![]() |
رد: مُهاجر
أسمعُ في حرفك صمتَ الجراحْ
وحكايةَ قلبٍ أرهقهُ الكفاحْ لا تُخبئْ أشلاءَكَ المُنهَكةْ في أعذارِ مَنْ باعَ قلبَكَ بُرْهَةْ مُذْ قررتَ أن تُولدَ من جَمرِكْ وتمزّقَ حائطَ سرابِ العَهدِ لم يعدْ سوى الطُّرقِ.. والريحِ في الفلاةِ تمحو خُطاكَ.. وتلملمُ دربَكَ شمسُ غدِ |
رد: مُهاجر
نُلَمِّلُ أجداثَ الماضي...
وَنَسيرُ عَكْسَ التيّارِ المُوازي... وَنُنادي مِنْ بَعيدٍ في فَلاةٍ شَحَّ فيها المُجيبُ! |
رد: مُهاجر
وَأَمَامَ مَوْجِ البُحُورِ الَّتِي تَحْمِلُنِي
أَنْظُرُ.. أَرَى بَوْصَلَةَ الوَجْدِ تُنْبِئُنِي: لَنْ تَطُولَ المَسَافَاتُ بَيْنَ الحَنَايَا وَحَنَايَاكْ سَوْفَ تَلْتَقِي القُلُوبُ.. فَجْأَةً.. عِنْدَمَا تَمْتَلِكُ العِنَايَاكْ . |
رد: مُهاجر
وَلِتلكمُ الريحُ التي
كشفتْ عُرْيَ الزَّيْفِ في وضحِ النهارْ، ومزّقتْ سِتْرَ الخداعِ، وقطّعتْ وَريدَ وجهٍ كان يبتسمُ… وفي فمهِ سُمُّ القرارْ. طالَتْ أيّامٌ، فتناسلتْ أعوامُها المُرَّة، ولا ملامحَ للغدرِ على الوجوهِ، سوى ابتسامةٍ صفراءَ… تُخفي خلفها خناجرًا سوداءَ، وأضغانًا عششتْ في قلبِ إنسانٍ بلا أوتارْ. يتحيّنُ الفرصَ، يراقبُ الغفلةَ… يُبقي الخلاصَ مُكبَّلَ اليدين، ويُنْبِتُ في فمِ العدلِ ألفَ مِزمارْ، لكنه لا يُغنّي، بل ينفخُ في جمرِ الألمِ، وينتظرُ موعدَ التأبينِ ليجهّزَ مَراسمَ الرحيل… لمن كانَ يظنُّ النجاةَ اختيارْ. أهكذا تُولدُ الحكايا؟ من رحمِ ريحٍ لا تملكُ بيتًا، ولا ذاكرةً تأوي إليها؟ أهكذا تُكْتَبُ النهايةُ، في صفحةٍ نُسيتْ على قارعةِ الانتظارْ؟ لكنّ للريحِ ذاكرة، تحملُ أنينَ الجدرانِ، وصوتَ العيونِ التي لم تَبُحْ، وتاريخَ الأيادي التي امتدتْ لا للمصافحة، بل لتُسقطَ الستارْ. ومع هذا... ففي الريحِ بُشرى لمن صبر، وفي انكشافِ الزيفِ نورٌ، وفي انكسارِ الثقةِ ولادةُ بصيرة، فما من ريحٍ تشتدُّ إلا لتُمهّد للسكينة، وما من خيبةٍ، إلا وتُغلقُ بابًا… لتفتحَ ألفَ دارْ. |
رد: مُهاجر
انطفأتُ
كأنّي آخرُ شرارةٍ في مدافنِ البوح أعانقُ رمادَ صمتي وأستدرجُ من وجعي بقايا صلاةٍ مؤجلة... أتمددُ على هامشِ الوقت كظلٍّ فقد جدارَه أعبرني كأنني غريبٌ في جسدٍ يشبهني وأوشّحُ خرائبي بوجهكِ… كأنكِ المعنى الذي نسيه الحرف |
رد: مُهاجر
أهوي في داخلي
كمن ينقّب عن ضوءٍ في نفقٍ نسيته الشمس... كلما حاولتُ أن أرفع رأسي وجدتُ فوقي سقفًا من الذكريات منخفضًا… قاسيًا… كأنه يُعيدني إلى الأرض كلّما همستُ للسماء بشيءٍ من حلم. أنا لا أهرب، لكنّني أشيح بقلبي عن كل ما يشبهكِ… لأنّني لا أقوى أن أراكِ في وجهٍ لا يعرفني. كلماتي؟ مبلّلة بالخذلان، ومخطوطة على جدرانٍ لم يقرأها أحد. أحاول أن أنسى لكنّ التفاصيل تعرف اسمي جيدًا، وتناديني كلّما ظننتُ أنّي عبرت. أكتبكِ، ليس لأنكِ تعنين النهاية، بل لأنكِ ما زلتِ العنوان الذي يبدأ به كلّ وجعي. |
رد: مُهاجر
كم رددتُ بناني عن لفظ الحرف في كل مرة، إذ كانت الكلمات تمضي كالسهام، وإن كانت نيتها سلامًا، فكم من كلمةٍ خرجت من القلب، فزلّت على اللسان، ففُهِمت على غير وجهها، وحُمِّلت ما لا تحتمل، فكان الندم يأتيني لاحقًا، كضيف ثقيل لا يغادر.
خشيت دومًا أن يُؤوّل حديثي على غير ما أردت، وأن يُقرأ قلبي بعيون لا ترى نبضه كما هو، فيُكتب علينا جُرم لم نقترفه، وتُنسب إلينا خطيئة لم تكن يومًا منّا، فيكون العقاب قطيعة، ويكون ثمنها فقدان من نحب، على شيء لم يكن سوى سوء فهم. فكم من عاشق افترق، وما كان الذنب إلا همسة لم تُفهم، أو نظرة أُوّلت، أو كلمة سكنت بين السطور فأيقظت نارًا ما قصدنا إشعالها، فينتهي الوصل، لا لأن الحب انطفأ، بل لأن المعنى انكسر. فاخترت الصمت، لا ضعفًا، بل حذرًا، وجعلته جوابي الوحيد على ما يأتيني من رسائل، وإن كانت روحي تشتعل شوقًا، وإن كان القلب ينزف القاني من التحنان، ويئن من وطأة الحنين. أتعلم؟ ليس كل من سكت فارغًا، وليس كل من مضى ناسيًا. أحيانًا نصمت لأننا نخاف أن تُسقِط الكلمات ما تبقّى، وأحيانًا نرحل لأننا نحب، لا لأننا مللنا. فدعني أختبئ خلف السطور، وأكتم صدري عن كل ما يُقال، علّ الصمت يحميني، وعلّه يُبقي بيننا شيئًا لا ينكسر، شيئًا يُشبه الحنين حين يخنقنا ولا يقتلنا. |
رد: مُهاجر
أنا لستُ عينًا تُبصِر،
بل قلبًا يستشفُّ النور من بين ظلال الحيرة، أشبه بندفةِ ضوءٍ تسقط في عمقِ ليلٍ دامس، فتُوقِظ في الروحِ خريطةً لا يعرفها إلّا السائرون نحوي بنور اليقين. تسألون: من أنا؟! أنا نورُ الساري في دياجير الحيرة... وكهفُ أسرارِ الوجودِ الكثيرة... وشمسُ الحقيقةِ في مجرّاتِ الكونِ الوسيعة... وغيثُ الحياةِ للأرضِ القَفِيرة... وطِبُّ القلوبِ المريضة... وملاذُ اللاجئِ من العذاباتِ المريرة... فهل عرفتني؟! فتِّشْ في جيوبِ الحياة... واستحضرْ وجوهَ المارّين... واستنطِقْ حروفَ الكاتبين... وحَرِّكْ مشاعرَ العاشقين... وطَبْطِبْ على قلوبِ المكلومين... ستجدني بين حرفِ العلّة، وبين ضميرِ المتكلم، وبين المبنيّ للمجهول... كائنًا لا يتحرّك، بعد أن جُرِّدَ من معناه، فبات كريشةٍ تتقاذفها الرِّيح، فتهوي بها في بئرٍ عميق... فلا تسأل عن اسمي، فأنا اسمٌ بلا صوت، وصوتٌ بلا لحن، أنا ظلُّ الحقيقةِ حين تغيب، وصرخةُ المعنى حين يصمتُ كل شيء. أنا لستُ من هذا الطين وحده، بل من سرِّ النفخةِ الأولى، من صمتِ المعنى حين يفيض الكلام، ومن وجعِ السؤال حين يعجز الجواب... أنا أثرُ النورِ في أزقةِ العتمة، والوَصلُ حين تنقطع السُّبُل، أنا نبضُ الفكرة في صدرِ متأمِّل، ووميضُ البصيرة في عينِ حائر. أنا همسةُ الأمل في أذنِ اليائس، وسجدةُ الروح في محراب الإدراك، أنا الحكاية التي لا تُروى، لكنها تعيش في كلّ سطر، وكلّ صمت. فتِّش عني في شهقةِ الولادة، في دمعةِ العارف، في نشوةِ القصيدة، وفي صمتِ المريد... ستجدني نائمًا في جفنِ المعنى، أرتِّب للفجرِ مواعيدَ قيامه، وأجفّفُ دمعَ الليلِ حين يطول... أنا لستُ وصفًا يُقال، ولا حدًّا يُرسم، أنا المَعبر، والمعنى، والحكاية التي ترويك... دون أن تنتهي. |
رد: مُهاجر
أتراه قولًا يُصيب الحقيقة؟!
بأنَّ الصدى مُحالٌ أن يُولَدَ من سكون! فهأنذا أُصغي إليه في عمق نفسي، حين يصمت الوجود. ومن قال إنَّ الجُرح لا يُزهِر؟! فقد رأيت من أليم الألم تُكتب القصائد، بها تُواسي المنكوبين. لي مِعطفٌ نُسِجَ كي يكون سترًا، يَقيني سهمَ الفقدِ طُرًّا. وكم حفرتُ في أرض الغياب قبرًا، لأدفن فيه قلبًا لطالما نبض قهرًا، كي أعيشَ باقيَ العمرِ رَشَدًا، وأطوي منه صفحة الأنين. فليت لي قلبًا يلفحه شذى الأمل، فأعيش في جنة النعيم. |
رد: مُهاجر
وفي قلبي جمرُ الجوى فُرقةٌ،
وذاك الشوقُ زادَ من جذوةِ الوجعِ، أسير في بيداء العمرِ حاملًا شعلةَ النورِ، وفي أصلها جذوةٌ من نارٍ تحرقُ خضراءَ الأملِ. ما وجدتُ غيرَ حرفِ الألمِ يتصدرُ صفحتي، وكأن حروفَ الفرحِ انعتقت من ربقةِ الإحساسِ، تنثرُ الأحلامُ في ليلِ الصمتِ الموحشِ، وترسمُ في الفضاءِ نجومًا من أشجانِ، تتراقصُ كخفقاتِ القلبِ بين همساتِ الريحِ، وترسلُ أنغامَ الفرحِ في أوتارِ الوجدانِ. فكيف السبيلُ إلى ضياءٍ بعدَ عتمةِ الليالي، وأين المدى حين يغيبُ الأملُ عن الآمالي؟ أمضي وأحملُ فوقَ الكتفينِ أثقالَ الهمومِ، وفي الروحِ شعلةٌ لا تخبو، رغمَ العتمةِ واللومِ، تتحدى الصعابَ، تسيرُ نحوَ فجرٍ جديدٍ، تزرعُ في القلبِ بذورَ العزِّ والعزيمةِ فمهما طالَ الطريقُ وطالَ النوى، يبقى النورُ في جوفِ الروحِ، والأملُ لا يموتُ. ويا قلبُ لا تبكِ على ما قد فات، فالدهرُ يمضي والآمالُ تنتظرُ الصفاء، والحلمُ في أعماقنا منارةٌ تُضيءُ دربنا، تسقي النبضَ عشقًا، وتنشرُ فينا ضياء. فمن رحمِ الألمِ يولدُ الوجدُ عذبًا، ومن عمقِ الظلامِ تشرقُ شمسُ الصفاء، فاصبرْ على قسوةِ الأيامِ وجراحِها، فكلُّ جرحٍ يحملُ في طيّاته البقاء، والصبرُ مفتاحُ الفرجِ والنجاة، والحبُّ بذرةٌ في القلبِ لن تذبلَ مهما غابَ النورُ وأطبقتْ السماء. |
رد: مُهاجر
في معتركِ الحياةِ، تأتيكَ الخيباتُ أضعافَ ما ترجو، لِقَدَرٍ أرخى سُدولَهُ على إدراكِ الحكمةِ، فلا تُدركُ لها سبيلاً، ولا تعرفُ لها قُبولا.
وبينَ حناياهُ، نصيبُ صبرٍ نالهُ وافرُ الحظِ، ونصيبٌ آخرُ دونهُ قاسمٌ شائبهُ، من حُرِمَ في قلبهِ وجودَه، فظلّ بين وجدهِ وفقده، مسلوبَ العهدِ ووعده. أفالصبرُ مكتسبٌ يُرجى؟ أم منّةٌ من ربٍّ يُهدى؟ وما لدوافعِ البقاءِ من مَهرب، إن لم يكن الساعي واثبَ الخطى، مؤمنًا بمطلوبه، عارفًا بموهبه. وإلّا، كان خاملَ السعيِ، مرسلَ الأماني، لا رجاء له في مأمول، والموتُ أقربُ إليهِ من الوصول. فكم من قلبٍ نازعَ قدرَهُ بالصبرِ حتى دانَ له المأمول، وكم من نفسٍ أنكرت حقائقها، فضاعت في بحورِ المجهول. وما بين ابتلاءٍ يُبقيكَ راكعًا، ونعمةٍ تُبقيكَ خاشعًا، يختبرُ الله فيكَ الصبرَ واليقين، ويرفعُ بالرضا مَن لاذَ به مستكين. |
رد: مُهاجر
ما عدتُ أمدّ يدي لطيفٍ لا يُمسك،
ولا أرجو ظلاً إن كان لا يَحجب، فقد تعلّمتُ أن الاكتفاء نعمة، وأن الرضا لا يُشرى، ولا يُطلب. اكتفيت، لا لأن القلب جفّ، بل لأن العطاء حين لا يُقدّر… يُهدر، ولأن الشعور إذا لم يُصن… يُكسر، ولأن الكرامة لا تُربّى في حضنٍ بارد، ولا تُزهِر في أرضٍ لا تُسقى بالمودة. سئمت الانتظار عند أبوابٍ لا تُفتح، والتعلّق بأرواحٍ لا تبادل، والبحث عن دفءٍ في صدورٍ مُقفلة، تعطيك الوعد… وتنكر الوجود. تعلّمت أن القلبَ ليس محطة، ومن دخل لا يملك حقّ البقاء إن لم يُجِد السكنى. تعلّمت أن الانكسار ليس قدَري، وأن الانحناء لا يُشبهني، فرفعتني خُذلتي، حين خفضتني الثقةُ بغير أهلها. أصبحت أزهر بصمتي، وأُزهِرُ في وحدتي، لا أُعاتب الغائب، ولا ألاحق المارّ، فمن أراد البقاء، لن يحتاج إلى نداءٍ ولا إنذار. قلّبتُ صفحات القلب، فوجدت أن أصفاها ما كُتب بالحذر، وأدفأها ما لمسته كفّ الاتزان، لا كفّ الانكسار. ما عدت أبحث عن النصف الآخر في أحد، اكتشفتُ أن الاكتمال يبدأ حين لا يُنقِصني أحد. فأنا لي، وبيني وبين قلبي عهد، أن لا أُطفئ وهجي، لأضيء لغيري الوهم. في الاكتفاء سلام، وفي السلام حياة، وفي الحياة… يكفيني أن أكون، دون أن أكون لأحد. |
رد: مُهاجر
أُحاذرُ حرفي حين يندلق، ألّا يُؤذي أحدًا...
أهدهد مشاعري، وبعضي... وكُلّي في خطر. على شاهقِ الوحدة أُكابرُ بالاكتفاء، وعلى وقع أنغامِ السعادة أُصارعُ الانكسار، كأنّي أتمايلُ على جراحٍ لا تُرى. أُحاول جاهدًا زرع بذرة الأمل في أرض البقاء، لكنّ الأرض يَباب، ولا مطر يُواسيها... ولا يدٌ تمتدُّ لتربّت على كتف الغرس. أتُراني أُلفّعُ حياتي بالسواد؟ وصحيفةُ يومي يعلوها البكاء؟ ومن حولي لا يعدون أن يكونوا هباء؟ يمرّون كسحابةٍ لا ماء فيها، ولا ظلّ يَرفق، ولا دفء يُقيم. أهازيجُ كآبة، مزاميرُ شقاء، لوعةُ حاضر، وتركةُ ماضٍ لا يرحل... ضياعٌ له رائحة، كأنّه يسكنني. أهجُو وريثَ الذل، حين أناخَ مَطاياه في دارِ اغتراب، كأنّه لم يُخلّف سوى انكسارٍ يتناسل، وسؤالٍ يتكرّر في كل زاوية: إلى متى...؟ أُقاومني كثيرًا، أُعيد لملمة ما تناثر منّي، أكتبني دون حروف، وأصمتُ كثيرًا... علّ الصمتَ يربّتُ على وجعي، أو يهمسَ لي بأنني ما زلتُ على قيد الشعور. |
رد: مُهاجر
كيف أُقيم عدلًا في محكمة الهوى؟
وكلّ الأدلة تُبرِّئك من الغياب، وتلك مكامنُ الحضور تُبرِّئك من ذنب الغياب، وتُلقي باللوم على قلبٍ أفردَ لك العشقَ الحلال، وفي قلبي نبضُ وفاءٍ، غالقًا ما دونه ألفُ باب. كيف أزن الحُب بميزانٍ بشري؟ وفيه تختلّ الحدود والمعايير، وهو يسرقني من بينِ نبضِ قلبي، يلهج لك بالحُبّ طوعًا، وبين عارضٍ يُناكف صدقَ المشاعر، ويُسقطني في دائرةِ المحاسبةِ والأَسْر. أأيّ عقلٍ يقوى على هذا السُّهاد؟ ووجهك يقتحم أحلامي، وصوتك يتسلّل من شقوقِ الصمت، فيوقظ في داخلي طفلًا يُعاند واقعَ الأمر. ما ذنبي إن اختلّ توازني؟ أأنا مَن اختار أن يسكنك؟ أم أنتَ من تسلّلت خفيةً، وزرعتَ في صدري وطنًا لا يُنازعه أحد؟ أطلبك... لا بصوتٍ يسمع، بل بصمتٍ يفيض. من مكانٍ عميقٍ في القلب، من رعشةٍ تسكن أطراف الانتظار، من دعاءٍ لا يُقال، من حنينٍ يتلبّس النبض، ويصوغك بينه وبين الحياة. أطلبك... كما يطلب الغيمُ وعد المطر، كما تشتاق الأرضُ ظلّ المساء، كما ينادي النجمُ نوره البعيد، فلا أنت بعيد، ولا النداء يصمت. أطلبك... لا سؤالًا، بل شعورًا. أنت المعنى في الفراغ، والنبض في السكون، والصوت الذي لا يحتاج إلى نُطق، لأن الحنين أبلغ من الكلام. فدعني أطلبك كما أنا، حرفًا هادئًا في عاصفة، وصمتًا يتكلم حين تغيب، وشوقًا لا يريد جوابًا |
رد: مُهاجر
الصمتُ ليس سَلامًا دومًا،
فربّ سكوتٍ يخفي وجعًا مقيمًا، وهمًّا لا يُطاق له حِملًا ولا لَومًا. وربما الحزنُ، أوسعُ من دمعٍ يُسكَب، وأعمقُ من شكوى تُكتَب، بل قد يسكننا كغيمٍ بلا مطر، ويمضي بنا كظلٍّ بلا أثر. كم من وجعٍ مرَّ، لم نجد له اسمًا نُنادِيه، ولا قلبًا يُجاريه، ولا رفيقًا يُخفّف عنّا بعضًا من أَساهُ ويُبقيه. نملكُ نعمةَ النُطق، فنظنّ أن من لا يشكو لا يَشعر، لكن… ماذا لو كانت الأرواحُ من حولنا تَئنّ، والكائناتُ تَحزن، لكن بِلُغاتٍ لا نَفهمها، ومواجعَ لا نُترجمها؟ ماذا لو أنّ الورقة حين تُنتَزَع من غصنها، تَبكي؟ لكن بكاءها بلا صوتٍ ولا لون، فلا نَراه. وماذا لو أن الحجرَ يحمل ذاكرةً لا تُنسى؟ وأن الماءَ حين يُهجر، يَعرف الخُذلان لكنه لا يَشكُو؟ نحن لا نُحسنُ إلّا سماعَ أنفسِنا، ولذلك… نَجهل كم من الأشياءِ حولَنا تتألّم، بصمتٍ أشدُّ من صوتنا. |
رد: مُهاجر
في دياجيرِ الليلِ أسري، وكأنّي ببعضي يتلمّسُ فُتاتَ يقين،
والبعضُ الآخرُ يُفتّشُ في جيوبِ الغيبِ، لعلّ فيه أجدُ نفسي التي غيّبها طويلُ السُّهاد. وعلى ظهري أحملُ أسفارًا من الأسئلة، كما عشّشت في عقلي، تراوحُ مكانَها، لا تنفكُّ عنّي. وفي كلّ مرةٍ أوهمُ نفسي – كي أقطعَ الطريق – بأنّ إجابةَ السؤالِ ستكونُ عند نهايةِ الطريق! وما في قلبي إلا نافذةٌ واحدة، أطلُّ منها على الجهاتِ الأربع، وأضفتُ معها اثنتين من الجهات! ومع هذا... يُفضي بي الحالُ إلى جدارٍ مسدود؛ جدارٍ كتبتُ عليه ذاتَ وهمٍ: "هنا مرّ حلمٌ، ولم يَعُدْ." فالذينَ رحلوا لم يأخذوا صُوَرهم، لكنّهم تركوا في الصوتِ صدىً، وفي الهواءِ رائحةَ وداعٍ ما زالت تُربكُ أنفاسي. |
رد: مُهاجر
قرأتُ لأحدهم، وهو يقول:
"ليت الحياةَ كتابٌ، نعود متى شئنا إلى الفصلِ الذي أسعدَنا." وفي ذلك... أمنيةٌ تغرقُ في بحرِ المستحيل، وعبارةُ يأسٍ يُهدّدها التيهُ الطويل. فالحياةُ ماضية، لا تلتفتُ لركبٍ تخلّف، حاملةً معها الذكريات، وفي هودجِها مرٌّ زُعاف، وشهدٌ حلوُ المذاق. تُسافرُ بنا بين أملٍ خافت، وألمٍ جارف، تنسجُ من لحظاتها فرحًا عابرًا، وتُخبّئ في طيّاتها وجعًا غائرًا. ليست فصلًا نُعيده، ولا مشهدًا نُعيد تمثيله، بل صفحةٌ تمضي، وحكايةٌ تُكتبُ بمدادِ القَدر، لا عودةَ فيها، ولا مفرّ. |
رد: مُهاجر
وفي نبضِ قلبي يلهجُ اشتياقًا لوصلك،
وعواملُ الغياب تنهشُ في عضُدِ الاصطبار، تُضعفني المواجع، ويشيخ في عيني الأمل، كأن العمر كلّه انتصافٌ لانتظارك... ومواعيدُ اللقاء عبثَ بها الغياب، وتلك الوعودُ نكثَ الوفاءُ بها غدرَ الزمان، فبتُّ أجمع من بقايا اللحظاتِ ما يردُّ رمقَ الحنين، ولا يردُّك. حكاياتٌ ثكلى... يحكي واقعَها لسانُ حالٍ، أرهقته الحروف، وعزَّ عليه أن يجد في اللغة متّسعًا لحزنه. أوهامٌ حلّت مكان الأحلامِ التي لطالما غرسناها في أرضِ الرجاء، فأينعَت سرابًا، وذوت قبل أن تُزهر في كفّينا لحظة صدق. ما ظننتُ حينها، ونشوةُ العشقِ تُخفي ما قد يُناكفُ الوصولَ من الأقدار، أنّ الطرق تُباغت المشتاقين بالخسارة، وأنّ الهوى قد يُعجَزُه النقاء. حتى تصحّرت أرضُ الأمنيات، فباتت بعدها بقايا يَباب، وأصبحتُ أنا… ظلًّا لما كنتُ عليه، وصدىً لما كنتُ أرجوه منك. |
رد: مُهاجر
يستفرغ الواحدُ منّا من مكامنِ الذاكرة أوجاعَ الأمس،
حينَ يستغرق في محاولةِ الخلاص من عقدةِ الماضي... يمدّ يده إلى أرشيفٍ من الأسى، يحاول أن يطوي صفحاته، لكن الحروف ما زالت رطبةً بالبكاء. بعد أن طالَ النحيب، وتقلّصت الآمالُ في إدراكِ النصيب، بات الصبرُ هشًّا، تتكئ عليه بقايا حلم، وتتدلّى منه خيباتٌ لا تُحصى. أحراشٌ يمتدّ نابتها، حتى تسوّرت جدرانَ الممكن، وعشّشت في زوايا الصبر، تُقيم بين أضلاع القلب كغصّةٍ لا تبرح، وكأن الانتظارَ أصبحَ هو المقام الوحيد. هي خواطرُ تصبّ في ذاتِ المعنى، تُسكَب من حبرِ المعاناة، وتستشرفُ الخلاص من لججِ المستحيل، علّ الرجاء، وإن خفت صوته، يجدُ له منفذًا من بين ضلوعٍ أنهكها الترقّب. لستُ من الذين يخضعون لفرضِ الواقع، لأنّ يقيني بربي الخالق، فأمرُه بين الكافِ والنون، وإذا أمرَ، فليس لأمرِه دافع، فمن بيده مفاتيح الفرج، لا يُعجزه مطلب، ولا يُخلف وعدًا لعبدٍ طرق بابه صادقًا. |
رد: مُهاجر
إلى ذلكَ المارِّ على دثارِ الوفاءِ، الذي باتَ خرابًا ينعقُ فيه الغرابُ المنكوبُ...
لكَ الألمُ — يا عابرَ القيمِ — حين تعبرُ عليها فلا ترى سوى أطلالٍ شاخصةٍ تروي حكايةَ الزوالِ، وأثرًا بعدَ عينٍ تهمسُ بأنّ المروءَةَ قد نُفيت من ديارِ الإنسان! مخلّدٌ ذكرُها من غيرِ أن تُسكن، ولم يكن نصيبُها غيرَ دمعٍ على ضريحِها يُسكبُ، كأنّها قيمةٌ وُئدت في رحمِ التزاحم، وبُعثت في ذاكرةِ الأسى والخذلان. اهتزّت بوصلةُ التعريفِ والتصنيف، وتلاشت الحدودُ بينَ النقيضِ ورديفِه، حين باتَ الوفاءُ شعارًا للتزيينِ لا للتبيين، وصار الإخلاصُ قناعًا يُلزَقُ بصاحبِه ليعبُرَ من خلالِه إلى غاياتِه وأطماعِه، في زمنٍ تلوّثت فيه الموازينُ، وارتدى الزيفُ رداءَ الصدقِ حتى خُيّل للناسِ أن الظلَّ هو النور! نطوفُ — عبرَ آلةِ الذاكرةِ — على أرصفةِ الحنين، نقلبُ ألبومَ اللحظاتِ العابرة، نبحثُ عن الأيامِ الغابرة ونحنُ نرفُلُ مع الإخوة، وتعلو وجوهَنا الضحكاتُ الماطرة، فتتلاشى كلُّها كما تتلاشى الألوانُ عندَ انطفاءِ الضوء، والجاني... تلك المشاغلُ القاهرةُ التي اغتالت بساطَ القربِ باسمِ الانشغال! إليكَ رسالةً أبعثُها من بريدِ قلبي، رويدكَ... فبعضي وكُلِّي قد اشتاقَكَ، فقد تبعثرتُ بعدكَ كما تتبعثرُ أوراقُ الخريفِ في وجهِ الريح، والأنواءُ المضطربةُ تعصفُ في بقايا حياتي، وأنا كالسفينةِ في لُججِ الضياعِ غارقةٌ، ألوّحُ بنداءِ لا يُسمع، وأستنجدُ بظلٍّ غابَ في غياباتِ المسافةِ والزمن! فيا أيّها الإنسانُ الذي أضاعَ بوصلةَ الوفاءِ، أما آنَ لقلبِك أن يستفيقَ من سباتِ المصلحةِ؟ أما آنَ أن نُعيدَ للحبِّ نُبله، وللعهدِ صدقه، وللإخلاصِ وجهَه الأول؟ |
رد: مُهاجر
نقع في شِراك الحيرة، ونحن نتجوّل بفكرٍ تائهٍ بين مسالك الاختيار، لننتقي موضوعًا نطرحه على طاولة الحوار والنقاش؛ إذ غالبه طُرح وأُشبع بحثًا وردًّا، حتى غدا التكرار له نهجًا لا ينتهي ومسارًا لا يتغيّر، وكأنّ الأمر مُشرع بابه لكل عابر، وكأنّ الحلول لم يقبلها من أصابته ناره، فظلّ يكتوي في صمتٍ ويغلي من لهيب قراره.
هي الحياة تمضي بالواحد منّا، وهو يسحب ثوب الشقاء على جسد الأمل، والماء يتعثّر به بلا اكتراثٍ ولا وجل، كأنّ الدرب لا يعرف رحمة، وكأنّ الزمان لا يمنح فسحة. في باحة الحياة صورٌ من معاناةٍ خرج من رحمها من سُطِّرت نجاحاتهم، فكانوا للتضحيات والنجاحات عنوانًا ومثالًا. وفي غالب الأمر يشطح الفكر ويتسلّل في أضيق الاحتمالات، والمصيبة أنّ الفكر يتكلّس عند أول عقبة، فيجعل الحكم المتعجّل نهاية القصة ومسك الختام، دون أن يتريّث ليبصر ما تُخبئه الأيام. ولقد وجدتُ الفائزين هم الذين امتطَوا صبرهم زادًا، واتّخذوا اليقين سلاحًا، وجعلوا حسن الظنّ بربّهم جناحًا، يطير بهم في كل وقتٍ وحين. تعجّبتُ ممن تعتلي شفاهَه ابتسامةٌ عريضةٌ عند كل مطبٍّ يواجهه، كأنّه يلتقطها هديةً من دروب الكفاح، ويسقيها من ماء الطموح، وكأنّها وردةٌ نبتت على شوك العناء! ويستوحش حين يسير في طريق النجاح من غير مصادفة الأخطار، كأنّه يستفزّها ليستنهضها، ويتحرّش بها ليستدعيها، وكأنّ يقينه أنّ المجد لا يُبلغ إلا على سلالم الألم، ولا يُقطف إلا من شوك العذاب والمكابدة. والله... لا أعجب حين يبلغ مبتغاه، كما أعجب كيف يستمرئ المعاناة، ويتلذّذ بالوجع كأنّه طَعم الحياة! وكأنّه أدرك أن الطريق إلى النور لا يُضاء إلا بشرارة الألم، وأنّ المجد لا يُولد إلا من رحم الصبر والعزم والاحتساب. هكذا هي الحياة... تُدني من رحمها الأشدّ وجعًا ليكون الأبلغ أثرًا، وتُخفي وراء كل عثرةٍ بابَ نهوض، ووراء كل وجعٍ مهدَ فجرٍ جديدٍ فيوض. فمن صبر على كدرها، أورثه الله صفاءها، ومن صدق مع ربّه، أراه من خلف البلاء سناه وضياءها، ومن سار بثقةٍ في دربها، وجد في نهاية المدى مفتاحها وبهاءها. فطوبى لمن لم يَخَفْ من لهيبها، ولم يجزع من صخبها، بل جابها بقلبٍ راسخٍ، وابتسامةٍ تكسو وجهه في وهجها، حتى إذا بلغ مبتغاه، علم أنّه ما خُلق الوجعُ إلا ليهذّب، ولا كُتبت المعاناة إلا لتُقرّب، ولا طال الطريق إلا ليُظهر في المسير من صدقَ في التوكّل ومن كذب. |
رد: مُهاجر
لعلَّ الحياةَ اقتضت أن تُغيِّر ذاك النمطَ الرَّبَّاني، وكأنها أرادت أن تُنبِّه الغافلين بأن السكونَ ليس من سُنن الأكوان، فالبعضُ يجعلُ من المقولةِ علّةً وحيلةً وعذرًا يتذرَّع به، هروبًا من جوهر الحقيقةِ وعمق المعنى!
كثيرونَ لا يُدركونَ ما وراء تلك اللمساتِ اللطيفةِ، واللطائفِ الدقيقةِ الخفيّة، التي أودعها المولى عزَّ وجلَّ في صنوفِ الموجودات، أكانت ماديّةً أم معنويّةً، فهي إشاراتٌ لا يقرؤها إلا من رقَّ حسُّه، وأبصر قلبُه، ووزنَ الأشياءَ بميزانٍ من نورٍ وعرفان. "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" نغمةٌ ربّانيةٌ تُذكّر بأن التوازنَ هو سرُّ البقاء، وأن الأرضَ لم تُبسَط لتكونَ ساحةَ عبثٍ، بل ميدانَ ابتلاءٍ وعدلٍ وامتحان. فما حلَّ بالأرضِ من أمراضٍ وكوارثٍ ونِقَم، إلا بما جَنَتْهُ أيدي البشر، وما زاغَ من عقولهم حين اغترّوا بقوّتهم، فاستغنوا عن خالقهم. وقد قال الحقُّ سبحانه: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" ومع هذا كلّه، تراهم يطلبون الخلاصَ من البلاء ببلاءٍ أعظم، ويستجيرون من الرمضاءِ بالنار! كأنهم لم يتّعظوا بسنن الكون، ولم يفهموا أن الحلولَ في أيديهم، لكنّهم يُعرضون عنها استكبارًا وغرورًا. هي قاعدةٌ لن تتحرّك ولن تتبدّل: ما بدّلَ قومٌ أمرَ الله، ولا استبدلوا حكمَه بحكمٍ من صنعهم، إلا حاقت بهم سنّةُ الزوال، وذاقوا من مرارةِ الاختلال ما لا يَعرفُ له دواء. فما خلقَ اللهُ الخلقَ عبثًا، ولا تركهم هملًا، بل جعلَ لكلِّ شيءٍ قدرًا، ولكلِّ انحرافٍ جزاءً، ولكلِّ توازنٍ بقاءً. فسبحانَ من أقامَ نظامَ الوجودِ بالعدل، وأدارَ رحاهُ بالحكمةِ، ليعلمَ الإنسانُ أنَّ الإصلاحَ ليس خيارًا… بل فريضةُ الحياة. |
رد: مُهاجر
رُوحٌ في موطنِ الغُربةِ مَنفِيَّةٌ،
تسكنُ بينَ الأنينِ والحنينِ، ليس لها موردُ انتماءٍ، ولا في الزمانِ شفاءُ التِّيهِ والابتلاءِ، وليس لها في المكانِ مقامٌ، إلّا ظلُّ حُلمٍ يلوذُ بهِ السَّلامُ إذا نامَ الكلامُ. |
رد: مُهاجر
في عديدِ الأمكنةِ واختلافاتها،
تتشابهُ المساماتُ وإنْ تَفاوَتَت، ولا يكونُ ذلك إلّا حينَ يغيبُ ذلك الأمانُ الهانئ، فتضيعُ المعاني في زحمةِ المكان، ويغدو الحنينُ وطناً، والعُزلةُ سَكناً، كأنّ الأرواحَ تلوذُ ببعضِها لتستعيدَ طمأنينتَها المفقودة. |
رد: مُهاجر
تلكَ الطُّرُقُ — وإنْ بدتْ موحشةً — هي ممرّاتُ النُّضجِ الخفي،
لا يُضيئُها ضوءُ رفيقٍ، بل شرارةُ وعيٍ في أعماقِ طريقٍ عَصيٍّ على السائرين. ففي العُزلةِ يُمتحنُ الصدقُ، وتنكشفُ الذاتُ على حقيقتِها دونَ زينةٍ أو شاهدٍ أو معين. هنالكَ، حيثُ يَصمُتُ الكونُ، يُولَدُ الفَهمُ من رحمِ السكون، وتنطقُ البصيرةُ بما لا يُقال، وتُضيءُ ظلمةُ الفكرِ بنورِ الامتحان. وفي معزلِ الوحدةِ، يُلتقَطُ نَفَسُ النقاء، ويُغسَلُ القلبُ من غُبارِ الضجيجِ والادّعاء. فالعُزلةُ ليست هروبًا، بل عودةٌ إلى جوهرِ الحضور، وليست فقرًا في الأنيس، بل غِنىً بالأنفاسِ والسرور. هي سُلَّمُ الواصلين، ومحرابُ المُتأمِّلين، فيها يُعرَفُ المرءُ بقدرِ ما يسكُت، ويعقِلُ بقدرِ ما يَخلو. خابَ ظنُّ من ظنَّ أنَّ النورَ يُستعارُ من غيرِ موطنِه، أو أنَّ الجلوسَ على أطلالِه يُورِثُ فائدةً أو يُحيي أمَلًا خامدًا في كامنِه. فالنورُ لا يُوهَبُ لمن التمسَه من الأفق، بل لمن أضاءَ جذوتَه في العمق، وفي زخمِ الرغبةِ تتقدُ شرارةُ الإدراك، ومن وهجِها يُولَدُ الوعيُ، ويُنبَتُ الإشراق. وفي مسيرةِ الحياةِ، لا يُجدي ازدراءُ الجسدِ، ولا نفعَ في وأدِ الروح، فمن ضيَّعَ أحدهما خسرَ كليهما، ومن وازنَ بينهما فازَ بالراحةِ والبوح. ومن أصغى إلى نداءِ سريرتِه، طارَ بجناحِ الصفاءِ إلى علياءِ السماء، وإنْ ظلَّ صامتًا لا يُحرِّكُ ابنةَ شفةٍ، فإنَّ صمتَه حديثٌ، ونظرتَه بيان. ذلكَ الصمتُ — وإنْ بدا سكونًا — هو صهيلُ اليقين، تُبصرُ فيه العينانِ ما عجزَ عن رؤيتِه المُبصرون، ويغدو الوصولُ إلى معينِ الحكمةِ بابًا لا يُفتحُ إلا بمفتاحِ التدبُّر، الذي يُزَيِّنُه الصمتُ، ويُكلِّلُه الصفاء، فبذلكَ يبلغُ السائرُ الشطَّ المستورَ، مُوقنًا أنَّ بلوغَ النورِ لا يكونُ بالخطى، بل بالوعيِ الذي لا يزول. |
رد: مُهاجر
على مسالكِ العتابِ،
وطرحِ السؤالِ عن سببِ الغياب، سيأتيكَ الوصلُ بارداً، على وَقْعِ المجاملةِ، كي يفلتَ من لهيبِ العتاب فيا لبرودةِ الوصلِ بعدَ حرارةِ الشوقِ، ويا لِرُتُوقِ الكلامِ بعدَ انسيابِ الحروفِ، تُسدلُ الصمتَ ستاراً، وتُهدي البُعدَ عُذراً، كأنَّ الودَّ لم يكن، وكأنَّ اللقاءَ سُطورٌ طواها الغيابُ في كتابِ النسيان. أحقٌّ هو الجفاءُ أم خجلُ الاعتذار؟ أم أنّ القلوبَ إذا بَعُدَت، تاهت في مفازاتِ الأعذار؟ |
رد: مُهاجر
على مسالكِ العتابِ، تتعثّرُ الخطى بين رجاءِ اللقاءِ وهيبةِ السؤال،
وفي دهاليزِ الغيابِ، تُخبّئُ القلوبُ عجزَ اللسانِ عن المقال. سيأتيكَ الوصلُ بارداً، كقَطراتِ ندى على رمادِ الوداد، تغشى ظاهرَه اللطافة، ويغورُ في باطنِه الفتورُ والجمود. يا لِتلكَ المجاملةِ التي تُخفي وراءَ ابتسامتها غُصّة، وتُخاتلُ بالعُذرِ لتُبقي على خيطٍ من وَهْمِ الصِلة! فما أقسى الوصلَ إذا خلا من دفءِ الشوق، وما أوجعَ الردَّ إذا حملَ نبرةَ التكلّفِ في ثوبِ اللين! يا صاحِ، ليس كلُّ غائبٍ مُذنِباً، ولا كلُّ عاتبٍ مُحِقّاً، لكنّ الأرواحَ تعرفُ صدقَ المودّةِ من بوحِ النظرات، وتدركُ البرودَ من رائحةِ الحروفِ قبل أن تُقال. |
رد: مُهاجر
على أعتابِ الغياب...
هواجسُ تنهش فينا جسدَ الاشتياق، ومعاولُ هدمٍ تُهشِّم فينا بقايا صبرٍ ذاق مرَّ مُنادِي الرجاء. أحلافٌ قامت على صعيدٍ واحد، وتحت رايةِ الجفاء، وأحمالُ عزٍّ مَن يُطيق حملَها، ولا تعاضَدَ على حملِها الثقلان. |
رد: مُهاجر
على أعتاب الغياب...
تتناهى الأنفاسُ بين وجيبِ الشوقِ ولهيبِ الاغتراب، وتناوحُ الهواجسُ كطيورٍ ناحت فوق أطلالِ الأمل، تُغذِّي القلبَ وجعًا، وتُورث الروحَ عَطَبًا لا يرتقِي بخِطاب. تتهاوى حصونُ الصبر، وتتكاثفُ غيومُ الرجاء، وتنحني الأحلامُ تحت ثِقَلِ الجفاء، كأنّ الدهرَ أعلنَ العصيان، فلا الأملُ يعود، ولا النسيانُ يُنقِذُ من لَظى الحرمان. فيا رفاقَ الحرف... هل من دواءٍ لِوَجْدٍ طالَ مَقامُه؟ وهل من سَلوى لِقلبٍ أضنَاهُ غيابُ أحبابِه؟ |
رد: مُهاجر
هناك من يغرق في وحلِ الأمنيـــات،
ويمكث في كهفِ الأوهـــام، ثانيَ عِطفِه ليَخثُرَ دماءَ الأقدام، عبثـــاً يحاولُ بلوغَ بُغيـــتِه، بعدما ركنَ إلى دَعَةِ الاتِّكـــال! |
رد: مُهاجر
كم أوجعَ التجاهلُ قلبًا لم يُقصّر،
وكم أطفأَ من وهجِ شعورٍ كان بالأمسِ يُنير. يأتي صامتًا، كريحٍ باردةٍ في ليلٍ طويل، يقتلُ ببطءٍ، ويُخفي في الصمتِ آلافَ التآويل. ليس كلُّ من تجاهلَ متكبّر، ولا كلُّ من سكتَ كان في الرضى مُستبشر. فبعضُ التجاهلِ حكمَةُ العارفين، وسترُ النفسِ عن لغوِ المُتكلّفين. هو غربالُ القلوبِ حين تمتحنُها المسافات، وبه يُعرَفُ من يبقى على العهد، ومن تُسقطه اللحظات. فلا تأسَ على من غابَ بوجهٍ بارِد، فلعلَّ اللهَ يصونُك عن ودٍّ جامد، وعن حوارٍ لا يُثمرُ إلا الوجع، ويُبقيكَ في سكينةِ من عَلِمَ أن التجاهلَ أحيانًا فَنٌّ من النضج، لا مَخرج. |
رد: مُهاجر
التجاهلُ لحنٌ خافتٌ يعزفه الغياب،
وصمتٌ يتدثّرُ بالكبرياء، ويُخفي في جوفه ألفَ عتاب. يأتيك لا صاخبًا ولا مُعلَنًا، بل كنسمةٍ تمرّ على جرحٍ لم يندمل، فتوقظه من سباته. هو فنٌّ من فنونِ الانسحاب، يُمارسه العقلُ حين يَخذلُه الحنين، ويمارسه القلبُ حين يَفيضُ صبرًا ولا يجدُ المستحقّ. في التجاهلِ نضجُ من أدرك أن الردَّ لا يُحيي ميتَ الإحساس، وأنّ الكرامةَ حين تُهدَر، لا يجبرُها العناقُ ولا التماس. فدعِ الغافلين في صمتِهم يتيهون، ودَعِ الأيامَ تكشفُ من في الوصلِ يَصدق، ومن في الودّ يَهون. فأجملُ الردودِ أحيانًا، أن تلوذَ بالصمت، وتتركَ للتجاهلِ مهمةَ البيان. |
رد: مُهاجر
في أوجِ الحنينِ تتلقفك رماحُ الظنون، لِتَهوي بك في قعرِ الحيرة، وفي قلبك لظى الشوقِ يحرقُ فيك أخضر الصبر.
ذلك الصبرُ الذي انطفأَ وهجُه، وما عادَ له وجودٌ بعدما أرهقَه طولُ الصدود. |
رد: مُهاجر
في الحنينِ مرارةُ السُّكر، يَسقي القلبَ ألذَّ العذاب،
وفي الظنونِ رماحٌ تُصيبُ المخلصَ لأنه أحبَّ بصدقٍ لا يُجاب. ما أقسى أن يُضحي الشوقُ جمرةً في فؤادٍ صامت، وأن يُصبح الصبرُ رمادًا بعدما كان أخضر نابت. لكنّ في انطفاءِ الوهجِ ضوءُ البصيرة، وفي احتراقِ الصبرِ ميلادُ الفَهمِ لمن اعتبرَ المسيرة. فليس الحنينُ ضعفًا، بل أثرُ إنسانٍ مرَّ من القلبِ وتركَ فيه وطنًا صغيرًا، وليس الصبرُ غيابَ الشعور، بل سموُّ روحٍ تُدركُ أن كلَّ انتظارٍ مكتوبٌ بقدرٍ حكيمٍ لا يُؤخَّرُ ولا يُقدَّم |
رد: مُهاجر
حياك الله أديبنا وشاعرنا المهاجر
قصائدك النثرية اليوم- كالمعتاد - أكثر من رائعة ولأنها تستحق الاهتمام؛ عدلت نحو خمس كلمات لعلك تعثر عليها أو يتسع الوقت لأدلك عليها تحياتي وتقديري للكتابة بالياقوت والمرجان |
رد: مُهاجر
ولي شرف وجودكم هنا، معلمتي الكريمة. أما تلك الأخطاء، فستنـهك جياد حرصك لكثرتها، ولكثرتها يصعب عليّ الوقوف عليها. ليتني أبلغ من البلاغة منتهاها، ولكنها محاولات مبتدئ، وتواضع الحرف لضعف كاتبه. فالعذر يروى من نبع الاعتراف لا من مورد العتب.
دمتِ لهذا الصرح منارة فائدة ومشعل هداية ورفعة علم وغاية. |
رد: مُهاجر
خمس مفردات في خمس مداخلات إبداعية مبهرة
لا تندرج تحت عنوان الكثرة، فقد يكون بعضها سهوًا بسبب الانشغال بالفكرة، أو الانفعال بها، وكلنا نسهو أما الكلمات فهي كالتالي: م/ 391 آلافُ التأويل... الصحيح: التآويل/ جمع؛ مؤكد هو خطأ كيبوردي 392 الالتماس: هو طلب الشيء، .. ربما المقصود هنا هو: اللمس أو التَّماسّ كأقرب معطوف في سياق مفردة العناق.. والله أعلم. 393 خضراء الصبر .. الصحيح أخضر الصبر، لأن المقصود باللون مذكر 394 -وأن يصبح الصبر رمادًا، بعدما كان خضراء نابت .. الصحيح أخضر كالسابق -كل انتظار مكتوب بقدر حكيم لا يؤخَّر ولا يُسارع.. الصواب اشتقاقًا: ولا يُسرَّع البطء عكسه السرعة .. والتأخير عكسه التقديم فالصيغة الصحيحة المعتادة: لا يؤخَّر ولا يُقدَّم حيث التضاد، وصيغة البناء على ما لم يُسمَّ فاعله ولا نقول المبني للمجهول، لأن الله سبحانه هو الفاعل: المؤخِّرُ والمُقدِّم هكذا كان يقول أسلافُنا تأدبًا مع جلال الله وعظمته. وتقبل تحياتي |
رد: مُهاجر
قالت:
ثَمَّةُ جراحٍ تؤرّقني كل يوم، وندباتٌ محفورةٌ في الذاكرة. بداخلي أكوامٌ من الألم، بل شظايا من الأحزان تتفكك على هيئة دموع، كلما هدّتني الحياة! أبكي… والدموع تحكي مسافاتٍ وأميالًا، بُعدًا وبلدانًا… أيُّ وجعٍ هذا الذي يَرسي خيامه عليّ؟ فيرديني صريعةً كلما أردت الفرار! ضعيني بين خرائطه، وحِدت عن الطريق… قلت: أيُّ حزنٍ ينحت فيّ البؤس حتى حدّ التشبّع، وكأني بين صفحاته رواية. يكتب سطورها ببكاء الحروف، ويرقص على أعتاب الحنين، وعندما أبكي، يستيقظ النبض، وأتقيّأ الذكريات، وترتجف فرائصي، فلا أشعر إلا أنني في عالمٍ آخر. قالت: أحاول أن ألملم أشتات الواقع… قل أنه "هُدم". أمنياتٌ انتهت، وماضٍ رحل… ولا زلت أقف على أنغام الموت، أنتظره يومًا بعد يوم، عله يكتب لي شيئًا من "الراحة" من تعب الحياة. قلت: كم منا يستيقظ وينام على وقع الأحزان، والهمُّ فينا يطاول السماء؟ عند الصباح تشرق الشمس على يومٍ جديد، تبعث الدعوات إلى رب العالمين، وتنسكب الدموع على دفتر الأيام لتُبلّل أوراقنا القديمة، وتدخلنا في أتون الذكريات. حينها يموج في القلب داعي الحنين، نختبط في الأرض، والوهن في القلوب ينمو. قالت: أشتكي من الحزن وأبحث عن الخلاص، والجروح بداخلي عميقة بلا قرار، أخفي آثارها بابتسامةٍ عريضة، أحاول عبثًا إخفاءها، لأن العيون لا تعرف السكينة، وجموح المشاعر سبيل الهروب من دوامة العتاب، والقول بأن الأمر ذاك يُعاب. قلت: يريدوننا بشرًا بقلب كالحجر، دعواتهم مغلّفة بالإشفاق، فما عاد الحزن يجدي، ولا يعيد ما فات، تلك دعواتهم، والصدق في ثنايا الإخبار. قالت: تلك مرحلة طَوَتْها الأيام، وحملتها رياح الزمان، وما علينا غير فتح صفحة جديدة نستشرف بها نعمة الأمان… قلت: فالعمر يمضي، ورسائل انقضائه نراها في تعاقب الليل والنهار. فيا قلبي أبشر، فقد جاءك الاطمئنان، فغادر مواطن البلاء، وخلع رداء العناء، فالعمر إلى زوال، وأنعش القلب بالصفاء. قالت: وساير الأحزان بالصبر والسلوان، فما دام فرح، ولا حزن في قلب إنسان. أبرم اتفاقًا مع نفسي بأن أجعل من الأحزان محطةً لمراجعة الحساب، لأمضي بعدها بلا ارتياب. بتلك العبارة أنهي حزني، ومنها أبدأ حزني الذي أدور حول حِماه الذي لا أكاد أنهض منه حتى أعود لأسقط فيه من جديد! قلت: ليتنا نستطيع الهروب! ولّيت قلوبنا بلا مشاعر، ولّيت الدمع يتجمّد على حافة الذكريات. نعبث دومًا حول ماهية الأسباب، ونسأل: لماذا رحلوا؟ وكيف لقلوبنا أن تصبر؟ وكيف سنعيش؟ نساير الزمن كثيرًا، نمضي ونتناسى، وغالبًا ما ننكسر، نتعثّر ونَسقط عند أقرب كلمة، أو أقل حركة، أو حتى لقاء عيون. والمنكسر مجدافه يتيه ويضيع، وينغمس في أعماقٍ مُزرية، نبحث عن ذاتنا ولا نجدها، كانت، وكانت، وكانت غرقى، ولا نريد النجاة، ونفقد أنفسنا مرات ومرات، حتى البوح تعب حروفه، ولم تعد يداي قادرتين عليه، عسى الله أن يكتب لقلوبنا فرحًا قريبًا. قالت: سأستميح شعوري عذرًا كي أعاود تقييم ذاتي، أُطل من شرفات الماضي، أسرج بذلك فكري لأنهك جواد ذكرياتي، أستقصي مواطن اللقاء، حيث تلاقينا بعد إرهاق، بعدما تراكم على سطح القلب غبار الشوق، فتعلّق بذاك نبض يتحشرج في صدر الكون، ويعبث الوقت بعقارب الساعة. قلت: وقد تغشى واقعي سراب الأماني، فما زلت أسفّ قفار الرحيل حتى يسلمني العناء لسباتٍ عميق ليخفف عني تباريح السنين. هذيانٌ يُعمّق الجرح، ويُلهب الصدر الحزين، والشوق يبني سرداب الأنين، تركض الأمنيات تعانق المستحيل في عرف من أخضع قلبه لداعي العويل، فأسلم أمره لسجّان التيه. طرائقٌ فيها يسري الهائمون على إيقاع عزف العاشقين، يبنون بها قصور الحالمين بفجر يجمع شتات قلوبهم لتسكن في ديار الآمنين. يبكي، يشتكي، يتذمّر، يتبرّم، يعبس، يغضب، وفي نهاية أمره: ألمٌ ما زال متشبثًا به، وعنه لم ينجَل. فما يزال ذاك حال من أرهق جواد عزمه في ميدان الحزن، وظنّ أن الحل في رحيله عن الشهود، فكان الهروب إلى الأمام ليجد نفسه على ذلك الحال، يتعاقب عليه الليل والنهار، والشروق والغروب، مضمّخٌ بالأسى، يرعى النجوم، يرجي الأفول، آماله معلقة في مشانق اليأس، وقد وضع عنق الأمل في مقصلة القنوط، تسمع منه ذاك العويل وتنهدات السنين، تهرب منه العبر، وتزاحم الأفكار عقله، والحلول تراوده، غير أنه أودع كل ذلك في سرداب التسويف بعدما تجرد من الأخذ بالأسباب، ويبقى على حاله يعيش ويموت، ويُبعث عليه مرةً أخرى، عشقَ جلدَ الذات وآهات الليالي الطوال يجد في ذلك الواقع أنه قدر ليس منه وعنه مفر، فيعيش في أتونه، ليستجير به كالمستجير من النار بالرمضاء، بينما الحلّ شاهِر للعيان، لا يكلّفه إلا التفكر والجلوس مع النفس جلوس محاسبة وتقييم، ليعرف بذلك قبلته وموضع قدمه، أما ندب الحظ بالنواح فلن يقرب بعيدًا، ولن يعيد له حبيبًا. قالت: كلماتٌ أحيت بداخلي شيئًا جميلًا، قل أنها ذكرتني بنفسي القديمة، آه وما أجملها من أيام حين كنت لا أترك للحزن منفذًا، ولا لليأس مكانًا بين أضلعي. كانت حياةً رغم أنها جنونية، وفيها كثير من طول الأمل، إلا أنها كانت الأجمل بالنسبة لي، أحاول وأقسم جاهدة بذلك، ولكنني أسقط كم مرة أشرعت نوافذي وشممت هواء القرآن، وعند أول حركة للعاطفة أنهار بالبكاء، حتى عجزت حينها عن قراءة آية من كتاب الله ثلاث ليالٍ متتالية. كلما فتحت الصفحات تبللت بماء الندم والأحزان، ورغم ذلك تلك الليالي علمتني الكثير، وعلمتني كيف تسقط الدمعة من أجل الله، لا لغيره، ومن أجل الآخرة لا للدنيا. قلت: رغم الحزن نظل نتعلم، ونتعلم، ونبقى كلما عذّبنا جلد الذات نهرع لآياته، نُرمّم ما تهدّم من دواخلنا، ونلمّ أشتاتنا، وإلا كنت لا شيء يُذكر الآن، هباءً منثورًا. قالت: لكلماتك أصب خبيبات السكر في الحياة، أتوفر بالتفاؤل، وتشرق بسمتي من جديد، أدامك الله نبضًا زاهرًا لأحبابك. قلت: لطالما حلمت أن أكون خلقًا آخر: همسة بها حياة وحديث الروح من بعد أن نالها التهميش، حتى باتت تئن من رغبتها لتلك الجرعات التي تُحييها من رقدتها، وتعيد لها بسمتها وسعادتها. نصبنا جام الاهتمام بما يداعب القلب والأذهان، نسافر عبر الخيال، نُفرد شراع الأوهام، نركض خلف سراب يحسبه ماء ذلك الظمآن، تسير به الأقدام حيث تعاقب الأيام، وهو وسنان يطربه شدو ولهان، والقلب يُغرس فيه الأحزان، وأرى الجسد تفترسه الحمى والسهر، والحال يشكو جور إنسان، نصيح ونبكي من ضيق الحال، نصف أوضاعنا بأبشع الأوصاف، وبعد ذلك نلوم الأيام لما يجول ويعانيه الإنسان، يبحث عن السعادة في تفاهات الأشياء، نلوذ بمن يعز عليه امتلاك ما يعينه على بلواه، تُذاع لنا الحلول ويعلونا الذهول، ونحن ساهون واجمون، نريد الحلول من غير مجهود، والقلب من الخير كالعصف المأكول، وحب الشر لنا مجبول، يشقّ ضميرنا معول التذكير، ولا تزال قلوبنا أقسى من الجلمود. |
رد: مُهاجر
هي:
لأجلك… أترك الكلمات تموت بعد كتابتها؛ أقذفها بعيدًا، خاصة إن كانت موجعة. نكتب لنُخرج الألم، لكن الألم — يا صديقي — يعود ليرتفع فوق قلوبنا، يطوف بها، ولا يزول… تظل الذكرى مؤلمة مهما تلطّفت. أكتب… لكنّي أحاول ألّا أحبس نفسي في قفص الشعور ذاته الذي يهجم بعد الكتابة. الرحيل موجع، وقد قلتُ لك من قبل: نحن نعيش الوجع ذاته… نغرق في الشعور نفسه. الحمد لله على كل حال. وغوصي في الكتب، والخط، والتصميم، وفي ما لا يُذكر من المشاغل، مجرد محاولة للتناسي… جرعة نسيان مؤقتة لا أكثر. أنا مؤمنة أن الإبداع لا يجيء صدفة، وأن الألم كثيرًا ما يكون بوابته. أسأل الله أن يغرس حبَّه في قلوبنا، لتشبع نفوسُنا طهرًا ونقاءً وعفّة. الحمد لله… دائمًا. وكن جميلًا وابتسم… فهذه عبارة ترافقني صباحًا ومساء، أردّدها… فأبتسم. أما الراحلون… فلا نملك إلا الدعاء لهم، وأن تبقى ذكراهم في القلب. --- هو: أعرف ما تقولينه… فالذكريات الموجعة لا تأتي وحدها؛ تفِد علينا كمن يغرس خنجر البَين في قلبٍ مستهامٍ لم يبرأ… فتسلب منه جَنانه — بفتح الجيم — وتبقيه يقظًا على حرقةٍ لا تنطفئ. ولا ينجو من ضجيج الذكرى إلا من أدرك الحقيقة، فاستيقظ عقله، وخضع للرضا والتسليم… هناك فقط يبدأ الشفاء. نكتب… فتتمايل الكلمات بين متناقضين، تعايش حركة الحياة دون أن تحيد. فالحياة — كما ترين — تتأرجح بين: حزنٍ وسعادة، خيرٍ وشر، نجاحٍ وإخفاق، لقاءٍ وفراق، شدةٍ ورخاء، حبٍّ وكره، عسرٍ ويسر… وقيسي على هذا ما يشبهه من الحال. والحب… له حلاوة في مُرِّه، ومرارة في حلوه. أما الدموع… فنستدعيها لتكون حبرًا، ونكتب بها جراحًا لا تجف؛ فالحبر دمٌ سال من شريانٍ مثخنٍ بذكرى. --- هي: وقد أخذت بملاحظتك في أمر يُصفر ويُصفّق، وكانت مسوّدة تصحيحٍ أثبتُّها… فالشكر لك لا ينقطع. --- هو: وكم كانت تصلني لأجلك رسائل عتاب… تربّت على كتفي، تمسح دمعتي، وتوبّخ ذلك السيل من الحزن الذي أبعثه. وأنا — كما قلت دائمًا — لست إلا رسول العاشقين: أكتب بلسانهم، أواسي وحشتهم، أضمّد جراحهم، أعرّف بهم، وأحذّر السائرين في دروبهم. أما أنا… فعندي يقينٌ — لا يتزعزع بإذن الله — أن الرزق، والأجل، والقلب كلها مقسومة مكتوبة، ولا لقاء ولا فراق إلا وقد خُتم نصه ونُفّذ أمره. وأقول لنفسي ولك: إيّاك أن تُشرّعي قلبك لكل طارق؛ فالويلات تأتي ممن أُذن لهم بالدخول. وإن كانت تلك تدابير سلامة، فلن يسلم القلب — رغم التصاقه بالجسد — من سهام الإعجاب، ولا سلطان لنا عليه! وفي النهاية… الحبّ لا يتربع إلا لواحد، ولا يستحق العرش إلا من كان له القلب أصلًا. فلا تتعلّقي بوهم، ولا تجعلي الحب في الظلال؛ دعيه في النور، واضحًا، نقيًّا. ومن أراد الحلال… فليطرق الباب. أما الكلمات الرنانة… فتأسر القلوب وتترك أصحابها أسرى الحروف بلا أمان. ولا يستحق سكب الدموع إلا ربٌّ عظيم، جفّت العيون من حياء التقصير في حقه، وقصرت الخطى عن نيل رضاه. --- هي: صدقت… مع الله وحده يصفو الطريق. هو: ومعه وحده تطيب الخطى. هما معًا: كونوا مع الله دائمًا، وادمنوا طرق بابه ومناجاته، وذوبوا في محبته… تنالوا قربه ومودته. |
رد: مُهاجر
«الأنا» تلك العاهة المميتة، إن أفلتت من لجامها أَعْمَت صاحبها عن الصواب، وألبسته وَهْمَ الكمال، فظنّت أنها الموجود وما دونها العدم، وأنها الأصل وما عداها هوامش في فصول الحياة.
تنتفخ حتى ترى ذاتها مركز الدائرة، وتُقصي غيرها إلى هامش الرؤية، فتختلّ الموازين، ويضيع الميزان. وهناك من يُصنّف الغرور، ويُدرجه — على تساهلٍ وخداع — في قائمة المصطلحات على أنه «ثقة زائدة»؛ وبهذا الوهم يُشرَع، بجهله، لبقائها، ويُمهَّد لتمدّدها، حتى تستحكم، وتستبدّ، وتُلبس صاحبها لباس الزيف، وهو يحسبه رداء المجد. وفي أصلها، ليست الأنا إلا قناعًا بائسًا لدى من يتدثّر به، ليُواري هشاشة حاله، ويُخفي تصدّعات داخله؛ فهي في حقيقتها صرخةُ ضعفٍ لا نشيدُ قوّة، وستارُ نقصٍ لا دليلُ كمال. والواجب على سليم العقل لجمُ جماحها، وتحديدُ كنهها، وفهمُ حدودها؛ ولا يكون ذلك بقمعها أو قتلها، فالقمع يُولِّد التمرّد، والقتل يُنبت التشوّه، وإنما يكون ذلك عن وعيٍ راشدٍ يُحرّرها من قيودها، ويكفّ شطحاتها، ويُعيدها إلى حجمها الطبيعي، حيث تكون أداة وعي لا معول هدم. فتهذيب النفس لا يكون إلا بتعريفها بحدودها، وإيقافها عند مقامها؛ فلن يسمو عقلٌ إلا إذا اعترف أن النقص ينتابه ويعتريه، وأن الكمال لله وحده، وما عداه سعيٌ واقتراب. وقد توقّف الفلاسفة طويلًا عند سؤال «الأنا»: ما هي؟ وأين تقف حدودها؟ وكيف تُدار دون أن تُستبدّ؟ فغاصوا في أعماقها، واستقصوا حقيقتها، وبحثوا في ماهيتها وحدودها وسبل التعامل معها؛ فرأى الحكماء أن الأنا ضرورةٌ للتمييز وتحمل المسؤولية، وبها يُعرَف التكليف، وتُقام المحاسبة، ويُحفَظ معنى الذات. غير أن الخوف — كلّ الخوف — جعلوه من تحوّرها وتحولها؛ حين تنفلت من غير قيود، فتمرّدت، وارتدت ثوب الكمال، وادّعت العصمة، فتصبح العائق الذي يوقف تقدّمها، والعبء الذي يشدّها إلى الوراء. فإذا بلغتها تلك الحال، فأين لها الوقوف على جادّة الصواب؟ وأيُّ عقلٍ يهتدي إذا كان أسير ذاته؟ |
| الساعة الآن 09:12 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.