى ! وبالطبع انتهز السادات الفرصة ووقوف هيكل إلى جواره وقام باستمالة قائد الحرس الجمهورى الفريق الليثي ناصف والفريق محمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة وتمكن من اعتقالهم جميعا ثم أعلن في مجلس الشعب بطريقة سياسية ماكرة ما سماه بحكم مراكز القوى وقام بفضح ملفاتهم جميعا في خطاب علنى ليخرج السادات منتصرا في هذه الجولة , [1] فقد كان صاحب دهاء سياسي متمرس وتمكن من الحفاظ على عقله وطموحاته في عصر عبد الناصر عن طريق الصبر والصمت والطاعة العمياء حتى حانت اللحظة المناسبة ليكشف عن وجهه الحقيقي ! والسؤال أو الهدف من هذه القصة هو معرفة سبب الغباء اللامحدود الذى تصرفت به مجموعة مراكز القوى , والسبب يقع في المقام الأول أنهم كانوا تلاميذ مرحلة الإشتراكية ! والمرء يكفيه أن يكون اشتراكيا في الصباح لكى لا يأتى عليه المساء إلا ومصاب بالحماقة فكانوا مفرغين عقليا تماما من القدرة على التصرف المنفرد , ولهذا جاءت وفاة عبد الناصر ضربة قاضية كادت تطيح بعقولهم ووجهتهم بعد ذلك إلى تصرف لا يرتكبه إلا القرويون السذج , وقد كشفت تحقيقات النيابة العامة في قضية مجموعة 15 مايو أن سامى شرف ومحمد فوزى وشعراوى جمعة كانوا يحضرون بانتظام جلسات تحضير أرواح يقوم بها وسيط روحانى يقوم بتحضير روح عبد الناصر لكى يسألها المجموعة كيف يتصرفون وعلى أى وجه يتعاملون مع الأحدث !! ولك الله يا مصر ! فهؤلاء الذين يفعلون ذلك هم أعمدة وأركان الحكم في مصر بتلك الفترة , ومن يطالع محاضر التحقيقات التي احتوت على تفريغ لأشرطة التسجيل التي تمت لجلسات تحضير الأرواح يصاب بالذهول مما يسمع , لأن التسجيلات توضح بشكل قاطع أن هذه المجموعة كانت مبرمجة بوجود عبد الناصر وغير قادرة على استيعاب رحيله فعلى سبيل المثال كان الفريق أول محمد فوزى وزير الدفاع في تلك الفترة والقائد العام للقوات المسلحة والذي من المفروض أن يعد الجيش لقيادته في معركة التحرير يسأل الروح بعد أن حضرت فيقول : [2] ( هل خطة الحرب التي وضعتها بذهنى صالحة للمعركة وما هو التوقيت المناسب لها !! ) ولنا أن نتخيل أى مصير كان ينتظر الجيش المصري لو تولى قيادته في حرب أكتوبر الفريق محمد فوزى !!! ومن عجائب التصرفات حقيقة أن هيكل كان أحد المصادر التي فضحت حكاية تحضير الأرواح نظرا لأنه وقف مع السادات ضد مجموعة مراكز القوى وكان هذا في بداية تضامنه مع السادات في بداية حكمه قبل أن ينقلبا على بعضهما البعض في عام 1974 م , وداعى الدهشة هنا .. أن هيكل لم ينتبه أن يفضح عبد الناصر بفضح رموز عهده بهذا الكلام , ولم ينتبه لهيكل لذلك وهو يحاول أن يبرئ عبد الناصر بطريقة بالغة السذاجة عن طريق الطعن في رموز الحكم في عهده سواء مجموعة عبد الحكيم عامر أو مجموعة على صبري , إذ كيف كان عبد الناصر بريئا وهؤلاء جميعا من أركان حكمه , فإما أنه كان رئيسا بالإسم , ( وهذا صحيح بالنسبة لموقف مجموعة عبد الحكيم عامر إذ لم يملك عبد الناصر سلطانا فعليا للخلاص منهم ) وإما أنه كان متواطئا وعارفا وسامحا بهذه التجاوزات في نظير ولاء هذه المجوعة له وضمانه بعدم خيانتهم له , ( وهذا ما تحقق أيضا في حالة مجموعة على صبري التي كان يطمئن لها عبد الناصر واستمرت تحكم البلاد حتى وفاته ) وعليه .. فإن النظام الإشتراكى القومى العسكري في مصر , تمكن من إحداث تغييرات إجتماعية وسياسية وأخلاقية رهيبة في المجتمع , وتحول المجتمع بكل صنوفه إلى نوع من مضحكى السلاطين وشاع النفاق السياسي لدرجة مرعبة , وفرغت الساحة تماما من ذوى العقول وأهل الخبرة لصالح أركان النظام الحاكم ومع شيوع النفاق والقهر بالمقابل .. ضاعت الإرادة وضاعت معها الأخلاق , فالأخلاق لا تتجزأ , وعاشت مصر في ظل هذا العصر رهينة في يد أبنائها , حتى أفاقت على نكسة مروعة , نكسة لم تكن في صورتها الواضحة هزيمة عسكرية أو سياسية فحسب , بل كانت النتيجة الطبيعية للخيار الإنقلابي الذى فرضته ثورة يوليو وتوجهات القومية والإشتراكية , وهذه هى الأسباب الأصلية والرئيسية التي تنبنى عليها أحداث النكسة , لأنه من السطحية الشديدة أن نظن بأسباب النكسة مجرد أسباب عسكرية أو تفوق نوعى للعدو , وهذه الأسباب والإدراك الكامل لخبايا الصراع بيننا وبين الغرب , هى الأصول الواجب مراعاتها عند معالجة وقراءة أحداث النكسة , وأحداث حرب أكتوبر 1973 م فلولا أن النظام المصري في هذا العهد كان على هذه الشاكلة لما حدثت النكسة بهذا الشكل المروع , وهو ما أفصحت عنه أحداث وتفاصيل يوميات النكسة نفسها , فإسرائيل ـ في أصل خطتها ـ ما كانت تطمح أو تظن بنفسها القدرة على اجتياح سيناء كلها بلا مقاومة , بل كانت الخطة مقصورة على الوصول للمضايق والسيطرة على شرم الشيخ لكنها فوجئت بالإنهيار المزرى للجيش وانسحابه الفوضوى جريا إلى القناة فأتمت احتلال سيناء ! ولم يكن بظنها ولا ضمن خطتها أن تُتم تدمير الجيش المصري وتسليحه في مثل هذا الوقت القياسي ولهذا وجدت في نفسها القدرة والكفاءة لاجتياح الجولان السورية أيضا رغم أن الجولان لم تكن في الخطة أصلا وصدر قرار وقف إطلاق النار يوم 9 يونيو والجولان بعيدة عن الأحداث , حتى أصدر موشي ديان أمره باقتحام الجولان لتتم القوات الإسرائيلية احتلالها في 24 ساعة , وفى الجانب الأردنى استولت إسرائيل على الضفة الغربية بلا خسائر تقريبا وبنفس الطريقة !! في نفس الوقت الذى كانت الجرائد المصرية الكبري ـ بوق النظام ـ وإذاعة صوت العرب الشهيرة تبث طيلة الأيام من 5 إلى 9 يونيو بيانات خيالية عن المعارك الضارية التي تخوضها الجيوش العربية الموحدة تحت قيادتها القومية الرشيدة ! وظهرت عناوين الأخبار والأهرام والجمهورية تقول ( إنه يوم التضامن العربي والقومية العربية ) وأسقطت البيانات من الطائرات الإسرائيلية أسرابا وأسرابا !! حتى ظنت الجماهير أن القوات المصرية على أبواب تل أبيب كما كانت تبشرها دعاية نظام عبد الناصر والإتحاد الإشتراكى الذى ملأ الشوارع في القاهرة والمحافظات بلافتات كثيفة تبشر بالنصر المنتظر وتقول : ( عند العقبة .. قطع الرقبة ) و ( حنحارب .. حنحارب ) و ( إلى تل أبيب .. ) و ..... الخ ولهذا نقول أن الإنجاز الإسرائيلي لا يُحتسب لتفوقه بل يُحتسب في الأصل للحالة المزرية التي وصلت إليها المنطقة العربية تحت قيادة النعرات القومية , وكانت الصدمة بشعة .. بل بالغة البشاعة على المجتمع العربي الذى هانت فيه بوقوع النكسة .. كل القيم , فعندما اكتشفت الجماهير الكذبة الكبري التي عاشتها طيلة هذه الأعوام .. كان من الطبيعى أن تهون كل القيم وتسقط كل المبادئ وتصبح الشعارات الزائفة دليلا قاطعا على زيف الحياة بأكملها , وتحول المجتمع تحولا أخلاقيا بالغ الخطورة عندما انتشر بين الناس يقين دامغ أن كل من يدعى المبادئ والأخلاق والنضال والصمود والتصدى .. هو باهت كاذب مدعى , وهذه ردة فعل طبيعى تطبيقا للمثل المصري الشائع ( اللى اتلسع من النار .. ينفخ في الزبادى ) ومع غياب القيم الدينية التي كانت تُعلى قيم الصدق وعدم اتخاذ فساد المجتمع ذريعة لممارسة الفساد , عمت أزمة الأخلاق مصر والعالم العربي بعد نكسة يونيو التي لا زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا ! وللحديث بقية |
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
قصة النكسة ( لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة )
|
الساعة الآن 03:07 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.