و بين القرية و المدينة ... فسيلة روحك تنبت بجمال أصيل .. أ . ياسر /نور الدين جميل جدا هذا السرد #متابعة .. |
اقتباس:
متى أنهيت الفترة الابتدائية سأنتظر تساؤلاتك . و متى خطر بالك سؤال لا تتوان في طرحه و شكرا على المتابعة . |
اقتباس:
مرحبا بك في رحاب الملت و شكرا على المتابعة |
أساكي ، سوق أسبوعي ، رحبة واسعة مسيجة بسور بني بأحجار مرصفة مع الإسمنت ، بابه الرئيسي مقوس و عظيم ، بضع حوانيت رصّت في واجهته على الطريق المسفلت الرابط بين مدينتي وارزازات و أكادير، حافظ على نفس المسافة بينه وبين المدينتين ، كما لو أنهما كفتا ميزان . إن استقبلت القبلة تجد وارزازات و تتركك وراءك أكادير ملتحفة ضباب المحيط الأطلسي ، ناقلات و شاحنات تعبر بين المدينتين ، معروفة بأزيز محركاتها ، أما الشحانات العملاقة فهي حاملات معادن تفرغ حمولاتها في البواخر لتعود هادرة صاخبة ، أما الصغرى فتنقل الخضر من سوس باتجاه الشرق . على الرصيف الآخر تجد المدرسة بمحاذاة مقهيين طينيين من الطراز القديم ، الحصير يكسو أرضية الغرف و سقوفها من أعمدة خشبية و قصب ، غير بعيد عن المدرسة هناك تسمع هدير محرك الطاحونة حيث أكياس القمح والشعير ، نعم هناك أيضا بعض دكاكين ترحب بزبائنها طوال الأسبوع ، تجد فيها سكرا وزيتا ومساحيق التصبين وقنينات الغاز ، إن رميت عينك اتجاه وارزازات سترى لافثة كبيرة من الماركات العالمية هناك تجد محطة للوقود و الغازوال والمشتقات النفطية ، لن أنسى طبعا مصلح الدراجات والسيارات ، و حتى إن نسيت كل شيء فبائع التبغ لن أنساه بسهولة . في المدرسة استقبلنا المعلمون ، لا أتذكر الشيء الكثير ، المعلم يطوف على الطاولات مفرغا الحبر في محبرات تتخذ من زوايا الطاولات موطئا حدث يصعب نسيانه وخاصة أن الكتابة على الدفتر ليست هيّنة بهذه الريشة الدقيقة جدّا ، فهي تخالف ما ألفته أصابعنا من أقلام قصبية في المسجد و دواة بها صمغ وصوف يقلل من مقدار ما سحبته من سائل ، حتى الكتابة على اللوح تكون غليظة ، لكن هذه السطور دقيقة جدا ، وزّعت علينا المناشف الخضراء ، ماهذا يا ربّي ، يدي ترتعش حقّا هل أرعبني المعلّم ، أم هذا العالم الجديد ، من الصعب أن ترى طفلا تظنه دائما لايقهر و هو في مستوى يعلوك بسنوات ، يسلخ سلخا عظيما وهو لم يقترف جريرة إلا أنّه تعطّل دقيقة والصفوف قائمة أمام القاعات . الحمد لله أن وفّقت في نطق كلمة حاضر حين زلزل اسمي أذني ، لم أكن أعلم أن إسمي سيفزعني يوما ، حتى هذه الكنية التي اختارها أبي لم تتعوّد عليها أذني بعد ، لعوطار ، هي خفيفة رشيقة ، لكن كل القرية تنادينا بإدموسى ، فما بال أبي غيّر اسم الأجداد؟ يقول أنه عندما همّ بتسجيل أول أولاده في كنانيش الحالة المدنية . نصحوه بتغيير هذه الكنية التي تجد لها حضورا كبيرا ليس في الملت وحدها لكن في دواوير كثيرة في سوس ، مما يجعل الرسائل تضيع و كذا استدعاءات السلطات نظرا لتعدد الأشخاص الذين يحملون الاسم و الكنية نفسيهما ، هكذا انطلق لسانه بهذا اللّقب فحمله جدّي و كلّ أبنائه أيضا ، و به تميّزنا عن باقي أبناء موسى . |
كان ذلك في خريف 1979 حيث شارفت على السبع سنوات الموعد الرسمي لالتحاق كل طفل بالمدرسة ، كثير من الأطفال غرباء عنّي ، حيث يقطنون القرى المجاورة لأساكي ، ليس عيبا ان تبتعد المدرسة عن قريتك بثلاث كيلومترات ، فنصف ساعة كافية لحرق تلك المسافة ، نسير في جماعة إلى المدرسة ، أطفال قريتي هادئون ، بل شغبهم ليس فيه خبث و سوء نية ، أذكر يوما في الاستراحة ، أن طفلا دفعني للاستهزاء برجل يقود شاحنة ، فقلت مسايرا لخطته ، ياله من رجل بدين ! انتهى الأمر وانتقلت عيناي إلى مشاهد أخرى ، فجأة ارتسمت في وجهي أصابع صفعة محكمة ، و سبّ و شتم ينهال عليّ من طفل يكبرني ، انه ابن الرجل البدين. من حسن حظي أن الوادي كان سببا لانتقالي من هذه المدرسة إلى أخرى بعد شهر ربما أو أقلّ ، قبل اللّحاق بها يلزمك أن تعبر واديين أحدهما يكاد يكون دائم الجريان في الشتاء . ربما لو طال بي المقام هناك لأصبحت غير الذي كنته ، هناك يجب أن تكون لديك جرعة خبث زائدة ، و لا مجال للسّذاجة . كل يوم نصطحب معنا خبزا و زبدة ، لن نعود للبيت عند وسط النهار وتلك مساحة كافية لتعلّم كلّ أنواع الزندقة ، و محو آثار البراءة ، يعطيني أبي قطعة صفراء ، أحمل معي شايي وسكري و هكذا يفعل كل الأطفال ، في المقهى نستعير البرّاد والكؤوس والماء المغليّ مقابل نقود صفراء . طفل أسمر قبّل أصابعه بعد أن لمس بها وجنتي ، تبعته جاريا لأنتقم منه ، كان يراوغني بخفّة بالغة أحسست بالهزيمة خاصة عندما التحق بعصبته التي نهرتني . لحسن حظي جاء المطر باكرا و حال بيني وبين هذه المدرسة الموبوءة . كان الجوّ ماطرا ، يحملني أبي لاجتياز شعاب صغيرة نابعة من جبال قريتنا ، متوجهين جنوبا جهة قرية أخوالي تاركين أساكي وراء ظهورنا ، دخلنا فجأة مدرسة تتكون من حجرتين فقط ، مدرسة هادئة هدوء الجنان ، فيها بنات و صبيان ، معلمة ناعمة الملمس و الصّوت ، وجدت هناك بعضا من رفاقي في مسجد سي ابراهيم ، لن أحس غربة هنا ، حتى أطفال هذه القرية لا تبدو عليهم الخسة والنذالة ، حتى أنهم منضبطون ، همّهم الأوحد هو التعلّم . وجدتهم يومها يدرسون حرف الكاف ، سرعان ما وجدتني أقرأعلى السبورة ، حتى تلك المحبرة وجدتها هنا جافة مهملة ، نكتب بقلم الرصاص و قلم الحبر الجاف . أحببت المدرسة ، أحببت رفاقي ، كنا كتلة متناغمة ، يا له من حظ عظيم . |
ربع الساعة كاف لأصل إلى المدرسة الجديدة ، سعيدة تكبرنا حجما و سنا ، طويلة قياسا لقزميتنا ، تكاد تكون والمعلمة سواء ، حين تغيب المعلمة هي من تتولى الحراسة ، لكي لا تجد اسمك على لائحة المشاغبين ، يجب أن تعد بتقديم هديّة ، نبدو لها كحملان في رعايتها ، قطعة لحم أو برتقالة أو رمّانة أو حفنة تمر قد تقيك من عقوبة المعلّمة ، سعيدة هي القائدة التّي لا يشقّ لها غبار ، يوما جرّتني من يدي عندما وصلنا قبالة منزلها ، نظرت نحو المعلّمة التي كانت تسكن مع عائلتها في نفس البيت ، قالت المعلمة شيئا شبيها بالأمر فوجب الرّضوخ ، سرت معهما ، دخلت بيتا لا أعرف من ساكنيه غير سعيدة ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّني لا أزال برعما ليّنا ، فراشة تذوب أجنحتها تحت الضغط ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّ أمي في انتظاري و قلقها لن يسكته غير حضوري ، يا سعيدة كان الأحرى بك مصاحبة ابن عمّتك ، على الأقل لن يحسّ وحشة في دار أخواله ، هو أيضا من أبناء موسى و رفيقي في طريق العودة إلى الدّيار ، جلست إلى مائدة خشبية محاطة برجال بنياتهم وازنة ، أبوهم رجل مرح المجلس ، يسألني عن أحوال عائلتي . نسيت أمي وأبي وجدّي وجدّتي في رحاب أسرة تحلّي الطّعام بالضّحك ، غير بعيد عنا نساء وفتيات بمعية المعلمة تحلقن حول مائدة ثانية ، لكن لم أكرّر تلك الفعلة بعدها ، أتحايل على المعلّمة وعلى سعيدة عند الخروج ، و لم أجرؤ على مشاركتهما الطّريق ، أخاف أن تصطادني مرّة أخرى فتقلق أمّي ويضطرّ أبي إلى الحضور ليطمئن عليّ . نحفظ ، نتسلى ، نلهو ، نرسم ، نكتب ، نتنافس في المحادثة والتعبير الشفوي ، نلتقط الحساب من فم المعلمة حتى قبل أن تكمل سؤالها ، مرح جدّا أن تكون في القسم الأول بتغزوت ، ظهرت النتائج النهائية ، المركز الثالث هو موضعي ، أحببت هذه الرتبة و هي أقصى ما أصله في سنوات دراستي ، طفل بارع هو من حصّل المرتبة الأولى و طفل أبرع منه هو من حصّل الثانية ، لا تنس قريبي من أبناء موسى هو أيضا انتزع الرّابعة ، و بعدها تأتي أفواج و أفواج من تلاميذ متوسّطي التحصيل . لا أذكر متى غادرت سعيدة فصلنا ، لكنني أتذكر جيدا عندما وبّختها المعلمة يوم علمت أنّها تتلقى الهدايا من التلاميذ وأن لوائح الشغب مغشوشة . حذار أن لا تحفظ يوما يا نورالدين فيتوج رأسك بأذنين و رقيتين ، يا ليتهما كانتا لأرنب أو قطّة ، لا.. لا.. إنه الحمار ، أخذت حذري بما يكفي و يزيد لكنني ذات كبوة ارتقيت إلى رتبة حمار . قد تختلط ذكرياتي في المستويين الأول والثاني ، لكن المطعيات لا تتبدل هم ذات الأولاد والمعلمة عينها ، فقط ما يميّز السنتين هو مسكن المعلمة ، ذات يوم وصلني الدور ، فالمعلمة لا تستطيع المبيت لوحدها في سكنها الجديد ، و الحلّ لن يكون سوى أن تختار كلّ يوم طفلا يؤانس وحشتها و يدفع عنها بعبع الظلام ، و ربما يدفع عنها شر متهور قد يتجاسر و يتسلق حائط البناية ، يومها أحضرت من منزلنا خبزا وخضرا ولحما و لوزا و بيضا وغيرها ، ما أن دخلت الدار حتى أحسست بروحي ستغادر كياني ، سكنت حركتي و اعتراني وجوم عجيب ، أعطتني المعلمة كرسيا وجلست قرب باب غرفتها و الشمس ماضية للغروب ، كناشي بين يدي أقرأ فلا أعرف ماذا أقرأ ، أحفظ و لا شيء يلتصق في ذهني ، حلّ الظلام فدخلت الغرفة والمعلمة في منامتها ، تكتب وتكتب ، أنهت كتابتها وأنا لا أزال أستبدل كتبي التي تعذر عليّ استيعاب ما تحمله ، وضعت المقلاة على الموقد و الشمعة تصاحب سمرنا ، سمعتها تغني أغنية ، قشرت البطاطس و قطعتها قطعا رقيقة ، لأول مرة سأتناول عشاء مرّاكشيّا ، لقد زرت مراكش عندما كنت صغيرا ، أبي يقود السيّارة متسلقا منعرجات تيزي نتاتست ، ما أن ترتفع أبواق السيارة عند كل منعرج حتى أحاكي جرسها برنين خفيف من شفتي تيت تيت ، هكذا تحكي أمي ، كان طعم البطاطس غريبا ، لولا الخوف لقذفت به بعيدا ، شهيّتي أيضا مقبوضة . في الصباح انشرحت لما وجدت الدنيا كما تركتها ، الشمس تطل باسمة من وراء الجبل ، النساء يحملن قفافهن متوجهات إلى الحقول ، ماء الساقية متدفق رقراق ، ملأت جوفي من هواء الدنيا الفسيحة ، في القسم تعجبت المعلمة عندما تطرح سؤالا و لا أستطيع الإجابة . |
المعلّمة خلوقة ، نبيهة ، ظريفة ، جميلة ، أختها أجمل منها ، بعد أن فشلت خطة استضافة كل تلميذ ليلة ، التحقت بها اختها ، تعلمنا أناشيد عذبة مليحة ، تعجبنا ملابسها المدنيّة ، شعرها المنساب ، حركتها الموزونة ، والأكثر من هذا رقتها و عذوبة صوتها . حضر أبوها أيضا لمدّة و كذا خطيبها ، أذكر أن أبي استضافهم يوما في بيتنا ، كان أبوها شخصا فارع الطول يلبس نظارتين ، تبدو سنين عمره على وجهه ، صوته يتّسم ببعض غلظة . خطيبها ليس إلا ابن خالتها ، و لكونهما من مراكش فقد كانت فرصة لوالدي لإحياء الذكريات ، جلسا في الصالون الطويل على مضربات متوسدين مخدات من ثوب الموبرة الناعم . المعلمة في غرفة أخرى مع أمّي و جدتي و أختاي ، أختي الثالثة ما تزال حديثة الولادة ، استرقت السمع فسمعت أختي أمينة تتحدث عن البطانية الناعمة التي قدّمتها أمي للمعلمة لتحتمي بها من البرد ، رجّت الدنيا رجاّ من حولي ، لماذا أفشت أختي سري ، كيف سأواجه المعلّمة ، و قد أمرتنا بإحضار الحرباء خلسة و دون إعلام أحد بالأمر ، واهمة المعلمة و في ثقافتنا شائعة عن الحرباء ، أن عضتها قويّة و يقال بالحرف أنها لا تطلق من غرست فيه فكّيها حتى ينهق الحمار من تحت الأرض ، رغم ذلك هناك من أحضر لها الحرباء ، ما أثار رهبتي هو تقارب اسم الحرباء والبطانية في لغتنا ، واهمة المعلمة حين اعتقدت أننا نستطيع كتمان السّر ، واهمة المعلّمة إن ظنّت أنّنا لا نفقه طقوس السّحر والشّعوذة ، واهم أنا حين ظننت أن أختي باعتني للمعلّمة .
تزبد المعلّمة في القسم وتتوعّد ، و قد انتشر خبر الحرباء انتشار النار في الهشيم ، سأترك المعلمة لأن رحلتي معها قد انتهت . أبي يأخذني معه إلى حفل وطني ، المقدّمون والشّيوخ يأمرون برّاح الدوار ليعلن في القوم ضرورة الحضور إلى البيرو للاشتراك في احتفالات الوطن ، تجمع الزرابي في الدواوير لتزين مكان الحفل ، كل شيخ يفتخر بعدد الحضور الذي استقدمه إلى البيرو ، صبحا ننتظر الناقلة في أساكي ، حملتنا و أعمدة الهاتف تتسابق بجانب الطريق ، أحسست فرحا عظيما ، وصلنا إلى الفيلاج ، بعد عشرين كيلوترا من الرّكض ، كانت الأعلام الحمراء ترفرف فوق كل السطوح ، ساحة البيرو مكتظة بالناس ، فرقة كناوة تدق الطبول و الرقصات بلغت ذروتها منذ الصباح ، استمتعت بهذا العدد الهائل من الجلابيب البيضاء ، كأننا في مصلى العيد ، رأيت التلفاز لأول مرة بالألوان يظهر في زاوية من زوايا الساحة ، رجال الأمن ينظّمون النّاس و يهيّئون لهم مكان الجلوس ، شيئا فشيئا بدأت الشمس تلفح جباهنا ،همس لي أبي : "أليست هذه الشمس حارقة ؟" أجبته بتلقائية ، طبعا ، يقوم أبي، أتبعه ، يطلب منه الواقف على الباب الرجوع إلى مكانه ، يتذرع أبي بالشمس الحارقة التي ستؤذي الصّبي الصّغير ، يرفض الحارس حجّة أبي ، يتقدّم أبي للخروج يعترضه الرّجل ، يعلو صوت أبي يردّ عليه الآخر، يتصايحان ، يتقدم رجال الأمن، يطوقون أبي ، يجرّونه نحو البيرو ، يتمسّك بيدي ، يحاولون التفريق بيننا ، دخلنا أروقة البيرو ، أوقفنا رجل الأمن أمام مكتب القائد ، لم ننتظر طويلا حتى وصل القائد ، لم يستفسر عن الأمر ، فقد جاءته القصّة كاملة ، يسبّ أبي سبّا اقشعر له بدني ، ظننت أبي أقوى من الجميع ، لكنه ما ردّ بأكثر من توضيح للموقف ، لم يستمع له القائد بل أمر برمينا في الزنزانة . بقينا هناك زهاء ساعة ، كانت الحجرة باردة ، أبي يقول : "على الأقل هذا المكان بارد " في المقهى يحكي عمّى عمر ، واحد من رجالات قريتي البواسل ، واحد من أبناء موسى ، كيف جمع رجال البلدة الوجهاء ، و اتجهوا نحو القائد لاطلاق صراحنا ، شربنا الشاي و أكلنا الخبز ، و قهقهنا ضحكا و قد انتهت الحادثة بسلام . في طريق عودتنا يقول أبي : "هذا أول خروج لك يا بني ، أدخلتني فيه السجن " هذه العبارة حفرت عميقا في قلبي ، تراني حامل شؤم لأسرتي ؟ |
في فصل الصيف يتغير كل شيء في منزلنا ، تأتي خالتي خديجة و ابنتها كلثومة و ابنها عبد المالك ، ثلاثة اشهر من المرح الزائد و الشغب المستمر ، رغم أنّني مرغم على الذّهاب إلى المسجد ، لكن أيّام الصيف الطّويلة ، فيها ما يكفي و يزيد للّعب و المرح ، نقصد بستانا تخترقه ساقية ، تحت ظلال أشجاره نقضي الظهيرة و قد لجأ أهلنا للقيلولة ، كل واحد يبني صهريجه بالطين ، و يملؤه بماء الساقية ، نشق القنوات ، لنسقي مزروعاتنا ، كل منّا يسيج حقله البالغ مترا مربعا واحدا تقريبا ، نهتمّ بحقولنا طوال الصيف .
في البستان نفترس كميات هائلة من العنب والتين ، نقطف ثمار اللّوز ، نأكل السّفرجل ، جدّي يعتني بهذا البستان ، يشذّب أشجاره ، يقيم داليات العنب . رغم القيض فالبستان ربيعي الطبع ، طيور مغردة و ثمار دانية تنعشها رطوبة الماء . شهر رمضان على الأبواب ، شهر هجيري الملامح ، نرى أسرنا و قد نال منها التعب ، و شدّ الحر أنفاسها ، شهر كامل و لا ترى الفرحة في نفوسهم إلا عند المغيب ، إذ ذاك تشرق وجوههم الشّاحبة ، و تستيقظ هممهم المكسورة ، أبي بعصا طويلة إلى جانبه ، قد تنزل على قطّة متسللة إلى المائدة و ربما إلى ظهورنا أقرب ، متى كان ميزاجه سيئا جدّا لا نحضر طعام الفطور ، يترقبون الأذان بلهفة، الماء البارد و التمر و الحريرة و الخبز والحليب والشبّاكية و السّلو كلها مهيأة، متى أعلن الأذان الانطلاقة انجرف الجميع هبّة رجل واحد للأكل . صباح العيد نتوجه إلى المصلى ، نتباهى بأثوابنا الجديدة ، نصلي في الصّف الخلفي ، و بكلام خافت نصدّع رؤوس المصلّين ، متى انتهت الصلاة ، قام الإمام مخاطبا مكبرا و الجميع يردّد التكبير ، أحب هذا الجو الروحاني الذي يعتري الجماعة ، أحب ألحان الأذكار التي ينشدونها قبل الصلاة و بعدها ، تنتهي المصافحة نتنقل مهللين مكبرين جهة المقبرة ، نشارك الأموات منا فرحة العيد ، يدعو الإمام لهم بالرحمة والمغفرة و الجنة ، يذهب كل إلى حال سبيله . الصيف لا تنقضي أفراحه ، لا يسكتها إلا قدوم المطر في الخريف ، حفلات الزفاف و مواسم القرويين ، موسم عيساوة ، موسم الرماة ، موسم كناوة في بعض القرى ، أبي لا يحب المواسم ، لا يحب الرقص ، لا يحب الطقوس الروحانية التي يصفها بأعمال الشّرك والشيطان ، أنا أجد فيها بهجة عارمة، أحب طبول عيساوة ، و إيقاعها الرهيب ، أحبّ الحالة المجنونة التي تعتري العيساوي حين يفقد صلته بهذا الوجود ، وهو يمارس الحضرة ، تغرس مسامير حادة في وجهه و هو يحسّ نشوة عارمة ، رقبته مزينة بمسامير تخترق جلده لكأنها قلادة عجيبة ، لسانه مشدود بجلد شفتيه ، يا لها من نشوة ، يقذف برأسه ذات اليمين والشمال ، نحو الأسفل نحو الأعلى ولسانه يلهج بذكر الله ، أحب النساء العيساويات اللائي جئن للتفرج فقط ، فإذا بهن ينخرطن بلا وعي في هز الرؤوس ، فتعمل جليساتهن على شدهنّ بحزام عند حجرهن لكي يلزمن أماكنهن ، يمارسن الحضرة واقفات على ركابهن ، شعرهن الوديع متشتت على رؤوسهن ، يهيج بعضهن فيطلقن صيحات منخرطات في بكاء مرير . |
يا له من سرد ... كأنني مع فيلم للذكريات .. تفوح منه رائحة البهارات القديمة .. لا زلت # متابعة ! |
اقتباس:
هي الحياة ، تدخل حينا في نغمتها فتؤنسك ، و متى تغير الإيقاع صفعتك على حين غرة بحقيقتها الهشة المتعبة المرعبة ، تحاول أن تتكيف ، أن تجد سبيلا لمجاراتها ، لا ينجح فيها إلا من كان حربائي الملكات ، أو امتلك رصيدا غير متناه من التجهال ، أما من يسعى لمنطقتها فهو سيعاني في ظل لا معقوليتها ، في خضم تناقضاتها ، في أتون معتركها الذي لا يؤمن في أحيان كثيرة إلا بمنطق القوة . سعيد بحضورك الوارف . |
الساعة الآن 01:38 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.