منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية. (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=6821)

ايوب صابر 05-29-2012 09:20 AM

إملي نصر الله
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة


إملي نصر الله هي أديبة لبنانية ولدت عام 6 يوليو 1931 في قرية الكفير جنوب لبنان نشرت عددا من الروايات والمجموعات القصصية للاطفال وحصلت على جوائز عديدة منها جائزة الشّاعر سعيد عقل في لبنان وجائزة مجلّة فيروز وجائزة جبران خليل جبران من رابطة التّراث العربيّ في أوستراليا وجائزة مؤسّسة(بالإنجليزية: IBBY) العالميّة لكتب الأولاد على رواية"يوميّات هرّ"
  • تلقت تعليمها الجامعي في جامعة بيروت (حاليا أصبحت الجامعة الأمريكية في لبنان) وحصلت على شهادة الماجستير سنة 1958
  • تزوجت من فيليب نصر الله وأنجبت أربعة أبناء: رمزي، مها، خليل ومنى.
  • عملت كروائية، صحفية، كاتبة مستقلة، معلمة، محاضرة، ناشطة في حقوقِ المرأة.
  • أول رواية لها نشرت عام 1962 (طيور أيلول) وحازت على 3 جوائز أدبيه.
  • ترجمت العديد من رواياتها إلى الإنجليزية والفرنسية.
جوائز حصدتها
  • 1962 - أفضل رواية - (طيور أيلول)
  • 1962 - جائزة AKL - (طيور أيلول)
  • 1962 - جائزة أصدقاء الكتاب -(طيور أيلول)
  • جائزة مجلة فيروز - على مجموعة أعمالها الأدبية.
  • جائزة خليل جبران - اتحاد تراث عربي، أستراليا
  • 1998 - جائزة كتاب الأطفال ليبي - رواية "يوميات هر "
  • 2000 - درجة دكتوراه - جامعة القديس جوزيف، بيروت
  • 1998 - قائمة شرف لرواية الأطفال - "مفكرة قطة "
  • 2002 - جائزة AKL -ونشرت عنها مقالة على "رياح جنوبية"
مؤلفاتها
  • طيور أيلول (رواية)
  • شجرة الدفلى (رواية)
  • الرهينة (رواية)
  • تلك الذكريات (رواية)\(رواية)
  • الجمر الغافي (رواية)
  • روت لي الأيام (قصة قصيرة)
  • الينبوع (قصة قصيرة)
  • المرأة في 17 قصة (قصة قصيرة)
  • خبزنا اليومي (قصة قصيرة)
  • لحظات الرحيل (قصة قصيرة)
  • الليالي الغجرية (قصة قصيرة)
  • الطاحونة الضائعة (قصة قصيرة)
  • أوراق منسية (قصة قصيرة)
  • أسود وأبيض (قصة قصيرة)
  • رياض جنوبية (قصة قصيرة)
  • الباهرة (قصة أطفال)
  • شادي الصغير (قصة أطفال)
  • يوميات هر (قصة أطفال)
  • جزيرة الوهم (قصة أطفال)
  • على بساط الثلج (قصة أطفال)
  • أندا الخوتا (قصة أطفال)
  • أين نذهب أندا؟ (قصة)
  • نساء رائدات – 6 أجزاء-
  • في البال



==

تكريم إميلي نصر الله في «النادي الثقافي العربي»



50 سنة على «طيور أيلول» الرواية التأسيسية




من الندوة: طعمة، نصر الله، الخنسا وجبور (فادي أبو غليوم)



ا ح


كأنها كانت البارحة، ومع ذلك مضت اليوم خمسون سنة على صدورها في طبعتها الأولى. نصف قرن، ليس من الكتابة فقط، بل نصف قرن من حياة أدبية بأسرها، هي تلك التي اجتازتها إميلي نصر الله مع روايتها «طيور أيلول». نصف قرن، عرف كل تنوعه وكل انشطاراته وكل انكساراته لكن أيضا عرف نجاحاته وتشعباته.
رواية، من بدايات الروايات اللبنانية، التي أسست لاحقا، لشريحة واسعة من أدب حول الهجرة والرحيل، حول هذه القصة التي خبرها اللبنانيون في جميع حقباتهم، والتي لم تتوقف حتى الآن عن استعادة تفاصيلها كل فترة، وكأن الهجرة والرحيل صفة ملازمة لهذا البلد، الذي لا يتوقف لحظة عن اختراع أسبابه الموجبة، للذهاب بعيدا، إلى أقصى منفاه.
النادي الثقافي العربي، الذي دأب على استعادة ذاكرات المفاصل التاريخية، كرم مساء أمس الأربعاء، في قاعته (الحمراء) الكاتبة نصر الله، بمنحها درعه التذكاري، بمناسبة الذكرى الخمسين لصدور «طيور أيلول»، وذلك عبر ندوة أدبية اشترك فيها كل من زهيدة درويش جبور وأنطوان طعمة وأدارتها نرمين الخنسا، التي بدأت بكلمة ترحيبية معتبرة الكاتبة علما من أعلام لبنان البارزة.
زهيدة جبور تطرقت في كلمتها إلى مجمل التمفصلات التي اجتازت أدب نصر الله حيث «فسحات الحلم ومساحات الهواء» لتجد أن الكتابة عندها «ليست قناعا بل حقيقة الذات». بينما جنحت مداخلة طعمة إلى التمييز بين كتابة نصر الله الصحافية في بداية مشوراها الأدبي وبين رواياتها اللاحقة وأقاصيصها التي استفادت من الصحافة وواقعيتها. وختمت المحتفى بها بكلمة شكر متمنية أن يبقى لبنان مشعلا للفكر والإبداع.
إ.ح.


ايوب صابر 05-29-2012 09:22 AM

طير من أيلول...إملي نصر الله... وهج الأصالة
على الأرجح، أن عقد الستينيات وما سبقه، قد شكّل على مستوى الإبداع الروائي بشكل خاص، أحد الملامح الهامة لرؤية تحولات الأدب النسوي، وما سبقه من إرهاصات ضرورية، حيث إن أصواتاً نسائية بعينها قد أسّست لخصوصيتها وفضاءاتها اللاحقة مع تواتر العقود، فالخطاب الروائي النسوي في تعالقه مع قضايا وإشكاليات عدة، كان خطاباً مشتركاً لجهة طابعه السياسي والاجتماعي والإنساني، فالمسألة لا تنحصر في محدودية تلك القضايا، أو اتساعها، أو درجة التباين فيما بينها فحسب، بل في هواجسها المشتركة، ولاسيّما صورة المرأة وإكراهات تغييب صوتها وحضورها، والبحث عن كينونتها، كشرط لتحررها، خطاب أفصح عن وجهات نظر لا تقتصر على حاجات المرأة الآنية، بل تعدّى ذلك، ليقارب مشكلات مجتمعية حاسمة ومتداخلة وسط بنية ثقافية شاملة تقصر دور المرأة على المستوى الثقافي والاجتماعي، إلى أدوار ثانوية ودنيا، لا تمثّل طموحها وتوقها، ولا ترقى لأسئلتها الجريئة المتوضعة في متون سرديات مثّلتها بامتياز كوليت الخوري وليلى اليافي، ولطيفة الزيات وحياة بيطار، وماجدة العطار وسواهنّ، وبخصوصية لافتة بزغ اسم إملي نصر الله.

جهينة- أحمد علي هلال:

مدوّنة القرية..
عُرفت إملي نصر الله صحفية، تكتب التحقيقات الصحفية والزوايا الأدبية في مجلة المرأة والصياد اللبنانية بين عامي 1955-1970، وتقارب فيها هموماً وتجليات اجتماعية وفكرية وإنسانية، ما شكّل بحساسيته زخماً، لتدفع روايتها الأولى – طيور أيلول- إلى سطح المشهد الثقافي، ولتشكّل له مفاجأة سارّة، رواية تأسيسية حظيت باهتمام النقاد والكتّاب والمثقفين، والإعلاميين، ولاسيّما أن عنوانها اللافت قد فتح السجال إزاء قضايا شغلت المجتمع اللبناني، ومنها قضية الهجرة إلى المغتربات، ترى ما الذي دفعها لكتابة تلك الرواية، هل مجرد الحنين للقرية، وهي المتحدرة من أصل قروي وجذور ريفية- كوكبا- ولاحقاً انتقالها لقرية الكفير المجاورة لكوكبا في جنوب لبنان، أم هجاء المدينة؟! وهي قد سكنتها، لتعود إلى قريتها، كما عودة بطلتها «منى» في نهاية روايتها الأولى، القرية ستصبح مدونتها المترعة بسحر خالص وبعفّة لا نظير لها، محمولة على شغفها الخاص بحكايات جدتها ونظيرتها في الرواية «حنة» الحكّاءة البارعة.
إن عفة القرية وشعرية فضاءاتها ستسفر عن حامل جمالي على مستوى اللغة والتركيب والمفردات وسعة المتخيّل، وتلّون فصيح اللغة بالشفوي والمتداول، وبالاتكاء على أساطير تتعالق مع المحكي الروائي، لتزيد جرعة الإبهار والدهشة، بمعنى تخصيب النص بالدلالات، فالمتخيّل في مقابل المعاش...
لقد انتزعت إملي نصر الله امتياز الرواية «كبنت للمدينة» فكانت روايتها طيور أيلول هي بنت للقرية بامتياز، إذ هي ليست مجرد مكان فحسب، بل مرحلة خصبة لتحول وعي نسوي بالفن والمجتمع، وبهذا المعنى فإن- طيور أيلول – هي نموذج مكاني مفتوح على تشكيل سردي، درج عليه غير ما نص عربي، كان الريف أو القرية بطلها ومكوّنها القصصي والروائي النوعي.
ولدى إملي نصر الله، يفيض الريف «القرية» كعلامة سردية ساطعة، بأصوات الذاكرة الأولى ولاسيّما جدتها لأمها، تقول الكاتبة: «إن جدتي هي زاوية السحر في حياتي، لها طريقة فريدة في القص والحكي، وعندما كبرت كان لابد أن أقول للعالم قصتي عرفت طريقها من حكايا جدتي».
فضلاً عما يتكشّف في الرواية من موضوعات، بملاحظة السياق التاريخي: الهجرة والحب ورهانات العواطف وهجاء المدينة، والثورة على التقاليد، وعبر مشهديات متواترة بدلالة الطيور المهاجرة التي تمر فوق القرية، وتسجل نقطة جديدة في دائرة الزمن، إذ نتعرف على الوجوه والأحلام «مرسال وراجي وأنجيلينا ومريم وفواز ونجوى ومنى» شخصيات تصارع أسواراً عالية من تقاليد ومفاهيم وأقاويل وقصص حب مكتومة، فالقرية تحيا على الحب وتعيش حكاياته في الفصول الأربعة لكنها تأبى أن تسمع أخبار الحب!.
إيقاع الحياة.. إيقاع الموت
ثمة تبادلية تحكم إيقاع الرواية، تتمظهر في ثنائيات لاحقة، الرجل والمرأة، الموت والحياة، الحب والكراهية، القرية في مقابل المدينة، «اندحار الحياة ليبسط الموت أجنحته القوية.. هي رواية الشرق حينما يستسلم للعاطفة ويدور في محرابها ناسياً كيانه ومنطقه وتفكيره».
وهذا ما يجعلها تنطوي وفق تلك المقتربات على استعادة لحظات هاربة وتسجيل ذكريات وصور حلوة، لكأنها تستبطن سرداً ذاتياً مقنعاً، فمنى «الساردة» هي إملي: «أنا منى في هذه القصة ولدت وعشت صباي في قرية صغيرة، تنفست حياة القرية نسمة، نسمة،» ثمة ما يماهي بين اللعبة الروائية، والجهر بشهادة على زمن ما، منى الباحثة عن الغد تستظهر دفاع الأنثى عن ذاتها، هل هي لغة الضعف؟! لتتوق إلى الحرية وتتحسّس وجودها المستقل إلى الانفلات مع ذاتها المنفصلة عن الجميع، ولتدفع الصراع إلى ذروته «المدينة تمسخني والقرية تنكرني» فالغد أكبر من الحاضر والحلم أعظم من الواقع، ولهذا تمتلك طيور أيلول حساسيتها وخصوصيتها، ليس لجهة الأسلوب واللغة والرهان على جماليات المكان «القرية» فحسب، وإنما لجهة نزوعها الرومانسي، وأبعاد واقعيتها الفنية، وأمثولتها لمشهد عربي معاصر، وإثارتها لقضية الحدود التي يمكن أن تقوم بين فن الرواية وفن السيرة أو المذكرات، ومدى ما يستفيده الروائي – الروائية من استعارة الأحداث الواقعية وحياة بشر حقيقيين.
في محراب النقد..
عكس تلقي رواية طيور أيلول مستويات نقدية متعددة تستبطن حفاوة واختلافاً لافتين، منها ما فتن بسحر مرجعها الروائي، ومنها ما كان أسير سطوة وغواية اللغة وتشكيلاتها الباذخة، ومنها ما فارق الرواية في مستوى تجنيسها وانتمائها لحقل الرواية، فهي أقرب للعمل الشعري منها إلى الصنيع الروائي الحقيقي، وثمة من يرى بأنها تلتقي مع تيار الرواية «البيسكولوجية»، التي مثلتها روايات دستويفسكي وجويس وفرجينيا وولف، واللافت مقارنتها بفرنسوا ساغان الروائية الفرنسية الشهيرة، حيث فارقتها إملي ليس بالمعنى الثقافي، بل بالمعنى الأخلاقي والفكري. وذهبت آراء ودراسات لتقول بأنها مجموعة لوحات وذكريات عن قصص جرت في القرية، وبأن الكاتبة قست على المهاجر.
إن أكثر الدراسات إنصافاً للتجربة الروائية الأولى لإملي، جعلت منها محاولة فنية جريئة، ورمزاً للأدب الواقعي الحر والرفيع وهي بمثابة «غرازيلا» للامارتين في الأدب الفرنسي،.. وبالطبع ثمة من قرأ تأثير جبران خليل جبران في روايتها، وأنكر عليها استدخال «العامية» اللسانية في روايتها؟!
ومهما يكن، فإن عنصر البناء القصصي في الرواية سيظل منزاحاً إلى تجريب فني وخيارات أسلوبية مفتوحة طالما أنها رواية تأسيسية، اللافت فيها صورة المرأة والنماذج النسوية التي تغري التأويل، لينفتح على سؤال ضروري هو كيف تنظر الكاتبة إلى المرأة، وكيف تشكل نموذجها النسوي في وعيها ولا وعيها، ذلك أن استخلاص النقد الحديث في مقاربته الذكية ومنهجه الدقيق لعمل أدبي لا يحكمه تصورات مسبقة.
تقول د. الباحثة والناقدة بثينة شعبان في كتابها 100 عام من الرواية النسائية العربية: «طيور أيلول واحدة من الروايات القليلة في الأدب العربي التي تعتبر القرية مركز اهتمامها، وتعبّر عن حب كبير للتربة والأرض والناس، وتقترن بنظرة عميقة ترفض التقاليد السلبية وتحذر من نتائجها... وجوهر الاهتمام ليس مجرد وضع النساء، بل هو الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ولهذا السبب يصبح تحرير المرأة ضرورة وطنية وسياسية».
فهل حملت طيور أيلول سمات الأدب اللبناني، واستطاعت الصمود أمام اختبار الزمن وتغير الحساسية الأدبية؟!
قوس التحولات
ذلك ما يتواتر من أعمال لاحقة أعقبت «الحجر الأساسي لمخطط إنتاجها الأدبي» فكانت شجرة الدفلى، والرهينة، والجمر الغافي، والمرأة في 17 قصة، وخبزنا اليومي، ورياح جنوبية وغيرها من الروايات والمجموعات القصصية، والمؤلفات الخاصة بالناشئة.
وبمعنى آخر ثمة تطورات حملها أدب إملي نصر الله ومراحله، بدءاً من الرومانسية وصورة المرأة المستلبة، إلى الواقعية والصورة المتغيرة للمرأة، إذ أن الكاتبة ترصد حراكاً مجتمعياً واسعاً دون أن تخرج من موضوعاتها الأساس القرية، لتؤرخ بالأدب شتى التحولات النسوية، بتعدد نماذجها التي قاربها الدرس النقدي ووقف على استخلاصات حصيفة، ليواكب المغامرة الروائية لدى إملي نصر الله، المغامرة المديدة بعلامة ثانية انكشف فيها اسم القرية صريحاً، كما في روايتها التي صدرت بعد اثنين وثلاثين عاماً على صدور طيور أيلول، بعنوان «الجمر الغافي» إذ تنزع الكاتبة الأقنعة الداخلية والخارجية لوجه «حارة الجورة» وحكاياتها الكثيفة، لتكشف حقيقة الزمن وتواشجه مع الذكريات الجارحة، وتذهب أكثر في استكشاف «ظلام القهر وعجز البراءة» ونموذجها الدال «ليا» التي لم تسع إلى اختراق الدائرة لتقف في وجه الشمس وبقيت متوارية خلف فرح غامض في ذاتها.
عمارة بشرفات متعددة
وإذا كانت إملي نصر الله لم تخرج عن ثيماتها في عديد رواياتها، وتنوع شخصياتها، فهي تدلل على إعادة اكتشاف ذاتها عبر أصواتها النسوية، وأصالة مرجعها ومدى ما عُبّر عنه من منظومات نفسية واجتماعية للمرأة الريفية والإنسان الريفي، ليكون «وثيقة» ريفية تضيء حلقة من حلقات تاريخ يكاد ينسى ويتشظى، فصورة المرأة في رواياتها تعكس صورتها في تحولات بنيوية واجتماعية وفكرية، قوة مثالها تلك العمارات الروائية الكلاسيكية الواسعة الشرفات صوب فعل الزمن وتحول المصائر، وتوهج التمثيل اللغوي ليخلق المعنى من طيور تمارس تحليقها القلق المرتعش والحذر.
إملي نصر الله تفتح تلك الأبواب الأسطورية أمام المخيلة، أبواب أغلقتها في وجوههم شيطانة ساحرة «المدينة»، سعياً ربما وراء زمن مفقود وآيل للنسيان، لتروي حكاية الشغف الإنساني بامتزاج «طائر من أيلول» بذرات التراب الأحمر، ليوقع مدوناته في هجرته إلى الحضور، وهو ينتظر زمنه الآخر ليُقرأ «كذات» في بوحها وغنائها ونشيدها المتصل.


إملي نصر الله.. علامات فارقة

إملي نصر الله من أشهر أعلام القصة والرواية في الأدب العربي المعاصر.
نشرت روايتها طيور أيلول لأول مرة عام 1962، لتتوالى طبعاتها إلى العشر.
كتب لها الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة إثر نشر روايتها الأولى «إن كتابك لكسب كبير للقصة في لبنان».
لقبت أثناء دراستها الجامعية بالفيلسوفة المتشائمة.
يعتبر كتاب الناقدة والباحثة اللبنانية زينب جمعة «صورة المرأة في الرواية لدى إملي نصر الله» باعتماد عدة مناهج، ولاسيما المنهج البنيوي، الذي يعد كل رواية بنية قائمة بذاتها، تتضمن عدداً من العناصر التي تتفاعل فيما بينها في علاقات لتؤدي وظيفة ما، من أبرز الدراسات الجادة بمنهجها ودقة استخلاصاتها وصفاء لغتها النقدية المقارنة.
عللت الكاتبة عدم موافقتها على تمثيل قصصها في التلفزيون، بالخشية ألا يحافظ التمثيل على المستوى الأدبي للعمل.
صرحت أن مصدر قصتها الأولى جدتها روجينا، وخالها أيوب أبو نصر الذي كان عضواً من أعضاء الرابطة القلمية.
أهم أصدقائها من الأدباء ميخائيل نعيمة وغسان كنفاني.
ترجمت بعض أعمالها إلى الانكليزية والألمانية والدانمركية والهولندية والإيطالية منها: طيور أيلول، الإقلاع عكس الزمن، الرهينة، ويوميات هرّ.
نالت الأديبة إملي نصر الله عدة جوائز: جائزة سعيد عقل عن كتابها طيور أيلول ومما قاله الشاعر عقل في المناسبة: «سبر أغوار، ومسحة حزن لا تنقطع ولوفي الفرح وغالباً بث شعري أخاذ، وفي الحالات جميعاً، قلم نظيف كأنما القدر نفسه عجز عن تلطيخ الجمال في لبنان... الأرض تعيش وتتألم كامرأة تحب».
منحت جائزة جمعية أصدقاء الكتاب في لبنان لأفضل رواية عام 1962.
جائزة مجلة فيروز لأعمالها الإبداعية عام 1983، وجائزة جبران خليل جبران من رابطة التراث العربي في أستراليا عام 1991.
وفي مجال أدب الأطفال، جائزة الهيئة اللبنانية لكتب الأطفال عام 1998 عن كتابها يوميات هر، الذي اختير في العام نفسه على لائحة الشرف من قبل الهيئة الدولية لكتب الأطفال «
ibby».
كتبت في السيرة والسيرة الذاتية، «نساء رائدات من الشرق والغرب في ستة أجزاء وكتاب في البال».
روايات إملي نصر الله، مرحلة جديدة في تاريخ الرواية العربية.

ايوب صابر 05-29-2012 09:27 AM

إميلي نصرالله - قلم يرشحنضارة وجمراً
المصدر : مجلة الجيش
العدد 252 - حزيران, 2006

اعداد: تريز منصور


أقلعت عكس التقاليد والظروف وجسدت مسيرة النضال المبدع
تختصر إميلي نصرالله باقة من الرموز والقيم لها في وجداننا مساحات رحبة. من سفححرمون انطلقت فتاة يافعة، في نفسها جمالات الطبيعة ونقاوتها، وتوق للانطلاق علىدروب المعرفة والأدب. حملت موهبتها وعزمها وبدأت نضالها باكراً، روّضت الظروفالصعبة لتتابع دراستها. في الكلية الوطنية «سرقت» كتب جبران ونعيمة من المكتبةلتشبع نهمها للقراءة. وعلى ابواب الجامعة كان عليها ان تناضل من جديد، فعملت بعزمالجبابرة في التعليم والصحافة لتغطي تكاليف دراستها. إميلي نصرالله صاحبة القلمالذي يرشح نضارة وألقاً، تواصل مسيرتها الأدبية بشغف الانطلاقة الأولى. بين يديهااليوم رواية جديدة، وعلى رفوف المكتبات عشرات الكتب التي تحمل توقيعها روائيةوقاصّة وباحثة، وفي الحالات كلها مبدعة ترحب الجامعات والمنتديات بأدبها، وكتبهاترجمت الى العديد من لغات الأرض.

المرأة ولبنان

تعتبر إميلي نصرالله أن المرأة تتفوّق على الرجل، لأنهاالحياة وتشارك الله بصنع نعمة الحياة. وتقول عن لبنان: «إنه غني بمبدعيه، وهو «مشتلللإبداع» أعطاها الكثير، كما أعطتها قريتها مخزوناً لا ينضب.
سيرة روائية
ولدت إميلي نصرالله العام 1931 في بلدة كوكبا الجنوبية، وهي الإبنة البكر لعائلةمؤلفة من ستة أولاد. والدها السيد داوود أبي راشد من كوكبا، ووالدتها السيدة لطفىأبو نصر من الكفير، البلدة التي استقرت فيها العائلة بعد ولادة إميلي بقليل. عاشتإميلي نصرالله طفولتها كغيرها من أطفال القرى، فقد عملت في الحقول، وشاركت في جنيالمواسم، من قطاف الزيتون الى حصاد القمح وسواهما، فأغنت هذه الحياة ذاكرتها. معالحرف الأول الذي تلقنته ابنة الست سنوات، بدأت رحلة المعرفة لديها ورحلة غرامبالكتاب، لكن شوقها للمعرفة كان سابقاً لدخولها المدرسة، وهي تصف تلك المرحلةفتقول: «كان منزلنا مجاوراً لمدرسة القرية التي تستقبل تلامذة الست سنوات وحسب،وكنت أهرب من المنزل وانا في عمر الأربع سنوات، واسترق السمع من نافذة الصف وأحفظالشعر والقصص... فكم حفظت من الأشعار وأسمعتها لوالدي وهو يجلس على المصطبة يشربالقهوة مع أصدقائه».

لاحظ الموهبة الأدبية لهذه الطفلة، خالها الكاتب أيوبابو نصر، وهو أحد زملاء الأديب جبران خليل جبران في الرابطة القلمية في نيويورك،وصاحب مقالات أدبية نشرت في الصحيفة التي كانت تصدر عن الرابطة في حينه. وبعد عودتهمن الإغتراب، اثر مرض عصبي ألمّ به، كان مرشدها الأول وموجهها نحو القلم والأدب،فكان يدعوها الى وصف جبل الشيخ وغيره من الأشياء، الأمر الذي وسّع آفاق مخيلةالطفلة المبدعة.
«سارقة» الكتب
بعد ان انهت دراستها في مدرسة القرية التي يقف مستواها العلمي عند الصفالإبتدائي الثالث، والذي درسته إميلي نحو ثلاث مرات، كتبت رسالة الى خالها الثاني،وهو رجل أعمال مغترب، عبّرت له فيها عن رغبتها في متابعة تحصيلها العلمي، شارحةظروف أهلها المادية التي تحول دون دفع رسوم المدرسة الخاصة. بسرعة لبّى الخال المحبالنداء، وتجاوب مع طموحها وأرسل لها شيكاً بالمبلغ الذي خوّلها دفع رسوم الكليةالوطنية في الشويفات. درست في هذه الكلية لمدة أربع سنوات، كانت الفترة التي تكوّنفيها حبها للأدب، فخلال سنوات دراستها تلك «سرقت» العديد من الكتب من مكتبة المدرسةوقرأتها في فراشها سراً، ومن أهم ما قرأته وقتذاك اعمال ميخائيل نعيمة وجبران خليلجبران الذي تأثرت به كثيراً.

كان يتملكها في تلك المرحلة جوع للمطالعةوالقراءة، لدرجة أنها اعتبرت أن أجمل هداياها كانت: «قصاصة مجلة أو جريدة تضع فيهاصاحبة الدكان «الملبّس» و«القضامي»، وتجد الطفلة فيها مادة مثيرة للمطالعة». الفضلفي موهبة المطالعة لديها وتوجيه قلمها للكتابة الصحيحة في تلك المرحلة، يعود الىأستاذ اللغة العربية نسيم نصر، الذي علّمها تقنية الكتابة ووجّه لها «النقد اللاذعبقلمه الأحمر» على حدّ قولها. تأثرت به كثيراً، وأعجب بقلمها، ونشر مقالاتها الأولىفي صحف عديدة منها، «التلغراف» بين العامين 1949 - 1950، كما انه كان يختارهادائماً للمشاركة في المباريات الخطابية والكتابية. كتبت إميلي نصرالله في تلكالفترة العديد من المواضيع الانشائية البدائية بطريقة جيدة، وكانت كتاباتها تلكمثقلة بالمشاعر الصادقة وبالوصف المخلص والدقيق للأشياء. نَشرُ مقالاتها في الصحفالبيروتية، منحها الحافز للتطور والنجاح وروح التحدي، لكنه جعلها موضعاً لسخريةالصبية في المدرسة الذين راحوا يرحبون بها بالقول: «أهلاً بالأديبة».
مرحلة التحدي
كان من المقرر، فور تخرجها من المرحلة الثانوية، ان تعود الى مدرسة القريةوتمارس مهنة التعليم فيها لعدة اعتبارات أهمها، عدم رغبة الأهل بذهاب ابنتهم الىالمدينة للعمل ومتابعة تحصيلها العلمي بمفردها. ولكنّ شعوراً غريباً كان يتملّكهاويدعوها الى متابعة المسيرة ويحها على الإصرار لتحقيق ذلك. توجّهت الفتاة الطموحةالى العاصمة بيروت، تحمل أحلامها وآمالها كلها بثقة وتحدٍ للحياة الجديدة التيتنتظرها. عملت إميلي كمدرّسة خصوصية واعطت دروساً لأبناء الأديبة ادفيك جريدينيشيبوب رئيسة تحرير مجلة «صوت المرأة» آنذاك، والتي كانت تكلّفها احياناً ترجمة بعضالمقالات وكتابة البعض الآخر، وكانت الداعم القوي لهافي انتقالها الىبيروت.

مرحلة التحدي في العاصمة بدأت في المدرسة الأهلية فيوادي أبو جميل، حيث استقبلتها مديرة المدرسة السيدة وداد المقدسي قرطاس العام 1955،ومنحتها فرصة السكن، مقابل تقديم ساعتي تعليم في اليوم. وهذا الأمر منحها فرصةالإنتساب الى كلية بيروت الجامعية يصي سابقاً - يصءجي حالياً، ولكن هذا العمل لميوفر لها تأمين القسط الكامل، فعلى ابواب الجامعة كان كل ما بحوزتها خمس ليراتلبنانية. ولكن زميلتها في المدرسة جليلة سرور ساعدتها ودفعت قسطها الأول. وهكذابدأت مسيرة التعب والجد، فبالإضافة الى مزاولة مهنة التعليم في المدرسة الأهلية،أعطت دروساً خصوصية، وعملت في مجال الصحافة المكتوبة في مجلة «صوت المرأة» وفيالصحافة المسموعة، من خلال قراءة بعض النصوص عبر أثير الإذاعة اللبنانية. بذلكتمكنت من دفع دينها لزميلتها جليلة، والتي كانت لها اليد البيضاء في تعريفها على «دار الصياد»، من خلال صديقتها الصحافية جاكلين نحاس. وبذلك خطت إميلي نصراللهالخطوة الأول نحو احتراف الصحافة المكتوبة في مجلة «الصياد» العام 1955.
مهنة المتاعب
عملت الصحافية إميلي نصرالله ولمدة خمسة عشر عاماً، في مجلة «الصياد» في كتابةأخبار المجتمع، وكذلك في قسم التحقيقات، فكانت صوت الناس، حملت مشاكلهم وهمومهموعبّرت عن مشاعرهم ورفعتها الى المسؤولين، وكأنّ طريق النجاح تأبى إلاّ أن تمرّ عبرمهنة المتاعب، لا بل عبر البحث عنها. سؤال مقلق كان يراودها منذ بدأت تنشر مقالاتهاالصحفية، وهو: «أنا أنقل مشاعر الناس، ولكن من ينقل مشاعري لهم؟ وجواباً عن هذاالسؤال، أصدرت روايتها الأولى «طيور أيلول» العام 1962، والتي تناولت فيها هجرةالشباب من قريتها الجميلة الكفير. وكانت هذه الرواية تحولاً هاماً في الأدب الروائيالنسائي اللبناني، تلقفها المهتمون وناقشوها، فرأوا فيها شعاعاً لشمس قد تسطع علىالثقافة ولقد عرّضتها هذه الرواية للنقد والمدح في آن، ووجدت نفسها فجأة أمام محبةالناس لها من جهة وامام النقد الإيجابي أو السلبي من جهة أخرى. وبالتالي أصبحالتحديأكبر وأصعب، وحازت إميلي على بكالوريوس بالآداب من الجامعة الأميركية فيبيروت.
أسلوبها
كتبت إميلي نصرالله الرواية والقصة القصيرة، عن تجربتها وخبرتها في الحياة. كتبتعن بيئتها وأهل بلدها وعن كل ردود الفعل... وكرّت سبحة الإنتاج الأدبي، فأصدرتالروايات الواحدة تلو الأخرى، وكتبت أيضاً القصص القصيرة للأطفال والأولاد والكبار. ترجمت أعمالها الى لغات أجنبية عديدة، وصارت إميلي نصرالله عنواناً كبيراً للكثيرمن أطروحات الماجستير والدكتوراه، كما اعتمد بعض اعمالها في المناهج الجامعية. يتميّز أسلوب إميلي نصرالله بلغة سهلة ومريحة، اذ لم تخرج من إطار ريفيتها وما تحملأخبار الضيعة من سلاسة السرد. فالطبيعة الأخاذة ومداها الرحب موجودان في شعورالكاتبة ووجدانها، كونها إبنة ضيعة تلبس الملاءة البيضاء وترتاح في أحد سفوح جبلحرمون؛ تلك الطبيعة أكسبتها رحابة التفكير وسهولة التعبير، ما جعل أدبها فيالمتناول، يحاكي وجدان الكثيرين وشعورهم.

ولعل إميلي نصرالله من الأقلامالنسائية اللبنانية القليلة المتمتعة بهذا التفرد في حبك الرواية وعناصر التشويقفيها.
تدور أعمال إميلي نصرالله حول ثلاثة مواضيع أساسية:
1-
الهجرة: التيعالجتها في رواية «طيور أيلول» وفي «الإقلاع عكس الزمن»، و«الجمر الغافي» وغيرها...
2-
المرأة: تحدثت عن المرأة في عدة روايات مثل «شجرة الدفلى»، وهيرواية منع نشرها في بعض الدول العربية.
3-
الحرب وتأثيرها على الضحايا، تناولتهاالكاتبة إميلي نصرالله في «تلك الذكريات»، «الإقلاع عكس الزمن»، «خبزنا اليومي» و«يوميات هرّ»، الذي ترجم الى الألمانية والانكليزية والتايلندية...

ايوب صابر 05-29-2012 09:27 AM

لسفر... مرآة كبيرة
فتح السفر والتجوال حول العالم، آفاقاً كبيرة أمام الروائية إميلي نصرالله،فالسفر «يجعلنا نرى أنفسنا بمرآة أكبر وبمقياس عالمي أوسع». ولقد كتبت العديد منالروايات خلال اسفارها، ففي القطب الشمالي، كتبت «على بساط الثلج»، وبين فرنساواميركا ولدت «الإقلاع عكس الزمن»، وهذه الرواية نفسها تهاجر اليوم من بلد الى آخر،حيث تمت ترجمتها الى عدة لغات، الألمانية والدانماركية وغيرها... وعندما تسألها عنمعنى الكتابة وأهميتها بالنسبة إليها تقول: «لا أعرف لماذا اكتب! لا يمكن حصر هذاالعمل بمعنى أو بمكان وزمان محددين. فهناك عوامل عديدة تتآلف في كل زمان ومكان. هذاالعمل هو فن إبداعي، وهو من اختراع الكاتب وتصوره للعالم».
الكتاب مرساة أمان
الكتاب حسب رأيها سوف يبقى الأساس للحضارة في العالم أجمع، فالانترنت لن يلغيهأبداً. أما ما تخشاه فهو أن يكون المستقبل جارفاً لشخصيتنا، وليس لحضور الكتابوحسب. ذلك أننا ما نزال غارقين في التقاليد ولم ننضج بعد، نقبل على ما يأتي اليناشأن كل مستهلك. الغزو الثقافي يأخذنا على غفلة من زماننا ويشدنا الى إغراءات تقاربما يُغري الأطفال من جديد الألعاب. وما لم يبقَ الكتاب مرساة الأمان فلن نفلح فيالتقدم، مهما بلغت نسبة اتقاننا للعبة الإنترنت.
اللغة صلة الوصل
لا شك بأن الترجمة تعطي العمل الأدبي بعداً جديداً، وهي من جهة شهادة على بلوغهمستوى العالمية، ومن جهة اخرى بمثابة جسر للتواصل بين ثقافات وحضارات مختلفة. ومعترجمة العديد من كتب إميلي نصرالله الى لغات أجنبية، تعززت جسور التواصل بين الأدباللبناني وقراء في أنحاء مختلفة من العالم. هذا التواصل ينحو الى ان يكون مباشراًاحياناً كثيرة، فثمة آلاف السياح العرب والأجانب يزورون الروائية إميلي نصراللهسنوياً، ويقفون على رأيها حول روايات لها قرأوها بلغتهم، او يسألون عن الرسائلالإنسانية التي قصدتها في رواية أو قصة.

الكاتبة ومملكتها الصغيرة
إميلي نصرالله متزوجة من الكيميائي فيليب نصرالله، ولهما أربعة أولاد.
رمزي: خريج جامعة تكساس في هيوستن في الولايات المتحدة الأميركية بإدارة الأعمال، وهومتزوج من السيدة سيلفا أسيليان ولهما ولدان، جاد ولبنة.
مهى: خريجة الجامعةالأميركية في بيروت في الهندسة المعمارية، متزوجة من الفنان الرسام وسيم قسيس ولهماإبنتان توأمان، نور ورضا.
خليل: مهندس زراعي، خريج الجامعة الأميركية في بيروت،وجامعة غويلف في كندا، وهو متزوج من الصحافية الأميركية المعروفة عالمياً ساراغاوتش، ولهما ولد يدعى رامي.
منى: درست الطب في الجامعة الأميركية في بيروتوتخصصت في كليفلاند كلينيك في أوهايو في الولايات المتحدةالأميركية.

أعمالها

للروائية إميلي نصرالله إنتاجضخم وغزير، نشرت بعضه، وترجم معظمه الى أكثر من لغة، وأبرز اعمالها ما يلي:
*
روايات:
-
طيور أيلول، 1962.
-
شجرة الدفلى، 1968.
-
الرهينة، 1974.
-
تلك الذكريات، 1980.
-
الاقلاع عكس الزمن، 1981.
-
الجمر الغافي، 1995.
* مجموعة قصص:
-
جزيرة الوهم، 1973.
-
الينبوع، 1978.
-
المرأة في 71قصة، 1983.
-
الطاحونة الضائعة، 1984.
-
خبزنا اليومي، 1990.
-
محطاتالرحيل، 1996.
-
الليالي الغجرية، 1998.
-
أسود وأبيض، 2001.
-
رياحجنوبية، 5002.
* مؤلفات الأولاد:
-
الباهرة (رواية)، 1975.
-
شادي الصغير (كتاب قراءةللأطفال)، 1977.
-
يوميات هرّ (رواية)، 1977.
-
روت لي الأيام (مجموعةأقاصيص)، 1997.
-
الغزالة، 1998.
-
أندا الخوتا، 2000.
-
على بساط الثلج (رواية)، 2000.
-
أوراق منسية (مجموعة أقاصيص)، 2001.
* أعمال مختلفة:
-
في البال (ذكريات صحافية)، 2000.
-
نساء رائدات (سيرةفي ستة أجزاء)، 2001.
* أعمال مترجمة:
صدرت عدة ترجمات لأعمال الأديبة إميلي نصرالله، وقد توالىظهور الترجمات كما يلي:
-
الاقلاع عكس الزمن، بالانكليزية (1987)، وبالألمانية (1991)، وبالدانمركية (1993).
-
طيور أيلول، بالألمانية (1998).
-
بيت ليسلها، بالإنكليزية (1992).
-
خطوط الوهم الرائعة باللغتين الإنكليزية والعربية (1995).
-
تحويل رواية الاقلاع عكس الزمن الى كتاب سمعي بالدانمركية، (1996).
-
الرهينة، بالألمانية (1996).
-
يوميات هرّ، بالألمانية،والإنكليزية، والإيطالية، والهولندية (1998-2001)، وبالتايلاندية العام 2005.
-
تلك الذكريات، بالفنلدية (2004).
جوائز وتقدير
تعتبر الأديبة المبدعة إميلي نصرالله، أن تكريم الكاتب يأتي من خلال عمله. فإما أن يكرمه هذا العمل وإما أن يهينه. لذلك فهي تعتذر عن أي تكريم أو وسام. وعلى الرغم من ذلك، فقد نالت العديد من الجوائز والأوسمة عن أعمالها الروائية والأدبية من عدة جهات أبرزها:
- جائزة أصدقاء الكتاب - لبنان.
- جائزة الشاعر سعيد عقل - لبنان.
- جائزة مجلة فيروز - لبنان.
- جائزة جبران خليل جبران - من رابطة التراث العربي في أوستراليا.
- إقرار مؤلفاتها مادة إلزامية لشهادة الماجستير والدكتوراه - جامعة القديس يوسف - بيروت.
- جائزة مؤسسة «إيبي» (ibby) العالمية لكتب الأولاد على «يوميات هرّ».

وتقديراً لمؤلفاتها وأسلوبها الأدبي المتقن، أصبحت كتبها في صلب مناهج الطلاب في المرحلتين الثانوية والجامعية، وانبرى الكثيرون لدراسة أسلوبها في الأدب والقصة والرواية، وقد قدم العديد من الباحثين اطروحاتهم الجامعية عن إميلي نصرالله.

تصوير: الجندي بلال العرب

ايوب صابر 05-29-2012 09:28 AM

إملي نصر الله، إبنة كوكبا والكفير.. عن المرأة المقهورة والذاكرة الريفيّة
كامل جابر 3\3\2009 | الأخبار
لم يكن سهلاً الوصول إلى المبنى الذي تقطن إملي نصر الله وعائلتها إحدى شققه منذ أربعين عاماً...
تنسيك أناقة البيت ما دار في الخارج. فقد كلّفت عودة هذا البيت إلى الحياة مبالغ طائلة مصحوبة بآلام خسارة «ذاكرة»، بعدما أحرقه القصف الإسرائيلي عام 1982، مع مكتبته التي احتوت على مخطوطات صاحبته وقصاصاتها الأدبية غير المنشورة. إصرار هذه السيدة يمسح «تاريخ الحرب التي مرّت من هنا»، لكنّ إملي نصر الله حانقة على مآل العاصمة. «صارت المكان الذي لم يعد يتسع للبسطاء والعاديين، بعدما تقاسمتها السياسة والأعمار».
منذ انطلاق إرهاصاتها الأدبيّة الأولى، في قرية الكفير الجنوبيّة، كانت مسكونة بالرحيل الدائم. «عندما أتيت إلى بيروت، جعلني الانتقال أعي معنى ترك المكان الأول والدخول في عالم بارد وغريب، حيث عليك أنت أن تشقّ سبيلك بمهارتك وصلابتك».
حين كرّمها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» في النبطيّة في نيسان عام 2006، لامست اللفتة حنين الأديبة غير المنقطع إلى جذور الجنوب. هذا الشوق يلاحق إملي نصر الله في مجمل أعمالها، ويحملها نحو كوكبا، قرية والدها الفلاح داوود أبي راشد، ونحو الكفير، بلدة والدتها وملعب طفولتها، حيث كانت حكايات جدتها مداد حلمها وحيث صمّمت: «أريد أن أكون كاتبة وأديبة».
من أين جاء ولعها هذا؟ «ربما كان السبب توقي إلى الهرب من محيطي الضيّق؛ حسبت أن الكلمة طائر مجنّح أتعلّق به وأرحل». ظلت تراقب عبور الطيور المهاجرة، عاماً بعد عام، إلى أن انتشلها مما هي فيه من ارتباك، طائر تلك الطيور التي هاجرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى: خالها أيوب أبو نصر الكاتب والعضو في «الرابطة القلمية». كان قد عاد من نيويورك ليسكن الدار، وليروي على مسامع إملي قصص الفتيات في أميركا. كتبت تطلب من خالها توفيق، مساعدته المالية لكي تعبر الجسر، إلى ما هو أبعد من مدرستها الابتدائية، والصف الثالث والأخير فيها. «أنا ابنة مجتمع محافظ جداً، كان والدي يريد أن يحجّبني مثلاً، معتبراً أن المسموح به للذكر غير مباح للأنثى... ما جعلني أثور على ما أنا فيه». وحين قررت الذهاب، سألتها صديقتها مرة: «أنت بنت، وبتروحي وحدك على بيروت؟... بيجرصوكي». العبارة تصيبها في الصميم، فترد: «ولكنني ذاهبة لأعمل وأكمل دراستي الجامعية».
إلى بيروت تصل عام 1953، تحمل فوق منكبيها كل الوصايا المستحيلة. درست في جامعة بيروت، أي الجامعة الأميركية اليوم، وسكنت في معهد داخلي وعلّمت فيه لقاء إقامتها المجانية. كانت تسير في الشوارع، شاعرة بأنها مراقبة من عيون الناس الذين أحبّتهم وكتبت حبها لهم ولومها أيضاً، في روايتها الأولى «طيور أيلول». لم تكن تتوقع أن يقرأها أهل بلدها كما فعلوا في باكورة أعمالها التي لا تزال تطبع، ويعاد طبعها، و«تزوّر أيضاً»... تقول: «لن أستطيع وصفاً للرعب الذي أصابني إثر صدور تلك الرواية (1962)، وثقل المسؤولية التي وضعها النقاد والقراء فوق منكبي، وهم يمتدحون العمل الأول».
بدأت عملها الصحافي طالبة جامعية، وتسجلت في نقابة الصحافة منذ خمسين عاماً. أهّلتها انطلاقتها في «صوت المرأة» للوصول إلى «دار الصياد» عام 1955، حيث عملت مع سعيد فريحة، ودخلت عالم الصحافة من بابه الواسع، وكان راتبها 200 ليرة. تجنّبت السياسة وتعاملت بجفاء مع السياسيين والحزبيين، وكتبت في زاوية «الدور والقصور». هذا العمل خوّلها دخول البيوت المخملية في بيروت، فتعرّفت إلى ربّاتها واستوحت من تجاربهن الحياتية بعض عناوين القصص ومدلولاتها.
تقول في مذكراتها «في البال»: «حين أتحدث عن المخاوف التي كانت تحيط بي، وتحدّد سلوكي، فلكي أشير إلى طبقات القمع، والتحجيم التي تتراكم فوق هامة الكيان الأنثوي، في مجتمعنا، منذ أن تفتح البنت عينيها على الوجود. وهي إذا قدّر لها، في ما بعد، أن تنهض منها وتقاوم، فقد تمضي عمرها وجهدها، وقد تنفق عصارة علمها، في محاولة تفكيك تلك التعقيدات التي لم تولد معها وفي تفسيرها وفهمها، ولا هي في الطبيعة البشرية، بل متوارثة من ترسبّات وتقاليد، وقيم تتوارثها الأجيال ولا يجرؤ جيل على نزعها أو مواجهتها».
تعترف نصر الله بأنّ صدمة الحرب التي أصابت لبنان عام 1975، أصابتها، فتوقفت عن الكتابة ليقتصر نشاطها على العناية بأسرتها وبيتها. «لم يعد همّي التعبير عن أحوال المرأة المقهورة، بل كيف نحمي أنفسنا من الموت، وبيوتنا من الدمار». في تلك المرحلة، انصرفت إلى كتابة قصص الأطفال لا لتنشرها، «بل لأقرأها مع أولادي، كي ألهيهم عن عنف يدور في الخارج. في الوقت ذاته، اعتبرت كل ما سبق أن كتبته ساقط، ولم يعد ذا معنى، أمام الأحوال المستجدة».
وكانت قصص الأولاد والأطفال عند إملي نصر الله زورق العبور إلى ما كانت تبحث عنه، إذ دخلت مرحلة القصة القصيرة. ثلاثة عناوين استأثرت باهتمامها في كتابة القصة، المرأة ـــ مع أنّها تقول إنها ليست كاتبة نسوية ـــ الهجرة، والحرب. «لا أدّعي أني كتبت رواية الحرب، بل كتبت على هوامشها، وأبطال قصصي هم الضحايا».
بعدما قامت برحلات عدّة إلى أميركا الشمالية، وخصوصاً كندا، كتبت «الإقلاع عكس الزمن» التي ترجمتها «وزارة تنوّع الثقافات» إلى الإنكليزية، وتلتها ترجمة مؤلفاتها إلى لغات مختلفة. وحين غادرت لبنان عام 1988، لتقيم مع زوجها فيليب الذي هجّرته الحرب إلى مصر بعد نكبة مؤسساته التجارية. «رحت أداري الشوق إلى الوطن وأهله، بالكتابة الهاربة من الحاضر، إلى ماض بعيد، وقد اخترت زمان جيل سابق، لكن في مدار الاغتراب». وانطلاقاً من حنينها إلى «جورة السنديان»، قريتها الكفير، قرّرت «استخدام لغة تكاد تنقرض من وعي جيل الشباب في المدن، هي لغة الأهل والأجداد» فكتب النقاد أنّها «رفعت تمثالاً للغة هي في سبيل الانقراض».
تعترف إملي نصر الله بأن الكتابة للصغار، أصعب من الكتابة للكبار... وهي مستحيلة إن لم يكن «الطفل ما زال يقظاً في أعماقنا». ترى أنّ روايتها «زيكو» أو «يوميات هرّ»، «رسالة عن الأطفال في زمن الحرب»، وهي رواية باتت كتاباً عالمياً تُرجم إلى أكثر من لغة، وصولاً إلى التايلاندية. كما حازت جائزة مؤسسة IBBY العالميّة للكتاب، وترجو أن يكون لها المفعول الذي حلمت به «الإقلاع عن ممارسة عادة كريهة جداً، هي الحرب».
بعد هذه المسيرة الطويلة، ما زالت تعتبر نفسها تلك الفلاحة الريفية التي ارتبطت بحقول قريتها وأحبّتها، ومارست «طقوس» العمل فيها. «عندما أرخيت من يدي المحراث، أمسكت بالقلم لأواصل الحراثة والغرس، على رجاء أن تنقل كلماتي ما يختزن صدري، من محبة، ودعوة لأجل السلام والحرية».
5 تواريخ
1931
الولادة في كوكبا، جنوب لبنان... ثم النشأة في الكفير، بلدة أمها 1955
بدأت عملها صحافية في «دار الصياد 1962
صدرت روايتها الأولى «طيور أيلول» ونالت فور صدورها ثلاث جوائز أدبية
1987
ترجمة رواية «الإقلاع عكس الزمن» ما فتح الباب أمام ترجمة أعمالها إلى الهولندية والألمانية والتايلاندية والفنلندية وغيرها 2009
تعمل على إصدار ديوان «تجليات» وهو تأملات شعرية من الحب الصوفي والغزل

ايوب صابر 05-30-2012 10:19 AM

العوامل الحياتية التي أثرت في تكوين الروائية إميلي نصر الله



- ترى ما الذي دفعها لكتابة تلك الرواية، هل مجرد الحنين للقرية، وهي المتحدرة من أصل قروي وجذور ريفية- كوكبا- ولاحقاً انتقالها لقرية الكفير المجاورة لكوكبا في جنوب لبنان، أم هجاء المدينة؟! وهي قد سكنتها، لتعود إلى قريتها، كما عودة بطلتها «منى» في نهاية روايتها الأولى، القرية ستصبح مدونتها المترعة بسحر خالص وبعفّة لا نظير لها، محمولة على شغفها الخاص بحكايات جدتها ونظيرتها في الرواية «حنة» الحكّاءة البارعة
- ولدى إملي نصر الله، يفيض الريف «القرية» كعلامة سردية ساطعة، بأصوات الذاكرة الأولى ولاسيّما جدتها لأمها، تقول الكاتبة: «إن جدتي هي زاوية السحر في حياتي، لها طريقة فريدة في القص والحكي، وعندما كبرت كان لابد أن أقول للعالم قصتي عرفت طريقها من حكايا جدتي».
- فضلاً عما يتكشّف في الرواية من موضوعات، بملاحظة السياق التاريخي: الهجرة والحب ورهانات العواطف وهجاء المدينة، والثورة على التقاليد، وعبر مشهديات متواترة بدلالة الطيور المهاجرة التي تمر فوق القرية، وتسجل نقطة جديدة في دائرة الزمن، إذ نتعرف على الوجوه والأحلام «مرسال وراجي وأنجيلينا ومريم وفواز ونجوى ومنى» شخصيات تصارع أسواراً عالية من تقاليد ومفاهيم وأقاويل وقصص حب مكتومة، فالقرية تحيا على الحب وتعيش حكاياته في الفصول الأربعة لكنها تأبى أن تسمع أخبار الحب!.
- إيقاع الحياة.. إيقاع الموت.
- ثمة تبادلية تحكم إيقاع الرواية، تتمظهر في ثنائيات لاحقة، الرجل والمرأة، الموت والحياة، الحب والكراهية، القرية في مقابل المدينة، «اندحار الحياة ليبسط الموت أجنحته القوية.. هي رواية الشرق حينما يستسلم للعاطفة ويدور في محرابها ناسياً كيانه ومنطقه وتفكيره».
- منى الباحثة عن الغد تستظهر دفاع الأنثى عن ذاتها، هل هي لغة الضعف؟! لتتوق إلى الحرية وتتحسّس وجودها المستقل إلى الانفلات مع ذاتها المنفصلة عن الجميع، ولتدفع الصراع إلى ذروته «المدينة تمسخني والقرية تنكرني» فالغد أكبر من الحاضر والحلم أعظم من الواقع
- هناك يرى بأن الرواية تلتقي مع تيار الرواية «البيسكولوجية»، التي مثلتها روايات دستويفسكي وجويس وفرجينيا وولف، واللافت مقارنتها بفرنسوا ساغان الروائية الفرنسية الشهيرة، حيث فارقتها إملي ليس بالمعنى الثقافي، بل بالمعنى الأخلاقي والفكري. وذهبت آراء ودراسات لتقول بأنها مجموعة لوحات وذكريات عن قصص جرت في القرية، وبأن الكاتبة قست على المهاجر
- إن أكثر الدراسات إنصافاً للتجربة الروائية الأولى لإملي، جعلت منها محاولة فنية جريئة، ورمزاً للأدب الواقعي الحر والرفيع وهي بمثابة «غرازيلا» للامارتين في الأدب الفرنسي،.. وبالطبع ثمة من قرأ تأثير جبران خليل جبران في روايتها، وأنكر عليها استدخال «العامية» اللسانية في روايتها؟!
- جوهر الاهتمام ليس مجرد وضع النساء، بل هو الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ولهذا السبب يصبح تحرير المرأة ضرورة وطنية وسياسية».
- في روايتها التي صدرت بعد اثنين وثلاثين عاماً على صدور طيور أيلول، بعنوان «الجمر الغافي» إذ تنزع الكاتبة الأقنعة الداخلية والخارجية لوجه «حارة الجورة» وحكاياتها الكثيفة، لتكشف حقيقة الزمن وتواشجه مع الذكريات الجارحة، وتذهب أكثر في استكشاف «ظلام القهر وعجز البراءة» ونموذجها الدال «ليا» التي لم تسع إلى اختراق الدائرة لتقف في وجه الشمس وبقيت متوارية خلف فرح غامض في ذاتها
- لقبت أثناء دراستها الجامعية بالفيلسوفة المتشائمة.
- نالت الأديبة إملي نصر الله عدة جوائز: جائزة سعيد عقل عن كتابها طيور أيلول ومما قاله الشاعر عقل في المناسبة: «سبر أغوار، ومسحة حزن لا تنقطع ولوفي الفرح وغالباً بث شعري أخاذ، وفي الحالات جميعاً، قلم نظيف كأنما القدر نفسه عجز عن تلطيخ الجمال في لبنان... الأرض تعيش وتتألم كامرأة تحب».
- روّضت الظروفالصعبة لتتابع دراستها. في الكلية الوطنية «سرقت» كتب جبران ونعيمة من المكتبةلتشبع نهمها للقراءة. وعلى ابواب الجامعة كان عليها ان تناضل من جديد، فعملت بعزمالجبابرة في التعليم والصحافة لتغطي تكاليف دراستها
- عاشتإميلي نصرالله طفولتها كغيرها من أطفال القرى، فقد عملت في الحقول، وشاركت في جنيالمواسم، من قطاف الزيتون الى حصاد القمح وسواهما، فأغنت هذه الحياة ذاكرتها. معالحرف الأول الذي تلقنته ابنة الست سنوات، بدأت رحلة المعرفة لديها ورحلة غرامبالكتاب، لكن شوقها للمعرفة كان سابقاً لدخولها المدرسة، وهي تصف تلك المرحلةفتقول: «كان منزلنا مجاوراً لمدرسة القرية التي تستقبل تلامذة الست سنوات وحسب،وكنت أهرب من المنزل وانا في عمر الأربع سنوات، واسترق السمع من نافذة الصف وأحفظالشعر والقصص... فكم حفظت من الأشعار وأسمعتها لوالدي وهو يجلس على المصطبة يشربالقهوة مع أصدقائه
- نَشرُ مقالاتها في الصحفالبيروتية، منحها الحافز للتطور والنجاح وروح التحدي، لكنه جعلها موضعاً لسخريةالصبية في المدرسة الذين راحوا يرحبون بها بالقول: «أهلاً بالأديبة
- منذ انطلاق إرهاصاتها الأدبيّة الأولى، في قرية الكفير الجنوبيّة، كانت مسكونة بالرحيل الدائم. «عندما أتيت إلى بيروت، جعلني الانتقال أعي معنى ترك المكان الأول والدخول في عالم بارد وغريب، حيث عليك أنت أن تشقّ سبيلك بمهارتك وصلابتك».
- من أين جاء ولعها بالكتابة؟ تقول «ربما كان السبب توقي إلى الهرب من محيطي الضيّق؛ حسبت أن الكلمة طائر مجنّح أتعلّق به وأرحل».
- تقول أنا ابنة مجتمع محافظ جداً، كان والدي يريد أن يحجّبني مثلاً، معتبراً أن المسموح به للذكر غير مباح للأنثى... ما جعلني أثور على ما أنا فيه». وحين قررت الذهاب، سألتها صديقتها مرة: «أنت بنت، وبتروحي وحدك على بيروت؟... بيجرصوكي». العبارة تصيبها في الصميم، فترد: «ولكنني ذاهبة لأعمل وأكمل دراستي الجامعية».
- تقول في مذكراتها «في البال»: «حين أتحدث عن المخاوف التي كانت تحيط بي، وتحدّد سلوكي، فلكي أشير إلى طبقات القمع، والتحجيم التي تتراكم فوق هامة الكيان الأنثوي، في مجتمعنا، منذ أن تفتح البنت عينيها على الوجود.
- تعترف نصر الله بأنّ صدمة الحرب التي أصابت لبنان عام 1975، أصابتها، فتوقفت عن الكتابة ليقتصر نشاطها على العناية بأسرتها وبيتها. «لم يعد همّي التعبير عن أحوال المرأة المقهورة، بل كيف نحمي أنفسنا من الموت، وبيوتنا من الدمار».
- حين غادرت لبنان عام 1988، لتقيم مع زوجها فيليب الذي هجّرته الحرب إلى مصر بعد نكبة مؤسساته التجارية. «رحت أداري الشوق إلى الوطن وأهله، بالكتابة الهاربة من الحاضر، إلى ماض بعيد، وقد اخترت زمان جيل سابق، لكن في مدار الاغتراب».
-- أصبحت الأديبة إملي نصر الله أشهر من أن تُعرّف ، بقلمها السيّال وأسلوبها الرّشيق الشيّق في معالجة المواضيع الإنسانية ، حيث تنقلك من الخيال النرجسي ، إلى واقع الحياة المرير أحياناً ، والمتناقض في أكثر الأحيان ، فتميّزت بالطابع الإنساني .

- تدور قصص وروايات نصراللّه حول الجذور العائلية، الحياة في القرية اللبنانية، الإغتراب والهجرة، نضال المرأة في سبيل المساواة والتحرّر وخصوصاً حرّية التعبير، ثم الحرب، وقد عانتها مع عائلتها ومواطنيها. وقد احترق منزلها العائلي، مع مجموعة مخطوطات إبّان الإجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982
- تقول ان اسباب الظلم متعددة، منها عزل الارياف وفقرها وحاجتها للحد الادنى من الشروط التي ترضي اهلها او توفر وعوداً للأجيال الصاعدة. في رواية «طيور ايلول» عبرت عن هذا الواقع الذي يجعل المهاجرين اشبه بطيور نجت من اقفاصها.
- وبالعودة الى تجربتي الشخصية، اذا كان السؤال عنها، فانني اعتبر ان الرجل كان عنصر توازن في حياتي فأبي كان رجلاً فقيراً واضطر لان يكتفي بتعليمنا انا واخوتي في مدارس الضيعة التي سقفها، ثلاثة صفوف ابتدائية ثم يذهب الصبيان الى الحقل وتنتظر الفتيات نصيبهن، لكن، لحسن الحظ شاءت الظروف غير ذلك.
- حينها كنت كما كل اولاد الفلاحين في القرية نذهب الى الحقل ونحصد بأيدينا، نلمّ الزيتون ونقطف العنب باختصار. كنا ايدياً عاملة في سن لم تتجاوز الثامنة.
- أنا استلهم حياتي منذ روايتي الاولى «طيور ايلول» وصولاً الى عملي الاخير واكتب عن الهجرة والاغتراب لأن عائلة امي كلها مهاجرة ولم يبق منهم في لبنان سواي، كذلك استلهم طفولتي وقريتي وحياة الناس الذين اعرفهم.
- تقول أشعر بشيء من ذلك، ويخيل اليّ انني في حوار دائم مع موتاي، هناك تواصل مستمر بيني وبينهم، واستمد العزم من قوتهم. صحيح، عندي تصوف خاص بي، ولي علاقة خاصة مع الانسان والطبيعة متداخلة ولا استطيع ان أرى في الموت نهاية لهذا العالم.

على الرغم ان البنود اعلاه تشير الى طبيعة الحياة القاسية والفقر والعزلة والغربة والهجرة للاهل وما الى ذلك وهي كلها اسباب كفيلة بولادة العبقرية والابداع لكن ربما ان العلاقة مع الجدة ومن ثم موت الجدة والذي لا نعرف متى حصل هو السبب المباشر وراء تفجر طاقات املي نصر الله الابداعية. كما لا يظهر هنا تفاصيل عن حياة الوالدين والاصح ان نعتبرها مجهولة الطفولة لكن وحيث انها عاشت حياة يتم اجتماعي بسبب سفرها الى بيروت للدراسة وهي صغيرة وعليه سنعتبرها يتيمة اجتماعيا .

يتيمة اجتماعيا.

ايوب صابر 05-30-2012 02:50 PM

94- المؤامرة فرج الحوارتونس


الإهداء في بعض روايات فرج الحوار




محمد نجيب العمامي



كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة تونس



تمهيـد



ليس من العسير على متصفّح روايات فرج الحوار المكتوبة بالعربية أو الفرنسيّة الوقوف على ولعه بالعتبات. وهذه العتبات أصناف منها العناوين والتقديم والتمهيد والتصدير والإهداء. ويعتبر الإهداء من العتبات الثابتة في هذه الروايات. والإهداء، برأي جونات، مصطلح يطلق على شكلين من الممارسة بينهما قرابة. ويتمثّل الشكلان في منح الكاتب كتابه لشخص ما أو لمجموعة حقيقيّة أو مثاليّة من الأشخاص أو لأيّ كيان آخر. إلاّ أن الشكلين يتمايزان. فأحدهما يخصّ الحقيقة المادّيّـة لنسخة بعينها ويجسّم التبرّعَ بها أو بيعَها وثانيهما يخصّ الحقيقة المثاليّـة للكتاب ذاتـه الذي لا يمكن امتلاكه (وبالتالي التخلّي عنه) إلاّ رمزيّا(1). ولن نهتمّ بالشكل الأوّل بل سنقصر النظر على الشكل الثاني. ولما كان فرج الحوار من الروائيين المكثرين وممن يكتبون باللغتين العربيّة والفرنسيّة رأينا أن ندرس الإهداء في بعض رواياته المحررة بالعربيّة وتحديدا في الروايات الأربع الأولى أي في "الموت والبحر والجرذ"(2) و"النفير والقيامة"(3) و"المؤامرة"(4) والتبيان في وقائع الغربة والأشجان"(5) . وسنحاول تناول مبحثنا وفق أربعة محاور هي مواطن الإهداء وأصناف المهدى لهم وعلاقة الإهداء بسائر العتبات وبالمتن الروائيّ وأخيرا وظائف الإهداء.


1 ـ مواطن الإهداء


ظهرت كلّ إهداءات مدوّنتنا مرافقة للمتون الروائيّة للطبعات الأولى. وقد يكشف هذا الإصرار على الإهداء أهمّيّة هذه الممارسة في نظر الكاتب، ذاتها المنتجة. واحتلّت هذه الإهداءات موطنين مختلفين نسبيّا. ففي "الموت والبحر والجرذ" وفي "التبيان في وقائع الغربة والأشجان" تلا الإهداء تقديم الرواية. وهو تقديم أنجزته ذات منشئة مختلفة عن الروائيّ. فالرواية الأولى كتبتقديمها عبد الفتاح ابراهم(6) في حين قدّم الثانيةَ عبد العزيز شبيل(7) . أمّا "النفير والقيامة" و"المؤامرة" فتلا الإهداءُ فيهما صفحة العنوان الداخليّة. وقد نفهم من تأخير الإهداء في الروايتين الأوليين أنّ المؤلّف يعتبر التقديم مكوّنا انتماؤه إلى نصّه ليس انتماء عضويّا وذلك بخلاف الإهداء بل لعلّه يعتبر الإهداء أقرب إلى المتن الروائيّ منه إلى الكتاب. ومثل هذا القرب وذلك الانتماء، إن صحّا، قد يدلاّن على أنّ الإهداء، لدى فرج الحوار، ليس عتبة شكليّة. وهذه الدلالة المزدوجة المحتملة قد يدعمها تنوّع الإهداء من رواية إلى أخرى وحجمه النصي الممتدّ نسبيّا. ولعلّ التعرف إلى المهدى لهم يعمّق معرفتنا بالإهداءات وصاحبها.


2 ـ المُهدى لهم


المهدى لهم في الروايات الأربع صنفان كبيران، المهدى لهم غير المباشرين والمهدى لهم المباشرون أو الرسميّون حسب تسمية جونات. وهم المعيّنون تعيينا فرديا أي المشار إليهم بالاسم. ويتكوّن هذا الصنف الثاني من مجرّدات ومحسوسات. والمجرّدات هي العفن والأمل والحداثة. أمّا المحسوسات فبشر. والبشر نفس الكاتب(8) التي خصّها وحدها بإهداء رواية "المؤامرة" وأشركها مع غيرها في إهداء رواية "الموت والبحر والجرذ". والبشر كذلك أهل وأصدقاءُ وأساتذة ونكرات. والأهل أمّ وزوجة وثلاثة أبناء، نهى ووائل ولينا. والأصدقاء كلّ الخلان وعبد الفتاح ابراهم. والأساتذة واحد هو الأستاذ توفيق بكّار. أمّا النكرات فهم، في الواقع، معارفُ في مرتبة النكرات. وهم: "الإنسان" و"كلّ الناس" و"كلّ الأطفال" و"الرجال والنساء-الأسلاف والأحلاف وكل من رفع لواء الإنسان".


ولعلّ الإهداء الوحيد الذي يبدو تقليديا، من زاوية المهدى له، هو إهداء "النفير والقيامة". فهو مهدى للأمّ والزوجة والبنت البكر وللصديق الأخ عبد الفتاح ابراهم وللأستاذ توفيق بكار. أما سائر الإهداءات ففيها، من الزاوية نفسها، تجديد. وسواء بدا الإهداء تقليديا أو اتسم بطابع التجديد فهو يشفّ عن نمط العلاقة القائمة بين المُهدي والمهدى له. وهي علاقة شخصية حينا وعامّة حينا آخر. فقد أهدى فرج رواياته إلى بعض من جمعته بهم قرابة العائلة والدم وعلاقة الصداقة. وأهدى رواياته كذلك على قاعدة العلاقة الأدبيّة حينا والفكريّة حينا آخر. فعبد الفتاح ابراهم والأستاذ توفيق بكّار بؤأتهما العلاقة الأدبيّة الفنيّة محلّ المهدى له المعترف له بالجميل. أما المجردات ومن أسميناهم "النكرات" فالعلاقة بينهم وبين الروائيّ لا تدرك إلا في مستوى الفكر وحده.


وإنّ المتأمّل في قائمة المهدى لهم الرسميّين وفي نصوص الإهداء ليستكشف قيام هذه النصوص على مقابلة بين عالمين لا أمل في تعايش إيجابيّ بينهما. العالم الأول هو عالم العفن، والخوف والأشواك والداء والأعداء، ومزارع القحط ينتعش فيها العدم. وهو عالمُ الحرف المظلم والهراوة المشرعة وقطاع الطريق وحرائق الهزائم(9) والغلبة والاندحار(10) والعراء والصحراء والمنفى(11) والجنون والكواسر والأوثان والأنقاض والطواعين والأوبئة والغيلان والأشباح والابتزاز والتكرار والبتر والخلط القبيح ومطامع الظلام(12) . أمّا العالم الثاني فهو عالم الأسرة والأم والصديق والخلان والأستاذ والأطفال والأسلاف والأحلاف الذين سفحوا حبرهم وأرواحهم مدائح تحض الشمس على الانتشار وكل من رفع لواء الإنسان. وهو عالم الحداثة والحلم والأمل واليقين والشمس والنور والتوق والصمود والحياة وبشائر الانتصار.


هذان العالمان المتقابلان هما عالما الخير والشرّ. وبينهما صراع قائم لا يني مداه الجغرافي غالبا ما يضيق فلا يتجاوز حدود "حارة" الكاتب، وطنيه التونسي والعربيّ. ولكنه يتّسع في أحيان أخرى قليلة فيشمل العالم الرحب، عالم الإنسان. وهذا الصراع غير متكافئ بسبب غلبة الشرّ غلبة صار معها عالم الخير حلما ومناط توق وشوق. ولعلّ قيام كلّ الإهداءات على هذه الثنائيّة يوحي بأنّ هذه الثنائيّة ستكون أسّ المتون القصصيّة. وهذا الاحتمال ترجّحه عناوين الروايات التي لم تخل، إن صراحة أو ضمنا، من مقّومي هذه الثنائيّة.


إنّ القول بانفتاح محتمل للإهداءات على المتون يجد مبرّره في الصنف الثاني من المهدى لهم الذين اعتبرناهم غير مباشرين. ونعني بهم القرّاء. وفي هذا الصدد يرى جونات أنّه مهما يكن اسم المهدى له الرسميّ فثمّ دوما لبس في وجهة الإهداء أو هدفه. فالإهداء لا يستهدف مرسلا إليه واحدا هو المهدى له الرسميّ فحسب بل يستهدف أيضا القارئ بما أنّ الأمر يتعلّق بعمل عموميّ أُقحم القارئ، على نحو ما، في الشهادة عليه. فالإهداء، حسب جونات، عمل لغويّ إنجازيّ عبارته: "أقول لفلان إني أقول للقارئ إني أهدي فلانا هذا الكتاب" (وبعبارة أخرى: "أقول لفلان إني أنجز له إهداء علنيا") ولكن في الآن نفسه: "أقول للقارئ إني أقول لفلان الخ.."(13) . فالقارئ، شاء أم أبى، أحد متقبلي الإهداء. وهو ما يكشف طابع الإكراه في هذا العمل الاختياريّ المسمّى بالإهداء. فالكاتب مطالب، على نحو ما، باختيار الإهداء الذي يناسب المهدى له الرسميّ. وهو مطالب أيضا بالعمل على أن يشدّ الإهداء، مهما كان خاصّا، القارئ.


ويبدو أن فرج الحوار كان واعيا بهذا الإكراه. وهو وعي نتبيّنه من خلال قرينتين: أولاهما تنويعه غالبا المهدى لهم تنويعا يتراجعون معه إلى مرتبة ثانية ليحلّ محلّهم ما يشتركون فيه والمهدي والقارئ المحتمل. أمّا ثانية القرائن فالإهداء للقارئ. ونجد مثل هذا التوجه المباشر إلى القارئ في "الموت والبحر والجرذ" وتحديدا في قول الكاتب: "إلى كلّ الناس من ثبت جواري ومن غاب عن نظري وهو منيّ إليهم جميعا مرآة يتملون فيها وجوههم. يتملّون فيها حرائق الهزائم و.. بشائر انتصار" (ص27).


إنّ التوجه المضاعف إلى القارئ وقيام كلّ الإهداءات على الثنائيّة نفسها يحتّمان تنزيل هذه العتبة في سياقها النصي والبحث عن علاقاتها بسائر مكوّنات نصّ الكاتب.


3 ـ علاقة الإهداء بسائر العتبات وبالمتن الروائيّ


يحتّم علينا المقام الاقتصار على بعض العتبات والمتون. ولقد جاءت كلّ إهداءات مدوّنات وثيقةَ الصلة بعناوينها. وقد أقام إهداء "الموت والبحر والجرذ" علاقة صريحة بينه وبين التمهيد الممضى من الكاتب. ففيه يقول الكاتب متوجّها إلى كلّ الناس: "إليهم جميعا مرآة يتملّون فيها ووجوههم". وهو قول نجد له امتدادا في أواخر التمهيد حيث يقول الكاتب نفسه: " إليكم النص فاثأروا منه لوجوهكم فيه. إليكم مرآة فانظروا فيها وجوهكم يا "محمّد". (ص35) ولعلّ الجمع بين القراء وشخصية قصصيّة محوريّة يبيّن أن الإهداء والتمهيد وثيقا الصلة بالمتن. بل إنّ رمز الوجه يتكرّر في رواية فرج الحوار الثانية "النفير والقيامة". وقد كان محورَ خمس عتبات من عتباتها وموضوعا من أهمّ مواضيع متنها. ولا يغيب الوجه عن "التبيان في وقائع الغربة والأشجان" إذ نجد له ذكرا في إحدى عتباتها. فقد جاء في العتبة "تحذير" قول المؤلّف: "هذا الكتاب خيال قحّ. بضعة من إسراف الهوس، وحلول في غسق الآية البعيدة الغور، وله حارق القول [...] فلا يذهبنّ الغرور بأحد فيتوهّمَ أنّه يرى فيه وجهه أو محلّه من الدنيا، فيكونَ من الظالمين"(ص19).


والعلاقة صريحة أو تكاد بين إهداء "النفير والقيامة" والمتن. ففي الإهداء وصف لزمن الكتابة بأنّه "زمن الغلبة والاندحار" (ص3). وفيه عرفان بالجميل للصديق وللأستاذ اللذين أعاناه على إنجاز نصّه. وفيه خاصّة إبراز لعسر الكتابة أو لـ "وعر المسالك وفظّ الطريق" (ص3) على حد عبارة الكاتب نفسه. أمّا المتن فتصوير ضاف لزمن الغلبة والاندحار، زمن حصار بيروت وتشريد الفلسطينيّين ومؤامرات أعداء الداخل والخارج. وفي المتن أيضا شكل من أشكال الكتابة ليس للقراء به ألفة أوجزه أحد الرواة في قوله: "... وجعلنا الكتاب بناء ورصدنا له أبوابا ومنافذ وجعلناه القصر المنيع لا يدخله الداخل إلاّ طرق مطيلا صابرا. إنّنا ننحِت ونحبّ الكتاب عمارة..."(ص15).


وفي "التبيان في وقائع الغربة والأشجان" لا يغيب هذا الضرب من العلاقة بين الإهداء وسياقه النصي وتحديدا بينه وبين المتن القصصيّ . وقد أشار إليه محمد القاضي فكتب مختتما دراسته الحواريّةَ في هذه الرواية: "لذلك كانت الرواية تأريخا ذاتيا مندرجا في التأريخ العامّ وبحثا عن كوّة ينفذ منها النور أكثر ممّا هي تحسّس لعالم الظلام . وهو ما يفسّر لنا ما جاء في الإهداء: "إلى الإنسان يقوّض ليقيم. وهل الإنسان إلاّ هدّام ينحِت من غُثاء الأنقاض عضل اللحظة القادمة، كواكب تربو عن جميع العدد" (ص15). (14)


يتبيّن مما سبق أن الإهداء لدى فرج الحوار يفيض على ما حوله وأنّ في الاقتصار على دراسة هذه العتبة في ذاتها، كما فعل جونات، تقصيرا يحول دون التفطّن إلى ما تنسجه من علاقات مع محيطها النصّي وإلى كل الوظائف التي يمكن أن تؤدّيها.


4 ـ وظائف الحوار


يرى جونات(15) أنّ إهداء كتاب ما هو إعلان (صادق أو غير صادق) لعلاقة مّا بين المؤلف وشخص أو مجموعة أو كيان. وبناء عليه تُستنفد وظيفةُ الإهداء الأساسيّةُ في وظيفة تدقيق هذه العلاقة. وإذا ما عدنا إلى إهداءات فرج الحوار ونظرنا إليها من زاوية المهدى له تبيّن لنا تعمّده في ثلاثة إهداءات الجمع بين مُهدى لهم لا يجتمعون عادة. فما الرابط بين العفن والحارة والخلان وكل الناس والنفس في إهداء "الموت والبحر والجرذ"؟ ولماذا الجمع، في أكثر من إهداء، بين المحسوس والمجرّد، بين البشر والقيم، سلبيّها وإيجابيّها؟


ما من شكّ في أنّ هذا الجمع وذاك الربط ليسا مجّانيين. ولعلّنا نرى في هذه الممارسة شكلاً من أشكال الخروج عن معهود الإهداءات، أي الإهداءات التي توجّه إلى سند اقتصاديّ أو راعٍ أدبيّ. وقد شذّ إهداء رواية "النفير والقيامة" عن هذا الاختيار. فكلّ المُهدى إليهم من البشر، بل وممّن لهم صلة بالكاتب، سواء كانت صلة دم أو صداقة أو أدب. ولعلّ ما يشدّنا إلى الإهداء أكثر من غيره إسما عبد الفتاح ابراهم وتوفيق بكار والدور الذي أدياه في الأخذ بيد الكاتب وفي إعانته على ارتياد "وعر المسالك وفظّ الطريق".


لا جدال في أنّ هذا الإهداء يُظهر فرج الحوار في صورة الابن والزوج والأب والأديب الناشئ المقرّ بفضل الآخرين عليه والمعترف لهم بالجميل. ولكنه ينهض في الآن نفسه بوظيفة ثانية لا تقل أهمية عن سابقتها بل لعلّها تتجاوزها. فإيراد اسمي عبد الفتاح ابراهم والأستاذ توفيق بكار يقدّمهما بوصفهما كافلين لقيمة مؤلّف فرج الحوار الأدبيّة. وفي هذا الصدد يرى جونات أنه لا يمكن، في عتبة عمل ما أو في نهايته، ذكرُ شخص ما أو شيء مّا بوصفه مرسلا إليه مميَّزا دون الاستشهاد به على نحو ما وبالتالي دون إقحامه بوصفه ملهما مثاليّا: ف "إلى فلان" تحوي دائما "عن طريق فلان". فالمُهدى له يكون دوما مسؤولا على نحو ما عن العمل المهدى له. وهو يحمل إليه، شاء أم أبى، قليلا من دعمه وبالتالي من مشاركته(16) . ويبدو لنا أنّ في هذا الرأي بعضَ مبالغة. فهو لا ينطبق، في نظرنا، على كلّ مُهدى له وإنّما يصحّ فقط بالنسبة إلى المهدى لهم المشهود لهم بالدراية في مجال اختصاصهم. وهو هنا الأدب. وبذلك يصبح الإهداء لأمثال هؤلاء ضربا من حجّة السلطة التي تدعم النص. فتعلي من شأنه. وتهيئ لتقبّله تقبّلا إيجابيّا.


يؤدّي الإهداء إذن وظيفة ذات بعد أخلاقيّ هي بالكاتب ألصق. ويؤدّي أيضا وظيفة دعم هي إلى الكتاب أقرب. وهو يؤديّ إلى جانب هاتين الوظيفتين وظيفة اللامعة أو الفاتحة (Amorce) إذ يمكّن من بعض مفاتيح قراءة المتن الروائيّ. وهو إلى ذلك يتيح معرفة أمتن بفرج الحوار الإنسان والفنان. وعن مثل هذه الوظيفة يقول بيار فان دان هوفل في معرض حديثه عمّا يسمّيه بالخطاب على الخطاب(17)(Métadiscours) : "إنّ البحث عن الذات التي ينتجها النصّ عند القراءة يمكن أن يستفيد من هذا المستوى الخطابيّ الخاصّ الذي يظهر فيه المتكلّم ، بصفة أكثر علنا، قائما بوظيفة مغايرة للوظيفة التي يجب عليه أن يشغلها في القصّة" .(18)


يتبيّن من كلّ ما تقدّم أنّ الإهداء لدى فرج الحوار ممارسة شبيهة بالطقس. وهو طقس نكاد نجزم أنّه خاصّ به وذلك من خلال الوظائف التي أدّاها سواء في علاقاته بالكاتب أو بنصّه. وقد كشفت لنا دراستُه التراتبَ بين المُهدى لهم وصلةَ بعضهم بصاحب النصّ وصلة بعضهم الآخر بالنصّ ذاته. ويلاحظ التراتب أيضا في مستوى عتبة الإهداء نفسها. فثمّة إهداءات كإهداءات فرج الحوار متعدّدة الأبعاد ومثقلة بالدلالة وثمّة إهداءات شحيحة ضنينة كقول أحدهم: "إلى رجاء وإقبال ووسام". ولعلّ هذا التراتب يسمح لنا بالتمييز بين عتبة خارجيّة تعرّفنا بالكاتب أكثر مما تعرّفنا بنصّه وعتبة داخليّة تيسّر لنا الدخول إلى النصّ وعوالمه دون أن تغفل تعريفنا بالكاتب.

ايوب صابر 05-30-2012 02:51 PM

قراءة في رواية ( صغير ) للكاتب التونسي فرج الحوار

"
أقربهم الى الأرض أكثرهم شرا " تذكرت هذا المثل القديم و المعبرو أنا أقرأ ( صغير ) احدى روايات الكاتب التونسي فرج الحوار هذا الكاتب المتمكن منلغة بودلار بقدر تمكنه من لغة المعري و الجاحظ .
فبعد ( عنتر ) و بعد ( هكذاتحدث سان أنطونيو ) و بعد ( مخلوق المياه العميقة ) وهي روايات بالفرنسية أصدر فرجالحوار ( صغير ) و هو صغير في حجمه و كبير في تصرفاته و أفعاله . بطل هذه الروايةلا يتجاوز طوله الخمسة سنتمترات فوق المتر . فقد أمه "منوبية" وهو في أشد الحاجةاليها . و أحب " جنان " حبا جنونيا و أقسم أن لا يحب سواها رغم اغراءات "شهرزاد " الملكة الأسطورية . و " نرجس" الممرضة العزباء . و " ابتسام " الحسناء زوجة ساعيالبريد .
هو في الواقع مزدوج الشخصية . محب للجميع حينا و حاقد ناقم في أغلبالأحيان . قصر قامته كان السبب الرئيسي في كل اضطراباته و تصرفاته التي أنهاهابجريمة قتل ذهب ضحيتها " سي التيجاني " عطار الحي المركانتي .
الرواية في خمسةفصول . و الكاتب وضع عناوينا جد معبرة لهذه الفصول . فجاءت على النحو التالي :
(
في البدء يتكون الحلم ) و يتدرج بالحلم الى الواقع المتقلب حيث ( كل شيء يشبهقليلا الشذوذ الغريب في دنيا الأضواء ) في الفصل الثالث يؤكد الكاتب بأنه لا يوجدبين الوهم و الحقيقة مانع أو خندق أو حتى فصال بسيط . كما يؤكد في الفصل الرابعبأنه لا يوجد دخان بدون نار . و في الفصل الخامس يحيلنا الى النهاية حيث تتشكلالرواية .
لقد تعمد فرج الحوار هذا التقسيم حتى يؤكد تورطه في استغلال التراثالعربي و الاستنجاد ببعض الشخصيات الأسطورية و جعلها تتفاعل مع العصر الحاضر بكلطقوسه حيث حضر زوجها الملك في صورة شرطي المرور بحزامه الجلدي العريض و قد تدلت منههراوة بيضاء يخافها المارون و الواقفون على الرصيف و كذلك العابرون من الرصيف الىالرصيف . و في اللحظة ذاتها يحضر البساط الطائر و التنين الذي يبصق النار و منهجاءت فكرة الثعابين التي تبصق النار و التي وردت في كل فصول الرواية و يقصد بهاالمسدس الذي لا يقدر عليه الا أصحاب السلطة و الجاه .
لقد جعل الكاتب من صغيرهبطلا أسطوريا و بعد أن كان كل البشر يحتقرونه و يشككون في رجولته و حتى في انسانيتهصار يهابه كل الناس و يقرؤون له ألف حساب . حتى عطار الحي " سي التيجاني " أصبحيخشاه و يخاف بطش ثعبانه الصغير الذي بات لا يفارق جيبه . و قد كانت نهايته علىيديه ذات قيلولة أحد أيام الصيف .
و لعل الكاتب أراد أن يشير الى أن الغلبة فيهذا الزمن الرديء صارت للأقوى . و القوة لا تكمن في الجسد أو الفكر أو المال و انمافي السلاح الذي تملكه .
و قبل أن أختم هذه القراءة البانورامية لهذه الرواية لابد أن أشير الى أن " فرج الحوار " هو شاعر بالأساس و قد أهدى " صغيره " الى أمه حيثقال :
اليها
الى التي علمتني أن الليل الأكثرظلمة
ما هو سوى وهم ...
أو خدعة تخفي خوفنا الحقيقي من الشمس ...
الى أمالزين
أمي التي تعلمني بصبرها ...
بمثابرتها و اصرارها
أسرار الحسنالأزلي ...
وفية لمقتضيات هذا الاسم الذي يجسدها تماما ...
اليك يا أمي
أهدي هذه الباقة من العرفان بالجميل ...
و أطمح لرؤية شروق الشمس أخيرا ...
و سوف تشرق الشمس يا أم الزين
سوف تشرق ...
و أعدك بذلك ...
هكذا ينهي هذا الاهداء المليء بالأحاسيس الصادقة و هو واثق من أنالنور سيظهر و أن الخير سينتصر و أن السلام سيعم العالم ...كل العالم

ايوب صابر 05-30-2012 02:51 PM

المشهد الأدبي التونسي وملامح المستقبل
د.محمد القاضي
قد يستغرب المرء أن يكون الحديث عن الأدب في علاقته بآفاق المستقبل، والحال - أن دراسة الأدب إنما تنطلق أساساً من الزمن الذي يتنزل فيه الإبداع، ولهذا فإننا نرى من المهم أن نبادر إلى تحديد مقصدنا من الربط بين الأدب والمستقبل. فإذا اعتبرنا الأدب نشاطاً إبداعياً جمالياً قائماً على التخييل ترتّب على ذلك منطقياً أن ننزّله في سياق اقتصادي واجتماعي وثقافي، أو قل في سياق حضاري، ومن ثم فإن الأديب- وهو يبدع- لا يعنى بالماضي أو الحاضر بقدر ما يعنى بالمستقبل، لأن القول كما بين علماء الحجاج أو البراقماتيون (Progmaticiens) إنما هو فعل. وبناء على ذلك فإن جوهر كل أدب أن يدفع بمتقبّله إلى الإقرار بفكرة أو مبدأ أو قيمة، والانخراط في تصور تجسده مواقفه وأعماله.
إن هذه النظرة لا تنطوي على تهجين للأدب أو تسطيح له بردّه إلى وظيفة عملية محض، وإنما هي إقرار بدور الأدب في دفع حركة التاريخ ونحت مستقبل أفضل للإنسان.
نعم، إن عصرنا هذا قد تميز بتطور وسائل الاتصال تطوراً مشهوداً هدد الأدب المكتوب، ودفع ببعض المفكرين إلى الخشية عليه من أن يلفظ أنفاسه وينهار صرحه أمام جبروت الأقمار الصناعية وأسطوانة اللايزر وشبكة الأنترنت، غير أن الأدب كذّب هذه التوقعات، وظل- رغم هذا الانقلاب الجامح- صامداً لأنه وليد الإيمان بأن إنسانية الإنسان لا تؤول إلى مقوماته المادية، ذلك أن هم الأدب أن يثير القضايا ويفجّر المكبوت، ويخوض غمار الذات الانسانية ويعبّر عن مسيرة انسان من الماضي السحيق إلى المستقبل غير المنظور، وانطلاقاً من هذا يجوز لنا أن نعرف الأدب بأنه مصنع المثل العليا ومتنفس البشرية حين تستبدّ مشاعر العجز والقهر مهما كان مأتاها، إن الأدب الحق كان في كل زمان ومكان تعبيرا عن الطاقات الكامنة في الانسان وتحريراً له من القيود، ورفضا لما في الواقع من زيف وقبح، وتوقا إلى عالم بديل من مقومات سحره وفتنته أن يظل أبداً في حيز الطموح، لأنه ممهور بالحلم. وحين يتحقق الحلم يكفّ بداهة عن أن يكون.
والناظر في الأدب التونسي المعاصر يلاحظ أنه تجاوز مرحلة التحسّس وأصبح على حال من النموّ يمكننا معها أن نؤكد أن بعض النماذج فيه تضاهي مثيلاتها في الأدبين العربي والعالمي وتتفوق عليها، وليس ظهور عدد كبير من دور النشر الخاصة وإصدارها عناوين كثيرة في مختلف الأجناس الأدبية إلا دليل على هذه النهضة التي يشهدها الأدب التونسي، مما يبوئه للاضطلاع بدور فعال في ترسيخ صورة للمستقبل ذات ملامح مميزة.
ومما يختص به المشهد الأدبي المعاصر في تونس أمور منها:
1- ازدهار الرواية: وهو ازدهار لا ينفصل عما تشهده الآداب الأخرى. فقد أخذت الرواية تتربّع على عرش الإبداع الأدبي وتغير على الأجناس الأخرى وتأكلها، حتى أصبح من الجائز أن نتحدث عن أمبريالية الرواية. ولنا أن نذكر ههنا "حروف الرمل" "لمحمد آيت ميهوب" و"الدراويش يعودون من المنفى" و"شبابيك منتصف الليل" لإبراهيم الدرغوثي، و"المؤامرة" و"التبيان في وقائع الغربة والأشجان لفرج الحوار" و"دار الباشا" لحسن نصر، و"النخّاس" لصلاح الدين بوجاه، و"هلوسات ترشيش" لحسونة المصباحي، ومتاهة الرمل "للحبيب السالمي.. وهي نصوص فيها الكثير من الفن، مما يجعلها جديرة بأن تمثل خير تمثيل الإسهام التونسي في هذا اللون من الإبداع.
2- ازدهار قصيد النثر: والحق أن الشعر العمودي وإن وجد في محمد الغزّي وجمال الصليعي خير مدافع حتى عاد إليه من كان متمرداً عليه مناصباً إياه أشد العداء وأعني الطاهر الهمامي، فإن المقبلين عليه قد قلّ عددهم في حين ظل للشعر الحر عشّاقه من قبيل الميداني بن صالح ومحمد الغزّي والمنصف الوهايبي وأولاد أحمد ومحي الدين خريف ومحمد الخالدي والمنصف المزغنّي وسويلمي بو جمعة ومحجوب العياري وحسين العوري وفتحي النصري.. على أن الظاهرة التي تسترعي الانتباه الإقبال على قصيدة النثر على نحو ما يظهر في كتابات سوف عبيد وحسين القهواجي والطيب شلبي وباسط بن حسن وشمس الدين العوني ومحمد فوزي الغزي.. وفي هذا النوع من الكتابة سعي إلى خرق المألوف وكسر العادات القرائية وتجاوز أفق الانتظار الذي تأسس على عمود الشعر وشعر التفعيلة.
3- ازدهار الأدب النسائي: إذ أكدت بعض الأديبات قدراتهن من قبيل عروسية النالوتي ونافلة ذهب وبنت البحر وفضيلة الشابي وفاطمة سليم وفوزية العلوي وزهرة العبيدي وربيعة الفرشيشي، وجميلة الماجري في حين ظهرت أسماء جديدة منها آمال مختار وعلياء التابعي ونجاة الورغي وطاوس بالطيّب وكاهنة عباس وإيمان عمارة وراضية الرياحي.. وما هذه الحركة التي شهدتها الكتابة الإبداعية النسائية بتونس إلا صدى للمنزلة التي أصبحت تحتلها المرأة في المجتمع منذ الاستقلال والدور الذي أصبحت راغبة في الاضطلاع به في هذا المجتمع.
وليس من شك في أن هذا الحيّز لا يكفي لاستعراض هذه النصوص جميعاً أو حتى أبرزها، وسعياً منّا إلى عدم الوقوع في سطحية التلخيص وسذاجة السبر التاريخي فقد اخترنا أن نعالج مسألة العلاقة بين الأدب التونسي والمستقبل من خلال نقطتين نعتبرهما رئيسيتين وهما:
- صورة الوطن في هذا الأدب: وطن اليوم وطن الغد.
- أشكال الحداثة ومضامينها في هذا الأدب: النص والعالم.
...........
صورة الوطن في الأدب التونسي: وطن اليوم وطن الغد.
إن التحولات التي شهدتها الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة قد انعكست على الشعر التونسي فمر من طور الكلاسيكية الجديدة إلى طور الرومنسية إلى طور الواقعية إلى طور الواقعية الاشتراكية ولكن هذه الأطوار تراخت قبضتها شيئاً فشيئاً، وأخذ الشعر يروُد مناطق أقل التزاماً بالواقع اليومي المتحول وألصق بالتجربة الإنسانية الجمالية التي يغدو فيها الشعر عملاً على اللغة لا تصويراً لواقع خارج عنها، ويترتّب على هذا أن علاقة الشعر بما ليس شعراً قد انقلبت رأساً على عقب.
وقد حاولنا أن نرصد صورة الوطن في الشعر التونسي الحديث فبان لنا أنها مجال خصيب لدراسة هذا التطور، ورأينا أن النصوص الإحيائية أخرجت الوطن في صورة مثالية استخدمت لأدائها البلاغة القديمة المتوسّلة بالتشبيه والازدواج والمحسنات البديعية والبيانية، ومن ثم كان الوطن عند الشاذلي خزندار بمثابة الإله المنفصل عن الكون، فهو خارق للزمان تتغير الأعصر والأحوال وهو لا يتغير، إنه مثل أعلى لا يعتريه التحول، وليس على محبيه إلا أن يعيدوا إليه صورته الأصلية التي دنستها الأعراض الزائفة، وبناء على ذلك فإن الوطن الحق هو ذلك الوطن الثاوي في أعماق التاريخ، والذي ينبغي أن نزيل عنه الغبار لتعود إليه صورته الأزلية الأبدية، ومن هنا فإن مستقبل الوطن ينبغي أن يكون نسخة من ماضيه، يقول الهادي المدني:
أترى يعود المجد مجد بلادي
أم هكذا تبقى على استعباد
وعلى هذا النحو تندرج صورة الوطن في سياق الحركة السلفية التي تريد التجديد ببعث الماضي، وكما كان الوطن جوهراً مثالياً غطته الأعراض السلبية فإن شعرية الوطن ظلت في عمقها تقليدية تستنسخ البلاغة المعتقة.
إن هذه الصورة ستنتقل مع الرومنطيقيين من المثالية إلى الكونية، وبهذا فإن شعرية الوطن عندهم تجلت في امتداد مساحة الوطن وخروجه من الحيز الضيق إلى المدى اللاّمتناهي حيث الحياة والنور. يقول الشابي:
ألا انهض وسر في سبيل الحياة
فمن مات لم تنتظره الحياة
إلى النور فالنور عذب جميل
إلى النور فالنور ظل الإله

ايوب صابر 05-30-2012 02:52 PM

إن الوطن يغدو ههنا جزءا من الوحدة الكونية ولئن كانت صورة الوطن في هذه النصوص غير مندرجة في تلافيف الماضي، فإنها في تحولها إلى المستقبل ظلت أسيرة النظرة المثالية. إن خطاب الرومنسية الاستعادي أضفى على شعرية الوطن بعدا رمزياً، جعل الوطن مندرجاً في حقيقة عامة هي حقيقة الكائنات الأزلية السرمدية.
ومع حركة الطليعة تشظّت صورة الوطن فقد رفض أصحابها الشعرية القديمة المتوارثة والمضامين الجاهزة، ودعوا إلى أن ينفتح الشعر على الحياة وأن يرصد أصوات الشارع، ومن هنا نزلت صورة الوطن عندهم من علياء الجمال التجريدي المطلق إلى حيز التجسيد، ومن ثم فإن وطنية شعراء الطليعة تنبع من ملاحظة الجوانب السلبية التي كان يسكت عنها، وحب الوطن عندهم لا يعني تمجيده بل يعني إخراج حقيقته- وإن كانت بشعة- من الكمون إلى الظهور، إن غياب الوزن والقافية وحضور العامة في هذا الشعر دليل على انكسار التناغم في صورة الوطن القديمة، وتهاوي أحدية المرجعية إلي كانت معتمدة في التعبير عنه، وبهذا تتشظّى صورة الوطن، ويكون ذلك انعكاساً لتشظّي الطبقات والمصالح والإيديولوجيات.
على أن هذا التشظّي في صورة الوطن لا يعني انقطاع الأواصر بينه وبين الشاعر، فهذا الوضع المخصوص يصبح حافزاً للتعلق بالوطن والتغنّي بجماله، وبهذا يكرس التطابق بين الذات والموضوع وبين الشعر والوطن، وتصبح حقيقة الوطن ماثلة في الحاضر الراهن بما ينطوي عليه من تناقض وصراع.
ولمّا كان الشعر تراكماً فإن هذه الصور الثلاث قد اجتمعت في نص واحد هو آخر ما كتبه الميداني بن صالح وهو "الملحمة التونسية"، وفيها تعاظل بين الشعر العمودي والشعر الحر، وإبراز لماضي الوطن من خلال المراحل التاريخية الكبرى التي مرّ بها، ولحاضره من خلال ما تحقق له من مكاسب في العهد الجديد، ولمستقبله من خلال المبادىء والقيم التي ترسخ فيه لبناء وطن تسوده الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح والتكافل الاجتماعي والتعددية وحق الاختلاف، ولاشك أن هذا المجتمع هو الذي مكن الشاعر من اعتصار صورة للوطن لا تعارض فيها بين الموجود والمنشود، وبين الماضي والحاضر والمستقبل.
- أشكال الحداثة ومضامينها: النص والعالم.
إن هذه المسألة تشدنا إلى الأدب السردي عموما والرواية على وجه الخصوص، ذلك أن الرواية التونسية التي انطلقت من حيز الواقعية، كانت تنهض على المشاكلة waisemblance وترغب في إقامة عالم روائي يماثل العالم الواقعي- و"الدقلة في عراجينها" للبشير خريف نموذج فذ لهذا الاتجاه.
إلا أن الناظر في الرواية التونسية الحديثة مع فرج الحوار وصلاح الدين بوجاه وعروسية النالوتي وإبراهيم الدرغوثي والحبيب الساطي وحسونة المصباحي يلاحظ تحول نمط الكتابة، إذ انكسرت تلك الوحدة القديمة وأصبح تماسك النص غير متولد من مشاكلته للواقع، وإنما هو وليد حركة داخلية تنصهر فيها عناصره، إلا أنها تقدم لنا في شكل مهشم متعرج منكسر يقطع الصلة مع القص الواقعي والكلاسيكي.
فهذه الروايات خارقة للعادات القرائية، متجاوزة لأفق انتظار القرّاء، إذ هي تزعزع ما استقر في الأذهان من تقسيمات ثابتة بين أجناس الأدب ولهذا فإننا نجد فيها الشعر والتاريخ والمسرح والخرافة كما أنها تكسّر صورة الراوي المتماسك وتبعثر الرؤى فإذا بالأصوات تتعدد ويصبح كل منها مدخلاً لمصطلح قرائي، وسجلاً حاملاً لرؤية للكون، حتى إن النص الروائي يغدو بمثابة الركح الدائر الذي نطل عليه من زوايا متعددة تعدد الحقيقة.
كما أن هذه الروايات لا تتعامل مع النصوص الأخرى تعاملاً تقليدياً، فهي تأكل غيرها من النصوص وتغيّر وجهتها بحيث إنها تصبح مجمعاً من النصوص التي تنتمي إلى عصور مختلفة وأمكنة متنوعة، إلا أنها تنصهر حتى تكون نصّاً، له شخصية فذة ومواصفات ينفرد بها.
إن هذه السمات التي تتصف بها الرواية التونسية المعاصرة تشهد على تغيّر في مفهوم الإبداع وفي وظيفة الفن، ذلك أن التماس أصبح السمّة المُميّزة لهذه الروايات فخرجت عن وقار الأحدية إلى حداثة التعدد.
على أن حداثة هذه التّماسات ليست زينة خارجية وإنما هي ناتجة عن تغيّر في وظيفة الأدب نفسه. فهو لم يعد منحصراً في حيز مكاني محدّد، وإنما غدا معنيّاً بالعالم كله يحمل همومه ويبشر بخلاصه، ولم يعد منحصراً في الماضي والحاضر وإنما أصبح يرسم صورة المستقبل، ولم يعد يرفع لواء المثل القديمة الممتدة في جذور التاريخ، وإنما أصبح يجسّد قيماً أخرى هي وليدة التّماس بين الحداثات المختلفة التي تسود عالمنا. وبهذا تكون الخصائص الشكلية لهذه النصوص تعبيراً عن أبعادها الفكرية. فهذا التعدّد يأتي لينقض صورة البطل الأوحد والراوي الأوحد والكون المتناغم، ويؤسس صورة البطل المتعدد والراوي الديمقراطي والكون المتنوع.
إن حداثة الكتابة تكمن في خرق ما هو مثالي سكوني باسم الواقع الحركي. فليست الرواية بهذا المعنى وصفاً للماضي أو إيقافاً للزمن الحاضر وتجميداً له، وإنما هي رسم لملامح المستقبل وتكريس للقيم الإيجابية التي أصبحت توجّه الكون على أيامنا، فحداثة التّماسات ليست درجة شكلية بل هي إيمان بأن الرواية خاصة والأدب بصفة عامة لم يعد دوره التحريض أو الإيهام، بل أصبح دوره الحوار دونما تلقين أو تسلط. وبهذا فإن حداثة التّماسات جسر متين لتماس الحداثات ومحاولة للدخول في العصر من خلال تغيير طبيعة المجتمع ونوع العلاقات التي تنشأ بين أفراده وضروب القيم التي تشكل ملامحه المستقبلية.
إن هذه الإطلالة السريعة على الأدب التونسي قد مكنتنا من الوقوف على المسار الذي مرّ به حتى تتشكل ملامحه الأساسية أوقفتنا على نتيجتين أساسيتين:
1- إن هذا الأدب يواكب التحولات ويستبقها في أغلب الأحيان، وهذا مثال واضح على الثقافة، التي يظل الإبداع الأدبي دعامتها الأساسية- ليست نشاطاً هامشياً يأتي تزجية لفراغ أو هروباً من مواجهة القضايا الراهنة، وإنما هي إسهام فني في نشر القيم التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع وتبشير بها.
2- إن هذا الأدب من خلال انفتاحه على تجارب الغير قد استوعب أهم مكتسبات الإبداع الأدبي وأصبح يرنو إلى احتلال موقع متقدم في تجارب الكتابة في العالم، ولكن الطريف أن هذه الآليات المستحدثة ليست قشرة خارجية براقة وإنما هي تعبير عن المضامين الإيجابية التي نسعى إلى تكريسها من قبيل الديمقراطية التعددية وحقوق الإنسان إلى جانب قيم العمل والتسامح والانفتاح.
إن هذه الحصيلة التي وجدت في المناخ الاجتماعي والسياسي والحضاري الذي لبلادنا أرضاً خصبة للنمو والتطور، ما كان لها أن تتعزّز لولا إيمان أصحابها بأن التواصل التاريخي لا يتعارض مع الانفتاح على الغير والإفادة من منجزاته- وبهذا المعنى يجوز لنا أن نتحدث عن الدور الطليعي للأديب الذي غدا من المتعين عليه أن يضطلع بمهمة حضارية تاريخية تتمثّل في أن يكون محلاً للتلاقي الخصيب بين مقومات الهوية الوطنية والقومية وبين قيم العوْلّمة

ايوب صابر 05-30-2012 02:52 PM

فرج الحوار
من مواليد حمام سوسة سنة 1954 .
تخرج من كلية الاداب بتونس بشهادة الاجازة في اللغة و الاداب الفرنسية و شهادة الكفاءة في البحث سنة 1991 .
درس في العربية السعودية سنة 1985 الى غاية 1989 .
عاد الى اتدريس في تونس و التحق بكلية الاداب بسوسة بصفته استاذا ملحقا .
كتب الشعر بالفرنسية و الرواية بالعربية و له دراسات في مجال اختصاصه.
عضو اتحاد الكتاب منذ سنة 1993 .
صدر له:
--- الموت و الجرذ و البحر / رواية / دار الجنوب للنشر 1985
--- النفير و القيامة / رواية /دار سيراس 1985 .
--- المؤامرة / رواية / دار المعارف 1992 حصلت على جائزة ابو القاسم الشابي لنفس السنة .
--- الجسد وليمة / رواية / دار تبر الزمان 1999 .
--- طقوس الليل / رواية / دار سحر 2002 .
و بالفرنسية نشر :
Livre sacré de ma détresse antique / poèmes / darsahar 1996
Antar ou ça tourne court / roman/ dar sahar/ 1997 .
Ainsi parlait saint-antonio / roman / dar tebrezzamen / 1998
حصلت على الكومار الذهبي
La sirène / livre commun
La créature des abysses/ roman/ dar sahar 1999
La queue en berne /roman/ recit/ dar tebr ezzamen 2000
Petit / roman / dar elmyzen 2002
و له كتب عديدة تنتظر الصدور



ايوب صابر 05-30-2012 03:48 PM


سَطْوةُ الفِكْرةفِي "طيُور الشَّارع الكَبير" لهُدى إدريس( ) فرج الحوار كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

par La romancière Houda Driss, mercredi 19 mai 2010, 09:03 ·
سَطْوةُ الفِكْرة
فِي "طيُور الشَّارع الكَبير" لهُدى إدريس( )
فرج الحوار
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

تمهيد
عمَّ يبحث القارئُ في الرِّوايات الَّتي يقرأها؟ لماذا يُتمُّ قراءة بعضها وَيعزف عن إتْمام بعْضهَا الآخرِ؟ مَا معْنى حديث القرَّاء عن الإعجاب وعكسه مُقترنًا بالنُّصوص الرِّوائيَّة؟ هل الإعجاب موقفٌ انطباعيٌّ أم فنيٌّ؟ وهل تثير كلُّ النصوص نفس الانطباع عند كلِّ القرَّاء؟ هذه الأسئلة، وغيرُها مِمَّا لا يتَّسع له هذَا المقامُ، وثيقة الصِّلة بمسألة تلقِّي النَّص الأدبي، وهي تُفيد أوّلا أنَّ عمليَّة التلقِّي هذه هِي عمليَّة مُعقَّدة، وتُفيد ثانِيًا أن هذه العمليَّة تتحدد وفقًا لاعتبارات قيميَّة تَختلف من قارئ إلى آخر، فليس مَا يبحث عنهُ القارئ العاديُّ هو نفسه ما يبحث عنه القارئُ الباحثُ، خاصَّة إذا تعلّق الأمر بروايات حديثة من إنتاج كتَّاب مبتدئين، كما هو الحال مع رواية "طيور الشَّارع الكبير"، موضوع هذه المُداخلة.
في مُقوِّمات الخطاب القيمي
نُشير بدايَةً إلى أنَّه لا وجُود لقارئٍ نَموذجيٍّ يُمكن اعتماد "قراءته" لروايةٍ مّا بدُون تَحفُّظ، وهُو مَا يُفيد أنَّ الاخْتلافَ هُو أساسُ الخطاب النَّقدي عُمومًا، والخطاب القيميٍّ (Discours axiologique) منْه علَى وجْه الخُصوص، لاسيما إذا اقتُصر فِيه علَى الجوانب الذَّوقيَّة، في إطار ما يسمَّى بالنَّقد الانطبَاعِي. وحتَّى عندما يتعلَّق الأمر بالاعتبارات الفنِّيّة الصِّرف، الْمحدِّدة لما اصطُلح على تسمِيَته بأدبيَّة النَّصِّ، فليْسَ يَخْلُو الأمرُ من اخْتلافٍ فِي المواقف والأحْكَام. وقد سبقَ أَن أشرنا إلى أنَّ مسْألة القيمةِ في الخطَاب النَّقدي هِي مسْألةٌ معقَّدة، وأسبابُ ذلكَ كثيرةٌ لا يتَّسع لها هذا المقام، نقف على اثْنينِ منهَا.
أمًّا السَّببُ الأوَّل فَيعُود إلَى أنَّ قيمةَ بعِض النُّصُوص الرِّوائيَّة، وخاصَّة منهَا مَا يَهمُّ النُّصُوص المَرجِعِيَّةَ أو المؤسِّسَةَ، تبدُو كمُعطًى مادِّيٍّ مُتحَقِّق فِي النُّصُوص ذاتِهَا، وعلَى أسَاسِهِ يُتَحدَّث عنْهَا باعتِبَارهَا من روائع الأدب الإنْسَانِيِّ، كما هُو الشَّأن لـ"دون كيشوت"، و"ألف لية وليلة"، أو مؤلَّفات بلْزاك، وفْلُوبير، وزولا، وبْروست، ونجيب محفوظ في العالم العربي. والسَّببُ الثَّانِي يَكمُن فِي طبيعة القيمة نفْسهَا من حيْثُ هِيَ خطابٌ ذاتيٌّ بالأسَاسِ ولو ادَّعى الموضُوعيَّة والحيَاد. فَمَا هي إذن الشُّروط الَّتي يَجبُ أن تتوفَّر فِي النَّص وتَتحدَّد قيمتُه بِمقتضَاها؟ سنُحاول فِي إطَار رَدِّنَا على هذا السُّؤال الإحالة مباشَرة على رواية " طُيُور الشَّارع الكبير"، فَنُشير بدَايَة إلَى أنَّ جنْسَ الكاتب وسنًّه ومهنتَهُ، فِي هذهِ الْحالة بالذَّات (وهيَ من الاعْتبَارات الَّتي لا يلْتفتُ إليْهَا الخطابُ النَّقدي اليوم)، يُمكن أن تَكتسبَ بعض القيمَة في نظَر القَارئِ المُطَّلع على الإنتاج السَّرديِّ التُّونسيِّ المعَاصر. ويزداد هذا الانطباعُ تأكُّدًا بالْمُقارنة بينَ هذه الرِّواية وغيْرها من الرِّوايات الّتي صاغَها كتَّاب هُم، بِفعل الاخْتصَاص والمهنَة، أوثقُ صلةً بِالأدب مِمَّن يَمتَهنُ الطبَّ، أو المحاماةَ كما هُو الحال بالنِّسبة إلى هُدى إدريس.
وأوَّل ما يلفتُ الانتبَاه فِي "طيُور الشارع الكبير"، مِمَّا له صلةٌ بِمَا تقدَّم، جمال الأسلوب (رغم ما اتَّسمت به الرِّواية من مُباشَرة فِي مستَوى المواطن الحواريَّة)، بَل وشعريَّته الواضحة أحيانًا عند حديث الرَّاوي عن هواجس البَطلة "نَجلاء" بصُورة خاصَّة. ولعلّ ذلك يُفسّر بأنَّ الكاتبَة شَاعِرَة بالأسَاس، وبإيمانها بألاّ حُدود بيْن الأجْناس الأدبيَّة الَّتي تُمارسُها. والأمر الثَّاني اللافتُ للنظر فِي الرِّواية، وهُو في تقديرنَا من سماتِهَا الإيجابيَّة البارزةِ، انْحسَارُ الخطابِ الأَخلاقويِّ فيها إلى حدٍّ بعيدٍ، وذلكَ فيمَا يَتعلَّق بمسائِل حسَّاسة جدًّا من قَبيل الخيانة الزَّوجيَّة، والعلاقات المثليَّة، الرِّجاليَّة والنِّسائيَّة منْها علَى حدِّ السَّواء. هذه "الظَّوهر"، الَّتي تُقدَّم عادةً على أنَّها من السُّلوكات الاجتِماعيَّة الشَّاذَّة، تناولتْهَا الرواية باعتِبَارها من الظَّواهر الإنسانيّة الطَّبيعيَّة، ليْسَ بالإمكان التَّعريضُ بِهَا أو تَجريمُهَا لأَنَّ فِي ذلك نيْلاً من الشَّرط الأساسِيِّ الَّذِي ينْهضُ عليه الوجُودُ الإنْسَانيُّ، والمتمثِّلِ فِي الحريَّة. يقول الرَّاوي بِهذا الخُصُوص: "لَم تكُن [نَجلاء] لِتستوعب في تلكَ الفترةِ القصيرةِ كُنه علاقته [شقيقِها] بأكرم. لَيسَ من السَّهل أن تفهم سرَّ ذلك العشقِ الَّذي يَجمع بينَ شَخصينِ من نفس الجنسِ، والَّذي يُسمَّى في مجتمعنا، وحتَّى في المجتمعاتِ الغربيَّة، "شُذوذا". كان الأهمُّ لديْها أن يَكون شقيقُها سعيدًا( )". وهكذَا توصَّل الرَّاوي إلى قَناعَةٍ مفَادهاأنَّ الْحرامَ ليْسَ في مَا دأب المجتمعُ على إدانته عرفا وقانُونًا على أنّه "مرض مُعد خطيرٍ"( ) أو باعتبَاره مِمَّا يقَعُ في مَجال "الحرام والانحراف"( ). وهِو بذلكَ يُغلِّب الهامشَ على القاعدةِ ويَقلبُ سُلَّم القيم رأسًا علَى عقِبٍ إذ يُقَرِّر أنَّ القيَم السّائدةَ لا تَخرُج عن دائرةِ "النِّفاق الاجتِماعي"( ).
وأهمُّ ما فِي هذا الموقف أنَّه يُشكّكُ فِي مُسلَّمةِ "الجنْس"، الَّتي تنْبنِي، فِي المنظُور التَّقليديِّ، على مُعطياتٍ بيُولُوجيَّة ثابتَةٍ، وتُحيلُ بِذلكَ عَلَى مفاهيم "الْجنْدر" (Gender) و"الكوير" (Queer)( ) الَّتي تتحدَّد بِمُقتضاهَا الهويَّة الجنسيَّة للكَائنِ البَشَرِيِّ، فيُمكنُ التَّأكِيدُ علَى أساسهَا أنَّ كلَّ من لهُ مظهَرُ الرَّجل ليْسَ رجُلاً بالضَّرورة، وكلَّ من لهُ مظهَر المرأة ليْسَ امْرأةً بالضَّرُورة، كمَا هُو الحَالُ فِي الرِّوايةِ مَعَ "أَكْرم" وَسُندس".
ووجهُ الطَّرافةِ فِي هذا الموضُوع بالذَّات أنَّ السُّلوك الَّذِي يُصَنَّفُ "في بلدٍ عربيٍّ مُسلم" كسُلُوكٍ منافٍ "لتعاليم الدِّين والخلُق الحميد"( )، ويُحرم مُتعَاطِيهِ تبعًا لذلكَ من حقِّ الوجُود والكلام، يَتحوَّل في رواية هدى إدريس إلى اسْتحقاق قانُونيٍّ يُجاهرُ به المتعَاطُون لهُ عَلَنًا ويُناضلُون من أجل إقراره وإضفاءِ الشَّرعيَّة عليه. هَذَا هُو علَى الأقَلِّ ما يُسْتشَفُّ من حديثِ "أكرم" لوالدته، إذ يقُول مُخاطبًا "نَجلاء": "حَاولتُ أن أجعَلها تُدركُ بأنَّ ذاك هُو قدري وأنَّني سعيدٌ به، وأنَّ سعادتي لن تكتمل إلاَّ إذا رضيت عنِّي وقبلت باخْتلافي"( ). ويَندرجُ في هذا السِّياق نفسِه حديثُ نجلاء عن "العادةِ السريَّة"، وهيَ، في المنظور التَّقليدي، من السُّلوكاتِ الذَّميمَةِ باعتبارهَا مُنافيَة للقَواعد الأخلاقيَّة والصحِّيَّة، فتقُول مُسَفِّهةً هَذَا الرَّأيَ، مُتحدِّثةً عن زميلٍ لَها ضبطته يُمارسُ هَذا الفعل في مكتبه: "لستُ من مُعارضي مُمارسَة الرِّجال والنِّساء لتلك العادة، الَّتي أثبت العلم فوائدها النَّفسيَّة، ولكن ألم يكن من الأجدر أن يُمارسها في بيته؟"( ).
نَخلُص مِمَّا تَقدَّم إلى أنَّ إيمان الرَّاوي بالاختلاف كَمبدإ مؤسِّسٍ للتَّوازن الفيزيُولوجي والنَّفسي، يُناقِضُ جذريًّا المنظُور التَّقليدِيَّ الَّذي يُكرِّس، إلى حدِّ التَّقديس أحيَانًا ومن مُنطلقَاتٍ غيبيَّةٍ خارجَة عن نطاقِ السُّؤال والمُناقشة، سُلُوكاتٍ مُعيَّنة تُقدَّم علَى أنَّها مِمَّا يُحتِّمُه النِّظام الطَّبيعِيُّ، أو من المورُوثات الَّتي باتت بِمنزلة الحقائق الأزلية.
وفِي هذا السِّيَاق بالذَّات يتنزَّل حديثُ نجلاء عن علاقتِها بوالدهَا إذ تُشَكِّكُ فِي كونه، كما يقتضيه العُرف السَّائد، مثال "الاستقامة والأخلاق"( )، وَيتنزّل أيضا حديثها عن مُؤسَّسة الزّواج والطَّلاق فَتتساءلُ بِهذا الخُصُوص: "هل ينبغِي أن تسيل الدِّماء [...] حتَّى يُصبح قَرار الطَّلاق مشْرُوعًا ومُبرَّرًا؟"( )، أو عنْدما تُصَرِّح مُخاطبَة عشيقَها أنَّهَا "رافضَةٌ لمبدإ الزَّواج ثانية" وأنَّ عَلاقتهُما الحُرَّةَ "جميلَة ومُريحة جسديًّا وروحيًّا" لكليهما( )ِ، وَعن الحُبِّ كَمُمارسَةٍ تَسلُّطيَّة تسْتهدفُ امتهَانَ المرأةِ بصُورةٍ أساسيَّةٍ، فتُشيرُ فِي هذا الصَّدَد إلَى أنَّ بعضَ النِّساءِ يُمارسْنِ معَ أزْواجِهِنَّ "باسْم الحبِّ السَّفر اليوميَّ في دهاليز القهْرِ والإذلال والعبُوديَّة"( ).
رواية الفكرة
بِناء علَى ما تقدَّم يُمكنُنا القولُ إنَّ رواية هُدى إدريس، رغم انْتصَارهَا الظَّاهر لِقضايا المرأة، وتركيزها على أوضَاعهَا ومكانتِها فِي مُجتمعٍ "مَا زالَ يُرسِّخ دُونيَّة المرأة" بسبب انشداده المرضيِّ إلى قيَم الماضي البعيد، لاَ تَتنزَّل فِي إطار مَا يُسَمَّى بالأَدبِ النِّسْويِّ (Féministe). صَحيح أنَّ هَذهِ الروايَة تُدِينُ بشَكْل واضح كلُّ الممارسَات الهَادفة إلى الحطِّ من شَخْصِ المرأةِ، لاَ بصِفَتِها ممَارسَاتٍ ذُكُوريَّةٍ ولكن بصفتِها مُمَارساتٍ اجتمَاعِيّةً بالأساس، مُركِّزة على المُحافظة الَّتي تبلُغ "درجةَ التَّخلُّف"( )، وَصَحيحٌ أنَّها تُدينُ النَّظرةَ النَّمطيَّة الَّتي تَختزلُ المرأة في دَوْريْ زوْجة طيِّعةٍ وفيَّة و"طاهيَةٍ مُمتَازةٍ"( )، وصَحيح أنَّ بطلة الرِّواية "تُحَاربُ من أجل حرِّيَّة المرأة وحقِّها في امتلاكِ جسدها ومصيرها"( )، وتَسعَى إلى إقرار حقَائِق بديهيَّة من قبيل أنلَيْسَ "جسد المرأة فقط [هُو الَّذي] يُثِيرُ الشَّهوة"( )، داحضَةً بِذلكَ لَعْنَة الفتنةِ الَّتِي تُلْحَقُ بِالمَرأةِ وبِمقتضَاها حُكم بنفيِهَا مادِّيًا ورمزيًّا من الفضاءِ الاجتماعي، وهِيَ تَرُوم أيْضًا تَحريك سواكن فكْر المَرْأةِ "القَانع بلُقمةِ المُسلَّمات"( ) خَاصَّةً أنَّ الظُّرُوفَ مهيّأة لِذلكَ إذا ما اعتبَرنا "السِّنينَ الضّوئيَّة الَّتي اختزلتهَا المرأة التُّونُسيَّة من عُمر الكفاح بفضْل أَفكاره [الطَّاهر الحدَّاد] الثَّوريَّة"( )؛ كُلُّ هذا صحيحٌ وَيُؤكِّدُ الطَّابعَ النِّضَالِيَّ النِّسْوِيَّ للرِّوَايَةِ، ولَكنَّ انْحيَازَ الرواية الكَاملَ واللاَّمشْرُوطَ لقِيمِ الحرِّيَّة والانْعتاقِ، ونبْذَهَا لمنطقِ الإقصاءِ والإدانة تَحت مُبرِّراتٍ أخلاقيَّةٍ ودينيَّةٍ واهيَةٍ، يَجْعلُ منهَا دُسْتُور الحريَّةِ والاخْتِلاف بامْتِيَازٍ، تُريدُ الحريَّة للجميع لأَنَّهُ لاَ معْنَى لوجَع "المرْءِ [الفرْدِ أو الجنْسِ] أَمَامَ أوجَاعِ الإنْسَانيَّة"( ).
هَذا الوله الحارق، الًَّذِي لا يُهَادن إطلاقًا، هُو ما أضفَى على النَّصِّ طَابَعَهُ الانتِهَاكِيَّ (Transgressif) وجعَلَهُ يَقطعُ الصلة نِهائِيًّا بذهنيَّةِ التَّقْديسِ والقَدريَّة، وذلك انطلاقا من مبدإ يُقرِّر بِكلِّ وُضوح أنْ لا شَيْءَ ولاَ أحدَ فَوْقَ النَّقد والْمُحاسبَةِ. أمَّا التَّسَامُح الَّذي يتعاملُ بِهِ الرَّاوي معَ مظَاهِر الاختلافِ، الموْسُومةِ تقليديًّا بالشَّاذة، فَمَردُّهَا فِي اعتِبَارنَا إلَى نَظْرةٍ مُغَايرةٍ للْكائنِ البَشرِيِّ وبِمكامِن العتْمة فيهِ (La part maudite)، وهِيَ نظْرةٌ تُؤدِّي حتْمًا إِلَى مُراجَعاتٍ قيميّةٍ جِذْريَّةٍ، وخاصَّةً لِمقُولَتيْ الخَيْر والشَّرِّ الَّلتيْن تَحْكُمان منظُومة القيمِ الاجتماعيَّةِ، وتُحوِّلان الحيَاة فِيه إلَى "مَسرحيَّة هَزليَّة – دراميَّةٍ يعيشُها النَّاسُ" يَخشَى فيها كُلُّ أحدٍ الآخَرَ، وَيَتَوجَّسُ "خيفَةً مِنْ ردِّ فعلِهِ"، فَيُعدِّلُ كُلُّ واحِد تصرُفاته وخِياراتِه المصيريَّةَ عَلَى هَوى الآخَرِ، لأنَّ "الآخر غُول [و]الآخر مُفزع". والنَّتِيجةُ الحتْمِيَّةُ لِهَذَا الخَوفِ الهَوَسِيِّ منَ الآخَر، يضِيفُ الرَّاوِي، هيَ أنَّنَا لاَ "نعيشُ الحيَاة خالصَةً" وأنَّ وجودنا لاَ "يكون ملكًا لَنَا"، وإنَّما يُضْحِي "وُجودا افتراضيًّا نعيشُه بوكالَةٍ، بتفْويضٍ منَ الآخرين"( ).
خاتمة
بناءً علَى ما تَقَدَّم يُمكنُ القَول إنَّ روايَة "طيور الشَّارع الكبير"، بغضِّ النَّظر عمَّا قد يكون اعتَراهَا من هناتٍ فنِّيَّة باعتبَارهَا باكُورة إنتاجِ كَاتبتِهَا، هِي روايَة مُهمَّة من دُون أدنَى شكٍّ لأنَّها تُصوِّر بدقَّة تناقضات المجتمع التُّونسيِّ الرّاهن الَّتِي ستُفضي حتْمًا إلى تَحوُّلاتٍ جذريَّة فِي مستَوى القيَم الضَّابطةِ لَهُ. والرِّوايَة بِهذا الاعتبَارِ روايَة منشَدَّة بتصْمِيمٍ واقْتِنَاع إلَى المُسْتقْبلِ، مُرَاهِنَة عَلَيه، وَهِي لِنفْسِ هَذا السَّبَب تَتَنزَّلُ فِي صُلْبِ الْحداثَةِ. وَالطَّريفُ فِي الأمْرِ أَن يَصْدح صَوْتُ امْرأةٍ بِحقِيقة أن لا وُجُودَ خارج التَّاريخ وأنَّ لكُلِّ زمان قيمَهُ، فِي مجتمعٍ لاَ يَزَالُ يُنكرُ حقَّ المرأة فِي الوُجُود والكلام. وقَد يَكُونُ منَ المُفيدِ أنْ نُؤكِّدَ، أُسْوةً بالأبِ جون فونْتَان عندمَا كتبَ مُنوِّهًا بِروايَة "طرشْقانة" لِمسعُودة بُوبكر، أنَّه ليْسَ مِمَّا يُثيرُ الدَّهشَة أنْ تَكُونَ الْمَرْأة هِيَ أَوَّلَ مَنْ يتَجَرَّأُ عَلَى انْتِهَاكِ الْمُحرَّمِ"( ). والمَرأةُ، إذ تضْطلعُ بِهذا الدَّور فِي المجتمعَاتِ العَربيَّة الإسلاميَّةِ، إنَّمَا تَتولاَّه من مُنطلقِ أنَّهَا الرَّمْز الأبْرز للذَّاتِ المُنسحقةِ المبتُورةِ، فَهِي لِذلكَ "تُؤمنُ بِحريَّة الآخَر وتَحْتَرمُ الاخْتِلافَ"( ) لأنَّ هَذا الإيمَانَ هُو سبيلُهَا الوحيدُ إلَى الوُجُود والتَّحَقُّقِ

ايوب صابر 05-30-2012 03:51 PM

العوامل الحياتية التي أثرت في تكوين الروائي فرج الحوار:

المعلومات عن فرج الحوار شحيحه جدا ولا تتوفر تفاصيل عن حياته وخاصة فترة الطفولة. يشد الانتباه ان اول مؤلفاته رواية جاءت بعنوان"الموت و الجرذ و البحر" الصادرة عام 1985 ، ونجده في اهداؤه رواية الصغير لامه يتحدث عن الظلمة وطموحة لرؤية شروق الشمس ويعدها بأن الشمس سوف تشرق
" و أطمح لرؤية شروق الشمس أخيرا ...
و سوف تشرق الشمس يا أم الزين
سوف تشرق ...".

و أعدك بذلك ...


وربما ان في ذلك دلالة على صعوبة الحياة التي عاشها فرج الحوار ووالدته حتى يقدم لها ذلك الوعد...لكن ليس لدينا خيار الا ان نعتبره مجهول الطفولة.

مجهول الطفولة.

ايوب صابر 05-31-2012 08:19 AM

95- المعلم علي عبد الكريم غلاب المغرب

رواية «المعلم علي» لعبد الكريم غلاب ..

٢ تموز (يوليو) ٢٠١١بقلم محمد رشد


مقاربة شكلانية
على سبيل التقديم:
"أما عبد الكريم غلاب فهو أبرز روائيي المغرب، لأنه كاتب قومي، ومناضل وطني من صفوف حزب الاستقلال، وقصاص وروائي تعبر رواياته عن زخم الحياة العربية وعن حركة النضال الوطني والاجتماعي في المغرب."
الناقد المصري أحمد محمد عطية.
على سبيل التوضيح:
هذه المحاولة كانت في الأصل إعدادا لتحليل مؤلف كان مقررا في برنامج مادة اللغة العربية للسنة النهائية في التعليم الثانوي التأهيلي المغربي في ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي.
دراسة الرواية
لعبة البناء:
إذا كان (شلوفسكي/Chklovsky) قد فرق في البناء القصصي بين نوعين:بناء حلقي: ينغلق فيه حدث ما بمجرد انتهائه.
بناء ذو المراقي: يظل فيه الحدث مفتوحا في نهايته على حدث أو أحداث أخرى.
فإن إمعان النظر في بناء رواية "المعلم علي" سيجعلنا نصل إلى أن بناءها ينتمي إلى النوعين السابقين معا: فهو حلقي حين نلاحظ تتابع مجموعة من الوحدات التي تكاد كل واحدة فيها فعلا مغلقا: (وحدة العمل في الطاحونة، وحدة العمل في دار الدبغ، وحدة العمل في معمل النسيج). وهو كذلك بناء ذو مراقي على مستوى المحكي جملة، إذ نلاحظ أن الوحدة الواحدة لاتستنفذ بحث "علي".
لكن ما الذي يعمل – في إطار هذا البناء المزدوج- على تماسك المحكي في الرواية؟ نلاحظ في رواية "المعلم علي" أن تماسك المحكي يتم بواسطة "المكان"، أي مكان الأحداث، و أعني به مدينة فاس، ويمكن ملاحظة الأوضاع التي يتجلى فيها المكان أداة ربط:المكان في البداية لا يطرح عائقا يذكر باستثناء الإعاقة الطبيعية التي لا تحفز "علي" على التغيير بالقدر الذي سيحدث فيما بعد.
حين يصبح المكان عائقا و سببا في الخروج من وحدة إلى أخرى: ترك المطحنة للعمل في دار الدبغ، ثم الفرار من دار الدبغ للعمل بالمعمل.حين يتحول المكان إلى وضع إيجابي، خصوصا في الوحدة الثالثة حيث يصبح المكان فاعلا في التغيير.
من كل ما سلف، نستنتج أن الوحدات الثلاث التي تستغرق بحث "علي" قد احتاجت في ترابطها إلى وجود المكان، فكان المكان. و يمكن أن تكون قصته وحدة رابعة.
لعبة الوحدات:
يُقصد هنا بالوحدات تركيبا حكائيا يتوفر على معنى مكتمل، و على استقلال نسبي، و يمكن اعتبار الوحدة أشبه بقصة قصيرة تندرج في سياق قصة أعم و أشمل.تأسيسا على هذا الطرح يمكن أن نقف داخل رواية "المعلم علي" على ثلاث وحدات حكائية تسبقها وحدة تمهيدية هي وحدة العرض (L’expose):
العرض:
يمكن اعتبار الفصل الأول من الرواية و الذي تجري أحداثه في غرفة أسرة "علي"، وحدة تمهيدية هي العرض، و ذلك لأن محتواه يعمل على إدراج محتويات جزئية سيقع تطويرها خلال الوحدات التالية.
إن المحتويات ترجع إلى مشكل "التوتر" الذي يعتري "علي" كما ترجع إلى الشخصيات التي سنجدها بعد ذلك مفصلة أو هي تتطور.
غير أن هذه الوحدة التمهيدية لا يجب أن ندركها كوحدة مستقلة عن الوحدة الأساسية التي ستتلوها، و هذه خاصية من خصائص العرض، حيث تغرس فيه العناصر الحكائية الأساسية التي سيتم تعهدها بعد ذلك في مجمل الرواية.
الوحدة الأولى: (وحدة العمل في المطحنة):
و يمكن الوقوف على بدايتها في "العرض" لكن بدايتها الحقيقية لا يصرح بها الكاتب في الرواية، و يمكن أن نسجل أن هذه الوحدة تتألف من عنصرين هما:ممارسة العمل.
الانقطاع عن العمل.
إننا إذن بصدد وحدة مغلقة تتوفر على فعل كامل، بمعنى محدد بالنسبة للسياق العام للرواية، و لو أننا تأملنا حالة "علي" لوجدنا أن الطابع المسيطر على شخصيته/ نفسيته، هو طابع التوتر، هذا التوتر الناتج عن عدم الرضى بما هو معيش، و التطلع إلى حالة أفضل، هذا التوتر هو الذي سيرافق "علي" خلال الوحدات الآتية.
الوحدة الثانية: (وحدة العمل في دار الدبغ):
و يمكن أن نميز بداخلها عدة عناصر مكونة نذكر منها:
عنصر الصداقة.
عنصر الصراع.
بداية التدرج نحو كسب الوعي النقابي.
في هذه الوحدة يتكون "علي" كشخصية (إشكالية) حين ينمو "التوتر" و يتحقق التناقض و لو مبدئيا في وعي "علي" بين مالكين (الحاج عبد القادر...) و مستخدمين (عمال: علي و الحياني...)، إلا أن هذا التناقض لن يتضح بشكل جلي إلا في الوحدة الثالثة.الوحدة الثالثة: (وحدة العمل في المعمل):
وهذه الوحدة تستغرق القسم الأخير من الرواية، و يمكن – بناء على سياق الرواية- أن ندمج فيها لحظة السجن، فنجد عندئذ أن هذه الوحدة المتميزة يمكن أن نقف بداخلها على عناصر أو لحظات هي:
العمل في المعمل.
العمل النقابي.
السجن.
الوعي النقابي.
إن هذه الوحدة هي التي يمكن تسميتها بالوحدة/ الخلاصة، لأنه فيها يحكم عبد الكريم غلاب على نهاية روايته وفق ما يناسب توجهه السياسي و موقفه الإيديولوجي، فيحُدُّ من (إشكالية) البطل و يفرض حلا يرى فيه انسجاما مع الواقع، لكن أي واقع هو؟
تمشيا مع ما سبق يمكن وضع تشجير لهذه الوحدات كما يلي:

ايوب صابر 05-31-2012 08:20 AM

صفة التنقل في الرواية:
يعتبر التنقل تقنية من التقنيات التي استعملت دائما في الحكايات، و يمكن إرجاع هذه التقنية إلى أسلوب الرحلة، و ما يمكن التعبير من خلاله عن تبدل الأوضاع، و تجذر المشاهد و ظهور الشخصيات، فكل حكاية، كما يقول (ميشيل بوتور M.Butor)" يجب أن تعتبر رحلة و اكتشافا، و يمكن القول فيما يتعلق بهذا الموضوع أن كل أدب خيالي يستقي مواضيعه من هذا المعين، و كل رواية إنما تقص علينا خبر رحلة ما".
فالرواية من الناحية النظرية هي وصف لعملية البحث و خروج للبطل من أجل استكشاف عالمه الخاص. و من هنا كان السفر حافزا مهما من حوافز الرواية، فالسفر بهذا المعنى هو تنقل من اجل البحث، نظرا لأن الانتقال يكون دائما مدفوعا بدوافع الرغبة في الاكتشاف و التوصل إلى المجهول.
وإذا ما رجعنا إلى رواية "المعلم علي" فإننا لن نجد سفرا بالمعنى الحقيقي للكلمة، و إنما سنجد تحركات داخل فضاء مدينة فاس، و سنجد تحديدا نوعين من التنقلات:تنقلات فعلية.
تنقلات ذات خاصية مجازية.
و على العموم، فإن مجموع هذه التنقلات يمكن تصنيفه إلى ثلاثة مستويات:الانتقال على مستوى الأمكنة: يترسخ لدى قارئ الرواية انطباع واضح بالقلق و التوتر اللذين يميزان شخصية "علي" و ذلك من خلال تعدد تنقلاته المكانية، إذ نجده يتنقل من مكان إلى آخر:
(المنزل المطحنة دار الدبغ المعمل السجن)
و الملاحظ أن هذه التنقلات تتميز بكونها تنقلات غير تلقائية، و إنما نزولا عند رغبة العيش، إلا أن التنقل من دار الدبغ إلى المعمل يشكل بداية لحدث نوعي بالنسبة لِـ"علي" هو بداية التمرس بالعمل/ الوعي النقابي الشيء الذي سيؤدي به مرغما إلى أن يعيش تجربة السجن التي ستخلق منه إضافة إلى مناضل نقابي، منظرا للعمل النقابي و السياسي. فالتنقل على مستوى الأمكنة داخل الرواية، يمثل تدرجا من حالة الوعي السلبي المضطرب نحو حالة الوعي الإيجابي، و يمكن تجسيد ذلك عن طريق الشكل الآتي:
المطحنة دار الدبغ المعمل السجن تأسيس النقابة.
وعي سلبي وعي مضطرب وعي نقابي وعي سياسي إحراز الاستقلال.
الانتقال على مستوى العلاقات: رغم الصفة القارة لعلاقات "علي" بأمه و إخوته، فإننا سنجد بصدد علاقاته العملية تبدلا يعكس القلق و التوتر المميزين لشخصيته، و أول مظهر لهذا التوتر هو تركه المعلم التدلاوي و اشتغاله عند المعلم عبد القادر الذي سيضطر لتركه هو الآخر للالتحاق بعمله الجديد في المعمل حيث سيتصل بالعمال المغاربة و الفرنسيين، ثم في السجن الذي سيتعرف فيه على نوع آخر من الناس هم المناضلون النقابيون. و أهم ما يميز علاقات "علي" هو علاقته المتميز بكل من الحياني و عبد العزيز، فالأول يمثل تتميما لشخصية علي / المناضل. أما الثاني فيمثل عقل علي/ المناضل، فإذا كان علي يفتقد الوعي النقابي و السياسي، فإن هذا الزاد سيصله من عبد العزيز، و يمكن رصد حالتين لـ "علي" قبل اتصاله بعبد العزيز و بعده:
ما قبل اتصال علي بعبد العزيز
ما بعد اتصال علي بعبد العزيز
علي التمرد
انفعال و انعدام المنهجية في النضال.
علي الثورة.
دراسة و اكتساب المنهجية في النضال النقابي و السياسي الانتقال على مستوى التعبير:
يمكن ملاحظة أن سلوك (علي) يتدحرج تدريجيا وبصورة حاسمة من حالة القبول بالواقع كما هو إلى حالة الدخول في صراع مع هذا الواقع. فبعدما كانت لغة (علي) لغة بسيطة، تتسم بالخضوع والقبول ــ ولو ظاهريا ــ بالوقع على عِلاَّتِهِ:
" ــ صباح الخير آسيدي المعلم...
ــ أمي تقرئك التحية، وتسأل عن صحتك..." ( ص.44 و45).
فإن هذه اللغة هي التي سنجدها بشكل مختلف ومتطور نسبيا حين يتكون لدى (علي) ذلك الوعي الجنيني/ النقابي، فيتداخل الآخر (الجماعة) والذات، حين تدرك هذه الأخيرة همومها كجزء من هموم الجماعة (الطبقة):
" ــ أ صحيح أننا لو اتحدنا لما استطاع المعلم عبد القادر أن يطردني... ؟" (ص.186)هذا هو السؤال الذي يكشف عن بداية تخلخل البنية الفكرية الاستسلامية التي سيطرت على (علي) والتي ستتطور أكثر فيما بعد، حين نجده مثلا يقول:
" ــ لو كنا مسلحين بالنقابة لتحَمَّلَتْ مسؤولية القيادة." (ص.308)
" ــ لِمَ لانُكَوِّنُ نقابة مستقلة عن نقابتهم." (ص. 309)
إن هذا التعبير يزيح الستار عن اكتساب وعي نقابي، سيتطور بعد ذلك إلى وعي سياسي بعد فترة السجن:
" ــ لا تضطرب فالسجن أُسِّسَ للرجال، وقد تكون كاكثر الذين تراهم هنا مظلوماً.
ــ كلنا مظلومين، ولكنا نتقبل الظلم بقلب مليء بالأمل، ومن الخير لك ألا تغتم فتفقد الأمل، فستضاعف من مدة سجنك من حيث لاتشعر." (ص. 342) " ــ منذ الآن يجب أن ننصرف عن الطريق المسدودة إلى الطريق المفتوحة: إلى تكوين جماهير الاستقلاليين." (ص.376)
" ــ ولكن، لأن أعمل على تكوين مناضل استقلالي يحقق الاستقلال والنقابة خير من أن أنفق جهدا من جهدي في تكوين نقابي يبحث عن النقابة فلا يجد." (ص. 377) الراوي ووجهة النظر:
قد نجد مرادفات لمصطلح وجهة النظر ( POINT DE VUE) في النصوص النظرية الخاصة بالسرديات مثل: مصطلح (رؤية / VISION) ويستعمله ( ج. بويون / J.POUILLON)، وكذا مصطلح ( التبئير/ FOCALISASION) ويستعمله (ج. جينيت / G. GENETTE). والمعروف أن هناك ثلاثة أشكال لوجهة النظر هي:
الرؤية من خارج أو التبئير الخارجي: وفي إطارها يمنع الراوي عن نفسه التسرب إلى ضمائر الشخصيات، إنه يدعي الجهل بالمحركات والنوايا، ولهذا تتقلص شخصياته إلى خواصها الجسدية أو سلوكاتها.
الرؤية المصاحبة (مع) أو التبئير الداخلي: حيث يتطابق الراوي مع شخصية من شخصيات الحكاية فيرى بعينها الناس أو أفعالهم.
الرؤية من خلف أو انعدام التبئير: وهنا يكون الراوي عليما (OMNISCIENT)، إنه متفرج ذو حظوة بالغة، نظرا لأنه يعرف بصفة تامة الأفكار السرية أو الأفعال المستترة للشخصيات، ويمكنه أن يخبر بها القارئ، وهذا النوع من الرؤية هو المستعمل في الرواية التقليدية.
ويمكن القول بأن رواية ( المعلم علي) تنتمي إلى الرؤية من خلف، لأن الراوي يبدو عارفا بعالمه معرفة تامة، وهي معرفة متعلقة بتفاصيل الأحداث، كما أنها معرفة متعلقة بما يجري حتى في أذهان أبطال الرواية، ويمكن أن نلاحظ هذه المعرفة المزدوجة في النموذج التالي:
معرفة على مستوى الظاهر" كان الجنرال مضطربا وهو يستقبل نواب جمعية أصحاب العمل مع نواب النقابة ... ولكنه كان يجلس إلى مكتبه ... يبحث أوراقا بين يديه في اضطراب.معرفة على مستوى الباطن لم يكن يقرأها أو يبحث عن شيء فيها. وإنما كان يشغل يديه وهو يفكر قبل أن يبدأ حديثا لايدري بعد كيف يوجهه. كان يستعين على التفكير بالتدخين." (ص. 362 ـ 363)
إن الراوي هو الشخصية المتخيلة التي نتلقى من خلالها السرد، ويقسم ( توماشيفسكي) الراوي إلى نوعين:
الراوي الذاتي (NARATEUR SUBJECTIF): ويمكن أن ندرج ضمنه مجموع النصوص الروائية التي يستعمل فيها الراوي ضمير المتكلم، والتي تتميز بكونها لاتروى إلا من زاوية رؤيته هو بحيث يكون شاهدا، أو أحد الشخصيات. وفي هذا الصدد يقتصر سرده على الأحداث التي شارك فيها أو المعلومات التي توصل بها عن طريق مصدر معلوم، أو يكون هو البطل، وهكذا تتركز الأحداث حوله مما يسهل عليه مهمة حكايتها.
الراوي الموضوعي (NARATEUR OBJECTIF): ويجوز أن ندرج ضمنه الراوي الذي يستعمل ضمير الغائب. وهو راوٍ يتميز بقدرة خارقة " على التحرك في جميع الاتجاهات" كما يقول (ألان غوب غرييه) عن (بلزاك).
وإذا كانت وضعية النوع الأول من الرواة تسمح بتفسير الطرق التي يستقي منها الراوي مصادر ما يحكيه، فإن وضعية الثاني تعمل على تجاوز ذلك نظرا لأن علاقته بالأحداث و الشخصيات لايمكن إدراكها.
أما فيما يخص رواية (المعلم علي) فإننا نجد بأن أحداثها تُروى بضمير الغائب، مما يجعل الراوي في هذه الرواية راويا موضوعيا، لكن ما سمات الراوي الموضوعي في رواية (المعلم علي) ؟ لقد أكد الكاتب باستعماله ضمير الغائب، أنه سيقدم تفسيرا لجميع الوقائع، فما على القارئ إلا أن يتابع الأحداث لمعرفة الحلول، لأن حريته في التأويل والاجتهاد من أجل معرفة الأحداث تكاد تنعدم.
إن استخدام ضمير الغائب ما هو إلا إيهام بالموضوعية، وإنما هو في حقيقته يتجه نحو صيغة وثوقية تضيق الخناق حول القارئ فلا تُقهمه إلا ما أرادت أن يَفهمَه.
الشخصيات في رواية (المعلم علي) :
يقصد بالشخصية في التحليلات الشكلية ظهور اسم علم، أو ما يعادل هذا الإسم، في النص بحيث يحدث ظهوره ما يشبه الفجوة في عملية القراءة. وهذه الفجوة إما أن تمتلئ بالمعنى أو لاتمتلئ. فإذا كان الإسم أو مايقابله قابلين للامتلاء فإنهما إما أن يمتلآ دفعة واحدة كما كان يحدث في روايات (ق 19) أو أن يمتلآ بصورة تدريجية إلى غاية انتهاء الرواية، ويحدث الامتلاء المذكور في شكلين:
امتلاء عن طريق التراكم، حيث كل فعل يقع يعمل على ظهور صفة جديدة تنضاف إلى الصفات الأخرى الخاصة بالشخصية التي أنجزت الفعل.
امتلاء عن طريق العلاقات بين شخصين أو مجموعة من الشخصيات، تتنوع هذه العلاقات بحسب الأغراض التي يراها الكاتب مناسبة للرواية.
إذا استطعنا استخلاص لائحة تامة بالشخصيات التي تتوفر عليها رواية (المعلم علي) لاحظنا التنوع التالي:
وجود شخصيات تظهر على مستوى ما يُحْكى من قِبل الراوي: ونعني بذلك الشخصيات التي تقوم بأعمال هامة أو ثانوية في سيرورة الحكاية، نمثل لها بكل من : علي / الحياني / فاطمة / وكذلك عبد العزيز...
أوضاع شخصيات أخرى تتمركز أهميتها في مستوى الكتابة أو طريقة الحكي: وهذه الشخصيات لاتقوم بأعمال في سيرورة الحكاية، ولكنها تعمل على إبراز بعض الأجواء المتعلقة ببعض التطورات ويمكننا أن نضرب مثلا على ذلك بشخصيات إخوة (علي): عيشة / كنزة / الجيلالي.
شخصيات تذكر بأسمائها كاملة، مثل علي وعبد العزيز، غير أن هذه الوضعية لاتدل على أهمية الشخصية، ذلك أن : الحاج عبد الله أو السي الحسن، يذكران باسميهما دون أن يكون لهما دور على مستوى ما يُحْكى.
شخصيات يتكرر ظهورها على امتداد فصول الرواية مثل (علي)، وشخصيات لاتظهر إلا بضع مرات أو أقل من ذلك، مثل : للا خدوج / عمي اللمطي / قدور...
من خلال هذه الملاحظات نستطيع أن نتبين التنوع الكبير لأساليب تقديم الشخصيات في رواية (المعلم علي)، هذا التنوع يضعنا أمام صعوبة تصنيف كل شخصيات الرواية أو على الأقل المهم منها. وهذه الصعوبة تدفعنا إلى اختيار تصنيف يهتم بنوع الأعمال التي تؤديها هذه الشخصيات إما على مستوى المحكي (ما يُحكى)، أو على مستوى الحكي (طريقة حكي ما يحدث):المعيار الأول: اعتبار عمل الشخصية على مستوى المحكي: ويمكن أن نلاحظ في هذا الإطار:شخصيات تبادر بالقيام بأفعال مستقلة أو أفعال ناتجة عن تطورها السيكولوجي، مثل:علي: في مراحله الأولى قبل أن يتصل بعبد العزيز.
عبد العزيز: في المرحلة الثانية حين أصبح هو العقل المدبر والموجه للجماعة فلا تعمل إلا بناءً على تعاليمه.
شخصيات لاتقوم بأعمال مستقلة، وإنما يترتب سلوكها مباشرة عن علاقتها بالنوع السابق من الشخصيات، ولهذا نلاحظ ضعف صفتها السيكولوجية، ونمثل لها بــ :
علي: بعد اتصاله بعبد العزيز، إذ أصبح الأول فاقدا لمبادرة بذاته.الحياني: على اعتبار أنه هو وعلي يأتمران بأوامر عبد العزيز.المعيار الثاني: اعتبار فعل الشخصية على مستوى صيغة الحكي، وفي هذا الصدد يمكن تبين الأنماط التالية:

ايوب صابر 05-31-2012 08:20 AM

الشخصية ذات الوظيفة الواصلة: ويمكن اعتبار الراوي شخصية مركزية تستقل وحدها بهذه الوضعية.
الشخصيات ذات الوظيفة التكميلية: ونقصد بها ظهور الشخصية لمجرد إحداث الأثر الواقعي للمحكي أو للتأكيد على الأثر، ومن أمثلة هذا النوع يمكن ذكر إخوة علي: (عيشة وكنزة والجيلالي)، لأنها تظهر حجم أسرته وبالتالي عمق مأساته. وكذلك شخصية (فاطمة ــ أم علي ــ)، التي تشتغل غسالة ثياب . كل هذه الشخصيات تظهر مركز علي الاجتماعي.الشخصيات التي تقوم بإحداث الأثر الثقافي: ويمكن تمييز شخصية عبد العزيز في هذا الإطار كمُحْدِثٍ للوعي ومُطَوِّرٍ للثقافة السياسية والنقابية.
الشخصيات ذات الوظيفة الميثولوجية: ونقصد بهذه الوظيفة إحالة بعض الشخصيات في مستوى صيغة الحكي على قصص دينية أو حضارية قديمة، ويمكن أن نذكر مثالا لهذه الشخصية: مولاي ادريس.
على أن تصنيف الشخصيات الذي قمنا به لايوضح الجانب الأهم في شخصياتالرواية، ألا وهو جانب العلاقات بين الشخصيات. ذلك أن هذه الرواية إنما تقوم كشبكة متداخلة من العلاقات بين الشخصيات، يتوازى بعضها ويتعارض الآخر ويتكامل الثالث.التوازي: وفي هذا الصدد نجد أن العلاقة بين بغض الشخصيات تتوازى دون أن تتشابه رغم أن وضعية هذه الشخصيات قد تكون متجانسة أو لاتكون.
علي
الحياني
عمل في دار الدبغ
عمل في معمل النسيج
دخل السجن
عمل في دار الدبغ
عمل في معمل الصابون
دخل السجن
التعارض: هذه التقنية يمكن أن تتجلى في العلاقة بين شخصيتين أو أكثر سواء على مستوى صفات هاتين الشخصيتين أو محكيهما:
عبد العزيز
الجنرال
متفهم / هادئ / يوجه المستغَلِّين / ينظر من أجل النقابة والاستقلال...سلطوي / مضطرب / يوجه المستغِلِّين / ينظر من أجل الاستغلال والاستعمار...التكامل: ولتبرز هذه التقنية على مستوى خصائص الشخصيات أو صفاتها أو آرائها أو سيرورتها ةفي محكي معين، وإنما تتجلى في المنظور العام للرواية، وفي هذا الإطار نجد التكامل فيما بين شخصيتي:
الحياني وعلي عبد العزيز
وعي سلبي مضطرب
وعي إيجابي تابث

ايوب صابر 05-31-2012 08:21 AM

1. عبد الكريم غلاب والواقعية التاريخية والحياتية


محمد معتصم.
عبد الكريم غلاب والواقعية التاريخية والحياتية.

عبد الكريم غـلاب

كغيرها، استطاعت الرواية المغربية أن تحقق لنفسها تراكما كميا ونوعيا. واستطاعت أن تؤسس استمرارها وتحولها، أي تاريخها. فبعد محاولات الاقتباس والترجمة الخجولين والمتعثرين. وبعد محاولات الاستناد إلى الأشكال التعبيرية التقليدية كالمقامة والمقالة. خرجت الرواية المغربية إلى مرحلة التحقق الفعلي، متى كان ذلك؟ يرى الأستاذ أحمد اليابوري أن ذلك بدأ مع الرواية السيرة للتهامي الوزاني "الزاوية". إلا أن الرواية، في رأيي وهو لا يختلف عن آراء أخرى، قد بدأت خطواتها الثانية والناضجة مع تجربتين مختلفتين: الأولى لعبد المجيد بن جلون في سيرته "في الطفولة"، والثانية لعبد الكريم غلاب في روايته "دفنا الماضي".

أول صلة لي برواية "دفنا الماضي" تعود إلى مرحلة الدراسة الثانوية. وقتها كانت صلتنا –نحن الطلاب- متقطعة ومختزلة. لأن الدروس كانت تركز على بعض الجوانب وتهمل أخرى. ولأن المناهج المتبعة وقتها لم تكن بالغنى الذي تعرفه الدراسة النقدية اليوم –دراسة السرد عموما. ولأن المدرسة المغربية لم تكن قد انفتحت على الدرس النقدي الحديث كما في الجامعات وظلت في الغالب تقليدية.
وتباعدت صلتنا بها لأن بعض الدراسات الموازية لرواية "دفنا الماضي" ركزت على بعض الجوانب التي لا علاقة لها بجمالية السرد، ولا بالفتوحات التي ابتدرتها هذه الرواية.

لكن الصلة الحقيقية مع هذا العمل جاءت فيما بعد، عندما بدأ تفكيري في الرواية المغربية والبحث فيها ولها عن ثوابت وركائزتجنسها وتبحث في تربتها الأصلية، وعن جذور ممكنة. ولم يكن ممكنا إغفال روايتي المبدع عبد الكريم غلاب "دفنا الماضي" و "المعلم علي"، وروايات أخرى ك "الطيبون" لمبارك ربيع، وروايتي "الغربة واليتيم" لعبد الله العروي، و"الزاوية" للتهامي الوزاني، و"النار والاختيار" لخناثة بنونة، ورواية "جيل الظمأ" لمحمد عزيز الحبابي،،،. وروايات أخرى تختلف من حيث الشكل والهدف والأسلوب والمضامين. مثل روايات محمد زفزاف وأحمد المديني، ومحمد عز الدين التازي، ومحمد برادة، والميلودي شغموم، وإدريس بلمليح، ثم روايات أحمد التوفيق الذي ظهر مؤخرا وبزخم واسترسال.

أعلنت الرواية المغربية عن منطلقها الحقيقي والفعلي من خلال رواية "دفنا الماضي". ومن خلال الرواية نفسها أعلن المبدع عبد الكريم غلاب عن قدراته الإبداعية وطاقته التخييلية، وعن إمكانياته في رصد التحولات الاجتماعية وسبر أغوار الإنسان المغربي لفترة الاستقلال وما قبلها، وتحديد طبائعه وميوله.
ما يمكن الانتباه إليه في هذه التجربة والتي أراها شكلت خطوات المبدع عبد الكريم غلاب في درب الإبداع الواقعية التاريخية والحياتية. وتتجلى في رصد حركة الواقع العام واليومي المعيش. والقدرة على وصف الشخصيات والتحكم في طبائعها وميولاتها وغرائزها. والتحكم في تسلسل الأفعال والأحداث وتماسكها وترابطها.

إن واقعية الرواية التاريخية تظهر بمعنى آخر في اعتماد البناء على مفهومين نقديين وإجرائيين هما: الترابط والتطور.

= الترابــط:

يُقْصَدُ من الترابط إجلاء العلاقة القائمة بين الأفعال والأحداث سواء في تسلسلها المتعاقب من البسيط إلى المركب (المعقد) ثم العودة إلى البسيط. أي من البداية إلى الذروة إلى النهاية والحل. أو في تركيباتها المختلفة والمتعددة كالتراجع والتقدم المتعثر والبناءات المنكسرة. ولابدَّ في الترابط من تحقيق انسجام بين أجزاء الرواية وأحداثها. حتى لا يبدو أي أثر للتفكك والخلل. لأن في هذه الحالة إثبات لإمكانات المبدع وقدراته على خلق عوالم متخيلة أو محاكية للواقع. لأن الرواية تمثيل للحياة اليومية المعيشة.

= التطــور:

تحافظ رواية "دفنا الماضي" على البناء الأول للحكايات والرواية بحيث تتقدم الأحداث انطلاقا من مبدأ التطور والتنامي. من خلال تتبُّعِ الشخصية في مراحل متنوعة؛ مراحلها الحياتية وتطورها على مستوى الحالات النفسية والوضعية الاجتماعية.

تعتبر رواية "المعلم علي" نموذجا دالا على الواقعية الحياتية. فإذا كانت الرواية السابقة "دفنا الماضي" تتمثل "جيل القنطرة" باسترجاع الأحداث التاريخية وبناء القصة عليها. فإن رواية "المعلم علي" انتقلت إلى الواقعية الحياتية وعملية. فظهر بها مفهوم النقابة والعمل النقابي ومفهوم القانون والحقوق الخاصة بالعمال والحقوق العامة التي تشمل بقية الفئات في المجتمع. وظهرت مفاهيم أخرى كالربح والإنتاج والعامل ورب العمل/المعمل والإضراب والصراع. والدفاع عن العمال والخروج بالعمل النقابي إلى العمل السياسي المناهض للمستعمر والمستغِلِّ. وهو ما سيدفع عبد العزيز (شخصية الرواية) أن يشرح ويبين:" مهمة النقابة الدفاع عن مصالح العمال.. هكذا يفهمها زملاؤكم الأجانب، ولكنها عندكم رسالة لإنقاذ إنسانية الإنسان فيكم". ص (320، المعلم علي).

إلا أنه مفهوم النقابة يستأثر بالأحداث الصاخبة ويفرض تصوره المخالف لما هو عليه في الغرب وينخرط في عملية التحرير والمقاومة.

2/

في "شروخ في المرايا" نقف على نقط للائتلاف وأخرى للاختلاف بينها وبين ما جاء في الروايتين السابقتين. على مستوى البناء أو التقنية الكتابية فيبدو أن الائتلاف متحققٌ. أما على مستوى الموضوعات فهناك بعض الاختلاف.

للمرآة دلالة قوية الآن في الآداب تحليلا وإبداعا. والمعروف أنها تعكس حقيقة الشيء الظاهر. إذا ما توفرت لها الشروط الضرورية وهي الضوء والشيء المنظور إليه والمنعكس على المرآة والعين التي ترى إلى الشيء. وتعد المرآة في الأدب معادلا للذات فهي إمكانية وتقنية كتابية يلجأ إليها المبدع من أجل توليد آخَرِ الذات ومعادله. هاته الحالة تصادفنا في رواية "شروخ في المرايا" حيث تكتشف الشخصية في النهاية معادلها على صفحة ماء النهر الرقراق، من فوق الجسر الفاصل/الرابط بين المدينتين. فتتخلص منه. وما يمكن ملاحظته في هذه المقابلة؛ أن العمل ينبني على فكرة جوهرية متعلقة بالشخصية المحورية. تعلن تلك الفكرة عن تعدد وجود الإنسان، فهناك وجود ممكن مرغوب في تحقيقه وهناك وجود كائن مرفوض يطمح إلى تغييره وتجاوزه.

يقول النص في الصفحة الأخيرة، وبعد جرد الموضوعات التي انبنت عليها أجزاء الرواية: "تعاقبت المرايا على الصفحة الرقراقة في مجرى النهر العجوز المتكاسل، تجلت آخر المرايا ناصعة باهرة. تعاظمت ... اقتربت من عيني (...) تجلى فيها وجه لا أعرفه، لم يكن لي صديقا ولا رفيقا، خصما ولا عدوا".
" ... كان أشعث أغبر شاحبا بادي العياء والتعب والملل والاشمئزاز والإحباط".
" تسلحتُ بكل شجاعتي. جمعتُ كل ما عاش في ضميري من ماضٍ، ومن حاضر، من مستقبل ... تلاشت المرآة الصافية وأنا ألقي بين أمواج الوحل، ومياه النهر تجرفه بتؤدة نحو البحر ...". ص (159).

لعل في هذه الخاتمة ما يفسر معنى الشرخ. ذلك الذي يصيب النفس ويشعرها بالهبوط والإحباط تجاه كل ما يقع.

تتأسس الكتابة عند المبدع عبد الكريم غلاب على الفكر، التَّفَكُّرِ في الأشياء، في الإنسان ومصيره والتاريخ وتقلباته، ومفهوم الحرية، والقانون، والعدالة، والأخلاق. والتفكير في قضايا كبرى ومفاهيم ومقولات عليا غالبا ما تنحو جهة التراجيديا. خصوصا وأن المفكِّرَ لا يجد نفسه بعيدا عن الموضوعات التي يطرحها بل يتشَرَّبُها كيانهُ وتصبح قضيته الخصوصية ويتلخص في كيانه كل الوجود.
وما الشخصية المحورية إلاَّ مرآة تعكس لنا ما يجري وما يحدث في عالمنا من تحولات وكيف تؤثر في الإنسان. ولهذا نسأل في العمل الروائي عن الشخصيات التي استفادت إيجابا عن المرحلة والشخصيات التي انعكس عليها التحول سلبا فضمتها دروب التيه والضياع. فلا نجد إلا شخصية واحدة استطاعت أن تعلن سعادتها وفرحها بما وصلت إليه. وهي الطالبة ذات العينين الخضراوين. والتي ترفض أن ترتبط حياتها بحياة محامٍ. فصمدت إلى أن حصلت على شهادة دكتوراه كي تلقن الطلبة في الجامعة ما لا يفيدهم في شيء. لأن الجامعة عقيمة.
أما الشخصيات السالبة فمتعددة بدءا من الراوي الشخصية إلى ذات العينين السوداوين والطالب الشيوعي المتطرف والحقوقي الذي يحلم بالهجرة في سبيل الله وهو لا يملك جواز سفر. والمحامي الذي يقتات على مشاكل الناس وهفوات وفجوات القانون. والأب الذي يطمع في الاستمرار وتشعب غصون شجرة السلالة/العائلة. والأم الخضوع المستسلمة.

تبدأ الرواية بالحديث عن الولادتين:الطبيعية والحصول على شهادة الإجازة في الحقوق. وتنتهي بتلاشي المرآة الصافية، آخر المرايا. وهذا النوع من البداية والنهاية يحصر التفكير في الجانب المفجع، أي التفكير الوجودي القلِقِ. لهذا فالشخصيات الإيجابية تعلن عن تصالحها الذاتي مع المحيط، وتكيفها مع تحولات المرحلة. أما الشخصيات السالبة فهي تصارع من أجل أن تكون. إنها شخصيات جامعية اكتوت بلفح السهر والحفظ وبنء الأحلام الوردية الجميلة والرغبة في المساهمة في الحياة العامة لكنها تفاجأ بالنتيجة الصاعقة:غياب العمل وتحطم الأحلام على صخرة الواقع. بذلك تفقد الجامعة أو على الأصح الشهادة الجامعية كل قيمة. كيف ذلك؟ يتجسم هذا في الموقف الذي قررته الشخصية المحورية (الراوي) في لحظة إشراق أو لحظة يأس عارم. جاء في النص:" لم أترك النار تلسع أصابعي هذه المرة. كانت هي بين أصابع اليد اليمنى ورقة، مجرد ورقة، شَقِيتُ من أجلها سنوات، سهرت الليالي، حملت الهم بالنهار، حملت أخلاقا مزعجة بالليل. ها هي ذي بين إصبعي: ورقة، مجرد ورقة ستلامس وهج الوقيدة لتقبلها قُبْلةً حرى أبدية، وتستحيل، آه … استحالت؛ رمادا مورقا فاقعا في رماديته. تحول نفثه ذرات لا تقوى على الصمود في وجه هبة ريح ينفثها صدر ضاع فيه الأمل". ص (34.33).

هذا نموذج فقط على الإحباط لكن هناك موضوعات أخرى عالجها العمل الروائي واتخذها مرتكزا ودليلا على فساد الأمكنة والناس والأحلام والمقولات. كموضوعة الحب والزواج والعمل والانتماء، والتاريخ والقانون، والأخلاق، والعدالة. إنها بحق رواية حياة، رواية مرحلة حياتية صعبة وانعطاف خطير يتغذى على ضحاياه. أولئك المسكونين بالحلم والتغيير والمساهمة في البناء العام: بناء الذات والوجود الخاص.

البنــاء والموضوعات.

ليست الرواية رصدا لتحولات المرحلة فحسب ولا عرضٌ لحالة وجودية قلقة ومضطربة حائرة بين وجودها ومصيرها بين ما هي عليه وما تريد أن تكون عليه. بل الرواية بناء ولغة أيضا.

تنبني الرواية في مسارها العام على التراتبية الزمنية. لأنها تلتزم بالمقدمة/البداية وتصعد بالأحداث والحالات النفسية للشخصية نحو الذروة ثم تنتهي إلى حل. وذلك في تناسق وترابط وانسجام فلا يحس القارئ بالتفكك أو الانكسار.
ولهذا البناء العام أثر على البناءات الصغرى المتعلقة ببناء المحتوى في كل جزء من أجزاء الرواية وبناء الشخصيات، والبناء الخارجي للأجزاء.

على مستوى تراتبية الموضوعات والتي تتحول بعد التأمل والحوار إلى مقولات فكرية قد أفرغت من محتوياتها، حسب رؤية الراوي [وهو طالب مجازٌ في الحقوق، لم يعثر على ضالته فأصيب بالخيبة] ... أقول على مستوى ترتيب الموضوعات نجد الرواية تحتفي بما يلي:
موضوعة الحب. حيث يتحول الحب من مشاعر إنسانية متبادلة ومدعومة باتجاهات النزوع والميول الخاصة والمشتركة بين الطرفين المتحابين، إلى نوع من الاستلاب. لأن المُحِبَّ يفقد السيطرة على نزوعه ويفقد التحكم في رغباته وينقاد طواعية لما تمليه عليه استيهاماته. ويتحول عند بعض الشخصيات إلى قيمة اجتماعية مدروسة قبْلاً. وهو ما أثر في الراوي واسترجعه بمرارة خلال مسار الرواية. أقصد فتاة الكلية ذات العينين الخضراوين.
وعن هذه الموضوعة تتولد موضوعة الزواج. فإذا كانت المرأة سلطة فإن الزواج أكبر خطأ في ظل شروط المرحلة القلقة والمضطربة حيث أُفْرغتْ كل المقولات من محتوياتها. لأن في رفض الزواج رفض للاستمرار، ورفض للمشاركة في الإنجاب والتكاثر دون اختيار. واتباع نهج الآباء بشكل تقليدي بدون رأي أو رؤية خاصة ذاتية.

هناك أيضا موضوعة الاعتقاد، يطرح من خلالها الراوي-وعبر سجال فكري عابث حينا وجاد آخر- ما يهيمن على الفكر في المرحلة القلقة الحالية. وقد اختار لها نموذجين من طلاب الكلية: الأول كرس حياته للشيوعية، الدين الجديد الذي ينبغي أن يتحقق في العالم بأسره وألا ينحصر فقط في بعض البلاد الشرقية والغربية. والثاني كرس حياته للهجرة في سبيل الله لإحلال الإيمان محل الكفر في المعمور. لكنهما معا يصطدمان بالفشل. ولذلك يُرْجِعُ الأول فشله إلى ماركس الذي لم يفكر في تجاوز البحر. ويكتشف الثاني أن الهجرة لا يمكنها التحقق لأنه لا يملك جواز سفر. إلا أنهما يأبيان الاعتراف بذلك الفشل الذريع.

موضوعة الإعلام، السلطة الرابعة، تأخذ نصيبا من النقاش في الرواية، وطبعا فالراوي ينطلق من نقطة واحدة وينظر إلى الوجود والموجودات بعين واحدة فلا يرى في الجرائد غير الكلام المرتجل والخائف وكأن الرقيب ما يزال قيد الحياة يمارس سلطته بل تسلطه. وعن الإعلام تولَّدَتْ موضوعة السياسة والوطنية والتحرير. وكذلك موضوعة الهجرة إلى البلاد المتقدمة من أجل تحسين شروط العيش أو البحث عن عمل يسد رمق الجوع.

سيجرب الراوي الإيمان الصوفي لعل بارقة أمل تسطع على كتفيه. لكن لا أمل! والاطمئنان اللحظي الوحيد الذي شعر به الراوي يتمثل في عالم الأموات. في اليوم الذي قضاه في المقبرة. يقول مؤكدا شعوره :" وجودي بينهم؟ معهم؟ ". ص (139).

ينبني حكي الموضوعات على مستويين: مستوى عام ومهيمن، وهو السرد الذاتي. ومستوى ثان، وهو السرد الغيري.
يتكلف الراوي الشخصية بلملمة أطراف الحكاية ما دام هو محورها. وقد وظف لهذه الغاية تقنيات كتابية متعددةً ومتنوعة. كلها ساهمت في إبراز محتوى الأفكار المطروحة (للنقاش) والأحداث المرصودة في الحياة العامة للمرحلة. منها: البوح والتأمل والشرود والاستذكار والاسترجاع والاعتراف.
أما السرد الغيري، ونقصد به إشراك الشخصيات الأخرى في بناء النص بأصواتها الدالة عليها موقفا ورؤية فقد استعان المؤلِّفُ بالتقنيات الكتابية الأكثر انتشارا كالحوار. وهو يغطي مساحات مهمة من العمل الروائي. وكالسجال فيما يتعلق بمحتوى القضايا الكبرى المثارة أعلاه.

لا تختلف لغة "شروخ في المرايا" عن اللغة في الروايتين الهامتين السالفتي الذكر: "دفنا الماضي" و "المعلم علي". لأنها لغة فكر وبالتالي فهي تحاجج. ولغة المحاجة لغة تقريرية سليمة محور تركيزها الإفهام، وتوصيل المعلومات وتوضيح المعنى. كما أن لغة الرواية تستثمر ثقافة صاحبها –الراوي- فتطعِّمُ الأسلوب ببعض الآيات القرآنية وبعض الأمثال الشعبية والعربية الفصيحة، وببعض الأبيات الشعرية. وهذا الذي وقفنا عليه في موضع آخر خصصناه لمجموعة الكاتب القصصية "هذا الوجه أعرفه".

تلتزم رواية "شروخ في المرايا" بالنهج الذي اختطه المبدع عبد الكريم غلاب لنفسه منذ العمل الثاني "دفنا الماضي" في مساره الإبداعي. وهو بذلك يشكل البداية الحقيقية للرواية المغربية وجدعا تفرعت منه غصون أخرى تكتب وفق تصورات مختلفة سواء على مستوى الشكل (الخطاب) أو على مستوى المحتوى (القصة). وهي أشكال كتابية تتعايش فيما بينها من أجل تلميع سماء الرواية المغربية المعاصرة والحديثة.


محمد معتصم الناقد الأدبي.
الدار البيضاء. المغرب.
25/03/1996م.

ايوب صابر 05-31-2012 08:21 AM

عبد الكريم غلاب.. «المعلم علي» وزيرا في إصلاح الإدارة

حين طالب أوفقير بشنق علال الفاسي في ساحة عمومية

نعمان الهاشمي
قد يكون الرجل الوحيد، الذي لا يريد أن يرتبط اسمه بوزارة، قدر ارتباطه بالفكر والأدب والصحافة، هو عبد الكريم غلاب، الذي ربما كانيفكر في أي شيء إلا أن يصبح يوما ما وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول، يقلب ملفات الإصلاح الإداري. إذ كان مفهوما أن يتربع على عرش وزارة الثقافة، هو الرجل الذي مكث طويلا يقود اتحاد كتاب المغرب في فترات أشد حرجا وصعوبة، في سياق صراع الثقافة والسلطة.

كان منطقيا كذلك أن يتم تعيينه وزيرا للإعلام، بحكم أنه لم يمارس مهنة غير الصحافة، مع أنه كان أقرب إلى صديقه في الطفولة، الكاتب المبدع عبد المجيد بنجلون، كما الشاعر عبد الكريم بن ثابت. وقد استطاع، في غضون تطورات تلك الممارسة، التي اتسمت بالحرص الشديد على المهنية والموضوعية، ولو أنها كانت ترجح المنطلقات الحزبية، أن يفرض مدرسة في الصحافة المغربية، يصح نعتها بـ»مدرسة العلم»، يوم كانت المنبر الوحيد الذي يستقطب الكفاءات والأصوات، في انفتاح يعود الفضل في جانبه الثقافي إلى عبد الكريم غلاب، على الرغم مما عرف عنه من تغليب النزعة الحزبية، باعتباره قياديا بارزا في حزب الاستقلال وأحد رموزه الفكرية، بعد الراحل علال الفاسي وعبد العزيز بن إدريس وعبد الخالق الطريس.

هل كان خطأ أنه استسلم للانتماء الحزبي يوم اقتضت ضرورات سياسية أن ينتقل حزب الاستقلال إلى الواجهة الحكومية بعد انتخابات 1977، وقبِل في غضون ذلك بمنصب الوزير المنتدب؟ أم أنه كان يطلب ذلك المنصب الاعتباري ليسجل ضمن مساره السياسي والثقافي، مع أنه لم يكن في حاجة لأن يركب سيارة الوزارة أو يقبع في مكتبها أو يدير ملفاتها.
لقد كان غلاب أكبر من كل الوزراء، إذ سطر من مكتبه في الطابق الثاني في مقر «العلم» في شارع علال بن عبد الله افتتاحية نارية تهدد بإسقاط حكومات وتتوق إلى فرض الخيار الذي كان يتبنى الدفاع عنه، أي الديمقراطية والتعادلية، غير أنه رغب في إضافة صفة إلى سجله الحافل بالعطاءات الفكرية والإبداعية والإعلامية، والتي يشهد بها حتى خصومه السياسيون، فالرجل كان منسجما مع نفسه وقناعاته، وظل صوتا خالصا للالتزامات التي ندر نفسه للدفاع عنها.
غضب الملك الحسن الثاني، يوما، جراء افتتاحيات «العلم» وأقسم بأغلظ الأيمان أنه سيأتي يوم تكسر فيه الأقلام ويجف فيه الحبر، فقد كان أكثر ما يزعجه في تلك الفترة أن يجاري حزب الاستقلال، الذي صوت لفائدة دستور 1962، طروحات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي كان قد انشق من رحمه، وكان يعتبر وجود علال الفاسي في زعامة الاستقلال تجسيدا لصوت الحكمة، إلا أن عبد الكريم غلاب كان، إلى جانب محمد الدويري، يعكس ميولا في التصعيد، ويتحدث بلغة أكثر انتقادا. لكنه حين يواجه خيارا بين صدور «العلم» أو حجبها نتيجة قرار الرقيب، كان يهتم بعدم حرمان القراء، الذين ينتظرون صدور الصحيفة في اليوم الموالي.
أحيانا كان غلاب يعمد إلى تغليف كلماته النارية بتوابل تساعد في هضم نبراته شديدة المرارة، وأحيانا يفضل الإقرار بأن عدد أمس حجزته الرقابة، ولم يكن من حق الصحافة في تلك الأيام أن تكشف شيئا مما أزعج الرقيب، الذي كان يحتمي داخل مكتب في وزارة الأنباء.
حكى الراحل بوعزة الحافر، الموظف السابق في وزارة الأنباء، أن أشد ما كان يؤثر في نفسه أن يرفع تقريرا شفويا في غالب الأحيان يفيد بأن عددي «العلم» أو «لوبنيون» غير قابلين للصدور، غير أنه كان مضطرا للقيام بذلك، وكان يردد أحيانا «أفضل أن أضع شارة الرقيب من أن أترك قوات الأمن تفعل ذلك بغلظة». غير أن عبد الكريم غلاب عاين بأم عينيه كيف أن قوات الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية اقتحمت مبنى مطبعة الرسالة وكسرت آلات الطبع من أجل ألا تعاود الاشتغال مرة أخرى، وقد تطلب الأمر القيام بإصلاح آلة السحب في وقت احتجبت فيه صحافة حزب الاستقلال عن الصدور شهرا كاملا أو ما يقارب ذلك.
غير أن صاحب «الأبواب السبعة»، روايته الشهيرة، سيجد نفسه يوما رفقة مدير «لوبنيون»، المحامي محمد برادة، يدلف أبواب سبعة من نوع آخر، تختلف عن أبواب وأقواس مدينة فاس، فقد اقتيد الرجلان إلى سجن لعلو في أكتوبر 1969، بتهمة نشر أنباء مخلة بالأمن العام.
كان الراحل علال الفاسي هو من كتب افتتاحية بعنوان «سيادة الشعب لا يتصرف فيها» تنتقد نتائج مفاوضات جرت مع الجزائر في موضوع ترسيم الحدود، غير أن غلاب تمسك بأن الموقف يعكس التزامات حزب الاستقلال، ولم يمض أكثر من عام على ذلك الحدث حتى غيب الموت الزعيم عبد الخالق الطريس.
وقتذاك، تأثر علال الفاسي كثيرا وقال ما يفيد إن الأقدار الإلهية اختارت الطريس إلى جوارها كي لا يعاني مما يحدث في قضايا تطال الحدود المغربيةـ الجزائرية، لذلك سارع الجنرال أوفقير إلى المطالبة برأس علال الفاسي وشنقه في ساحة عمومية، غير أن المفاجأة ستكون إسناد منصب أول سفير مغربي في نواكشط إلى قاسم الزهير، المدير السابق لجريدة «العلم»، إذ كان الحسن الثاني يتحدث في كثير من الأحيان بلغة الإشارات.
عندما كان عبد الكريم غلاب يقيم في القاهرة، كان من بين القلائل الذين يتحلقون حول الدائرة الصغيرة التي يجمعها الزعيم عبد الكريم الخطابي تحت لواء مكتب تحرير المغرب العربي. وقد أثرت هذه التجربة في مسار حياته، إلى جانب الدور الذي اضطلع به صاحب «نداء القاهرة»، علال الفاسي، لذلك وجد غلاب نفسه ينجذب أكثر إلى التاريخ، فكتب عن الحركة الوطنية، فكرا وتاريخا، وسخر قلمه لشرح سيادة حزب الاستقلال، تماما كما حول الرواية المغربية إلى حلقات متواصلة في رصد الواقع المغربي، خصوصا مدينة فاس التي عاش بها طفولته، كما كتب في القصة القصيرة والنقد، وربما أن العالم الوحيد الذي لم يطرقه يوما هو الشعر، بالرغم من أنه كتب في نقد الشعر والإبداع.
وقد كان حين تتعبه الكتابة الجادة في الافتتاحيات والسجالات الفكرية والأدبية وفنون الإبداع ينحو في اتجاه السخرية التي كانت تجد مجالاتها في عمود يومي أطلق عليه اسم «مع الشعب» يعرض فيه مشاكل المواطنين وقضاياهم. لكن تلك الكتابات ستجلب عليه المزيد من المتاعب، خصوصا حين كتب يوما ينتقد استفحال ظاهرة الإجرام والسرقة التي تفشت كثيرا. فالرجل الذي كان يعيش «مع الشعب» في رصد مشاكله وطموحاته، كانت له حياة أخرى أقل مدعاة للقلق، لكنه كان يفرق بين التزامه الفكري والسياسي وبين حياته الخاصة، إذ كان يمارس هوايته المفضلة في مسالك الغولف أو يسافر بعيدا عن هموم الشعب، أو يقتطع من وقته بعضا منه للانشغال بأمور أخرى، مع أنه كان شبه زاهد في مسائل عديدة.
لم يهزم غلاب على رأس اتحاد كتاب المغرب، الذي قاده خلال ولايات عدة، سوى نزعة الاصطفاف السياسي، فقد كان رئيسا للجميع، واستطاع بعد الدكتور محمد عزيز الحبابي، الذي كان يراهن على البعد الإقليمي للاتحاد، عندما كان ينعت باتحاد كتاب المغرب العربي، أن يجعل منه إطارا ثقافيا فوق الاعتبارات الحزبية، لكن تطورات سياسية وثقافية حتمت انتقال المسؤولية إلى الدكتور محمد برادة، الذي لم يكن يخفي ولاءه للاتحاد الاشتراكي.
كانت صحيفة «المحرر» قد بدأت في منافسة الوجود الكاسح لصحافة حزب الاستقلال، وتراجع نفوذ الملحق الثقافي الذي كانت تصدره «العلم»، برعاية الكاتب الصحفي عبد الجبار السحيمي، فأصبح لـ»المحرر» ملحقها الثقافي، الذي استقطب كذلك الكثير من الأقلام والأسماء. غير أن عبد الكريم غلاب سيكون له الدور المؤثر في النقابة الوطنية للصحافة، التي حاربت على واجهات عدة لتكريس حرية الرأي والتعبير وإلغاء الرقابة المسبقة على الصحافة. وحين انتقلت هذه الأخيرة إلى طبعة جديدة جمعت بين مدراء الصحف والمحررين، كان غلاب يكتفي بموقعه، خصوصا حين تولى المسؤولية خلفه في «العلم» محمد العربي المساري، الذي عمل من أجل انفتاح أكبر لصحيفة الحزب، ولم يكن يتجاوز الإطار العام الذي رسمه غلاب بقلمه وإدارته وسلطته المعنوية.
لعل الأمين العام لحزب الاستقلال محمد بوستة كان أكثر حماسا لإسناد منصب وزاري إلى عبد الكريم غلاب، وقد تردد، وقتذاك، أن الملك الراحل الحسن الثاني كان وراء فكرة تولي الدكتور سعيد بلبشير وزارة الثقافة، خلفا لوزير الدولة الحاج محمد اباحنيني، وبالتالي فإن تعيين غلاب وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول كان يراد من ورائه نوع من الإرضاء، أكثر مما كان يهم تدبير القطاع الذي أسند إليه.
سيأتي لاحقا وزير استقلالي آخر إلى قطاع الوظيفة العمومية، في شخص القيادي البارز في الحزب محمد الخليفة، وسيكون من بين مهامه أن ينفض الغبار عن الخلاصات التي كان قد أقرها الوزير غلاب، الذي اضطر إلى العودة إلى مسقط وجوده «العلم»، بعد خروج الاستقلال إلى المعارضة.
وبالرغم من أن غلاب كثيرا ما صنفه خصومه بأنه كان يدعم تيار محمد الدويري داخل حزب علال الفاسي، فإنه أقفل الباب وانسحب حين واجه ممارسات لم يقبلها من طرف الزعيم النقابي عبد الرزاق أفيلال. كان ذلك بمثابة عودة الضمير المهني والأخلاقي، لكن غلاب على امتداد ولايات تشريعية، خاض فيها منافسات انتخابية محتشمة في الدار البيضاء وسلا، لم يكن يحبذ المواجهات داخل البرلمان، فقد كان رجل فكر وليس رجل ميدان، ولم يحدث أن رفع صوته في مواجهة أي قضية، باستثناء كتاباته التي كان يعتبرها صوتا آخر لبرلمان دائم.
في المرة الأولى، ترشح غلاب للبرلمان تحت مبرر أن سكان دائرة انتخابية في الدار البيضاء تمنوا عليه ذلك، مع أنه لم يقطن الدار البيضاء أبدا، على عكس شقيقه الطاهر، الذي عرف بأسطوله في النقل الذي جاء منه شاب اسمه كريم غلاب، ليصبح مسؤولا عن شبكة الطريق السيار ثم وزيرا للنقل والتجهيز.
وفي مرة لاحقة، اختار غلاب الذهاب إلى مدينة سلا لتجريب حظه، غير أنه ترك لخطباء الحزب أمثال محمد الخليفة ومحمد الوفا وعبد الحق التازي، وقبلهم عبد الخالق الطريس، أن يكونوا رؤساء الفريق التعادلي، واكتفى دائما بدوره منظرا وصاحب تحليل، إذ كان يدبج البيانات ويشرح المواقف ويصارع عبر القلم وحده.
مثل توفيق الحكيم وطه حسين، كان غلاب يغلق عليه مكتبه في «العلم» ويقتطع من وقته ما بين مراجعة المواضيع وكتابة الافتتاحية، زمنا آخر يخصه للإبداع، ذلك أن غالبية رواياته وقصصه تولدت من داخل مكتبه في «العلم»، وإن كان الراجح أنه كان يعيد قراءة الأحداث والإبداعات في مكتب آخر في إقامته، ثم يسرح بنظره في نهاية الأسبوع في مسالك الغولف.
وحين لم يعد لاعبا ـ تردد أنه كان يتقن هوايته ـ أصبح يفضل المشي ويتأمل في صورة بلد منحه الشيء الكثير. وقد اضطر إلى اعتزال السياسة، لكن لم يتخل أبدا عن الكتابة، لأنه لا يقدر على تغيير هويته كاتبا قبل أن يكون سياسيا أو وزيرا.

ايوب صابر 05-31-2012 08:22 AM

عبد الكريم أحمد غلاّب 1919م-
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

ولد الروائي والكاتب القصصي عبد الكريم غلاب في مدينة فاس بالمغرب. دخل في طفولته مدرسة الكتاب لحفظ القرآن ثم مدرسة سيدي بناني بفاس وانتقل من بعد إلى كلية القرويين بفاس أيضا حيث أكمل علومه المتوسطة والثانوية. التحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة بمصر ونال إجازة جامعية في الآداب.
علّم في مطلع حياته في المدارس المصرية والمغربية ثم عمل في الصحافة الأدبية. عيّن في وزارة الخارجية المغربية في أواسط القرن الماضي وأصبح وزيراً في الحكومة المغربية عام 1981. عضو في حزب الاستقلال. شغل مراكز مهمة في اتحاد الصحفيين العرب ورئس اتحاد كتاب المغرب وأصبح عضواً في أكاديمية المملكة المغربية والمؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسة (بيت الحكمة).
يتحدر غلاب من عائلة برجوازية. كان أبوه تاجراً أسهم في تاسيس المدارس الحرة لأن التعليم الرسمي التي كانت تشرف عليه الإدارة الفرنسية لم يستجب لحاجات الشعب وتطلعاته.
أسس في القاهرة أثناء دراسته الجامعية، مع عدد من الطلاب المغاربة رابطة الدفاع عن المغرب ضمت مغاربة من تونس والجزائر ثم كوّن معهم "مكتب المغرب العربي" هدفه المطالبة باستقلال الدول المغاربية والمطالبة بتحرير بعض القادة الذين سجنتهم السلطات الفرنسية المستعمرة. وعمل لدى عودته إلى المغرب أستاذاً وصحفياً ومناضلاً فدخل السجن ثلاث مرات.
عاد بعد استقلال المغرب سنة 1956 إلى الصحافة ودخل السلك الخارجي ولكنه استقال بعد مدة قصيرة ليعاود عمله في الصحافة حيث عمل فيها أكثر من ربع قرن. وكان خلال هذه المدة يؤلف وينشر ويلقي المحاضرات في البلدان العربية وكندا والولايات المتحدة.
خاض الانتخابات لأول مرة سنة 1977 في مدينة الدار البيضاء ففاز وعين وزيراً. على أنه لم يهمل عمله الثقافي في خلال هذه المدة فأضاف إلى كتابة القصة والرواية والبحث النقدي، البحث التاريخي المتعلق بتاريخ الحركات الوطنية والبحث القانوني والدستوري والديمقراطي.
- لغلاب خمس روايات منها: سبعة أبواب 1965 وهي سيرة ذاتية عن تجربته بالسجن، دفتا الماضي 1966، صباح ويزحف في الليل 1984.
- وثلاث قصص هي: مات قرير العين 1965، الأرض حبيبتي 1971، وأخرجها من الجنة 1977. وعشر دراسات أدبية وفكرية بينها: صراع المذهب والعقيدة في القرآن 1977، ملامح من شخصية علال الفاسي 1974، الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات 1977. ودراسات تاريخية وسياسية بينها: دفاع عن الديمقراطية 1966، معركتنا العربية في مواجهة الاستعمار والصهيونية 1967، تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب 1976، الفكر التقدمي في الإيديولوجية التعادلية 1979، سلطة المؤسسات بين الشعب والحكم 1987 وسواها.
من أشهر مؤلفاته:
  • المعلم علي
  • دفنا الماضي
  • شروخ في المرايا
  • شخصية عزالدين بقشا
  • من اللغة إلى الفكر
  • نبضات فكر
  • سبعة أبواب
  • رسالة الفكر
  • مع الأدب والأدباء
  • مع الشعب في البرلمان
  • الماهدون...الخالدون
  • في الإصلاح القروي
  • صحفي في أمريكا
  • هذا هو الدستور
  • في الفكر السياسي
  • سفر إلى طنجة
[عدل] وصلات خارجية

مقابلة وثائقية مع عبد الكريم غلاب / قناة العربية

ايوب صابر 05-31-2012 08:22 AM

عبد الكريم أحمد غلاّب
ولد سنة 1919 بمدينة فاس. تابع دراسته بالقرويين، ثم التحق بالقاهرة حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعتها، كما ساهم في تأسيس مكتب المغرب العربي. اشتغل بالصحافة منذ سنة 1948 بتوليه تحرير مجلة " رسالة المغرب" عمل بوزارة الخارجية سنة 1956، كما عين سنة 1983 وزيرا . يشتغل حاليا مديرا لجريدة "العلم".
ساهم عبد الكريم غلاب في تأسيس اتحاد كتاب المغرب وانتخب عضوا في « لجنة الكتابة» المنبثقة عن المؤتمر الأول 1961 ثم رئيسا للاتحاد خلال الفترة الممتدة من سنة 1968 إلى 1976، كما انه عضو في أكاديمية المملكة المغربية وفي المجتمع العلمي العراقي. تتوزع أعماله بين الرواية، القصة القصيرة، الدراسة الأدبية والسياسية.
له مجموعة من الأعمال المنشورة:
- الاستقلالية: عقيدة ومذهب وبرنامج، الدار البيضاء, مطبعة الأندلس، 1960، 167ص.
- هذا هو الدستور، الرباط، مطبعة الرسالة، 1962.
- نبضات فكر: مقالات، بيروت: مطبعة دار العلم للملايين، 1961، 166ص.
- في الثقافة والأدب، الدار البيضاء: مطبعة الأطلس، 1964، 180 ص.
- سبعة أبواب: رواية/ تقديم محمد مندور، القاهرة، دار المعارف بمصر، 1965، 204 ص.
- مات قرير العين: قصص، الدار البيضاء، دار الكتاب، 1965، 195ص.
- دفاع عن الديمقراطية: بحث تاريخي تحليلي، المحمدية، مطبعة فضالة، 1967، 229 ص. (سلسلة الجهاد الأكبر، 2).
- دفنا الماضي: رواية، بيروت، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، 1966، 408ص. (جائزة المغرب لسنة 1968).
- رسالة الفكر، تونس، الدار التونسية، 1968.
- الأرض حبيبتي: قصص، بيروت، منشورات دار الآداب، 1971، 143ص.
- المعلم علي: رواية، بيروت، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، 1971.
- من مكة إلى موسكو، الدار البيضاء، دار الكتاب، 1971.
- دفاع عن فن القول، الدار البيضاء، دار الفكر المغربي، 1972.
- صراع المذهب والعقيدة في القرآن، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1973.
- ملامح من شخصية علال الفاسي، الرباط، مطبعة الرسالة، 1974.
- مع الأدب والأدباء، الدار البيضاء، دار الكتاب، 1974.
- الثقافة والفكر في مواجهة التحدي، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1976. أخرجها من الجنة: قصص، طرابلس، تونس، الدار العربية للكتاب، 1977.
- الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات، طرابلس، تونس، الدار العربية للكتاب، 1977.
- التطور الدستوري والنيابي في المغرب: من سنة 1908 إلى سنة 1977، الدار البيضاء: مطبعة شركة الطبع والنشر، 1978.
- المنظور الاستقلالي للسياسة الوطنية الاقتصادية والاجتماعية، الرباط، حزب الاستقلال، 1979، 44ص، ( سلسلة لجنة الإعلام والعلاقات الخارجية، رقم 14).
- الفكر التقدمي في الإيديولجيا التعادلية، الرباط، مطبعة الرسالة، 1980.
- الوضع الاقتصادي والمالي في المغرب، الرباط، لجنة الإعلام والعلاقات لحزب الاستقلال، 1981.
- أحمد بناني فقيد الأدب والوطنية / عبد الكبير الفاسي، محمد الفاسي، أبو بكر القادري، وعبد الكريم غلاب، الرباط، مطبعة الرسالة، 1981.
- عالم شاعر الحمراء، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1981.
- مع الشعب في البرلمان، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1983.
- تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب: من نهاية حرب الريف إلى بناء الجدار السادس في الصحراء، الرباط، مطبعة الرسالة، 1987، ج1، 462ص؛ ج2.
- سلطة المؤسسات بين الشعب والحكم، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1987.
- مجتمع المؤمنين من هدي القرآن: تفسير الدلالة لآيات تكوين المجتمع، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1988.
- وعاد الزورق إلى النبع: رواية، تونس، الدار العربية للكتاب، 1988.
- في الثقافة الإسلامية والآداب القرآنية، الرباط، منشورات جريدة العلم، 1992، (سلسلة عيون الأحاديث، 1).
- في الفكر السياسي، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1992، 301ص. (سلسلة عيون الأحاديث، 2).
- الماهدون… الخالدون، الرباط، منشورات جريدة العلم، 1992.
- معركتنا العربية في مواجهة الاستعمار / محمد العربي المساري، عبد الجبار السحيمي وعبد الكريم غلاب، الرباط، مطبعة الرسالة، 1967.
- في الإصلاح القروي 1961.
- صحفي في أمريكا، 1992.
- شخصية محمد الخامس.
- من اللغة إلى الفكر

ايوب صابر 05-31-2012 08:23 AM

بلاغة الاستهلال في روايات عبد الكريم غلاب

رشيد بنحدو
تكتسي الجمل الأولى في المحكي الروائي أهمية مزدوجة: فهي، من جهة أولى، تمثل جسرا نصيا يتم فيه شروع القارئ في الانتقال ذهنيا من عالم الأشياء، إلى عالم الكلمات، أي من عالم الحقيقة إلى عالم التخييل. وغالبا ما يرافق هذا الانتقال -الذي يمنح الذات القارئة وجودها الفعلي بعد أن كانت موجودة بالقوة فقط- إحساس غامض لديها بالعسر والارتباك قد يثنيها قبل الأوان عن مواصلة القراءة. ويرجع ذلك إلى أن القارئ، لحظة بداية اقتحامه للنص، يكون بعد مشدودا إلى عالم حياته اليومية، وأن مبارحته له، باعتبارها تخطيا لهوية وجودية حقيقية، لن تكون إجراء عاديا ولا بسيطا.
ثم هي، من جهة ثانية، تمثل عتبة استراتيجية يتم فيها شروع النص نفسه في التخلق والوجود كخطاب متصل، أي في المرور من مجال الواقع إلى مجال الخيال، من الما قبل إلى الما بعد، وذلك بوساطة محفل سردي سيمكن هذا النص من الانبساط التدريجي كديمومة خطابية في فضاءي الكتابة والقراءة.
ونظرا إلى ذلك، فقد بدأ النقد في الأعوام الأخيرة يولي الجمل الأولى في النص الروائي منتهى الاهتمام، حيث حدد أشكالها المختلفة باختلاف البنية التلفظية الشاملة التي تندرج فيها، وعين وظائفها المتنوعة بحسب الجمالية الروائية التي يستند إليها هذا النص. لا جمله الأولى فحسب، بل كذلك جمله الأخيرة بما هي فضاء ختامي يستأذن فيه المحكي القارئ في الانصراف عنه، فينغلق على صدى أو ذكرى نص سيظل عنوانه رمزا كنائيا يشهد عليه.
وإسهاما في توضيح هذه الأهمية المزدوجة، سأفحص في روايات عبد الكريم غلاب(1) جملها الأولى فقط التي استهلت بها ملفوظها الحكائي، والتي سأدعوها "مطالع" (كترجمة لـ "incipits")، حيث سأسعى إلى تنميط أشكالها وتحديد وظائفها ودلالاتها وتحليل رهاناتها، دون اهتمام الآن بجملها النهائية التي أدعوها "مقاطع" (كترجمة لـ "clausules" أو "explicits" أو "exipits").
ومن باب الاستطراد الذي لا يفتقر إلى الملاءمة، يجمل الإلماح إلى أن الخطاب النقدي والبلاغي العربي القديم قد عني بـ"مطالع" النص الشعري، (أو "ابتداءاته" و"استهلالاته" و"افتتاحاته")، من حيث انتهاجها لآثار أسولبية، ذلك أن "حسن المطالع والمبادئ دليل على جودة البيان، وبلوغ المعاني إلى الأذهان، فإنه أول شيء يدخل إلى الأذن، وأول معنى يصل إلى القلب، وأول ميدان يجول فيه تدبر العقل"(2). ووعيا من النقاد بأهمية الترابط العضوي بين المطالع والمقاطع -حيث تصوروا "أول الشعر مفتاحا له وآخره قفلا له"(3)- فقد اشترطوا في كل "من نظم شعرا أو ألف خطبة أو كتابا أن يفتتحه بما يدل على مقصوده منه، ويختمه بما يشعر بانقضائه، وأن يقصد ما يروق من الألفاظ والمعاني لاستمالة سامعيه"(4).
* * *
بين الماقبل والمابعد:
تكتنف مطلع "سبعة أبواب"، مثل كل استهلال روائي، مشكلة الحد الذي ينتهي عنده. وهي المشكلة التي تنحل من تلقاء ذاتها بالاستناد إلى نص المطلع نفسه. بالفعل، تعلن نهاية المطلع عن نفسها بالتحول من صيغة الخطاب التي تميز عتبة الرواية ("لم تكن المرة الأولى التي عرفت فيها السجن، ولذلك لم أكن لأتهيب السجن كما يتهيب الأطفال باب المدرسة لأول مرة، ولم أباغت بالسجن يصدر حكما من فم القاضي أو رئيس الشرطة، كما يباغت الخارجون عن القانون حينما لا يتوقعون نتيجة ما يرتبكون، بل إني كنت أسعى إليه عن عمد وسبق إصرار كما يقول رجال القانون" (ص 9) إلى صيغة سردية خالصة تنفتح بقول السارد-المؤلف/ "واقتربت محنة عشرين غشت، وابتدأت تتجمع نذر الكارثة في الآفاق"(ص11). فكأن هذا الاقتراب إيذان بالابتعاد عن روح التعليق التي تطغى على الخطاب، وهذا الابتداء مؤشر على انتهاء نبرة التقرير التي تطبعه.
ولعل الانطباع الفوري الذي يرتسم في ذهن المتلقي، لدى مباشرته اقتحام مطلع الرواية، هو أن هذه، باعتبارها جوهرا نصيا في طور الوجود، أي في بداية تخلقها، تحيل على جوهر آخر غير نصي يتمتع بوجود قبلي، وذلك بدليل أن ابتداءها بهذا الملفوظ: "لم تكن المرة الأولى التي عرفت فيها السجن" يفيد ضمنيا بأن السارد قد عرف السجن من قبل مرات عديدة. وهذا يعني من جهة أن السارد -ومعه القارئ المفترض- ما يزالان متعلقين على نحو وثيق بعالم سابق على السرد والكتابة هو عالم الواقع، ويعني من جهة أخرى أن ملفوظ المطلع هو ذلك المجاز النصي الذي يعبر فيه كل من السارد والمسرود له من عالم الواقع ذاك إلى عالم التوقع، أي عالم التخييل الروائي، مما يجعله في موقع التخم.
وكما هو شأن سائر المطالع، فإن هذا العبور قد تم بنوع من العسف والعنف. فالنص لا يدشن محكيه مثلا بإعداد القارئ لاقتحام عالمه بتعابير مثل "يحكى أن …"، بل يحتال في اقتلاعه من واقعه وقذفه بقسوة إلى واقعه الخاص. وسيكون هذا القارئ في آن واحد ذات التجربة التي سيعيشها -بحكم رجحان تماهيه مع الأنا المتلفظة- وذاكرة لما عاشه، بحيث إن الكلمات التي سيشرع في قراءتها، من دون أن تكون له بعد مرجعية أخرى غير مرجعية العالم الذي يكتنفه والذي سيبارحه بعد حين، تفترض أن بينه وبين النص تجربة مشتركة تتعلق بعالم الممكن والمحسوس.
فلئن كان هذا المطلع يحتل، مثل كل مطلع، موقع التخم كما تقدم، أي "الحد بين الصمت والكلام، بين الماقبل والمابعد، بين الغياب والحضور"، فإن هذا "لا يعني الحد بين العدم والوجود، [ لأن ] أي عمل أدبي لا ينبني على العدم. فلا يمكن للشروط التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية والفكرية والنفسية واللغوية التي تسبقه أن تكون فراغا"(5). بالفعل، تعلن "سبعة أبواب" عن انخراطها في التخييل بواسطة متوالية خطابية استهلالية ذات نبرة مزدوجة تختص بها عادة لغة التأملات والخواطر: نبرة استطرادية ("كنت إذن أعرف المصير وأسير في طريق السجن راضيا مطمئنا. وقد دهشت حقا إذ مرت مناسبات مهمة لتصفية الاستقلاليين والمثقفين والعاملين، ولعزلهم خلف الأسوار العتيدة أو وراء الأسلاك الشائكة والمراكز المنعزلة. ولكنني رغم الدهشة كنت أو من بأن دوري آت لا ريب فيه" (ص 10)، ونبرة تقريرية ("وكانت الشهور المشحونة بالتيارات تتجمع في الأفق لتنذر بالكارثة، تؤكد أن المصير هو باب السجن" (ص 9). وتبرز هذه المتوالية الخطابية على خلفية ضمنية من الإشارات المادية المشتركة بين القارئ والنص، والتي تدل على مناخ تاريخي واجتماعي ما، وتحدد بالتالي عتبة إدراك معين. فإضافة إلى كونها فضاء يتحقق فيه "أثر الواقع" بامتياز-مما يعني أن النص يوحي منذ مطلعه بأنه ما يزال مشدودا إلى ما قبل النص-فهي (أي تلك المتوالية) فضاء يعكس سياقا سياسيا محددا في لحظة تاريخية محددة كذلك، ألا وهما "ثورة الملك والشعب" في غشت 1953، ومساهمة المؤلف- السارد في إشعال فتيل تلك الثورة، وهو ما قاده إلى السجن، إيمانا منه بضرورة الالتزام بقضية الوطن واتخاذ موقف ضد قوى النكوص والخيانة.
ولا ريب في أن ما يقوي أثر الواقع في المطلع هو أن السارد لا يباشر فقط وظيفة الحكي، بل يتجاوز ذلك إلى التورط في الأحداث المحكية، مستعملا ضمير المتكلم. فهو إذن سارد "داخل-حكائي" (intradiégétique) حسب اصطلاح Gérard Genette(6) أي مشخص في المحكي. وقد خولته هذه الصفة تبئير السرد على ذاته دون سواه من الشخصيات أو الأماكن أو الأزمنة. فزيادة على إهماله تحديد مكان الحدث المحكي في المطلع وزمانه -مما يعني تأجل سيرورة الانتقال من الواقع إلى المتوقع- فهو يستأثر بامتياز البروز على حساب باقي الشخصيات، متخذا من نفسه بؤرة لخطابه. ألا يتعلق الأمر في "سبعة أبواب" بـ"ذكريات تصور تجربة حية عاشها الكاتب فعلا، وهي تجربة السجن ستة أشهر رهن التحقيق أيام الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي لتحرير الوطن المغربي من سيطرته" كما ورد في غلاف الكتاب؟ لذلك، فهو الأنا الساردة والأنا المسرودة في آن واحد، مما أعطى لخطابه نسبة عالية من قابلية التصديق. فكأن مهمته تتعدى السرد الموضوعي لتجربته إلى الإدلاء بشهادة منزهة عن الافتراء والمغالاة. فهو بمثابة "شاهد أو مؤتمن على أسرار أو ملاحظ يحول حضوره النص إلى محاكاة للواقع غير مشكوك في أمانتها"(7).
يتضح إذن أن ما يميز هذا المطلع، بسبب إحالته على عالم جاهز موجود قبل فعل الكتابة، وبحكم طبيعة محفله السردي ونوعية سجله التلفظي، هو كونه فضاء ينبض بآثار الواقع الذي يبدو أن المحكي يتردد في مبارحته من أجل ارتياد آفاق السرد التخييلي. لذلك، ليس غريبا أن يستنفر في المتلقي كفاية قرائية إحالية، تجعله منجذبا بقوة نحو الأنا المتلفظة إلى حد التذاوت معها، وأن يضطلع بالتالي بوظيفة تحقيق التواصل بين النص وهذا المتلقي، التي تزدوج بوظيفة مناورته من أجل إغرائه باقتحامه، خاصة وأن توسل المطلع، وكذا المحكي كله، بضمير المتكلم، كفيل بتحويل القارئ من ذات مستهلكة للنص إلى ذات منتجة له ومتورطة فيه.

ايوب صابر 05-31-2012 08:23 AM

تنصص الواقع:
لعل ما يؤشر على نهاية المطلع في "دفنا الماضي" هو ذلك التحول الواضح من سجل الوصف إلى سجل السرد(8). فالرواية تفتتح متخيلها بمطلع وصفي طويل يبتدئ بمستهل الفصل الأول: "كان حي المخفية بمدينة فاس مقر عائلة (التهامي)، وهي عائلة بورجوازية موسرة من هذه العائلات التي كان لها حظ من مال وحظ من جاه وحظ كبير في التشبث بالتقاليد والمحافظة على الوقار في المجتمع الضيق الذي تعيش فيه. وهو مجتمع لا يخرج عن الحي الذي تسكنه العائلة" (ص 7)، وينتهي بمستهل الفصل الثاني: "كان الحاج محمد يخرج من منزله في الصباح الباكر إذا لم ترهقه شدة البرد وغزارة الأمطار، فقد ألف منذ كان شابا أن يشهد الحي وهو يفيق من نومه وهدوئه، تنبعث الحياة هادئة ناعمة في أوصاله كما تنبعث اليقظة في أوصال الرجل وهو يتمطى فيه فراشه ويتسلل من نومه" (ص 13). ويسعفنا فحص هذين الحدين النصيين على تلمس الانتقال من سجل إلى آخر. فهما، رغم ائتلافهما في الابتداء بفعل مشترك، يختلفان بسبب المضمون الدلالي والوظيفي لهذا الفعل في كل من الحالتين: فإذا كان الملفوظ الأول يبتدئ بـ "كان" بما هو فعل كينونة خالص يصف فضاء الحي بالمقر الذي يحتضن شخصيات الرواية، فإن الملفوظ الثاني يبتدئ بـ "كان" بما هو فعل ديمومة محض يسرد حدثا تعودت على فعله شخصية الحاج محمد، وهو خروجه مبكرا كل صباح للتمون، مما يجعله، بتعبير Genette، ملوفظا "إعاديا" (itératif)، أي "يقص مرة واحدة حدثا وقع مرات عديدة"(9).
ويعتبر هذا التحول اعتياديا في رواية واقعية مثل "دفنا الماضي". فهي، قبل شروعها في السرد، و "لأسباب تتعلق بالتثبيت الإحالي وببروتكول القراءة"(10)، تنصب على عتبتها الإطار المرجعي الذي سيتحقق فيه ما يدعوه Claude Duchet "تنصص الواقع"، أي تحوله إلى نص حكائي بوساطة خطاب وصفي يحدد صورة المكان والزمان والشخصية، وذلك بحسب "إجراءات مشفرنة تنظم طقوس المرور من واقع (العالم) إلى واقع آخر (النص)، على نحو يتم به تجهيز الفضاء (قبل الحكائي) بما يكفي من الكثافة والعمق ليكون للقصة ماض ونقط تثبيت وإحالات تضمنها. هذا في الوقت ذاته الذي يوحي فيه هذا الفضاء بأنه موجود من تلقاء نفسه كامتداد لواقع جاهز وانقطاع عنه في آن واحد"(11).
وتؤلف هذه الإجراءات بلاغة استهلالية تتكفل مباشرة بالجواب عن أسئلة النص المحورية: من يفعل الحدث أو ينفعل به؟ أين يقع؟ ومتى وقع؟
-ففي الوقت الذي يشرع فيه صوت السارد في التلفظ (يناظره شروع مسرود له في التلقي)، تبدأ في التخلق صورة الشخصية التي ستشكل سناد الحدث الأولي. ففي المطلع تصوير مسهب لعميد عائلة التهامي الحاج محمد يهم هيئته البدنية ومظهره الخارجي بحسب الفصول وسلوكه "المستوفي لشروط الوقار والاحترام" (ص 11).
-كما تتحدد في المطلع صورة المكان الذي ستظهر على خلفيته الشخصية هذه، سواء كان هذا المكان حيزا جغرافيا رحبا هو حي المخفية بفاس الذي تستوطنه عائلات "اكتسبت حظا من الثراء وحظا من الجاه" (ص 7)، أو كان قصرا بهذا الحي "توارثته عائلة التهامي(…) تحالف عليه القدم والبلى (…) وتعاقبت على سكناه أجيال" (ص 8)، أو كان فضاء رمزيا يعكس قيم "التشبث بالتقاليد والمحاكمة والمحافظة على الوقار" (ص 7).
-أما الزمن، فيطابق زمن القصة الذي يمكن لملمة عناصره انطلاقا من قرائن نصية غير مباشرة منبثة في النسيج الوصفي للمطلع.
ويقوم بتحبيك هذا الإطار، الذي "يصور نموذجا متناهيا لعالم غير متناه"(12)، سارد "خارج-حكائي" (extradiégétique) بلغة Genette(13) أي غير مشخص في المحكي. وهذه الوضعية تسمح له بمعرفة كل شيء عن كل شيء، مما يبرر تقصيه في تصوير الحي وسكانه وعاداتهم وقيمهم وكذا القصر ومعماره وسكناه ونمط حياتهم اليومية على نحو يشبه الوصف الإثنوغرافي للمجتمع، وذلك في أسلوب تسجيلي ينبئ بطبيعة الجمالية الروائية التي ستستوحيها لغة السرد.
ومن ثم، فإن هذا المطلع يضطلع بوظيفة تخصيصية بما هو فضاء تتحدد فيه السمات الأسلوبية الخاصة التي ستطبع الرواية ككل، ومن ثم ستبني بلاغته الكتابية الخاصة، القائمة على الشفافية والمباشرية والنزوع إلى التصوير والتشخيص، تنضاف إليها وظيفة تأطير الحدث (الذي سيتبلور في الفصول اللاحقة) من حيث مكان وقوعه وزمانه وكذا فاعله أو المنفعل به، لكن أبلغ وظائفه أثرا في تحديد إنتاجيته ومقروئيته هي بدون شك وظيفة التجنيس. ففي عتبتها أعلنت الرواية عن انتسابها المطلق إلى الجمالية الواقعية، ذلك لأن "المطلع، بما هو فضاء استهلالي، يدرج النص ضمن نمط جنسي جمعي. ففي بدايته، يتخذ النص، بطريقة خفية أو معلنة، موقفا من نموذج يصدر عنه نموذج الرواية الواقعية أو الرواية السيكولوجية أو الرواية الجديدة…، نموذج يلعب دورا إحاليا بالنسبة للروائي وللقارئ معا. لذلك ليس المطلع بريئا ولا يمكنه أن يكون بريئا بحكم إحالته على هذه النموذج"(14).
تجذر مزدوج:
تباشر رواية "المعلم علي" سيرورة تخلقها بحوار طويل بين شخصية علي وأمه فاطمة، سيمتد إلى حد مستهل الفصل الثاني الذي يتراكب فيه السرد والوصف: "على باب المطحنة، كان يقف تحت سقيفة من صفيح دقت على خشبة مهترئة، يحاول أن يتقي بها المطر المتهاطل كأنما ينصب من أفواه القرب. عيناه زائغتان تتلفتان ذات اليمين وذات الشمال كأنهما تبحثان عن مستقر. فكره منفعل مشتت لا تنعكس عليه أضواء الصباح ولا يتسم بهدوئه…" (ص 15).
وأن تبدأ الرواية متخيلها بمطلع حواري، فهذا يعني أنها لا تدشن كينونتها على أساس خطاب وصفي يعين الخلفية الزمكانية لوقوع أحداثها وتحرك شخصياتها، أو خطاب سردي يصوغ بنيتها الحدثية، وإنما تدشنها على أساس خطاب خارجي جاهز تسعى إلى مزايلته، وهو الواقع:
"- أفق يا بني، أفق. فقد اضاءت الشمس مشارف السطوح.
- خو…خو…
- أفق يا علي، مالك أصبحت ككيس رمل لا تطيق حراكا…
- أوه…
ندت من علي وهو -يشير بيده متأففا- غارق في نومه العميق، وكأنه في أول ليله…"(ص - ص 5-6).
ولا غرابة في أن يتسم سعيها هذا بنوع من التمحل والتكلف هما من سمات جميع المطالع الروائية. فهذا المطلع يوحي بأن الرواية بادرت إلى مفارقة "ما قبلها" بافتعال حوار بين شخصيتين دون سابق إشعار يبرره ويضفي عليه شرعيته. لذلك، فهو "يجسد صعوبة كل بداية، أي التوتر الناجم عن هذا الرهان: أن يكون الواقع، في ذات اللحظة التي ينزاح فيها عن هذا الواقع لينخرط في الخيال"(15).
والرواية، بمطلعها الحواري هذا، تقذف القارئ رأسا وبمنتهى السرعة إلى غمرة الحدث في طور وقوعه، أو لنقل، بتعبير استعاري، إن القارئ، في هذه الحالة، يركب الرواية وهي في معمعة انطلاقها. فلم يتم إعداده لاقتحام الرواية بخطاب تمهيدي ينقله تدريجيا إلى عالمها الخاص، ولا تم تجهيز النص قبلا بمشهد موصوف أو بصورة للشخصية أو بإطار للحبكة. ولا شك في أن السارد، بسكوته عن ذلك، أراد الإيهام بحكاية مشروع فيها ترسم صورة عالم ما يزال يشد الرواية إليه مثلما يشد النعاس شخصية علي إليه . فكأن ترجح علي بين اليقظة والنوم ترميز إلى تردد الرواية بين الخروج من عالم الواقع والدخول إلى عالم المتخيل:
"… ويهمهم غاضبا وما يزال النعاس يشده إليه:
-… ما يزال الليل يسدل ستاره على الدنيا وهي توقظني كما لو كنت مذنبا أساق إلى مصيري…"(ص 6).
وهو كذلك مصير الرواية (بل مصير كل الروايات) الذي يتقرر في مطلعها، أي قدرها كجوهر ذي تجذر مزدوج: تجذر في الواقع وتجذر في الخيال!
تكمن أهمية هذا المطلع "المباشر"(16) إذن في كونه "يقطع حدثا بدأ من قبل، مما يثير سؤالا أساسيا يتصل بـ"ما قبل القصة الذي لم يكشف عنه، ولكن النص يفترضه. وهذا النمط المطلعي يجر القارئ مباشرة (أي دون توسط أو تدخل ما) إلى الخوض في الحدث"(17)، وفي كونه يباشر وظيفته خاصة. فبخلاف الروايتين السابقتين، اللتين تقومان على سنن حكائي نسقي يتألف من عناصر ومتواليات سردية تتسم، صراحة أو ضمنا، بإحكام الرصف والتركيب -وهو ما يدعوه Roland Barthes بـ"السنن التأويلي"، أي "مختلف العناصر الشكلية التي بواسطتها تتمحور الحبكة وتتوكد وتتوضح ثم تتأجل لتنكشف أخيرا"(18)- فإن رواية "المعلم علي" تكسر أحد عناصر هذا السنن بابتدائها بمطلع يوحي بانفتاحاها على حبكة تكاد أن تكون جاهزة، مما يجعله يزاول وظيفة تسريع إيقاع تشكل الحبكة الروائية.
من عالم الأشياء إلى عالم الكلمات:
ينحصر مطلع "صباح ويزحف الليل" بين ملفوظ سردي ووصفي في آن مستهل بـرن الجرس" (ص 5) وبنية حوارية مستهلة بـ "-أرأيت؟ لقد كان من الغموض بحيث لم أفهم شيئا مما يقول.- ومع ذلك حاولت، ولعلني أدركت…" (ص 5). ويتمثل بلحظة ارتفاع الستار في العرض المسرحي إيذانا بنهاية الصمت والسواد وبداية انتقال الممثلين (وكذا المتلقين) من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال. فكأن رنين الجرس هو تلك الضربات الثلاث على أرضية الخشبة التي تعلن عن افتتاح اللعبة المسرحية. بالفعل، يضطلع الملفوظ المطلعي بوظيفة الوصل (embrayage). فبوساطته، تتحقق سيرورتان متزامنتان: دخول القارئ عالم التخييل الروائي وخروج الشخصيات الروائية (التلميذات) إلى عالم الاستراحة: "ولفظت الأبواب الصغيرة إلى الساحة الكبيرة مجموعات من رايحين الجنة تعبق من أردافهن حيوية ونشاط ونزق، يتدافعن في حماس كما لو كن ينطلقن لأول مرة من أقفاص يدخلنها فرحات، ويخرجن منها مستبشرات" (ص 5). وإذا كانت السيرورة الثانية تتم بنوع من التلقائية والاعتيادية، بحكم تكرر رنين الجرس "ثماني مرات في اليوم" من غير أن "يفقد أبدا حدته" (ص 5)، فإن السيرورة الأولى تتم بنوع من العنف والفجائية، بحكم عدم التمهيد لها بما يضمن تلقائيتها، من غير أن تفقد أبدا خاصتها غير البريئة. فقد دشن القارئ دخوله عالم التخييل ذاك باصطدامه العنيف بعتبة نصية مشفرنة هي ملفوظ العنوان. فبخلاف عناوين روايات عبد الكريم غلاب السابقة، وهي "سبعة أبواب" و"دفنا الماضي" و"المعلم علي" ذات الشفافية والمباشرية الواضحتين، فإن العنوان "صباح ويزحف الليل" يكتسي كثافة قوية تتطلب من القارئ كفاية تفكيكية وتأويلية خاصة. لكن دخوله الفعلي والكامل لن يتم إلا بعبوره لعتبة نصية أخرى تنقله من عالم الأشياء إلى عالم الكلمات، من عالم الواقع إلى عالم النص، ألا وهي المطلع، بما هو متوالية قصيرة من الجمل (صفحة واحدة) ذات اكتفاء دلالي ذاتي.
وكسائر العتبات، فهذا المطلع ذو وجهين: أحدهما ناظر شطر متخيل النص، والآخر ناظر شطر عالم الواقع. إنه مزدوج الاتجاه: فهو في آن واحد يفتح عالما ويغلق عالما آخر، يميز داخلا هو النص عن خارج هو ما قبل النص أو اللانص. فكأنه "بوابة المدرسة الفاصل (ة) بين عالمين (ص 7).
فهو، باعتباره مغلقا، يمثل ذلك الحيز الذي تنقطع فيه الرواية عن عالم الأشياء المحسوسة الذي استمدت منه لوازمها التكوينية، أي فضاء المدرسة والأشخاص الذين يتحركون فيه وكذا الكلمات التي تتكفل بتحقيق عمليتي الوصل والتواصل، وهو العالم الذي يحدد الإطار المرجعي الذي سيضمن محكيها ويوجهه.
أما باعتباره فاتحا، فهو (أي المطلع) يمثل ذلك الحيز الذي تشرع فيه الرواية نفسها على مغامرة التخييل والتخريف، فتولي ظهرها لعالم الأشياء المحسوسة ذاك، بحيث تصبح المدرسة فضاء نصيا، أي وهميا، ويتحول الأشخاص إلى شخصيات ورقية، وتفقد الكلمات تصديقيتها.
بهذا المعنى، فقد تحقق في المطلع نوع من التبادل الرمزي الضروري بين مقول العالم ومقول النص. فبمجرد ما شرعت الرواية في الحكي، توارى الواقع. فكأن المطلع جملة صغرى مقتطعة من جملة كبرى جاهزة كتبها العالم، منها يمتح شروط وجوده.

ايوب صابر 05-31-2012 08:24 AM

ولا شك في أن عبد الكريم غلاب، كغيره من الروائيين، قد واجه على عتبة روايته هذا المشكل: "من أين أبدأ؟"، أي معضلة ضمان الانتقال من الماقبل إلى الما بعد. ذلك أن "صباح ويزحف الليل"، باعتبار ترجحها بين العالم الواقعي، المفترض فيها تصويرها له، والعالم النصي الذي تشرع في بنائه واقتراحه للقراءة، قد نظمت في مطلعها سيرورة اقتحامها لذلك الفضاء النوعي الذي سيكون فضاءها الخاص، وفق بروتكول قرائي ينهض على بلاغة الاستهلال. فمن هو يا ترى ذلك الصوت الباطني المجهول الذي سيتردد صداه من مطلع الرواية ("رن الجرس" ص 5) إلى مقطعها ("حملت حقيبتها القديمة. أمسكت بيده. خطت خطواتها ثابتة جريئة صارمة إلى الشارع" ص 240)؟ إنه حتما وبداهة صوت السارد، سارد ذي رؤية خلفية صريحة. فهو، بحكم اختلاقه للمحكي، موجود في كل مكان، عارف بكل شيء، وقادر على كل شيء. إنه يشارك -ويشرك القارئ- شخصياته أحوالها وتقلباتها ويستبطن سرائرها. ورغم أنه سارد خارج-حكائي، أي غير مندمج في القصة، فهو يضفي على سرده حميمية استثنائية توحي بتماهيه، أي السارد، مع المؤلف، ومن ثم توحي بانشداد المطلع إلى عالم الحقيقة. فلنلاحظ كيف أنه، رغم كونه ذا رؤية خلفية، يتخلى عن حياده المفترض، فينساق عنوة وراء نوع من التأويل الوجداني الواقعي لدلالة رنين الجرس وما يعبر عنه من "شوق" و"أمل" و"جاذبية" و"سحر" الخ. والكلمات جميعها مقتطفة من نص المطلع. وهذا الإجراء خوله حرية رصد الأشياء والأحوال بكل تلقائية، وكأن به حنينا خفيا إلى الاندماج في نسيج القصة وتاثيره في ما جرياتها وتأثره بها. فهو لا يكتفي بعرض مكونات الديكور من أماكن وشخصيات وأشياء كما تبدو لحواسه، بل يصهرها بوجدانه ويتولاها بخياله، بحيث يصبح السرد فيضا لذاتية السارد على تلك المكونات، ويصبح الوصف إسقاطا لنفسيته واستيهاماته عليها. مما يعني أنه، أي السارد، بعد مشدود إلى ما قبل النص، الطافح بمشاعر الألفة والأنس الممكنة، بما هو "عالم فسيح عريض حافل مثير ينتهي عند باب آخر" (ص 7) هو أيضا باب ذو صلة بالواقع، أي باب البيت.
فضاء البين بين:
ففي "شروخ في المرايا"، ينتهي المطلع حيث يبتدئ الفصل الثاني بتحول واضح في "التبئير" (Focalisation)، أي في طريقة انتظام المحكي حول "وجهة نظر" محددة، إشارة إلى نوعية إدراك المحفل السردي للعالم المسرود. فالرواية تفتتح ملفوظها الحكائي بقول السارد: "كانت الأقدار معي مجازفة مرتين: حينما بشرت القابلة والدي بأن طفلا جديدا أبصر الحياة، وحينما رأيت اسمي من بين أسماء الناجحين في إجازة الحقوق. ميلادان كانا عثرة من عثرات الحياة، رغم أن الحياة لا تعترف بذلك. ما زلت أتحداها" (ص 5). ولأنه يستعمل ضمير المتكلم، محققا بذلك تطابقا تاما مع إحدى شخصيات الرواية، فإن خطابه ذو "تبيئير داخلي"، بحكم كون معرفته بالأحداث محددة بمعرفة هذه الشخصية لها ومتكافئة معها. لكنه تبئير داخلي "ثابت"، ما دام السارد يجعل من ذهنه بؤرة لتصور الأشياء، ومن وعيه مركزا لاتخاذ القرارات. غير أن هذا السارد سرعان ما سيخضع، ابتداءً من الفصل الثاني، لتقلبات عدة ستجعله في الأخير لا يتعرف على وجهه في المرآة الصافية، فيشرخها، مما يعني تحول خطابه إلى تبئير داخلي "متبدل"(19).
وفي بداية هذا المطلع، يعود السارد، بالاستذكار، إلى اثنتين من لحظات حياته الماضية: ولادته ونجاحه في الامتحان، هما أيضا لحظتان أساسيتان من حياة الرواية ذاتها: مجيئها إلى العالم، عالم الكتابة (وكذا القراءة)، ونجاحها في استهواء قارئها المفترض. فمن هو هذا السارد -الشخصية الملغز الذي يسعى إلى فرض نفسه على مخيلة القارئ بهذا النزق، أي بتعمد السكوت عن توسيم نفسه باسم يحدد هويته، وبعدم التضايق من افتعال خطاب أنا- مركزي متوتر يتذرع منذ البدء بلغة البوح التلقائي والتأمل الفلسفي والتحدي الوجودي؟ لا ريب في أن الرواية، باستهلالها المفخخ ذلك، تسعى إلى وضع قارئها في حالة ترقب قصوى لما سيحدث من بعد، مما يفيد اضطلاع مطلعها بوظيفة التشويق: "ففي حافتها، انكشف انتظار المحكي والتشوق إليه، وفيها كذلك، انجلى الأثر المنتج في المتلقي وتقدير إنجاز سردي"(20).
ولئن كانت اللحظتان الأوليان موصوفتين بكونهما مجازفتين ("جازفت الأقدار معي، أو أخطأت لا أدري. ولكن الذي أدريه أني أصبحت هكذا نتاج مجازفة" ص 6)، فإن اللحظتين الأخريين لا يمكنهما أن تكونا ثمرة الخطأ أو المجازفة. ذلك أن نجاح هذا المطلع في استمالة القارئ إليه مرهون باستراتيجية مهيأة تحرص على عدم تكرار البدايات الروائية المقولية، تلك التي تعوزها الصفات الفردية المميزة. ومن جهة أخرى، فرغم أن المطلع عتبة تنبض بآثار مرور السارد (وكذا المسرود له) بتعسف وتمحل من صورة الغياب إلى صورة الحضور -وهو ما قد يوحي بالمجازفة- فإن هذا المرور لا يعني أبدا الانقطاع عن الواقع. فالإفادات القليلة التي يقدمها السارد عن نفسه وعن المكان والزمان تنبئ بالوجهة الإحالية-التخييلية التي سيتخذها المحكي، تلك التي "ستجعل القارئ يرى، مع السارد، الواقع وهو ينجلي شيئا فشيئا أمام ناظره"(21)، واقع الرواية الخاص. وبهذا الإجراء، الذي ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ "بلاغة الانجلاء"(22)، يستطيع القارئ، في آن واحد، أن يشاهد العبور السري للرواية من نصيتها المرجعية إلى مرجعيتها النصية، وأن يعاين حركة السارد ذاتها التي سيشرع المحكي بواسطتها في التخلق والانبساط في فضاء القراءة والتأويل.
تبدو عتبة "شروخ في المرايا" وكأنها إذن نتاج ذلك "البين بين" حيث ينتهي نص ويبتدئ نص آخر. وهو ما يؤشر على توزعها بين كونها نصا "متعديا"، أي مجاوزا ذاته إلى مرجع محتمل، وكونها نصا "لازما" أي محايثا لذاته. إنها ثمرة مراوحة خفية بين الكتابة عن واقع جاهز (فهي رواية أطروحة بامتياز تتجاوز فيها الأفكار وتتناحر القيم) وكتابة هذا الواقع، أي أسلبته.
* * *
ما هو الحد الذي ينتهي عنده المطلع الروائي؟ ما هي وظيفة (وظائف) الجمل الأولى في النص؟ بأية إجراءات يتوسل الروائي لينقل ملفوظه الحكائي من خارج النص إلى النص؟ هل هناك أساليب جاهزة وملائمة لتوصيل المتخيل؟ كيف يتم تنصص الواقع؟ هذه بعض الأسئلة التي شكلت مدار قرائتي المتقاطعة لمطالع روايات عبد الكريم غلاب.
ويمكن القول إن هذه المطالع اتسمت بسمات مشتركة تكفلت متضافرة بصياغة استهلالية خاصة.
-فهي، ككل المطالع الروائية، تحمل في ذاتها آثار كونها امتدادا لعالم موجود قبلا وكونها انزياحا عنه. ففيها تحقق نوع من التناص بين جوهرين مختلفين، لكن متكاملين، تجسد في تفاعل النص الروائي مع نص الواقع، هذا التفاعل الذي سرعان ما سيخبو بمجرد ما يتجاوز السارد الوجه الأول لعتبة محكيه ليمر إلى وجهها الثاني، لا السارد وحده، بل كذلك المسرود له، حيث سيتم عبوره من النص الأول إلى النص الثاني بالسيرورة ذاتها.
-انتقالها بعنف وتعسف بين النصين. فالجمل الأولى تمثل تلك العتبة التي يشعر فيها الروائي بالتردد والارتباك. فهو، لدى مواجهته الصفحة البيضاء، يكون بعد مشدودا بأكثر من وثاق إلى عالم الحقيقة. لكن نداء هذه الصفحة ملحاح وإغراءها لا يقاوم! فهل من حيلة أخرى إذن سوى افتعال مرور عنيف ومباغت من اللانص إلى النص؟
-احتواؤها على مبادئ إنتاجيتها النصية. ففي متوالياتها الاستهلالية تقرر مصير الروايات. فهي جميعا شفافة في مستوى شفافية الواقع الذي تسعى جاهدة إلى تصويره، لا أثر فيها لأي أسلبة متكلفة ولا لأي تكلف أسلوبي، مما ينبئ بطبيعة السجل الجمالي (هنا: الواقعية) الذي ستستمد منه هذه الروايات عناصر صوغ متخيلها.
-تضمنها، بالتلازم مع هذه الخاصية، لاشتراطات مقروئيتها. فالروايات، باستيحائها الجمالية الواقعية، قد جهزت في مطالعها قارئها المفترض، فحددت أفق انتظاره والميثاق الذي سيبرمه معها.


ايوب صابر 05-31-2012 08:24 AM

الموقع الرسمي لـ عبد الكريم أحمد غلاّب:

http://www.abdelkrimghallab.com/ar.html

ايوب صابر 05-31-2012 08:25 AM

سيرة عبد الكريم غلاب.. الصوت الشخصي وصوتالجماعة
كاتب ارتبطت عنده الكتابة بالنضال
الرباط: د. شرف الدين ماجدولين
الذات والوطن عند عدد من الزعماء والمفكرين العرب مظهران لماهية واحدة، ذلك ما كان عليه الأمر عند علال الفاسي، ومحمد المسعدي، وكاتب ياسين، وساطع الحصري، وعبد الكريم غلاب وغيرهم من الكتاب والقادة الذين ارتبط لديهم الأدب والفكر بالنضال من أجل التحرر والتحديث والديمقراطية وتحقيق نهضة وطنية شاملة.
تبدو الكتابة عن الذات عند الكاتب والسياسي المغربي عبد الكريم غلاب، جزءا من قدر الكتابة عموما، وهاجسا لا يكاد ينفصل عن هموم التعبير عن ذاكرة الوطن، وتحولات مساره، وتطلعات أجياله. ذلك ما تُنبئنا به ظاهريا على الأقل دراسة الناقد «حسن بحراوي»، التي اختار لها عنوان «جدل الذات والوطن» الصادرة عن: دار جذور للطباعة والنشر، الرباط، 2005.
ويأتي الكتاب الحالي ليسلط الضوء على جانب مهمل من تجربة غلاب السردية، متمما في هذا السياق الجهود التحليلية التي أنجزها العديد من النقاد المغاربة والعرب، ممن انصرفوا لدراسة المنجز الروائي والقصصي لـ «غلاب»، وتحليل منتوجه الفكري، مثل: إبراهيم الخطيب، ونجيب العوفي، وعبد الحميد عقار، وحميد لحميداني، و«صالح جواد الطعمة». ويتعلق الأمر بالبحث في جماليات الكتابة السير ـ ذاتية عند غلاب، وإضافاتها النصية لرصيد هذا النوع العريق من السرد العربي، وإسهاماتها الفنية والخطابية في بلورة مكانة معتبرة للأدب الشخصي في مسار الكتابة السردية المغربية الحديثة، بهدف الوصول إلى تمثل حيز الجدل الخفي بين «الأنا» ومجالها المرجعي متمثلا في المجتمع والثقافة والتاريخ والفضاء الحاضن.
وهو الأمر الذي يتم تحقيقه عمليا بتعبير الكاتب من خلال: «تحقيق نوع من التطابق المنتج بين مكونين أساسيين في العملية الإبداعية، في إطار من التناغم الإنساني الذي ينسب العلاقة بين الفاعل والمنفعل، ويؤكد طرفي تلك المعادلة التي تنخرط فيها الكتابة لدى غلاب: تذويت الوطن وتبييء الذات» (ص7).
يشتمل الكتاب على أربعة فصول، فضلا عن تمهيد وخاتمة. خصص كل فصل لنوعية محددة من الخطاب «السيرـ ذاتي»، ترتبط بمرحلة عمرية معينة، وبتجربة حياتية خاصة. هكذا أفرد الفصل الأول لسيرة «الطفولة والصبا»، وتناول فيه الناقد المرحلة الممتدة من سنة 1918 تاريخ ميلاد الأديب المغربي، إلى سنة 1937 موعد هجرته إلى مصر، وهي الفترة التي خصصها السارد لوقائع النشأة الأولى بمدينة فاس، وبدايات اكتشاف العالم المديني الصغير، وصلات الصبي بمحيط الأسرة و«الكتاب» و«الحارة»... وهي الوقائع التي انطوت عليها سيرة مفردة حملت عنوان: «سفر التكوين» (1997).
أما الفصل الثاني فخصصه «حسن بحراوي» للسيرة «التعليمية» حيث تناول بالتحليل نص «القاهرة تبوح بأسرارها»(2000) وهو النص الذي يرصد الفترة الممتدة من مغادرة «غلاب» للمغرب سنة 1937، وحتى عودته إليه بعد مرور إحدى عشرة سنة من الإقامة المتواصلة في مصر، شهد خلالها تحولات ثقافية حاسمة، وخطوبا سياسية بالغة الخطورة، وتعرف فيها إلى رموز أدبية وفكرية طبعت المشهد الثقافي العربي لعقود عديدة من أمثال طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين، كما انخرط في أجواء النقاش السياسي الحامي الذي احتضنته فضاءات الجامعة والنوادي الثقافية والصالونات الأدبية ودور النشر والصحافة، وغيرها من مراكز التنوير التي ازدهت بها القاهرة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
هذا بينما خصص الفصل الثالث من الكتاب للسيرة «السجنية» من خلال نص «سبعة أبواب» الذي تناول فيه غلاب تجربته في الاعتقال على عهد الاستعمار التي استمرت ستة أشهر، بما هي تجربة شديدة الخصوصية طبعت ذاكرته ومساره الحياتي، وكان لها بالغ الأثر في تعاطي شخصية المناضل السياسي الذي مثله مع الاختبارات العديدة التي شهدها المعترك السياسي المغربي طيلة عقود طويلة من التجاذب بين الحكم والمعارضة. ويجدر التنويه في هذا السياق بنص السيرة السجنية الذي كان هو أول نص ذي طبيعة سيرة ذاتية كتبه غلاب، حيث صدر مطلع سنة 1965، قبل كل نصوص السير الأخرى التي أرخت لمساره الحياتي.
وختم «حسن بحراوي» كتابه «جدل الذات والوطن» بفصل عن «سيرة الشيخوخة» كان هو الرابع والأخير من الكتاب، تناول فيه بالتحليل نص «الشيخوخة الظالمة» (1999)، وهو نص فريد في نوعه في سياق السير العربية المعروفة بانحيازها لفترات الطفولة والشباب وتمجيدها لمحطات العنفوان، بينما يبدو النص الحالي شاذا من حيث «فرحه» بخريف العمر، واحتفائه بأفول الزمن، وهدوء السريرة، بعد التخلص من شهوات «الشهرة» و«المركز». إنه أشبه ما يكون بمديح لمرحلة «المراجعة التأملية» التي غالبا ما تركت من قبل الكتاب خارج دائرة الضوء. ومحاولة لاستبطان مفارقات الوعي والسلوك في شيخوخة مجازية، من قبل ذات لا تكف عن بث الإحساس بتجدد اليفاعة.
والحق أن هذه الدراسة التي قدم حسن بحراوي جزءا منها ضمن الحفل التكريمي الذي أقامته مؤسسة «سعاد الصباح» بالتعاون مع الجامعة الأميركية ببيـروت، لعبد الكريم غلاب، تبدو في شقها الأعظم محاولة لإضفاء منطق ذهني/تركيبي على نصوص السير الذاتية التي لم يخضع فيها «غلاب» مساره الحياتي لاسترجاع يراعي منطق التعاقب والاسترسال، وإنما كان ينطلق دوما من أحداث كبرى في حياته ليسلط الضوء على التفاصيل والتحولات التي أحاطت بها، ومدى تأثيرها على شخصيته الفكرية، واختياره السلوكي، كما أن الدراسة غلبت عليها في أحايين كثيرة نغمة الحكي واستعادة الوقائع، بحيث بدت أشبه ما تكون بملخص لنصوص السير المختلفة، واختزال لها في صور محددة يحكمها الجدل والترابط.
والظاهر أن الإضافة النقدية الأساسية في هذه الدراسة تتمثل أساسا في استخلاصها لجملة سمات فارقة لطبيعة السرد الذاتي لدى «غلاب»، من مثل سمة «التوازن التصويري»، قرينة «الصدق» و«الموضوعية»، التي ميزت نصوصه عما سواها من سير المشاهير، خصوصا السياسيين منهم، حيث غالبا ما تطغى نبرة التمجيد، وتصوير رحلة «الصعود» العبقري، والطهرانية. يقول الكاتب في هذا السياق: «نجده ـ أي غلاب ـ يتجنب الإشادة بصفاته الشخصية... مبتعدا عن ذلك التقليد الشائع في إبداء الإعجاب بالنفس والتنويه بما حققته منجز. واستعاض عن ذلك بممارسة النقد الذاتي والصدع بالعيوب ونقاط الضعف الإنسانية» (ص 124).
ولعل السمة الإيجابية الثانية التي تستثير الانتباه بصدد هذا المعنى ذاته، مزج السارد (غلاب) بين صوته الشخصي وصوت الضمير الجمعي، وجعله من التفاصيل الشخصية مجرد منفذ إلى نوع من التاريخ السياسي والاجتماعي، حيث ينتقل الحديث من دائرة الزمن الشخصي إلى نسق من الوقائع الغيرية المنفتحة على الأفق القومي الجماعي.
تلك كانت أهم المضامين التحليلية التي اشتملت عليها دراسة الناقد حسن بحراوي عن عبد الكريم غلاب، سعى من خلالها إلى الكشف عن التشكيل السردي لنصوص السيرة الذاتية لهذا المفكر المغربي البارز، بالقدر ذاته الذي استهدف فيه التعريف بالمحطات المركزية في حياته وتفاصيلها الحميمة، والوقوف، من ثم، على سماتها الجمالية، وسجاياها الفنية والأسلوبية. مما جعل من كتاب «جدل الذات والوطن» ترجمة نثرية بالغة التأثير لتحولات مسار أدبي ثري، وتجربة حياتية مثيرة بتفاصيلها وتقلباتها المدهشة، لا يمكن إلا أن تعد بسفر ذهني عذب، يدعو لمعاودة القراءة مرات عديدة.
==
مقابلة تلفزيونية:
http://rawafednet.blogspot.com/2012/02/blog-post_05.html

ايوب صابر 05-31-2012 08:26 AM

شهادات عن التجربة الإبداعية للروائي المغربي عبد الكريم غلاب،سيرة واحدة.. متعددة
نشر بتاريخ: 27/12/2011


أصدرت مؤسسة منتدى أصيلة، كتابا جديدا يؤرخ للمسيرة الإبداعية للكاتب والروائي المغربي المعروف عبد الكريم غلاب، تحت عنوان “عبد الكريم غلاب: الأديب والإنسان”. ويضم الكتاب شهادات ودراسات لنخبة من الكتاب والنقاد المغاربة وهم: محمد العربي المساري، أحمد المديني، محمد بوخزار، علي القاسمي، مبارك ربيع، عبد العالي بوطيب، حسن بحرواي، محمد غز الدين التازي، مصطفى يعلى، أنور المرتجي، هشام العلوي، رشيد بنحدّو، الحبيب الدائم ربي، محمد المسعودي، حسن المودن، محمد أقضاض، ابراهيم أولحيان، عبد اللطيف محفوظ، عبد الرحيم العلام، محمد يحيى قاسمي. والكتاب من إعداد الناقد المغربي عبد الرحيم العلام.
واعتبر محمد بنعيسى في توطئة الكتاب أن لاحتفاء مؤسسة “منتدى أصيلة في موسمها الثقافي الدولي الثالث والثلاثين، بالأستاذ عبد الكريم غلاب، أكثر من معنى ورمزية. لقد دأبت أصيلة، على الاحتفاء برموز الثقافة والفكر والأدب والفن. من المغرب وخارجه، لكن الاحتفاء في هذه الدورة بالأستاذ غلاب، له نكهة وطعم خاص، لاعتبارات عديدة ومتضافرة فيما بينها. ومع ذلك، فالمتمعن في الموقع المرموق الذي تحتله شخصية عبد الكريم غلاب، وطنيا ونضاليا وسياسيا وفكريا وأدبيا وإعلاميا، لابد وان يثيره، منذ الوهلة الأولى، تعدد شخصية الرجل وتنوع حضوره وعطائه، بما يكسب شخصيته الفذة أبعادا إنسانية وريادية مؤثرة، في عديد المجالات والميادين التي انخرط فيها المحتفى به.
كل ذلك، إذن، يجعلنا أمام علم ومفكر وأديب ورجل إعلام. ويقول بنعيسى “ويكفي، أن نتأمل التجربة الوطنية والنضالية والسياسية المديدة للرجل، وكذا مشروعه الفكري والنقدي والأدبي والصحفي، وغزارة إنتاجه في مختلف مجالات التعبير والرأي التي كتب فيها غلاب وأبدع، لكي نلمس عن كثب مدى شموخ هذا العلم، ومدى قيمة إنتاجه الثقافي عموما”.



ويتضمن هذا الكتاب، شهادات عن شخصية الأستاذ عبد الكريم غلاب، في تلويناتها وأبعادها الإنسانية والفكرية، فضلا عن دراسات وقراءات وتحاليل في مجمل إنتاجه الأدبي والنقدي، إبرازا للدور الكبير الذي قام به الأستاذ غلاب، باعتباره كاتبا وأديبا ملتزما بقضايا أمته ومجتمعه، في التأسيس لأدب مغربي حديث، وفي إثراء المشهد الأدبي المغربي والعربي بكتابات منتظمة في أجناس أدبية: الرواية والسيرة الذاتية والمذكرات والقصة القصيرة والرحلة والنقد...
وقد تم تزيين صفحات هذا الكتاب بصور من شريط ذكريات المحتفى به، في توهجها، وفي كشفها عن مدى ما يتميز به الراحل من وضع اعتباري لافت، في أبعاده الوطنية والنضالية والسياسية والمهنية والإبداعية”.
وفي شهادة الأستاذ محمد العربي المساري، الذي يعد من أحد أصدقاء الأستاذ عبد الكريم غلاب، قال المساري في مقالته الافتتاحية، إن عبد الكريم غلاب ولد “سنة 1919 بمدينة فاس، ثم التحق بالقاهرة حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعتها. ويمكن رصد مسار حياته عبر ثلاث فترات هي فترة التكوين في فاس والقاهرة، وثانيا فترة النضال السياسي بعد 1948، وثالثا غلاب الأديب في فترة الانفجار التعبيري عبر القصة والرواية. وبهذه الفترة يبدأ فصل في حياة غلاب له بداية علمت ما بعدها”.
ويضيف المساري، متحدثا عن الأستاذ غلاب “في فترة التحصيل بكل من فاس والقاهرة، كان الفتى عبد الكريم يعد نفسه للحياة، بالتزود من المعارف المتاحة، حيث اجتاز مسارا لم يكن له فيه اختيار سوى أن “قوة الدفع كانت أقوى من قوة الارتداد إلى وراء”، كما يقول عن فترة وجوده في القاهرة، وهو مندمج في المجتمع المصري الشاب في الجامعة والمكتبة والشارع. وكدأب خلانه من أفراد جيله، كان يمزج التحصيل بنشاط أدبي جمعوي يملأ به وقته الثالث، فيقارع القلم، ويغشى المنتديات، معبرا عن رغبة مبكرة في أن يسجل اسمه ضمن فئة تمتزج عندها “الأوقات الثلاثة” جميعا. حدثني انه وهو تلميذ في القرويين، سمع بمبادرة في تطوان لإحياء الذكرى الألفية لأبي الطيب المتنبي، الذي كان قد دعا إليها الأستاذ الطريس، فكتب مقالا لمجلة “المغرب الجديد” التي كان يصدرها المكي الناصري في عاصمة الشمال، حيث تناهى إلى علمه أن المجلة التطوانية كانت بصدد إصدار عدد خاص بالمناسبة. وقد يكون هذا أول مقال دبجه، ولكنه وصل بعد إقفال العدد فلم ينشر. وفي فترة القاهرة لم يكن يصرفه التحصيل العلمي عن الكتابة والقراءة والاشتغال بالشأن العام.
في القرويين كان يتنفس السياسة، والحركة ما زالت بعد في طور التأسيس، تحثها على السير إلى الأمام مبادرات شاعر الشباب علال الفاسي. ويؤدي غلاب ضريبة انجرافه وراء التيار المؤسس للحركة، فيرتاد السجن لأول مرة، وفي حقبة التحصيل في القاهرة (من 1937 إلى 1948) يملأ رئتيه هواء السياسة ممزوجا بالثقافة، على إيقاع حركات طه حسين الخارج من معركة هي من العلامات الأولى في مسار الموجة الليبرالية العربية، وكذلك على إيقاع الصراع بين الوفد وخصومه، والسجالات التي كانت تملأ صفحات مجلة “الرسالة” التي كان يصدرها الزيات، والبرلمان والشارع والمحاكم.
وهنا ينفتح وعي الشاب غلاب على ما كان يعتمل في عاصمة جعلتها الظروف قائدة التنوير في المنطقة كلها. وفي ذلك الخضم، يختار غلاب أن يقوم بدور سياسي فنجده عضوا في “رابطة الدفاع عن مراكش”، ومشاركا في إعداد عريضة الشباب المغربي في القاهرة للمطالبة بالاستقلال، في نفس الوقت الذي أعدت فيه وثيقة 11 يناير 1944 المعروفة، وبذلك صنف نفسه ضمن المعسكر الذي ركب أهوال معركة كان مرسوما لها أن تطول. وتطابقت انشغالات الطلاب المغاربة المهاجرين مع الأصداء التي كانت تصل من الوطن.
بعد 1948 تابع غلاب وهو في الرباط المسار الذي ارتسم لديه بوضوح، حيث أدرك أن استقلال المغرب هو القضية، وأن هذا الاستقلال لن يكون إلا ضمن مشروع متكامل يستحضر وحدة النضال في أقطار المغرب العربي، وهذا هو العلم الذي حمله من القاهرة حيث كان قد تم اختياره أمينا عاما ل “مكتب المغرب العربي” حينما انعقد المؤتمر التأسيسي في فبراير 1947. وهكذا ما أن عاد إلى المغرب حتى ارتسم في ذهنه بوضوح أن مكانه هو طليعة النضال من أجل الاستقلال، بهوية مغاربية، وافق عربي.
تقوت عنده هذه الهواجس، وهو يصنع لنفسه مكانا بين العاملين في سبيل القضية الوطنية العامة. واختار بالذات أن يكون موقعه هو الواجهة الثقافية التي أنشأها الحزب، فكتب في “العلم”، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة “الرسالة” المغربية. وفي هذه الفترة ارتسم مسار غلاب في ثلاثية هي الصحافة والسياسة والأدب.
وهكذا نجده في غمرة مهام المرحلة، ضمن رديف للجنة السرية البديلة للجنة التنفيذية للحزب بعد القمع الذي كان في سنة 1952، وخالجه في تلك الفترة مشروع كتاب “الأوضاع الاجتماعية في المغرب” الذي كتبه سنة 1954 ولكنه لم يطبع.
وفي نفس الاتجاه تابع غلاب طريقه، بعد 1956 مازجا بين السياسة والصحافة. مناوبا بين هذه وتلك. دخل دواليب التسيير الإداري والسياسي وزيرا مفوضا في الخارجية لدى تأسيسها وذلك لفترة قصيرة عاد بعدها إلى التحرير في “العلم”. وظل الحس الأدبي يمارس قوة جذب ملحة، مثلما كان شأن عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم بن ثابت. وانساق غلاب في أمواج الصحافة والسياسة، تصنع جدول أعماله متطلبات الحضور في مهام ما بعد الاستقلال، ماضيا في مسيرته على إيقاع مسيرة الحزب الذي انتمى إليه، فيكتب في السياسة: الاستقلالية عقيدة ومذهب وبرنامج، ثم الإصلاح القروي”.
أما محمد أقضاض، فاعتبر أن عبد الكريم غلاب من “الكتاب المغاربة الأكثر إنتاجا والأكثر تنوعا في هذا الإنتاج، فقد كتب في التشريع وفي التاريخ وفي الفكر وفي الأدب والنقد، وفي السرد من رواية وسيرة ذاتية وقصة قصيرة”.
الاتحاد-محمد نجيم

ايوب صابر 05-31-2012 08:27 AM

مفهوم الشعر عند عبد الكريم غلاب
المصدر: محمد يحيى قاسمي
تعتبر الأبحاث والدراسات التي اهتمت بنقد الأستاذ عبد الكريم غلاب قليلة ؛ إن لم نقل منعدمة (1) ، بالرغم من أن حجم كتاباته في النقد أوفر وأغزر مقارنة بحجم إنتاجه في القصة والرواية .وهو أمر يؤكد هيمنة الدراسات الحديثة في مجال السرديات من جهة ، وعزوف الباحثين والدارسين عن نقد الشعر في المغرب بعامة ،ونقدالمحتفى به بخاصة . وهو الجانب الذي نحاول معالجته من منطلق مفهوم الشعر.

وتعميما للفائدة أرى أن أثبت في هذا المقام المصادر المتضمنة للمفاهيم النقدية التي سطرتها أنامل الأستاذ غلاب سواء في مؤلفاته ، أو مقالاته ، أو في تقديمه لبعض الدواوين .
فعلى مستوى المؤلفات فيمكن أن نذكر : - نبضات فكر (1961) - في الثقافة والأدب (ط 1- 1964) - رسالة فكر (1968) - دفاع عن فن القول (1972) - مع الأدب والأدباء (1974) - الثقافة والفكر في مواجهة التحدي (1976) - عالم شاعر الحمراء (1982).

أما على مستوى المقالات فيمكن العودة إلى ما فهرسه (صالح جواد الطعمة) في كتابه (عبد الكريم غلاب : بيبليوغرافيا بأعماله وما كتب عنه في مصادر عربية) (1993) ، أو إلى ما أثبته صاحب المقال ضمن أطروحته ( النقد الشعري في المغرب ) ، وهي مرقونة بكلية الآداب بوجدة .
والمقالات المفهرسة هي نفسها التي شكلت متن المؤلفات المذكورة .

أما على مستوى التقديم فيكفي الإشارة إلى تقديم الأستاذ غلاب لديوان الحرية للشاعر عبد الكريم بن ثابت باعتبار مثل هذه المقدمات شكلا من أشكال الخطاب النقدي .

نعترف في البداية – كما اعترف الأستاذ عبد الكريم غلاب نفسه - بصعوبة تحديد مفهوم للشعر عنده لأسباب منها :
- أنه لا يمكن أن نخصص لهذا الغرض مداخلة مثل هذه محكومة بالزمن والمناسبة . فمفهوم الشعر عند المحتفى به تلزمه أطاريح تستدعي وقتا كافيا لقراءة إنتاجه قراءة متأنية موضوعية .
- وتعود الصعوبة ثانيا إلى وفرة ما كتبه الأستاذ غلاب في الموضوعتنظيرا وممارسة ، وهو أمر يدعو ثانية إلى استقراء مؤلفاته العديدة والمتنوعة للإمساك بالخلفيات الفكرية والإبستمولوجية التي تتحكم في مفهومه للشعر .

وأمام المناسبة الكريمة لا مفر من تذليل الصعوبات المذكورة لنقدم قراءة نتمنى ألا تكون مسيئة للموضوع لأنه يستحق وقتا أوفر ، وقراءة فاحصة ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك .

إن مفهوم الشعر من منظور الأستاذ غلاب ينطلق من مفهوم مركزي يعتبر : الشعر معاناة وتجربة ذاتية ، ولكن على الشعراء جعلُ هذه المعاناة في خدمة قضايا الوطن والعقيدة والقومية والإنسانية. والشعر بهذا المفهوم ينبغي أن يكون صادقا وأصيلا، صادقا في التعبير وتوعية الجماهير ، وأصيلا في اختيار الموضوعات التي تعكس حياة الشعوب بأفراحها وأحزانها في أي فترة من فترات الزمن، وفي أي بقعة من بقاع الأرض .كما ينبغي أن تنسجم فيه أدواته الفنية من لغة وصورة وموسيقى .وإذا توافرت هذه العناصر مجتمعة لا بد من شرطين لنجاح العملية الشعرية وهما الحرية والجمهور،إذ بدونهما لا معنى لوجود الشعر .

ويمكن تفريع هذا المفهوم المركز إلى فروع نتبينها كما يلي :

أولا - الشعر ذات واقعية :

قبل أن ينظر للشعر كيف ينبغي أن يكون ناقش الأستاذ غلاب الرومانسيين والرمزيين من خلال سؤال مهم هو : ماذا نختار من المذاهب الأدبية ؟ وصبت أغلب أجوبته في اتجاهين ، يدعو في الأول إلى اعتناق المذهب الواقعي ؟ ويحارب في الثاني أتباع الرومانسية والرمزية .

يقول في دعوته لاعتناق المذهب الواقعي : << إن رسالة الشعر يجب أن تنصرف إلى تصوير حالة المجتمع ، وإلى نقل الصور الحية ، لأن المجتمع يطفح بالصور الإنسانية التي لا يستطيع أي فنان أن يمر أمامها دون أن تدفع به إلى استخدام موهبته في تصويرها ، وإبراز أثرها مما يدخل في رسالة الشعر .. الشعر الذي يحيا مع الناس ، ويحس بإحساسهم ، ويصور جوانب من حياتهم>>2.

والحياة التي يعنيها (عبد الكريم غلاب) ليست تلك التي يحياها الشاعر في برجه الخاص، فقد لا يكون لها أي أثر في توجيه الشاعر ، ولكنها – كما يقول – حياته وسط الأحياء الذين يعيش معهم، ويبادلهم المنفعة لإكمال عناصر الحياة في المجتمع الخاص 3 . وفي عبارة هذا الأخير إشارة صريحة إلى تبني المذهب الواقعي ، وإشارة إلى التعريض بالرومانسيين والرمزيين الذين يخالفون الواقعيين .

لم يعد الشعر – في نظر غلاب – عملا سلبيا أو تعبيرا عن عواطف فردية .. وحياة عاطلة ، ولم يعد يعتمد على التهويمات الرومانطيقية أو اللمسات العاطفية أو التلوين اللفظي بمقدار ما يعتمد على الفكر والعقل والتحليل والتوجيه . إنهفي معناه الحقيقي يعتمد على التعبير الجميل عن أدق الانفعالات الإنسانية والقومية والوطنية ، والنضال عن طريق الكلمة السامية في سبيل الخير والحياة الأسمى والجمال الأرفع >> 4.

وفي رأي (غلاب) أن الشاعر الذي يعيش مع خيالاته أو الذي اصطلح على إدراج شعره في الموجة الرومانسيةقد يقول شعرا لأنه معبر عن الذات ولكنه يظل بعيدا عن الآخرين إلا حينما يعبر عن إحساس الحالمين من أمثاله ، وتلك شريحة باهتة نجدها في المجتمعات التي لا تواجه الحياة بكل أبعادها وصراعاتها 5 . يقول : << والشعر .. لا يعني أن الشاعر يستند في ترنمه إلى ذات نفسه – ولا شيء غير هذه الذات – وإنما يستند انطلاقا من ذاته إلى تجاربه في الحياة ، مع الواقع الحلو أو المر الذي يعيشه داخل نفسه …>> 6.

إن الشاعر بهذا المفهومهو الذي يرتبط بالحياة اليومية للمجتمع ، ويصف هموم الناس ، ويعيش معهم مشاكلهم . فالوطن - في نظره - في حاجة إلى من يزيح عنه كابوس العبودية والظلم، لا من يبكي وينتحب ويجتر أوهام الذات .

ثانيا – الشعر فضاء إقليمي :

يقول الأستاذ غلاب : << إننا نعتقد بأن إقليمية الأدب تكاد تكون من ضروريات الأدب الحي ، لأن الأدب الذي لا يعكس طابع إقليمه معناه أن صاحبه لا يشعر بما حوله ، ولا يتفاعل مع طبيعة بلاده ، ولا مع التيارات التي تتقاذف المجتمع الذي يعيش فيه ، وسيكون إنتاجه مجرد اجترار لمحفوظاته فقط ، ولا صلة بواقع الحياة ، وهو بالتالي غير قادر على البقاء والاستمرار في إطار المحلية >> 7 .

غير أن المذهب الواقعي الذي ينادي به الأستاذ عبد الكريم غلاب لا يعني بالضرورة أن يكون عن طريق الأسلوب الواقعي في الشعر ؛ ولا يعني كذلك الانصراف إلى التعبير عن المجتمع المغربي فقط، وإنما يعني الدعوة إلى تركيز الجهود لإنتاج أدب قومي وإنساني في الوقت نفسه . ولا يعني ذلك ثالثا أنهيدعو إلى أدب إقليمي ضيق ، وإنما يدعو إلى البحث عن أسس حضارية تخرج الأدباء إلى ما يسميه بالمحيط الإنساني . 8

ثالثا : الشعر فضاء إنساني

إن الأستاذ غلاب لا يدعو إلى إقليمية أدبية ، وإنما يدعو إلى المساهمة في رسم هذه اللوحات الكبيرة للأدب التي يشارك في رسمها جميع أدباء العالم ، كل واحد منهم يرسم فيها ما يقع عليه نظره، وما تنفعل له نفسه 9 .

فهذا المفهوم يعمد فيه غلاب إلى النظر في الشعر من زاوية الرؤية الإنسانية ، ومن خلال علاقته بكل بيئات العالم ، فلكي ننتج شعرا مغربيا لا بد أن نمتلك حسا إنسانيا ، وإذا كان بعض الشعراء في أمم أخرى يعرفوننا ببيئاتهم عن طريق ما ينشرونه من إنتاج فيكون من اللازم – في نظره – أن نعرفهم بالبيئة المغربية عن طريق إنتاجنا الشعري .

هكذا أصبح الشعر في ظل الإنسانية ؛ بعيدا عن الإقليمية الضيقة، وظل مقياس الروعة في الشعر محصورا في مقدار ما ينطوي عليه الأثــر الشعري من قوة مستمدة من واقع البيئة التي ليست بالضرورة محلية (أي مغربية) ، بل هي إنسانية عالمية تتجاوب مع جميع رسالات الآداب الإنسانية العالمية ، وتتعاون معها وتتفاعل وتتكامل . وبحكم هذا التعاون والتفاعل والتكامل بين أبناء الإنسان في كل مكان من الأرض ، فإن الحدود المكانية للمجتمع لا ينبغي أن تكون حدودا عقلية بالنسبة للشاعر . كما أن اتصاف الشعر بالواقعية والإنسانية يفرض عليه أن يكون شعرا إنسانيا حقا ، يعبر حدوده مكانيا ، ويتجاوزها ليصل إلى كل مكان في الكرة الأرضية .


وللخروج بالشعر من قوقعة الحدود المكانية للمجتمع يشترط الأستاذ غلاب ، أربعة عناصر أساسية لبلوغ دائرة الإنسانية العامة ، وهي : - الصدق - والالتزام - والوعي - واختيار الموضوعات .

العنصر الأول : الصدق

يعتبر الصدق أو الحقيقة الشرط الأساس لتحمل أعباء مسؤولية الرسالة الإنسانية العالمية للشعر ، وهو نقطة الانطلاق للشعر الإنساني . فـعلى قدر هذه الحقيقة وهذا الصدق يكون الشعر الوطني شعرا إنسانيا ، وبغيابهما يظل الشعر وطنيا محليا ، فاقدا لكل انفتاح على الإنسانية أو العالمية . وهو في هذه الحال لا يقوم برسالته الشعرية خير قيام ، وعندئذ يفوته الركب المتفوق الذي يقود قافلة الآداب العالمية إلى الأمام ، ويبقى هو يتعثر في مسيرته البطيئة يجر خطواته جرا ثقيلا .

والصدق لا يتأتى إلا إذا اندمج الشاعر في المجتمع ليستطيع التعبير عن الحياة الإنسانية بما فيها من آمال وآلام ، ومن الأحسن – كما يقول (أحمد زياد) – أن ينفعل الشاعر مع واقعه ومع أحاسيسه انفعالا صادقا ليأتي بالصور الشعرية الفنية التي ترسم الصور في غير مبالغة ولا تهويل . 10

والشعر – في ظل الشعر الإنساني- لا يكون رائعا إلا إذا كان صادقايصور إحساسات تفاعلت فيها عناصر المشاهدة والملاحظة ، ويكون على العكس من ذلك خافتا وباهتا كلما صدر عن نفسية مصطنعة تقـلـد ولا تبتكـر . 11

وتبعا لذلك فإن الصدق في التجربة الشعرية يساهم بأكبر نصيب في تشخيص أماكن الضعف في الشعوب التي ما زال فيها ضعف ، ثم إنه قادر على أن يكيف نفسية الشاعر بكيفية خالية من كل أثر للتصنع أو التكلف . وتبعا لذلك أيضا ، فإن الشعراء لا يقولون إلا الحق ، ولا يلجون إلا باب الصراحة الواضحة ، والصدق المجرد في تصوير وسائل الحياة ومظاهرها تصويرا صادقا . 12

إن علاقة الصدق الشعري بالواقع ( الإنساني ) مباشرة ، ويمكن أن يتحقق الشاعر من صحة التطابق فيها . والشعر الواقعي الصادق هو محك الشعر الإنساني الخالد ، وبدون هذا الصدق يبقى الشعر باهتا ومحليا إقليميا ، لا يرقى إلى درجة الشعر الإنساني .


العنصر الثاني - الالتزام :

وهو في نظر غلاب الشرط الثاني في العملية الشعرية لبلوغ دائرة الإنسانية ، والشاعر الملتزم – على حد تعبيرههو الأديب الواعي بمسؤوليته الفكرية والأدبية .. ولا يمكن إلا أن يكون ملتزمابقضايا أمته ووطنه وبالقضايا الإنسانية جمعاء 13. << وهو ينبع من ذات الأديب نفسه ومن تقديره لرسالته ، ومن اندماجه في الحياة والناس ، ومن استيحائه من مجتمعه ومن معرفته الخاصة للخير وقدرته على الدفاع عنه ، ومن تمييزه للجمال وقدرته على إبرازه ومن اشمئزازه من الشر وقدرته على النضال ضده ، ومن ممارسته للحياة مع الناس ، وقدرته على الإيحاء إليهم ، ومن أسلوبه في التعبير والأداء وقدرته على النفاذ إلى ضمير مخاطبيه>> 14.

والالتزام بهذا المعنى هو أن يتخذ الشاعر موقفا من الشؤون التي تعرض أمامه ، ولا بد من أن يصدر حكمه فيها ، لأن الحياد في مثل هذا القيام ليس ممكنا ولا مرغوبا فيه . وبعبارة أخرى يجب على الشاعر أن يصبح مكافحا من أجل مثل عليا ينشدها ، ويسخر لها مواهبه وقواه ، شأن غيره من المكافحين .

ولا يقف مفهوم الالتزام – في نظر غلاب – عند اتخاذ المواقف أو الانصهار مع حياة الشعوب، فقد تتوافر هاتان الخاصيتان في الشاعر ، فلا يكون واقعيا ؟ ولا تكون واقعيته إنسانية ؟ والالتزام بهذا المعنى يلزمالشاعر بالابتعاد عن الطبقية ، والشعر بهذا المعنى لا يكون شعرا صحيحا إلا إذا كان مرآة للحياة العامة ، لا مرآة لنوع خاص من الحياة .

وهذه إشارة لمفهوم الطبقيةفي الإنتاج الأدبي التي تعني أن عوامل البيئة تستطيع التأثير على بعض الشعراء من الطبقة الأرستقراطية مثلا ، فيكيفون إنتاجهم تكييفا خاصا ، فيخرجون شعرا رائعا ، يصورون فيه هذه البيئة في مستواهم العام ؛ وفي مستواهم الخاص .

العنصر الثالث – التوعية :
إن غاية الشعر عند الأستاذ غلاب هي أن يعيش على نشر الوعي في كافة الميادين. فإذا كان الشعر مسؤولا وجب عليه – في نظر ( غلاب ) – أن ينـزل إلى الجماهير الكادحة ليحركها ويوقظها ، ويبعث في جوانبها الحركة والتمرد ، والأمل والحياة . 15

والتوعية ليست من مسؤولية الأحزاب السياسية وحدها ، ويخطئ كل الخطأ – في نظر أتباع الواقعية – من يظن أن السياسة هي التي تستطيع وحدها أن توقظ الوعي في الجماهير أو تعبئها ، بل الشعر – كما يقول (زياد) هو الذي <<يستطيع أن يوقظ الوعي في الجماهير وأن يعبئها>>. 16

والصلة الوثيقة التي تربط الأدب بالواقع هي التي خولت لوظيفة الشعر أن تكون وظيفة كفاح ونضال، إلى جانب أنها وظيفة توعية ، ومعنى هذا أن الشعر أصبح أداة من أدوات إعداد الأمة إلى خوض معركة الحياة .

العنصر الرابع - الموضوع :

الموضوع في الشعر هو المنطلق بالنسبة لغلاب ، ولكن المضمون هو ما يستطيع الشاعر أن يضفيه على موضوعه . فالسر إذن ليس في الموضوع بمقدار ما هو في الشاعر نفسه، ومن هنا لا يتنكر غلاب لبعض الموضوعات التي تسمى تقليدية أو للأبواب التي حصرها النقاد القدامى في الشعر العربي باعتبارها أبوابا تقليدية قديمة مستهلكة . ومن هنا أيضا لا يدعو غلاب الشعراء إلى أن يلتصقوا بالموضوعات القديمة التي يعدها كثيرون مستهلكة ، ولكنه يدعوهم إلى أن يعطوا لموضوعاتهم مضامين جديدة مهما كان الموضوع ..قديما مستهلكا ، يقول : << فالموضوع لا يستهلك الأدب ولكن الذي قد يجعله مستهلكا هو الأديب نفسه ، وقد يجعل منه رغم قدمه غير مستهلك >> 17.

إن اختيار الموضوعات الشعرية ضروري حسب غلاب ، وهذا الاختيار سيصطدم مع شعراء المناسبات الذين يتصيدون الفرص للإنتاج 18 . فشعراء المناسبات لا يتخذون خطة عامةتؤدي إلى غاية معينة ، بل يكتفون بالسير مع الصدف والمناسبات. ولذلك فإن معظم الشعر الذي ينظمه هؤلاء لا يستطيع - كما يقول (عبد الكريم غلاب) -أن ينسبه القارئ - الذي لا يعرف عمن صدر - إلى المغرب والى شعـراء المغرب ، ومن ثم كان هذا الشعر لا يمثل إقليمه ولا البيئة التي صدر عنــــها . 19

و(عبد الكريم غلاب) الذيرفض شعر المناسبات جملة وتفصيلا يعجب بالمتنبي وأبي تمام وابن الرومي أولا لأنهم <<حاولوا أن يصرفوا المدح من الشخص إلى التعبير عن قضية أو فكرة ، فكان المدح أو الهجاء أو الرثاء عندهم إطارا لفن رفيع من فنون التعبير الشعري ، ينسيك الإطار وأنت تقرأه لأنه يضعك أمام شعر حقيقي لا يضيره أن عنوانه - مثلا - مدح سيف الدولة أو المعتصم>>20 .

ويعجب بالشاعر أحمد زكي أبي شادي ثانيا لأنه - في نظره - <<يستطيع أن يخلق من المناسبة العابرة ميدانا للشعر الإنساني الخالد بما ينفحه من عقله وعاطفته ، وما يولد فيه من معان إنسانية لا تمس شخصا معينا ولا تتصل بحادثة خاصة ، وذلك ما يخرج بشعره عن شعر المناسبات الذي ألفـناه عند كثير من الشعراء يتعبهم فلا يستطيعون أن يخرجوا به عن معـناه الضيق إلى المعنى الإنساني العام>> 21.

كيف نفسر - إذن - موقف رافض لشعر المناسبات يقبل شعر شاعرين واحد من القديم وواحد من الشرق لأنهما يخلقان – في نظره – من المناسبة ميدانا للشعر الإنساني ؟ .

لا نملك تفسيرا لهذا الموقف سوى أن نقول : إن (غلاب) يميز بين الشعر المرفوض والشعر المرتضى. فهو يقبل بشعر المناسبات الذي يعود نفعه على الإنتاج بصورة عامة وعلى الأمة جمعاء ، ويرفض شعر المناسبة الذي يهم فردا أو هيئة .

والموضوعات الجديرة بالاهتمام – في نظر أتباع الواقعية – هي التي تتصل بالحياة العربية والإسلامية والعالمية العامة ، مثل مأساة فلسطين ، وميلاد فكرة القومية العربية وفكرة توحيد المغرب العربي .. الخ

أما إذا استهلكت هذه الموضوعات ، فينبغي على الشعراء أن يبحثوا عن أخرى ، بل أصبح لزاما على الشاعر ، وواجبا في حقه – كما يقول ( زياد ) – إن أراد إرضاء شعوره الخاص ، وشعور قرائه – أنيحدث المناسبة ويخلقها خلقا ليذكر الناس بأحوالهم ومعاناتهم . 22

ايوب صابر 05-31-2012 08:27 AM

رابعا : الشعر ثقافة :

لكي يكون الشاعر شاعرا لا يمكن أن يكتفي منه بأن يتقن علوم اللغة كالنحو والصرف والاشتقاق أو علوم الوزن كالعروض والقافية أو علوم الأدب كتاريخ الحركات الأدبية والشخصيات الأدبية وعلوم البلاغة والنقد أو صنعة كتابة الرواية والقصة . ولكن يجب إلى جانب علوم الآلة هذه أن يكون مثقفا واسع المعرفة مسايرا لنمو العلوم والآداب . 23

إن الأدب والشعر -حسب غلاب -في حاجة إلى ثقافة ، والشاعر الذي لا يستند على رصيد هائل من الثقافة لا يمكن أن يكون شاعرا ولو كانت عنده المؤهلات الذاتية للشعراء كالذكاء وحسن الملاحظة وسرعة البديهة وقوة الاختزان ورهافة الحس . 24

خامسا: الشعر طبع وصنعة :

إن الصناعة هي أساس جودة الأدب ..وأن الكتابة فن كسائر الفنون لا تحتاج إلى الموهبة فحسب، ولا إلى معرفة اللغة وعلوم العربية فحسب ولكنها تحتاج أكثر من ذلك إلى إتقان صناعة الكلمة. 25

والواقع أنه لا يوجد تناقض بين الطبع والصنعة وبين الموهبة والتعلم.كلاهما ضروري للشاعر وأحدهما لا يغني عن الآخر. 26

الموهبة إذن ضرورية ولكنها في حاجة إلى صناعة لتخرج من نطاق النظر إلى مجال الواقع. 27

سادسا: الشعر حرية : الحرية بالنسبة للشاعر بصفة خاصة أو الأديب بصفة عامة هي الهواء الذي يتنفسه فيسري في فكره وفنه سريان الهواء الطبيعي في جسده . يقول غلاب :<<وما نشأ أدب وما نما في غير هواء الحرية . والأديب عندما يخلو إلى قلمه لا يفكر في الحرية ، لأنه لا يمكن أن يخلو إلى قلمه إذا لم تكن هناك حرية يستطيع معها أن يخلو إلى هذا القلم ، وإذا احتاج إلى التفكير في الحرية عندما يخلو إلى قلمه فذلك هو الخنق الذي يمنع الأديب عن أن يتنفس>> 28.

والدولة في نظر غلاب مسؤولة عن هذه الحرية من ناحيتين : أما الأولى فهي أن الدولة هي التي تمنح هذه الحرية أو على الأصح لا تمنعها . ( فمسؤوليتها كائنة بين الحاء والعين ) .وأما مسؤوليتها من الناحية الثانية فمن واجبها أن تهيئ الجو لنشر الشعر وذيوعه ، فلها أن تيسر سبل النشر وسبل القراءة، تدفع الشعراء والأدباء عامة إلى الإنتاج ، وتدفع القراء إلى الاستهلاكعن طريق وسائل النشر والدعاية للأدب إنتاجا وقراءة ومشاهدة . وعن طريق تيسير الطباعة والنشر من الترخيص أو الإعفاء من الضرائب التي تثقل كاهل الأديب . وعن طريق إنشاء المكتبات في المدن والقرى والأحياء، أو عن طريق إنشاء مكتبات متنقلة في الأسواق حتى يروج الكتاب. 29
يقول الأستاذ غلاب: <<والدولة التي تجد الكتاب فيها أغلى من الخبز هي دولة لا تقدر الحياة الفكرية بل إنها تضع في طريق الحياة الفكرية صعابا لا تستطيع هذه الحياة أن تتخطاها >> 30

سابعا : الشعر أداة :

الشعر في نظر غلاب فن يعتمد على أدوات أساسية في التعبير في مقدمتها : اللغة والصورة والموسيقى . 31

أما اللغة فمعناها الكلمة الجميلة التي تحتاج إلى عملية انتقاء .. وانتقاء الكلمة ليس سهلا .. ومعنى هذا أن الشاعر لكي يختار ألفاظه في حاجة إلى ثروة لغوية واسعة وإلى دقة في الحس اللغوي تمكنه من اختيار اللفظة الشعرية الجميلة المعبرة .32

واختيار اللغة لا يعني الالتجاء إلى القاموس أو إلى الغريب، ولكنه يعني الاختيار على أساس الأداء النفسي للمفهوم الشعري ، يقول : << الشيء الذي يتفق مع لغة الشعر المعبرة عن أحاسيس الشاعر ومفاهيم الشعر هو ما يستطيع الشاعر أن يشحن به الكلمة مستمدا من مشاعره وإحساسه فينقلها من مفردة قاموسية إلى مفردة شعرية>>33.

وأما الصورةفوسيلة الشاعر لأداء الفكرة أو التعبير عن العاطفة . وهذه الوسيلة لا تدرك بالفطرة ولا بالطبع ولا تدرك بتعلم أصول الكلام اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية ولكنها تدرك بالممارسة والمجاهدة كما تدرك كل الصناعات الفنية التي تعتمد على الذوق إلى جانب التجربة .

وتأتي الموسيقى باعتبارها عنصرا أساسيا في الشعر ، وهي صنعة لا موهبة أو فطرة وما لم يستطع الشاعر أن يتقن هذه الصنعة لا ينتظر منه أن يكون شاعرا . 34

والأستاذ غلاب إذ يعتبر الموسيقى عنصرا أساسيا في الشعر فهو يهدف إلى أمرين :
- أولهما : ألا يقيد الشعراء بقيود لا يحاد عنها أو يجبَ الجمودُ عندها كما يقول فلا تتطور مع تطور الشعر .
- ثانيهما : أن التطور ليس معناه إلغاء كل القيود بدعوى الحرية . فتلك فوضى في نظره .
ويضع غلاب أمام المجددين في موسيقى الشعر العربي شروطاهي :
- ألا يكون عملهم صادرا عن تبرمهم – فقط - من الأوزان والقوافي باعتبارها قيودا تقيد إنتاجهم ، أو باعتبارهم لا يتقنون هذه القيود فيجب إذن التخلص منها .
- أن تتوافر في هؤلاء المجددين ثقافة واسعة بالشعر العربي والشعر الإنساني وبالموسيقى القديمة والحديثة ليعرفوا إلى أي مدى يعتمد الشعر على أصول فنية لا يستطيع التخلص منها .
- لا يمكن أن يصبح تجديدهم في الموسيقى أصولا تحتذى إلا إذا قبلها الذوق العام للشعراء والنقاد، ويكافح أصحابها من أجل بقائها . 35

نستخلص من الأدوات التي يشترطها غلاب للشعر أن الشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا بمجرد المواهب الأولية : الموهبة - الذوق - الإحساس والشعور ، وأن الشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا بمجرد إتقان علوم اللغة أو البلاغة ، فلا بد من أن يتقن صناعة الشعر ليكون شاعرا حقيقيا.

ثامنا : الشعر تلقي :

الشاعر الذي لا يجد متنفسا لا يمكن أن يعيش ، والمتنفس هو القارئ بالمعنى الكامل للقراءة أي القارئ الواعي المتفهم الناقد المناقش المحاور ، يقول الأستاذ غلاب : << إن الكاتب الذي لا يضمن القراء لا ينتج إلا إذا كان يعيش في عالم المثاليات أو في عالم الذين يكتبون القصيدة لينقشوها على الأحجار مثلا كعمل فني لا يهدف إلا إلى الفن نفسه >> 36 .

والشعر في نظر الأستاذ غلاب ما يزال يشكو من قلة القراء ذلك بأن المواطنين في هذه البلاد إما أميون بالمعنى الأولى للأمية ، وإما أميون فكريا بمعنى أنهم لا يحسون بالحاجة إلى أن يطوروا فكرهم وثقافتهم ، ومن ثم لا يقرؤون ولا يحسون بالحاجة إلى القراءة >> 37 .

وعلى الرغم من هذه الشكوى الصاخبة فإن الأستاذ غلاب يتفاءل خيرا بالشعر فيقول : << وما نظن أن قيمته كفن تعبيري ستنقص إذا قل مستمعوه في الأسواق والمهرجانات والاحتفالات ، ولكن قيمته ستزداد بين قرائه الذين يخلون إليه كما يخلو الشاعر إلى نفسه ويقرؤونه بنفس الروح الذي أملاه على الشاعر . لا خوف على مستقبل الشعر العالمي والعربي رغم صخب الأحداث التي يعيش فيها العالم لأن الشعر كفن قولي رفيع ما زال يدرك رسالته ويستطيع أن يقوم بها >> 38 .

ومن الصدف العجيبة أن يستعير الشاعر أحمد هناوي هذا التفاؤل الحسن ليخرج أكثر من مجموعة شعرية تحمل هذا الشعار : (لا خوف على أمة ما دام فيها الشعر والشعراء) .

تقويم عام :

لا أسمح لنفسي في هذا المقام ، وهذه المناسبة الكريمة بتقويم هذا المفهوم الذي سطرته أنامل الأديب عبد الكريم غلاب ، فهو نفسه لم يلزم الشعراء بهذا المفهوم ، يقول :<<لا أريد بالطبع أن أفرض هذا التصور على شاعر ما ، ولا أن أجعل منه دروسا نقدية أحكم بها على هذا الشعر أو ذاك ، ولهذا فأنا لا أحاكم على أساسها الشعر الحديث في المغرب>> 39.

ولكني أمنح لنفسي إبداء ملحوظة عامة هي أن مفهوم الشعر عندالأستاذ غلاب ينبعث من واقعية لها خصوصياتها الفكرية ولا أقول السياسية .

والملحوظة السابقة قد تختلف في منظورها مع بعض الآراء التي حاولت أن تجعل من فكر الرجل فكرا سياسيا ، يقول الأستاذ فطري مثلا:<< والالتزام السياسي ..هو الذي نجده في معظم إنتاجات غلاب الأدبية مما جعل هاته الإنتاجات تصبغ بالصبغة السياسية في كثير من الأحيان حتى أصبحت آثار السياسة غير خافية في مختلف الفنون الأدبية التي كتب فيها>> 40 .

قد نتفق مع الأستاذ فطري فيما يتعلق بفكر غلاب بعد الحماية ، وبإبداعه بعد الاستقلال ، لكننا نتحفظ في تبني رأيه بخصوص اصطباغ نقد الأستاذ غلاب بصبغة سياسية فيما قبل ذلك . إننا نعتبرها واقعية . فالفترة السابقة لعهد الحماية كانت تفرضسلطة الواقعية حسب تعبير عبد القادر الشاوي . وهي التي جعلت واقعيته اختيارا أساسيا في مواجهة التأثير الثقافي الغربي – الاستعماري ، وذلك ما حدد توجهها إلى الواقع .<<والحال أن الأصل في تكون سلطة الواقعية على صعيد الأدب المغربي الحديث .. يعود إلى هذا الاختيار وإلى هذه المرحلة بالذات >> 41

ايوب صابر 05-31-2012 08:29 AM

صياغة الفكر روائياً


* الاحد// 29 / 4 / 2007/ د . علي القاسمي / المغرب


قراءة عاشقة في" شرقية في باريس " للأستاذ عبد الكريم غلاب



صياغة الفكر روائياً:
سعدتُ بمطالعة هذه الرواية الفذّة وهي مخطوطة قبل أن تُطبَع وتُنشر؛ إذ حمل المخطوطةَ إليَّ السيد أحمد غلاب، ابن المؤلِّف البار بأبيه والذي أشرف على أعداد الرواية للنشر. حملها إليَّ كما يحمل المرء هدية فاخرة إلى صديقه. وضعتُها بجانب فراشي لأقرأ شيئاً منها قبيل النوم وأنا مستلقٍ في سريري، ظناً مني أنها مجرّد عمل سرديّ يساعد على جلب الخدر والنعاس إلى عينيّ. ما إن شرعت بقراءتها حتى وجدتني أعدّل وضعيّتي في الفراش لأواصل القراءة قاعداً وبعينين متسعتين اتساع الفضاءات الرحبة التي تحرّكت فيها شخوص الرواية الاستثنائيين، وجرت فيها أحداثها المشوّقة، ودارت فيها حواراتها الفكرية السامقة. ولم أضع الكتاب جانباً حتى أتيتُ على آخره قبيل الفجر.

لقد سيطرت هذه الرواية تماماً على جميع حواسي ومشاعري وفكري وقلبي، بفضل عنصرين توافرا لها, وهما لا يجتمعان عادة في رواياتنا العربية. وهذان العنصران هما: أولاً، الحكاية الشائقة المرويّة بأسلوب مشرق سهل ممتنع مطرّز بتقنيات سردية رفيعة المستوى شديدة التنوع، وثانياً، المضامين الفلسفية والسياسية والاجتماعية والنفسية المثيرة للخلاف الفكري والتي تجعل من القارئ، دون أن يدري، طرفاً في حوار ثقافي راقٍ يتطلّب منه التأمُّل العميق، بل الشكّ في مسلماته وبديهياته ومعتقداته، قبل أن يتقدم بإجاباته بكثير من التردد والوجل وبشيء من الأمل في أن إحساسه يصيب الهدف. إنها عمل إبداعي يرمي إلى صياغة الفكر صياغة روائية، والقارئ يستل منها نفسه بصعوبة شخصاً مختلفاً لا كما دخل رحابها.

سهرتُ ليلة كاملة مع تلك الرواية، لا لأنني كنتُ أتلذذ بحلاوتها العسلية فحسب، بل لأنني كذلك كنتُ أتعلّم منها أشياء كثيرة أجهلها، ومَن طلب العِلم سهرَ الليالي. لقد حملتني هذه الرواية على بساط سحري إلى باريس وجالت بي في ساحاتها الفسيحة، وشوارعها المشجرة المليئة بالتماثيل الفنيّة البديعة والمقاهي الزاهية والمطاعم الفاخرة، وفي حدائقها الغنّاء ومنتزهاتها الفارهة، وفي معالمها السياحية، ومتاحفها الشهيرة، وجسورها التاريخية، ومسارحها النابضة بالحياة؛ لتقودني، بعد ذلك كله، منوّماً تنويماً مغناطيسياً إلى مدرّجات جامعة السوربون، لأتعلّم من جديد فيها على يد أستاذ بقامة عبد الكريم غلاب، وأشارك في حوارات فكرّية هادفة يناظرني فيها عدد من طلاب الدراسات العليا القادمين من أقطار مختلفة وذوي ثقافات متباينة.
ولا يكتفي المؤلِّف بمرافقتك إلى أشهر متاحف العالم في باريس، وهو اللوفر، بل يدلّك على أعظم الأعمال الفنية فيه ويسلط عليها ضوءاً يجعلك تراها بعينين جديدتين. وقفتُ مرات عديدة أمام لوحة الموناليزيا في ذلك المتحف، ولكن لم أشعر بابتسامتها تنساب برقة ونعومة إلى شغاف القلب كما شعرتُ بذلك وأنا أقرأ رواية " شرقية في باريس ". تقول سامية، بطلة الرواية، بعد أن ذهبت حزينة إلى "اللوفر" وشاهدت ابتسامة الموناليزا:

" توقفت قدماي أمام " ليوناردو دافنشي" قادم من إيطاليا ليتربع على عرش الفنانين العالميين وهو يقدّم " الموناليزا"، توقّف تاريخ الفن بعد الموناليزا، ابتسامة تحدّت كل ابتسامة، ارتسمت على وجه امرأة، ارتسمت على الوجه الصبوح في صباه وفتوته، لتعلّم العالم الباكي كيف يبتسم، انتظرتُ طويلاً حتى يخفّ الازدحام، أريد أن تمنحني ابتسامتها لتطرد أحزاني في صفاء وهدوء. تحرّك الركب وما أدري كيف يستمتع متذوق وسط ركب من الزائرين، ما أظن أحداً منهم رحل وفي قلبه الجوكاندة، تصلبت في مكاني لحظات أحسبها طالت محاولة أن أستشف مصدر الابتسامة الخالدة: من العينين المتفتحتين في براءة الطفولة وسحر الجمال؟ من الشفتين المضمومتين المتفتحتين في طهارة مَلَك تدعو إلى قبلة برئية؟ من الخدين الأسيلين في نعومتهما الهادئة؟ من كل ذلك، من غير ذلك، كانت الابتسامة الخالدة.
" وقفت مذهولة كأني أشاهدها لأول مرة، ما أدري كم طال وقوفي؟ لا أدري ما كنتُ أفعل بنفسي؟ كنتُ مأخوذة، حتى مرّت بجانب جميلة لعوب ابتسمت في وجهي ضاحكة:
ـ تحاولين تقليدها بابتسامتك؟ يمكن أن تنجحي...مع الأسف ليوناردو رحل. رنّت ضحكتها. غيبها الزحام، أسعدتني بمعابثتها، أشعرتني أن ابتسامة الجوكندة طبعت ظلالها على وجهي.
" مدينة لك يا جوكاندة، منحت وجهي ظلاً من وجهك.
" منذ متى لم تبتسم شفتاي وعيناي وخداي وقلبي في مرارة الوحدة والعزلة، إلا مع وجه متفتح بابتسامة خالدة..."(ص 112ـ113).

ويستمر عبد الكريم غلاب في رسم ابتسامته الأخاذة بالكلمات، بالحروف، بالأصوات، بإيقاع اللغة، بأنغامها العميقة، مشكّلاً عبارات رشيقة، سريعة، مرحة، تضاهي ضربات ريشة ليوناردو الناعمة على وجه الموناليزا ليمنحها لوناً ومعنىً. ثم يتحول بك ليقدّمك إلى رائعة بكاسو " آنسات أفنيون" , ويمشي معك قليلاً ليقف أمام لوحة " الحاضرة" للرسام الهولندي الشهير "فان كوخ" , وعندما تخرجان من متحف اللوفر تجد أن شهيتك للفن قد تفتحت مثل زهرة عباد الشمس بعد أن يغمرها الضوء، فيدعوك إلى وليمة دسمة في متحف الشمع، أو في معارض الرسامين المنبثة في شوارع باريس.

ايوب صابر 05-31-2012 08:29 AM

خلاصة الحكاية:
بإيجاز مخلّ، تدور رواية " شرقية فيباريس" حول فتاة من أسرة مسلمة محافظة في سوريا، اسمها سامية، تأخذ في مراسلة شابفرنسي بالبريد الإلكتروني من إحدى مقاهي الإنترنت (أو الشابكة، كما اصطلح علىتسميتها مجمع اللغة العربية بدمشق). ثم ترحل هذه الفتاة إلى فرنسا لمواصلة دراستهاالجامعية في السوربون، وتلتقي بذلك الشاب الفرنسي، تقع في غرامه، يطلب يدها،يصطحبها إلى أهلها في سوريا، ينطق بالشهادتين، دون أن يعرف من الإسلام إلا اسمه ومنالقرآن إلا رسمه، وسط زغاريد أمها وأخواتها وجاراتها، يعودان إلى فرنسا، ينضمّ هوإلى حزب سياسي عنصريّ، يكثر تغيّبه عن بيت الزوجية بحجة اجتماعات ليلية، تتغيرتصرفاته اتجاهها، تكثر المناقشات بينهما حول قضايا خلافية، يأخذ بالإعراب عناحتقاره للأجانب، يزداد الجدل بينهما، يصفعها، يقع الطلاق، تتفاقم معاناتهاالنفسية، تفكّر بالعودة، ولكنها لا تحتمل نظرات الشامتين، فتقرر البقاء ومواصلةدراستها. تدرس في مجموعة بحث في السوربون تضم طلبة من أقطار مختلفة من أفريقياوآسيا وأوربا، وتتدارس المجموعة موضوعات فلسفية واجتماعية ونفسية واقتصادية، هدفهاإيجاد الشروط اللازمة لإيجاد تنمية بشرية في الأقطار النامية (أي المتخلِّفة) وإقامة حوار بين الثقافات والأديان والبلدان، من أجل رفاه الإنسان وترقية حياته. ويقع الأستاذ الفرنسي في حبّ الطالبة الشرقية المطلَّقة لا بفضل ملاحتها فحسب وإنماأيضاً بفضل خلفيتها الحضارية وقيمها وجرأتها في طرح أفكار تتسم بالأصالة والجرأة،فيتزوجها، ومن خلال معاشرته لها يكتشف سمو ثقافتها الإسلامية فيتفهمها وينجذبإليها.

بيد أن المؤلِّف الأستاذ عبد الكريم غلاب لا يسرد الأحداث بشكلخطّيّ، كما فعلتُ أنا في خلاصتي المبتسرة للرواية، وإنما يستخدم تقنيات سرديةمتنوعة أهمها الاسترجاع، وتيار الوعي، والتحليل النفسي المعمق، ويُكثِر من التلميحبدل التصريح، والإشارة بدل العبارة، ليشحذ ذكاء القارئ الذي يُشارك في عمليةالإبداع من خلال ملأ الفراغات والبياضات في الرواية، وإبداء الرأي في القضاياالفكرية التي يثيرها المؤلّف المتمرس الذي يمتطي صهوة الكتابة فارساً لا يُشق لهغبار.

رواية فريدة:
في تقديري أنه ليس في وسع أي كاتب آخر أن يكتب مثلهذه الرواية ما لم يمتلك مخزوناً معرفياً فخماً يضاهي ما للأستاذ عبد الكريم غلابمن فكر أصيل، وعلم جمّ، ونضال سياسي رائد، وخبرة صحفية شاسعة منقطعة النظير، ورصيدروائي هائل. وقد تغلّب المفكّر عبد الكريم غلاب في " شرقية في باريس" على الروائيعبد الكريم غلاب نفسه. فقد جمعت هذه الرواية بين عواطف الشباب المنبهرين بالدردشةفي مقاهي الإنترنت وبين الأفكار الناضجة لعمالقة شيوخ الفكر. وأحسب أن "شرقيّة فيباريس" تشكّل منعطفاً متميزاً في مسار الرواية العربية، وستكون نموذجاً يحذو حذوهالروائيون في المشرق والمغرب لإنتاج روايات مضمّخة بأريج الثقافة والفكر والأدبالرفيع.

الرواية والحوار بين الثقافات:
تصدر هذه الرواية في وقت يشتدفيه " الصدام بين الحضارات " كما يصفه المنظر الأمريكي هنتغتون، وتتعالى فيه دعواتالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة إلى " تصدير الديمقراطية " على الطريقةالأمريكية بقوة العولمة والسلاح، وتتفاقم فيه معاناة المهاجرين من دول الجنوبالبائسة إلى دول الشمال المترفة، فيطرح المؤلِّف، بجرأةِ المناضل السياسي الرائد،وثقة المفكِّر الكبير، مفهومَ الحوار والتفاهم بين الثقافات، وهو مفهوم ينبثق منرؤية معمّقة لجوهر الإنسان وغاية وجودة، ويجسّد روح ثقافتنا الإسلامية بتوجههاالإنساني وعالميتها ووسطيتها وتسامحها وقيمها. ويختار المؤلِّفُ جامعةَ السوربونميداناً لهذا الحوار.

لنقتطف حواراً بين سامية الشرقية وبين أندري الفرنسيالذي انتمى إلى حزب عنصري متطرف بعد زواجهما بسنتين وأمسى الزواج على كفعفريت:

" ...
لم انتزع من نفسه كراهيته للشرق...
ـ لو لم يكن في الملتقىلما التقينا.
ـ أنتَ أناني..
ـ الحضارة علّمتني أن أكون كذلك
ـ كارثةالعالم أن حضارته أنانية لم يستطع أن يتنازل عنها. تعلّمتُ من أساتذتي أن الخطأ خطأالإنسان، لا خطأ الحضارة.
ـ الإنسان صانع الحضارة.
ـ الحضارة صانعةالإنسان.
ـ أخطأت يوم صنَعَتْهُ هكذا أنانياً.
ـ لا صنعته سوياً فانحرف
ـالانحراف، هو الآخر، شيء جميل..
ـ ما لم يرمِ بحضارةٍ ما إلى الهاوية. أن تدمرحضارة فتلك هي الهاوية.
ـ ربما لتبقى حضارة واحدة هي السائدة.
ـ ومَن يمنحهاالسيادة؟ ومَن يؤكِد أنها لا تدمّر نفسها وهي تدمّر الأخرى؟
..."
ويحس القارئمن هذه العبارات القصيرة المتلاحقة الجارية المحملة بأفكار من وزن ثقيل أنالمتحاورَين قد بلغا قمة الصراع العنيف اللاهث. وفي ذات الوقت يجد القارئ نفسهطرفاً في النزاع الفكري، وأنه مطالب بإجابات وتفسيرات وشروح. فكل عبارة تحتاج إلىكتب عديد في العلوم الإنسانية لاستيعاب مفاهيمها وقيمها.

إن وزارات الثقافةفي أقطارنا العربية مدعوة لترجمة هذه الرواية الرائعة إلى اللغات العالمية وتحويلهاإلى فيلم سينمائي تُشارك به في المهرجانات السينمائية الدولية، مساهمة منها فيالحوار بين الثقافات، وتحسين صورة المسلمين في الغرب، ومن أجل أن تدحض ما يدور علىألسنة كثير من المواطنين من أن السياسات الثقافية العربية تشجّع وتدعم عمداًالثقافة الرخيصة الزاخرة بالأغاني الهابطة العارية والألعاب الرياضية الشعبية وتقيملها الفضائيات المتعددة، على حين تُستبعد البرامج الثقافية الحقيقية، وذلك لإلهاءالشباب والإبقاء على التخلّف الفكري.

ايوب صابر 05-31-2012 03:56 PM

الظروف الحياتية التي اثرت في تكوين الاديب عبد الكريم غلاب:

- تعتبر رواية "المعلم علي" نموذجا دالا على الواقعية الحياتية. فإذا كانت الرواية السابقة "دفنا الماضي" تتمثل "جيل القنطرة" باسترجاع الأحداث التاريخية وبناء القصة عليها. فإن رواية "المعلم علي" انتقلت إلى الواقعية الحياتية وعملية. فظهر بها مفهوم النقابة والعمل النقابي ومفهوم القانون والحقوق الخاصة بالعمال والحقوق العامة التي تشمل بقية الفئات في المجتمع. وظهرت مفاهيم أخرى كالربح والإنتاج والعامل ورب العمل/المعمل والإضراب والصراع. والدفاع عن العمال والخروج بالعمل النقابي إلى العمل السياسي المناهض للمستعمر والمستغِلِّ. وهو ما سيدفع عبد العزيز (شخصية الرواية) أن يشرح ويبين:" مهمة النقابة الدفاع عن مصالح العمال.. هكذا يفهمها زملاؤكم الأجانب، ولكنها عندكم رسالة لإنقاذ إنسانية الإنسان فيكم". ص (320، المعلم علي).

- غير أن صاحب «الأبواب السبعة»، روايته الشهيرة، سيجد نفسه يوما رفقة مدير «لوبنيون»، المحامي محمد برادة، يدلف أبواب سبعة من نوع آخر، تختلف عن أبواب وأقواس مدينة فاس، فقد اقتيد الرجلان إلى سجن لعلو في أكتوبر 1969، بتهمة نشر أنباء مخلة بالأمن العام.

- وقد كان حين تتعبه الكتابة الجادة في الافتتاحيات والسجالات الفكرية والأدبية وفنون الإبداع ينحو في اتجاه السخرية التي كانت تجد مجالاتها في عمود يومي أطلق عليه اسم «مع الشعب» يعرض فيه مشاكل المواطنين وقضاياهم. لكن تلك الكتابات ستجلب عليه المزيد من المتاعب، خصوصا حين كتب يوما ينتقد استفحال ظاهرة الإجرام والسرقة التي تفشت كثيرا. فالرجل الذي كان يعيش «مع الشعب» في رصد مشاكله وطموحاته، كانت له حياة أخرى أقل مدعاة للقلق، لكنه كان يفرق بين التزامه الفكري والسياسي وبين حياته الخاصة، إذ كان يمارس هوايته المفضلة في مسالك الغولف أو يسافر بعيدا عن هموم الشعب، أو يقتطع من وقته بعضا منه للانشغال بأمور أخرى، مع أنه كان شبه زاهد في مسائل عديدة.


- يتحدر غلاب من عائلة برجوازية. كان أبوه تاجراً أسهم في تاسيس المدارس الحرة لأن التعليم الرسمي التي كانت تشرف عليه الإدارة الفرنسية لم يستجب لحاجات الشعب وتطلعاته.
- أسس في القاهرة أثناء دراسته الجامعية، مع عدد من الطلاب المغاربة رابطة الدفاع عن المغرب ضمت مغاربة من تونس والجزائر ثم كوّن معهم "مكتب المغرب العربي" هدفه المطالبة باستقلال الدول المغاربية والمطالبة بتحرير بعض القادة الذين سجنتهم السلطات الفرنسية المستعمرة. وعمل لدى عودته إلى المغرب أستاذاً وصحفياً ومناضلاً فدخل السجن ثلاث مرات.
- لغلاب خمس روايات منها: سبعة أبواب 1965 وهي سيرة ذاتية عن تجربته بالسجن.
- وثلاث قصص هي: مات قرير العين 1965.
- كاتب ارتبطت عنده الكتابة بالنضال
- يشتمل الكتاب على أربعة فصول، فضلا عن تمهيد وخاتمة. خصص كل فصل لنوعية محددة من الخطاب «السيرـ ذاتي»، ترتبط بمرحلة عمرية معينة، وبتجربة حياتية خاصة. هكذا أفرد الفصل الأول لسيرة «الطفولة والصبا»، وتناول فيه الناقد المرحلة الممتدة من سنة 1918 تاريخ ميلاد الأديب المغربي، إلى سنة 1937 موعد هجرته إلى مصر، وهي الفترة التي خصصها السارد لوقائع النشأة الأولى بمدينة فاس، وبدايات اكتشاف العالم المديني الصغير، وصلات الصبي بمحيط الأسرة و«الكتاب» و«الحارة»... وهي الوقائع التي انطوت عليها سيرة مفردة حملت عنوان: «سفر التكوين» (1997).

- أما الفصل الثاني فخصصه «حسن بحراوي» للسيرة «التعليمية» حيث تناول بالتحليل نص «القاهرة تبوح بأسرارها»(2000) وهو النص الذي يرصد الفترة الممتدة من مغادرة «غلاب» للمغرب سنة 1937، وحتى عودته إليه بعد مرور إحدى عشرة سنة من الإقامة المتواصلة في مصر، شهد خلالها تحولات ثقافية حاسمة، وخطوبا سياسية بالغة الخطورة،.

- هذا بينما خصص الفصل الثالث من الكتاب للسيرة «السجنية» من خلال نص «سبعة أبواب» الذي تناول فيه غلاب تجربته في الاعتقال على عهد الاستعمار التي استمرت ستة أشهر، بما هي تجربة شديدة الخصوصية طبعت ذاكرته ومساره الحياتي، وكان لها بالغ الأثر في تعاطي شخصية المناضل السياسي الذي مثله مع الاختبارات العديدة التي شهدها المعترك السياسي المغربي طيلة عقود طويلة من التجاذب بين الحكم والمعارضة. ويجدر التنويه في هذا السياق بنص السيرة السجنية الذي كان هو أول نص ذي طبيعة سيرة ذاتية كتبه غلاب، حيث صدر مطلع سنة 1965، قبل كل نصوص السير الأخرى التي أرخت لمساره الحياتي.

- على نصوص السير الذاتية التي لم يخضع فيها «غلاب» مساره الحياتي لاسترجاع يراعي منطق التعاقب والاسترسال، وإنما كان ينطلق دوما من أحداث كبرى في حياته ليسلط الضوء على التفاصيل والتحولات التي أحاطت بها، ومدى تأثيرها على شخصيته الفكرية، واختياره السلوكي، كما أن الدراسة غلبت عليها في أحايين كثيرة نغمة الحكي واستعادة الوقائع، بحيث بدت أشبه ما تكون بملخص لنصوص السير المختلفة، واختزال لها في صور محددة يحكمها الجدل والترابط.
- تلك كانت أهم المضامين التحليلية التي اشتملت عليها دراسة الناقد حسن بحراوي عن عبد الكريم غلاب، سعى من خلالها إلى الكشف عن التشكيل السردي لنصوص السيرة الذاتية لهذا المفكر المغربي البارز، بالقدر ذاته الذي استهدف فيه التعريف بالمحطات المركزية في حياته وتفاصيلها الحميمة، والوقوف، من ثم، على سماتها الجمالية، وسجاياها الفنية والأسلوبية. مما جعل من كتاب «جدل الذات والوطن» ترجمة نثرية بالغة التأثير لتحولات مسار أدبي ثري، وتجربة حياتية مثيرة بتفاصيلها وتقلباتها المدهشة، لا يمكن إلا أن تعد بسفر ذهني عذب، يدعو لمعاودة القراءة مرات عديدة.

هناك الكثير من المؤشرات التي توحي بأن الاديب عبد الكريم غلاب عاش حياة غنية بالاحداث وهناك الكثير من التفاصيل لكن لا نكاد نجد اي معلومة عن ظروف النشأة والطفولة وعليه سنعتبره مجهول الطفولة.

مجهول الطفولة.

ايوب صابر 05-31-2012 03:59 PM

96- قامات الزبد إلياس فركوح الاردن
نبذة الناشر:
يمكن لنا أن نسميها رواية الخراب... حيث كل شيء في انقضاض على كل شيء. وحيث تتجلى الحياة في نقائضها، وتتقذف بشكل زلزالي ضد ذاتها وتجلياتها، ضمن هذا الخراب تتحرك الشخصيات باتجاه حلم غامض، إنها شخصيات مشردة تحاول حلمها الخاص بشكل أو بآخر، وتفيق على واقع واحد هو الخراب، ثم تنتهي أو تنوس في غمرة موات حقيقي يطحنها.
وتتناسل حركة القص دائماً بشكل فيوضات سردية عارمة، منتجة شخصيات مشظاة وزمناً متشرخاً وأحداثاً هبائية ومكاناً شبحياً متفلتاً، وتبدو الرواية في الظاهر خليطاً غير مبرر من كل شيء ونقضيه، لكنها في الحقيقة ترسم الزمن العربي الرسمي الحاضر بإحداثياته اللازمة، بدءاً من فلسطين ومروراً ببيروت وانتهاءً بالذات الفردية العربية، التي أنتجها الموات وأنتجته.
إن حلم الثورة هو اللامكان الوحيد الذي اسمه بيروت، وهو اللازمان الوحيد الذي هيأ نذير الحلبي للموت بيد طائفية، وخالد الطيب للموات بيد الذات التي اكتشفت ذاتها الهروبية على غير فجأة، وزاهر النابلسي للنواس والإنضاب خلف حجاب الحلم المنتسف. وهكذا يتفقع كل ذلك السيل الذي كان منذوراً للبشارة والثورة والعتق من الخراب، يتفقع زبداً جفاءاً، ويتكشف عن صمت برزخي يرين على الأشياء.
إن "قامات الزبد" رواية ترصد "الواقع" وتترصد حركته الباطنة لتجلو خواءه العميم. وهي حين تسافر في حركة الواقع بلغتها وبنيتها الحكائية السافرة، إنما تسافر لتسفر، وإنما تستبطن لتجلو مرحلة ما سنعيشها.
زهير أبو شايب

ايوب صابر 05-31-2012 10:07 PM

قامات الزبد


سنة النشر: 2004
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة


كلمة الغلاف :
تبدو شخصيات " قامات الزبَد " ومنذ الصفحة الأولى مشغولة بتحليل انكسار إشعاعات العالم والتجربة الجماعية في منشور الذات ، وتبدو هذه الشخصيات جميعاً منفصلة عن الماضي والأحداث التي مرّت بها ومنهمكة في لعبة تحليل المشاعر وتقصي حقيقة موقفها من العالم الذي تصفه وتحوّله إلى مرآة شفافة تعكس صوراً مشوشة وخيالات باهتة وأفكاراً تُحيل التجربة الموصوفة إلى مبررات للانهيار واختيار الهروب ملاذاً من تجربة سياسية غامضة . هل تحكي " قامات الزبد " عن الحرب الأهلية في لبنان ؟ نعم ، ولكنها تحكي أكثر عن حرب الذات مع نفسها ، عن ذلك الصراع الداخلي الذي يعتمل داخل ذوات الشخصيات . ومن هنا تلتحق رواية إلياس فركوح بذلك النموذج من الكتابات الروائية العربية الجديدة التي تصوّر انهيار العالم الخارجي بتصوير الصراعات الداخلية للشخصيات . إنها تلتحق فرداً جديداً في عائلة الأعمال الروائية التي كتبها إدوار الخرّاط ، وإبراهيم أصلان ، ومحمد عز الدين التازي ، وحيدر حيدر .

فخري صالح

ايوب صابر 05-31-2012 10:18 PM

إلياس فركوح

كاتب أردني ومؤلف لعدة كتب. حازت روايته قامات الزبد على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990، وحاز على جائزة الدولة التقديرية في حقل القصة القصيرة عام 1977 . أسس دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 1992 حيث يعمل مديراً لها. وهو من مؤسسي اتحتاد الناشرين الأردنيين، وهو عضو في الاتحاد المذكور، وفي اتحاد الكتاب والأدباء العرب، ورابطة الكتاب الأردنيين التي عمل عضواً في هيئتها الإدارية لعدة دورات.

من اقواله:إن الكتابة لا تتعامل مع مصادفة، وهي ليست نتاج المصادفة على الإطلاق. إنها ممارسة واعية ؛ فعلٌ مقصود يصدر عن ذاتٍ تبصر كل ما يحيط بها، وتسجّل الجزئيات بوعيٍ متيقّظ، كي تصوغها في ما بعد ضمن تركيبٍ فـنّـي يتسق ووجهة نظرٍ تسري في الحياة، وتحكم عليها""

ايوب صابر 05-31-2012 10:40 PM

إلياس فركوح

ماذا يعني أن يعمل كاتبٌ على إنشاء موقع له على شبكة الإنترنت؟
أهو فعل إشهارٍ وإعلام، أم ثمّة ما هو أعمق في دلالته يقارب إعلان الحضور الفاعل في العالم ، والجهر بوجود كينونة تملكُ إضافتها المتواضعة إلى هذا العصر ؟ بمعنى : تملك "مذاق" أسئلتها الوفيرة حيال حفنة إجابات مفتوحة·
رُبّما هي هذه الأسباب والدوافع جميعاً ·
ولمَ لا ؟
قد تكون هذه الشبكة الكونية الحرّة في انفتاحها حتّى أقصاها ، حين الحضور الدائم في خلاياها ، هي المنفذ الأنسب للخروج من "شبكة/مصيدة" الإعلام المتخلّف الذي يشرنقنا (ككتّاب عرب) حدّ الاختناق، ويجعلنا رهائن مزاجية الأفراد وأنانياتهم تارةً ، والمصالح الضيّقة للسُلطات وآنيّاتها تارةً ، وعماء الصحافة "الشعبية": هذه المهتدية ، غالباً ، بصلف الإسم وسطوة العلاقات·
وبالمقابل : أهي>"شبكة علاقات" من نوعٍ آخر ، مغاير ، ومضاد ؟
أجل ·
ولمَ لا تكون كذلك ، حيث يُصبح التأكيد في كل لحظة على أنّ الشجرة ، مهما طالت وتطاولت ، فلن تكون هي الغابة ولن تختزلها أبداً، أو تنطق بصوت آلاف أشجارها ·
إنّ نشيد الأحراش والبراري ليس سوى همس ملايين الأوراق المعلّقة في أذرُع الريح وسواعد الأشجار : الخضراء منها ، والصفراء ، وتلك المابين ·· أيضاً·
نحنُ ، حين نحدّق كثيراً في اللامع المضاء بصخبه العالي ، نعمى فلا نُبصر·
ونحنُ ، لحظة نُغمض أعيننا حيال المترائي الشفيف المتخايل ، نتبصّر ما لا يُدركه غيرنا.

==
2010/11/14،
إلياس فركوح: اكتب ما دامت معرفتي ناقصة ومدينتي تتفلتُ مني حاوره: محمود منير
اختار مدينته والسرد معاً. تؤثث ذاكرته رواياته عن مكان يهوى الأقنعة ويرفض الإفصاح والإبانة, في ثلاثة أعمال روائية أصدرها خلال فترة جاوزت عقدين من الزمن, وبقدر إخلاصه لمدينته المختلة نبش أرشيفاً استثنائياً يمتد ستين عاماً تبدأها الحرب والأسئلة لتنتهي عنده عبارة حاسمة هي: لا شيء يكتمل.
إلياس فركوح وعَمّان على موعد قديم لم يتغير منذ الصفعة وطيور عمّان تحلّق منخفضة ومجموعات أخرى, لكن القصة القصيرة دفعته إلى تجديد مواعيد أخرى مع مدينته في الرواية, فنشر رواياته: قامات الزبد, أعمدة الغبار وأرض اليمبوس, لذلك كانت فكرة محاورته تفترض لحظة تداعي لا تحتمل تلصص الصحافة بل اعترافات متدفقة متوالية حملته على نشرها جملة تداعيات, أرسلتها له عبر البريد الإلكتروني, تمثل قراءة متأملة لروايته الأخيرة.
اعترافات فركوح ل¯ العرب اليوم ابتعدت عن المباشرة في تناول تجربته الإبداعية المتعددة في القصة والرواية والترجمة والنشر والكتابة الصحافية, إنما أتت نصاً موازياً لها يشبه كاتبها وتقترب من مناطق قد تبدو معتمة بقصد إضاءتها, لكن منطقة وسطى تبقى ملازمة له.
* في أرض اليمبوس, تبدأ الحيرة ولا تنتهي, وربما كانت عمّان كذلك, هل كانت عباراتك لا زلتُ لا أعرف. لا زلتُ أكتب, هي مفتاح الكتابة ومفتاح المدينة في آن?
- بعد قطعي لشوطٍ في التجربة القصصيّة, وخلال كتابتي لقصص المجموعة الثالثة إحدى وعشرون طلقة للنبي, أدركتُ بأنني فقدتُ كثيراً من ركائز اليقينيات التي انبنت في سياقها القصص السابقة; إذ بِتُّ على غير ثِقةٍ بما كنتُ أراه رؤية العَين! ففي لحظات إعادة تشكيل تلك المرئيات, عبر كتابتها باللغة, وخلال بذلي المجهودَ لاصطيادها على هيئاتها المُجَرَّبَة, وجدتني أُصابُ بما يشبه الفَزَع! كانت تنفلتُ من تشكيلاتها الأُولى عندما أعملُ على التحرّش بها, حائراً ومتسائلاً عن النقطة, أو الزاوية, التي سوف أبدأُ منها لأستطردَ من ثَم في عمليّة بِنائها بالكتابة. كانت تتحررُ من أجسامها الأُولى وتمثلاتها السابقة لتتخذ لنفسها أجساماً وتمثلاتٍ جديدة! جديدة ومغايرة كأنما ما كانَ موجوداً هناك, في الخارج قبل الكتابة, ما عادَ ليتكررَ ثانيّةً هنا, عند الكتابة وفي داخلها! كأنما التماسُك الظاهر للعيان في (المصادر) و(المراجع) لا يعدو أن يكون وهماً, أو سراباً سرعان ما يتلاشى عند إخضاعه للامتحان برؤيا الكتابة; فلقد تحوَّلَت محسوساتُ العالَم الواقعي المنتظمة والمتسقة والصلبة إلى حالاتٍ من الهشاشة بحيث افتقَرَت لِمْا يشدُّّ ويُمَتِّنُ عناصرَها, وبالتالي لِمْا يؤهلها لأن تكون ذات تعيين متَفَقٌ عليه, أو أشتركُ فيه مع غيري!
عندها, اكتشفتُ بأنني لا أكتبُ قِصصاً بالمعاني المتعارَف عليها, تلك السائدة, وإنما هي حالاتٌ تستبطنُ قصصها المتعددة القابلة, بدورها, للتكاثر أكثر. كما أنها قابلة, أيضاً, لكثرةٍ لا تنفدُ من تقنيات التناول الفني. فإذا كان ذلك كذلك, أعني مرئيات العالَم الواقعي بمحسوساته الجامدة وحيواته المتحركة, فإنَّ المراهنة على جوهرٍ حقيقي فيها ليست سوى مراهنة خاسرة. كما أصبحَ التسليمُ بما نراه, والقبول به, والرِضا عنه, من المحظورات التي يأباها الوعي الكتابي في أعماقي وينفرُ منها. وأحسبني أصبتُ بالتعبير عن هذا كلّه, عندما خصصتُ في بداية رواية أعمدة الغبار صفحةً لأشهدَ بالتالي:
كلّما حاولتُ ذاكرةً تسترجعُ ما فاتَ;
انكسرتُ على شفرة الغياب.
قلتُ: لعلَّ الكلمات هي القادرة.
لكنَّ شيئاً, في الخارج, لم يحدث.
إذَا; ولأني افتقدتُ الثقةَ في ثَبات الموجودات على أحوالها عند الكتابة, والتفَّت الريبةُ حول ثبوتيتها لدى (المنطق) الفني إبّان إعادة تشكيلها على الورق; أصبحَ العالَمُ يتحركُ في دوائر من الاحتمالات. والاحتمالات, كما نعرف, مجموعة افتراضات لا بُرهان عليها قبلَ إخضاعها للفحص والتجربة. ولكن; ماذا يحدث لتلك الاحتمالات/ الافتراضات في ورشة الكتابة الأدبيّة? وهل نبتغي الوصول إلى البُرهان, أم نكتفي بما يمنحنا الفحصُ والتجربةُ من فضاءاتٍ انفتَحَت لنا لتنفتحَ, بالتالي, الكتابةُ السرديّةُ على احتمالاتٍ تجددُ نفسها من خلالها? ناهيكَ عن أنَّ ما تخرجُ به ورشةُ الكتابة الأدبيّة والفنيّة لا يخضع لقياس ومعايير العمل في المختبرات! وبذلك; فإنَّ السعي الأدبي (السعي الأدبي الواعي, أعني) لا يريد الوصول إلى بُرهانٍ هو زائفٌ بمعايير العِلْم الوضعي, بقدر ما يستمتعُ بالوقوع على عوالَم جديدة أخرجتها الكتابة, وأنضجتها جسارةُ المُضي في ملاحقة احتمالاتها المحمولة على خَيالٍ يرى ما أسميته (المصادر والمراجع) دون التنكُّر لسياقها الاجتماعي والتاريخي ولحظتها السياسيّة, ولكنه لا يلتزمُ إلاّ بآليّة إعادة التركيب ومنطق الحذف والإضافة.
نعم, الكتابةُ رحلتي نحو المعرفة التي أضاعت نفسها وسط فوضى العالَم. أو لعلّني أنا مَن تاهَ داخل أكاذيب العالَم وتلفيقاته القيميّة وتوليفاته المضادة للإنسان الفرد وإخصائها لحريّته في الحلم والتخييل, تلك المسنودة بأيدولوجيات شتّى تَدّعي بناء عالَمٍ نظيف, لكنها, حين تصطدمُ بلحمنا وترتطمُ برؤوسنا, تَسقطُ وتُسقطنا معها في مستنقعات الدم ومدارات الوهم القاتل. لأنها كذلك; فهي كتابةٌ تتلبسها الحيرةُ المشفوعة بالمرارة ابتداءً. حيرةٌ تجاه المدينة, رغم أنها مدينتي أنا. مدينةُ هذه الذات المكلومة على وَقْع الجروح المفتوحة في أرواح ساكنيها, التي لن تشفيها أو تغلقها جميعُ أبراج الإسمنت المتعاليّة عليهم وعلينا وعلى الفضاء الذي تتواقح لتغلقه أيضاً!
سأواصلُ الكتابةَ ما دامت معرفتي ناقصة, ومدينتي تتفلتُ مني. سأواصل بالكتابةِ حَفْري المعرفي المتواضع بحثاً عَني أنا. أبحثُ عني في مدينتي, وأبحثُ عن مدينتي فيَّ. لأننا, ندري أو لا ندري, نحن الذين نُسْكِنُ المُدَنَ فينا! نحن, كُلُّ واحدٍ مِنّا, إنما يحتفظُ في داخله بمدينةٍ تخصّه وحده.. رغم أنها تخصُّ سواه في الوقت نفسه.
* معرفة لن تكتمل, ومدينة تهوى التفلت, إلى أين ستمضي ببحثك عن نفسك في عمّانك, وعن عمّانك فيك?
- حين نباشرُ سَرْدَ المدينةِ إنما ننطلقُ, بحَذَرٍ وبما يقاربُ الخوفَ من أن ننزلقَ إلى حيث لا نقدر على الفكاك من أسْرِ اللغة واستطراداتها المغوية, من صورةٍ ما, معينة ومحددة بمعنى أنها واحدة. غير أنَّ الانطلاق, بحسب تجربتي, لا يكون نحو الأمام باتجاه توسيع الصورة وتطويرها بمراكمة فضاءات تتعدّاها, لكن بالحفر فيها ومحاولة معاينة ما تخفيه تحتها من أصداءٍ هي التي أبْقَت عليها ماثلةً تنتظرُ مَن يكتبها. الصورةُ المُرادُ البدء منها صورةٌ جامدة, أو هي مركونةٌ في ثَلاّجة الذاكرة مُجَمَدَةً, لكنها ليست فوتوغرافيّة أبداً. إذ تختزنُ المجموعةَ الكاملةَ من الروائح, والأصوات, والألوان, وذبذبات الكلام الكثير - أو القليل - التي تتفاوتُ في درجات وَخْزِها لذاكرتنا حتّى تفيق.
هي الصورةُ إذَا نعاينها الآن, لحظة الكتابة. وإنها قديمة. الصورةُ القديمةُ نفسها نستعيدها من زمنها الذي انقضى لنُحييها, ونبعثها جديدةً بكلماتٍ ينبغي أن تكون, هي أيضاً, جديدة. ولكن: كيفَ تتجددُ الصورةُ إنْ ظَلَّت كما انتهت إليه في لحظة زمنها العتيق? هل نُبقي على عناصرها كاملةً, أم نُضيفُ إليها أو نحذفُ منها? هل نحافظُ على علاقات تلك العناصر ببعضها, وبما/ بمن جاورها وحايثها وارتبطَ بها, أم نعملُ على خَلْقِ/ اختلاق علاقات مغايرة قد لا تقلبها رأساً على عقب; لكنها تجعلُ منها صورةً أقربُ إلى المنظور إليها من زاوية جديدة?
حَسَنٌ; ما الزاوية الجديدة? ماذا أقصدُ ب¯الزاوية تحديداً?
الاجتهادُ, في نَظَري, قراءةٌ جديدةٌ, أو قُلْ معاينةٌ جديدةٌ لصورةٍ قديمة أبتغي رسمها بكلماتٍ تشيرُ إليها وتأنفُ من نسخها أو استنساخها. فالكاتبُ فيَّ, وبإصرارٍ نهائيّ لا رجعةَ عنه, ليس ناسخاً, وليس مقّلداً, وليس مصوِّراً, وليسَ ذاكرةً صافيةً لا يشوبُ شفافيتَها الخالصة عَكَرٌ, أو شَغَبٌ يحطّمُ الانسيابيّةَ الكاذبة التي يتوهمها الخيالُ الكسيحُ المستكينُ إلى قُدسيّة الواقع وقداسته!
إذَا: نحنُ حيالَ آليّة الخَلْق من جديد. نحنُ بمواجهة زيف اليقينيات نعملُ على زحزحةِ أعمدة الماضي/ التاريخ, ونجتهدُ في تقويض أركان المعابد المُكّرَسَة لتبجيل وَثَن السَلَف الذي لم يكن صالحاً غالباً, ولا نشبعُ من التهامِ كُتَل التَمْر في أصنامِ هُبَل وغيره; إذ نحنُ لا نعبدُ الزائلَ لا بل, في حقيقتنا, إنما نجعلُ من ذاك الزائل عنصراً نستثمرهُ في نصوصٍ تستبيحُ عِصْمَتَهُ الكاذبة, وتشهدُ على فَرادةِ الفرد مِنّا في مواجهته لهذا العالَم المُريب بأسئلةٍ لا تجيب عنها مزاعمُهُ الصفيقة.
الإفصاحُ والإبانةُ غايةُ صورة الكاميرا (الثابتة دائماً رغمَ وجود المتحركة), لكنها ليست مهمة الكتابة أبداً. فالكتابةُ, في المبتدأ منها وفي مطافها الأخير, حالةٌ دائمةُ التغيُّر ودائبةُ الانقلاب على سابقها من نُصوصٍ هي مَحَلُّ شَكٍّ; إذ ثمّة العَينُ المستطلعةُ تُمْعِنُ في أن تَدَعَ الصوَّرَ تتألبُ على نفسها لكي تتداعى.. ولكن شريطة الاحتكامِ إلى بصيرة الوعي المستريب. وبذلك; فإنَّ الاستثناءَ في أرشيفي عن مدينتي عمّان يطلعُ من منطقةٍ غائرةٍ لا ترى محتواها سوى عَيني أنا, لا عَين سواي. ولذلك; فإنَّ عَمّاني ليست كمثل أيّ عَمّانٍ أُخرى. كما يجدرُ التذكير, لكُّلِ الذين يَنسون, أنَّ لِكَّلِ واحدٍ مِنّا مدينته, حتّى وإنْ كُنا نشتركُ جميعاً في العيش داخلَ هذه الواحدة المتعددة المُسمّاة: عَمّان!
* بدأت أرض اليمبوس بالحرب وانتهت بها, كأنها اليقين الوحيد, ومَرّت بينهما نساءٌ كثيرات وحبٌّ يتحوَّل ويتغيّر... ولا شيء يكتمل. هل هي لعبة السرد وغوايته, أم هي ضرورة المكان وخُلاصة التاريخ فيه?
- أهي فجيعتُنا بفقدان أحبّتنا بالموت الذي تجلبه لنا الحروب, رغم عدم رغبتنا فيه وفيها, ورغم هشاشتنا حيال وحشيتها الطالعة مِنّا? أم هي رهبتُنا الشخصيّة من ذاك الآتي إلينا يخطفنا إلى العَدَم, أو المجهول, بعد أن كُنّا ذات تاريخ? أم هي خِشيتُنا من هذه الوحشة والتوّحُد, في حياتنا الراهنة لَمّا نتنفس, وتالياً من ذاك التلاشي والاندثار والاندغام بالتراب لَمّا نقضي, فنمضي?
نحن نقضي. إذَا: نحن ننتهي.
ولكن: أين نمضي, حقاً, لنبدأ من جديد?
وهل ثمّة جديد ينتظرنا, أو ننتظره?
ربما يكون هذا هو السؤال الوحيد المفتوح على آخره, وبلا حدود, ومن دون أي نهاية. إنه سؤالُ الفراغ! هو كذلك لأنَّ فراغاً محتوماً, مهما أعملنا الخرافةَ, والأسطورةَ, والإيمانَ الديني, والعقلَ في تعبئته بالإجابات, فلسوف يبقى بُرهاناً يشهدُ على نفسه فقط, ليتركنا في رَحِمٍ مُصابٍ بالحمل الكاذب! ولستُ هنا بصدد البحث عن حَلٍ ما حيال هذا الفراغ والعُقْم, لكنني أبحث, بالأحرى, عن تعبئة عَيشي الشخصي, الفردي, ما دُمتُ أتنفسُ, بما يقيني من أن أنتهي قبلَ أن أقضي. كما لستُ أخجلُ من الجَهْرِ بخوفي من الفراغ, وتحديداً ذاك الفراغ الذي يعني خُلو ذاتي من المعنى. أيّ معنى. صحيحٌ أنَّ لا شيء يكتمل, غير أنَّ قدراً هائلاً من المعنى نتحلّى به لحظةَ اعترافنا بنقصنا. لسنا مخلوقات كاملة, لكننا, في الوقت نفسه, لسنا كائنات تسبحُ في فراغ المعاني.
هذا يقينٌ أؤمنُ به, مثلما أؤمنُ إيماناً كاملاً بواقعة الموت. لكني أجدني أستطردُ متسائلاً عن أشكال الموت وضروبه. إذ ليست الحرب وحدها تعادلُ الموتَ. فالحُبُّ, في موازينه المختلَّة وأهوائه المتقلبة, والمتحرك ضمن سياقات لسنا أحراراً في اختيارها, إنما يضعنا وجهاً لوجه أمام (موتٍ ما) ربما نعاني قسوته وضراوة خساراتنا فيه أكثر مما نتوقع من ذاك الحامل للعَدَم! مَن يدري? وها نحنُ نتخبطُ وسط المتاهة. متاهة ما نريد الاكتمال به, ومعه, وفي داخله, غير أننا, وعلى صدور محبوباتنا وفي عيونهنَّ, نبدأ بخوض حروبنا المهزومة حتّى الثمالة نتجرعها محاذين, بصمتنا الرُخامي المكابر, حجارةَ المدافن الملوكيّة التي خَضَّرتها عُفونةُ السراخس والجهنميات الناغلة في بقايانا!
أيُّ معنى يتبقى لنا, والحالةُ هذه, سوى أن نكتب? أعني أنا: أن أكتب?
فأن أكتبَ خُلاصةَ تاريخ المكان هو أن أكتبني في حالات الوجد الشفيف, وثمّة المرأة وجهي الآخر الذي خطفتهُ الحربُ مني. وأن أكتبَ هو أن أكتبَني في حُمّى اشتعالات الحروب الخاسرة, وثمّة المرأة التي غادرَت المكانَ وخلّفتني وحدي لأستنسخها صُوَراً لن تكون هي أبداً. فعَن أيّ حروبٍ نكتب, إذَن?
ليست غواية السرد ما يكمن خلف أرض اليمبوس. ربما هي كذلك في قلب تلك الأرض التي أُقيمُ عليها, أنتظرُ امرأتي تأتيني بالجوابِ عني أوّلاً, عَلّني, إنْ فَعَلَت, أحظى بقليلٍ من الطمأنينةِ عند خطوي عَتَبَةَ الما بعد. عَلّها تمحضني, بلمسة أصابعها الحرير, راحةَ روحٍ أتعبها النقصان.


ايوب صابر 05-31-2012 10:46 PM

2010/02/02،


الروائي الأردني الياس فركوح: بالحربِ نمتحنُ جوهرنا أمام الموت.. وبالمرأة نفحصُ جوهرنا حيال الفكرة أجرى الحوار: سميرة عوض


عمان ـ ' القدس العربي' ـ بإصداره ' أرض اليمبوس'، يمكن القول إن الروائي الأردني فركوح يكمل ثلاثيته الروائية التي بدأها بـ ' قامات الزبد' (1987)، التي تتناول الفترة الفاصلة بين نكسة 1967 وسقوط مخيم تل الزعتر، ثم ' أعمدة الغبار' (1996) التي تبدأ من سقوط تل الزعتر حتى خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982.


ولد في عمّان عام 1948، حيث تلقى تعليمه حتى الثانوية العامة متنقّلاً بينها وبين القدس. حاصل على بكالوريوس في الفلسفة وعلم النفس، من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الثقافية من عام 1977 ـ 1979، كما شارك في تحرير مجلة ' المهد' الثقافية طوال فترة صدورها.


شارك الشاعر طاهر رياض العمل في دار ' منارات' للنشر حتى 1991، إلى أن أسس دار ' أزمنة' للنشر والتوزيع عام 1991، حيث يعمل مديراً لها.


حازت روايته ' قامات الزبد' على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990


وكذلك حاز على جائزة الدولة التقديرية / القصة القصيرة للعام 1997.


كما نال جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة على مجمل مجموعاته ـ والتي تمنحها رابطة الكتّاب الأردنيين. وكانت الرابطة، قبلها ، قد منحته جائزة أفضل مجموعة قصصية لعام 1982 ' إحدى وعشرون طلقة للنبي'، كما نال جائزة تيسير السبول للرواية عن العام 2007 عن روايته ' أرض اليمبوس'، إضافة الى دخولها القائمة القصيرة 'البوكر' للعام 2007 عن الرواية ذاتها.



حفاوةً لم أكن أتوقعها



*حققت روايتك الثالثة 'أرض اليمبوس' حضوراً لافتاً جداً. كيف تشعر إزاء الرواية الآن؟


*أعتبرُ نفسي من فئة الكُتّاب الذين حين ينشرون عملاً جديداً، وبعد انقضاء أيام النشوة فور صدوره من المطبعة، سرعان ما تفترُ حماستهم تجاهه بعد وقتٍ قصير، ليبدأوا التفكير بالعمل القادم. ما هو؟ كيف سيكون؟ ولو على سبيل التكهُّن العارف أنَّ أي جوابٍ لن يحيط بمفاجآت الكتابة لَمّا تحدثُ على الورق. غير أنَّ ' أرض اليمبوس'، وخلافاً للأعمال السابقة، عملت على إيقاف تفكيري بالمشروع الجديد ـ أو بالأحرى أربكتني وأجَّلَت ملاحقتي له ـ وذلك نتيجة الاهتمام والمتابعة الاستثنائيين. لاقت الرواية حفاوةً لم أكن أتوقعها بصراحة، داخل الأردن وفي الخارج، رغم إدراكي أنها شكّلت حَفْراً وتحوّلاً ومغايرةً في كل من بنيتها، ولغتها، وتضمنها لأسئلة الكتابة الخاصّة بالرواية الحديثة. ولأكُنْ أكثر صراحةً : لأنَّ ما يشبه الجفاء النقدي الذي قوبلت به الرواية السابقة، ' أعمدة الغبار'، وبحجّة صعوبتها، هو ما حال بيني وتوقـُّع الانفتاح على ' أرض اليمبوس' بهذا التفهُّم والفحص والقراءات الذكيّة المحترمة لها كعملٍ يتطلب بذل الجهد المقابل، وبالتالي التقدير. فأين كان يختفي ذلك كلّه؟ أكان ' الخلل' ( سأسمح لنفسي باستخدام هذه المفردة) في الرواية والأعمال السابقة الأخيرة، أم في ' الوَسَط الثقافي' الكسول المُقْبِل على الأعمال السهلة التي تُقرأ بسرعة، والابتعاد بالتالي عن أعمالٍ يراها ' صعبة' فيكتفي بما هو شائعٌ عنها دون تكبُّد عَناء قراءتها؟!


أعتبرُ ' أرض اليمبوس' رواية محظوظة ـ بمعنى تراكُب جُملة عوامل لا يمكنني تحديدها بدقة، أدّت للالتفات الجاد إليها، وبالتالي كشف ما تحمل من قيمةٍ تخصّها. وكذلك، وبسبب هذا، أعتبرُ نفسي محظوظاً بها.


*حصول روايتك على جائزة تيسير السبول للرواية عن العام 2007 التي تمنحها رابطة الكتّاب الأردنيين ـ وهو رائد الرواية الأردنيّة الحديثة في روايته 'أنتَ منذ اليوم' ـ ماذا يعني لك؟ وأنتَ الحائز على عدد من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية عن القصة القصيرة، وجائزة الدولة التشجيعية للرواية؟


*أفرحني ذلك واعتبرته تأكيداً إضافياً لخصوصية الرواية. غير أن الحصول على جائزة جديدة، بقدر ما يعني في جوهره تقديراً مُعْلناً للإنجاز الكتابي الفائز بها؛ فإنه يشكِّلُ لي على الصعيد الشخصي تحفيزاً وحَثّاً لمواصلة مسيرة الكتابة التي بدأت قبل ثلاثين سنة. كأنما الجائزة تجديدُ اعترافٍ بحصيلة الجهد السابق، وكذلك هي إشارةٌ إلى ' جدوى الكتابة' كما أفهمها، وعلى نحوي الخاص، خلال حِراكها في بيئة اجتماعيّة أدارت ظهرها للثقافة وللمثقفين منذ زمن، للأسف. الجائزة تشير إلى معنىً باتَ غائباً، أو مَنسيّاً، أو مشكوكاً به وسط مجتمع تفسَّخَت منظومة قيمه السابقة، وأحَّلَ محلها تبجيله العالي لمعنى الاستهلاك، والسلعة، والمال. وكل ذلك كان على حساب الإنسان الفرد في جوهره الرافض لأن ينمسخ فيتحوّل هو نفسه إلى سلعة قيد الشراء!


الجائزة تَدُّلُ على حصيلة تلك المعاني. كما أنها نقلة تتحداني في كتابتي المقبلة.


*لندخل بوابة الرواية: من أين انبثق عنوانها؟ هناك سؤال عن معناه لمن لم يقرأ الرواية بعد، خصوصاً من جهة المفهوم الديني المسيحي؟


* لطالما كان لمفردة ' اليمبوس' وقْعها الجاذب لي. أوّلاً لغرابة الاسم وإثارته لمخيلة الصبي الذي كُنتُهُ حين تلقيته لأوّل مرّة في درس الدين. كان ذلك في مدرسة ' الفرير'، في القدس، وهي تابعة لرهبانيّة كاثوليكيّة متبنّية لمفهوم اليمبوس، بينما لم أكن قبلها قد سمعتُ به، إذ جئتُ من أُسرة أرثوذكسيّة يونانيّة الانتماء. وثانياً؛ لأنَّ اليمبوس منطقة رحيمة ناسَبَت مخيلة الصبي وروحه؛ فهي رَحْبَةٌ تثيرُ فيه حيوية تشكيل ما يشتهي من صُوَر. ليست الجَنّة وليست الجحيم، حيث رُسِمَ هذان العالمان على نحوٍ قاطع ومفهوم. أما اليمبوس، فعالَمٌ ثالث كَسَرَ ثنائيّة الأبيض والأسود، والخير والشَّر، متيحاً لِمَن ليسوا هنا أو هناك حيّزاً للخلاص!


وكذلك، لأنَّ حالة ' الما بَين' شَكّلت لي موضوعةً مركزيّةً في الروايتين السابقتين ـ وعَلّها أحد ملامحي الداخليّة الغائرة عميقاً داخلي، حيث تتم ترجمتها في رفضي الدائم لأن أكون عند واحد من موقفين متناقضين يزعمُ كل واحد منهما حيازة ' الحقيقة'. فالعالَمُ أكثر رحابةً وأوْسَع مدىً وغَنَيّ ٌ بالتعدد، وأنا لا أطيق اختزاله ( وبالتالي اختزالي) في نقطتين وحيدتين حين الاحتكام إلى منطوقهما فتستقر ' حقيقته' في نقطةٍ واحدة فقط! ـ أقول: ما دامت حالةُ 'الما بَين' موضوعة مركزيّة في العملين السابقين، والرواية الأخيرة هي ثالثةُ هذه الثلاثيّة غير المُعْلَنَة؛ فإنَّ ' اليمبوس' كجزء من عنوانها أو اسمها سيكون إعلاناً مضمراً وصريحاً في الوقت نفسه لجوهر المعنى الكامن فيها. إضافةً إلى مجاورة ما هو مادي ومحسوس في مَشاهد القدس، ورهبان المدرسة، والأرض الحَرام بين القدس الشرقيّة والغربيّة قبل الاحتلال، لِما هو مَجازي بحيث تتسّع الدلالات ويغتني التأويل.



كبرَ الصبي الذي كُنتُهُ



* ' اليمبوس' هي المنطقة الوَسَط، بحسب المفهوم الكاثوليكي، أو الثالثة ما بين الجنة والجحيم، أو ' منطقة الما بين'. إلى أي مدى تتشابك وتتقاطع مع ما يُسمّى ' المنزلة بين المنزلتين' عند المعتزلة، وهي أشهر الفِرَق الاسلامية؟



*في الحقيقة أنا لم أفكّر، عند كتابة الرواية، بمقولة المعتزلة ' المنزلة بين المنزلتين'، رغم معرفتي المنهجيّة بها؛ إذ كانت مثلها مثل ' اليمبوس' مصدر جَذب، ولكن لإعمال العقل هذه المرّة لا المخيلة ـ فلقد كبرَ الصبي الذي كُنتُهُ وباتَ شابّاً يدرس الفلسفة كتخصصٍ أساس. وعَلَّ صداها كاجتهادٍ عبقري انشبكَ مع اليمبوس دون وعيٍ حاضر، مما نتجَ عنه موقفي حيال مسألة الاختيار المرفوض مني لأن أكون هنا .. أو هناك! لا شك، ثمة تقاطُع وتَدَاخُل بين هذين المفهومين رغم اختلاف المصدر والغاية. فـ'اليمبوس' اجتراحٌ لاهوتيٌ أُتيَ به من أجل إيجاد حَلٍ لمعضلة المصير ما بعد الموت لفئةٍ من الناس. بينما ' المنزلة بين المنزلتين' اجتهادٌ عَقليٌ خالص احتكمَ إلى المنطق الفلسفي ليطرحَ مَخْرَجاً لثنائيّة منزلتي الإيمان والاجتهاد، أو التوفيق بين النَقْل والعقل.



ابنُ عمّان بامتياز



* كتبَ عنها كثيرٌ من النقّاد والكتّاب مشيرين إلى أنها تمس التطور الاجتماعي والسياسي لعمّان، وتشابكها مع القضية المركزيّة (فلسطين)، كيف تمكنتَ من الجمع بين العام والخاص بشفافيّة واضحة؟


*أعتبرُ نفسي ابن عمّان بامتياز، وكثيراً ما رددتُ على الملأ بأنني ' كائنٌ عَمّاني'. ولأنني هكذا، ولأنَّ عمّان هي الحاضنة الأكبر في الأردن لجميع الحشود الاجتماعيّة الآتية من أُصولٍ ليست أردنيّة خالصة ( وأنا من ضمنها)؛ كان أن توفَرَت لي الرؤية القادرة على ملاحظة تسلسل التطور الاجتماعي والسياسي لها كمدينةٍ جامعة وصاهرة.


فالخاص والعام في داخلي منسجمان متداخلان يثير الواحدُ منهما الثاني، فيتحوّل التاريخ الشخصي ليكون تاريخ الجماعة، مثلما يتماهى تاريخ الجماعة بتاريخي الشخصي. وربما حين التدقيق بحالةٍ كهذه، يصيرُ لي أن أُفَسّرَ مقولةً كنتُ أطلقتها قبل أكثر من عشر سنوات، ومفادها: ' أنا ابنُ عمّان، لكني أحد بُناتها في الوقت نفسه!' فكيف لا يحدثُ التشابك داخل النصّ بين عمّان وفلسطين بينما الشخصيات الفلسطينيّة، بما تمثّل كحالاتٍ خاصة ليست منفصلة عن حالة الهجرة الكبرى والتهجير القسري، تعيش معي وأتعايش معها يومياً، حيث نتبادل الخبرات والحكايات؟ حينها، تتحوّل حكاياتها لتصبحَ حكاياتي أنا، وبها أبني ذاكرة المدينة التي ترتبط بآصرة المصير مع فلسطين وقضيتها: ففلسطين قضية شعب وأرض، وها الشعب معي وفي داخلي مثلما يتنامى خارجي جيلاً بعد جيل، ويشاركني في بناء عمّان وتأثيث ذاكرتها الجمعيّة.




التنويع على مبدأ التشظية



*تعتمد أسلوب الاسترجاع ـ الفلاش باك ـ في كتابتك الروائية، وهو أسلوب سينمائي يصور ويستشرف ويشرح، فضلاً عن تعدد الأصوات، الغائب منها والحاضر. إلى أي مدى استلهمتَ السينما في روايتك؟


* لطالما كانت السينما أحد عناصر تكويني التخييلي. أذكرُ أن أبي اعتاد القول كلّما طلبتُ منه السماح لي بالذهاب إلى السينما حين كنتُ صبيّاً: ' أنتَ إذا عصرتكَ، فلسوف تخرجُ منكَ الأفلام!' كان ذلك منذ بداية وعيي على العالم، فبدوتُ وكأني أوائمُ بين هذا العالم ' الواقعي' والعالم ' المتخيّل' كخيالات تتحرك على شاشة السينما، بحيث امّحت المسافة بينهما فشكّلا عالماً واحداً في داخلي.


بالكتابة، وهي عمليّةُ حَفْرٍ أمارسها لداخلي غالباً، تستحيلُ مَشاهدُ الرواية إلى مُقتَطعات قائمة بذاتها ـ إنْ قرأناها هكذا. وكذلك، يمكن من خلال وعيٍ فني وقدرة تأويلٍ ورَبْط أن تنشبك تلك المَشاهد المقتطعة لتشكّلَ بانوراما الرواية بكافة مستوياتها. وكما أرى، فإنَّ تقطيعاً سينمائيّاً ( مونتاجاً) أصاب الرواية، فساعدني في التنويع على مبدأ التشظية للزمان، وللشخصيات، وللأحداث.



المرأة تُناقِضُ الحربَ!



الدمج بين المرأة والحرب، في مستهل الرواية وفي خاتمتها؛ كيف ينظر الروائي فيكَ للمرأة؟ وما العلاقة بينهما، بين المرأة والحرب؟


* ربما يشكِّلُ صوت الروائي القابع في داخلي بلاغةَ أو انكشاف المعنى الذي أختزنه للمرأة. وربما هي المرّة الأُولى التي عثرتُ فيها، عبر الكتابة، عن طبيعة الصِلة الواصلة بينها وبين الحرب. هنالك تلازُمٌ بينهما على امتداد الرواية، اعترفتُ من خلاله ببديهيّة أنَّ المرأة تُناقِضُ الحربَ في كونها عنصر إخصابٍ ومساحة لواذٍ للرجل، بينما تمثّل الحرب العنصر النافي، والمدّمر، والقاتل، والإجداب. فغالباً، وعند ورود الحرب في المَشهد، أجدني باثّاً فيه المرأةَ كأنما هي ملاذي وعلى صدرها أبيحُ لبوحي عن ضعفي حريّة الانطلاق.


غير أنَّ هذا ليس إلاّ وجهاً من وجوه التقابُل بينهما، وهو تقابُلٌ ضِدي ومتكرر وعام. الجديد الذي أتت به الرواية، عبر الكتابة وليس قبلها كفكرةٍ مسبقة، كان كشطي لهذه الطبقة من العلاقة وإظهار أنَّ التلازم لا يكون بالضرورة، ودائماً، تلازماً لعنصرين أو كينونتين متناقضتين. فالحربُ، بالنسبة للرجل، هي امتحانه لرجولته وذكورته حيال المرأة. ثمة ما يقاربُ التوتر في المساحة بينه وبينها. وغالباً لا يستند هذا التوتر إلى ما يُفسّره ـ وأنا أقصد الرجل هنا ـ حيث انه كلّما تخطاها مقترباً منها وداخلاً عالمها، باتت هي الكاشفة له عنه لا عنها!


بالحربِ نمتحنُ جوهرنا الصامد أمام محسوس الموت ومَجازه. وبالمرأة نفحصُ جوهرنا الحائر حيال ' الفكرة / الإرث' أننا، كرجال، الأطول صبراً والأنفذ فكراً والأكثر حكمةً والأقلّ عاطفة. وهنا تحديداً نسقطُ، كرجالٍ بالعموم، في الامتحان؛ إذ كانت ' مريم' أو ' ماسة' أو ' العَمَّة' أو ' منتهى' الذوات الأسطع حضوراً من شخصيات الرواية الذكوريّة! فنحن، عبر علاقتنا ذات الأوجه المتعددة بالمرأة، نفاجأ بأننا لحظة اعتقادنا باقترابنا منها إنما نكون اقتربنا فعلاً من عَرضنا لأنفسنا دون مبالغة على شاشة وعيها.


العلاقة بين المرأة والحرب لدى الرجل علاقة ملتبسة تحتمل أكثر من وجه، وتحمل أكثر من معنى، ولهذا كانت وستبقى موضوعة أساسيّة من موضوعات الرواية المتحركة في فضائهما.


*ماذا بعد ' اليمبوس'؟ وهل تخشى خوض حرب رواية جديدة قد تتفوق أو لا تتفوق عليها، خصوصاً وأنها حظيت بعناية نقديّة و' جوائزيّة' فائقة لم تحظ بها أي من روايتيك السابقتين؟


* نعم. باتت ' أرض اليمبوس' أرضاً تتحداني وتتحدى أي مشروع كتابي أُقْدِمُ عليه. وهذا ليس بالأمر الهيّن أبداً؛ إذ عَليَّ ارتقاء قامتها أو جدارها والنظر إلى ما بَعدها بتجاوزها. علّمتني هذه الرواية أنَّ مفهوم ' التواضُع' ليس مقبولاً في الفن، وأنَّ ' غرور التفوق' يشكّلُ شرارةَ إشعال.


*هل تؤمن بأن الجوائز وسيلة مُثلى لتحفيز الإبداع؟


*قد لا تكون الجوائز بذاتها هي الوسيلة المُثلى، لكنها تشكّل في حالة الفوز بها تحفيزاً مباشراً للكاتب؛ إذ هي، مثلما تتبدّى لي، عامل تحدّ ٍ واستفزاز للخروج على ما تم إنجازه والتجديد والتجويد فيه وعليه. وأيضاً؛ طرح مسألة مُساءلة الذات الكاتبة عمّا سيكون منها في عملها القادم؟ فمن الطبيعي أن يعتبر الكاتب الواعي الجائزةَ إشارة تحفيز إضافةً إلى التقدير، وليست بأي حال تتويجاً، كما هي ليست عَزْفاً ' للّحن الرجوع' أو خِتام المشوار.


*هل لهذا التحفيز دوره في تحفيز القرّاء أيضاً، في ظل هروب معلن نحو وسائل أخرى؟


*استناداً إلى ما لاحظته وعاينته، كان للإعلان عن روايات القائمة القصيرة فور ذيوعها، أن عملت على تحفيز الطلب عليها بُغية الاطلاع والاكتشاف ـ أو تلك التي لم يكن قارئ الروايات عموماً قد تنبّه لها سابقاً ـ بسبب عدم توفرها في بلده، أو لعدم قراءته مراجعات لها في الصحف والدوريات التي اعتادَ تصفحها. ولقد صادَفَ وقتها أن كان تاريخ ذلك الإعلان اليوم الرابع أو الخامس من أيام معرض القاهرة للكتاب، فولدت ظاهرة الطلب على جميع الروايات والسؤال والبحث عنها. كأنما التوق للمعرفة لدى عدد كبير من القرّاء كان ينتظر ما يستفزه فظهر.


بيعت جميع النسخ المتوفرة من الروايات التي شاركت دور نشرها في أجنحةٍ لها داخل المعرض، ومن ضمنها رواية ' أرض اليمبوس' في جناح دار ' أزمنة'. كما بيع منها 450 نسخة في طبعتها الثانية من جناحي دار ' أزمنة' و' المؤسسة العربية للدراسات والنشر' في معرض أبو ظبي.


نعم، للجوائز دورها التحفيزي، كما لها دورها المؤكد في إثارة التساؤل والفضول عن روايات، وربما عن روائيين كانوا غائبين عن ذاكرة أو معرفة القارئ العام، فباتوا بسببها وباتت رواياتهم محل قراءة ونقاش وتقييم.


*كيف ترى إلى دور الكتابة، خصوصاً وأن البعض يقول أنها أصبحت غائبة وغير ذات تأثير يُذكَر؟


*علينا أن لا نخدع أنفسنا بخصوص دور الكتابة في المجتمع. فنحن حين نتطرق لمفردة ' دور' ينبغي أن نَعي أولاً إنْ كانت للكتابة مكانتها بين أفراد المجتمع، وكم هي منتشرة بمنتوجها المتمثّل في الكتب بينهم. إذ ليس من المعقول أو العملي قياس دور الكتابة في التأثير إذا لم يكن الكتاب، كحاملٍ لها، مُدرَجاً على أولويات المجتمع. حينها، ولكي نتحلّى بالشجاعة الأدبية ومواجهة الحقيقة كما هي، علينا القول بأن لا دور حتّى للأعمال الفائزة يمكن الإشارة إليه أو إلى مداه وسط شروط حياتية كهذه.


نحن ما زلنا، ككتّاب وقُرّاء عرب، نتحرك على هوامش المجتمعات الغارقة بتدبير شؤونها اليومية المعيشية التي تزداد صعوبةً واستيلاءً على أوقاتها، وهمومها، وطموحاتها، وتوقها لحيازة تجليات الجَمال... ومن ضمنها حيازة منتوج الكتابة = الكتاب والاستغراق في عوالمه.


*وكيف ترى علاقة الروائي بالأحداث السياسية التي مرّت وتمّر بها المنطقة العربيّة؟


*ردّاً على سؤال مُعِدّ ومذيع أحد البرامج الثقافيّة في إذاعة أجنبيّة عن السبب وراء انشغالي بالحروب والسياسة في رواياتي كلّها، بما فيها ' أرض اليمبوس'، كما في روايات عربيّة أُخرى كثيرة، أجبته بأنه من المستهجَن أن لا ننشغل بذلك في كتاباتنا. فكيف يمكن لنا أن نتغافل عنهما في حين كانا السبب الرئيس في رسم طبيعة حياتنا العربيّة، كجماعات وأفراد، وأيضاً في قوة تأثيرهما على مصائرنا!


نحن، بالإجمال، نشكّلُ الحَصاد المُر لأكثر من ستين عاماً من السياسة الفاشلة والحروب الخاسرة. نحن، كأفراد، شخصيات أعطبتها التفاصيل السياسيّة لَمّا تجلَّت في طبيعة العلاقة الشائكة بينها وبين السلطات والحكومات والأنظمة القائمة على تسيير وتيسير شؤون هزائمها. نحن، كمجتمعات، نُصاب بالتشوهات والنمو المنقوص دائماً والمعكوس نتيجةً لهيمنة التخلّف والاستبداد الداخليين من جهة، ولهيمنة القوى الكبرى على دولنا بإملائها لـ' سياساتنا' العرجاء العمياء والعاجزة!


علاقة الروائي العربي بالأحداث السياسية علاقة عضوية بكل معاني الكلمة. ومن جهتي؛ شكلَّت تلك الأحداث المناخات الدائمة التي أنتجت شخصياتي الروائيّة، والتي تحركت فيها وعاشت تتنفس هواءها الملوث بالخسارات، كما كانت الفاعلة والحافرة فيها إذ تجَلَّت كخلفيّة تؤشّر على تحولاتها.


أنا لم أكتب عن الأحداث السياسيّة والحروب، لكنني كتبتُ عنهما في قوة فعلهما داخل الشخصيات وتأثيرهما الكبير في تكوينها. لا مهرب لنا، كروائيين عرب، من السياسة وإن اختلفنا في كيفيّة معالجتها.


*كيف تشعر إزاء أبطال رواياتك الذين يعانون غالباً من بؤس الحياة وظلمها؟


*الحياة ذاتها ليست هي البائسة والظالمة، بل القائمون على التحكم بتسيير مجتمعاتنا والعالم هُم مَن يحوّلون جَمالها ومفرداتها الرائعة إلى مسلسل لا ينتهي من البؤس، فيقع الظُلم بشتّى مسمياته: الظُلم الاجتماعي، القهر السياسي، السحق الاقتصادي، فتكون الحصيلة بالتالي إنتاجهم لعالَمٍ يُدار وفقاً لقانون الغاب: الأقوى يبطش بالأضعف ويعمل على نهشه، ليصل البعض مِنّا إلى تمني الموت لكي لا يشهد هذا الانحطاط الإنساني المريع!


أبطال رواياتي أبطالٌ مهزومون مقهورون غالباً. أبطالٌ لا يملكون من البطولة إلاّ ما استطاعوا الاحتفاظ به من إنسانيتهم ـ وهذا يكفي لمعاينة القليل من الحُب المفجوع، والدفء المنقوص، والقُبلات المحترقة الشِفاه، ولمسات الحنان المضروب: هذا يكفي لأن أُصَفّق لهم وأن أرثي أحلامهم النائسة في آن.


* لِمَن يكتب إلياس فركوح؟


*إلياس فركوح يكتب لنفسه أولاً، ومن داخله، وفي داخله ـ وهو بسبب ذلك إنما يكتبُ لكِ ولكل مَن يرغب مشاركته هذه المدونة الشخصيّة الخاصة. فإنْ تحققَ له أن حازَ على قارئ أو أكثر؛ فإنه يكتب لهم. إنه يكتبُ لقُرّاءٍ محْتَملين يؤمن بوجودهم رغم جهله بهم.


باختصار: إلياس فركوح يكتبُ لِمَن يرغب في أن يقرأ، وبشرط المَحَبّة.

ايوب صابر 05-31-2012 10:47 PM

كتب عن : أرض اليمبوس بتاريخ 2007/10/29
لماذا يـلجأ الـكاتب الى كتابة الحياة الشخصية؟ - روائيون أردنيون يجيبون بقلم حسين جلعاد - جريدة النهار http://www.annahar.com/media/images/...8-01-23164.jpg فركوح. شهدت الأعوام الأخيرة ميل بعض الكتّاب الاردنيين الى الاتكاء على السيرة الذاتية، الذين أخذوا يغرفون من حياتهم الخاصة، ويصدرونها في روايات ونصوص سردية. السيرة الذاتية ليست موجودة هنا بوصفها فنا يؤرخ للذات؛ بل هي "حوادث" روائية، أريد لنا نحن القراء أن ننظر إليها بعيون مفارقة. فما يُكتب هو أدب بقدر ما، لكن ثمة إيحاء مرةً، وتصريح مرةً أخرى، بوجود الكاتب في النص. وليس ملائماً وفق معادلة "التخييل" الرجراجة وحالة المخاتلة العامة، أن نحدد ما هو "أدبي" وما هو "سيرة".
مسألة كهذه قد لا تعدّ ظاهرة جديدة في تاريخ الأدب. إنها سؤال نقدي، وربما فكري، مطروح منذ عمر الكتابة نفسها. وقد انقسمت حولها نظريات عدة، فظهرت نظريات في الأدب الملتزم والواقعي، ونظريات أخرى محورها "الفن من أجل الفن".
في عصر ما بعد الحداثة، وما بعد النص، وما بعد الشمولية، بدا أن الصخب الايدولوجي هدأ، واصبحت الكتابة حقيقة تختص بالكاتب وبطبيعة الكتابة أكثر منها جزءا من بناء اجتماعي وثقافي عام. لكن ثقافة التخصص و"الميكروسكوبية" في عصرنا الالكتروني الصاخب هذا، لم تقترح بعد إجابات متماسكة حول السؤال: لماذا يلجأ الكاتب الى حياته الشخصية لكتابة أدبه؟ سؤال نطرحه على كتّاب أردنيين تتفاوت أعمارهم وأجيالهم وإنجازاتهم الأدبية.
الروائي والقاص إلياس فركوح يُعدّ من رموز الكتابة الأردنية، وهو واحد من جيل يشكل الآن صدارة الرواية في الأردن. حملت أعماله ما يمكن وصفه بـ"رؤيا جيل" كامل، أولئك الذين وسموا بنكبة فلسطين عام 1948 وحملوا لاحقا نكسات العرب وانهياراتهم. هذه الموضوعات ظهرت بقوة في أدب فركوح وخصوصا في ثلاثيته الروائية: "قامات الزبد"، "أعمدة الغبار"، و"أرض الينبوس"، وهي الأحدث والأكثر قربا، وربما التصاقا بشخص فركوح، الذي يتعين حضوره في الشخصية الرئيسية، بقليل من المجاز والكناية والتمويه!
في الإجابة على السؤال يقول فركوح: "إذا ما اتفقنا من حيث المبدأ على أنّ الحياة لا تتعيّن "موضوعاً"، في الفن كما في الحياة، إلاّ بوجود "ذات" لا تعاينها فحسب، بل تعيشها كشرطٍ يوجب التلازم معها، فإنّ لجوء الكاتب إلى حياته الشخصيّة لكتابة أدبه يصير أمراً مفهوماً". ويرى فركوح ان المفهوم (concept) يتوجب النظر إليه "ليس باعتباره حجّةً، أو ذريعةً، أو مبرراً، وإنما هو حالة تكتسب مشروعيتها واستقلالها ضمن الكتابة المتصلة بالواقع الممسوك من خلال شخص يقع في القلب منها إلى درجة يتحوّل إلى موشور لها بكل المعاني".
وبحسب هذا "المفهوم"، كما يقول فركوح، "تنتفي الذاتية أو الشخصنة عن كتابةٍ كهذه"، لتكون هي بذاتها "واقعاً آخر ممهوراً ببصمة كاتبها وتوقيعه". ويبقي فركوح أجابته مفتوحة إذ يقلب السؤال ويقول: "أهي رؤية/ رؤيا للعالم، أم "تذويتٌ" له؟ أهو "حَرْفٌ" لوقائع العالم الحقيقية، أم "تحققٌ وتحديقٌ" لعالمٍ طاله الحرف والتزييف في وقائعه؟".
الروائية سميحة خريس حاضرة بقوة في المشهد الروائي الاردني الراهن، كما أن شخصيتها حاضرة في ما تكتب. في روايتها "الخشخاش" تحضر باسمها وشخصها بوصفها شخصية عامة تظهر على التلفاز في حياة الشخصية المركزية في الرواية. وتحضر أيضاً في أحدث رواياتها "امبراطورية ورق: نارة"، حيث تخبرنا الشخصية الروائية التي تدور الرواية حولها انها أوكلت الى الصحافية سميحة خريس مهمة كتابة سيرة حياتها بعدما استبعدت كتّابا مشهورين في الحياة الثقافية الاردنية وناقشت معنا اسماءهم واحدا واحدا.
تمهّد خريس لإجابتها بنفي السخرية من سؤال الذات والكتابة، لكنها تسرّب استنكارها من طرح مسألة كهذه: "لا اقصد السخرية بقدر ما أسأل بصورة جادة: من أين إذاً يستقي الكاتب كتاباته إذا لم يكن من حياته؟ بالطبع ليس من حياتك مثلاً"، لتضيف: "حياة الكاتب تعني مجمل معرفته وتجربته وهي الحقل الذي يتحرك فيه، فكل ما عرفه من مواقف وأشخاص، وشاهده وقرأه وفهمه أو غاب عنه هو حياته، فنحن لا نصدر عن فراغ ولسنا نبتاً شيطانياً، ولا يقودنا التخييل إلى ما هو خارج هذا الكوكب".
القاصة جميلة عمايرة، والتي تعد واحدة من أبرز الجيل التسعيني في القص، تبدي حيرة مشوبة بالشغف تجاه كيمياء الكتابة والحياة: "لا اعرف كيف يحدث للكاتب ان يصطاد نفسه، ليوقعها في شباك من صنع يديه. شباك الكلمات، تتحول الذات الكاتبة او الساردة معها الى ذات مسرودة: تراقب وتعاين وتسرد اناها بمنظور جديد، بأحلامها وانكساراتها ورغباتها غير المتحققة اصلا في مجتمع اسمه الشرق".
وترى عمايرة أن تحولا يطرأ على الذات وعلى الموضوع معا، لحظة يبدأ تخليق النص: "تبدأ الذات الجديدة التي تحضر في النص بالظهور بأشكال وصور قد تختلف عن ذاتها، لكنها في الجوهر تشبهها او تحاول ان تكون ندا قويا لها، واحيانا تحضر بصورة احلام وكوابيس سوداوية".
الكاتب نادر رنتسي من أحدث الكتّاب سنا، ويمكن وصفه بأنه من كتّاب الألفية الجديدة، فلم يكد يغادر مقاعد الدراسة الجامعية حتى أصدر مجموعة قصصية وثقت تجربة ذاتية في الحب، ثم أتبعها بكتاب ثان هو "زغب أسود/ الرواية الناقصة". وفي كتابه الجديد يفصح رنتسي صراحة عن ذاته، ويجيء على ذكر اصدقائه وحياته الشخصية.
رنتيسي له وجهة نظر في ذلك إذ يقول: "لو أتيح إجراء مسح لأهم الروايات التي كتبها أهم الروائيين والقصاصين في العالم لوجد أن أكثر تلك الاعمال إثارة للجدل تلك التي كانت سيرة ذاتية صريحة أو مواربة. أكثر ما يدعم الاجابة المفترضة هو أن القراءة البوليسية، للقراء والنقاد معا، لأهم الاعمال الروائية والقصصية وقياسها على حياة كتّابها، تشير إلى رغبة المتلقي دائما، عاديا أكان أم استثنائيا، في البحث عن معادل واقعي للكتابة حين تتفوق على الواقع بأقصى حالاته غرابة وقسوة وجرأة". ويقول رنتيسي إن ذلك "اجتهاد لبعض ما تبنته مدرسة التحليل النفسي في محاولة الاحاطة بتعريف الابداع بأنه محصلة لتفاعل ثلاثة متغيرات للشخصية: الأنا والأعلى والهو". وهو، بحسب رنتيسي، ما يزيد من اللبس بين الكاتب وشخوصه.

شجاعة أم فقر في الخيال؟
بعض التنظيرات تذهب الى أن الاعتماد على الواقع الشخصي في استلهام الأدب يُعدّ جرحاً في مخيلة الكاتب، فيما يراه آخرون جرأةً وإغناءً للنصّ. فكيف ينظر الكتّاب الاردنيون إلى المسألة؟
يرى فركوح في المخيلة "ما هو أبعد من مجرد الاختلاق والاختراع والكذب الجميل"، ويقول ان المخيلة الأدبية تعني كذلك، "الأخذ بواقعة شخصية وإعادة تركيبها لأتمكن من إشباعها بدلالات لم تكن لتتحلّى بها في الأصل. وإني، عبر متوالية هذا الفعل، أكون اخترعتُ شخصيةً أخرى ليست أنا بكل تأكيد، تماماً مثلما لم تعد الواقعة الجديدة تملك تحديدات أصلها وحدوده في الواقع الذي جُلبت منه".
ويقول فركوح ان ما بين عمليتي "الجَلْب" و"الجَبْل" ثمة مسافة من "التخييل يتطلب تعبئتها بما هو أكثر من مجرد الخيال الواسع"، اي "بمخيلة مثقفة ترى إلى باطن ما تعنيه التغيّرات الحاصلة في جملة الجبلة الحادثة وفي تفاصيلها"، موضحاً "أنّ ذلك يتجاوز محددات الشائع عن "الجرأة"، بمعنى التجاسر على كشف المستور من سيرة الشخص، بما يعني، بدوره، السير في اتجاه "الفضيحة" أو ما يظللها في عيون مجتمعاتنا المحافظة. إنها جرأة الخروج على مألوف الكتابة، وعلى مألوف مفهومها، وعلى افتراضات الواقع، والأهم: الخروج على مفهوم الخيال والمخيلة".
وتؤكد خريس من جهتها أن كتابة حوادث لصيقة بالكاتب "ليست فقراً في المخيلة إذا كان في تلك التفاصيل ما يستوجب الخوض فيه ويثري المعرفة العامة". وتضيف صاحبة "شجرة الفهود": "لا شك أن هذه جرأة كبيرة وشجاعة أن يسمح المرء للعيون بالتلصص على أدق خصوصياته، وهو أمر صعب في مجتمعنا، لأن هناك من يسمح لنفسه بالحكم الاخلاقي على الخلق، وهناك من يتردد في تقويم المكاشفة".
وترى خريس أن مسألة كهذه ليست مطروحة حين يتعلق الموضوع بالحديث عن كتّاب الغرب، وهي تستنكر الاشادة "بالافصاح الذي يمارسه كاتب غربي"، فيما "يُذمّ الكاتب العربي إذا أقدم على ذلك". وتؤكد أن حالة الازدواجية هذه تزداد "قسوة وتخلفاً في التحليل والتقويم، إذا كان الكاتب انثى"، لافتةً الى أن "هذا الأمر سيشهد اندحاراً حقيقياً بسبب شجاعة الكاتبات وإقدام الكتاب إزاء حياتهم الخاصة، أما من ينكفأ فهذا يعني ضعفاً في تكوينه ككاتب وقدراته على رفض السائد والمتعارف عليه".
القاصة جميلة عمايرة، التي أصدرت حديثا كتابها الجديد "بالابيض والاسود"، بعد ثلاث مجموعات قصصية، تعترف بأن نصها الجديد ملتصق بذاتها، وتقول بدون مواربة إنه "مرثية للذات والاحلام في واقع لا يعترف الا بالظاهر"، وتضيف أن كتابها الذي جاء كرواية قصيرة يعتمد "على الذات الساردة التي توظف ضمائر متعددة لتتحدث عن نفسها عن الماضي، عن الاحلام بالمناجاة حينا والبوح والاختلاء مع النفس حينا آخر؛ لتدور الفكرة الرئيسية عن علاقة الذات مع الاخر المهيمن الذي يملك حق الاقصاء والادناء، انه الاسود الذي سميته في النص امام نقاء الابيض وطهارته".
وتعلن عمايرة صراحة أن الكتاب "سيرتي غير المعلنة، وجهي كما رأيته في مرآتي، لتحضر سيرتي كما عاينتها وعشتها؛ فلا كتابة خارج الذات"، لتقرّ بأن الكتابة من حيث المبدأ هي "محاولة للخروج الى فضاء الحرية"، لكنها بحسب وصفها، تظل "مسوّرة بالذاتي". هذا السور يتأتى من "الخسارة والجرأة وألم الفقدان"، ولهذا فإن الذات تحاول ان "تلجأ الى الاحلام كوسيلة من وسائل الحماية من دون اهدار او اقصاء او مصادرة او تنظير". إنها "احلام تستند في جوهرها الى حياة الساردة الشخصية والنفسية بكلمات تقطر بالصدق والمكاشفة التي تحبذها الأنا الساردة".
يقول رنتيسي إنه تردد كثيرا في كتابة صادمة حول تجربة شخصية، ما دفعه إلى "تقديم مجموعة قصصية على كتاب يتطرق إلى تفاصيل دقيقة للجسد والروح في إطار علاقتين عاطفيتين"، ويعترف: أحسب أني كنت قاسيا على نفسي"، ويرى أن الكتابة إذا كانت "مقياسا شديد الدقة لمدى عمق تجربة الكاتب، وتعدد حيواته؛ فإنها أيضا حين تتجه إلى الذات تخرج بصدقها وجرأتها عن كونها فعل استشفاء ونقاهة أو ممارسة باردة على شرشف أبيض، واستدراكاً سريعاً للحياة، وزهداً كاذباً بالمرأة التي ذهبت"، مستنتجاً أن التخليق الأدبي في المحصلة "مجرد ورقة في اضبارة مريض على أتم الاستعداد للشفاء

ايوب صابر 05-31-2012 10:50 PM

كتب عن : أرض اليمبوس بتاريخ 2009/10/10
الواقعي والمتخيل في "أرض اليمبوس" لإلياس فركوح بقلم د. محمد عبد القادر عمان- تمثل رواية أرض اليمبوس لإلياس فركوح، والتي وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة "البوكر" للعام 2008، نموذجاً للسمات المميزة للرواية الجديدة أو لرواية "الحساسية الجديدة" على حد وصف إدوارد الخراط. وبصدور هذه الرواية يكون إلياس قد أبدع ثلاثية روائية بدأت بـ"قامات الزبد"، تلتها "أعمدة الغبار"، ثم "أرض اليمبوس"، لتشكل في مجملها مشروعاً روائياً نهل فيه الكاتب الكثير من مكوناتها الفنية، من تجارب ذاتية، هي في حقيقة الأمر ليست ذاتية محض، بقدر ما هي حصيلة لذاكرة جماعية أيضاً. ومن هنا تبرز إشكاليتان أساسيتان فيما يتصل بكتابة إلياس فركوح الروائية: الأولى: هل يظل النص السردي المرتكز الى السيرة الذاتية عملاً ينتمي بجدارة الى عالم الرواية؟ والثانية: إلى أي مدى يشكل الواقع متن الرواية، وأي دور للمخيلة في إنتاج رواية فنية يلعب فيها التخييل دوراً رئيساً في إنتاج العمل الفني؟
إن قولنا أن إلياس عكف على كتابة مشروع ثلاثية روائية – حتى الآن في أقل تقدير – يدعونا الى توضيح الصلة الأساس بين رواياته الثلاث:
في قامات الزبد يرسم الكاتب ملامح مرحلة معينة تبدأ بانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وتواجدها في كل من الأردن ولبنان باعتبارها رداً على هزيمة حزيران 1967 مروراً بأيلول 1970، وحرب تشرين 1973، وسقوط مخيم تل الزعتر في عام 1976. على أن السرد الزمني في الرواية لا يتسم بهذا التسلسل التاريخي المتصل، لعلاقة ذلك بالأداء الفني، وكذلك الحال في الروايتين التاليتين.
ثم صدرت أعمدة الغبار، لتتناول مرحلة أعقبت سقوط تل الزعتر، ثم زيارة السادات لفلسطين المحتلة، واندلاع الحرب العراقية-الإيرانية ثم الحصار الاسرائيلي لبيروت.
وها هي أرض اليمبوس تستكمل بعض الحلقات عبر تداعي السيرة بدءاً من الولادة في العام 1948 والتنقل ما بين عمان والقدس، ثم سقوط القدس الشرقية في العام 1967، وامتداد السيرة حتى مشارف اندلاع الحرب على العراق في العام 1991. ولست أزعم بذلك اكتمال المشروع الروائي لالياس فركوح، فالحياة ما تزال زاخرة بالتجارب الفردية والجماعية وإن كانت ذات طبيعة مأساوية في غالب الأحيان.
وما يدل على مشروع الثلاثية الروائية أيضاً، هو البناء السردي المتشابه الى حد كبير في الروايات الثلاث، وهو بناء قائم على تفجير الفضاءات الروائية بأمكنتها وأزمنتها وأحداثها وشخصياتها، ليقدم لنا الكاتب عالماً من التشظي والتفكك والانقطاع، وبالذات ذلك الانقطاع الوجداني الإنساني الذي يخلفه انقطاع مسار الذاكرة. كما أن الروايات الثلاث تحمل الكثير من الآراء والأفكار السياسية والفلسفية والأدبية (الفنية) المشتركة، وليس هذا بغريب على كاتب ينهل في رواياته من عالمه الفكري والوجداني والثقافي والسياسي.
إن لفظة "اليمبوس" قد وردت في مغزاها ودلالاتها على لسان خالد الطيب في الرواية الأولى قامات الزبد، في سياق وصف دقيق للصراع الداخلي الوجودي الحاد الذي تعيشه الشخصية والذي عبر عن نفسه في "مونولوج" أو حوار ذاتي جاء فيه:
"أنت تقضي علي بترددك الدائم، بخوفك الخروج من نقطة الوسط. أتعرف؟ أنت في الوسط، وأنا ... أنا أريدك أن تقفز معي الى النقطة الأخرى. لكنك تكبلني. فلا أقدر على المغادرة".
ثم يتابع:
"أتهرب مني؟ تختفي في عتمة المرآة؟ سألاحقك وأقتلك عند نقطة جبنك. عند نقطة الوسط أيها الجبان. أيها الجبان لن تفلت مني مهما هربت".
على أن لفظة اليمبوس تولد بحروفها ودلالاتها في أعمدة الغبار:
"أدركت هي مساحة البساطة المثلى، تلك المفروشة في غور شخصيته، وتلك الواضعة إياه في منطقة "اليمبوس" الكاثوليكية: طفل لم يخطئ ليساق الى جهنم، لكنه لم يتعرض لماء المعمودية لينال خلاصه من جرثومة الخطيئة الأصلية، ويفوز بالجنة".
وظلت اللفظة في سياقها تعكس ثيمة من ثيمات الروايتين، حتى إذا ما صدرت "أرض اليمبوس"، وإذا بالفكرة تحتل المشهد بكامله لتغدو ليس فقط عنوان الرواية، أو عنوان قسمها الأخير بل عنوان مرحلة تصوّر أزمة أمة، ومأزق بناها الفكرية وقياداتها. إنها المراوحة عند منطقة الوسط. حين يستعيد السارد الشاب مرحلة من حياة الشباب الأول يقول لنفسه "علّني تورطت في منطقة الوسط، ما بين مناظر صالات السينما ونقاشات المقاهي عن آخر كتب قرأناها."
وهنا تكون منطقة الوسط تعبيراً عن غياب الوعي وغياب الطريق. ولكنها في سياق لاحق ستكتسب دلالات أخرى ذات صلة بالهوية حين يستدعي الشاب الباحث عن دور وطني فاعل السؤالين اللذين تلقاهما من مصدرين مختلفين:
لست منا فلماذا تكون معنا؟
لست منهم فلماذا تكون معهم؟
وهنا لا نتحدث عن شاب يقع ضحية نزق أو لامبالاة بل نرى شاباً وطنياً يواجه نماذج من الوعي البدائي المتمثل بالتمييز على أساس العرق أو الدين، أو أي شيء آخر، ليقذف به في منطقة اليمبوس.
ثم يبرز القسم الثالث تحت عنوان "اليمبوس" لتستقر الدلالة بأن جمهور الأمة ومثقفيها يقفون في الأرض الحرام، بلا فعل، وبلا رؤية، وبلا قدرة على القيادة. لكن السارد إذ يخاطب قرينه لا يغلق الباب أمام الحركة، ذلك أن اندماج الوعي بالفعل سيبقى هو الطريق. في نهاية الرواية نقرأ الخاتمة التالية:
"حاول. أنت تعرف. لن أكون بعيداً عنك. يدي في يدك، ولسوف نعبر معاً الى الضفة الأخرى بأقل الخسائر".
ولا شك أن "أرض اليمبوس" استلهمت مخزون الذاكرة الواقعية والتاريخية لكاتبها، عبر انتقاءات من سيرة ذاتية، فكان أن حضرت حروب شهدتها الساحات العربية من العام 1948 حتى العام 1991، وحضرت رموز وشخصيات حقيقية: جورج حبش ومنيف الرزاز، وصادق جلال العظم، وحضرت مدن القدس وعمان ويافا واللد ومخيم الوحدات ومدارس وكالة الغوث، وغير ذلك، وحضرت تجارب سياسية وحزبية ووجدانية وعلاقات اجتماعية لها ارتباطات بشكل ما بالسيرة الذاتية. لقد كان حضور الواقع ملموساً الى حد بعيد، وما كان في مقدور ذلك الواقع ببصماته السياسية والتاريخية والاجتماعية من دون التخييل أن ينتج عملاً إبداعياً. هذا التخييل الذي بدأ من عنوان الرواية والذي يفضي إلى مرجعيات دينية وأدبية ورمزية وثيقة الصلة بالواقع في ظلالها ودلالاتها.
لا بل إن المشهد الروائي الفني الأول يحيل الى التخييل حين ينظر الراقد في المستشفى الى لوحة السفينة التي تتقاذفها الأمواج مشارفة على الغرق، فيخترق التأمل العالم الفني وينفذ الى الواقع عاقداً مقارنة بين المشهد التشكيلي والواقع الخارجي، إذ يتماهى المشهدان بحيث لا يستطيع القارئ أن يميز بين سفينة توشك على الغرق وواقع عربي موغل في التردي والسقوط.
على أن القيمة التخييلية الأساس في أرض اليمبوس تكمن في البناء السردي الذي شيده الكاتب، متجاوزاً خط السرد الواقعي التاريخي للحدث وإلاّ كانت روايته سرداً موضوعياً تاريخياً لسيرة ذاتية خالية من الأبعاد الجمالية والفنية التي يخلقها التخييل. أرض اليمبوس رواية تخلو من الحبكة أو العقدة أو التسلسل الزمني للأحداث، بل هي سرد مركب تتعدد فيه أصوات الساردين ويغيب المؤلف كسارد، بل يصبح شخصية أساسية من شخصيات العمل، ويمضي الى أبعد من ذلك بأن جعل الشخصية تخلق قرينها تعبيراً عن الازدواجية القائمة فيها، ما يساعد على تأمل الشخصية لذاتها، ومساءلتها، ومساندتها، أملاً في أن تتوحد الشخصية والقرين ليصبحا كياناً إنسانياً واحداً بوعي فاعل وطريق واحد.
في هذا البناء السردي المفتوح، لا توجد قمم ولا تلال، لا مد ولا جزر بل سهل فني منبسط تتعدد فيه أساليب السرد، فأحياناً يكون الوصف، وأحياناً تكون الذاكرة الشفوية عبر آلة التسجيل، وأحياناً توظف النصوص وقصاصات الصحف، وأحياناً الحلم أو الكابوس، والمونولوج (حوار الذات وتأملها)، وأحياناً الحوار بصوت عال مع القرين. هذا البناء التخييلي يجد له جذوراً في الواقع: الذاكرة انقطعت عن أزمنتها وأمكنتها، العالم فوضى لا ضابط لها، والأحداث شظايا متناثرة على امتداد العمر. كأن الياس يكتب محاوراً ذاته: أي عمر هذا؟ تولد في عام 1948 فتضيع فلسطين! فيصبح عام ولادتك عام شؤم، ويشتد ساعدك فتى قبل العشرين فتضيع القدس وينقطع امتداد التجربة والذاكرة، وما أن تدخل مرحلة الشباب حتى يسقط تل الزعتر، ويمتد بك الشباب قليلاً فإذا بيروت تحت الحصار الكامل، وإذ تغدو كهلاً تشهد حرب التحالف على العراق. هي وقائع على أية حال لا تخص المؤلف وحده، بل هي ذاكرة الجيل الذي شهد هذه المرحلة، وذاكرة أمة ما تزال تبحث عن بوصلة. في مشروعه الروائي الناجز قدم إلياس فركوح محاولة لإدراك الذات من الداخل، وإدراك الذات في تفاعلها مع الواقع بأحداثه وناسه، ليكتب رواية تستند إلى سيرة الذات باعتبارها سيرة جماعية أولاً وقبل كل شيء، ولا شك في أن قيمتها الفنية العالية هي التي بلغت بها قمة الصفوة الروائية العربية للعام المنصرم

ايوب صابر 05-31-2012 10:51 PM

2006/03/17،
الروائي والقاص الأردني الياس فركوح يتخلى عن «لعبة الأقنعة» ليتقدم إلى كتابة السيره .. حاوره- حسين جلعاد - الرأي بعد نحو ثلاثين عاما من الإبداع، يتخلى الروائي والقاص الياس فركوح عن «لعبة الأقنعة»، ليتقدم إلى كتابة سيرية، يتهيبها كثير من المبدعين، وهو بذلك يضع قلبه وروحه باسمه وتاريخه الصريحين على بياض الورق، ليستنطق ذاته التي تحمل ارثها الشخصي والاجتماعي والتاريخي في ضفيرة تجدل تحولات الذات بفردانيتها وعقلها الجمعي معا، حيث التاريخ العام جزء من الذات، وحيث الفرد بؤرة للتحولات والأفكار الكبرى.
في روايته الجديدة، قيد الكتابة، يعود فركوح إلى «ذات لم تبن أو تتشكل بمعزل عن الآخرين والاشتراطات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي وضعتهم جميعا في أتون لا يستطيعون الفرار منه. ولا يستطيعون، في الوقت نفسه، إلا أن يجابهونه بمقدار ما يملكون من وعي» حسب ما يوضح في حوارنا هذا معه.
الرواية الجديدة كانت أيضا مدخلا للحديث حول تنظيرات الكتابة والنقد، وكذلك مكانة الأدب الأردني وتواجده في الساحة الثقافية العربية، وكذا إشكالية العلاقة بين الإبداع والسياسة.
والياس فركوح من مواليد عمان عام 1948، تلقى تعليمه حتى الثانوية العامة متنقلا بينها وبين القدس، وهو حاصل على بكالوريوس في الفلسفة وعلم النفس، وعمل في الصحافة الثقافية من عام 1977 - 1979، كما شارك في تحرير مجلة «المهد» الثقافية طوال فترة صدورها، وأسس دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 1991، ويعمل مديرا لها. حازت روايته «قامات الزبد» على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990 وكذلك حاز على جائزة الدولة التقديرية/ القصة القصيرة عام 1997 كما نال جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة من رابطة الكتاب الأردنيين، وكانت الرابطة، قبلها، منحته جائزة أفضل مجموعة قصصية للعام 1982 (إحدى وعشرون طلقة للنبي).
صدر له نحو عشرين كتابا في حقل الرواية والقصة والمقالة والنصوص والترجمة ومنها: «أعمدة الغبار» (1996)، «قامات الزبد» (1987)، وفي القص: «شتاءات تحت السقف»، «حقول الظلال» (2002)، «من يحرث البحر» (1999)، وفي المقالة «أشهد علي.. أشهد علينا: السرد، آخرون، المكان» (2004) وفي النصوص: «الميراث الأخير» (2002). وفي الترجمة: «آدم ذات ظهيرة - قصص مختارة» بالاشتراك مع مؤنس الرزاز، وتاليا الحوار:

* «ميراث الأخير» مجموعة نصوص بحسب التوصيف المكتوب في سيرتك الإبداعية، لكن قياسا إلى حجم المؤمل وما كنت تتمناه فهو نصوص شعرية، لماذا كنت أعلنت عنها بداية على نحو «سري»، إن جاز التعبير، حيث كنت نشرتها في الصحف تحت اسم مستعار (راكان خالد)، ولم تعلن عن تبنيها سوى لاحقا؟ وهل الشعر بالنسبة لك يحتاج مغامرة لتكشف عن وجوده فيك؟ ما الذي يريده الروائي والقاص من الشعر؟ ماذا يحقق له مما لم يقله، خصوصا أنه امتلك ناصية التعبير في كل ذلك السرد الذي أنتجه؟

ليس جديدا حين أقول أن مجموعة نصوص «ميراث الأخير»، كانت محاولة مني لاستكناه معنى الشعر الذي توسم به لغتي أو تشكيلي للفضاءات المتوفرة في كتابتي السردية، وهذا يعني أنني، بقدر ما كنت أريد أن أطرح السؤال على الآخرين الذين يقرأون تلك النصوص بالاسم المستعار المشار إليه. كنت أيضا أسأل نفسي واستفسر عن ماهية الشعر أو جوهره بعيدا عن الأشكال والأوزان، وبعيد هنا أشدد على ما سأقول- عن صخب المعارك والسجالات التي اعتدنا عليها في المجلات والصحافة الثقافية. وإني لأسأل، حتى هذه اللحظة: ما هي طبيعة نصوص «ميراث الأخير» إذا ما أخضعناها لترسيمات الأجناس وحدودها؟ أهي قصيدة نثر بمعنى احتمال تضمنها لشعرية ما جاءت على نحو سردي؟ ما زلت حتى الآن عاجزا عن الإجابة. أما عن كون الشعر طموحا أو أمنية لطالما أردت أن أدخل غمارها؛ فلا أعتقد أنها كانت كذلك حقيقة. هذا البعد أشعره أو أشعر به يتحرك في داخلي حتى في خضم انشغالي بصياغة مشهد سردي، يوقفني ليسألني عن هويته في لحظة أشركه فيها بسردية واضحة قد تبدو هجينة إذا ما انضفرت في هذا البعد.

انفتاح الكتابة «ميراث الأخير» إشارة على انفتاح كتابتي، بالعموم، على فضاءات أو مناطق لا تحبسها الأجناس، ومن ثم فلن تجيء رغما عني، إلا بنصوص تتسم بخلاسية لا ارفضها، بل أرغب في أن تكون، وربما لإيماني بأن اختلاط الدماء في حد ذاته، أو إذا ما استعرنا تشبيهات المستشرقين أو المستعمرين الغربيين هذه «الهجنة» الجميلة. إن لجوئي إلى التخفي وراء اسم مستعار، كان بسبب من عدم وثوقي مما أكتب، جازما، في الوقت نفسه، بأن هذا ليس سردا- وهو ميداني المألوف. وكنت أخشى إذا ما وضعت اسمي الصريح أن تقرأ النصوص لدى الجميع مغلفة بأحكام مسبقة تأتت من قراءاتهم لسرودي. وأعود فأقول أن النصوص بالاسم المستعار كانت تجربة لاكتشاف هويتها من جهة، وربماهو خبث مني للوقوع على مدى عمق أو هشاشة شرائح كبرى من القراء/ المثقفين/ الكتاب.
ما أريده من الشعر هو أن أمتلك،حقيقة، بعض تمشيحاته، إن جاز التعبير. أن يثري سردي وأن يساعد، في الوقت نفسه، على توسيع مسألة المخاتلة وتعميق المعنى، وتعدد مستوى الدلالات. هذا ما أريده من الشعر في داخل نصي السردي، ولا أدري حتى الآن كم كنت قد نجحت في ذلك أو في جزء منه، أو تطعيمه وتعميق معناه ودلالاته.

تجربة شعرية
* بالقياس إلى ما أتيت على ذكره الآن بخصوص المخاتلة، واستعارة الاسم للتعبير عن «تجربة شعرية»، إلى أي مدى تعتبر التجربة الروائية لديك مخاتلة أيضا؟ بمعنى كم اسما حملت شخوصك الكثيرة والمتعددة المناخات- لاسمك الحقيقي الأصلي؟

لا أخفي- لا بل أعلن- أنني كشخصية خارج النص كاتبة له في الوقت نفسه، عن تواجدي المستمر والمتصل بحيث لا أستطيع الفرار مني، حين أتعرف في سرودي الروائية إلى كل تلك المراحل التي مررت بها، أسوة بمجايلي.
هذا يعني أنني تقنعت بأكثر من اسم دون أن أخفي هذا القناع أيضا، لا بل أعمل في روايتي الجديدة على استنطاق القناع نفسه، فربما يخبرني عني بما لا أعرف، داعيا إياي إلى السفر في وكشف ما كان مطمورا قبل الكتابة، فبات مكشوفا على وقعها. قد تكون أو تندرج الرواية الجديدة في إطار الرواية السيرية أو السيرة الروائية، ولست هنا بمعترض على التسمية؛ إذ ليست هي العنوان الذي كتبت في مناخاته واشتراطاته هذه الرواية، بقدر ما أحاول فيها، مثلما حاولت في سابقتيها، أن أقول عني في نسيج رؤيتي لسواي في الإطار الزمني المشار إليه بالمراحل. وكذلك امتحان مكاني وسط هذا الحشد الهائل من تفاصيل كانت في نتيجتها قد شكلت لوحة الانكسار الكبير الذي عشناه وما نزال حتى هذه اللحظة. كأنما الانكسار يطالبنا بالكتابة عنه علنا، إذا ما فعلنا وعلى نحو صادق، نقدر أو نستطيع أن نجبر شظاياه؛ لكي نرانا دون تزييف.

كشف الذات للذات
* نجهد في أولات الكتابة إلى التقنع وراء الشخصيات، ثم ها أنت الآن تعود إلى كشف الأقنعة للوصول إلى ما تخفي وراءها، ما الذي تحاوله الكتابة إذن؟
بل ما هي الكتابة بعد كل تلك التجارب، وكل ذلك العمر؟


المزيد من كشف الذات للذات ضمن مفهومي الواضح والقائل بأن هذه الذات لم تبن أو تتشكل بمعزل عن الآخرين والاشتراطات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي وضعتهم جميعا في أتون لا يستطيعون الفرار منه. ولا يستطيعون، في الوقت نفسه، إلا أن يجابهونه بمقدار ما يملكون من وعي، أو نصف وعي، أو شبه وعي أو بوعي مشوه. الكتابة الآن هي كتابة الذات غير المعزولة عن محيطها، وليس هذا اختيارا أو التزاما بلحن قديم لا يزال ينبعث من الكراريس والكتب الأيدولوجية؛ بل هو الصوت الصادق الذي يحاول، على الأقل، أن لا ينسب أخطاء هذه الذات إلى الآخرين، وكذلك أن يواجه الآخرين بأخطائهم حتى وإن عبسوا وتولوا.
الكتابة، كما أراها وأعاينها في كل حرف أكتبه في هذه الرواية الجديدة، هي كشف حساب لمجموع الأخطاء والخطايا. الكتابة تراكم أخطاء ينبغي، على ضوء رؤيتي الخاصة لها، أن أعيد ترتيبها لتكون الفضيحة في «أجمل» صورها و«أزهى» تجلياتها.
الكتابة ليست بطولة، تماما مثلما أن البطولة قد انتزعت منا حيال واجبات بناء ما كان مكسورا وما يزال؛ ولهذا قد استعير مفهوم البطولة في إعلاني عن افتقاري لها.

فضيحة مجتمع

* الكتابة السيرية تفتح شهية القارئ على تتبع «فضائحية» ما، أو أسرار يبوح بها الكاتب. إلى أي حد تلبي روايتك السيرية الجديدة شروط حيازة الشجاعة في كشفها والإخبار عن السيرة الذاتية؟ هل هي كتابة منقادة فعلا، أم أنك تغالب فيها ضميرك الجمعي والاجتماعي؟

أنت تعرف أن الكتابة، حتى وإن كانت من الذات عنها، إلا أنها وبسبب وعيي على أنني لست سوى الفرد الواحد وسط حشد من الأفراد الآخرين؛ إذن فلن تكون الرواية إلا صورة ما من صور اشتباك أو امتزاج هذه الذات بذوات أخرى تتلاقح معها وتتصارع، تتآلف أو تتنافر، لكنها سيرة وجه يحمل ملامحه، ويحمل ملامح أخرى ليست له أيضا. وهذا من صميم الكتابة، كما تعرف أيضا.
سيجد القارئ مناخات أخرى وجديدة، وسيقع على اعترافات قد لا تكون في تفاصيلها فضائحية، لكنها في صميمها وفي جوهرها إنما تدل على أن الفضيحة، إن مارسنا أفعالها، ليست سوى فضيحة مجتمع أجبرك وأجبرنا جميعا على اقترافها.

باب التجريب

* أين تصنف كتابتك هذه قياسا بتجارب السرد العربي، هل تراها «معمارا نافرا» كما وصفها أحد النقاد، أم أنك تقدمت إلى مساحات إبداعية جديدة أردت فيها أن تناسب أشكالك مواضيعك؟

إذا نظرنا إلى هذه النصوص من الخارج، فلن تكون إلا نصوصا مفارقة للسائد إن في لغتها أو في بنائها. أتفق مع هذا الرأي لأنني، حين كتابتي، أتقصد ذلك بوعي حاد منطلقا من أن الكاتب في النهاية هو أسلوبه، وأن الكتابة في محصلتها هي كاتبها.
هذا من الخارج. أما إذا نظرنا إلى هذا المنتج المكتوب من زاوية داخلية (إذا جاز التعبير)، فأزعم أن رؤيتي إلى العالم وبالتالي إلى ذاتي تتحلى بخصوصية هي محصلة طبيعية لا بطولة فيها ولا تميز. وإذا ما صح هذا الزعم، فإن هذه الرؤية الخاصة ستتشكل بالكتابة على نحوها الخاص كتابة خاصة بالتالي. هكذا تتبادل عمليتان أدوارهما لتكملا مشهد الكتابة: رؤية خاصة إلى العالم، رؤية خاصة إلى الكتابة، مما يؤدي إلى: الكتابة على غراري.
هل هذا تجريب؟ أنا لا أستريح تماما إلى توصيف هذه الكتابة وإدراجها في خانة التجريب؛ لأن التجريب يعني التقصد من أجل المغايرة، وهذا يتضمن افتعالا بمعنى ما لست أحبذه. أزعم، من جديد، بأن مغايرتي تأتت من كوني في داخلي، وكيفية تفاعلي مع محيطي، إنما هي تجلية لخصيصة أفردت وأفرزت كتابة مغايرة. فالمغايرة بهذا المعنى مغايرة طبيعية لا تقصد فيها ولا تكلف، أو هذا ما أراه.

نزعة التفكيك

* في مناحيك «التجريبية» ثمة نزعة إلى التفكيك، وإعادة بناء المواضيع التي تعالجها من زوايا مفارقة للوعي السائد، كيف يمكن الوصول إلى كتابة إبداعية يوازن فيها الروائي بين رؤاه الخاصة، وبين ما يجريه من سرود على ألسنة شخوصه؟ أم أن الرواية فعلا هي رواية صاحبها؟

هي رواية صاحبها دون مواربة أو تزويق في الكلام. غير أن سؤالا يطيب لي أن أطرحه علينا كلينا: من هو الكاتب؟ من الفرد؟ أوليس هو، في عمقه، أكثر من كائن واحد، بمعنى أكثر من وجه واحد!!. بمعنى أنه حمال لأثقال من التناقضات هي ملامح منه ومن غيره؟ إذا وصلنا إلى اتفاق على هذا الضرب من التعريف؛ فإن جملة الشخصيات المتباينة أو ملامح الشخصيات المتباينة في قصصي وروايتي ستكون نسخة فنية، وصورة أحيانا بالأبيض والأسود وأحيانا أخرى بالرمادي، وأحيانا ثالثة بالألوان بفضاءات داخلية تكرس مبدأ التناقض وصراع صاحبه من أجل خلق توازن لا يتحقق، في نظري، إلا بالكتابة.

الإبداع الأردني
* استطعت مع عدد من مجايليك أن تذهبوا بالإبداع الأردني إلى مساحات غير مطروقة سابقا، وحين يتم الحديث الآن عن إبداع روائي أردني، فإنكم تذكرون كجيل رسخ أدبا أردنيا ذا ملامح مميزة. إلى أي حد استطاع المبدعون الأردنيون الوصول إلى الساحة الثقافية العربية، بحيث يمكن القول أننا أصبحنا الآن جزءا صلدا منها؟

من الضروري الإشارة والتأكيد على أن نضجا ملموسا قد تحقق في عديد من النصوص السردية (قصة ورواية) والشعرية، ما كان له أن يتبلور إلا لأن تراكما قد لحق بهما أنتج، بالضرورة، ملامح نوعية لا يجوز إغفالها من جهة. كما لا يجوز عدم إدراجها عند دراسة المنجز الأدبي العربي وفي حدود التميز من جهة ثانية. وإني حين أدلي بشهادة كهذه لا أصدر عن مبالغة، ولا عن جهل وعدم إطلاع عما يسجل الآن في المدونة العربية.
هنالك ما ينبغي الإلتفات إليه في كتابات أنجزتها مجموعة أسماء أردنية، وذلك لاستحقاقه هذا وبعيدا عن مجاملة الذات لذاتها، أو خداعها بالتحرك داخل إطار الوهم.
فعند تصفح مضمون ومحتويات المدونة العربية، فإننا سنقع للمبدع الأردني فيها على نصيبه الواضح دون شك. غير أن جملة أسباب تكمن في الإبقاء على هذا المنجز بعيدا عن الضوء وسط منطقة الظلال والعتمة على نحو يلحق به الظلم.
ولكي لا نلجأ إلى تبرئة ذمتنا ؛ علينا أن نعترف بتقصيرنا في حق أنفسنا ؛ إذ لم تعمل جهة رسمية أو أهلية ذات صلة بالثقافة على «تسويق» هذا المنجز بصورة منهجية وعملية. لم تعمل هذه الجهات على ذلك حتى أردنيا ! حتى في الداخل ؛ فكيف سننتظر منها أن تفعل هذا في الخارج ؟! كما أن الصحافة المحلية لا زالت تتعامل مع نفسها على أنها مجرد صفحات تقرأ في عمان ومدن ثلاث أخرى، دون أن تتحلى بطموح أكبر لأنها، للأسف، تفتقد الرؤية المتجهة للعالم خارج حدودنا. علينا الإقرار بدوام مركزية بعض العواصم العربية في حقل الثقافة دون أن تتخلى عن نظرتها لنفسها كونها كذلك. أما الأخطر؛ فهو توطن هذه النظرة حتى عند مبدعينا على الأغلب. فهم يرون بأن الاعتراف بهم خارج الأردن سيعمل على تكريسهم داخله !.. ولعل في هذا شيء من الصحة.. للأسف.

الثقافي والسياسي

* جهد الأدباء في دفع تأثيرات السياسة، وكذا جهد المثقفون في دفع تأثير السياسيين عن نصوصهم وإبداعاتهم، ولكن رغم أن المبدع/ المثقف وازن بين إبداعه وحضوره الثقافي في الحياة الاجتماعية والسياسية، بمعنى أنه تعاطى مع الفعل السياسي والتغييري على هدي من تجربته الثقافية، إلا أننا نلمس مؤخرا طغيان النظرة الأدبية الصرفة في تعاطي المثقف مع ثقافته، فيما العالم الآن غدا أكثر تسييسا، وأوغل السياسي في سيطرته تحت مسميات «محاربة الإرهاب» أو «الدفاع عن حرمة المقدسات»، فيما نرى المثقف ينسل مثل خيط ماء دقيق بدعوى حريته وتنسكه الإبداعي.؟
كيف ترى إشكالية علاقة الإبداع بالسياسة الآن وكيف يمكن الوصول إلى صيغة متوازنة بين الثقافة والسياسية؟


إن علاقة الإبداع بالسياسة علاقة إشكالية بامتياز، نظرا لصعوبة التوفيق بين البرغماتية والمثالية. ففي الأولى، غالبا وكأنما هي القاعدة، تنحى الأخلاق والمبادئ جانبا لتحل محلها اشتراطات المنفعة والجدوى الآنية، مكرسة نفسها على نحو تبريري قوامه أن السياسة «فن الممكن». ولأن الأمر هكذا ؛ فلنا أن لا نفاجأ بكم الأخطاء بل الخطايا التي سوف تلحق بالإنسان لحساب «تحقيق الممكن» في خضم صراعات الدول أو تحالفاتها رغم براقع الأخلاق والحقوق الكاذبة وباسمها زورا وبهتانا.
ولهذا ؛ فإن إشكال التناقض يبرز قاطعا صارخا عندما يكون الإبداع، ممثلا بمنتجيه، يقف على الطرف النقيض تماما من السياسة ؛ والسياسة العربية تحديدا كونها لا تتحلى بالأخلاق أساسا، وفي الوقت نفسه لا تملك وزنا حقيقيا في تقرير «سياساتها» الاستراتيجية فتفقد لهذا السبب حتى شرف الانتساب لمصطلح السياسة لأميتها الفادحة في كلا الوجهين.
الإبداع، في جوهره العميق، معاكس تاريخي للفساد بكافة تجلياته. فما بالك، إذا ما كان للفساد الكلي صفة الجامع المشترك للسياسات العربية وكتائب العاملين فيها من (سياسيين) يفتقدون حتى الخصائص الاحترامية لهذا.
غير أن ذلك كله لا يعني انصراف الإبداع بمبدعيه، عن الخوض في المسائل والقضايا التي تفرزها السياسات العمياء أو الحمقاء عندما تطال في نتائجها تفاصيل الإنسان الفرد في حياته اليومية. ولأن ما أشير إليه ليس استثناء؛ فإن نسبة عالية من الإبداع العربي ما يزال غير مستنكف عن التعرض في نصوصه لتلك الحالات، رغم تسربلها ضمن الجيلين الأخيرين بعوالم الذات التي تبدو خالصة تماما. وحتى لو افترضنا نسبة عالية من هذه الكتابات قد انصرفت فعلا إلى دواخل كتابها / كاتباتها ؛ فذلك أحد آثار غياب العمل السياسي المحترم والمقنع في جانبي السلطة والمعارضة معا.
هنالك (صيغة غير متوازنة) تعيشها مجتمعاتنا العربية بكل ما يحمل التوصيف من معان. فهل ننتظر من النص إلا أن يكرس ذلك إما رفضا، أو كفرا، أو انكفاء درءا لمزيد من خسائر الروح.. والبدن.
* شاعر اردني

خرزة زرقاء

أنا صاحب مريم الأول. ومريم صاحبتي الأولى. ولي اسم اقتبسه أبي من معجم القديسين المحفوظ في ذاكرته، وأطلقه علي. لم أستطع تحمل تبعات الاسم. إنها ثقيلة فادحة، ولست أنا سوى بشري لا يطمح إلى أن يكون أكثر من ذلك. لست سوى رجل يشقى ليكون بشريا ويحافظ على هويته هذه. وهذا، مثلما اكتشفت عبر العمر المار كالبرق، ليس بالأمر الهين. أبدا. فأن تصون بشريتك يعني أن تنخرط في ألف معركة لن تفوز إلا في أقل قليلها.
للاسم الذي أحمله كرامات وهالات لا أستحقها. أنا ضعيف، غالبا، ولعلني ضعيف دائما إذ أعجز عن تحديد أو تذكر جولات فوزي في المعارك الألف التي خضتها. وربما يكون هذا هو سبب إغفالي لإسمي، بقدر ما يسعني ذلك، وإلباس شخصي إسما آخر حين الاقتضاء. غير أني، عند تأملي بالمسألة، أراني أراوح في نقطة التجاذب لنقطتي السؤال : من يتلبس الآخر ؛ الإسم أم حامل الإسم ؟ ثم أخلص إلى التشكك بالقول الذائع :«لكل إمريء من اسمه نصيب.» ففي داخل جميع الذين حملوا بأسماء ذات تاريخ بطولي أو استشهادي، أو أي تميز آخر ؛ إنما ثمة صخرة تربض هناك تجرهم إلى تعاسة العجز ومرارته. فالواحد منهم، رجلا أو امرأة، كان أن لقح بجرثومة التناقض. الاسم في جهة، وصاحب الاسم في جهة أخرى، وبين الجهتين يدور صراع التماثل المستحيل. مساكين هم إذا ما عملوا على أن يتماثلوا مع تاريخ أسمائهم. أنا لم أفعل ولم أسع. غير أن ذلك لا ينفي احتمال أن أكون مثلهم، آخذا بالاعتبار لاوعيي عما يدور داخلي من محاولات كهذه. فالأمور تتحدد بخواتيمها كما نعرف.
نعرف هذا لأنه عادة ما يقال.
ويقال، في العائلة، أن أبي أسماني باسمي المقدس والجليل حماية لي من مصير قضى على أخ وأخت سبقاني إلى الحياة، وسبقاني إلى الموت صغيرين، أيضا. فنذر أبي بأن لا يقص شعري، مهما طال، إلا في كنيسة مار إلياس في خربة الوهادنة ناحية عجلون. وكذلك، في صيدنايا، سوف يتم تعميدي صبيا، لا طفلا، في جرن الدير المقدس هناك. فسافرنا برفقة عرابي إلى سوريا.
كان له ما أراد. وكان علي أن انتظر طويلا، محتملا إزعاجات النذر الذي جعل جنسي الطفولي محل إشكال، ومصدر خطأ الآخرين وارتباكهم، وسخريتهم أحيانا لن أنسى ذلك كلما مثلت مريم في الذاكرة.
«ماشاء الله !»،
لاحظت امرأة تجاور أمي في مقعد الحافلة الذاهبة من شارع الملك طلال إلى المحطة. ثم رفعت الملاية السوداء الشيفون الشفيفة عن وجهها، وأتبعت:
«شو هالبنت الحلوة !»
بسملت، ومسدت على رأسي حتى نهاية شعري الملموم ب«شبرة» من القماش الأزرق. ربما كانت من «فضلة» ثوب خاطه أبي لإحدى سيدات عمان أواخر الأربعينيات. «يوه !»، ردت أمي بلكنتها الشامية المميزة، وصححتها مستنكرة على الفور :
«هذا صبي يا ست.»
وعندما عادت بي إلى البيت، أوصت أبي، فاشترى خرزة زرقاء علقاها حول عنقي بأنشوطة من الجلد الناعم.


مقطع من رواية قيد الكتابة

ايوب صابر 05-31-2012 10:59 PM

الياس فركوح

(روائي/ الأردن)
لا أزال أنتسب إلى الجيل الذي تعلّم حكمة قديمة تعود الى الوراء، عميقا داخل عجينة الطفولة، تحضّه على "نام بكّير فيق بكّير شوف الصحة كيف بتصير"! ليس الأمر بيدي. كما لست مطيعا إلى درجة الإذعان (مع اعترافي بوجاهة هذه الحكمة بعمومها)؛ غير أن وراثة جينيـة، ربما، أدخلتني في عداد الذين يستيقظون فجرا على نداء "الصلاة خير من النوم" فأقوم، من فوري، لأواصل مسلسل فناجين القهوة، وحرق السجائر، ووصل ما انقطع قبل ساعات: الكتاب. أو الكتابة. إذاً: الصحة ليست هدفا وغاية؛ وإلاّ لماذا أصبت بجلطتين كانت الثانية قبل خمسة أشهر؟ ناهيك بعوارض مرضيّة أخرى (كنت مهذبا فوضعت الضمّة فوق همزة الألف، بينما لسان حالي يقصد الفتحة)؟
ثمة متعة غامضة في الاستيقاظ قبل طلوع "الشمس الشموسة". أو علّها خواطر الزهو في الإطلال على الدنيا في سكونها وانبثاقها، كالوردة، من حافة الشفق المخايل؛ فيكون الواحد منا قد تلبسته حالة الخالق وهو يشهد ميلادا يفتق سرّة الأرض بعد الغمر عند التكوين: بطيئا ورويدا، مثل الطفل حين يتنفس في نومه، وليس هنالك من أمر يمكن التثبت منه وتأكيده سوى أن هذه الحالة المتخلقة من تلقائها تتخلق. ليس أكثر وليس أقلّ. حالة تتخلق من منطقة غموض لتمضي إلى منطقة غموض. وهذا هو جوهر جمالها وسر سحرها، في ظني.
وفي ظني، أيضا، أن افتتاني بهذه الحال كما هي في طبيعتها الأرضية، وملازمتي لمعناها العميق عند كتابتي لنصوصي والتزامي الطوعي لذلك؛ إنما يكشف لي احتمال إعراضي الباطني عمّا هو بيّن، وواضح، ومتماسك. يكشف لي عن اعتراضي وتشككي بكل ما هو ذو قوام يشمخ على شاشة العالم ويفقأ عيني؛ إذ أعدّ ذلك تواقحا وفجاجة طفرا من كينونة هي مشبوهة في نظري. كينونة مريبة تفتقر الى جملة شرعيات تمنحها لها صناديق الروح - بصرف النظر عن نتائج فرز صناديق الاقتراع؛ بما فيها تلك التي تراقبها لجان دولية!
ليس لعملي، الذي أخرج إليه صباحا، مفهومه التقليدي أو الصارم. عملي ليس وظيفة تجرّني رغما عني لأتقاضى عليها مالا أنفقه على ضرورات الحياة، بقدر ما هو ممارسة يومية للذات لا يستقيم معناها بغير إحساسها بالإنجاز. فأن تنجز أمرا يعني أنك أنجزت قدرا من ذاتك؛ يعني أنك حققت قسطا من كينونتك؛ يعني أنك اكتسبت حقك بيدك في الوجود؛ يعني أنك اكتسيت بالمعنى الأعمق لأنك، ببساطة ليست بسيطة، قمت بحلب لبن أن تكون وأن تحظى بجدارة ذلك كلّه.
يـاه!
هذا كلام كبير يقارب الوعظ المكرور الممل وينتهي، في الضرورة، إلى السقوط في ركاكة تبشيرية ساذجة. أو هو فذلكة أخلاقية دعيّة ذات طنين مزعج يشبه ذاك الذي تحدثه ذبابة زرقاء كبيرة تحوم حول رؤوسنا بإلحاح! ولأن الأمر كذلك، كما يبدو عبر هذه اللغة؛ فإني أزيد على هذا مستكملا معزوفتي: عليك أن تنجز عملا تحبّه! وأنا، بصراحة، أحب عملي. فأن يعمل كاتب في حقل النشر إنما يعني، في جوهره، أنه يشتغل داخل مناخات الكتابة وآفاق التفكير الهادف إلى لا غاية تسليعية مباشرة: أنه لم يحدث قطعا في نسيجه الشخصي، لا من الخارج ولا من الداخل: أنه لم ينفصم متحولا إلى شخصيتين متباينتين؛ وخصوصاً إذا كان هذا الكاتب يستمتع بتفاصيل "صناعة" الكتاب ويجيد بنسبة ما تصريف مراحلها: قراءة النص، اختيار الحرف وحجمه، إخراج الصفحات الداخلية، توليد التصميم الأولي للغلاف ثم تنفيذه على الكومبيوتر، إلخ. أما عن تسويق ذلك كله، بيعا وشراء؛ فحدِّث ولا حرج: ليست هذه لعبتي، ومن هنا تبدأ متاعب العمل ومآزقه!
لا بأس. على الحياة أن تمضي، وعلينا أن نعبرها بدورنا. بأقلّ الخسائر.
أوصل إبني، الحديث التخرج، إلى مقر عمله قبل مروري اليومي بالبريد لتفقد صندوقي هناك. في السيارة لا يتحرج بإعلان تأففه من دخان السيجارة العابق؛ فالفصل شتاء، والبرد الصباحي قارس، والنوافذ مغلقة، لكن السبب ليس هذا فحسب: إنه قلق عليَّ وخائف! فإثر الجلطة الثانية بات الخطر ماثلا في الثالثة. كما ليس لديَّ أي تأمينات صحيّة في زمن العلاج الأكثر من باهظ، والرقود المحترم الذي لا يتوافر إلاّ في المستشفيات ذات الخمس نجوم!
أبتسم بنصف تهكم، بنصف مرارة؛ وأحوّل نظره تجاه فتاة يافعة بمثل عمره، تذكّرني بأني تجاوزت منتصف العقد الخامس، وأقول: "أنظر! أليست جميلة يا ولد؟ أنظر إلى الصدر! أنظر إلى القد الميّاس! أنظر إلى القفا! يا لطيف!". فلا يكون منه إلاّ أن ينحرج، هذه المرّة، محتجا بلطف وتهذيب حقيقي: "بـابـا!". فأفكر في كم سيصمد إبني البكر هذا محتفظا بحشمة باتت من مخلّفات عصر الديناصورات، وهل سيقوى على سفالات الأيام المقبلة؟ أم تراه، إذا صان ما علّمناه إيّاه من أخلاق الصدق والأمانة وسواها من "بضاعة" انتهت صلاحيتها، كما يبدو، سوف يحقق نجاحه الخاص؟ أثق به؛ غير أني لا أستطيع إخراس مخاوفي عليه.
أدخل مكتبي، ملقيا تحية الصباح على إحسان ونسرين، وأمارس محبتي لهذا المكان حتى الظهر. عند الثانية وحفنة دقائق بعدها، أغادر إلى البيت. بدأ التعب ينال مني ويتجلّى عليّ. لم أعد كالسابق. أمنّي نفسي بقيلولتي الباذخة، بعد وجبة غداء لا أسأل عنها.
قيلولتي نوم كامل أغرق فيه. أغرق فيه تماما. قيلولتي ليست قيلولة أبدا؛ إذ هي إبحار في لذة ربما تكون، في وجهها الآخر، مرضا غير معلن! أو علّها أحد وجوه الهرب من أثقال لم أعد أتحملها، والفرار من مواجهة سدود الأفق وصدود العلاقات وانغلاقها على بناها الناقصة! ولِمَ لا يكون النوم، في هذه الحال، خيراً من صلات بتنا نفشل في مدّها بهواء الحياة؟ أجل. هذا هو الأرجح. أنام في صدفتي وألتذّ بذلك. أحلم بالآخرين، فأرى الواحد منهم يتخندق في جزيرته، مكتفيا بذاته! عجيب! أقوم من قيلولتي الخرافية عند التاسعة أو العاشرة ليلا؛ مثلما حدث اليوم. أعدّ فناجين قهوتي وأشربها. أفتح علبة سجائري وأحرقها. أجلس لأكتب ما سوف أنهيه الآن، قبل أن يصل من نافذتي نداء صلاة الفجر. وأشرع بابي على وردة أعرف أنها طفقت تفرد بتلاتها بالسرّ المستور لتنفرد (وأنا معها) بالشهادة على خليقة لا تتعب من تكرارها لنفسها ولخلائقها العاشقين لها رغم تعبهم، أو ربما بسببه.


الساعة الآن 02:38 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team